المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةمباني الأخلاق
التاريخ 1396/02/10
التوضيح
أهم محتويات المحاضرة:
- معيار قيمة الإنسان على أساس التقوى؛
- معيار قيمة عمل الإنسان على أساس نيته؛
- نقد الشبهة حول قيمة الاختراعات المهمّة من أجل خدمة البشريّة وأعمال الخير الصادرة عن غير المسلمين؛
- دراسة مضّار بعض الاختراعات والاكتشافات العظيمة ضدّ البشريّة بسبب سوء استخدامها؛
- تحليل نيّة المخترعين والمكتشفين من غير المسلمين وأهدافهم؛
- أجر العلماء مطابق مع مرادهم وهدفهم من الاختراعات والاكتشافات؛
- أجر الأعمال وثوابها يكون على أساس نية الأفراد وهدفهم؛
- الحياة الجاهليّة تحصل بواسطة الحركة في طريق الأهواء النفسيّة، أمّا الحياة الطيبة الحركة نحو الحقّ (ت)؛
- علّة الخلود في جهنم أو الجنّة؛
- معيار كون نيّة العلماء والباحثين نيّةً إلهيّةً؛
و...
هو العليم
معيار قيمة العمل (۱)
مباني الأخلاق – المجلس السادس عشر
محاضرات ألقاها
سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
طهران، الأربعين من عام ۱٣٩٦ هـ . ق
أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم
بسم الله الرّحمٰن الرّحيم
بارئِ الخلائقِ أجمعين، باعثِ الأنبياءِ والمرسَلين
والصّلاةُ والسّلامُ على سَيّدِنا، أصلِ الجودِ وعَينِ الشّاهدِ والمشهود
أبِي القاسم محمّدٍ المصطفى، وعلى آلهِ أُمَناءِ المعبود
واللّعنةُ الدّائمةُ الأبديّةُ الأزليّةُ على أعدائِهم ومخالفيهِم
مِن الآنَ إلى يومِ الدّين
أهمّية النية في العمل
قالَ اللهُ الحكيمُ فی كتابِهِ الكريم:
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن ذَكَرٖ وَأُنثَىٰ وَجَعَلۡنَٰكُمۡ شُعُوبٗا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْۚ إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَىٰكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٞ﴾.۱
في هذه الآية المباركة، جعل الله العليُّ الأعلى معيارَ قيمة الإنسان قائمًا على أساس التقوى، حيث قال:
«إنّ علّة اختلاف شمائلكم وصوركم وأشكالكم في الدنيا، هي أن يعرف بعضكم بعضًا وأن تتمايزوا عن بعضكم؛ (وإلّا فإنَّ اختلاف الصور والأشكال والهيئات والألسنة والأصوات والشمائل ليس معيارًا للسعادة والنجاح ولا ملاكًا للكمال!) إنَّ أكرمكم وأكثركم قدرًا عند الله من كان تقواه أكبر وأكثر، ودخل في العصمة الإلهيّة!»
جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال:
«إنّما الأعمالُ بالنيات»؛ «فالشيء الوحيد ـ ولا شيء سواه ـ الذي يُعطي القيمة والدرجة للأعمال التي يُؤدّيها الإنسان هي نيته، بحيث ينبغي أن تُقاس مرتبة العمل ودرجته وفقًا لهذه النية»!
لقد ذُكرت هذه الرواية في كلٍّ من مصباح الشريعة ومُنية المُريد وعَوالِي اللّئالي، كما ذكرها المرحوم المجلسيّ في القسم الثاني من الجزء الخامس عشر من بحار الأنوار والذي يتحدّث عن الأخلاقيات.٢ هذا، مع أنّ مجال البحث ودائرة التأمّل والتفكير في هذه الرواية واسعان جدًّا.
وأصل هذه الرواية موجودٌ في كتب أهل السنّة، لا سيّما صحيح البخاريّ٣ وصحيح مسلم٤ وسنن التِرمِذي٥ ومسند أحمد حنبل٦، حيث تُعدّ هذه الكتب من مجاميع كتب أهل السنّة، وهي تنقل هذه الرواية بأسانيدها المتّصلة عن علقمَة بن وقّاص عن النبيّ بواسطةٍ واحدة. ويذكر كلّ من المرحوم الشهيد الثانيّ في منية المريد وابن أبي الجمهور الإحسائيّ في عوالي اللآلي، كما يذكر المرحوم المجلسيّ في بحار الأنوار عن هذين العلمين أنّ النبيّ قال:
إنّما الأعمالُ بالنيات، وإنّما لِكلِّ امْرِئٍ ما نَوى! فَمَن كانَت هِجرَتُهُ إلَى اللهِ ورَسولِه، فهِجرتُه إلَى اللَهِ ورَسولِه؛ ومَن كانَت هِجرتُه إلى دُنيا يُصيبُها أو امْرَأةٍ يَتزوَّجُها، فَهِجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه!۷و۸
و قال المرحوم الشهيد الثاني ـ رضوان الله عليه ـ في منية المريد بعد ذكر هذه الرواية:
هذا الخبر من أصول الاسلام، وأحد قواعده وأوّل دعائمه.
يعني أنّه من الدعائم والركائز التي يقوم ويتكّأ عليها الإسلام! لأنَّ حقيقة الإسلام تقيس أعمال الإنسان بناءً على نيته ومستوى رغباته النفسيّة، وتُعيّن سعادة الأفراد وشقائهم طبقًا لمقدار نواياهم، كما أنّ الدرجات التي تُعطى على أعمال الإنسان من جهادٍ وحجٍّ وصلاةٍ وصومٍ وصدقةٍ وأمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر وبقيّة التعاليم والأوامر، إنّما تُفسر وتُحلّل بناءً على نيته، فتُصبح ذات درجةٍ وقيمةٍ وفقًا لهذا المحكّ! ثمَّ يقول الشهيد الثاني:
قيل: وهو (النية) ثلث العلم. ووجّهه بعضُ الفضلاء بأنّ كَسبَ العبدِ (يُقسّم إلى ثلاثة أقسام:) يكون بقلبه ولسانه وبنانه، فالنية (باعتبارها من الأعمال القلبيّة) أحد أقسام كسبه الثلاثة، (وبالتالي، فإنّها تشمل ثلث أعمال الإنسان)، وهي أرجحها، لأنّها تكون عبادة بانفرادها بخلاف القسمين الآخرين (كما أنّ قيمة الثلثين من الآخرين من الأعمال ـ أي الأعمال الجوارحيّة والبدنيّة والأعمال اللسانيّة ـ متوقّفة على النية أيضًا).
ثمّ يقول بعد ذلك:
وكان السلف وجماعة من تابعيهم يستحبّون استفتاح المصنّفات بهذا الحديث (المنقول عن الرسول الأكرم وشرحه وتفسيره) تنبيهًا للمطّلع (منذ المرحلة الدراسيّة الأولى) على حسن النية وتصحيحها (ليكون درسهم ودراستهم لله تعالى)!۱
قيمة الاختراعات والاكتشافات المهمّة الصادرة عن غير المسلمين
وربّما سمعتم كثيرًا أنَّ البعض يقول:
بأيّ دليل يُدخل اللهُ العليّ الأعلى المسلمَ الفلانيَّ إلى الجنّة، رغم أنَّه لم يقُم بأيّ عملٍ مهمٍّ، ويفتقر للمكانة الاجتماعيّة ولا يحظى بأيّ مستوى أو درجة في عالم الاعتبار والدنيا، ولم يُقدّم أي عمل؟! ولماذا يُدخل العديدَ من الكفّار والمشركين إلى جهنّم، رغم أنّهم كانوا في الدنيا منشأً للبركات، وقدّموا مجموعة من الخدمات، وأدّوا مهامّ جليلة، وتحمّلوا العديد من المشاق؟! ولنفرض أنّهم لم يكونوا على دين الإسلام ولم يقبلوا بالنبيّ كحامل للرسالة، لكن، كيف يكون ذلك علّةَ شقائهم وسوء حظّهم، فينالون العذاب والعقاب الإلهيّين في الآخرة؟!
وكمثال على ذلك، «باستور» الذي اكتشف الميكروب، وعالج ـ بواسطة اكتشافه هذا ـ الكثير من الأمراض، وتمكّن النّاسُ على إثر ذلك أن يصونوا أنفسهم من الوباء والطاعون ومرض الجدريّ، بل وتمكّنوا أيضًا ببركة انتشار ذلك العلم في الأزمنة اللاحقة من صيانة أنفسهم من الإصابة بالأمراض الأخرى؛ فلماذا يجب أن يذهب إلى جهنّم فقط لأنَّه رجل مسيحيّ؟! وكذلك الشأن مثلاً بالنسبة لـ: «غاليليو» الذي اكتشف حركة الأرض، و«نيوتن» الذي اكتشف قوّة الجاذبيّة، و«باسكال» الذي أثبت العمليّة الرياضيّة الكذائيّة المستعملة في حساب النجوم والأفلاك، و«أديسون» الذي اكتشف الكهرباء، و«أينشتاين» الذي اكتشف الذرّة، وأمثالهم؛ فلماذا ينبغي أن يدخلوا جهنّم في حين أنّهم جعلوا الدنيا أفضل وأكثر نضجًا وحياةً، وجعلوها أكثر ازدهارًا، وصيّروها بهذا النحو الذي ترونه؟!
هذا هو السؤال المطروح، وعلى هذا الأساس بعينه انتشر هذا التساؤل بين الأذهان، فظهر بالنحو الآتي:
لماذا يجب أن يذهب الأفراد الذين يجتمعون في الكنائس ويتعبّدون وفقًا لدينهم ومعتقداتهم إلى جهنّم؟ ولماذا ينبغي أن يدخل عبّادُ الأصنام الذين يعبدون هذه الأصنام ويعتقدون بها إلى النار؟! ولماذا لا تُقبل أعمالُ الأفراد الذين لا يقبلون بالولاية وهم على مذهب أهل السنّة مع أنّهم يحجّون ويجاهدون ويذهبون إلى عرفات والمَشعر؟! وحينئذ، هل ينبغي أن تكون ثلّةٌ من الشيعة الذين لم يكن لهم أيّ أثرٍ في الخارج ـ فلم يبنوا مسجدًا ولم يُقدّموا أيّة خدمةٍ لعالم البشريّة، ولم يُرسلوا صاروخًا إلى القمر ولم يفلقوا الذرّة، وأمثال ذلك ـ من أهل الجنّة؟!
لا بدّ من دراسة هذا السؤال وتحليله من عدّة جوانب:
أوّلاً يجب أن نرى ما إذا كانت أعمال هؤلاء العظماء من الأمم الخارجة عن الإسلام، قد آلت من حيث المجموع إلى نفع البشريّة، أم إلى ضررها؟ فهذه هي المسألة الأولى! فهل انتهى اختراع ذلك الشخص للكهرباء إلى ما يصبّ في مصلحة البشر أم ضررهم؟ وذلك الذي فلق الذرّة، هل كان عمله مُضرًّا للإنسانيّة أم نافعًا لها؟ مثلما يُحكى عن الذي فلق الذرّة أنّه أرسل ورقة إلى رئيس الجمهوريّة الذي كان في زمانه، كتب فيها: «لقد قُمت بهذا الاختراع، ولكنّني أخشى أن تُسيئ البشريّة استخدامه!»، حيث جرى اختراع القنبلة النوويّة حينما كان لا يزال حيًّا ولم يمت بعدُ!۱
وإذا حسبنا الأمر من حيث المجموع، فلا يُمكننا القول: إنَّ البشريّة تسير بشكلٍ عامٍّ في مسار الترقيّ؛ إذ قبل أن تُستعمل هذه الأشعّة في نفع البشر ومن أجل علاج الأمراض وأمثال ذلك، فقد أُعدّت كوسائل للقضاء على الإنسان وقتل الكثير من الناس بسبب انفجار قنبلةٍ واحدةٍ! وقبل الاستعانة باكتشاف الميكروب من أجل تجنّب الأمراض المُهلكة ومنع انتشارها بين الأفراد الضعفاء والعاجزين، فقد تمّ نشر هذا الميكروب بين مجموعة من الناس، ليُبتلى هؤلاء بالوباء والطاعون والجدري، ويُقتل الملايين منهم بسبب انتشار ذلك الميكروب بعينه! وبالتالي، فإنّ هذه وسائل إذا وُضعت بين أيدي أفراد صالحين، أمكن للإنسان أن يستخدمها بنحو جيّد؛ وإلاّ سيُساء استغلالها!
وفي عصرنا الحاضر، يُقال: «مع اكتشاف البنسلين والجراحة والخدمة التي يُقدّمها الأفيون للطبّ، صار بالإمكان الوقاية من العديد من الأمراض، بحيث إنّ الأطفال الذين ماتوا في الماضي بسبب الحصبة والجدريّ والحمّى القرمزيّة والالتهاب الرئويّ والتيفوئيد وأمراض أخرى لم يعودوا يموتون. ولذلك انخفض الموت بين البشر من جهة الأطفال!». نعم، هذا صحيح، غير أنّ قولهم: «يجب أن تجهض المرأة باستمرار وأن يكون لها أطفال أقلّ؛ لأنّ الأرض لا تتحمّل أكثر، والله تعالى غير قادر على منحهم الرزق، فكلّما كان هناك أطفال أقلّ، كانت الحياة أفضل! فعلى قسم من النساء أن لا يحملنَ، وعلى قسم منهنّ أن يُجهضن!» وهذه الأعمال التي يقومون بها.. كلّها ضررٌ وهلاك وتُؤدّي إلى الجنون والأمراض التي حيّرت الناس بأسرهم، حيث لم تكن موجودة سابقًا، فلماذا ظهرت الآن؟! إنّها بأجمعها ثمرة لهذا العلم!
تیغ دادن در کفِ زنگیّ مست | *** | بهْ که آید علم، نادان را بهدست.۱ |
[يقول: إنّ وضع الموسى (السكّين) في يد الزنجيّ٢ الثمل أفضل من تُعطي العلم إلى من لا يستحقّه]
إنّ العلم في عصرنا الحاضر بيد الجهلة الذين يُسيئون استغلاله!٣
ولو تجاوزنا هذا المعنى، فدعونا نرى ما هي نية الأفراد الذين تكبّدوا المشاقّ وقاموا بهذه الاختراعات والاكتشافات؟ وما هو هدفهم منها؟ فهل كان هدفهم حقيقةً هو خدمة الناس وإعانتهم؟ وهل كانوا يرومون الحفاظ على جماعة من الناس وتخليصهم من الموت قربةً إلى الله، وصيانتهم من البلايا الشديدة والأمراض العصبيّة؟! أم لا، بل كانوا يريدون خدمة بلدانهم في قبال البلدان الأخرى! فيقومون بهذه الاكتشافات كي تقوى بلدانهم، ويلقون بالقنابل على رؤوس الناس الضعفاء! فهم لم يقوموا بهذه الاختراعات من أجل نجاة البشر، بل قاموا بها من أجل الحفاظ على حياة الإنسانيّة ضمن محيط حياتهم وبلدهم ودينهم ومعتقدهم، ومن أجل أهدافهم وعائلاتهم! وبالتالي، فإنّ هذا النحو من التفكير لم يتعدّ تفكير الحيوانات، حيث نجد أنّ الذئب يجمع الذئاب الأخرى حوله، لتتّحد مع بعضها من أجل الهجوم على قطيع الخرفان! وحينئذ، لا يُمكننا القول عن هذه الخطوة: إنّها خطوة إنسانيّة وخطوة شريفة!
ولو تجاوزنا هذا المعنى، وفتحنا عقل ذلك المخترع، ونظرنا إلى ذاك الذي تحمّل المشاقّ، وأمضى الليالي في مختبره لمدّة مديدة، واصلاً ليلَه بيومه، ومستغرقًا في التفكير حتّى نسي ليلة عرسه، بحيث عندما حلّ الصباح قيل له: «بالأمس كانت ليلة زفافك!»، فأجاب بدوره: «يا للعجب!»، فلماذا قام بهذا الفعل؟ فهل فعله من أجل أن تصلح أخلاقه، وأن يتخلّص من البخل والحسد والانغماس في الشهوات والغضب، وأن يُصبح طاهرًا نقيًّا؟! أم من أجل أن يُقال عنه: «إنَّ هذا السيّد كان مخترعًا!» ومن أجل أن يصنعوا له تمثالاً يضعونه في المختبرات، وكي يخلّد اسمه في التاريخ، ويحصل على الشهادات والميداليات والأوسمة والحسابات التي يجعل لأجلها جميعُ البشر أفكارَهم وأفعالهم من باب الافتخار؟! فلا يتعدّى الأمر ذلك! وهل رأينا في التاريخ أحدًا من هؤلاء يقول: «لقد قمتُ بهذه الأفعال من أجل طهارة نفسي وصلاح المجتمع وزوال السرقة وانعدام شاربي الخمر وتجنّب الجرائم وإصلاح الأخلاق وطهارة الباطن»؟! إذ لا يفهم هؤلاء معنى طهارة الباطن ولا يدركونه بتاتًا!
حسنًا، فلماذا كانت إذن هذه المشاقّ التي تكبّدوها؟ من أجل غايةٍ وهدفٍ واحدٍ، والله سيُحقّق لهم ذلك الهدف والغرض، ويمنحهم الأجر عليه؛ لأنّ الله تعالى يُعطي كلّ عامل أجرًا على عمله! غير أنّ هذا الأجر سيكون على ماذا؟ ووفقًا لماذا؟ سيكون أجر الإنسان مطابقًا لرغبته! أيّها السادة المحترمون الذين شرّفوا بالحضور اليوم هنا، لكلّ منكم هدفٌ من حضوره، وهذا الهدف سيكون أجره، وسينال هذا الأجر! لقد حضر البعض من أجل صلة الرحم فقط، وسيكون هذا أجره؛ وحضر البعض بهدف الحضور في مجلس سيّد الشهداء عليه السّلام، وذلك سيكون أجره؛ والبعض لديهم حاجاتٌ وحضروا لكي تحصل لديهم حالة توسّل، ولعلّ ذلك يُؤدّي إلى قضاء حوائجهم ببركة يوم الأربعين، وذلك سيكون أجرهم؛ وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة للغايات الأخرى!
حينما يخرج الإنسان من منزله صباحًا لشراء مائة غرام من مكعّبات السكّر أو مثقالين من الشاي، ويتوجّه إلى محلّ البقالة، ويقول: «يا سيّدي، أريد مائة غرام من مكعّبات السكر» أو «أعطني مثقالين من الشاي!»، فإنّ البقّال سيُعطيه ما طلب، ويقبض أمواله. ثمَّ إذا أطال الإنسان الوقوف، فسوف يسأله: «لماذا أنت واقفٌ؟ ألم يكن هذا مرادك؟ لقد أعطيتك ما طلبت، فماذا تريد بعد ذلك؟»؛ وحينئذ، على الإنسان أن يقفل عائدًا؛ لأنّ ذلك كان هدفه، وقد وصل إليه!
فإذا كان هدف الإنسان من الاختراع هو أن يُشيّد له تمثال، فقد جرى تشييده له؛ أو كانت رغبته أن يُذكر قبل اسمه: «الدكتور! البروفيسور! المهندس! صاحب الوسام الفلاني!»، فقد ذُكر كلّ ذلك عنه، ولم يكن لديه هدف آخر وراء ذلك! أو كانت لديه ـ لا قدّر الله تعالى ـ أهداف سيّئة كزوال البشر، فقد وصل إلى تلك الغاية، وظهرت نتيجة هذه الاختراعات! وحينئذ، يأتي هذا الشخص إلى محضر الله تعالى، ويقول: إلهي، أنا أريد الجنّة، وأريد أن أحيا في أعلى عليّين!
ـ حسنًا لأيّ سبب؟ ولأيّ هدف؟ فأنت لم تكن راغبًا بها ولم تكن طالبًا لها!
ـ إلهي! ألست عادلاً؟
ـ بلى، أنا عادل!
ـ إذن لماذا جلبتني إلى هنا؟
ـ أنت أردتَ المجيء إلى هنا! ألم تشأ القدوم إلى هنا؟ وأنا أحضرتك إلى حيث شئتَ أنت!
ـ لقد كدحتُ في الدنيا!
ـ لماذا كدحتَ وبذلت الجهود؟ لقد منحتُكَ ما كدحتَ من أجله، فماذا تريد مني بعد ذلك؟!
ثواب العمل يقوم على أساس نية الإنسان وهدفه
لقد درستَ، وصرتَ عالمًا كي يُقال عنك: «إنّه رجلٌ قارئ!»، ويُقال: «إنَّ هذا السيّد يتكلّم بشكلٍ ممتاز، وهو قارئٌ جيّدٌ، وخطيبٌ ومتكلّم وواعظٌ بليغٌ!»، وقَد قيل ذلك؛ فماذا تريد منّا اليوم؟ ألم تعمل من أجل هذا الهدف؟! وقد وصلت إلى هدفك هذا!
لقد جُدتَ وأعطيتَ حتّى قيلَ لك: «إنّكَ رَجلٌ جَواد!»، وكي يُقال: «إنَّ هذا السيّد كريم، ويصرف الكثير من الأموال، ويُقيم الموائد، وينفق، ويعتني بالفقراء!»، فقد قيلَ ذلك!۱ حسنًا لقد قالوا ذلك عنك، فماذا تريد اليوم؟!
إنّ جميع الأعمال خاضعة للحساب:
إنّما الأعمالُ بِالنّيات، وإنّما لِكلِّ امْرئٍ ما نَوى! فَمَن كانَت هِجرتُهُ إلَى اللَه ورسولِه، فهِجرتُه إلَى اللَه ورَسولِه؛ ومَن كانَت هِجرتُه إلى دُنيا يُصيبُها أو امْرَأةٍ يَتزوَّجُها، كانَت هِجرتُه إلى ما هاجَرَ إلَيه!
وعجيبٌ ما قاله المرحوم الشهيد: «هذا الخبر من أصول الإسلام وأحد قواعده!»، كما كان العلماء العظماء يطرحون هذه الرواية في حصّتهم الدراسيّة الأولى دائمًا!
لقد خرج ذلك الرجل برفقة النبيّ وأتى إلى المدينة؛ ولكن لماذا جاء؟ فقد كان في الغار مع النبيّ، وكان رفيقه في هذا الغار؛ ولكن، ما كان هدفه من مرافقة النبيّ إلى المدينة؟ فهل يكون الحساب بناءً على العمل الخارجيّ الذي قام به النبيّ؟ حسنًا، لقد قام به هو أيضًا! أم إنَّ الله لا ينظر إلى هذا العالم الظاهريّ، بل ينظر إلى الأهداف وإلى قلوب الناس، وليس إلى ظاهر أعمالهم وهيكله!
قد يُبنى مسجدٌ كبيرٌ جدًّا، ونرى في زماننا أنّ المسجد يحتوي على العديد من الأشكال والصور والبلاط والتذهيب ـ حيث نُشاهد في هذا الزمان أنّهم يُزيّنون المساجد بالذهب، رغم حرمة هذا العمل.۱ وذات يوم، ذكرتُ للسيّد «أخوي»، أنّه يوجد أساسًا إشكالٌ في الصلاة في المساجد التي فيها تذهيبٌ٢ ـ، وقد يكون عدد الناس الذين يرتادون هذا المسجد كبيرًا جدًّا، ويكون الأمر ملفتًا للأنظار من الناحية الظاهريّة، وظاهر العمل كبيرًا وبارزًا؛ إلّا أنَّ الحساب يكون من ناحية المعنى [لا الظاهر]! فهناك كرام كاتبون، وملائكة موكّلون يقولون: ما هو الهدف من هذا العمل؟ ولأيّة غايةٍ تمّ ذاك؟ وبأيّة نيّة تحقّق هذا العمل؟ وبأي نيّة كان ذاك؟
فعندما يجلبون الإنسان من هنا، سيقول: «سيّدي، لقد وضعتُ مليون حجارة فوق بعضها إلى أن تمّ بناء هذا المسجد!».
فيقولون له: «موافقون؛ ولكن لماذا بنيته؟ كي يكتبوا فوق بابه: لقد بُني هذا المسجد بسعيٍ وعناية من سماحة الحاجّ فلان؟! فقد قيل ذلك؛ حسنًا، لقد قالوا ذلك! فماذا تريد منّا هنا؟! فهنا مكان الطيران؛ فهل طرت حتّى الآن كي تصل إلى هنا، أم لا؟!».
لقد جرى تحذيرك في الدنيا، وقيل لك: «عليك بالطيران إلى هنا، وعدم التخبّط في تلك المظاهر، فتُصيبَك بالقذارة وتُتعبَك! فطائرتك ثقيلة وتحتاج إلى الوقود، فاملأها بهذا الوقود، ودعها تُحلّق!». لكنّك لم تسعَ خلف الوقود، وكنت تملأها بالقاذورات دائمًا؛ فتوقّفت هذه الطائرة عن العمل، ولم تتمكّن من الارتفاع! فدفنوك في نفس الأفكار والأوهام والخيالات التي كنتَ فيها، وهناك سيكون قبرك! فلم يكن مقام الطاهرين والصالحين هو مكانك ومقصدك! فأنت لم تشأ القدوم إلى هنا، بل ولا يُمكنك ذلك، وليس لديك الهمّة كي تأتي! فلماذا تطلب من الله تعالى وتقول: «يا الله، لماذا لا تأخذني إلى الجنّة؟!»، فأنت الذي لم تشأ القدوم إليها! ولو كان باب الجنّة مفتوحًا أيضًا، لما استطاع أحدٌ [من هؤلاء] الدخول إليها! أليست أبواب الجنان مفتوحةٌ الآن؟! أليست كلّ هذه الدعوات هي للدخول إلى الجنّة؟! فلماذا لا يتحرّكون، ويذهبون إلى الجنّة؟!
وبناءً عليه، فإنّ العمل يدور مدار النية. ويُمكن للإنسان هنا أن يُوسّع البحث كثيرًا، حيث توجد لدينا في الأخبار شواهد كثيرة، إلى ما شاء الله!٣
علّة الخلود في الجنّة أو النار
سُئل الإمام: لماذا يُخلَدّ الناسُ الذين عصوا في الدنيا لأربعين أو خمسين أو ستّين سنة في النار؟ فهل هذا من عدل الله تعالى؟! فإذا ارتكب العبدُ في الدنيا القتلَ وكلّ جريمة يُمكنها أن تخطر ببالك لمدّة أربعين عامًا، فسيكون في نهاية المطاف مسؤولاً؛ فقد عمّر مائة أو مائتي عامٍ، وارتكب الجرائم؛ ثمّ يُخلدّه الله تعالى في النار، فهل هذا هو العدل الإلهيّ؟! وإذا أتى أحدٌ إلى هذه الدنيا، وكان يُؤدّي طيلة مائة عام كافّة الطاعات؛ حسنًا، فليضعه الله في الجنّة بمقدار مائة عامٍ أيضًا! بل ولنقل: إنّ رحمة الله تغلب، وليدخله الجنّة لمائتي أو ثلاثمئة عام! ﴿مَن جَآءَ بِٱلۡحَسَنَةِ فَلَهُۥ عَشۡرُ أَمۡثَالِهَاۖ وَمَن جَآءَ بِٱلسَّيِّئَةِ فَلَا يُجۡزَىٰٓ إِلَّا مِثۡلَهَا وَهُمۡ لَا يُظۡلَمُونَ﴾؛۱ فيجزيه الله تعالى بعشرة أضعاف، يعني: يُدخله إلى الجنّة ألف عامٍ! ولكن لماذا يُخلّد في الجنّة؟! وهنا، قد نقول من باب الرحمة: إنَّ عفو الله تعالى وكرمه يقتضيان التخليد في الجنّة، غير أنّه سيكون من الظلم أن نقول عن أهل جهنّم: من عصى عدّة سنوات فهو مخلّدٌ في العذاب!
فأجاب الإمام وقال: إنَّ هذا العمل الذي قام به في الدنيا وهذه المعاصي التي اقترفها كانت لمدّة ستّين عامًا، ولفترة محدودة، لكنّنا نجده يقول أثناء موته: «إلهي لا تُمتني! وأبقني في الدنيا وأطل في عمري!» فهذا هو مطلبنا جميعًا! فما إن نمرض حتّى نقول: «اللهمّ شافنا!». فالجميع يُريد أن يُطيل الله في عمره! ومهما كان العمل الذي كان يقوم به الإنسان، فإنَّه يقول: «فليمنحني الله عمرًا أطول لأقوم بهذا العمل». فالحطّاب [يُريد ذلك] ليقطع الأخشاب، والنجار لينشرها، والحدّاد ليقوم بعمليات اللحام والحدادة، والطبيب يريد طول العمر ليتمكّن من معالجة مرضى أكثر، والعالم يُريد أن يُعمّر ليُدوّن بعض الكتب الأخرى، والإنسان العاصي يطلب من الله طول العمر ليعصي، والإنسان الزاني ـ الذي أصبح هذا الفعل القبيح ملكة له ـ يُريد أن يعيش ليقوم بهذا الفعل مجدّدًا. وحينما يكون في حالة احتضار، فإنّه يرحل عن هذه الدنيا بحسرةٍ وندم، ويقول: «ها أنا أموت، ولكن لماذا لم أقترف جرائم أكثر عندما كان بإمكاني اقترافها؟!». فصحيح أنَّ عملهم الظاهريّ استغرق خمسين أو ستّين عامًا؛ ولكن، ما هو مقدار نواياهم وأهدافهم وأفكارهم؟ إنّ تفكيرهم هو: لو خلدنا في هذه الدنيا، لارتكبنا نفس هذه الأعمال القبيحة!
ذلك العالم هو عالم الباطن، والحديث مع باطن الإنسان وسرّه، لا مع ظاهره. فهناك، يتحدّث الله تعالى مع فكر الإنسان، وليس مع لسانه الظاهريّ حتّى يعمد إلى الكذب! بل إنّ باطن الإنسان يُفصح [هناك] عن نيته! فتكون نيته جهنميّة، أو شقيّة، أو مُجرمة! فليس بدن الإنسان هو الذي يكون مُجرمًا، بينما تكون نيته قد بقيت في مقام الطهارة! وإلاّ، لو كان الأمر على هذا النحو، لكان الأمر جيّدًا جدًّا، فيلمع برق أو تأتي نار، وتُطهّر ظاهر الإنسان، فيدخل إلى الجنّة؛ وذلك لأنَّ باطنه غير ملوّث، بل ظاهره هو الملوّث، فيطهر بسبب الحمّى ونزلات البرد والزلازل وسكرات الموت وعذاب القبر! أمّا الذي يكون باطنه سيّئًا، فيجب أن يذهب إلى جهنّم، ويحترق فيها بما يتناسب مع سعة نيته الباطلة! كما أنّه بوسع الإنسان الذي يدخل الجنّة التنعمّ بنعيمها بمقدار سعة رؤيته الباطنيّة؛ ﴿وَفِيهَا مَا تَشۡتَهِيهِ ٱلۡأَنفُسُ وَتَلَذُّ ٱلۡأَعۡيُنُۖ وَأَنتُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾!۱ فشهوات النفوس مختلفة، وكلّ فردٌ له شهوة خاصّة به، ويعيش في درجة محدّدة من الجنّة، ويتنعّم بنعمٍ خاصّةٍ من نعمها!٢
وعندما يُدفن الإنسان في القبر، يُفتح قبره إلى مَدّ بَصَرِه؛٣يعني: بقدر ما تستطيع عين ذلك الميّت أن تبصر! فكم تبلغ تلك السعة وذلك الامتداد؟ فنجد بعض الذين دفنوا عيونُهم مظلمةٌ بحيث لا يستطيعون الرؤية بمقدار شبرٍ أمامهم! إنّ حجم القبر [المادّي] معروفٌ ومُحدّدٌ، إلّا أنَّ قبرهم [الباطنيّ] يكون أقلّ من ذلك المقدار؛ ولذلك، فإنَّ جدران هذا القبر ستضغط عظامهم مع بعضها! غير أنّ البعض يكون امتداد بصرهم بعيدًا، فيبلغ مليونًا أو مليونين أو ثلاث ملايين أو أربعة ملايين! كأن يصل مثلاً بصر أعينهم إلى عالم العقل، ويعبر أسماء الله وصفاته، ويتّجه نحو العرش؛ إلى أن يصل إلى هناك! وحينما يموت، تُفتح عيناه، ويتّسع قبره بمقدار رؤيته. ومن هنا، فإنّ كلّ من ينزل إلى قبره، يُفتح له هذا القبر بمقدار سعته، وبما يتناسب مع نظره، وبمقدار امتداد هذا النظر، والذي لا يكون نظرًا ظاهريًّا، بل نظرًا مختلفًا.
حسنًا، حينما جاء هؤلاء المكتشفون، وتكبّدوا هذه المشاقّ، فإنّ الله سيجزيهم أجورهم؛ لأنّه تعالى لا يرتكب الظلم ولو بمثقال ذرّة، سواءً في حقّ المسلمين أو المجوس أو اليهود أو الذين يدينون بمذهب كونفوشيوس وبوذا؛ فهو لا يظلم أحدًا، بل يُعطي كلّ إنسانٍ ما يُريده. فلليهودي غايةٌ يسعى إليها، وللنصراني غايةٌ، وللمشرك غايةٌ، وللمسلم غايةٌ، وللمرأة غايةٌ، وللرجل غايةٌ، وهذا العالم بأسره يأكل من رزق الله!
﴿إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ﴾؛۱ أي أنّ الله يُحاسب الجميع بنحوٍ سريع ودقيق جدًّا جدًّا، ويُحاسب كلّ واحدٍ طبقًا لفكره وقِيَمه، ويضع كلّ إنسان في مقامه الخاصّ! وأمّا ذلك الذي يسعى نحو مقام الطهارة، فليس للاختراع أيّة فائدة بالنسبة له، إلّا إذا كان من أجل سعادة البشر ولوجه الله تعالى، بحيث إن قيل له: «يا سيّدي إنَّ هذا الفعل الذي تقوم به ذو أضرار وآثار سلبيّة!» سيقول: «لن أفعله!»،
كان للعلّامة الحاجّ السيّد محمّد حسين الطباطبائي ـ أدام الله ظلَّه ـ٢ أخٌ اسمه السيّد حسن، وهو يصغره بسنةٍ أو سنتين، وكان رجلاً عجيبًا أيضًا! وقد قال السيّد محمّد حسين الطباطبائي:
لقد دوّن أخي كتابًا في فنّ الموسيقى، وكان موضوعه ما يلي: ما هي آثار النغمات المختلفة على النفس؟ فمثلاً: ما هي الحال التي تنشأ لدى الطفل الذي تُنشد له الأناشيد لكي يغلبه النوم؟ وأيّة حال تحصل لنفس الجمل حينما يحدون له الحداء، بحيث يقطع الطريق ليلاً نهارًا ولأيّامٍ عديدة ويوصل الحمولة إلى المحلّ المقصود إلى أن يموت من الجوع ويقع أرضًا؟ وما هي آثار النغمات والأصوات المختلفة على الإنسان من ناحية العلم الذي كان يهتمّ به [السيّد حسن] وهو فنّ العرفان، ومن ناحية التوجّه إلى الله تعالى؟ لقد دوّن مثل هذا الكتاب، وكان كتابًا نفيسًا أيضًا! ثمَّ التفت إلى أنَّه لو بقي هذا الكتاب، فسوف يُسيء النّاسُ استغلاله، ولن يحسنوا استعماله؛ ولذلك أحرقه وأتلفه وأعدمه لكيلا يبقى بعده هكذا كتاب! فلو وصل هذا الكتاب إلى أيدي بعض الأفراد من أمثاله، لاستفادوا منه فوائد حسنة جدًّا! ولكن، بما أنَّ هذا العلم سيصل إلى أيدي الجاهل الذي سيُسيئ استغلاله، فقد أعرض عنه، كي لا يبقى هذا الكتاب أثرًا بعده!
قيمة العمل بين عالم الاعتبار وعالم الحقيقة
ومن هنا، فإنّ كلّ عملٍ يقوم به الإنسان له ظاهرٌ وهيئةٌ خارجيّةٌ، وله باطنٌ وروحٌ. ومعيار قيمة العمل من ناحية عالم الاعتبار هو نفس المظهر الخارجيّ، بحيث كلّما كان ظاهر العمل أكبر وكان جذبه للأنظار أكثر، قيل: «هذا العمل أفضل!». وكلّما كان عدد الذين يُؤدّونه أزيد، قيل: «هذا العمل أفضل!». فإذا أمضى الإنسان الليالي بالعبادة إلى الصباح ـ مثل الربيع بن خُثَيم الذي كان يبقى يقظًا إلى الصباح لعدّة ليال ـ ٣ قيل: «هذا عمل بالغ الأهمّية!». وأمّا إذا كان ظاهر العمل ضئيلاً، فلن يكون له أيّ قدر أو قيمة! وبالتالي، لن تكون هناك قيمة لقصر أمير المؤمنين، لأنّه لم يكن له بلاط، وكان عليه السلام يرتدي طمرين باليين٤!٥ كما لم تكن لمالك الأشتر أيّة قيمة، بحيث كانوا يلقون ببقايا الخضار على وجهه؛٦ إذ لم يكن صاحب مظهرٍ خارجيٍّ [جذّاب]! وأمّا نظام معاوية فكان له بلاطٌ، وكانت له مائدة فيها أصناف متنوّعة من الأطعمة، وكان يمنح الأموال، وكان ملفتًا للأنظار ورجلاً مهمًّا جدًا، بحيث يصعب على المرء أن يصرف النظر عن هذا المشهد! فكان يخطف الألباب تمامًا! وحينما كانوا يأتون إلى مجلسه، كانت تُمدّ عند الظهر مائدةٌ تحتوي على أصناف الطعام التي أُعدّت من زيت أدمغة بعض الأنواع المعيّنة من الطيور والمخلوط بالعسل والزعفران الخاصّين!۷ فكلّ من كان متواجدًا هناك، كان يجلس على هذه المائدة، ويتزوّد منها! وأمّا في نظام أمير المؤمنين، فلا تُوجد مثل هذه المائدة، بل كان هناك كيس من الخبز اليابس الذي كان عليه السلام يكسر ختمه، ويفتحه، ويأكل منه!۸ والجهلة من الناس لا يهتمّون بهذا، بل يهتمّون بذاك!
غير أنّ هذه المسألة تحتوي على باطن لا يُدركه الجميع، بل إنّ ذوي الألباب هم الذين يفهمون حقيقة الأمر وحسب! وهذه المسألة بالغة الأهميّة، بحيث يتعيّن على الإنسان إدراك من أين تمّ إعداد هذه المائدة الممتدّة؟ ولمن ينبغي إعدادها؟ ولأيّة امرأة عجوز؟ ولأيّ يتيم؟ فهي متعلّقة ببيت مال المسلمين، ويجب أن تُصرف على المسلمين، غير أنّها تبدّلت إلى هذه الهيئة! إنّ هذه المائدة قائمةٌ على أساس الباطل والظلم، ومدّها مخالفٌ للعدل! وإنّما أعدّت هذه المأدبة من أجل اصطياد أرواح الناس، لاقتناصهم وسوقهم إلى جهنّم! فهذا هو التدقيق الذي يجب إعمالُه في المعنى، ليتبيّن باطن هذه المائدة! ولكن لا وجود لمثل هذه النظرة؛ فالناس يأتون، ويجلسون على المائدة، ويغادرون، بل ويلهجون بالصلوات على روح معاوية، وينتهي الأمر، ويرحلون! أمّا الأشخاص الذين لديهم بصر يقظ، فإنّهم يُدقّقون بجميع هذه الأمور، فلا يأكلون منها، ولا يقتربون منها خطوة واحدة، بل يقولون: «هنا شركٌ، هنا عبادة أصنام، هنا خدعة! إنّها ليست حلوى بل سمٌّ! إنّه ليس طعامًا لذيذًا، بل نار جهنّم، إنّه قيحٌ وصديدٌ وحميمٌ، وأمثال ذلك!». فهم يُدركون الأمور جيّدًا!۱
يقول الإمام [ما مفاده]:
إنّما يُخلّد الأشخاص في جهنّم؛ لانَّ نيتهم كانت بحيث لو أنّهم خُلّدوا في الدنيا، لداوموا على المعاصي والجرائم؛ وإنّما يُخلّد المؤمنون في الجنّة، لأنَّ نيتهم هي فعل الخير والأعمال الموجبة للثواب ما داموا على قيد الحياة!٢
بعض الأحيان، يكون هناك شخصٌ عاشقٌ للعبادة، فيقوم الليالي بالعبادة، أو يكون هناك شخصٌ منزعجٌ جدًّا من أنّه: لماذا أنا مريضٌ ولا أستطيع العبادة، ولو كنت سليمًا، لأدّيت العبادات؛ ففي هذه الحالة، إذا حانت منيّة هذا الشخص، فإنَّه سيتضايق من أنّه: لماذا لم يمنحني الله المزيد من العمر كي أقوم الليالي بالعبادة! فلو تجدّد عمرُ هذا الشخص، وابتعد الموت عنه، ومُنح ثلاثين عامًا أخرى، فإنَّه سيمضي الليالي في العبادة أيضًا! ولكن أحيانًا، يكون هناك شخصٌ يُلقي الحبل ليلاً، ويذهب للسرقة، ويقوم بهذا الفعل مدّة خمسين عامًا؛ وفي هذه الحالة، حينما يأتيه الموت، فإنّه سيقول: «إلهي، امنحني عمرًا لكي أتعافى، وأسرق غدًا بالليل! ولو عمّرت خمسين عامًا، لقمت بنفس هذا الفعل!». فإذن الحساب دقيقٌ جدًّا!
تسجيل الأعمال التي نواها الإنسان في صحيفة عمله ولو يقم بها
وهنا، يُمكن للإنسان أن يفرح كثيرًا بلطف الله تعالى وكرمه؛ إذ جاء في الروايات: هناك أفراد يريدون أن يُقدّموا خدمةً غير أنّهم لا يمتلكون مالاً؛ كأن يتمنّى أحدُهم مثلاً الذهابَ إلى الحجّ لكنّه لا يتوفّر على مال لكي يذهب؛ وعندما يحين موسم الحجّ، وتبدأ وفود الزوّار بالتوجّه إلى مكّة، نجده ينظر ويتحسّر، فيقال له: «لا تتحسّر! اجلس في منزلك؛ فقد دُوّن لك في سجلّ أعمالك ثواب السفر، وثواب الإحرام والتلبية والطواف والصلاة والسعي والوقوف (في عرفة)، وقد أدّيت هذه الأفعال بأسرها!».
فيحضر يوم القيامة بين يدي الله تعالى، وتُقدّم له صحيفة أعماله [وقد سجّل فيها]: حجّ واحدٌ، واثنان، وثلاثة، وعشرة، وعمرة و...!
ـ ولكن متى ذهبتُ أنا إلى الحجّ؟!
ـ لقد ذهبتَ إلى الحجّ في السنة الفلانيّة، وفي الزمن الفلانيّ أدّيتَ العمرة، وفي الزمان العلاّني زرتَ قبر سيّد الشّهداء و...!
ـ كم مرّة؟
ـ إلى ما شاء الله!
ـ ولكن متى ذهبتُ أنا إلى الحجّ؟! إلهي، إنَّك تحبّ الصدق والصادقين، وأنا لم أقم بهذه الأعمال، فلماذا سجّلتها في صحيفة أعمالي؟!
ويتعجّب ممّا حصل! فقد كان هذا المسكين مريضًا وفقيرًا ومنكوبًا، غير أنّهم دوّنوا في صحيفة أعماله: لقد حرّر ألف عبدٍ لوجه الله، ومدّ العديد من الموائد، وأطعم، وبنى مجموعة من المساجد! فيُقال له: في اليوم الفلاني، عندما كنت تسير، ووقع بصرُك على الفقراء، ألم تدعُ بقلبك: «يا ليتني أملك المال فأنفق عليهم جميعًا»؟! فحضرت هذه النيةُ، وسُجّل لك هنا أنَّك أطعمتَ ألف عبد وأعتقت ألف عبد! ولكن، بشرط أنَّه لو مُنح هذه الأموال، لفعل ذلك؛ لا كبعض الأشخاص الذين حينما لا يتوفّر شيءٌ بين أيديهم، يقولون: «سنفعل هذا، ونفعل ذاك!»، ولكن، عندما يحصلون على المال، ينسون الأمر! فلا يُمكن خداع الله تعالى؛ لأنّه شديد الدقّة ومحاسبٌ ماهر! ولكن، إذا كان الأمر هكذا حقيقةً، بحيث يقول الإنسان حينما لا يكون قادرًا على العمل: «لو امتلكتُ القدرة، لقدّمت هذه الخدمة، وقَدّمتُ تلك الخدمة!»، وعندما يُصبح قادرًا على ذلك العمل، فإنّه يقوم به، وعندما تتوفّر لديه الأموال، يمدّ تلك المائدة، ويُحرّر ذلك العبد، ويذهب إلى الحجّ، ويُجاهد، فإنّ جميع هذه الأعمال ستكون موجودةً في صحيفة أعماله!۱
ولذلك، لا ينبغي أن نتذمّر أبدًا من الله العليّ الأعلى بسبب أنّه: لماذا لم يمنحنا المال كي نبني المساجد، ونُشيّد قبر سيّد الشهداء وقبر أمير المؤمنين، و...! لأنّه تعالى سيُجيبنا صراحةً ويقول: «أنت محقّ، لقد فعلتَ كلّ هذه الأعمال، تعالَ وانظر إلى صحيفة أعمالكَ! لقد بنيتَ قبر حضرة سيّد الشهداء، وشيّدتَ حرم أمير المؤمنين، وزيّنته بالمرايا، وطبعتَ القرآن، وبنيتَ المساجد! وسنصبّ هذه الأعمال في صحيفة أعمالك إلى درجة أنّك لن تتمكّن من إحصائها!». وأمّا إذا لم يكن ذلك صحيحًا، فإنّه تعالى سيقول: «هل كنت تريد أن تقوم بهذه الأعمال حقيقةً، أم لا؟»، فيُجيبه الإنسان: «نعم!». ثمَّ يأتون، ويُطلعونك على مواضع الامتحان، ويجعلونك ترى أنّ السبيل فُتح لك، ولكنّك أغلقته! فقلتَ، لكنّك لم تفعل! فصحيح أنّه عندما لم تكن الوسائل والأسباب بين يديك، كانت لديك نية؛ ولكن، عندما مُنحتَ هذه الوسائل، طرحتها جانبًا!
ومن هنا، فإنّ الله العليّ الأعلى عادلٌ جدًّا! وهو عادلٌ إلى درجة أنّه يأتي بكلّ إنسان، ويضعه في مقامه، فترتفع عنه جميع الإشكالات والشكاوى، حيث تظهر هذه الإشكالات والشكاوى حينما يرغب الإنسان أن يبحث بواسطة فكره في فعل الله في مقام انطباقه على عالم الظاهر، ويُتمّ عليه الحجّة؛ ولكن عندما يجتاز الإنسان هذه المرحلة، ويُقدّر الأمور تقديرًا حقيقيًّا، سيكتشف أنّه: ما أعجبه من إله! وحينئذ، سوف يكون الجميع راضين عن الله، ولن يكون لأحدٍ بعد ذلك أيّ اعتراضٍ عليه تعالى، وستتمّ الحجّة الإلهيّة على جميع الناس!۱
لقد زار جابر بن عبد الله الأنصاري قبر سيِّد الشهداء عليه السلام بعد أربعين يومًا من شهادته، وقال لعطيّة العوفيّ:
يا عطيّة، سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: «من أحبّ قومًا حُشر معهم، ومن أحبَ عمل القوم أُشرك في عملِهم». (فنحن بزيارتنا للإمام الحسين عليه السلام نكون قد جاهدنا معه، وقُتلنا معه؛ لأنَّ قلبي يُخبرني أنّنا كنّا مع الإمام الحسين!)٢
وكان يقول ذلك مع كامل اليقين! حيث كان عمرُه يبلغ عند قدومه لزيارة قبر سيِّد الشهداء عليه السلام اثنين وسبعين عامًا؛٣ لأنّ جابر كان من أصحاب رسول الله، وشارك في معركتي بدرٍ وأُحُد،٤ وقد كتب المرحوم الميرزا محمّد الأردبيليّ في كتابه الرجاليّ: «شهد بدرًا و ثماني عشرة غزوة مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله».٥ وذكر ابن عبد البرّ في كتاب الاستيعاب: «شهد صفّين مع عليّ رضي الله عنه».٦
أبوه عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريّ الذي شارك إلى جانب ابنه هذا في غزوة أحد،۱ ونال الشهادة هناك، ودفنه النبيّ مع عَمرو بن الجَموح في قبرٍ واحدٍ.٢
كان جابر رجلاً عظيمًا جدًّا، ومن الشيعة الخلّص لأمير المؤمنين؛٣ أي أنّه كان من الأفراد الذين رَجَعوا إلى أمير المؤمنين و[بقِيَ] تحت وَلايتِه. وأنا لم أرَ أيّ قدحٍ في جابر بن عبد الله الأنصاريّ من قبل عظماء الشيعة الذين كانت لديهم كتب في الرجال والتراجم.
كان جابر يمشي في أزقّة المدينة المنوّرة ويُنادي علانيّة، ويقول:
عليٌّ خيرُ البشر، مَن أبى، فقد كفر. يا معشرَ الأنصار، أدِّبوا أولادَكم على حبِّ عليّ، فمَن أبى فانظروا في شأن أُمّه! ٤
هذا، وقد بلغ جابر العقد التاسع من العمر، حيث أدرك الإمام محمّد الباقر عليه السلام، وأبلغه سلام رسول الله إليه، ثمّ ارتحل عن الدنيا.٥
ومن غير المعلوم ما إذا كان قد فقد بصره عند وقوع فاجعة كربلاء، بل جاء في رواية منقولة أنّه:
كان في بيت الإمام السجاد بعد واقعة كربلاء، فخرج الإمام محمد الباقر، وشاهده جابر؛ فقال له: «أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ: «شَمَائِلُ رَسُولِ اللَّهِ!»،٦
ويُستفاد من هذه الرواية أنَّ جابرًا كان مبصرًا آنذاك. وربّما فقد بصره في أواخر عمره، ورحل عن الدنيا وهو أعمى، وهذا الأمر مشكوكٌ أيضًا.۷ وخلاصة القول: لقد كان جابرٌ رجلاً ذا مكانةٍ مرموقةٍ، وكان بصيرًا وخبيرًا ومن الشيعة الخلّص ذوي المعرفة.
وفي اليوم الذي وصله نبأ استشهاد سيّد الشهداء عليه السلام، ترك المدينة، وذهب برفقة عطيّة العوفيّ الكوفيّ لزيارة قبره.
يذكر المرحوم الشيخ [الطوسي] في رجاله بأنّ عطيّة العوفيّ كان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام۸، ثمّ يُشير في مكان آخر إلى أنّ عطيّة العوفيّ الكوفيّ كان من أصحاب الإمام الباقر.٩ وقال البعض: لعلّه كان هنالك اثنان ممن يتسمّون باسم عطيّة؛ لكنّ المرحوم المامقانيّ قال في تنقيح المقال [ما مفاده]:
لا يُستبعد أن يكون هو عطيّة نفسه كما قال البعض، غاية الأمر أنَّ حياته قد استمرّت من زمان أمير المؤمنين عليه السلام حتّى عصر الإمام الباقر. فقد كان عمره في عهد أمير المؤمنين عشرين سنة؛ وبالتالي، يُمكننا عدَّه من أصحابه. ولمّا كان عصر الإمام الباقر يبدأ بعد خمسة وخمسين عامًا من ذلك، فإنّ عمره سيبلغ آنذاك خمسة وسبعين عامًا، فلا استبعاد من إدراكه لفترةٍ من عصر الإمام الباقر.
كان عطيّة من تلامذة ابن عبّاس، وقد كتب تفسيرًا للقرآن في خمسة أجزاء، وعرضه على ابن عبّاس ثلاث مرّاتٍ، كما قرأ عنده القرآن سبعين مرّةً، وكان من كبار رواة الشيعة!۱
خرج جابر بن عبد الله من المدينة قاصدًا الكوفة؛٢ وحينئذ، إمّا أن يكون أتى من المدينة برفقة عطيّة، أو أنّه أتى منها بمفرده متوجّهًا إلى الكوفة، ثمّ جاء من الكوفة مع عطيّة الكوفي لزيارة قبر حضرة سيّد الشهداء؛ لكنّ هذا الأمر غير معلوم. وبشكل عامّ، ينقل المرحوم عماد الدين الطبري الآمليّ روايةً بسلسلة سندٍ متصلةٍ عن عطيّة هذا في كتاب بشارة المصطفى ـ وهو من كتب الشيعة النفيسة ـ يقول فيها:
خرجتُ مع جابر بن عبد الله الأنصاري زائريْن قبرَ الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فلمّا وردنا كربلاء، دنا جابر من شاطئ الفرات، فاغتسل ثم اتّزر بإزار وارتدى بآخر (فأحرم هناك)، ثمّ فتح صرّة فيها سِعدٌ فنثرها على بدنه، ثمّ لم يخط خطوة إلا ذكر الله تعالى.٣
علّة غسل جابر وإحرامه قبل زيارة سيّد الشهداء في يوم الأربعين
كنت أفكّر يومًا ما في مسألة غسل جابر وإحرامه، حيث جاء في الروايات ما مفاده:
مَن مشى إلى الحجّ ولم يكن لديه لباس إحرامٍ فليُحرم في لباسه، لكن، عليه أن يرتديه مقلوبًا، ويخرج يديه، فيقلب المعطف ويضعه على كتفيه بحيث تكون الأكمام متدلّية إلى الأسفل.٤
فهل كان جابر قد سمع من رسول الله أو أمير المؤمنين بأنَّه على مَنْ يعزم على زيارة قبر سيَّد الشهداء أو قبر أحد الأئمّة أن يغتسل ويُحرم، أم أنَّه قد تفطّن لهذا الأمر بنفسه؟ فالفقيه هو ذلك الفرد الذي يتمكّن من تفريع الفروع عن أصولها. فكأنَّ روح الإسلام قد استقرّت في كيان جابر، وكأنَّه قد تذُّوق حقيقة الإسلام وتعرَّف على سرّ قوانينه، بحيث علِم بأنَّ للإحرام والغسل والزيارة والطواف ـ الذي تمّ تشريعه لأداء فريضة حجّ بيت الله ـ سرًّا وحقيقةً. فحقيقة بيت الله هو مقام ولاية سيِّد الشهداء عليه السلام! وبالتالي، فإنّ الموضع الذي وقع عليه جسده الشريف هو بيت الله؛ وهنا يكون محلّ دفن حقيقة مقام الولاية! فتلك الكعبة هي الكعبة الظاهريّة، وهنا يكون الباطن؛ ولهذا، ينبغي ـ من باب أولى ـ الغسل والإحرام هنا! وحتّى أنّه لدينا رواية تشير إلى هذا المعنى جاء فيها: «يجب أن يمتلك الفقيه ملكةً قدسيّةً!»٥ فالملكة القدسيّة هي عبارة عن نور يسطع على قلب الفقيه من الله تعالى، وبواسطته، يصير هذا الفقيه قادرًا على تطبيق الأحكام الكلّية على مصاديقها، ومتمكّنًا من التعرّف على هذه المصاديق بشكل جيّد. وقد كان جابر يمتلك مثل هذا النور بالشكل الذي مكّنه من تشخيص لزوم الغسل والإحرام ما دام عازمًا على زيارة قبر ابن بنت نبيّ الله! ولهذا، فقد اغتسل غُسل الطواف وغُسل الزيارة، وأحرَم متوجّهًا نحو حقيقة بيت الله تعالى!
يقول عطيّة:
(مشى وكان يرفع قدمه ببطء)، ثمّ لم يخطُ خطوةً إلاّ ذكر اللهَ تعالى، حتّى إذا دنا من القبر قال: ألمسنيه، فألمسته، فخرَّ على القبر مغشيًّا عليه، فرششتُ عليه شيئًا من الماء، فلما أفاق قال:
«يا حسين! يا حسين! يا حسين! ثلاثًا، ثم قال: حبيبٌ لا يُجيب حبيبه؟!».
ثم قال (من باب الاعتذار):
«وأنّى لَكَ بالجوابِ وقَد شُحِطَتْ أوداجُك على أثباجِك، وفُرِّق بينَ بدَنِك ورأسِك!
«فأشهدُ أنّك ابنُ خاتم النبيين وابنُ سيّدِ المؤمنين وابنُ حليفِ التّقوى وسليلِ الهُدى وخامسُ أصحابِ الكساء وابنُ سيّدِ النُّقَباء وابنُ فاطمةَ الزّهراء سيّدةِ النّساء، وما لَك لا تكون كذلك وقد غَذَتْكَ كفُّ سيّدِ المُرسَلين ورُبِّيتَ في حِجرِ المتّقين ورُضِعتَ مِن ثَدي الإيمان وفُطِمتَ بالإسلام، فَطِبتَ حَيًّا وطِبتَ مَيّتًا غيرَ أنّ قلوبَ المؤمنينَ غَيرُ طَيّبةٍ لِفِراقك ولا شاكَّةٍ في الخيرَةِ لك، فعليك سلامُ اللهِ ورِضوانُه، وأشهَد أنَّك مَضَيتَ على ما مَضى عليه أخوك يحيّى بنُ زكريّا».
(قال جابر هذا الكلام)، ثمّ جال بصرَه حول القبر (قبر المعصوم شهيد كربلاء سيّد الشهداء، حيث قبر الشهداء، وألقى السلام على تلك الأجساد الطاهرة المباركة)، وقال:
«(إلهي أقسم عليك أن توصل سلامي إلى هذه الأجساد الطيّبة والطاهرة!) السّلام عليكم أيّتها الأرواحُ الّتي حَلَّت بفِناءِ الحسينِ عليه السّلام وأناخَت برَحلِه (ولحقت بنور عيني النبيّ الأكرم)، وأشهدُ أنّكم أقمتم الصّلاةَ وآتَيتمُ الزّكاةَ وأمَرتُم بالمعروف ونَهَيتُم عن المُنكَرِ وجاهَدتم المُلحِدينَ (والفاسقين) وعبَدتم اللهَ حتّى أتاكمُ اليقينُ (واستقبلتم الموت بأحضانكم، وغادرتم هذه الدنيا بفرح وسرور)!
(ردّد هذه العبارات، ثمَّ قال:)
«والّذي بعَث محمّدًا صلّى الله عليه وآله بالحقِّ نبيًّا، لقد شارَكناكم فيما دخَلتُم فيه!»
(يعني: أيّتها الأرواح الطيبة والطاهرة، يا أيّتها الروح المقدّسة لسيّد الشهداء، أيّتها الروح المقدّسة للأصحاب والشباب، أقسم بذلك الإله الذي انتجب محمّدًا نبيًّا بالحقّ وبعثه إلى جميع الناس بصفته خاتمًا للنبيّين، لقد شاركناكم في كلّ ما دخلتم فيه!).
محبّة العمل تقتضي الإشراك فيه
ما أعجبَ كلامه! لقد شاركناكم! يعني: نحن شركاؤكم في مقتلكم وأسركم وذبح أطفالكم وعطشكم، فقد شاركناكم في جميع هذه المرارات التي حلّت وستحلّ بكم!
قال عطيّة العوفي:
«كيف ولم نَهبِط واديًا، ولم نَعلُ جبلاً، ولم نَضرِب بسيفٍ، والقومُ قد فُرِّقَ بين رُؤوسِهِم وأبدانِهم، وأوتِمَت أولادُهم، وأُرمِلَت أزواجُهم؟!»
(ماذا تقول يا جابر؟! إنّك تقول كلامًا عظيمًا! فما هذا الكلام الذي تقوله؟! كيف يُمكن أن نكون معهم وأن نُشاركهم في عملهم مع أنّنا لم نصعد جبلاً ولم نهبط واديًا ولم نشهر سيفًا ولم نضرب الكفّار؛ في حين أنّ هؤلاء القوم قد فرّق بين أبدانهم ورؤوسهم، ويُتّم أولادُهم، وترمّلت نسائهم؟!).
فقال جابر:
«يا عطيّة، إنّي سَمِعتُ حبيبي رسولَ الله يقول: ”مَن أحَبَّ قومًا حُشِر معهم؛ ومَن أحبَّ عَمَلَ قومٍ أُشرِك في عمَلِهِم!“ (يعني يحصل له اتحاد ومعيّة مع حقيقة وأصل أولئك القوم)، والّذي بعَث محمّدًا بالحقَّ نبيًّا، إنَّ نيتي ونيةَ أصحابي على ما مضى عليه الحسينُ عليه السّلام وأصحابُه!».
ثمّ قال جابر: «خُذْني نحو أبيات كوفان».
يقول عطيّة:
فلمّا صرنا في بعض الطريق (وعظني و) قال:
«يا عطيّة، هل أُوصيك؟ وما أظنّ أنّني بعد هذه السفرة مُلاقيك! (لذا اسمع هذه الوصيّة)
أحبِبْ مُحِبَّ آلِ محمّدٍ ما أحبَّهم، وأبغِضْ مُبغِضَ آل محمّدٍ ما أبغضهم وإن كان صوّامًا قوّامًا، وارفقْ بمُحبّ محمّدٍ وآل محمّدٍ؛ فإنّه إن تَزِلَّ له قَدمٌ بكثرة ذنوبه، تَثبُتْ له أخرى بمحبّتهم [وولايتهم]، فإنّ مُحبَّهم يعود إلى الجنّة، ومبغضهم يعود إلى النار».۱
كان هذا هو آخر حديث لجابر مع عطيّة. لقد أدرك جابر روح الدين جيّدًا، فانظروا كيف يبيّن معيّته مع سيِّد الشهداء بأفضل بيان! فهو يقول: أنا منكم فعلاً، ولقد قاتلتُ معكم وضربتُ بالسيف بين يديكم، وتحمّلتُ مرارةَ العطش، وذُبح ابني، وقُتل إخوتي، كما أنَّني ذُبحتُ أيضًا؛ لأنَّ نيتي كانت بهذا الشكل.
إلهي، بحقّ محمّدٍ وآل محمّد،
هَب لنا نورًا نتعرّف به على روح الدّين ونُدرك حقيقته
وهب لقلوبنا اليقين لكي نعرفك أكثر وأكثر.
واشرح صدورنا بنور الإسلام،
وثبِّت أقدامنا على صِراطك المستقيم،
واجعلنا نتمتّع في هذا الصراط بما منحتنا من تلك المواهب،
واجعل نهج حياتنا على نهج ومسير سيِّد الشهداء عليه السلام وأولاده وأصحابه،
ولا تخرجنا من دار الدنيا حتّى ترضى عنّا،
وارزقنا شفاعتهم في الدنيا والآخرة،
وعجّل اللهمّ في فرج إمام زماننا.
اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وآلِ مُحمَّد