المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1438
التوضيح
تتحدّث هذه المحاضرة حول النقاط التالية: 1. ستارية الله تعالى تعني الغضّ عن السيّئات والاهتمام بالحسنات حتّى لو صدرت من مشرك. 2. ضرورة التحلّي بهذه الصفة الإلهيّة بالتدريج. 3. التدرّج قانون أساسيّ في السير والسلوك سواء في التزكية والاقتراب من الله أم في التلوّث والابتعاد عنه. 4. المعيار في تقدّم السالك همّته ورغبته إلى الله لا مقدار الأعمال التي اعتاد تكرارها. 5. قيمة الابتلاءات في تحقيق التقدّم في السلوك. 6. ابتلاءات الإمام الحسين عليه السلام وأثرها على نفسه يوم عاشوراء.
هو العليم
التدرّج في السير والسلوك
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۸ هـ ق - المحاضرة العاشرة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
«وَلَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ الْعُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ، لا لِأَنَّكَ أَهْوَنُ النَّاظِرِينَ وأَخَفُّ الْمُطَّلِعِينَ، بَلْ لِأَنَّكَ يَا رَبِّ خَيْرُ السَّاتِرِينَ وأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وأَكْرَمُ الْأَكْرَمِين.»
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: يا إلهي، أنا لا أخاف من تعجيل عقوبتك، وأن تُسرّع جزائي بحيث ما إن أرتكب معصيةً حتّى تعاقبني عليها مباشرة، لا، فأنا لا أخاف من ذلك! وعدم خوفي ليس ناشئًا من أنّك غير مطّلع على أعمالي وغير عالم بتصرّفاتي؛ لا، ليس بسبب ذلك! فأنت أقرب إليّ من جميع الناس، بل ومن حبل الوريد، ومن نفسي؛ فأنت أقرب إليّ من نفسي؛ لأنّك أنت مبدأ وعلّة نِشأتي، وأنا معلول ومخلوق لك.
فاطّلاعك عَلَيّ هو اطّلاع عِلِّيٌّ، وليس اطّلاعًا علميًّا اكتسابيًّا مبتنيًا على القواعد والأصول؛ لذا فإن اطّلاعك أكثر من الاطّلاع العلميّ؛ ولهذا، فإنّ عدم خوفي ليس ناشئًا من هذه الجهة (أي أنّك غير مطّلع على أعمالي)؛ فإذن ما هو السبب في عدم خوفي منك؟ إنّ ذلك يرجع إلى معرفتي بأنّك خير الساترين، أي أننا لو قارنّاك مع أولئك الذين يسترون العيوب لكنت تفوقهم جميعًا، فأنت تمتلك نوعًا من الستّاريّة لا يمكن لأيّ أحد آخر أن تكون عنده؛ فهذه هي الستّاريّة التي تمتلكها أنت.
وكذلك في مقام الحكم والقضاء وحساب أعمالي وتصرّفاتي، فإنّك الأحكم؛ أي إنّ حكمك هو عين الواقع ونفس الحقيقة، ونابع من ذلك المقام المتّصف بهذه الصفات... وسنتحدّث لاحقًا عن فقرات: (أحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين) إذا وفّقنا الله تعالى لذلك.
ستّارية الله: الغضّ عن السيّئة والنظر إلى الحسنة حتّى من المشرك
وأمّا فيما يخصّ "خير الساترين" فقد ذكرنا للرفقاء في الليالي السابقة أنّ الستر يعني إخفاء العيوب؛ [في مقابل الغيبة والإفشاء] فعلى ماذا تُطلق الغيبة؟ على: "ذكرك أخاك بما يَكره"۱؛ أي أن تذكر أخاك أمام الناس، بنحو يُؤدّي إلى انزعاجه؛ فهذا هو الذي يُقال له غيبة، وهي غير التهمة والبهتان الذي يعني أن تنسب إليه شيئًا لا حقيقة له؛ فعلى الإنسان ألاّ يرضى للآخرين بما لا يرضاه لنفسه، وإذا كان لا يُحبّ أن يتحدّث الآخرون بمساوئه، فكذلك عليه أن يكون في علاقته مع الآخرين؛ فليس حديثنا هنا عن البهتان بتاتًا؛ لا! بل عن مسألة أن يقوم الإنسان بفعل، ويصدر منه نقص أو عيب من دون أن يطّلع عليه أحد، فيأتي أحدهم ويُفشي عيبه هذا للآخرين؛ فهذا عمل قبيح، والله تعالى يتنزّه عن هكذا أفعال، وهو سبحانه لا يُفشي العيوب للآخرين.
وبشكل عامّ، فإنّ الله تعالى يأخذ بعین الاعتبار تلك الصفات الحسنة التي يتّصف بها الناس، وترجع إلى ذاته المقدّسة؛ فقد يكون هناك إنسان غير موحّد، لكنّه يتّصف بصفةٍ حسنة؛ نظير حاتم الطائي الذي كان سخّيًا لكنّه لم يكن موحّدًا، كما كان هناك العديد من الأفراد الذين يتحلّون بصفات حسنة، مع أنّهم لم يكونوا من أهل التوحيد، سواءً أكانوا مستضعفين، أم لا، لكنّهم كانوا يتحلّون بهكذا صفات، ونرى بأنّهم مُدحوا في الحكايات والروايات والأخبار بسبب امتلاكهم لهذه الصفات.
قانون التغيّر التدريجي في السير والسلوك
فعلى الإنسان أن يتحرّك في هذا الاتّجاه، ويمشي، ويُغيّر من نفسه؛ لأنّ هذه الصفات هي صفات الله تعالى، ولكي يصل العبد إلى الذات الإلهيّة، عليه أن يتبدّل ويتغيّر، ويُخلّص هذه النفس المتوغّلة في الشهوات والمادّيات والأهواء شيئًا فشيئًا من هذا التوغّل، حتّى يتسنّى له الاستئناس بذلك العالم، العالم المجرّد والمنزّه من العيوب والنقائص والشوائب والزلل، ليتمكّن بذلك من الولوج في تلك الأجواء.
آئينه شو وجمال پرى طلعتان طلب | *** | جارو بزن خانه و پس ميهمان طلب |
[يقول: كن مرآةً ثمّ ابحث عن جمال الوجوه الملائكيّة، اكنس بيتك ثمّ ابحث عن الضيف]
إنّ هذا لأصل حقيقيّ وواقعيّ، فمن يُرِد أن يصل في العلم والبحث إلى أعلى المراتب، فلا يمكنه الحضور إلى قاعة الدرس والانخراط في أجواء التعليم هكذا من غير مقدّمات تتناسب مع مرتبته؛ بل ينبغي عليه أن يدرس الأمور السابقة ويتقنها، أي عليه أن يدرس لمدّة خمسة عشر سنة بالتدريج ويطوي مرحلة تلو الأخرى حتى يحصّل هذه العلوم بشكل تدريجي، فإن فعل ذلك فسيكون بمقدوره حينها أن يشارك في الدرس الفلاني [الذي هو في مرتبة عُليا كالبحث الخارج في الحوزة].
كنت أتباحث مع الإخوة في مدرسة الفيضيّة أو دار الشفاء، الظاهر أنها دار الشفاء، وكان عندي ثلاثة دروس وكنت في الدرس الثالث، وقد كان درس فلسفة حسب الظاهر؛ فجاء أحد الطلاب وكان عراقيًا، ولم يكن إيرانيًّا، وعندما شرعنا بالدرس قلتُ في نفسي من الواضح من نظرات هذا الطالب أنّه سيبدأ بالاعتراض، وقد بدأ بالاعتراض فوجدتُ أنّه يتفوّه بمسائل لا طائل منها وكلّما أجبته فكأني لم أجبه، فيعود ويعترض.
فقلت له: يا عزيزي إنّ البحث الذي نطرحه الآن هو بحث للأسفار، فماذا درست أنت قبل هذا؟
فقال: مهما كان ما درستُه، فما شأنك أنت في هذا؛ فأجب عن أسألتي ولا شأن لك فيما كنتُ قد درستُه.
فقلتُ: أطلب العذر منكم فأنا لا أستطيع أن أجيب على أسئلة طالب إلا إذا كان دارسًا من قبلُ، فأطلب منكم المعذرة، فلذا تفضّلوا.
فاستاء كثيرًا و اغتاظ وقال: ما هذا الكلام؟! ثم قام وذهب.
فالحمد لله قد خُتم الأمر على خير بسرعةٍ، فعلى الأقل لم تصل الأمور إلى حدّ العراك والمصارعة؛ فقد كان ممّن يمكن أن تصدر منهم مثل هذه الأمور، ولكنّها ختمت على خير.
يا عزيزي حتى تأتي إلى هنا عليك أن تكون قد درست لثمان سنوات على الأقل؛ فما الذي تتفوّه به؟! هذا غير ممكن.
فهو بحضوره هذا لن يستفيد أيّ شيء [من جهة]، وسيسبّب الإزعاج للآخرين [من جهة أخرى]، لذا من يُرِد أن يحضر عليه أن يكون مؤانسًا للحاضرين وفي نفس مرتبتهم أو قريبًا منهم، وأجواؤه مقاربة لأجوائهم؛ فعندها يمكنه الحضور.
عندما يريدون تحويل أحد المعادن إلى معدن آخر يستفاد منه فإنهم يقومون بتنقيته شيئًا فشيئًا؛ فيبدؤون بغسل الحجر وإزالة التراب والمواد الزائدة منه، ثم يأخذون المادّة المستخلصة منه، ثم يذيبونها، وبعد ذلك يبدّلونها إلى المعدن المراد شيئًا فشيئًا؛ فلابد من فصل المعدن المستخلص عن غيره حتى لا يبقى غير تلك السبيكة الخالصة.
وكذلك الأمر في جميع الأمور والتخصّصات، وكل ما هو موجود في هذه الدنيا، فإن الأمور لا تحدث دفعة واحدة بل تحتاج إلى زمان وتغيير حتى تحصل، فحتّى يصير الشيء شبيهًا بشيء آخر لابدّ من التغيّر التدريجي، وهذه المسألة يستفاد منها كثيرًا في العلوم التجريبيّة.
وكذا نفس الإنسان فهي تريد الحركة نحو العالم العلويّ، فما هو العالم العلويّ؟! العالم العلويّ هو عالم الصفاء، والصدق، والوفاء، والتوحيد، والوحدة، والأنس، والمحبّة؛ ولا يوجد هناك صراع، وكذب، ونفاق، وخداع، وغش، ودجل؛ هذه الأمور تنتسب إلى هذه الدنيا فقط، فالحمد لله جميع التخصّصات لا يخلوا أصحابها من هذه الأمور، وكلّ واحد منهم أخذ نصيبه من هذه الأمور بمقدار ليس بقليل؛ فكلّ الناس على اختلاف أصنافهم لا يخلون من هذه الأمور، وبالخصوص المتلبّسين بلباسنا نحن فإنّ نصيبهم أكثر، لذلك علينا نحن أن نلتفت إلى أنفسنا أكثر. التفتم؟!
فمن يرد الذهاب إلى ذلك العالم [فعليه أن يشرع بالاتّصاف التدريجيّ بصفات أهل ذلك العالم]، هناك من يقول: نحن نريد أن نبقى هنا ولا نريد أن نذهب إلى هناك، فها نحن نصلّي صلاتنا ونكذب في اليوم كذبتين، ولا نريد أن نقول الصدق، فمن يرانا؟! فهؤلاء هكذا يقولون: نحن أصلًا نريد أن نكذب.!!
التدرّج في عمليّة التلوّث والانحراف
إنّ بعض الناس قد تغيّرت ذاتهم من كثرة كذبهم بحيث صاروا يثيرون العجب من سهولة الكذب لديهم، فكيف يمكنهم ذلك؟! أو من سهولة الخداع عندهم، أو من سهولة اتّهام الآخرين؛ كيف يمكنهم ذلك؟!
فيرى أنّهم من كثرة كذبهم، وخداعهم، وقلّة حيائهم، صار عدم الحياء وجودًا ثانيًا بالنسبة لهم؛ فذلك الوجود الأوّل ذهب جانبًا أي الذي كان يحتوي على الصفاء ـ لو سلّمنا أنهم كانوا يمتلكونه ـ ذهب شيئًا فشيئًا.
فعلى سبيل المثال لو نظرتم إلى كأس الماء هذا فهو يحتوي على ماء صاف ليس فيه أي لون، فلو وضعتُ فيه قطرةً واحدة من الحبر لبدأت تلك القطرة بتغيير لون هذا الماء، وبعد مرور مدّة لا ترى وجودًا للقطرة ولكنك ترى بأنّ الماء قد تكدّر، فحاله الآن يختلف عن حالته السابقة، ولكنه مع ذلك لم يصر داكنًا تمامًا، انظروا لقد خرج من حالة صفائه التي كان عليها، وهذا خطر كبير بالنسبة لنا والخطورة هي هذه؛ فلو أضفت له قطرة أخرى تبدأ هذه القطرة بالحركة والدوران في الكأس حتى تذوب فيه ولا ترى منها شيئًا إلا أثر الكدورة الإضافية التي أضافتها على الإناء، وإن أضفنا له قطرة ثالثة ورابعة وهكذا حتى يصير لون هذا الماء أسود تمامًا بحيث لا يكون هناك أي فرق بينه وبين المحبرة ذاتها؛ فهذا الإنسان ينبغي أن يُقرأ عليه الفاتحة عندئذٍ، لقد أصبح مثل ذلك الماء تمامًا، فكما أنّ هذا الماء صار أسود فقد صار قلب هذا الرجل أسود أيضًا؛ وحينئذٍ لا يعود قادرًا على قول الصدق، فهو يصل إلى درجة لا يستطيع أن يقول الحقّ معها، ولا يستطيع أن يساعد أحدًا من الناس، ولا يستطيع أن ينظر نظرة توحيديّة؛ فذاته لا يعود بإمكانها أن تفعل الخير؛ فيصير الخداع هو نفس ذاته؛ نعم فالإنسان يصل إلى هذا الحد! نعم يصل! يصير الكذب عين ذاته، فتراه يكذب ولا يبالي؛ بل لا يتنزّه عن الكذب حتى لو قيل له: يا عزيزي إن كذبتَ فسيظهر كذبك هذا يومًا ويُعرف أنّك كاذب. يقول بكلّ صراحة: ليكن ذلك، فلا إشكال فيه.
وإن قيل له: سيُفتضح خداعك هذا يومًا على الملأ.
يقول وبكل سهولة: لا إشكال وليكن ذلك.
يعني أنّه ينحدر شيئًا فشيئًا إلى هذا الحدّ، وإذا وصل إلى هذا الأمر يصير ممن يصدق عليه {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَة}۱، يعني أنّه تعالى يضع ستارًا على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وهل يمكن للإنسان في هذه الأجواء المستترة أن يرى شيئًا؟! وهل يمكنه أن يرى الصدق؟! وهل يمكنه أن يرى الحقيقة، وأن يرى الصفاء، وغيرها؟!! أبدًا {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَة} الختم هو الطبع، وهو نهاية الأمر؛ حيث لا يبقى هناك أي منفذ للنور عنده، فقد صار هذا الماء أسود تمامًا! وفي هذه الحالة يكون الإنسان قد انتهى أمره. والسبب في ذلك يرجع إلى عدم الالتفات [من جهة]، ولأن هذه المسألة حصلت بالتدريج [من جهة أخرى]، فهذا الماء الذي هو الآن كذلك لم يحصل هكذا دفعة واحدة، فإذا فرضنا أنّك أفرغت المحبرة كلّها دفعة واحدة في الماء، فسيختلّ الأمر دفعة، لكن إذا كان الحبر يتقاطر قطرة قطرة وقليلًا قليلًا، وإذا كان قلب الإنسان يخرب بشكل تدريجي، لا دفعة واحدة.. لذا عندما يذنب الإنسان ذنبًا يكون الذنب عظيمًا بالنسبة إليه، ويكون في ذاك اليوم غير مرتاح ومشتّت البال؛ [يقول] ما هذا الذنب الذي فعلتُه! ولكن عندما يتكرّر يكون أسهل عليه، وهكذا إلى أن يصل الأمر به إلى أن يذنب الذنب دون أن يهتمّ أصلًا. هذا الذي يقال له بأنّه صار مغلقًا؛ وعلى هذا الأساس ترى بأنّ فكره سيكون في نفس هذا الطريق، وسليقته تتّجه بنفس هذا النحو، ورغبته ستكون في هذا الاتجاه، وسيصير ميله إلى الذنب أكثر من ميله إلى الصواب! فعندما يجلس في مجلس يكون فيه الغيبة والكذب وأمثالها، يجلس فيه إلى الصباح. أما إذا دخل مجلسًا يُذكر فيه روايتان وحديثان، يقول: لقد مللت! ويذهب! فهو يميل إلى تلك الجهة، ويحبّ ذاك الاتّجاه، والأصدقاء الذين يريد أن يختارهم، يختارهم على هذا الأساس! وفي المقابل، الأصدقاء الذين يتخلّى عنهم هم الأصدقاء الذين يكونون في الطرف المقابل لأولئك تمامًا، فلا يستطيع الجمع بينهما، لا يمكنه!! ولا يمكنه أن يتكلّم معهم أساسًا! فعندما يتحدّث معهم قليلًا...
يقول المرحوم السيد الحداد رضوان الله عليه عندما كان يتحدّث أحدهم في مجلسه عن بعض الأمور العاديّة والظاهرية، لا في المعصية، كان يقول: لماذا تصرفون أوقاتكم بهذه الأمور، لماذا تضيّعون أوقاتكم بهذه الأحاديث؟! يعني لم يكن يتحمّل حتى الكلام العادي، بل يريد التحدّث عن التوحيد وعن الله وعن صفات الله، فقط يريد أن يكون في هذا الجانب. لذا عندما يجلس الإنسان في مجالس هؤلاء يشعر بأنّه في عالم آخر وجوّ آخر، أما عندما يجلس مع أهل الدنيا، ويكون حديثهم: هذا فعل، وذاك سرق، وهذا ارتفع، والآخر هبط، هذا ارتفع ثمنه وذاك رخص وأمثال ذلك.. فجميع كلامهم في هذه الأجواء، فإذا أتى الإنسان وتحدّث معهم في مجال آخر.. فأما أولئك الذين بقي في قلوبهم مجال، فمن الممكن أن يحصل لهم حالة انبساط واستئناس، وأمّا أولئك الذين ليسوا كذلك؛ بأن كانوا من الذين "ختم الله" فتراهم يقولون: هل لديك كلام آخر؟! لقد استفدنا كثيرًا، هل تسمحون لنا بالذهاب؟! [فيقال لهم:] جزاكم الله خيرًا، من الأول اذهبوا! فأنت تكاد تنفجر هنا! فيذهب ويحرّر نفسه من ماذا؟! من الأجواء التوحيديّة، فهذا الجو بالنسبة له سجن وأغلال، يريد أن يخرج من أجواء النور الذي صار بالنسبة إليه سلاسل وأغلالاً، ويذهب إلى كلام الدنيا: هذا ارتفع ثمنه وذاك رخص وكذا.. يدخل في هذا الجو وهذه المجالس وهذه الأمور، فالإنسان يمكنه أن يختبر نفسه ويرى أين هو؟! أين هو من هذين الطرفين؟ هل هو قريب من هذا الطرف أم من ذاك؟!
معيار تقدّم السالك همّته لا كثرة عمله المعتاد
سأل أحدهم المرحوم العلامة: كيف يمكننا أن نعرف في أيّ وضعيّة نحن؟ نريد أن نعلم وضعيّتنا؟! فقال: المعيار هو أن تنظر إلى نفسك وميلك وعملك بالنسبة إلى السابق.. لا أن تنظر إلى صلاة الليل؛ بدلاً من أن تصلّيها أحد عشر ركعة تصلّيها ثلاثة وعشرون ركعة أم لا، أو بدلاً من حزب أو جزء تختم القرآن كلّه، لا!
أتى إلى الإمام الصادق عليه السلام أو الإمام الباقر أحد أصحابه، وقال له بأنّي أختم القرآن في كلّ يوم، فقال له الإمام: "لا يعجبني أن تقرأه في أقل من شهر!"۱فماذا دهاك حتى تختم القرآن في كلّ ليلة؟! هل تفهم ماذا تقرأ وماذا تتلو؟ وهل تدرك من أين أتت هذه المطالب؟! أم أنّك تقرأ هكذا من الأول إلى الآخر! قال له الإمام: لا يعجبني أن تقرأه في أقل من شهر. ومع ذلك أتيت إليّ تخبرني [لتظهر فضلك]!
فانظر إلى همّتك وحبّك لله وتمسّكك بهذا الطريق، وقارن بين حالك الآن وفي السابق، وأيضًا انظر إلى عفوك وتغاضيك؛ مثلاً كم لديك من القدرة على التغاضي عن أيّ مسألة قد تحصل لك، وما هي نسبتها إلى السابق! وكيف كانت نفسك بإمكانها أن تتخلّى وتتجاوز عن هذا! هل كانت تتوقّف نفسك أم لا، وقارن بينها وبين حالتها الآن! هذا هو المعيار، وهذا هو الملاك في أنّك تقدّمت أم توقّفت أم تأخّرت! المعيار هو هذا! ويمكن لنا أن نعرف هذا الأمر، فحالنا لدينا نحن! حالنا في السنة السابقة وقبل سنتين وقبل ستّة أشهر، علينا أن نرى ما هي مكانة الله عندنا؟! وإلى أيّ حدّ قبلنا بالله، وإلى أيّ حدّ جعلنا لله مكانًا عندنا؟! فنحن قد جعلنا لكلّ شيء مكانًا في نفوسنا؛ لأطفالنا، لنسائنا وإخوتنا، لجارنا وشريكنا، جعلنا لكلّ شيء مكانًا وفتحنا له حسابًا.. فقط [أغلقناه أمام] الله المسكين وقذفنا به إلى عالم "الهبروت"۱، فلا علاقة لنا به إلا بمقدار ما يصير وقت صلاة الظهر أو العصر فنقول: "الله أكبر"، هذا إذا كنّا نصلّي في أول الوقت، وإلا فأحيانًا نتركها إلى آخر الوقت، ونقول إلهي لماذا لم تجعلها ركعتين، فأنت رحمان، لماذا لم ترحمنا في أن تجعل الأربع ركعات ركعتين، ولو فعلت ذلك لكنت إلهًا عظيمًا! ولو رفعت الصوم عنّا.. فأنت بهذا القدر من الرحمانيّة والعظمة، ما منعك أن ترفع عنّا الصوم وتدعنا نأكل، فلن يحصل شيء إذا فعلت هذا.. وأمثال ذلك.
من يمشي في طريق الله ينبغي عليه أن يجعل ميزانه ومعياره هذا الأمر، وهو أنّه ما مدى أهميّة الله عنده، ما مدى أهميّة إمامه عنده؟! وليس مرادي هو أن نذكر الإمام ونشارك في المجالس وأن نقول يا ابن الحسن! بل أن ترى كم جعلت للإمام نصيبًا في قلبك وما هو مدى أهميّة الإمام عليه السلام في قلبك! وكم جعلت لمطالبه ولأفكاره ولمبانيه ولقوانينه ولأوامره مكانة عندك؟! كم لهذه الأمور وقع في قلبك؟! من خلال هذه الأمور يستطيع الإنسان أن يعرف نفسه.
التدريج في التصفية
هذه المسألة بذاتها تنتقل إلى تلك الجهة، فلو فرضنا أنّ الماء في هذا الكأس أسود اللون، وأردنا أن نبدّله إلى ماء زلال، فماذا علينا أن نفعل؟! علينا أن نأتي بمصفاة لتنقيته، نترك الماء يمرّ من خلال هذه المصفاة، فنرى أنّ الماء الذي خرج منها قلّ فيه السواد شيئًا ما، ولكنّه غير صالح للشرب، فنضعه مرّة أخرى في المصفاة، وهكذا شيئًا فشيئًا وعندما يصفّى ستّ أو سبع مرّات نرى أنّه هو نفس ذاك الماء! ففي البداية كان أبيض ثم تبدّل إلى السواد، وبعده عاد السواد بياضًا؛ لماذا؟ لأنّه حصل لديه أنس شيئًا فشيئًا وصفّي شيئًا فشيئًا.. إلى أن صار الماء أبيض فعندها صار يمكنه الدخول، يمكن أن يدخل إلى ذاك الجو الذي لا يوجد فيه كدورة ولا كذب ولا تهمة ولا خداع ولا احتيال على الناس، ولا التمسّك بالرأي ولا أنانيّة ولا نفسانيّات ولا شهوات ولا ولا ولا .. فينبغي التخلّي عن كلّ واحدة من هذه عبر المصفاة وتبديلها إلى شيء آخر؛ بحيث صرنا نرى أنّ ذاك الإنسان قد صار شيئًا آخر! وصار له وضع آخر وحال آخر، وصار في فضاء آخر! ترى بأنّه هو الذي كان منذ خمس سنوات، لكن لماذا صار هكذا نورانيّاً؟! لأنّه غيّر نفسه، لم يجلس هكذا راضيًا بما يحصل له دون أن يغيّر شيئًا، بل غيّر نفسه، واهتمّ بطريقه وبعمله، وعمل بدستورات العظماء، وسلّم نفسه لتربية العظماء، لا أنّه اعتبر نفسه موازيًا لهم، ولم يقم بدلاً من التسليم للعظماء بإثارة اللغط.. عندما سلّم لهم من جهته هو، يقومون هم من جهتهم بإدخاله في الطريق؛ فيضربونه ضربة، فهو بما أنه يريد أن يسلم فلن يجلسوا هكذا من دون ردّة فعل، وإلا فما هو فرق التسليم عن غير التسليم؟! فبتسليمك هذا يترتب على ولي الله تعهّد ومسؤوليّة، فيأتي الوليّ ويقول: بما أنّك مسلّم، فعليك أن تتلقّى الضربة أولاً، إذ أنت قلت بأنّك مسلّم، فإذا لم تكن مسلّمًا فلا عمل لنا معك أصلاً، بل نقول لك: تفضّل مولانا، لقد مننت علينا وتفضّلت، أين نحن منك؟! فهذه الأمور إنّما تكون قبل التسليم، لكن بعد أن قلت بأنّي مسلّم، نريد أن نعرف هل تقول ذلك صدقًا أم لا؟ فإن قلت بأنّي أمزح معكم، دعوني وشأني! ولا توجعوا رأسكم بي! فالمهمّ أن لا أبتلى بذاك الامتحان الذي سأتلقّاه منكم بعد ثلاث سنوات، ولا تتعرّضوا لأحد... فمن الأول لا تأتِ!
لكن عندما تقول بأنّي أريد أن أسلّم، سيقال لك بما أنّك مسلّم فبسم الله! وعند ذلك لن تُترك؛ فاليوم امتحان وغدًا امتحان آخر.
تا شدم حلقه بگوش درِ ميخانه عشق | *** | هر دم آيد غمى از نو بَه مباركبادم |
[منذ أن تعلّقت بباب خمّارة العشق، صار يأتيني في كلّ لحظة بلاءٌ جديد، فبارك الله به مِن غم]
دور الابتلاءات في عمليّة التصفية والتزكية التدريجيّة
بخ بخ! حافظ هو الذي كان مسلّمًا، يقول قبل أن أتعلّق بالباب لم يكن أي خبر.. كان هناك اعتباريّات وموقعيّة اجتماعيّة وأمر ونهي وأمثال ذلك، لكن بعد أن صار حلقة على باب العشق (يعني صار لديه تسليم) فبعد أن صار لديه تسليم ووضع كلّ شيء ضمن دائرته، وترك أنانيّة النفس جانبًا وقال اختياري لك واختيارك لي، عندما قال ذلك، قيل له: تفضّل بسم الله! اليوم واحدة، وبعد شهرين واحدة أخرى، وبعد ثلاثة أشهر أخرى، وهكذا واحدة تلو الأخرى! عجبًا! الأولى صعبة جدًا، ثم بعد مدّة تحصل الثانية، وبعدها الثالثة، فيعتاد بعد ذلك! ويقسو جلده! فلا يشعر، ويقسو جلده إلى حدّ لا يعود يشعر بما يجري له، فإذا وصل إلى هذا الحدّ، يقال له: الآن صرت جيدًا، الآن صرت كما يريد، أنت عين ما يريده هو! صرتَ ما كان يريده منك أن تصير.
... | *** | هر دم آيد غمى از نو به مباركبادم |
[في كل آن يأتيني غم جديد فبارك الله به]
فهذا الغمّ والابتلاء الذي يأتي يقول لي: مبارك عليك، فأين جلست؟! أفهل ينال هذا الغمّ أشخاصًا آخرين؟! هذا الغمّ إنّما جاء لأجلك أنت، وقد أرسل لك خصّيصًا! وعليك أن تقول: بارك الله به من غم، وأن تحتفل له! ثم بعد ذلك يرى الإنسان أنّه يتغيّر شيئًا فشيئًا؛ فهو لم يعد نفسه الذي كان من قبل، بل صار شخصًا آخر، وتغيّر، والحال أنّك تظنّ [بحسب الظاهر] بأنّه هو نفسه؟!
وهكذا هي حال الإنسان، فعندما تكون صلاته على ماهي عليه ولا يحصل فيها تغيير، صومه هو نفسه، القرآن الذي يقرؤه هو نفسه وتوجّهه نفسه، فإذا اعتاد الإنسان على هذه الحالة يقول الله له: لقد اعتدتّ على ذلك! لا زال لديّ عمل معك! فيأتيه شيء آخر! فيضطرب حال الإنسان بذلك، ويكون من الجهة الأخرى جهاز التحكّم بيده [تعالى]، لكي يكون كل شيء له حسابه وبحساب دقيق حتى لا تنقطع هذه الرابطة ومقدار [البلاء] بيده، وفجأة يرى نفسه قد تغيّرت! وعندما يذهب ذاك الغمّ، يقول الإنسان لماذا هكذا؟ ولماذا حال الإنسان صارت كذلك؟! ولماذا صار في جوٍّ آخر؟! كلّ ذلك لأجل أنّ الله اهتمّ به، اهتمّ به إيجابًا، لا أنّه اهتمّ به عبثًا! فهو يهتمّ بأولئك الذين لديه عمل معهم وتمّ اختيارهم لذاك العالم، فيأتي بهم واحدًا تلو الآخر.
لذا كان المرحوم العلامة رضوان الله عليه يقول دائمًا: كلّما اختصّ شخص بالله أكثر، كلّما ابتلاه أكثر. وعليه فبما أنّ الأئمة عليه السلام كان لهم خصوصيّة أكبر، كان ابتلاؤه لهم أكثر! انظروا ماذا حلّ برسول الله وماذا حلّ بأمير المؤمنين وبفاطمة الزهراء وبالإمام الحسن والإمام الحسين.. فأيّ شيء لم يحصل معهم؟!
ابتلاءات الإمام الحسين عليه السلام وتجلّي الذات الإلهيّة له
عندما يرى الإنسان صحراء كربلاء يعرف بأنّ كلّ ما يخطر على بال إنسان قد جرى عليهم! ولكنّه يرى بأنّ الإمام الحسين كان يتغيّر، ففي يوم عاشوراء كان يتغيّر بين ساعة وأخرى، كان وجهه يزداد إشراقًا، مع أنّه إمام ولم يتغيّر من هذه الجهة، فهو إمام، فنفس الإمام لديه حساب مع الله لا نعلمه نحن! الإمامة بمحلّها؛ ونحن لا علم لنا بما يعدّه الله للإمام من خلال ذلك.
لذا الإمام الحسين عندما وقع على تراب كربلاء ظُهر عاشوراء، كان مختلفًا عنه في صبح عاشوراء! فأين كان قد وصل؟! لا يمكن القول بأنّه أين هو أصلًا، وهذه مسألة عجيبة جدًا! إذ كيف ينبغي على الإمام أن يتجاوز هذه الأمور الواحدة تلو الأخرى، فهل التضحية بعليّ الأكبر أمر سهل؟! هل الأمر لعب؟! وكذا عليّ الأصغر بهذه الوضعيّة وهذه الحالة.. والمسائل التي جرت على إخوته واحدة تلو الأخرى وعلى أهل بيته وعلى أصحابه! هناك عبارة سمعتها من المرحوم العلامة، وهي أنّه كانت هناك علقة بين سيّد الشهداء وبين حبيب بن مظاهر، بحيث إنّ حبيب عندما وقع على وجه الأرض كان الأمر صعبًا على سيّد الشهداء، حتى من الناحية الظاهريّة؛ فالنفوس لديها تعلّق، يعني كان لحبيب حساب آخر من بين الأصحاب. فهل هذه الأمور لا أثر لها كالحائط؟! كلا! بل كلّ شيء له حساب خاصّ، حبيب له أثر خاصّ؛ نعم نفس ما سيصل إليه حبيب فهو محفوظ في مكانه؛ ولكن الكلام عن ذاك الأثر الذي يتركه في نفس الإمام سيّد الشهداء عندما يرحل حبيب. وكذا المكانة والمقام الذي سيصل إليه أبو الفضل محفوظة في مكانها؛ ولكن نفس فَقده له أثر؛ حيث قال: الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي! لم يكن يكذب! بل كان كلامه صحيحًا! ولكنه يستقبل هذا الغمّ بالترحيب والمباركة! ففقْد حبيب يتلقّاه بالتبريك والترحيب، ويتبارك بفقد عليّ الأكبر! والمطالب التي تنقل عن المرحوم السيّد الحداد ويُعترض عليها ويُشكل عليها هي هذه! فالغم غمّ، وهو تعلّق يوجب البكاء والدمع واحتراق القلب، فهذا له مكانه الخاص، ولكن علينا أن نرى الوجه الآخر للعملة، وهو أنّه ماذا فعل هذا الغمّ بنفس الإمام عليه السلام ومقامه؟ هذا هو الوجه الآخر للعملة. ماذا فعلت به التضحية بعليّ الأصغر! والتضحية بعليّ الأكبر! والتضحية بالإخوة! وأما المسائل التي حصلت فيما بعد، فهو يراها أيضًا؛ المسائل التي جرت على أهله ومسألة الأسر وإلى أين ستنتهي، وكيفيّة دخولهم على مجلس ابن زياد، وكيفيّة دخولهم على مجلس يزيد.. جميع هذه المطالب ـ لا أنّ الإمام يراها فحسب ـ لديها حضور في نفسه! فالإمام لديه حضور عينيّ، لا أنّ لديه اطلاعًا عاديًّا؛ لذا كان يقول للسيدة زينب افعلي كذا وافعلي كذا! وهكذا أوصى الإمام السجّاد. فجميع هذه الأمور ستأتي إلى أن تصل إلى حين وقوع الإمام على الأرض وانتهاء الأمر، وعند ذلك لا يعلم الإنسان ماذا جرى!! عند ذلك انتهى الأمر! فلا يوجد بعد ذلك شيء، وهو أمر لا يوصف! يقول المرحوم العلامة عن تلك المرتبة بأنّها تجلّي الذات بتمام جهاتها بعد الظهر من يوم عاشوراء عندما وقع الإمام على الأرض، في ذلك الوقت حصل تجلّي للذات، فهذا الأمر يعلمه الأولياء، أما نحن فلا نعلم، بل هم الذين يعرفون ماذا هناك!
لماذا ذلك؟ لأنّه حصل هذا الأمر للإنسان شيئًا فشيئًا، فقد جرى تبديل حاله بشكل تدريجي إلى حال آخر. وعليه فالسلوك يعني هذا، السلوك يعني أن يتبدّل الماء الأسود في الكأس والماء الملوّث.. لا نقول بأنّه ماء أسود، وانما كدر، فهذا الماء الكدر تضعه في المصفاة وتصفّيه في مصفاة بعد مصفاة.. تأتي مسألة تربويّة في أمر فتتجاوزها ولا تتوقّف عندها.. وهكذا تأتي الواحدة تلو الأخرى إلى أن تجعله صافيًا، وعندما يصير صافيًا وشفافًا بشكل كامل، عندئذٍ يكون المقام مقام التجلّي، ويأتي ذاك التجلّي ويمحو الإنسان ويجعله فانيًا في ذلك العالم.
نسأل الله أن يقسم لنا ذلك إن شاء الله، عجبًا يا له من مكان! رزقنا الله جميعًا، وإن شاء الله يرزقنا فعلًا! ولماذا لا يرزقنا؟! وأيّ استبعاد في ذلك؟! في أن يعطف علينا نحن عباده الفقراء والمساكين؟! فهل يقلّل ذلك من عظمة الله؟! فنحن نريد ذلك. ولكن يقول الله لنا: أنتم تطلبون ذلك مجازًا! فنقول: يا رب نحن نطلبه بالمجاز، لكن اقبل ذلك منّا وبدّله إلى حقيقة! فلماذا أنت ربّ؟! إذا كان المفترض أن نطلب ذلك حقيقة لكان وضعنا صحيحًا، ولكان انتهى الأمر سريعًا! لكن نحن نطلب ذلك منك مجازًا، وقلوبنا مأنوسة بالمجاز، ففي النهاية لا نقول شيئًا آخر ومسائل أخرى، وعلى الأقل نقول ذلك، وهذا الأمر أنت الذي وفّقتنا إليه! فاجعل جميع هذه المجازات التي لدينا حقيقة وأبدلها إلى حقيقة بكرمك!
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد