المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةمباني الأخلاق
التوضيح
وهي محاضرة ألقاها المرحوم العلامة آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني رضوان الله عليه في الليلة التاسعة عشر من شهر رمضان سنة 1397 هجرية في مسجد قائم في طهران، وقد تناول فيها تفسير وشرح سورة القدر وأن القرآن قد نزل مرتين مرة بشكل دفعي في ليلة القدر ومرة أخرى تدريجي في سائر المناسبات، وأن القدر يعني التقدير من عالم الملكوت إلى عالم الطبع، ومعنى كونها خيراً من ألف شهر، وأنها سلام حتى مطلع الفجر... وقد قدّم لها سماحة السيد محمد محسن الطهراني قدس سره بمقدمة ذكر فيها بعض الوصايا حول شهر رمضان وكيفية الاستفادة القصوى منه...
هو العليم
فضيلة ليلة القدر
مجلس الليلة التاسعة عشر من شهر رمضان المبارك (ليلة القدر) عام ۱٣٩۷ هـ
ألقاها في مسجد قائم
سماحة العلامة آية الله الحاج السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
قدس الله نفسه الزكيّة
الحمد لله رب العالمين
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
مقدمة تشتمل على وصايا سماحة آية الله السيد محمد محسن الطهراني حفظه الله
في كيفية الاستفادة من شهر رمضان
المستفاد من روايات و أحاديث المعصومين عليهم السلام أنّ ما يميّز شهر رمضان المبارك ويعطيه القيمة والشأن هو وجود ليلة القدر فيه، فهذه الليلة هي التي رفعت شهر رمضان وفضَّلته على الشهور.
وشهر رمضان هو أحد أهمّ المِنن الإلهيّة التي تفضّل الله بها على عباده كل عام؛ فهو محفوف بآثار الصيام وبركاته التي يزداد معها ارتباط العبد بربّه؛ لما يؤدّيه هذا العمل من قطع للتعلّقات الحيوانيّة، بينما يقلّ نصيبه من ذلك في سائر الأوقات؛ ولذا نجد أنّ العظماء من أهل المعرفة كانوا يقضون الأشهر الثلاثة ـ رجب و شعبان و رمضان ـ صائمين، كما يُنقل ذلك عن رسول الله صلّى الله عليه وآله و سلّم أيضاً.
إنّ هذه الظروف هي التي تعِدّ الإنسان وتهيّؤه لتلقّي النفحات القدسيّة؛ فمن المشهود الملموس بوضوح ما يرافق أوقات الجوع و الصيام من اجتناب للمعاصي، وابتعاد عمّا يسخط الله، ومن تجرّد للنفس عن الشهوات والغَفَلات.
وعلى السلاّك إلى الله أن يلتفتوا إلى قيمة هذه الأشهر الثلاثة وخصوصاً شهر رمضان المبارك، و يبالغوا في الاهتمام بمراقبة الأفعال والأقوال والأفكار، فالمراقبة الأشدّ توجب تجرّداً للنفس، ما يعني قرباً أكثر، واستفاضة أكبر من أنوار البهاء الإلهيّ.
وقد كان العظماء يوصون تلامذتهم و أنفسهم بالحذر من التفكير في ما يخالف مرضاة الله، وكانوا يعدّون ذلك موجباً لكدورة النفس، والحرمان من تلقّي الفيوضات الخاصّة؛ فلهو الحديث ولغوه، و حشو الذهن بالأخبار و الصور، والتخمة من الطعام وقتي الإفطار والسَحَر، ومعاشرة أهل الدنيا، و السهرات المفوّتة للفرص والمتلفة للأوقات، والشجار على الأمور التافهة التي لا طائل منها، والتدخّل في عيوب الآخرين، و الغفلة عن عيوب النفس، وعدم مراعاة الضوابط في العلاقات الاجتماعية و المعاملات اليوميّة، والمشاركة في المجالس و الهيئات التي يغلب عليها التفاخر و اتّباع ما تهوى الأنفس، والتي يسعى القيّمون عليها إلى إضفاء رونق خاصّ على مجالسهم ومحافلهم من خلال إثارة الضجيج و الضوضاء، أو إحداث الازدحام و الجلبة، وبثّ الإعلانات و الدعاية في وسائل الإعلام العامة۱، كلّ ذلك سيجعل الإنسان محروماً إلى أبعد الحدود من فيوضات هذا الشهر العظيم ونفحاته القدسيّة، ومن هذه الفرصة الاستثنائية التي لا تعوّض.
أثر المراقبة في تحصيل بركات ليلة القدر
وستبرز أهميّة رعاية هذه المراقبة العظيمة في ظهور آثار ليلة القدر وتجليّاتها على الإنسان، تلك الليلة التي يقدّر فيها للإنسان مقادير حولٍ كامل، فيحدّد نصيبه فيها إلى ليلة القدر من العام المقبل.
ولذا فمهما عمل الإنسان في هذه المدّة من شهر رمضان المبارك على تصفية الباطن، و تزكية النفس، فهو مقصّر و لا يكون قد استوفى الأمر حقّه؛ فمقدّرات الإنسان تحدّد في ليلة القدر بما يتناسب ومدى اتّصاله بالوليّ الكامل حضرة بقيّة الله أرواحنا فداه، فكيفيّة العلاقة والصلة بين نفس الإنسان و نفس حضرة صاحب الزمان عليه السلام هي التي تحدّد نصيبه إلى السنة القادمة، وكلّما خلصت تلك العلاقة وخلت من الغلّ والغشّ، وصفت من الشوائب وطهرت، كلّما ازداد توفيق المؤمن، و عظمت السعادة المقدّرة له في أيّام عمره و حياته.
فنصيب أولياء الله في تلك الليلة الذين اتحدت نفوسهم مع نفس الإمام وصار لها معه حال من الصفاء والصحبة هو عبارة عن تجلّي الولاية الكليّة والفناء في النفس الملكوتيّة للإمام. أمّا سائر الناس فيتّخذ كلّ منهم مكانه في مراتب و درجات مختلفة، وذلك بما يتناسب و معرفته بساحة الإمام المقدّسة.
ولذا على الإنسان في ليلة القدر أن يصلح ما بينه وبين ربّه و ما بينه وبين واسطة الفيض في عالم الوجود، و أن ينظر إلى الموقع الذي أعدّه لنفسه عند الله عزّ وجلّ وعند الإمام عليه السلام .
إنّ القرب من ساحة الولاية لا يتمّ من خلال الاختلاف إلى هذا المكان أو ذاك، ولا بالمشاركة في المجالس، ولا بالضجيج والصراخ بتعجيل الظهور. إنّ القرب من ذلك العظيم إنّما يكون على أساس الفهم و المعرفة و الدراية. ويجدر بنا أن نوليَ هذه المسألة المزيد من العناية والتأمّل، و أن نتّخذ فيها القرار الحاسم لما تمثّل من أهميّة، ولما تترك من آثار على حياة الإنسان كلّها.
وكان دأب المرحوم العلاّمة الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة ـ والذي هو بلا شك من أبرز مصاديق الأولياء و العرفاء الإلهيّين، والذي كانت نفسه القدسيّة في حالة من المعيّة مع روح وليّ عالم الإمكان و الوحدة معه في نفسه و الاتحاد بسرّه و قلبه عجّل الله تعالى فرجهـ كان دأبه أن يوجّه تلامذته و مريديه نحو إدراك حقيقة ليلة القدر، و زيادة الاهتمام بالمراقبة، و التوسّل بقطب عالم الإمكان خلالها، وكان يرى في ذلك رمز التوفيق لنزول النفحات و الفيوضات الإلهيّة و على مدار السنة.
وهذه إحدى محاضراته التي ألقاها في إحدى ليالي القدر من السنوات الأخيرة لإمامته مسجد القائم، نقدّمها للأحبّة الأعزّاء؛ عسى أن يكون التوفيق الإلهيّ رفيق دربنا ببركة نفحات أنفاس أولياء الله، فيلقي الحقّ بنظرة رحيمة منه على شيعة أمير المؤمنين عليه السلام.
آنانكه خاك را بنظر كيميا كنند | *** | آيا شود كه گوشهء چشمي بما كنند |
هل لنا من نظرة يمنّ بها علينا أولئك الذين يبدّلون التراب ذهباً بنظرة منهم إليه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء و المرسلين،
و الصلاة و السلام على أشرف السفراء المكرّمين، أفضل الأنبياء و المرسلين،
حبيب إله العالمين، أبي القاسم محمّد، و على آله الطيّبين الطاهرين،
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين، من الآن إلى يوم الدين.
تفسير سورة القدر على لسان العلامة الطهراني رضوان الله عليه
ورد في الروايات:
"من قرأ إنّا أنزلناه في ليلة القدر يجهر بها صوته كان كالشاهر سيفه في سبيل الله، ومن قرأها سراً كان كالمتشحّط بدمه في سبيل الله..."۱ (الخبر)
و هذا كناية عن أنّ قراءة سورة القدر فضيلة في كلتا الحالتين، سواءً قرئت جهراً أم إخفاتاً.
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}: لقد أنزلنا القرآن في ليلة القدر، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ}، ضمير أنزلناه يعود إلى القرآن، وهذا واضح.
كيفيّة نزول القرآن
نحن أنزلنا القرآن في ليلة القدر؛ فقد أنزل القرآن كاملاً في ليلة القدر على قلب النبيّ المبارك، ثمّ بعد ذلك نزل تدريجاً و بشكل مفصّل طوال ثلاثة وعشرين عاماً، ذلك هو القرآن الذي أنزِل في ليلة القدر، ذلك هو القرآن الذي اُنزل من عالم الحقيقة على قلب النبيّ، وذلك هو القرآن الذي نزل بالتدريج، ذلك هو القرآن الذي نزل بالتدريج بواسطة جبرائيل الأمين من قلب النبيّ إلى مقام عالم الصورة الذي يسمّى الملكوت الأسفل و عالم المثال، فكان النبيّ الأكرم مأموراً بإبلاغه: {وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ}٢ لقد قرأنا عليك القرآن قطعاً قطعاً و بشكل متفرّق؛ لكي تقرأ آياته على الناس بتأمُّل و تأنٍّ.
بناءً على ذلك فللقرآن نزولان:
الأول: هو النزول الدفعيّ.
و الثاني: هو النزول التدريجيّ.
فالنزول الدفعيّ من عالم الحقيقة و من الملكوت الأعلى إلى قلب النبيّ صلوات الله عليه وآله، و النزول التدريجيّ من قلب النبيّ صلوات الله عليه وآله إلى عالم الملكوت الأسفل و الذي يسمّى بعالم الصورة.
والمراد من القرآن هنا هو القرآن المُحكم الذي أُنزل على قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله، لأنّه يقول: لقد أنزلنا القرآن في ليلة القدر، فقد اُنزل القرآن كاملاً على قلب النبيّ في ليلة واحدة: {حم ، وَ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنزَلْنَهُ فىِ لَيْلَةٍ مُّباَرَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ، رَحْمَةً مِّن رَّبِّك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}٣
نحن أنزلنا القرآن في ليلة مباركة، نحن أنزلنا القرآن بأكمله في ليلة مباركة، لماذا؟ لأنّه يقول: {حم ، وَ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} أقسم بالكتاب المبين، ذلك الكتاب المبين الذي أنزلناه في ليلة مباركة، فالظاهر أنّ المراد هو كلّ الكتاب لا بعضه؛ لأنّه أقسم بكلّ الكتاب {وَ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}، أُقسم بالكتاب المبين، وهذا الكتاب المبين أنزلناه في ليلة مباركة، و الكتاب المبين هو القرآن، إذن أنزل القرآن كاملاً في ليلة القدر.
وقال بعض المفسّرين من أهل السنّة: المراد هو أنّ بدء نزول القرآن كان في ليلة القدر، ثمّ أُنزل بالتدريج باقي القرآن بكامله، وهذا خلاف نصّ وظهور الآيات القرآنية.
معنى "القدر"
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ} نحن أنزلنا القرآن في ليلة القدر، ليلة القدر تعني ليلة التقدير، الليلة التي يعيّن فيها أقدار البشر، و التي تشير إليها الآية الكريمة: {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} كلّ أمرٍ يجب أن يتحقّق في العالم يحدّد في تلك الليلة، و يفرق و يفصّل و يعيّن فيها؛ فذلك الأمر الحكيم، هو التقديرات التي تعيَّن وتحدَّد للبشر. وتوضيحاً لهذا المعنى لا بدّ من مقدّمة مختصرة ننتقل بعدها إلى الموضوع، وهي:
إنّ كلّ ما يحدث في عالم الطبيعة الذي نعيش فيه متشخّص متعيّن، فليس فيه ولا يتحقّق فيه ما هو مبهم. نعم قد لا يعلم الإنسان بشيء ما، أو قد يعلم به علماً مبهماً، ولكنّه في واقعه خال عن أيّ إبهام، فالمطر الذي ينزل من السماء مثلاً مبهم بالنسبة لنا، لا نعلم عدد قطراته المتساقطة، ولكنه في الواقع لا إبهام فيه، وقطراته محدّدة. وكذلك سرعة الرياح التي تهبّ فهي مبهمة بالنسبة لنا، ولكنها مشخّصة محدّدة في عالم التكوين. كلّ ما يتحقّق في عالم الكون ملازم للتعيّن و التشخّص.
وهناك عالم آخر أعلى من هذا العالم، و يدعى عالم الصورة، و ليس في عالم الصورة هذا تشخّص و تعيّن مشابه لتشخّص عالم المادة. فصديقكم الذي يجلس إلى جانبكم مثلاً، صديقكم "حسن"، يجلس بالقرب منكم منذ بداية المجلس وحتى نهايته، ولم يجلس مكانه في أيّ وقت من الأوقات "حسين"، ولم يتبدّل وجود "حسن" المكرّم إلى "حسين"، و "حسن" هذا لم يكبر و لم يصغر، فتشخّصه محفوظ. ولكن عندما ترون في عالم الرؤيا أنّكم تتكلّمون مع "حسن"، و أنّكم تبحثون معه أمراً معيّناً، قد ترى دفعة واحدة بأنّ "حسناً" قد تبدّل إلى "حسين"، أو أنت تتكلّم مع حسين فإذا به يكبر! كنت تتكلّم معه، ولكن دفعة واحدة تبدّل إلى طفل صغير! وذلك الطفل الصغير تحوّل إلى طائر! وذلك الطائر تحوّل إلى إنسان!. وكم رأينا أمثال هذه الرؤى؟ إلى ما شاء الله، ثمّ تأتون و تروون ما حدث هناك، سيّدنا رأيت في المنام بأنّني كنت في مكان ما و تكلّمت مع الإمام عليه السلام... رأيت في المنام حضرة أمير المؤمنين عليه السلام، ولكن في عالم الرؤيا قد يتبدّل أمير المؤمنين عليه السلام دفعة واحدة وكأنّه صار حضرة الإمام الحسن عليه السلام، أما في عالم الخارج فلا يتبدّل القالب الخارجي لأمير المؤمنين ولا مرّة واحدة إلى حضرة الإمام الحسن عليه السلام، ولكنّ ذلك ممكن في عالم الرؤيا و عالم الصورة، أي أنّ ذلك عالم حقيقيّ، فأنتم ترون أنّ تلك الحقيقة التي كنتم تواجهونها في بعض الأوقات تتخذ صورة أمير المؤمنين عليه السلام، وأخرى تأخذ صورة الإمام الحسن عليه السلام، وأحياناً تتّخذ صورة حضرة سيّد الشهداء عليه السلام، وقد تأخذ في بعض الأوقات صورة إنسان، ثمّ في وقت آخر صورة إنسان آخر، ثم صورة طائر، أو صورة أيّ موجود آخر، ولذا فالتشخّص في ذلك العالم يختلف عنه في هذا العالم، فكلّ ما يوجد في هذا العالم ملازم للتشخّص.
وليس الأمر كذلك في عالم الصورة و المثال، وهكذا إذا نظرنا إلى العالم الأعلى من عالم الصورة وهو عالم الملكوت، فلا نجد فيه أثراً للصورة، فليس هناك من صورة في عالم الملكوت الأعلى، و الحقائق هناك خارجة عن الصور، مثلاً: أنتم تحسّون في أنفسكم الشجاعة و العفّة و المحبّة، ولكنّ صفاتكم هذه ليست بذات صور، فلا هي صفراء ولا حمراء، ليس لها رائحة جميلة ولا طعم لذيذ، مثلاً هل تقولون شجاعتي حلوة المذاق أمّا شجاعة صديقي فحامضة؟! محبّتي صفراء أمّا محبّة صديقي فحمراء؟! لا، لا نقول ذلك؛ لأنّ المحبّة ليس لها كيف تتكيّف فيه بتلك الكيفيّات، فهناك المعنى هو الموجود فقط.
كلّ موجود في هذا العالم له حقيقة ملكوتيّة، و الملكوت أيضاً على درجتين: ملكوت سفليّ، و ملكوت علويّ. والإنسان الموجود هنا يمتلك صورة مثاليّة و صورة ملكوتيّة عليا، وهي صورته العقليّة. و الموجودات المتلبّسة بلباس التحقّق في الخارج، تتنزّل من ذلك العالم إلى الملكوت السفليّ و منه إلى هنا، الأفعال التي يقوم بها الإنسان طوال السنة، التقديرات المقدّرة للإنسان من فقر و غنى، من مرض أو صحّة، من موت أو حياة، من علم أو جهل، و سائر الأمور التي تتلبّس بلباس التعيّن، كانت غير متعيّنة قبل ذلك.
{ما أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا في أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ في كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيرٌ}۱ كل شيء يصل إليكم ـ فالمصيبة ماذا تعني؟ المصيبة تعني: كلّ ما يصيب الإنسان، كلّ شيء حصل قبل أن يصيبكم، كانت حقيقته عندنا في كتاب، في لوح محفوظ، في عالم المحو و الإثبات، في ذلك العالم. من قبل أن نبرأها، برأَ يعني: البري، برى القلم، أي جعل القلم المبري ذو حدود واضحة، يأخذ الخطّاط قلم القصب و يبريه، و قبل أن يقوم ببريه كان لهذا القلم القابليّة لأن يبُرى بأيّ شكل؛ لأن يكون ثخيناً أو ليكون رفيعاً، أو ليكون مقوّساً، أو غير مقوّس، أو أن يزيل الخطّاط ظهره، أو لا يزيله، أو لأن يجعله طويلاً أو قصيراً، و إذا ما أراد الخطّاط أن يخطّ به فيخطّ من اليمين أو من اليسار، كلّ هذه خصائص بري القلم، والخطّاطون يعرفونها، وعندما لا يقوم الإنسان ببري القلم، فإنّ قابليّة الإنبراء موجودة فيه في كلّ لحظة، ولكن عندما يبرى و يصبح مشخّص المعالم و موضوعاً جانباً، عندها لن تبقى له تلك القابليّة للبري، إذاً أصبح جليّاً أنّ كلّ شيء واقع، من قبل أن نبرأه قبل أن نبريَه، و نجعل له قالباً و نجعل له تشخّصاً، فإنّ حقيقته موجودة عندنا. ثمّ بعد ذلك نقوم ببريه و نجعل له تشخّصاً إلى أن نعطيه لكم، أو أنّ البري مأخوذ من بري القذى، القذى هو السهم الذي يوضع في القوس و يرمى به الأعداء، و هذا السهم لا يكون رأسه حادّاً و مبريّاً من الأوّل؛ يجلبونه ثمّ يبرونه، ثمّ يضعون على الرأس نصلاً أو لا يضعون، هذا البري لرأس السهم بهذه الكيفيّة المخصوصة يسمّى بري، من برأ، قلبت الهمزة ياءاً، فيقال بري أيضاً، مثل: مايع و مائع حيث كلاهما صحيح.
{ما أَصابَ مِنْ مُصيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا في أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ في كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها}، كلّ ما يصل إليكم، في نفوسكم، على وجه الأرض، حقيقته عندنا، من قبل أن نعطيه معالمه، و أن نعيّنه و أن نعطيه قالبه، وقبل أن نجعله محقّقاً في الخارج، فهو محفوظ عندنا، وإذا علمتم بأنّ كلّ موجود راجع إلينا، فلا تأسوا كثيراً على شيء ذهب من أيديكم و لا تفرحوا كثيراً بما سيصل إلى أيديكم لأنّه لا علاقة لكم بذلك، ولا يعتمد عليكم، فقبل أن يصل إليكم كانت تشخّصاته و تعيّناته و حدوده قد تمّت عندنا، فما علاقتكم بالأمر؟ نحن نقدّر الأمر و نرسله إليكم فيصل الضرر أو النفع إليكم {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ}.
فمقدّرات الإنسان لها مرجع واحد، و حقيقة هذه التقديرات تأتي من عالم الملكوت الأعلى الذي لا صورة فيه إلى عالم الصورة، و ذلك العالم أيضاً فيه صورة و لكن كما قلنا فيها جوانب من الإبهام حيث تتبدّل فيه الصور، فزيد يتبدّل إلى عمرو، ترى أنّ إنساناً كان يتحدّث ثم في لحظة واحدة يتبدّل إلى كرسيّ ثم يتحوّل إلى فاكهة، وهذا عجيب جدّاً!.
نرى أنّ شيئاً ما قُدّر للإنسان لكن تلك التقديرات تتغيّر، يكون تقديره هذا فيصبح ذاك، كيف يحصل ذلك، كيف يكون الإنسان في عالم المنام يتكلّم مع زيد ثمّ دفعة واحدة يرى أنّ زيد تبدّل بعمرو، و أنّه كان يمشي على الأرض و إذا به يرى نفسه راكباً السيّارة دون أن يرى نفسه قد قام بركوب السيّارة، ثمّ يرى أنّه كان يمشي في السيّارة ولكن أصبح يمشي في القارب، يقول سيّدي لم أفهم، دفعة واحدة يرى نفسه في القارب، يقول: أنا لم أركب القارب ولكن السيّارة أصبحت قارباً، كنت في القارب أسير، ولكن دفعة واحدة صار يطير في الهواء، في عالم الخارج القارب يسير فقط في الماء، أمّا في ذلك العالم فإنّ القارب يمكن أن يطير في الهواء، كلّ هذه التغيّرات و التبدّلات حصلت في التقدير و كلّها صحيح، حذو النعل بالنعل، و البراهين الفلسفيّة قائمة على تحقّق ذلك في عالم المثال.
فلهذه الموجودات الكائنة في هذا العالم أصل خاص، وذلك الأصل ينزل من عالم المعنى إلى عالم الملكوت، ومن عالم الملكوت ينزل إلى عالم الملكوت السفليّ و الذي هو عالم الصورة و المنفصل عن التشخّص و التعيّن، ثمّ منه يتنزّل أكثر ليظهر التشخّص، وهو ما يطلق عليه السماء الدنيا، يعني: ذلك الملكوت الذي هو أدنى من كلّ ملكوت، وليس هناك ما هو أدنى منه في التشخّص، إذا نزلنا إلى الأسفل نجد هذه الموجودات الخارجيّة، ولذا لدينا في بعض الروايات أنّ ليلة القدر إمّا ليلة التاسع عشر أو الواحد و العشرين أو الثالث و العشرين، ويفسرون ذلك بأنّ: أصل النزول في ليلة التاسع عشر و الإبرام و الإحكام في ليلة الحادي و العشرين، و الإمضاء في ليلة الثالث و العشرين، أي في ليلة الثالث و العشرين ينتهي الأمر، فكلّ شيء أُمضي سيكون كما هو، وهذا المعنى هو نتيجة الجمع بين الروايات حيث ذكر بعضها ليلة التاسع عشر أو ليلة الحادي و العشرين أو ليلة الثالث و العشرين كما على أيّ أساس البعض الآخر عدّها جميعاً ليلة القدر، فقالوا: عليكم الاشتغال بالعبادة في كلّ هذه الليالي لأنّ تلك الليلة ليلة شريفة و ليلة تقدير.
كلّ هذه الخصوصيّات تتنزّل من ذلك العالم إلى الإمام عليه السلام في خطوة أولى ـ وإن كانت حقيقة ذلك العالم هي من الإمام أيضاً ـ ولكن هذا العالم يتنزل على قلب الإمام، تماماً كما أنّ النبيّ الأكرم هو حقيقة القرآن، ولكن القرآن ينزل من مقام حقيقته ذاك على قلبهـ ثمّ تنزل المقدّرات مرة أخرى إلى السماء الدنيا، و السماء الدنيا هي: نفس عالم الصورة و التصوّرات و برزخ الإمام و مثاله عليه السلام، وهذا العالم كبير جدّاً؛ فهو يفوق هذا العالم الذي نعيش فيه بمئات الأضعاف، وفيه العجائب و الغرائب، فالملكات فيه لها شكلها الخاصّ، كيفيّة الحوارات هناك في غاية الغرابة، وكيفيّة نزول ذلك على الإمام أمر عظيم. ويدرك هذه المعاني أولئك الذين وصلوا إلى مقام الإمامة أو إلى مقام كمال التقوى فصارت الملائكة تتنزل عليهم كما تشير الآية الشريفة:{إِنَّ الَّذينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتي كُنْتُمْ تُوعَدُون ، نحَنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فىِ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ فىِ الاَخِرَة}.۱
أي: أولئك الذين آمنوا و استقاموا على أساس الإيمان، تتنزل عليهم الملائكة تخاطبهم أن لا تحزنوا ولا تخافوا، فقد اتصلوا بالقَدَر واطّلعوا على عالم القَدَر وعلى سرّ القَدَر لأنّنا قلنا : {فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ}؛۱ ومن يطّلع على سرّ القَدَر لا يحزن على شيء ضاع من يده، ولا يفرح بما يصل إليه، لأنّه يعلم أنّه ليس بيده شيء، بل كلّ شيء بيد الله عزّ وجلّ، فلا يتدخّل بمقدار رأس الإبرة، هؤلاء هم الذين أصرّوا على الإيمان و على الاستقامة، إنّ الملائكة تتنزّل عليهم و تبشّرهم بهذين الأمرين: {أَلاَّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا} لا خوف ولا حزن، وهذه هي المسألة، يُطلعونهم على عالم القَدَر، ويكشفون لهم عن تنزّل القَدَر، ثم يطمئنونهم أن: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا و في الآخرة، نحن ملائكة السماء و ملائكة عالم القدس نحن أولياؤكم، نحبّكم و نرأف بكم، و كلّ ما بوسعنا نجعله تحت اختياركم، وكلّ ما تحتاجونه نلبّيه لكم.
و من هذه الآية يُستفاد أنّ الوصول إلى مقام الإيمان و الاستقامة في الإيمان ملازم لرؤية الملائكة و بالأخص في ليلة القَدر.
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فىِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ} لقد أنزل القرآن في ليلة القدر، أنزلناه على النبيّ في هذه الليلة، وما أعجبها من ليلة مباركة:{إِنَّا أَنزَلْنَهُ فىِ لَيْلَةٍ مُّبَرَكَةٍ}، نحن أنزلنا القرآن في ليلة مباركة كثيرة الخير والبركة، {وَ مَا أَدْرَيكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، فهل تعلم يا رسول الله ما هي ليلة القدر هذه؟ فالأمر مهمّ جداً! {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، هذه ليلة واحدة تفوق ألف شهر في فضلها، كيف يمكن لليلةٍ أن تكون أفضل من ألف شهر؟! لقد رأيتم خلال فترات حياتكم أنّ هناك بعض اللحظات التي تمرّ عليكم قد تفوق بكيفيّتها و ما فيها من مسرّات و لذّات كامل مدّة عمركم.
معنى كون ليلة القدر خيراً من ألف شهر
وأما معنى أنّ {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} فقد رأى رسول الله بعض أبناء الأمم السابقة من بني إسرائيل قد حمل سيفه على عاتقه مدّة ألف سنة و خاض المعارك وجاهد في سبيل الله، فقال النبيّ: عمر أمّتي قصير، و أعمالهم و تكاليفهم قليلة أيضاً، فليس لديهم تكاليف بمقدار ما كان على الأمم السابقة، فكيف ستعوّض ما يفوت عن أمتي من أعمال تلك السنوات المديدة، ماذا ستعطي لأمّتي؟ فجاء الخطاب أنّ الزمان قصير، و العمل قليل، ولكنّ الكيفيّة في غاية الجودة، سنعطيهم ليلة القَدر، فليلة القدر: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.٢
و كان النبيّ صلى الله عليه وآله نائماً أيضاً فرأى في عالم الرؤيا أنّ بني أميّة يصعدون مِنبره وينزلون عنه على هيئة القردة، فكان كلّ من صعد على منبر رسول الله و نزل من القردة، وكانوا يرجعون الناس القهقرى، أي: يجعلون الإسلام يتراجع إلى الوراء متقهقراً إلى آداب الجاهليّة، أفاق النبيّ صلوات الله عليه وآله من نومه متأثّراً جدّاً، لقد كان المنام مناماً مؤثّراً، وكان لا يزال كئيباً حزيناً، هكذا كانت حال النبيّ على حزن وغمّ إلى أن نزل جبرائيل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله، مالي أراك كئيباً حزيناً؟ لماذا أصبحت هكذا؟ فقال رسول الله : يا أخي يا جبرائيل، لقد رأيت رؤيا في الليلة الماضية و أنّ القردة تنزو على منبري، وقد أخذوا كل درجات المنبر، و رأيتهم يرجعون الناس القهقرى إلى الجاهليّة، فقال جبرائيل لا علم لي بذلك، دعني أذهب و آتي لك بالخبر، فصعد إلى مقام عزّ القدس الربوبيّ و عاد بهذه الآية: {أَفَرَءَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كاَنُواْ يُوعَدُونَ ، مَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}۱ يا رسول الله إذا متّعناهم سنين متمادية من لذّات هذه الدنيا الفانية وشهواتها، ثمّ يصل إليهم نتيجة أعمالهم القبيحة، فماذا سيستفيدون من هذا التمتّع و من تلك الشهوات و اللذات في الدنيا، {إنَّا أَنزَلْنَاهُ فىِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَ مَا أَدْرَئكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}، نحن سنعوّضك عن ذلك بليلة القدر، وليلة القدر أفضل من ألف شهر ـ لقد كانت مدّة حكومة بني أميّة ۸٤ سنة، و ۸٤ سنة تعادل ألف شهر، نعم لقد كانت مدّة حكومة بني أميّة ألف شهر، و ليلة القدر خير من ألف شهرـ نحن أعطينا أمّتك ليلة تفوق متعة و لذّة ما يحصل عليه الناس في ألف شهر من المتع الماديّة، و في هذه الليلة يحصلون على متع ألف شهر من المتع الروحيّة و المعنويّة، وليلة القدر هذه هي لأمتك، وليست لأيّ أمّة من الأمم السابقة، ليلة ما أعجبها من ليلة، ليلة تكون فيها كل أبواب الجنان مفتّحة وكلّ أبواب جهنّم مغلقة.٢
ليلة القدر ليلة نزول إرادة الله في الموجودات و ليلة التصرّف في الكائنات تحت اختيار الإمام عليه السلام، وأنّى يمكن المقارنة بين هذه القدرة مع القدرات الخارجيّة و الحكومات الخارجيّة التي حكمها بنو أميّة بين الناس في سنوات معيّنة، تلك الحكومات الناشئة من الشهوات و النفس و الخيالات الباطلة، والتي تتبعها العذابات الصعبة التي ستحلّ عليهم من قبل الله.
نحن أعطيناكم ليلة القدر، يوم تتويج الإمام و إجلاسه على عرش عالم المعنى في كل زمان.
ففي زمان النبيّ كانت الملائكة تنزل على النبيّ، و في زمان أمير المؤمنين تنزل على أمير المؤمنين، و في زمان الإمام الحسن هي في خدمة الإمام الحسن، وهكذا في زمان كل وليّ من الأولياء من أصحاب مقام الإمامة تنزل الملائكة لتكون في خدمة ذلك الإمام، إلى زمن إمام زماننا عجّل الله تعالى فرجه، و في كلّ ليلة من ليالي القدر، من أوّل الليل إلى أذان الصبح، تنزل كل ملائكة الرحمة برفقة جبرائيل، و تنزل برفقة الروح، وعندها يكون ذلك الليل ليلاً روحانياً، ليلة يتعبّد فيها الإنسان، وثواب عبادته أكثر من ألف شهر عبادة، هذه هي العلّة في ذلك. و كلّ هذا مذكور في الروايات، وهي عجيبة جداً، و إذا ما اطّلع أحد على الروايات فسيطلع على حقيقة الأمر، والروايات موجودة في تفسير مجمع البيان و في تفسير الصافي و تفسير البرهان فقد جمعت فيها كلّ الروايات، وخصوصاً في تفسير البرهان، وكلّ هذه الروايات ترغّب في ليلة القدر.۱
الأولياء و الصالحون و المخلصون ينتظرون طوال السنة ليلة القدر هذه، وهم يدعون أن يا ربّ إذا كان الموت مقدّراً لنا في هذه السنة، فاجعلنا ندرك ليلة القدر ثمّ نموت بعدها، لقد كانوا متعطشين إلى ليلة القدر، لأنّ ثواب ليلة من العبادة هو ألف شهر عبادة، قول الله أكبر مرّة واحدة، كأنّما قال الإنسان لمدّة ألف شهر الله أكبر، صوم يوم واحد كأنما صام ألف شهر، قراءة آية في سطر واحد من القرآن كأنما قرأ آية قرآن لمدّة ألف شهر.
إذن و بناءً على هذا ما العلاقة بين أولئك الذين كانوا يحملون السيوف و يجاهدون في سبيل الله ألف شهر أو ألف سنة وبين هذه الليلة، حيث يقوم العبد لله عز وجلّ في ليلة واحدة، و تتحقق فيه كلّ تلك المعاني ؟! لا تعجبوا !! فهذه الطريق التي فتحها رسول الله، (بكم فتح الله)، فكلّها من بركات الرسول، هو فتح النافذة، فأفيض النور على العالم.
يذهب طفل إلى المدرسة فيدرس لمدّة سنة، ويذهب طفل آخر فيدرس لمدّة ستّة سنوات، ومع ذلك فهو لا يفهم بمقدار الطفل الذي درس لمدّة سنة.
فهل فكر البشر على نحو واحد؟! هناك شخص حادّ الذكاء، سريع البديهة، قويّ الحافظة، كبير الاستعداد، بينما هناك شخص بطيء؛ لذا فقد يصل شخص بليلة، بينما لا يصل آخر حتّى بألف شهر. إذاً لا تعجبوا من أمر الله إذ أفاض على أمّة نبيّ آخر الزمان إفاضة صاروا بها يحصلون من أثر ليلة من العبادة على ذلك المقدار من الفوائد الروحيّة و المعنويّة، مع أنّ الأمم السابقة لم تكن لتحصل على ذلك حتّى بألف سنة.
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} لماذا؟ الآية تفسّر ذلك، فالآية بيّنت ذلك: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} الملائكة تتنزّل، فما هو أصل التنزّل؟
(تتنزّل) فعل مضارع، وهذا يدلّ على أنّ ليلة القدر، ليست ليلة واحدة كانت في زمن النبيّ فانتهت و ذهبت، بل في كلّ سنة وبشكل دائم تستمرّ هذه الليلة، و الملائكة و الروح تتنزّل، والروح هو موجود أعظم من الملائكة و أعظم من جبرائيل ينزل في هذه الليلة {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، ينزل الأمر من ذلك العالم، فينزله معه من ذلك العالم إلى الدنيا {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}، من كل أمر و من كلّ ملكوت، {إنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، أمر الله الموجود في ذلك العالم لیس له قالب وهو متعيّن ولا متشخّص، و هذه الملائكة، و جبرائيل و الروح الذين لهم السنخيّة مع ذلك العالم المجرّد، يتنزّلون، وينزلون معهم من ذلك الأمر إلى سماء الدنيا، فیجعلونه فی قوالب خاصّة و يجعلون له تشخّصاً، ويجعلون له قدَراً، أي: يعيّنون مقداره، ولذلك يقولون (ليلة القدر)، فقَدْر وقَدَر لها نفس المعنى، فهما من مادّة التقدير، يعني التعيين و التشخيص، في هذه الليلة يتشخّص كل شيء.
معنى سلام ليلة القدر
{سَلَامٌ هِىَ حَتىَ مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، هذه الليلة ليلة السلام، السلام يعني: الخلوّ من أيّ ألم وعدم ارتياح أو مرض جسميّ أو روحيّ، فالصلاح و السعة التي توجد عند الإنسان في هذه الحالة تسمّى سلاماً، السلام عليكم يعني: كُن مطمئناً فلن يصدر من ناحيتي أيّ سوء.
{سَلَامٌ هِىَ}: هذه الليلة ليلة سلام، يعني: لا يوجد سوء في هذه الليلة، ليس هناك من جهنّم، ولا هناك من معصية، وليس هناك من كفر، ليس هناك من ظلمة، و ليس للشياطين من سلطان على الناس، لأنّها ليلة القدرة و العظمة وبروز و ظهور الإمام في عالم الملكوت، و كلّ الشياطين مختفية في الظلمات، فالليلة ليلة النور من أوّل الغروب حيث تبدأ هذه الليلة، فيأتي النور من السماء و الملائكة تتنزّل حتّى متى؟ {حَتىَ مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، إلى أن يطلع الفجر، فينتشر بياض السماء، هذه الليلة هي ليلة القدر، وفي الروايات لدينا بأنّ كلّ ليلة عزيزة فإنّ يوم تلك الليلة يتبعها أيضاً في الحكم، فيوم النصف من شعبان له حكم ليلة النصف من شعبان، يوم الجمعة، يتبع في الفضيلة ليلة الجمعة، و يوم القدر يتبع ليلة القدر في الفضيلة، إذاً {سَلَامٌ هِىَ حَتىَ مَطْلَعِ الْفَجْرِ} هو مختصّ بالليلة، وبكيفيّة تنزّل الملائكة في ليلة القدر. أمّا آثار الرحمانيّة و الرحيميّة فإنّها تستمرّ يوم القدر حتّى غروب الشمس لتتبع تلك الإفاضات التي كانت تتنزّل البارحة من بداية الليلة إلى الصبح، وواقعاً هي ليلة عظيمة، ونسأل الله العليّ الأعلى، أن تكون إن شاء الله مقدّراتنا في الليلة الماضية قد قدّرت ب ما يوافق رضاه و قبوله.
لقد نزل جبرائيل مخاطباً النبيّ صلى الله عليه وآله أن يا أيّها النبيّ: إنّ بني أميّة سيصعدون إلى أعلى المنبر، وقد كان رسول الله حزيناً كئيباً حتى نزلت هذه السورة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فىِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَ مَا أَدْرَئكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}، يا أيّها النبيّ: ما قيمة هذه الدنيا بالنسبة لك، فأنت لم تخلق لأجل هذه الدنيا، فهذه المقامات التي أعطاكها الله في الدنيا ليست للتلذذ و البهجة الدنيويّة، {أَفَرَءَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ، ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كاَنُواْ يُوعَدُونَ ، مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} فأنت وجِدت لمكان آخر،وجدت لعالم آخر، أنت لست لهذا العالم، أنت لعوالم أخرى.
ليلة القدر ومصائب أهل البيت علهم السلام
ما معنى: نحن جعلنا لهم ليلة القدر؟ يعني: نحن فتحنا أعين الإمام الحسن و الإمام الحسين ولداك على ذلك العالم، وعندما فتحنا أعينهم على ذلك العالم أصبحت نعم عالم الدنيا عندهم تعادل صفراً بالقياس إلى ذلك العالم، إنّ المشقّات و المصائب التي سيرونها في هذه الدنيا لأجل رضا الله هي لذة و بهجة بالنسبة لهم، فهم سيمضون إلى الجهاد، لا أنّ الجهاد سيأتي إليهم. سيذهبون نحو الإنفاق و الأخذ بأيدي الضعفاء و الأيتام، لا أنّهم سيُأخذون بالحياء عندما يعرض الناس حاجاتهم و مضائقهم عليهم، لا! فذلك الذي فتح عينيه على أسرار عالم الملكوت، لن يرى بعدها للدنيا أيّة قيمة، و واقعاً الأمر هو كذلك.
ففي النتيجة عندما يصل إلى يد الإنسان حجر فيروز من الفيروز النيشابوري الدرجة الأولى، حيث يقدّر كلّ قيراط منه بمبالغ طائلة من المال، وعندما يعلم بقيمتها، فهل سيفرّط بها؟! وهل سيذهب إلى سوق الأحجار الكريمة، ليبيعها إلى تاجر ربما وضعها في رقبة حيوان، أو باعها في خاتم؟!
إذا فعل ذلك فهو مخطئ في ذهابه. فمن كان لديه اللحم المذبوح الطاهر و الخالص اللذيذ، لا يطلب الميتة و الجيفة، فالجيفة للكلاب، الذين لا يتوفّر لديهم اللحم الطيّب والطاهر، وليس لديهم الحسّ لإدراك قذارة ذلك اللحم، وأنّه ليس بطعام.
إنّ الرئاسات الدنيويّة، والشهوات الماديّة، واللذات الدنيويّة المنغمسة في المعاصي هي كلّها للذين لم يشمّوا رائحةً من عالم الملكوت، و لم تصلهم تلك الرحمة، ولكن إذا فتحت نافذة من ذلك العالم إلى القلب، فإنّهم لن يتوجّهوا نحو ألف ألف ضعف من هذه المعاصي، ولذا نرى أنّ الله قد قدّر لنبيّه صلى الله عليه وآله ما قدّر من البلاء مع أنّه أفضل موجود، و يشير أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أن انظروا أيّها المنصفون، ماذا قدّر الله لنبيه؟! فلو كان شرّاً لم يكن الله ليقدّره لأفضل موجود، و لزهرة عالم الوجود و حبيبه. ولكن حيث أنّه قدّرها له فاعلموا أنّ أولئك الذين بسطوا الدنيا لأنفسهم و انغمسوا في الشهوات و الغفلات فإنّهم يعيشون في النكبة و الظلمة۱. فليس أساس الحياة هو الأكل و الشرب و ملء البطن و النوم و الشخير. إنّ هذه حياة الحيوانات، و للإنسان حياة أخرى مبنيّة على أساس من الشرف و الفضيلة، فإذا أراد الله للإنسان أن يقع في المصائب و البلايا، فليس من مشكلة، وإذا ما أراد أن يُقتل في سبيل الله فلا ضير، وفي النهاية سيرجع الناس إلى الله إمّا بهذه الصورة أو بتلك الصورة.
لم تكن الشهادة لسيّد الشهداء عيباً، بل هي فخر، و الله تعالى قد علّق بتلك الشهادة وساماً على صدر سيّد الشهداء، وليس لأحد أن يحمل هذا الوسام سوى سيّد الشهداء، فأرفع وسام قد أعطي لحضرته، وأنبل وسام أعطيَ لحضرة الإمام الحسن، وأشرف وسام أعطي لحضرة السجاد، و الآخرون لا يستطيعون نيل تلك الأوسمة، فهم لا يستطيعون حملها، هذا الوسام يحمله من كانت عينه و أذنه و قلبه مطّلعة على أسرار عالم الغيب، {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ} متربعة على سويداء قلبه، أولم يقل عليّ الأكبر نجل أولئك العظماء: يا أبت ممّ نخشى، فلماذا تتجرّع الغصص؟ قال: يا بنيّ رأيت في المنام أنّ القوم يذهبون و الموت يتبعهم. قال: (ألسنا على الحق)؟ فقال: بلى، فقال: إذاً لا نخشى من الموت ـ واضح جدّاً و بسيط جدّاً ـ.
انظروا في يوم عاشوراء كيف أتى هذا الشابّ بكل بساطة و بسرعة وبدون أيّ اضطراب أو تشويش أو انزعاج أو شكاية وبدون أمر ولا نهي.
تقول أمّ سلمة دخل رسول الله إلى حجرته للعبادة وفجأة ودفعة واحدة تقول: لم أعد أرى النبيّ، مكان النبيّ كان خالياً، مرّت ساعة رأيت رسول الله قد أتى، وسجد داخل الغرفة، وشرع بالبكاء. بكاء طويل عجيب، فصبرت حتّى رفع رأسه من السجود، رأيت رأس و وجه النبيّ أشعث أغبر، فقلت: يا رسول الله أين كنت؟ فأجاب: كنت مشغولاً بالعبادة فجاء جبرائيل وقد جاء بتهنئة و تبريك، فقلت: يا رسول الله ما كان ذلك التبريك؟ لقد قال لي جبرائيل: إنّ هذا المنصب قد أعطاه الله للحسين، وإن شئت أريك مرقده، فأخذني إلى مرقد الحسين، فنزلنا أرض كربلاء، ورأيت كل ما حدث هناك، رأيت الحسين ولدي قطعة قطعة مرميّاً على الأرض، وقد قبض جبرائيل قبضة من التراب و أعطانيها، وقال: عندما يتبدّل هذا التراب بالدم، فإنّ ذلك علامة قتل الحسين، وهذا التراب و الغبار الذي ترينه على رأسي و وجهي هو من تراب تلك الأرض وقد علق على وجهي، عاد رسول الله إلى مصلاه وقد كان ساجداً حيث سألته أمّ سلمة عن ذلك، و قد أعطى ذلك التراب إلى أمّ سلمة و قال: احتفظي به عندك، وعندما ترين أنّ هذا التراب قد تبدّل دماً، فاعلمي أنّ الحسين ولدي قد قُتل.
تقول أمّ سلمة: أخذت ذلك التراب، و احتفظت به، وقد كان قلبي دائم الغليان و الاضطراب إلى أن ذهب سيّد الشهداء نحو العراق، لقد أخبر النبيّ خبراً بل أخباراً وكلّها كانت صحيحة، لقد أخبرني النبيّ بهذا الأمر، و أنا امرأة مطيعة لأوامر النبيّ، وكثير من الأسرار كان قد قالها لي النبيّ.۱
عندما أراد سيّد الشهداء الذهاب إلى العراق، جاء إلى أمّه أم سلمة، خاطب أم سلمة بـ "يا أُماه"، ـ أمّ سلمة كانت من الزوجات العظيمات للنبي، كانت من محبّي أهل البيت و أمير المؤمنين، ومن محبّي حضرة الزهراء، و كانت تحبّ الحسن و الحسين جدّاً، وكانت تلاطف هؤلاء الأطهار ـ وسيّد الشهداء لم يودّع امرأة في المدينة إلا أمّ سلمة ـ أتى الإمام لتوديعها، وإذا بصوت أم سلمة يرتفع بالنحيب و البكاء، يا حسين أين تذهب؟ أريد أن أذهب إلى العراق، واحسيناه وا حسيناه، كأنّ ذلك الوعد الذي وعدنيه النبيّ قد حان! فقال الإمام: نعم لقد اختار لي الله مصراعاً ويجب أن أسرع إلى ذلك المصرع، وجزاك الله خير الجزاء، فاصبري على هذه المصيبة، تحرّك الإمام نحو مكّة وأقام لعدّة أشهر، ثمّ توجّه نحو كربلاء، فوصل الخبر إلى أمّ سلمة بأنّ الحسين تحرّك إلى كربلاء، قالت أمّ سلمة: لقد كان قلبي ساكناً في تلك الليالي التي كان الحسين فيها في مكة، أمّا الآن حين عرفت أنّ الحسين تحرّك إلى كربلاء فلم يعد لي ليل أنامه ولا نهار، وكنت دائماً أذهب إلى تلك التربة التي وضعتها في زجاجة لأراها، وكلّما رأيتها أنّها ما زالت على حالها قلت: الحمد لله، حتّى الآن سيدنا الإمام الحسين ما زال حيّاً، ولم يُقتل، ولكن عندما ذهبت ورأيتها قد تبدّلت بدم عبيط. علا صوت أمّ سلمة بالنحيب، فسمع الجيران صوتها فأتوا، يا زوجة رسول الله ماذا حصل؟ ما هي المصيبة التي وقعت؟ لا أبكى الله عينيك، فأخذت بيد أولاءِ النساء إلى الغرفة و قالت: انظروا هذا هو الخبر الذي أخبرني به رسول الله، أقسم بالله لقد قتلوا ذريّة رسول الله.
وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون
إنا لله و إنا إليه راجعون.