48

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

2931
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالملكية الحقيقية والاعتبارية

جلسات المجموعة(10 جلسة)

التوضيح

تتابع هذه المحاضرة شرح فقرة أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا... يضعونه حيث أمرهم الله مؤكّدة على ما تقدّم من مفهوم تصحيح التعلّق، وتبيّن مثالاً جديدًا لذلك في قصّة معراج
النبيّ عيسى وتوقّفه في السماء الرابعة بسبب تعلّقه بإبرة.
ثمّ تشرع بتفسير آيات آخر سورة الفرقان في صفات (عباد الرحمن...) فتبيّن ما في إضافة كلمة "عباد" إلى "الرحمن" من لطف يفيد أنّهم ذوو رؤية توحيديّة في تعاطيهم مع عالم الكثرة، فلا هم يهملونه فيسقطون ولا هم يغرقون في الدنيا التي لا يشعر من يغرق بها بذلك لأنّه يحصل بالتدريج، وتبيّن أنّ سبب عدم غرقهم هو تذكّرهم إذا مسّهم طائف من الشيطان، وكذلك تسليم قلوبهم لصاحب الزمان الذي يحميهم في هذه الحالة كما حمى الشيخ المفيد في قصّته المعروفة.
كما تبيّن معنى (يمشون على الأرض هونًا ) وأنّهم متواضعون في مشيتهم
ومعنى (إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا) وأنّهم في عالم رفيع لا ينالهم كلام المتعرّضين لهم بسوء ولا يصل إلى ذاتهم بل يقف عند ثوبهم. ولذلك لا يخافون من مجيء صاحب الحقّ إليهم وبيان ما يريد كما صنع رسول الله صلّى الله عليه حين عرّض نفسه للاقتصاص أمام المسلمين قبل وفاته.
كما بيّنت معنى (إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) مؤكّدة على ضرورة الاعتدال مع مراعاة عزّة وكرامة من يعطَى فإذا كان القليل يسيء إليه فلا يعطى واستشهد بقصّة أمير المؤمنين مع أحد أصحابه.
وهنا تعرّضت لموضوع عزّة المؤمن وضرورة حفاظ كلّ مؤمن على عزّة نفسه واستشهدت لذلك بوصيّة: (أعزز نفسك عن كلّ دنيّة) مبيّنة قيمة النفس الإنسانيّة وكونها جوهرة ثمينة لا تعوّض بخزف الدنيا، وبيّنت مقدار عزّة أمير المؤمنين عليه السلام في عدم رغبته الشخصيّة بالخلافة الظاهريّة، وكذلك عزّة العلامة الطهرانيّ حين رفض التوسّط إلى أحد لأجل طباعة كتبه.
/۱٦
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

1
  •  

  •  

  • هو العليم 

  •  

  • الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٤۸

  •  

  • ألقاها

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • الحمد لله ربّ العالمين

  • والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا

  • أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • يضعونه حيث أمرهم الله

  • قلت: يا أبا عبد الله! ما حقيقة العبوديّة؟ قال ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا؛ لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به. 

  • يسأل عنوان الإمام الصادق عليه السلام عن حقيقة وواقع وكنه العبوديّة ما هو؟ أيّ إنّ العبوديّة حول أيّ شيء تتمحور؟ ما هو أساس العبوديّة؟ ما هي عمدة العبوديّة؟ 

  • يقول الإمام: ثلاثة أشياء: الأوّل: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا، فلا يشعر بالملكيّة لما خوّله الله، ولا يشعر بالاستغناء في استقلال التصرّف. لأنّ العبيد لا يملكون يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به.

  • خلاصة المحاضرة السابقة

  • تحدّثنا في الجلسة السابقة بعض الشيء حول هذه الفقرة الشريفة، وتقدّم كيف ينبغي أن يكون الإحساس بالتملّك، وكيف ينبغي أن يكون ذلك الإحساس الصحيح، وما هو الأمر الذي ينبغي أن ينظر إليه الإنسان في علاقته مع الله. 

  • رواية حول توقّف النبيّ عيسى في معراجه بسبب تفكيره بإبرة

  • ولا أدري هل ذكرت هذه الرواية أم لا؟ ففي رواية عن الإمام عليه السلام أنّه عندما عرج بالنبيّ عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام شعر أنّ لباسه تمزّق، تمزّق موضع منه، وكان يفكّر بإبرة يرفو بها ما تمزّق ـ وبالطبع لهذا الكثير من المعاني، ويستحقّ المزيد من الكلام حول كيفيّة التعلّق ـ والحاصل أنّه لم يُعرج به إلى ما بعد السماء الرابعة، فسأل: إلهي لماذا لا تعرج بي إلى أعلى من ذلك؟ فجاءه خطاب: قبل أن تأتي كنت تفكّر بإبرة ترفو بها ثوبك.۱

  • والمسألة ليست مسألة إبرة أو أكثر أو أقل، المسألة هي في توجّه النفس إلى الجوانب، واهتمام النفس بالأمور الخارجة عن الاتّجاه التوحيديّ للإنسان، ذلك التوجّه وذلك التعلّق، بأيّ شيء كان فإنّه يعطّل الإنسان ويسبّب سقوطه، ووقوفه. سواء أراد الإنسان أن يهتمّ بمسائل مهمّة أو جزئيّة تفصيليّة، كلّ ذلك يقيّد الإنسان بيديه ورجليه. وعلى كلّ حال، إن شاء الله سنتحدّث عن ذلك وكيفيّته لاحقاً.

    1. ابن الجوزي، القصاص والمذكرين، ص ۱۰٥ : اجتَمَعَتِ الملائِكةُ لمَّا رُفِعَ عيسى قَعَدَ وخَرَقَ مَرقِعَتَه ثلاثَ مِئةِ خِرْقةٍ، فقالوا: يا ربَّنا، ما سَاوَى عيسى قَميصًا صَحيحًا؟ قال: لا، الدُّنيا ما سَوِيَتْ أنْ تكونَ له، ففَتَّشُوا جُبَّتَه فوَجَدوا إِبْرةً، فقال: وعِزَّتي لولا الإِبْرةُ لرَفَعْتُه إلى حَظيرةِ قُدُسي وما ارْتَضَيْتُ له السَّماءَ الرَّابعةَ، إنَّما حُجِبَ بإِبْرةٍ.

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

3
  • تفسير آيات وعباد الرحمن... وبيان كيفيّة التفكير التوحيديّ لعباد الرحمن

  • هناك آية (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً)۱ في سورة الفرقان، في أواخرها، تقول الآية الشريفة في وصف المؤمنين وفي وصف عباد الرحمن... ففي سورة الفرقان في أواخرها بضع آيات يبيّن الله فيها صفات عباد الرحمن، تبدأ من (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) إلى سبع أو ثمان آيات بعدها، من الآية الثالثة والستين إلى الآية الرابعة والسبعين (وَالَّذينَ يَبيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) (وَالَّذينَ... إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) وكذلك الصفات التي تتحدّث عن عباد الله وعباد الرحمن.

  • معنى (عباد الرحمن)

  • واستناد كلمة عباد هذه إلى الرحمن لا يخلو من لطف. فالعباد الذين يكون توجّههم إلى قوانين عالم الكثرة مصحوبًا بالحيثيّة التوحيديّة، توجّههم تامّ. ففي الوقت الذي تكون أذهانهم وقلوبهم وتوجّههم الفكريّ إلى التوحيد ورفض كافّة الاعتباريّات والأنانيّات، لا يقصّرون عن مراعاة قوانين عالم الظاهر.

  • وهذه المسألة مهمّة جدًّا. فكلّ حقيقة السلوك هي في هذه الجملة التي ذُكِرَت لكم، فتوجّه الإنسان إلى المبدأ يؤدّي أن لا يتجاوز الإنسان في علاقته مع المجتمع ومع الناس ومع نفسه ومع أسرته ومع أرحامه ما عيّنه الله من قوانين الشرع والتكاليف، وما جعله لحفظ النظام الأحسن والأكمل، وأن لا يتهاون في ذلك. 

  • التهاون بأمر عالم الكثرة سبب للسقوط

  • وبسبب هذا فإنّ الكثير من الناس على طول الطريق وأثناء طيّ المسير قد وقعوا في مخاطر، فبمجرّد أن أحسّوا أنّهم يختلفون عن الآخرين، وأنّهم يدركون بعض الأمور، وحصلوا على بصيرة في الأمور، فتركوا الموازين ولم يعودوا يلتفتون إلى الناس، وصاروا يسخرون منهم، وصاروا ينظرون إليهم نظرة احتقار واستصغار، وقصّروا في أداء الحقوق والديون، ولم يعودوا يقومون بما عليهم بالنسبة إلى الأمور المتداولة بين الناس، فهذا ما يؤدّي إلى أن تُوقِفَهُم هذه المسائل وهذه الإشكالات دفعة واحدة وتخرجهم من الطريق، لماذا؟ لأنّ هذا النظام أيضًا ليس خارجًا عن حكومة الله. هذا النظام أيضًا ليس منفصلاً عن إرادة الله ومشيئته، هذا النظام أيضًا ليس منفصلاً عن إرادة الله وتربيته. فنظام التوحيد ونظام الكثرة كلاهما ضمن منظومة واحدة، والفصل بينهما هو عين الثنويّة والشرك. فمن أراد أن يسير في طريق التوحيد فبصورة عامّة [عليه أن يراعي عالم الكثرة...]

    1. سورة الفرقان (٢٥) الآية ٦٣. 

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

4
  • ضرورة عدم الغرق في عالم الكثرة والاعتصام بحبل وليّ الله

  • نعم تارة نتحدّث وننقل أنّ الأعاظم والأولياء يقولون: على السالك ومن يريد أن يسير في طريق الله أن لا يلتفت إلى الكثرات، ولا يلتفت إلى الاعتباريّات، وأن لا يتوغّل في الدنيا ولا يدخل فيها بحيث [يغفل عن التوحيد...] فهذه الأمور لكيلا يغفل ذهن الإنسان ونفسه عن الالتفات إلى المبدأ؛ لأنّه لا يمكن للإنسان أن يحمل شيئين في يد واحدة. وسبب أنّ المرحوم العلاّمة كان يقول مراراً: من أراد أن يتصدّى لأمر من هذه الأمور المتداولة فلا بدّ أن يكون إمّا متّصلاً بحضرة بقيّة الله أرواحنا فداه، أو أن تكون يده في يد وليّ الله، سبب هذا هو أنّه لولا ذلك لاختطفت الدنيا الإنسان وجعلته في شرنقتها، شئنا أم أبينا.

  • تدريجيّة سيطرة الدنيا على الإنسان

  • وليست المسألة دفعيّة بحيث تبدو لدى الإنسان مثلاً حالة كما لو أنّه يشعر بألم في الرأس، فيلتفت أنّ هناك خللاً...، أو يشعر فجأة أنّه مصاب بآلام في المعدة ومغص وأمثال ذلك.كلاّ فليس الأمر كذلك، بل مسألة الدنيا ومرض الدنيا لو أردنا أنّ نمثّل لهما فهما مثل تسوّس الأسنان، فعندما يشرف السنّ على التسوّس والخراب يشرع قبل ستّة أشهر بالخراب، والآن فجأة ترتفع الصرخة، الآن ترتفع الصرخة بعد أن يكون الأوان قد فات. أو مثل مرض السرطان أو ورم أو نحوه، فعندما يبدأ لا تشعرون به فجأة. بل تكون في موضع من البدن غدّة تنمو نموًّا غير طبيعيّ، فلا يشعر الإنسان بها، وعندما يلتفت يجد أنّه فات الأوان، يقولون: لقد ملأ كامل القفص الصدريّ. فهكذا هي المسألة، مسألة الدنيا هي هكذا. عندما يريد الإنسان أن يذهب إلى مكان معيّن ففي البداية تكون له نيّة صافية، ينظر إلى المسائل والقضايا نظرة مساواة. ينظر إلى الناس بمساواة. يقول: سأعدل، سأصنع كذا. وفي اليوم الأوّل يأتي فيقولون: السلام عليكم، صلّوا على محمّد وآل محمّد، لقد دخل السيّد فصلّوا ترحيبًا به، رحّبوا به، يكتبون من تلك اللافتات، ويعلّقونها على الجدران، أهلا وسهلاً بقدوم السيّد، وفي اليوم الثاني ماذا يحدث، في الأسبوع الأولّ والثالث شيئًا فشيئًا ماذا يحصل له؟ إذا ذهب يومًا إلى مجلس فلم يعلّقوا له لافتة فإنّه يتأثّر، هذا خطر. لم تكن هكذا إلى هذا الوقت، والآن صرت كذلك. إذا ما ذهب إلى مكان فوجد أنّ واحدًا لم يقف له أو قليلون لم يقفوا، الجميع قاموا باستثناء واحد، يقول: ماذا حصل؟ ما الأمر؟ شيئًا فشيئًا، والشيطان يعرف درسه جيّدًا، لقد قلت لكم مرارًا، كرّات ومرّات: مهما صرنا أساتذة فإنّه يتفوّق علينا. لقد علّمه الله أمورًا لا يصل إليها عقلنا أبدًا. 

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

5
  • طريق مواجهة الدنيا والشيطان

  • وبالطبع طريق المواجهة أيضاً بيّنه الله. طريق المواجهة هو الآية الشريفة التي تقول: (إِنَّ الَّذينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُون)۱ فأهل التقوى ما إن يأتيهم طائِف من الشيطان...، فهذه اللافتات يا سيّدي العزيز كلّها طائِف من الشيطان، كلّ هذه الأوراق التي تكتب، كلّ هذه اللافتات هي طائِف من الشيطان، كلّ ذلك فخوخ وشراك للأبالسة. الله يعلم أنّ هذه اللافتات التي قيمتها مثلاً خمس تومانات، ترمي سهامًا على القلب بقيمة خمسة مليارات، قيمتها خمسة أو عشرة تومانات ولكنّ تلك الأسهم التي ترمي بها ليست خمسة أو عشرة، إنّها تأتي وتقلب القلب، فإذا انقلب القلب انتهى الأمر. إذا جاء النبيّ لا يدرك، لو تجسّد الله على الأرض لا يدرك، يغلق ويتوقّف، يقف أمام الحقّ ويبرّر كافّة الأمور (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون )٢ لا فهم ولا فقه، يعني لا يحصل لديهم بعد ذلك فهْمٌ. كلّ ذلك لماذا؟ لأنّ يدهم ليست بيد إمام الزمان عليه السلام. 

  • فولاية إمام الزمان عليه السلام وإشرافه الخاصّ لا إشرافه العامّ تشمل من سلّم قلبه للإمام عليه السلام وهذا ليس بالأمر السهل، فلا تظنّوا أنّه يتيسّر بالكلام، [وبقول:] "نعم نحن في كنف حماية إمام الزمان عليه السلام، فلو لم يكن ماذا كان سيحصل". كلاّ ليست هذه الأمور هكذا، فإمام الزمان يجعل تحت حمايته من سلّمه قلبه ونفسه. 

  • قصّة الشيخ المفيد وتسديد الإمام له

  • فالشيخ المفيد أعلى الله مقامه كان من الأعاظم الذين سلّموا قلوبهم لإمام الزمان، ولم يكن ذلك بمحض الكلام. يفتي في مسألة ما خطأً في إحدى القضايا، فيأتون إليه ويقولون: مولانا! ماتت امرأة حامل، والطفل في بطنها فماذا نصنع؟ يفتي أن ادفنوها مع طفلها... فيدفنونها. ما إن يذهبوا وفي وسط الطريق يرون فارسًا يقترب منهم ينظر إليهم وهو على هيئة الأعراب، فقال: لقد أمر الشيخ المفيد أن تشقّوا بطن المرأة وتستخرجوا الطفل منها ثمّ تدفنونها. فيذهبون ويقومون بذلك ـ وترجع القصّة إلى ما قبل ثمانمائة عام، تسعمائة عام، في ذلك الزمان ـ فيقومون بذلك ثمّ بعد عدّة أيّام يأتي عدد من الرجال يحملون طفلاً وعلبة من الحلوى أو هديّة إلى منزل الشيخ المفيد: لقد رزقنا الله هذا الطفل ببركاتك ونحن نريد أن [نشكركم]. فقال الشيخ المفيد: ماذا؟ يقولون: نحن سألناك، فأنت قلت كذا، ثمّ أرسلت إلينا أن لا، بل عليكم أن تشقّوا بطنها. قال الشيخ: أنا لم أقل كلامًا كهذا. متى قلت ذلك؟ فيلتفت إلى حقيقة الأمر. لقد كان إنسانًا صادقًا، ولأنّه كان صادقًا لم تحمل فتواه الفساد. هل التفتّم؟ النقطة هي هنا. لأنّ قلبه كان صافيًا أخذ إمام الزمان بيده. هل التفتّم؟ فكّر في نفسه وقال: أنا لم أقل ذلك، لقد جاء الإمام وصحّح خطأي في الفتوى، فإذن أنا لا أليق بالفتوى. أغلق باب داره ولم يسمح لأحد بالدخول، وقال: أنا لست أهلاً للإفتاء، لقد أفتيت خطأ. مهما جاؤوا إليه كان يقول: لا تسألوني. 

    1. سورة الأعراف، الآية ٢۰۱.
    2. سورة البقرة، ذيل الآية ۱۷۱. 

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

6
  • ـ ماذا نصنع؟!

  • ـ أنتم تعلمون، ففي النهاية لكم إله أم لا؟ إلهكم هذا أرحم بكم أم أنا أرحم؟ أنتم تعلمون! فلماذا أورّطكم معي؟ أفهل أنا أرحم بكم من ربّكم؟ أنا لست مؤهّلاً، فأتنحّى جانبًا، لا أفتي بعد هذا، لا أفتي هكذا. أن يدفنوا امرأة مع طفلها الذي في بطنها، وأسبّب قتل نفس محترمة. فأغلق باب داره، فأرسل إليه إمام الزمان أن افتح باب دارك وأفت، ونحن نأخذ بيدك.۱ فمن كذلك؟ من سلّم قلبه لإمام الزمان، فهل نحن كذلك؟ واقعًا هل نحن كذلك؟ ونتيجة ذلك ماذا تكون؟ نتيجة ذلك هو الشيخ المفيد في النهاية. صاحب تلك المقامات وصاحب تلك الدرجات. 

  • والخلاصة أنّ المسألة دقيقة وقد بُيّن الطريق أيضًا. فليس الأمر بأن نطأطئ برؤوسنا، ولكنّ الطريق قد بيّن، والأمر واضح، وجميعنا نعلم، جميعنا نحن وأمثالنا نعلم.

  • تأكيد المرحوم العلاّمة على حفظ آيات (عباد الرحمن)

  • في سورة الفرقان يبيّن الله تعالى صفات للمؤمنين وعباد الرحمن. يبدأ من (وعباد الرحمن). وكان المرحوم العلاّمة يقول مرارًا على السالك أن يحفظ هذه الآيات من سورة الفرقان، هذه الآيات الخاصّة، و يراجعها في ذهنه بشكل منتظم، حتّى يتمكّن أن تكون هذه الآيات دليلاً له في أعماله وسلوكه وتفكيره بشكل دائم. فواقعًا هذه الآيات عجيبة، تبيّن وضع الإنسان في المجتمع، ووضع الإنسان مع الناس، وكيفيّة إنفاقه، وكيفيّة عبادته، وكيفيّة أفكاره، وتنظيم أفكاره، تبيّن كلّ ذلك. (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) عباد الرحمن هم الذين إذا مشوا على الأرض يمشون بهدوء، رؤوسهم مطأطئة، هل رأيتم أنّ البعض إذا أرادوا أن يسيروا كيف يسيرون؟ يسيرون بنحو يفكّرون فيه هل يراهم أحد أم لا؟ [أما هؤلاء فـ] رؤسهم مطأطئة، يطأطئون رؤوسهم ويمشون (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) يمشون على الأرض بهدوء، لا ينظرون يمينًا وشمالاً، لا يجعلون هذا الصدر درعًا. لدينا في الرواية أنّ النبيّ عندما كان يمشي كان دائمًا منحنيًا، يميل نحو الأرض يسيرًا، رأسه يميل نحو الأرض، هكذا كان يمشي. (وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً)٢ عندما يأتي جاهل في أثناء الطريق ليقول لهم أمرًا ما، ويقول لهم كلامًا بذيئًا ويستهزئ بهم فإنّهم يقولون: سلام عليكم. ثمّ يمضون، لا يريدون أن يجيبوه. في الفقرات اللاحقة من حديث عنوان البصريّ ـ إذا وفّقنا الله ـ هناك يقول الإمام الصادق عليه السلام أنّ إحدى الأمور التي تجب مراعاتها هي أنّه إذا جاء أحد وقال لنا شيئًا ما نقول له: "إن قلت عشرًا لم تسمع واحدة". أمّا نحن الآن فلا، بل نقول: "إن قلت واحدة سمعت عشرًا". ثمّ نسمّي أنفسنا بالسلاّك، إن تكلّم أحد فلا بدّ أن نجيبه، لا يمكن، لا بدّ أن نجيبه!

    1. موسوعة الكلمة، السيّد حسن الشيرازي، ج٢۱، ص ۱٣۸: والمعروف أنه هو الذي أمره بالفتوى ، وعندما أخطأ في فتوى صحح الإمام فتواه ، وعندما اعتزل الفتوى قال له الإمام: ( أيها الشيخ المفيد منك الفتوى ومنا التسديد ) 
      وفي كتاب قصص العلماء للتنكابني ص ٤٢٢: يحكى أنّ قرويًّا جاء إلى الشيخ وسأله عن امرأة حامل توفيت وحملها حي فهل تشق بطنها ونخرج الولد أم ندفنها مع الولد؟ ادفنوها مع الولد. 
      فرجع القرويّ وفي الطريق جاءه راكب وقال له: أيّها الرجل قال لك الشيخ المفيد أن تشقّوا بطنها وتخرجوا الطفل، ثمّ تدفنون المرأة، وهكذا فعلوا. وبعد مدّة نقلت هذه الحكاية للشيخ فقال: لم أرسل أحدًا. ومن المعلوم أنّه صاحب الزمان عليه السلام. فالظاهر أننا نتخبّط ونخطئ في الأحكام الشرعيّة، فالأفضل أن لا نفتي لأحد بعد الآن، فجلس في بيته وأقفل على نفسه، ولم يخرج وإذ بتوقيع يأتيه من صاحب الأمر عليه السلام قال له فيه: قولوا الفتوى وعلينا تسديدكم ومنعكم من الخطأ* فتصدّى الشيخ من جديد للفتوى. وليعلم أنّه لم يخرج توقيع في زمن الغيبة الكبرى إلا للشيخ المفيد. وقال الشيخ أسد الله الكاظمي في كتاب المقابيس: أجمعت علماء الإماميّة على أنّه خرجت توقيعات من إمام الزمان بخطه المبارك إلى الشيخ المفيد. 
      *ورد في هامش الكتاب المذكور: هذا مضمون التوقيع المترجم. 
      والظاهر أنّ هذا الكتاب كتب بالفارسيّة وترجم إلى العربيّة.
      هذا وجاء في الاحتجاج، ج ٢ ص ٣٢٢ لأحمد بن علي الطبرسي أنّ الإمام الحجّة كاتبه بهذا:
      للأخ السديد، والولي الرشيد، الشيخ المفيد، أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان أدام الله إعزازه، من مستودع العهد المأخوذ على العباد.
      بسم الله الرحمن الرحيم
      أما بعد : سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين، المخصوص فينا باليقين فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وآله الطاهرين، ونعلمك - أدام الله توفيقك لنصرة الحق ، وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق - : أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة، وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قبلك.
    2. سورة الفرقان (٢٥) الآية ٦٣.

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

7
  • موقف العلامة الطهراني من الذي كان يعترض عليه

  • لقد تذكّرت الآن هذه الحادثة، فقد استشكل أحد الناس على المرحوم العلاّمة في أواخر حياته بعد أن انتقلتُ أنا إلى قم، وحصل في نفسه وفي ذهنه أمور وتغيّرات، والحاصل أنّ حالته لم تكن جيّدة. وفي يوم من الأيّام أرسل المرحوم العلاّمة إلى رجل أن قل لذاك الرجل أنّه إن كان لديه سؤال يرتبط بي أو قضيّة ما فنحن حاضرون، تعال إلينا إلى مشهد وإن كان عندك أمر ما فاطرحه، إن كان عندك كلام ما فقله، إن كان لديك حديث... كانت عبارة المرحوم العلاّمة هكذا: إن كنّا مخطئين فنحن سنسعى إلى تصحيح الخطأ. 

  • لماذا؟ لأنّ وليّ الله ليس عنده خوف، لا يأبى. فلنفترض أنّه أخطأ، فجيّد يقول: يا سيّد نحن أخطأنا، لا بأس. 

  • قصّة الاقتصاص من النبيّ صلّى الله عليه وآله

  • في آخر يوم من أيّام حياة النبيّ ذهب صلى الله عليه وآله إلى المسجد فقال: "ناشدتكم بالله أيّ رجل منكم كانت له قبل محمّد مظلمة إلاّ قام فليقتصّ منه" إن كان لأحد حقّ فليتأت، إن كنت أضعت حقّ أحد فليأت. فجاء رجل فقال: يا رسول الله! عندما امتطيتَ الناقةَ أردتَ أن تضربَها بالقضيب فأصاب بطني، وأنا أريد أن أقتصّ.فقال النبيّ لا بأس. قال: لا لا يمكن لا بدّ بذلك القضيب بعينه. فذهبوا وأحضروه وله قصّة مفصّلة، وقد سمعتم قصّتها عندما كشف النبيّ عن بطنه فجاء وقبّل بطنه وقال ما قال.۱ فالنبيّ يعلّم الجميع هذا الأمر، يريد أن يقول: إنّي رسول الله وفي آخر يوم من عمري، وما أذكره لكم ليس مزاحًا، فالنبيّ لم يكن يريد أن يحبّب نفسه إلى الناس، النبيّ لا يريد أن يقوم بعمل نتحدّث به بعد ألف وأربعمائة سنة فنقول: انظروا! كم هو نبيّ عجيب! كم هو متواضع! كم هو حسن! لقد تجاوز النبيّ عن كلامه هذا! النبيّ يرى الحقّ، يرى أنّه في اليوم الأخير ولا بدّ أن يخرج من هذه الدنيا خفيف الجناح، هذه هي الحقيقة. غدًا سيأتي عزرائيل إلى بيت النبيّ وسينتهي بعدها أمر النبيّ، سيغلق سجلّه، فهو يعلن إن كان هناك حقّ، إن كان هناك أحد له حقّ فليقم وليأت. لماذا؟ لأنّه يعلم أنّه لو مات بهذا المقدار من الحقّ ـ التفتوا ـ فإنّ الله سيوقفه هناك. لا فرق بيننا وبين النبيّ. لذلك ماذا يريد أن يصنع؟ يريد أوّلاً أن يعلّم الأمّة أن أيّها الناس! أنا النبيّ هكذا، فاعلموا أنتم. ثانيًا: المسألة ترتبط به هو. فالمسألة دقيقة إلى درجة بحيث إنّه يجب أن لا يكون هناك حقّ بهذا المقدار في ذمّته.

    1. الشيخ الصدوق، الأمالي، ص ۷٣٢: إنّ ربّي عزّ وجلّ حكم وأقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم، فناشدتكم بالله أيّ رجل منكم كانت له قبل محمّد مظلمة إلاّ قام فليقتصّ منه، فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء . فقام إليه رجل من أقصى القوم يقال له سوادة بن قيس، فقال له: فداك أبي وأمّي يا رسول الله، إنّك لمّا أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق، فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فلا أدري عمدًا أو خطأ. 
      فقال: معاذ الله أن أكون تعمّدت. ثمّ قال: يا بلال، قم إلى منزل فاطمة فأتني بالقضيب الممشوق. 
      فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة: معاشر الناس، من ذا الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة؟ فهذا محمّد صلّى الله عليه وآله يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة! وطرق بلال الباب على فاطمة عليها السلام وهو يقول: يا فاطمة، قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق. فأقبلت فاطمة عليها السلام وهي تقول: يا بلال، وما يصنع والدي بالقضيب وليس هذا يوم القضيب؟ 
      فقال بلال: يا فاطمة، أما علمت أنّ والدك قد صعد المنبر وهو يودّع أهل الدين والدنيا! 
      فصاحت فاطمة عليها السلام وهي تقول: واغمّاه لغمّك يا أبتاه! من للفقراء والمساكين وابن السبيل يا حبيب الله وحبيب القلوب؟! ثم ناولت بلالاً القضيب، فخرج حتّى ناوله رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: أين الشيخ؟ 
      فقال الشيخ: ها أنا ذا يا رسول الله، بأبي أنت وأمي.
      فقال: تعال فاقتصّ منّي حتّى ترضى. 
      فقال الشيخ: فاكشف لي عن بطنك يا رسول الله، فكشف صلّى الله عليه وآله عن بطنه.
      فقال الشيخ: بأبي أنت وأمّي يا رسول الله أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟ فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله من النار يوم النار . 
      فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: يا سوادة بن قيس، أتعفو أم تقتصّ؟ 
      فقال: بل أعفو يا رسول الله. 
      فقال صلى الله عليه وآله: اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيّك محمّد.

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

8
  • (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) عندما يتعامل معهم الجاهلون يقولون: سلامًا. السلام عليكم. ثمّ يتابعون طريقهم. 

  • العلاّمة الطهراني: الإهانة تصل إلى عباءتي

  • قال المرحوم العلاّمة: فليأت ذلك الرجل. في النهاية فليأت لنر ما الأمر، وما هو مطلبه. فإن كان لديه كلام، إن كان لديه أمر ما ليقوله فلماذا لا يأتي؟ فليأت وليقل: أعترض عليكم لأجل هذا. فإمّا أن يقبل ويجيب أو يرفض ويردّ. فلم يأت ولم يأت، وشرع ببعض الأمور غير اللائقة وحتّى بالكلام. لقد كنت هناك، وكان أخي منزعجًا جدًّا من هذا الأمر، نظر إلى المرحوم العلاّمة وقال: ما هذا يا سيّد؟ فهو يتكلّم بهذه الأمور وينسب إليكم هذه الأمور، ويقول ذلك، فهو يذهب إلى هنا وهناك ويتكلّم. ضحك المرحوم العلاّمة ضحكة، كان واقفًا هناك، فضحك ضحكة، وكانت عباءته معلّقة على الجدار، إحدى عباءاته... فقال: عزيزي! هذا الكلام الذي يقوله يصل إلى هذه العباءة، ولا يصل إلى هنا. كلّ هذه الكلمات كلّها تصل إلى هذه العباءة.

  • ما معنى ذلك؟ يعني أنّه في مقام عال ورفيع، وهذا الكلام هو كلّه ظاهر ولا يتجاوز الظاهر، فهذا الكلام لا يصل إلى الداخل لكي يفكّر فيه. نحن مبتلون بمسائل أكثر أهميّة، فهل نأتي ونضيّع أوقاتنا بكلام زيد وعمر؟ هل ينتهي مثل هذا الكلام: ماذا قال عمرو؟ وماذا قال فلان عنّا؟ وماذا قال فلان؟ فلنجعل في النهاية وقتًا ولنتّفق على عمل إذا وصلنا إليه ننتهي [ونقول:] لاّ يا عزيزي! [أمّا هكذا] فلو انتهى هذا لجاء آخرون، يأتي آخر من جديد، فإذا انتهى من عمله جاء ثالث ولا نهاية لذلك. أقولها لكم: علينا أن لا نتوقّف هنا، فلدينا من المشكلات ما لا نتفرّغ معه لهذه الأمور، نأتي إلى كلام زيد وكلام عمر وماذا قالا، علينا أن نقول [كلامنا] ونمضي، فقل يا سيّد قل ما شئت إن كنت تهدأ بذلك فقل ولكن لا ترنا وجهك. 

  • كان المرحوم العلاّمة يقول: قلت يومًا للشيخ مطهّري رحمه الله: شيخنا أحيانًا الإنسان يكون راضيًا ومسرورًا بأن يتحدَّث عنه رجل ما بما يشاء ولكن بشرط أن لا يأتي إليه، [نقول له:] اذهب وقل ما شئت هنا وهناك: السيّد الفلاني كذا، والسيّد الفلاني كذا، وكذا وكذا، ولكن بالله عليك لا تأت إلينا وترينا وجهك، لا طاقة لنا على رؤيته. 

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

9
  • فقال الشيخ مطهّري: نعم نعم، سيّدنا نحن أيضًا مبتلون بهذه المسألة، نعم نعم المسألة هي كذلك. ألم تسمعوا أنّه يقال: وهبت عطاءه عوضًا عن لقائه؟! ما كلّ هذا الكلام وهذه الأمور والتصدّي للإجابة والردّ، فهذا يقول كلامًا، ونحن نجيبه في الجريدة فنكتب صفحتين، وذاك يقول شيئًا ونحن نكتب ستّ صفحات؟! كلّ ذلك كثرات يا عزيز، كلّ ذلك دنيا ولكنّه دنيا ذات لون إلهيّ، أما باطنها فدنيا. فالتفّاحة إذا قشّرتموها ينتشر عطرها بعد ذلك، وإذا قشّرتموها تصبح قابلة لأن تؤكل. أمّا لو صُنعت هذه التفّاحة من الجصّ وصبغت باللونين الأصفر والأحمر وبشكل جميل فيأخذها الإنسان ويضربها بالمطرقة فيرى أنّ المطرقة لا تؤثّر بها، فما هذه التفّاحة؟ بعد قليل يدرك أنّها لون، وتحتها جصّ، ليس فيها صبغة إلهيّة، يزيح الإنسان هذا اللون جانبًا فيرى عجبًا! لا وجود لله في هذا العمل، لا وجود للنبيّ، كلّ شيء يرجع إلى الأنا، كلّ شيء يرجع إلى الشخصيّة. لذلك على المؤمن أن يكون ذكيًّا واعيًا يميّز بين الحقيقة والمجاز. 

  • ضرورة الردّ على الناس فيما يرتبط بالله

  • لا بدّ أن يعلم أنّ هذا الأمر الذي قالوه له هل قيل له هو أم قيل لله؟ لمن قيل من هذين؟ فإن قيل له هو، فدعهم يقولون. قل يا سيّد ثمّ قل! أنت مسرور. فبعض الناس يسرّون بهذا الأمر، فليقولوا. وأمّا لو كانت المسألة ترجع إلى الله، فعليه أن يتصدّى للجواب بمقدار التكليف لا أكثر، لأنّ المسألة لا ترتبط به هو، المسألة ترتبط بمكان آخر، وهنا عليه أن يحدّد. 

  • وهنا يحصل الاختلاف، هنا تشتبه المصاديق، وتأتي النفس وتبدأ: انظر يا سيّد! إنّهم يهينونك، وإهانتك إهانة للإسلام، إهانتك إهانة لله، إهانتك إهانة للمباني كلّها، فهذا خطأ وينبغي أن لا يقال. [يقولون:] علينا أن نجيبهم ونردّ عليهم وكذا وكذا، في حين أنّ الواقع ليس كذلك فلا هو أهان الله ولا النبيّ، لقد أهانك أنت، فلماذا تثير الضجيج؟! لماذا على الناس أن يقوموا ويخرجوا وأمثال ذلك؟ كلاّ هذه ليست إهانة لله، وربّما لو بُيِّنَتِ الأمور بطريقة أخرى لما صدرتْ هذه الإهانات أيضًا. ربّما لو طرح الأمر بطريقة أخرى لما قيل هذا الكلام. 

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

10
  • (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) عندما يصطدمون بالجاهلين فإنّهم يسلّمون عليهم وليس معنى (قالُوا سَلاماً) أنّهم يسلّمون، بل بمعنى أنّهم يمضون بسلام، يتجاوزون بسلام وأمان، يعبرون بسلام وأمان، لأنّ الحقّ واضح والإنسان يقول الحقّ مرّة واحدة، فإن كان لدى الإنسان قبول فإنّه يقبل وإن لم يكن لديه قبول فإنّه يزيد من مواجهته ويغوص في الكثرات أكثر. لأنّ المواجهة ليست على أساس الحقّ بل على أساس أيّ شيء؟ على أساس المعارضة، على أساس الغلبة. غير أنّنا في هذه المواجهة ندخل الله في البين، نأتي بالله، ولكن في الحقيقة ماذا؟ نقوم بالدوران حول أنفسنا. 

  • معنى (إذا أنفقوا لم يسرفوا...)

  • (وَالَّذينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً۱ من هم عباد الرحمن؟ عباد الرحمن هم الذين إذا أنفقوا لا يسرفون بل ينفقون بمقدار، ليسوا بالذين إذا أرادوا أن يعطوا يعطون أكثر من المقدار اللازم، فلربّما لا يكون من الصلاح له أن يأخذ أكثر من ذلك المقدار. (لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) لا يعطون قليلاً أيضًا (وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) يراعون العدالة والقوام والاعتدال. 

  • ضرورة رعاية شأن المعطَى وعزّته في مقدار ما يعطَى 

  • الناس مختلفون، وخصوصيّاتهم مختلفة، وحالاتهم مختلفة، ولا بدّ من مراعاة أحوالهم وهذه المسألة مهمّة جدًّا. ذات يوم أمر أمير المؤمنين رجلاً أن أعط هذا المقدار من المال لفلان، وهو من التمر البالغ بضعة أوساق والتي كلّ وسق منها عشرات الكيلوّات وربّما المئات، من الأرض التي لي من النخيل. لقد كان ذلك الرجل يباشر تقسيم الأموال من قبل أمير المؤمنين فنظر إليه وقال: أنا أعرف فلانًا وهو ليس كما تقول، فأولاً ليس ذا عائلة كبيرة، ولا هو ذو حاجة عظيمة. فانزعج أمير المؤمنين وقال: "أعطي أنا وتبخل أنت؟"٢ فأنت لا تعرف من هو هذا وكيف هي أحواله. إنّ خصوصيّة كلّ إنسان، ورعاية الجوانب النفسيّة لكلّ إنسان، وملاحظة الجوانب النفسية هي أهمّ بكثير من العطاء. أحياناً إذا لم يتمكّن الإنسان من الإعطاء بما يحفظ شأن من يعطيه فعليه أن لا يعطي، فالمسألة مهمّة إلى حدّ كبير. لا بدّ أن تكون بحيث تحفظ العزّة والاحترام والعلوّ والقوّة والرفعة، وهذا هو الأمر الذي يلاحظه الله في عزّة المؤمن. لا بدّ من رعاية هذا الأمر بشكل كامل. يقول أمير المؤمنين لذلك الرجل: "إذا أنا لم أعطِ الذي يرجوني إلا من بعد المسألة، ثمّ أعطيه بعد المسألة، فلم أُعطِه ثمنَ ما أخذتُ منه". إن لم أعطه ومدّ إليّ يد الفاقة فأعطيته لأجل طلبه، فهل يساوي المال الذي أعطيه ماءَ وجهه المراق؟ حينها لا أكون قد أعطيته شيئًا. حينها ستكون المعاوضة بين ماء وجهه وبين عطائي، بل هي من جهة واحدة، لقد بذل ماء وجهه هنا، وأنا أمام ماء الوجه هذا لم أعط شيئًا. لقد بذل هذا المؤمن عزّته هنا، وبذل ماء وجهه.

    1. سورة الفرقان (٢۷) الآية ٦۷.
    2. الكافي، ج٤، ص ٢٢: عن أبي عبد الله عليه السلام أنّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه بعث إلى رجل بخمسة أوساق من تمر البغيبغة وكان الرجل ممن يرجو نوافله ويؤمل نائله ورفده، وكان لا يسأل عليًّا عليه السلام ولا غيره شيئًا، فقال رجل لأمير المؤمنين عليه السلام: والله ما سألك فلان ولقد كان يجزئه من الخمسة الأوساق وسق واحد. 
      فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: لا كثّر الله في المؤمنين ضربك! أعطي أنا وتبخل أنت؟ لله أنت إذا أنا لم أعط الذي يرجوني إلا من بعد المسألة ثم أعطيه بعد المسألة فلم أعطه ثمن ما أخذت منه؛ وذلك لأنّي عرّضته أن يبذل لي وجهه الذي يعفّره في التراب لربّي وربّه عند تعبّده له وطلب حوائجه إليه، فمن فعل هذا بأخيه المسلم وقد عرف أنّه موضع لصلته ومعروفه فلم يصدق الله عز وجل في دعائه له حيث يتمنّى له الجنة بلسانه ويبخل عليه بالحطام من ماله، وذلك أنّ العبد قد يقول في دعائه: اللهمّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات. فإذا دعا لهم بالمغفرة فقد طلب لهم الجنّة فما أنصف من فعل هذا بالقول ولم يحقّقه بالفعل.

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

11
  • ضرورة صيانة الإنسان لماء وجهه

  • يخاطب سيّد الشهداء عليه السلام الإمام السجّاد عليه السلام في كلام له رفيع: يا بنيّ! وأعزز نفسك عن كل دنيّة وإن ساقتك إلى الرغائب فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً.۱

  • يا بنيّ كن عزيزًا، ولا تمدّ يد الاستجداء إلى أيّ مكان، كن عزيزًا، لا تلفت أنظار الناس إليك ليقدّموا لك المساعدة. 

  • "وأعزز نفسك عن كل دنيّة وإن ساقتك إلى الرغائب" وإن أدّت بك إلى عوض رفيع المستوى من حيث الدنيا. وإن ساقتك إلى الرغائب، الرغائب جمع رغيبة، أي المال ذا القيمة العظيمة. وإن ساقتك إلى الأشياء القيّمة ولو ساقتك إلى الإمكانات، ولو ساقتك إلى رؤوس الأموال، ولو ساقتك إلى المواقع، ولو أوصلتك إلى المواقع، ولو أوصلتك إلى الرئاسات. [تقول:] نحن مؤهّلون، نحن نصنع كذا، نحن نصنع كذا، نحن نصنع ماذا، "وأعزز نفسك عن كلّ دنيّة" اجعل نفسك كبيرة، أنت لست بالشيء اليسير، أنت لست جوهرًا يسيرًا، أنت لست كيمياء يسيرة. إنّ هذه المواقع والمقامات كلّها مؤقّتة بالنسبة إلى نفسك أيّها العزيز! أربع سنوات، خمس سنوات، عشر سنوات، خمس عشرة سنة، ولكن نفسك أبديّة. تصل إلى مقام ما لأربع سنوات، ثمّ يقولون: انتهت المدّة، تفضّل. لقد قدّمت نفسك، قدّمت عمرك، قدّمت مقامك. أمّا إذا كنت عزيزًا... 

  • لقد وصلت الخلافة إلى أمير المؤمنين عليه السلام تكوينًا وتشريعًا، لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام متصدّيًا للخلاقة بعد رسول الله تكوينًا بواسطة الولاية التكوينيّة، وكذلك تشريعًا بواسطة النصّ الصريح، لا بشكل خفيّ لرجل أو رجلين. أمام ثلاثين ألف رجل رفع بيده: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. كما قال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.٢ قال كلّ ذلك. ثمّ جاء هؤلاء الناس العجول وأقصوه. 

  • أثر ترك إعزاز النفس في تبدّلها

  • كنت أتحدّث يومًا في مشهد عند المرحوم العلاّمة حول كيفيّة التغيير وكيفيّة التحوّل اللذين يحصلان في فكر الإنسان وفي نفسه، بحيث يتبدّل في النهاية من شخصيّة إلى شخصيّة أخرى، ولا يبقى بين هاتين الشخصيّتين أيّة صلة. إنّه لعجيب جدًّا، والآن أحد الأمراض النفسيّة انفصام الشخصيّة، [بحيث تغدو] هذه الشخصيّة ليست لها أيّة علاقة بالشخصيّة الأخرى، أصلاً لا يذكرشيئًا، فتارة يظهر بصورة القهر والقوّة وأمثال ذلك، وتارة في مظهر الأنس والألفة والعطف والمحبّة، لا يتعاطى مع الآخرين، وليس له أيّ علاج مرض الازدواجيّة هذا، وهو واقعًا عجيب. نحن أيضًا مبتلون بهذا المرض، لا تتعجّبوا كثيرًا، فنحن الآن في حالة معيّنة، لا قدّر الله إذا تغيّرت الحالة شيئًا فشيئًا فإنّ الإنسان يتحوّل بشكل كليّ حتّى لا يمكنه أن يدرك الأمور السابقة. كلّ الأمور التي كان يدركها سابقًا صارت باهتة، كانت شديدة اللون ففقدت الآن لونها. تفقد قوّتها وإحكامها، وتمضي بهدوء. 

    1. يبدو أنّ هذا الكلام لأمير المؤمنين يخاطب به الحسن عليهما السلام ، نهج البلاغة، ج٣، ص ٥۱. 
    2. الكافي، ج۱، ص ٢٩٤.

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

12
  • ـ لقد كان هذا كلامك أنت بالأمس. أنت بالأمس... 

  • ـ نعم كانت الظروف حينها بنحو وهي الآن تغيّرت ولم تعد لنا القدرة على الكلام حول ذلك، وفي أمان الله. 

  • ـ لقد كان هذا كلامك أنت بالأمس، فماذا حصل؟! لم تختلف الظروف، فهذه الشمس هي الشمس، والأرض تدور أربعًا وعشرين ساعة، لم تصبح خمسًا وعشرين ساعة، القمر أيضًا لا يزال على طريقته، الشمس والفلك أيضًا لا تزال جميعًا على ما كانت عليه، فما هي حقيقة الأمر وبماذا ترتبط المسألة؟ كلا يا سيّد! في النهاية تختلف الأمور، تختلف المسائل، فيصبح الإنسان هكذا. فما هذا؟ هذا هو الازدواجيّة في الشخصيّة. 

  • كيفيّة انقلاب الناس بعد رسول الله

  • كنّا نتحدّث حول هذه المسألة أنّ عبارة الإمام كانت هكذا: لقد كنت لمدّة خمس وعشرين سنة جليس بيتي فلماذا جئتم الآن إليّ؟ لماذا؟ هل كنتم مقصّرين؟ هل التفتّم ماذا كان خطؤكم؟ ينثالون إليّ كربيضة الغنم۱. يقول أمير المؤمنين إنّ الناس جاؤوا إلى داري كقطيع الغنم. هؤلاء الناس الذين رأوا النبيّ قبل أربع وعشرين ساعة من على هذا المنبر، رأوا النبيّ قد رقي المنبر قبل أقلّ من أربع وعشرين ساعة من وفاته، ونَصَبَ أمير المؤمنين وأحد عشر خليفة بعده ولعن أعداءهم وغاصبيهم ودعا عليهم٢، وفي أقلّ من ثمانية عشر ساعة ساروا خلف ذلك الإنسان الآخر. واقعًا تشبيه عجيب، كربيضة الغنم، مثل قطيع الغنم. إنّ قطيع الأغنام الذي سار خلف أبي بكر هو بعينه جاء إلى أمير المؤمنين لاحقًا، يا عليّ! تعال أنت الآن. فقال الإمام: أنا؟ ما أنا راعيكم، اذهبوا وارجعوا في اليوم التالي، لقد أقصيتم كلام النبيّ أمام أعينكم قبل وفاته بثماني عشرة ساعة وتركتم كلامه جانبًا، ولا كلام عن حادثة الغدير، كلامنا عن الأمس حين جاء النبيّ فلمّا رأى أبا بكر يصلّي، أبعده جانبًا. الآن جئتم إليّ أنا عليّ؟! أنا لا أنفعكم. ذهبتم يومًا وراء أبي بكر، ويومًا وراء عمر وعثمان، واليوم أيضًا اذهبوا واجعلوا واحدًا من أمثال خالد وأمثال يزيد خليفة عليكم. إمام الزمان لا ينفع لحكومة أفراد كهؤلاء، ولي الله لا ينفع لحكومة أفراد كهؤلاء، من الذي ينفع للحكومة؟ واحد مثلهم. أمير المؤمنين ذاك كان مصداقًا لـ "وأعزز نفسك"، وكان يعزّ نفسه، فجاء وأعلن: أيّها الناس! أنا لست أقول لأجل نفسي، أنا مصداق لشعر حافظ: "من كه ملول گشتمى از نفس فرشتگان" أي أنا الذي مللت من أنفاس الملائكة، أنا أصلاً لا يمكنني أن آتي وأتكلّم معكم، أنا أصلاً لا يمكنني أن أتنزّل إلى أفكاركم ـ أنا إذ أقول هذا فإنّي أقوله جسارة في مقام بيان لسان حال أمير المؤمنين ـ أتظنّون أنّي أتأثّر إن أخذتم الخلافة منّي؟ فلتأخذوها! نحن نسعى بأقصى قوّتنا... ألم يقل لابن عبّاس؟ عندما كان يخصف نعله قال ابن عبّاس: يا عليّ! الناس كلّهم منتظرون الآن، الناس كذا، ليس لهم قائد لجيشهم، فنظر إليه نظرة وأمره أن اذهب يا عزيزي! تقول لا قائد لجيشهم؟! إنّ إمرتكم هذه أهون عندي من عفطة عنز٣. ليس له قائد فليكن، اذهب وعيّن له وأخبرني، ثمّ آتي وأرى إلى أين سيصل عملي مع هؤلاء الناس. إنّ أمير المؤمنين يتأثّر هو أيضًا، هو لا يريد أن يتنازل لحظة واحدة عن الله في التوحيد، وتأتون أنتم الآن تأخذون منه الخلافة؟ فلتأخذوها، إنّها أمنيتنا، إنّها منتهى أمنيتنا. اذهبوا والتحقوا بأبي بكر، اذهبوا إلى عمر، أنتم يفيدكم عمر وأبو بكر، اذهبوا واحكموا مائة عام أيضًا، ونحن نجلس في بيتنا ونجمع القرآن، ثمّ نذهب للعمل فنزرع الأشجار، نزرع النخيل، نحي الأرض نصنع البساتين، نصنع ما نصنع، فنحن أيضًا نقوم بهذه الأعمال. ولكنّه كان ينصح ـ وهذا عين ذاك ـ فقد كان ينصح. ففي حادثة البيعة التي كانوا يريدون أن يأخذوها منه كان يستشهد أنس بن مالك وأمثاله، كان يجعلهم شهودًا. وعند وفاة عمر عندما أرادوا أن يعيّنوا الشورى، حاجج جميع الأفراد واحدًا واحدًا٤، لماذا المحاجّة؟ لأنّهم يقولون: يا عليّ! لو تكلّمت معهم لربّما قبلوا، فأنت المقصّر، أنت المقصّر إذ لم تتكلّم. وفي كتب أهل السنّة حول هذا الأمر أكثر مما في كتب الشيعة. التفت إلى عمر فقال: يا عمر! أتذكر ماذا قال رسول الله فيّ ذلك اليوم؟ نظر إلى عبد الرحمن فقال: يا عبد الرحمن أتذكر؟ التفت إلى عثمان ـ واحدًا واحدًا ـ يا عثمان! أتذكر كلام النبيّ حولي؟ قال لكلّ واحد على حدة فهل قبلوا؟ لا. قال لهم: في أمان الله. لا نلتمس منكم أبدًا، لا نعلّق صورنا على جدران المدينة، وبتصاميم ملوّنة وبرّاقة وأمثال ذلك نزيّن بها جدراننا، وغدًا تأتي البلديّة وتغسلها جميعًا وتلقي بها في مجاري الصرف وأمثالها. كلا كلا لا نبذل المال ولا نعلّق الصور، ولا نعلن في الجرائد، لا نصنع شيئًا، في أمان الله، نذهب إلى البيت ونجلس، نجعل إحدى رجلينا على الأخرى، اذهبوا إلى عثمان، عشر سنوات إضافة إلى البقيّة تصبح خمس عشرة سنة، اقتديتم بأبي بكر وعمر، وهذه عشرة سنوات فوقها تصبح خمسًا وعشرين سنة. إذا صار البلد كلّه مشكلات حينها يأتون إلى عليّ: يا عليّ تعال لنبايعك. عجيب لقد جئتم متأخّرين! وأعزز نفسك عن كلّ دنيّة. أمير المؤمنين صاحب نفس عزيزة.

    1. نهج البلاغة ج۱، ص ٣٦: فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ ينثالون عليّ من كلّ جانب. حتّى لقد وطئ الحسنان. وشقّ عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم.
    2. الاحتجاج، ج۱ ص ۸٩: أن النبي صلى الله عليه وآله خرج في مرضه الذي توفي فيه إلى الصلاة متوكئا على الفضل بن عباس وغلام له يقال له ثوبان ، وهي الصلاة التي أراد التخلف عنها لثقله ثم حمل على نفسه وخرج ، فلما صلى عاد إلى منزله فقال لغلامه : اجلس على الباب ولا تحجب أحدا من الأنصار وتجلاه الغشي وجاءت الأنصار فأحدقوا بالباب وقالوا : استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه وآله . فقال : هو مغشي عليه وعنده نساؤه ، فجعلوا يبكون فسمع رسول الله صلى الله عليه وآله البكاء فقال : من هؤلاء ؟ قالوا : الأنصار . فقال من هيهنا من أهل بيتي ؟ قالوا : علي والعباس ، فدعاهما وخرج متوكئا عليهما فاستند إلى جذع من أساطين مسجده - وكان الجذع جريد نخل - فاجتمع الناس وخطب فقال في كلامه : ( معاشر الناس ) إنه لم يمت نبيّ قط إلا خلف تركة ، وقد خلفت فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي ، ألا فمن ضيعهم ضيعه الله.
    3. مناقب آل أبي طالب، ج۱، ص ٣۷۰: دخل ابن عباس على أمير المؤمنين وقال : ان الحاج قد اجتمعوا ليسمعوا منك وهو يخصف نعلا قال: أما والله إنها لأحب إلي من إمرتكم هذه إلا أن أقيم حقًّا أو أدفع باطلاً.
      وفي نهج البلاغة، ج۱، ص ٣۷: لولا حضور الحاضر وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت آخرها بكأس أولها ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز. 
    4. انظر: الاحتجاج ج۱، ص ۱۸۸. 

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

13
  • وهذه النفس موجودة عندي وعندك ولكنّا لم نعزّها، لم نحترمها، لم نصنها، هذه النفس نفس إنسانيّة. ماذا أقول لكم عن النفس الإنسانيّة هذه؟ يقول ابن الفارض حول هذه النفس عن مقام عزّتها: هذه النفس الإنسانيّة شيء عجيب إذا خالفتها ولم تطعها سيطرت على كافّة عالم الوجود وسخّرته، كافّة عالم الوجود، تجاوزت كلّ مسألة، تصرّفت في القمر، في الملائكة، في الغيب، في الشهادة، في كلّ شيء۱، ولكنّا نحن صنعنا كمن أعطى خزفة زرقاء كبيرة للطفل وأخذ منه ألماسة لا تقدّر بقدر، وقال له: انظر هذه الخزفة، جميلة زرقاء كم هي جيّدة. طفل عمره سنتان أو ثلاث، يمشي ويتحرّك هنا وهناك. هذه الألماسة زجاجة، انظر أصلا لا لون لها. فيسلّمها بسهولة ويقول: أعطني تلك. يمكنه أن يشتري الدنيا كلّها بهذه الألماسة، ولكنّه يقدّمها في مقابل الخزف. وواقعًا هذا المثال الذي أضربه لا يمكنه أيضًا أن يكون وافيًا ومؤدّيًا للمعنى المقصود، لأنّ الخزف في النهاية له قيمة، ولكنّ الدنيا لا تساوي حتّى خزفة. لقد أعزّ أمير المؤمنين نفسه. 

  • يقول الإمام الحسين: يا بنيّ ـ مخاطبًا الإمام السجّاد ـ وأعزز نفسك عن كلّ دنيّة وإن ساقتك إلى الرغائب فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضًا. اجعل نفسك عزيزة وإن أوصلتك إلى الرغائب وإن أوصلتك إلى مقامات، لأنّك أبدًا ـ ولن للنفي الأبديّ النفي المؤبّد النفي المؤكّد ـ لا يمكنك أن تجد عوضًا عمّا قدّمته. لن تعتاض يعني لن تجد عوضًا عن تلك الثروة وتلك العزّة التي بذلتها، لن تجد مقابلاً لما تبذل من نفسك عوضًا. فعلى الإنسان أن يكون عزيزًا. 

  • إنّ مسألة العزّة مهمّة إلى درجة، فما هي مسألة العزّة؟ هذه العزّة هي عزّة الله. المؤمن عزيز. (وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنين )٢ العزّة مختصّة بالله ورسوله والمؤمنين. لهذا هل رأيتم؟ هناك رواية في هذا المجال عن الإمام الصادق عليه السلام يقول فيها: المؤمن عزيز دائمًا، إذا التحق أحد بجماعة المؤمنين فإنّهم يفرحون، يقولون: هناك إنسان اهتدى الطريق. أمّا لو خرج منهم واحد فإنّهم لا يحزنون، ذهب فليذهب. أمّا المنافق إذا التحق أحد يفرح وإذا فارق يحزن، يجزع يفزع، ماذا حصل؟ لقد نقص من عندنا، نقص من جماعتنا، فلنذهب وراءه، فلنذهب، دعونا نمنعه من الذهاب، لنلحق به، لنتابع، لنر ما حقيقة الأمر، هل لديه أمر ما، هل لديه مشكلة. يمضون خلفه، يفعلون ما يفعلون. تفضّل، نعطيك منصبًا، نعطيك مقامًا، نجعلك رئيسًا، نجعلك رئيسًا لجلسة، نجعلك رئيسًا للمكان الفلاني، أنت ارجع، ارجع ولا تقوّ ذاك الجانب. أيّها المسكين! إن كان الله معك فخلف من تركض؟ (وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنين ).

    1. ديوان ابن الفارض، التائيّة الكبرى، ص ۷۱: 
      هي النَّفْسُ، إنْ ألْقَتْ هَوَاهَا تَضَاعَفَتْ قُوَاهَا وَ أعْطَتْ فِعْلَهَا كُلَّ ذَرَّة
    2. سورة المنافقون (٦٣) الآية ۸. 

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

14
  • صورة من عزّة المرحوم العلاّمة عند رفضه التوسّط لدى بعض المسؤولين لطباعة كتبه

  • أنقل لكم شمّة من عزّة المرحوم العلاّمة، عندما كتب المرحوم العلاّمة أجزاء معرفة الإمام واجه مشكلة في أحد الأجزاء، ويبدو أنّه كان الجزء التاسع، واجه إشكالاً في نشره، لا أدري في أيّ زمان كان، جاء ذلك المسؤول إلى المرحوم العلاّمة وقال له: سيّدنا نحن نعلم أنّك عندما ألّفت هذه الكتب لم تأخذ في مقابلها مالاً. 

  • وأنا أقول لكم الآن هذه المسألة: كلّ الكتب التي كتبها المرحوم العلاّمة لم يتقاض عليها مالاً في حياته حتّى بمقدار ريال واحد، حتّى ريال واحد. جعلوا له مقدارًا من الكتب في مقابل تأليفه لها، فكان يرسلها إلى المكتبات العامّة، وإلى خارج إيران، إلى العلماء، وإلى أصدقائه وأرحامه، هذا هو المال الوحيد الذي كان، وكان عبارة عن ثلاثمائة مجلّد من الكتب وقد وزّعها بهذه الطريقة للناس والمكتبات في المدن، والآن الأصدقاء الذين وزّعوا الكتب حاضرون في هذا المجلس. لقد أهداها إلى المكتبات وأرسلها إلى الأرحام، أرسلها إلى خارج إيران. لم يرجع إليه منها حتّى ريال واحد. 

  • لقد كان ذلك الرجل يقول للسيّد: سيّدنا! نحن نعلم... على الأقل لأجل تسريع هذا الأمر، الأمر الإلهيّ هل تسمحون لنا أن نتحدّث مع فلان مع صاحب ذلك المقام مع فلان؟ فكان يقول: يا سيّد فلان! إنّ عزّة النفس وعزّة الطريق لا تسمح لنا أنّ نمدّ يد الاستجداء إلى هذا وذاك، ألا ترى كم المسألة رفيعة؟ حتّى لأجل الأمر الإلهيّ. هو لم يحصل على شيء، لم يرجع إليه شيء. يعني طريقنا عزيز إلى حدّ، طريقنا منيع إلى حدّ يجعلنا لا نمدّ يد الاستجداء والطلب إلى هذا وذاك حتّى لأجل طريقنا الإلهيّ، إن أجازوا طبع وإن لم يجيزوا فلا تدعوه ينتشر، لا تنشروه، هذا الدين له ربّ، نحن وظيفتنا أن نكتب، فإن أرادوا فلينشروا، وإن أرادوا فلا ينشروا، نحن وظيفتنا أن نؤدّي تكليفنا. هل رأيتم العزّة إلى أيّ حدّ؟ حتّى لأجل الأمر الإلهيّ لم يكن حاضرًا، فكيف بالأمر الدنيويّ. تعالوا وانظروا ما الأمر. أنتم تظنّون أنّه هكذا عبثًا يصبح الإنسان عارفًا؟ هكذا عبثًا يصبح الإنسان من أولياء الله؟ هكذا يصل الإنسان إلى مقام الولاية؟ 

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

15
  • في أواخر عمره، كنت جالسًا مع عدد من الأصدقاء في الغرفة الخارجيّة نتحدّث حول كتبه، لقد عرفت طريق العلاّمة، لقد كان مبنى العلامة لديّ، ولكن لكي يدركوا هم أيضًا، كان بعضهم يتحدّث حول أنّه يمكن أن يُعترض على بعض المسائل، ويمكن أن يضيّق عليه في نشر الكتاب، فعلى كلّ حال في النهاية السلائق مختلفة في هذا الأمر. فبعضهم لا يدركون الأمر كما هو حقّه، وربّما قالوا: يمكننا أن نقوم بعمل ما، مثلاً رسالة من المسؤول الفلاني نصنع بها كلّ شيء، فننشر الكتب ونؤلّف من دون أيّة مشكلة. أنا كنت أقول: لا، هذه الطريقة... ولكنّهم أصرّوا: اذهب أنت الآن وقم بذلك. قلت: لا بأس، أنا أخبر السيّد بذلك. دخلت من الغرفة الخارجيّة إلى الداخل، وكان الوقت ظهرًا يريد الاستراحة فيه، وكان قد استلقى على الفراش، نعم لم يكن قد نام بعد، كان هكذا في حالة... فقلت له: سيّدنا قبل أن تناموا أريد أن أقول لكم أمرًا. فقال: قل. قلت: فيما يرتبط بهذه الكتب يمكن أن تكون هناك بعض الإشكالات والتضييقات وأمثال ذلك. وهناك من يقول إنّنا... فما إن قلت هذا حتّى قال: كلاّ ـ أصلاً لم يسمح لي بإكمال كلامي ـ يقولون أنّنا نذهب... كلاّ، ثمّ أخذ اللحاف وألقاه على نفسه. قلت: لم يسمح لي أن أقول الخبر، لقد قلت المبتدأ. هل التفتّم ما حقيقة الأمر؟ هناك مناعة في هذا الطريق إلى حدّ، هناك عزّة في هذا الطريق إلى حدّ، إن طبع الكتاب فليطبع وإن لم يطبع فلا بأس، تغيير شكل الكتاب وجلده وإخراجه بشكل آخر و... كلّ ذلك لم يكن في عمل السيّد. إنّ روحه منزعجة من كلّ ما يتحقّق خلاف مسيره وخلاف مبناه وخلاف فكره وعقيدته ـ وأقوله بصراحة لا بالإشارة ـ كلّ ما خالف ذلك المنهج المنيع وعلوّ الرتبة ذاك وتلك العزّة فإنّ روحه متأذّية منه وبريئة، وهو ليس داخلاً في منهجه ومدرسته، وهو إظهار لسليقة الآخرين. هل التفتّم؟ هكذا هي المسألة. 

  • (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا) كما هي عادتنا عندما ندخل في كلام ينتهي المجلس في مقدّمته. لا بأس، ففي النهاية المسائل المتّخذة من كلام الأعاظم والمستفادة من الروايات، هي صحيحة باستثناء ما نتصرّف فيه نحن، فهذا الحمد لله الرفقاء والأصدقاء من أهل الكمال والتشخيص يميّزون صحّته وسقمه. 

الإنفاق المعتدل وعزّة المؤمن

16
  • نسأل الله أن يبصّرنا بمراتبنا وحقائقنا ومواقعنا. فهذا أمر مهمّ جدًّا جدًّا. 

  • رفع الله المتعال موانع الطريق من أمامنا، وهيّأ لنا ما يؤدّي إلى التسريع وفتح الباب في الطريق، وأدام ظلال مقام الولاية الإلهيّة العظمى والكبرى لحضرة بقيّة الله أرواحنا لتراب مقدمه الفداء أكثر فأكثر بولايته الخاصّة وبإشرافه الخاص. ولا حرمنا من زيارته في الدنيا وشفاعته في الآخرة. 

  • اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد