المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1438
التوضيح
هو العليم
محدودية تفكير العوام مقابل فهم أولياء الله
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۸ هـ ق - المحاضرة الاولي
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد
وعلى أهله الطيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
«ولو خفت تعجيل العقوبة لاجتنبته لا لأنّك أهون الناظرين وأخفّ المطّلعين، بل لأنّك يا رب خير الساترين وأحكم الحاكمين وأكرم الأكرمين».
بيان فقرة الدعاء:
لو كنت أخاف من تعجيل عقوبتك عليّ، وكانت مسألة تعجيل العقوبة قد أخذت مكانها في وجودي، لما سعيت قطعًا خلف المعصية؛ لأنّه لو كان هناك خوف لما سعيت للمعصية؛ فمن يكون لديه خوف وقلق وتشويش خاطر لا يذهب إلى الذنب حتمًا، ومن يذهب نحو الذنب هو الذي لا يكون لديه توجّه وخوف، ولا مكانة لهذه المسائل عنده؛ ﴿إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا﴾۱.
وعدم خوفي لا من جهة أنّه لا إشراف لك عليّ، وأنّك مشغول بأمورك لا اطلاع لك على عبادك، بل لأجل أنّك أفضل ساتر للعيوب وأفضل حاكم في أعلى مرتبة من الكرم والمجد والعظمة والعفو.
نعمة التوفيق لإدراك شهر رمضان
نحمد الله تعالى أن وفّقنا مرّة أخرى لإدراك شهر رمضان، وينبغي علينا أن نعرف قيمة هذا الأمر وقدره. لو كان عمرنا مثلاً قد انتهى قبل أسبوع من شهر رمضان فماذا كنا سنفعل؟ لن يكون شهر رمضان هذه السنة من نصيبنا، أو مثلاً متنا قبل شهر رمضان بيومين، أليس هناك أناس ماتوا؟ كم من الأشخاص ماتوا بالأمس؟ هنا في إيران! كانوا مرضى، لم يستطيعوا أن يدركوا شهر رمضان! سواءً كانوا يرغبون بذلك، أم أنّهم غير ملتفتين أساساً لذلك ولا تفرق المسألة لديهم. ينبغي علينا أن نهتمّ بهذا التوفيق الإلهي الذي منحنا الله تعالى إياه وهو إدراكنا لشهر رمضان؛ يعني أنّ الله يقول لقد بسطت لك هذه المائدة مرّة أخرى في هذه السنة بالإضافة إلى الموائد في السنوات السابقة، والباقي عليك أنت!
التوجه الصحيح لموضوع عمر الإنسان
إنّ توجّهنا بالنسبة إلى العمر الذي منحنا الله تعالى إياه ليس توجّهاً صحيحاً، وإدراكنا له ليس إدراكاً صحيحاً. فغاية ما يصل إليه إدراكنا له ـ هذا إن كنا موحّدين وأصحاب نظرة توحيديّة وإلهيّة وما شابه هذه الأمور ـ هو أنّ الله تعالى جعل لنا مدّة في هذه الدنيا، أياماً تلو الأخرى وأسابيع تلو الأخرى وشهوراً كذلك.. إلى أن تنتهي في أمدها في اليوم الفلاني مثلاً، ثم ننتقل إلى ذاك العالم. هذا إذا أردنا أن ننسب المسألة إلى الله تعالى!
لكن هناك حساب خاص بكل يوم منحنا الله إياه، وكل يوم له ملف خاص، وكل ساعة كذلك..
في يوم من الأيام كنت مع المرحوم العلامة رضوان الله عليه وكانت معنا والدتنا ـ رحم الله جميع أموات المؤمنين من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام وبالأخص المنتسبين لجميع الرفقاء والأصدقاء وأولياء الله الذين لهم في عنقنا حق كبير ـ، وكانت تتساهل في تناول الدواء، حيث كانت تضع حبوب الدواء الخاصّة بها داخل علبة، وكان هناك مقدار منها.. وفي يوم تشرّفت بالذهاب إلى مشهد، فقال لي المرحوم العلامة: سيد محمد محسن! تعال لأريك شيئاً. فأخذني وفتح تلك العلبة، وقال: انظر! فرأيت فيها كمية من حبوب الدواء، وقال: هذه أدوية والدتك، أقول لها تناوليها، فتأتي وتضعها هنا.. والحاصل أنّ المسألة انفضحت! ثم قال لي: صرت أناولها الأقراص وأنتظر حتى تضعها في فمها وتشرب الماء عليها حتى لا يبقى مجال للعودة. وعندما أتت الوالدة، قال لي: فلان، لا تتصوّر بأنّي أتناول هذه الحبوب ـ وكان مريضاً يتناول أدوية للقلب والضغط وغيرها ـ وأنا أحبّ أن أتناولها! هل تعلم لماذا أتناول هذه الأدوية؟ لكي أبقى معكم عدّة أيام أخرى، لكي أبقى معكم أكثر، لكي أتحدّث إليكم، وأطرح مسألة أو أمراً، وإلا فليس لدينا أيّ رغبة في البقاء في هذه الدنيا وابتلاءاتها!
هل التفتم؟ يعني أنّه كان يعيش لأجلنا نحن، ولأجلنا كان يذهب إلى هنا وهناك وإلى المستشفى لإجراء عمليات جراحية، وكان راضٍ بذلك.. كلّ ذلك لأجل أن يبقى يومين إضافيين وأن يوصل نفعًا معينًا. وهؤلاء يختلف حالهم عن الآخرين وحسابهم مختلف، إلى أن يأتي اليوم الإلهي والتقدير المبرم وتحصل المسألة بصورة أخرى.
والحاصل أنّه يوجد حساب وكتاب بالنسبة إلى هذه الأيام وهذه الساعات، فلا نتصوّر بأنّ شهر رمضان بدأ من ليلة الأحد ويستمر إلى ليلة خاصّة وينتهي عندها! لا! شهر رمضان هذا الذي قسمه الله لنا، يشتمل على جنبة أبديّة؛ فهو متعلق بذلك العالم وبما بعد موتنا، فإذا لم نهتمّ بشهر رمضان هذا الآن، فلن يكون لهذا الشهر في ذاك العالم أيّ أثر! وكذلك الحال في الأيام الأخرى والمواقف والموارد الأخرى، فهي كلّها أيام الله، وجميعها لأجل تكامل الإنسان وترقّيه..
لقد ذكرت لكم في المجلس السابق ـ الظاهر أنّه كان في جلسة عنوان ـ بأنّه ينبغي أن نعلم بأنّ هذا التوفيق الحاصل لدينا الآن لم يحصل بسهولة، إذ كان من الممكن أن نكون في أماكن أخرى، وكان من الممكن أن نكون هناك الآن؛ في العديد من الأماكن والموارد، أعم من أماكن أهل الدنيا أو المجالس التي يلقى فيها بعض المحاضرات والخطب كما سمعتموها وسمعناها وللّه الحمد، واستفدنا وإياكم بالمقدار المطلوب!!
مظلومية أهل البيت عليهم السلام
نعم، فمجالس العزاء ومجالس أهل البيت موجودة في كل مكان .. لا أعتقد بوجود من هو أكثر ظلماً من أهل البيت! فمظلوميتهم ثابتة للجميع.. فكل شخص يعمل ـ لكي يحصل على منافعه ودنياه ـ على جذب الإمام نحوه وإلى جانبه، وذلك للوصول إلى الدنيا.. دنيا الشهوات، ودنيا الاعتبارات، ودنيا التوهّمات! نجذب الأولياء الإلهيين ليمشوا خلفنا، نوظّف كلماتهم لمنافعنا، نجذب الإمام عليه السلام لكي نصل نحن إلى مقصدٍ ما وهدف معيّن. وجميع ذلك إنما هو ناشئ من الهوى والهوس والنفس، هذه النفس الأمّارة التي هي عبارة عن تنّين تبتلع كلّ شيء، وتقدّم جميع القيم فداء لها، تفدي بها جميعاً!
في زمان الإمام الصادق عليه السلام، نرى أنّ أبناء الإمام الحسن ـ نعم هؤلاء السادة المعمّمين وأبناء عمّ الإمام الصادق.. ماذا تحمّل الأئمّة عليهم السلام من هؤلاء، والأمر كذلك دائماً ـ قاموا على الخليفة وقالوا له: الحكومة لنا نحن، والخلافة لنا، فنحن أبناء النبيّ، فمن يكون بنو العباس حتى يأخذوا حقّنا، ويا أيها الناس هبّوا وانصروا أبناء النبيّ!
فحتّى وإن كنت من أبناء النبيّ فاجلس في منزلك، فلماذا تجيّش الناس وتعرّضهم للقتل؟ فهل أبناء النبيّ يقدّمون الناس ليعرضوهم على السيف؟! هل النبيّ قال لك ذلك؟ أم أنّ جبرائيل نزل عليك؟!
ـ نحن أبناء النبيّ!
حسناً! أنت من أبناء النبيّ ونحن نحترمك ونقدّرك! لكن اجلس في مكانك وقم بما ينبغي عليك، ولا تثير الفوضى في البلاد!
ـ نحن أبناء النبيّ، ونريد أن ننهض ونأخذ الحكومة من بني العباس.
حسناً تخلّص من بني العباس! فكل من يمشي معك هنيئاً لكم، فإمّا أن تفوزوا وإما أن تخسروا.. لكن لماذا تأتي إلى الإمام الصادق؟ فما هذا التصرّف؟ مظلوميّة الإمام الصادق تكمن هنا! الإمام الصادق عليه السلام يقول لكم: لا شغل لي بكم، لا شغل لي لا ببني العباس ولا بكم، فإن استطعتم أن تقضوا عليهم فافعلوا!
يقولون: كلا بل ينبغي أن تمشي أنت خلفنا، فإذا مشيت خلفنا، أطاعتنا المدينة كلّها، ونحن بحاجة إليك، ويجب أن نستفيد منك لأجلنا نحن.
أن نأتي ونستفيد من الإمام! مثل المال الذي ينفق ويستفاد منه هنا وهناك، أيضاً الإمام ينبغي أن يستفاد منه.. مهما قال لهم الإمام عليه السلام: لا علاقة لي بالأمر، فأنتم تدّعون أنّكم أهل للخلافة والحكومة، فما ربطي أنا بذلك، فأنا أذهب إلى مسجد المدينة وأجلس هناك مع الأصحاب وأعلّمهم الأحكام والمسائل، كانوا يقولون له: لا يمكن ذلك، بل ينبغي أن نتولّى نحن الحكومة ونُسقط بني العباس، وأهم وسلية وأفضل وسيلة للوصول إلى هذا الهدف هو أن تأتي أنت وتساندنا!
فقال لهم الإمام: إذا لم أتبعكم فماذا؟
قالوا: نسجنك، ثم نعدمك!
كنّا نقرأ ذلك في وقت من الأوقات، وكنّا نمرّ عليها مروراً عندما كنّا نقرأ التاريخ.. رحمة الله على المرحوم العلامة كم كان يوصينا ويوصي جميع الرفقاء الطلّاب بقراءة التاريخ الإسلامي جيداً، وبرأيي من ليس ملمّاً بتاريخ الإسلام فلا يمكنه أن يفتي، حتى الفتوى لا يمكنه أن يقوم بها؛ لأنّ من أصول الاطلاع على مباني الاستنباط هو الاطّلاع على تاريخ الإسلام وكيفية تعاطي المعصومين وتصرّفهم مع الأمور وفي موارد مختلفة، وينبغي أن يكون مطّلعاً عليها، لذا كان يوصي كثيراً بقراءة التاريخ.
كنت أقرأ في هذا الموضوع بمقدار بسيط، وعندما كنت أقرأ ذلك لم أكن أصدّق، فكنت أعبر عنه سريعًا، لكن بعد أن قرأت عن المسألة أكثر رأيت بأنها أمرًا واقعيًّا! هل تصدّق أنّ أبناء عمّ الإمام الصادق وبني الحسن يهدّدون الإمام بالسجن ـ وبالفعل وضعوه في سجن، نعوذ بالله! نعوذ بالله! في مكان سيّء جداً لا أستطيع أن أذكر اسمه ـ ثم هدّدوه بالإعدام صبيحة اليوم التالي، وقالوا له: عليك هذه الليلة أن تفكّر في هذا الأمر وتأخذ موقفًا. وكانوا سيعدمونه فعلًا لو لم يأت المنصور الدوانيقي من المدينة ويتغلّب عليهم، ويُخرج الإمام الصادق من السجن، ولولا ذلك لأعدموا الإمام! نعم كانوا قد أعدموا الإمام الصادق.. هل تعرفون ما معنى الإعدام؟! يعني أن يضعوا حبل المشنقة حول عنق الإمام الصادق، أو أن يضربوا عنقه بالسيف، هذا هو الإعدام، ولا مجاملة في ذلك، لماذا؟ لأنّه لكي يصل الإنسان إلى هدفه يقوم بتبرير الوسيلة، وإن كانت هذه الوسيلة هي إعدام الإمام! ما المشكلة في ذلك، بل هو مستحب مؤكّد ومن أوجب الواجبات!! قتل الإمام الصادق عليه السلام يصير واجباً ومستحباً!! نعم، يمكننا أن نفتي ونحن نعرف ذلك تماماً.. كان الله بعونناً واقعاً، كان الله بعوننا لنرى إلى أين يوصلنا هذا الطريق الذي نسير عليه؟!
عندما يأتي هارون ويضع الإمام موسى بن جعفر في السجن، فهو من بني العبّاس وحاله واضح، وعندما يأتي المأمون ويقتل الإمام الرضا في تلك القصة المعروفة، فهذا ممكن؛ إذ هو خليفة فاسق وفاجر.. وإن كان بعضهم الآن يرى في كتاباته أنّه كان من الخلفاء العدول!! لو خرج من رأس الإنسان أكثر من قرن بسبب هذا الكلام لما كان ذلك عجباً!! يقولون عن هارون بأنّه عادل!! لقد ترك الجميع وذهب إلى هارون! لو قال عمر بن عبدالعزيز أو شخص آخر .. لكن ذهب إلى أقسى خليفة وأشقى وأظلم خليفة! حيث إنّ أكثر أولاد النبي الذين قتلوا في عصر الخلفاء كانوا في زمان هارون، وفي زمان هذا المأمون نفسه، أكثرهم قتلوا في هذا الزمان، كانوا يقتلون العشرات والعشرات ويضعونهم في الآبار.. هل هذه من العدالة؟!! ربما تكون هذه هي العدالة نحن لا نعرف! قد يكون لدينا تصوّر آخر عن العدالة! قتل الناس وظلمهم ومطاردة ذريّة موسى بن جعفر و... كلّها من العدالة، نعم هذه هي العدالة! لا نعرف كيف يفكّرون! عفى الله عن تقصيرات الجميع. كان هؤلاء من الخلفاء العادلين! إذا كان الأمر كذلك، فقل لي من هم الظالمون إذن؟! إذا كان هؤلاء من عدول المسلمين وشهادتهم مقبولة! بل ربما كانت شهادتهم تعدل شهادة عدلين!! [ضحك]
ولكن أن يأتي بنوا الحسن ويفعلون ذلك - والحال أنّهم لم يكونوا كهارون وأمثاله، بل كانوا من بني أعمام الأئمّة - ويقولون بأنّا سنعدمك لأجل الوصول إلى الخلافة! أليس هذا استخدام وتضحية بالإمام؟! أن نضحّي بالإمام للحكومة، ونضحّي بالإمام للوصول إلى رئاستنا! ونضحي بالإمام من أجل...
كلّا! بل الإمام ناموس الله تعالى! فلا ينبغي أن يلعب الإنسان بذيل الأسد، وإلا سوف يُصفع على وجهه بشدّة بحيث لا يبقى منه أثر ولا خبر. لا ينبغي للإنسان أن يضحّي بالإمام، لا ينبغي أن يضحّي بوليّ الله للوصول إلى مطامع الدنيا الدنيّة، هذه الدنيا التي يقول عنها أمير المؤمنين لا تساوي عندي عفطة عنز۱، هذه الدنيا التي يقول عنها أمير المؤمنين لابن عباس وهو يشير إلى نعله الذي خصفها أكثر من مرة، إنّ هذه الدنيا أهون عندي من هذه النعل المخصوفة٢، والأمر كذلك. ومع ذلك نأتي نحن ونستخدم كلّ شيء للوصول إليها! نأتي إلى كلّ ما هو غير مناسب وما هو خلاف وما لا قيمة له ونضفي عليه قيمة! فبما أنّ المسألة وصلت إلينا صارت جميع هذه الأمور لها قيمة، والحال أنّه لم يكن لها إلى الآن أيّة قيمة.
كلامُ وليّ الله مشروطٌ بظرفٍ خاص
نأتي بكلمات أولياء الله وكتاباتهم وأحاديثهم وما ينفعنا في المقام... لا ينبغي أن نمزح مع وليّ الله، الكلام الذي يلقيه وليّ الله مرتبط بظروف ذلك الزمان الذي يلقيه فيه، لا يشمل زمانًا آخر وظروف أخرى! لا أن يتكلّم وليّ الله بكلمة وتأتي أنت وتحملها على ما بعد سبعمائة سنة، ما هذا الكلام؟! من أعظم الظلم والجفاء لوليّ الله أن يأتي الإنسان ويسرّي كلامه الذي ألقاه في زمن معين إلى زمن آخر، ويجعله في الظروف الأخرى والموارد المختلفة والمواقف التي لا ترتبط أساساً بتلك الظروف التي ألقيت فيها هذه الكلمة، بل يمكن أن تكون ظروفها مقابلة لها بشكل كامل.. فهذا ظلم! والأعظم من هذا الظلم هو أن يأتي الإنسان ويستخدم كلام أولياء الله في المسائل السياسيّة والدنيويّة، فهذا أسوأ حالًا.
لقد صدر من المرحوم العلامة رضوان الله عليه كلامًا مختلفًا ومطالبَ ومواقفَ مختلفة ضمن ظروف مختلفة أيضًا، لا أنّها كانت على نحو واحد.. ليس الأمر كذلك، ليس الأمر أنّه كان يلقي كلامًا يسري في جميع الأوقات إلى الأبد، وفي جميع الظروف، ولم يكن يطرح أمرًا لجميع الأوقات..
لقد كنت شاهدًا في إحدى المسائل، حيث كان يرشدنا بشكل خاص؛ في سنة من السنوات اختلفت بعض المسائل شيئًا قليلًا، واتّخذ العلّامة موقفًا مختلفًا.. فقام أحد الأصدقاء رحمة الله عليه واتصل به من إحدى المدن ـ وكان يجلس في ساحة الدار، حيث كان ذلك عصر يوم من شهر رمضان ـ فقال لي: سيد محمد محسن! اذهب وانظر من الذي يتّصل. فرأيت أنّ أحد الأصدقاء يتّصل من إحدى المدن، فقال لي: أريد أن أسأل العلّامة ماذا نفعل بالنسبة إلى هذه المسألة المعيّنة؟ وعندها تأثّرتُ جدًا لهذا السؤال! فهذا السؤال من النوع الذي لا ينبغي أن يُجاب عنه، فلماذا يتّصل أصلًا؟! ولكنّه اتصل، فنزلتُ إلى العلّامة وقلتُ له الذي جرى، وإذا به ينزعج ويغضب جدًا، وقال: ألم نوضّح نحن الأمر سابقًا؟! كم مرّة ينبغي أن أكرّر الكلام وأعيده؟! لقد وضّحت الأمر وأنتم عليكم أن تعرفوا كيف تنفّذوه، ففي نهاية المطاف، هل يمكن الحديث عن هذا الموضوع وهل يمكن أن يُقال هذا الكلام على الهاتف؟! هل يمكن أن يُذكر هذا الأمر على الهاتف؟! وقد انزعج لما حصل جدًّا جدًّا. حسنًا، ثمّ ذهبتُ وقلت له: افعل ما تراه الصلاح والصواب.
لو أنّ رأي العلّامة في ذلك الوقت هو الموافقة، فما كان ينبغي أن يقول ما قال، بل كان قال: نعم فليفعل كذا، بلى اذهب وافعل كذا وكذا. إذن، من الواضح أنّه رأيه كان مخالفًا لذلك الأمر مائة بالمائة، وقد ذكر ذلك لهذا العبد، كان مخالفًا مائة بالمائة. ثمّ بعد ذلك آتي ـ مثلًا ـ وأقول: لأنّه قال في أحد المواطن كذا، إذن فهذا هو رأيه دائمًا سواء أكان موجودًا أم غائبًا، وسواءً أتغيرت الظروف أم لم تتغيّر، وسواءً أكان حيًا أم كان ميّتًا، وبكلّ شكلٍ من الأشكال فحكم المسألة هو هذا.
لا أبدًا، الأمر ليس كذلك!! فكلام الأولياء الإلهيّين مشروطٌ بظروفٍ خاصّةٍ، وبالحال والمقام الذي جرى فيه الكلام. نعم، في بعض الأحيان يكون في كلامهم ملاكات تنطبق على الحال التي نحن فيها، فعندما يوجد الملاك ينطبق كلامه على الحالة والظرف ذاك، أما إن كان الملاك مختلفًا، فلا يمكننا أن نتذرّع بكلام أولياء الله للوصول إلى مطالبنا الدنيويّة؛ فإنّ أولياء الله ناموس الله وحريمه، ولا يمكن التلاعب بهم وبكلامهم، ولا بدّ من الوقوف عند هذا الموضوع وإعمال الدقّة فيه.
أهمية الالتزام بنهج أولياء الله وعدم التأثر بالمحيط الإجتماعي
وما قلته للرفقاء من أنّ علينا أن نشكر الله تعالى على أن جعلنا في أجواء هي من بركة أنفاس أولياء الله، فالمباني التي في هذه المدرسة ألقيت على ألسنتهم ومن نفوسهم الطيبة، فعلينا أن نشكر الله على ذلك، وإلا فهناك في الأماكن الأخرى كثير من المطالب المغايرة، ونحن نرى بأنفسنا أنّها مغايرة، ونشعر بالفرق بينها وبين هذه، فلا بدّ أن نغتنم الفرصة، وما دام الله قد منحنا هذا التوفيق فعلينا أن لا نترك فكرنا وخيالنا يسرحان في المواضع التي يسرح فيها فكر الآخرين وخيالهم، وإلا سنكون أمثالهم، وما الفائدة حينئذ؟! لن تكون هناك من فائدة! فأنت لو قصدت طبيبًا وكنت مريضًا، فكتب لك وصفة، ثمّ تضعها جانبًا وتصغي إلى ما يقوله الناس هنا وهناك، فلماذا أتيت إلى هذا المكان؟! لماذا أضعت وقتنا؟! ليتك ذهبت من البداية إلى من ترضاهم، وإلى تلك الأماكن التي تعطي وصفات أخرى وبشكل آخر! فهذا من جهة إتلاف لوقتك، ومن جهة أخرى إتلاف لوقت ذاك المسكين. فبما أنّ الله أعطاك هذه الفرصة الآن وهذا المجال فعليك أن تحسن الاستفادة منها، وما هو حسن الاستفادة؟ حسن الاستفادة هو أن نوجد لأنفسنا تلك الأجواء التي لو كان أولياء الله حاضرين لأوجدوها لأنفسهم ولنا، ذاك الجوّ الفكريّ بعينه، والجوّ العمليّ بعينه، والجوّ الاجتماعيّ بعينه، والجوّ الشخصيّ بعينه، أن نوجد لأنفسنا هذه الأجواء ثمّ نسير في ضمنها، فنسير من هنا، ولا نسير من هناك، ونتوقّف هناك أو نسير..
وقد قصصت عليكم سابقًا أنّه كان هناك رجل ـ ولا يزال على قيد الحياة نسأل الله أن يحفظه ـ كان له تصوّر معيّن في ذلك الزمان، كان له تصوّر خاصّ حول المرحوم العلاّمة، وذلك في الزمان السابق، قبل تلك الأحداث وقبل الثورة، فنحن كنا نرى أنّ للمرحوم العلاّمة نهج خاصّ وحركات خاصّة وسكنات خاصّة وسكوت خاصّ، فلم يكن هذا الرجل يحتمل ذلك كما ينبغي، لماذا؟ لأنّه كان لديه هذه المشكلة، وهي أنّه لم يكن يعلم ما هي أجواء العلّامة، لأنّه لم يكن يعلم في أيّ جوّ هو، لذا تراه كان يتحرّك مع أجواء المجتمع ذهابًا وإيابًا، فيميل مع المحيط، ويندفع سريعًا مع الجوّ المحيط فينزعج معهم، ويحصل على الانبساط مع الجوّ المحيط، ويتكدّر خاطره مع الجوّ المحيط.
يا عزيزي!! أين أنت؟! هل أنت بخير؟! هل أنت سالم؟! هل أنت مريض؟!
إنّك بجانب شخصٍ من قبيل العلّامة، فكيف تجعل الجوّ العام يأخذك؟! أين جعلت فكرك يذهب؟! أين تدور وتذهب؟! لقد أصبحت مثلك مثل الناس الذين في الشارع، حيث تراهم يتحرّكون ويُلقون بعض الكلمات فيتحمّسون ويعلو صراخهم!! خاصّة في ذلك الزمان، إذا كان الإخوة يتذكّرون، نحن نتذكّر تلك الأحداث، فالعديد منكم ـ ما شاء الله ـ من الشباب، ولم تروا تلك الأزمنة، ولكن على كلّ حال المسنّين [يتذكّرون].
لا تقولوا عني أني أصبحت عجوزًا، لا لست عجوزًا، وإنما صار عمري كبيرًا بعض الشيء فقط [يقولها ممازحًا]، ولكنّني لم أصبح عجوزًا، لا سمح الله أن أكون كذلك، أليس كذلك؟!
مع ذلك فهذه الخاطرات هي خاطرات جيّدة، لأنّه يمكن أن نأخذ منها عبرةً جيّدةً، عبرةً جيّدةً! وانظروا الآن إلى أين وصلت الأمور، حيث يأتي الشيطان ويأخذ الإنسان في جوٍّ وفضاءٍ بحيث يشعر الإنسان بأنّ لديه تكليف ومسؤوليّة! فلا يمكنه عندها أن يرى استقراره وجلوسه مع وليّ الله وحديثه معه كافيًا بالنسبة له، واويلاه، يعني: عمل الإنسان هنا يخرب.
افرضوا أنّ شخصًا عند الإمام المجتبى عليه السلام فيقول له: قم على معاوية، قم وانهض.
يا عزيزي اجلس فأنا من يحدّد هل تحارب أو لا تحارب.
حينما يكون الإمام المجتبى بجانبك فلمن تقول: قم وحارب؟! لو قال لك: أنا لا أريد أن أحارب، ولا أريد مواجهة أحد، لا أريد الحرب، بل أريد أن يبقى معاوية على رأس الحكم.
طبعًا هو لا يقول ذلك، ولكن ما شأنك أنت إن جلس أو قام للحرب؟! هل أنت الإمام أم هو الإمام؟! ففي النهاية وضّح الأمر لنعرف تكليفنا، هل تقصد أن تقول: أنت الإمام ولكن في هذا الموطن عليك أن تمشي معنا وتتبعنا؟!
ما معنى هذا الكلام؟! إذا قال الإمام المجتبى عليه السلام: "أريد الصلح" فقد انتهت المسألة، انتهت. فما الذي جرى في هذا المخّ الفارغ حتّى تفكّر بأمرٍ آخر رغم صدور أمر الإمام في الموضوع، ماذا يوجد داخل هذا الدماغ؟!
الفهم الظاهري للعوام ومحدوديّة تفكيرهم
أذكر أنّه في يومٍ من الأيّام... لكن هذا الأمر يحتاج إلى توضيح وإن شاء الله يعدكم هذا العبد بتوضيحه عند التعرض لمصطلح الماديّة الإسلاميّة، فهناك يكون الإنسان في جوٍّ يصبح فيه الظاهر ـ وهذا الأمر يتعلّق بموضوعنا هنا ـ يصبح فيه الظاهر بحكم الواقع والباطن، وما هو الظاهر؟ هو عبارة عن التصوّرات، والخيالات، والاعتباريّات، والتوهّمات، اجتماع الناس والشعارات والأعلام، والنداء عليه: يا فلان تعال وافعل كذا... ، وكل هذه الأمور تأتي وتحلّ محلّ العقل والتعقُّل والعقلانيّة، ومحلّ الفهم والشعور والإدراك والواقع، هذا هو الظاهر. وهذا الظاهر أيضًا لا يبقى بنفس الشكل، فلم يضمن أحدٌ ذلك، لم يقدّم أحد شهادة الضمان على أن يبقى الظاهر كما هو دائمًا، فترى الظاهر في يومٍ على نحوٍ معيّن، وفي اليوم التالي ترى الظاهر قد عاد وأصبح مقابل الظاهر الأوّل، نظير ماذا؟ نظير قصّة مسلم بن عقيل!!
ما كانت قصة مسلم بن عقيل؟
حينما جاء مسلم ازدحم الناس عنده وبايعه ثلاثون ألف شخص.
أصلًا لم يخجلوا، فعلى الأقل لا تبايعوه من البداية، لا تبايعوه، لأنّ البيعة معناها أنّي سأقف معك للأخير، إلى انتهاء الأمر.. كنت اقتصرت على أن أتيت وصلّيت خلفه الصلاة ثم ذهبت إلى منزلك [بلا بيعة]، ولا بأس، أمّا أن تأتي وتبايع وتضع يدك بيده: بأنّي معك وسأكون في جيشك، وسآتي وسأفعل كذا وكذا.. مع الإمام سيّد الشهداء، احتشد ثلاثون ألف رجلٍ.
طبعًا فإنّ حضرة مسلمٍ لم يُخدع بهذه الأعداد، فهو كان أعلى من ذلك، أفُقُ فهمه كان أعلى من ذلك، ولذا حين ننظر إلى تصرّفاته نجد هذه الحقيقة، ونرى صحّة تصرّفه، أمّا لو كان مسلم مثلنا لكان أنجز تلك الخديعة بابن زياد في بيت هانىء بن عروة، فهي في أفضل وقت وفي أفضل فرصة، وكان الأمر قد انتهى وخلعه من الحكم، والإمام الحسين يأتي في الطريق، ويكون الأمر قد انتهى.
ولكن لمّا كان مسلم يُفكّر في أفقٍ أعلى من ذلك، لذا يرى أنّ الأمور متجّهة للتبدّل والتغيير. وذلك الظاهر الذي بواسطته أتى كلّ واحدٍ منهم للبيعة تلو الآخر [سيتغير ويتبدّل]..
لو أنّ أحدكم نظر إلى السماء وصار ينظر إلى غيمةٍ ويقول: في هذه الغيمة شيءٌ ما، لصفّ بجانبك شخصٌ آخر ينظر معك، يأتي الثالث ويرى أنّ هناك شخصان ينظران للغيمة فيقول: لا بدّ أن يكون هناك خبرٌ ما، فيصبحون ثلاثة، ثمّ الرابع والخامس، وبعد قليل تجد أنّ جيشًا من الناس يقف هناك ينظر إلى الغيمة، وهم لا يعلمون لماذا؟ هذا بجانب هذا، وذاك بجانب ذاك، حتى يصبحوا جيشًا، هكذا تحصل الأمور، صدّقوا أنّ الأمور تحصل هكذا.
وبيعة مسلم كانت بهذا النحو، فاجتماع الناس كان كمن اجتمعوا عند من ينظر إلى الغيمة، ثلاثون ألف شخص كالذين وقفوا ينظرون إلى الغيوم! كالحمار، حمار. كيف جاؤوا؟ ينظرون من أتى مع مسلم، وضع مسلم في تحسّن! بالأمس كان يصلّي خلفه صفّ واحد والآن صار صفّين وغداً صار أربع أو خمس صفوف. يقولون لهذا وذاك تعال. هكذا تجمعوا بدون أساس. كل ما في القضية هي هذه الإعلانات، هذه الصور والدعايات، خالية من الداخل لا يوجد فيها شيء. عشرة أشخاص صاروا عشرين شخصًا، عشرون صاروا مائتي شخص، مائتين صاروا مائتي ألف شخص، مائتي ألف صاروا عشرين مليونًا، وما شئت فسَمِّ .
كلهم يملكون مقدارًا محدودًا من الفهم والإدراك، لا أكثر. فإذا اجتمع شخصان فلا ينتج زيادة في الفهم، بل هذا المقدار المحدّد من الفهم [وأشار بإصبعيه الإبهام والسبابة]. ثلاثة أشخاص ينتج عنهم نفس هذا المقدار، لا يصبح بمقدار عشرة سنتمترات، لا يصبح بمقدار ثلاثين سنتمتر، بل يصبح لدينا ثلاثة أشخاص بمقدار فهم خمسة سنتمترات أو عشرة أشخاص بمقدار فهم خمسة سنتمترات، مائة شخص بمقدار فهم خمسة سنتمترات، مليون شخص بمقدار فهم خمسة سنتمترات، فَهمُنا نحن كلنا بمقدار خمسة سنتمترات.
أُفق فهم الوليّ مطلق وغير محدود
يجّب أن نتّبع من يكون فهمه بلا نهاية. من هو؟ إنه وليّ الله. ففهمنا نحن ليس بلا نهاية، فهمنا هو بمقدار خمسة سنتمترات ولا يزيد. نعم لو ذهبنا إلى ذلك الجوّ فإن فهمنا سوف يزيد حينئذٍ.
جاء شخص إلى سماحة المرحوم السيد العلّامة، ذكر لي العلّامة نفسه هذه القصة، أنه جاء إليّ شخص – وما زال على قيد الحياة – ويقول: لماذا أنت جالس؟ -وكان ذلك في زمان ما قبل الثورة- كلّ الأمور من المسجد والمنبر وهذه الكتب والدعايات لأيّ يوم تدّخرونها؟ تفضّلوا فالآن هو الوقت المناسب والمجال مفتوح! - قلت في نفسي: لا أدري هل يضحك الإنسان على حال هؤلاء أم يبكي؟ كيف يمكن أن يسلب الله الفهم من شخص لهذه الدرجة؟ فعلاً عجيب هذا الأمر! - فلأيّ يوم إذن تريدونها؟ كلّ هذه المحاضرات والدعايات والأخبار والمواضيع عن رسول الله والأئمة لأيّ زمن هي؟ إذا كانت للإسلام فتفضّلوا هذا الإسلام! لماذا تبقى جالسًا؟ لماذا لا تقوم من مكانك؟ لماذا لا تقولون للناس؟ لماذا لا توصون طلاّبكم أن يشاركوا في تلك الأحداث التي يشارك فيها المجتمع؟ لماذا؟
كيف يجب على المرحوم العلّامة أن يجاوبه؟ يقول له تعال نتبادل أماكننا، اجلس أنت في مكاننا، جيّد، اجلس أنت في مكاننا. لم يكن بمقدور المرحوم العلاّمة أن يقول له أيها الأحمق! أيها الحمار! ما يراه الشاب في المرآة الصقيلة فإن الحكيم يراه في الحجر الأصمّ. لا يستطيع أن يقول له هذا. لماذا؟ لأنه لا يستطيع أن يتقبّل. دخل في جوّ معيّن لا يستطيع أن يخرج منه، لا يستطيع أن يُخرج نفسه من هذا الجو.
ولكن على الأقلّ اعلم أنّك مع حضورك في كل هذه السنوات ومع رؤيتك لكلّ هذه المسائل، لماذا لم تترك منها شيئًا للآن؟ لماذا لم تستفد منها الآن؟
ألا تستطيع حتى أن تحتمل هذا الاحتمال! وهو إن كانت المسألة مسألة دين فهذا الشخص يعرف الدين أكثر منّي. وإن كانت المسألة مسألة إنصاف ووجدان وأمانة فهذا شخص منصف وأمين ومؤتمن على تبليغ دين الله، مؤتمن على شريعة الله، مؤتمن على الرسالة الإلهيّة، مؤتمن على الوحيّ الإلهيّ. فبهذا المقدار يمكنك أن تحسب اثنان زائد اثنان تساوي أربعة! لماذا لا تحسبها؟
فجميع هذه الأمور تتنحّى جانبًا، ويحلّ محلّها هذا الظاهر والحسّ والخيال والأوهام؛ فلا تترك المجال لأيّ شيء آخر، فيأتي صاحبنا، ويبدأ في طرح الإشكالات: لماذا لا تنهض؟ لماذا لا تُقدم على أيّة خطوة كما يفعل الآخرون؟ فيُجيبه [المرحوم العلّامة]: يا عزيزي، حينما كنت أنتَ تُمضي أيّامك في أمور غير معلومة، كنّا نحن عاكفين على العمل! فأصل هذه الأمور [التي تتحدّث عنها] قام على أكتافنا نحن! وقد تحدّث المرحوم العلاّمة عن نزر قليل من ذلك في كتاب «وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام»، كما أنّه لا زالت تحضرني أيضًا العديد من المسائل التي شاهدتها شخصيًّا في فترة طفولتي، والتي أتذكّرها الآن بشكل واضح وضوح الشمس في رائعة النهار.
فأين كنتَ أنت في تلك الأيّام التي قُصمت فيها ظهورنا لأجل هذا الطريق، وتجرّعنا بسببه الغُصص، وفعلنا ما فعلنا؟! بينما جئت تُحاكمنا على ما تراه الآن!
ولكنه لا يقدر على الاستيعاب؛ ولهذا، يتحيّر في أمره، ويشرع في طرح الإشكالات؛ لذلك، يقول له المرحوم العلاّمة: لقد أضحيت مثل التفّاحة التي أكلتها الدود! فعندما يهجم الدود على التفّاحة، يُصبح باطنها فاسدًا، ولا تستطيع أن تُخلّص نفسها؛ لأنّها تآكلت من داخلها، وفسدت من داخلها وبالتالي فقدت تلك النضارة واللطافة والحياة التي منحها الله تعالى إيّاها.
وماذا سينتج عن ذلك؟ سينتج عنه أنّه وبمجرّد تغيّر الأمور، وتبدّل الأحداث عما هي عليه، ترى نفس ذلك المعترض على المرحوم العلّامة يتّخذ موقفًا مخالفًا مائة وثمانين درجة لما كان يتحدّث عنه هو نفسه سابقًا؛ فما الذي حصل؟! فقد كنت تتحدّث بهذا الشكل! وكنت تعترض، وتنتقد، وتقول [للمرحوم العلّامة]: «متى ستعمل لمصلحة للإسلام؟!»، فلماذا تتحدّث الآن بمثل هذه الأمور؟! فإمّا أن تختار هذه الجهة، وإمّا أن تختار الجهة الأخرى، لكنّك لم تثبت على كلامك ولا على أفعالك ولا على... .
إنّ هذا النوع من الناس يُعاني من نفس المشكلة؛ وهي أنّهم لا يعرفون قدرهم بالمقارنة مع وليّ الله تعالى! هذه هي حقيقة المسألة، فهم لا يفرّقون بين من نكون نحن، ومن يكون هو؛ وما هو مقدار الفهم الذي نملكه نحن، وما هو الأفق والعالم الذي ينظر منه هو، وبأيّة وتيرة؛ فنحن لا نقدر أن نرى أمامنا أكثر من متر واحد، بينما هو يستطيع النظر إلى ما لا نهاية؛ ونحن لا نتعدّى في الرؤية هذه اللحظة، بينما هو يرى ما سيقع بعد عشر سنوات، وعشرين سنة، وثلاثين سنة؛ ونحن نختار طريقنا الآن وفقًا لظروف معلولة لعلل غير اختياريّة، بينما هو ينظر لتلك السلسلة من العلل التي تتحكّم في هذه المسائل والأحداث والوقائع؛ ومن هنا، كان المرحوم العلّامة يقول: إذا أدّيتَ سجدة الشكر إلى يوم القيامة على أن وفّقك الله تعالى لهذا الطريق، فلن تكون قمت بشيء ذي بال! ما هو السبب في ذلك؟ لأنّه إذا لم تكن تلك المنّة التي امتنّ الله بها علينا، وتلك النعمة العظمى التي منحنا تعالى إيّاها، وتلك الكرامة التي تفضّل بها علينا، لو لم تكن موجودة في غير هذه المدرسة لما كان بالإمكان الحصول عليها أبدًا إلى يوم القيامة! لماذا؟ لأنّ فهمنا لا يتعدّى خمسة سنتمترات، ونحن بهذا المستوى من الفهم لا نستطيع التقدّم، وبلوغ مقام الإطلاق الذي لا حدّ له، بل سنبقى في دائرة هذه السنتمرات الخمس، ونُمضي أيّامنا وأعوامنا بهذه السنتمرات الخمس، وندرس في ضمنها، ونُحصّل العلوم الدينيّة في نطاقها، ويظهر عليك أنّك عالم في إطار هذه السنتمرات الخمس، لا أكثر، وتشيب في دائرة هذه السنتمرات الخمس، وتتحدّث مع الناس من خلالها؛ وهكذا إلى آخر المطاف، وانتهاء المهلة الممنوحة لك؛ فلن تتغيّر هذه الخمسة سنتمرات إلى ستّة أبدًا، اللهمّ إلاّ إذا أخذ ذلك الوليّ الإلهيّ بيدك؛ ولهذا السبب، علينا أن نُدرك قدر هذه النعمة التي منحنا الله تعالى إيّاها؛ وطريق ذلك غير بعيد؛ لأنّنا نرى بأمّ أعيننا الآثار المترتّبة عليها، وهي أمور واضحة جدًّا، بل وأوضح من الشمس! حيث إنّ صدق كلام العظماء وما ذكروه من مسائل هو واضح لدينا وضوح الشمس في رائعة النهار!
والآن فقط يُمكن لنا فهم سبب تعامل بني الحسن مع الأئمّة عليهم السلام بذلك النحو، ولماذا تعاملوا بتلك الطريقة مع الإمام الباقر، والإمام الصادق، وحتّى بقيّة الأئمّة عليهم السلام، والآن فقط نستطيع أن نُدرك لماذا كان يتلاعب بعض الناس بكلام العظماء والأولياء، ويسحبون الأمور إلى هذه الناحية وتلك، ويجرّون المسائل والمطالب إلى موضع ميولهم ورغباتهم، ناسبين إيّاها إلى العظماء.
وأمّا بالنسبة لنا نحن، فعلينا أن ندعو الله تعالى أن يشملنا بألطافه الدائمة، وأن يفتح أعيننا على تلك المسائل التي تحدّث عنها العظماء، والمطالب التي وضعوها بين أيدينا، وأن يُخلّص وجودنا من حالة العناد، حتّى نستطيع فهم هذه المسائل والمطالب؛ لأنّه إذا لم نتمكّن من ذلك، فإنّ أمرنا سيؤول إلى ما آل إليه أمر ذلك الرجل الذي مهما كان يُقال له من كلام، فإنّه لم يكن يُصغي إليه، ويعمل بما يراه هو؛ إلى أن قيل له: «لقد صرت مثل التفّاحة التي أكلها الدود!»، لماذا؟ لأنّه وضع حجابًا على فهمه وإدراكه.. يا عزيزي، إنّ هذا الجالس معك، ويتحدّث إليك، ولا يفصله عنك إلاّ مترين هو وليّ الله! لكنّك تجد فهمه يدور في فضاء آخر، ونفسه تجول في أجواء أخرى؛ ولهذا، مهما تحدّثت معه، فإنّه لا يُفيد، بل حتّى لو جاء الإمام الصادق وتحدّث معه، فإنّه لن يُفيد؛ وهكذا الأمر بالنسبة للإمام الرضا؛ فلا تظنّوا أنّه إذا جاء الإمام الرضا عليه السلام، فإنّ الأمر سيختلف؛ لا يا عزيزي!
فلو جاء الإمام الرضا بدل الإمام الصادق لأعدموه هو أيضًا، مثلما أرادوا أن يفعلوا مع الإمام الصادق، ووضعوه في السجن، ثمّ قالوا له: إذا لم تبايعنا وتتحالف معنا، سنعدمك! فهل هذا هو الإسلام؟! وهل هذا هو مقتضى الانتساب إلى ذريّة الرسول؟! وهل هذا هو مآل الانتساب إلى الأولياء؟! ولهذا، علينا أن ننتبه كثيرًا؛ لأنّ المسألة دقيقة ومهمّة جدًّا، وعلينا أن نرجو الله تعالى أن يمنحنا في هذا الشهر المبارك ـ الذي وفّقنا لبلوغه ـ تلك المواهب الخاصّة التي اختصّ بها أولئك الأفراد الذين يقتفون أثر هذه المدرسة، وأمّا بالنسبة لبقيّة الأفراد، فلهم حظوظ مختلفة، بحسب مقدار الصفاء الذي يمتلكونه، بخلاف الذين يقتفون أثر هذه المدرسة والمباني، حيث يقول الله تعالى لهم: حسن جدًّا، إذا كان الأمر كذلك، فإنّ ما أمنحكم إيّاه هو بهذا المستوى، لكن، عليكم أن تنتبهوا؛ لأنّه ينبغي عليكم الوفاء بمجموعة من الالتزامات والتكاليف الخاصّة، ونحن في المقابل، خصّصنا لكم حظًّا ونصيبًا خاصًّا أيضًا؛ فتفضّلوا على بركة الله، فهذه الكُرَة، وهذا الميدان۱.
إن شاء الله تعالى يُوفّقنا جميعًا للإستفادة القصوى من النعم والبركات الإلهيّة الممنوحة في هذا الشهر.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد