المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
مجموعة من البحوث التفسيريّة، والفلسفيّة، والروائيّة، والتأريخيّة والاجتماعيّة في الإمامة والولاية بشكل عامّ، وفي إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين بشكل خاصّ ؛ وذلك في هيئة دروس استدلاليّة علميّة متّخذة من القرآن الكريم والروايات الواردة عن الخاصّة والعامّة، وأبحاث حليّة ونقديّة عن الولاية .
وتضمّ هذه المجموعة 270 درساً في ثمانية عشر مجلداً. وقد جري فيها مناقشة وبحث مطالب من قبيل: العصمة، الولاية التكوينيّة، لزوم الإمام الحيّ، لزوم متابعة الأعلم، ضرورة وجود الإمام للمجتمع، معنى الولاية، شرح حجّة الوداع، شرح واقعة غدير خمّ، حديث الولاية، حديث المنزلة، شرائط القيادة، علم الغيب و...
الدَّرْسُ السّادسُ وَ الخَمْسُونَ بَعْدَ المائَتَينِ إلى الخَامِسِ وَ السّتِّينَ بَعْدَ المَائَتَين: العُلُومُ اللدُنيَّةِ المُتَنَوِّعَةِ لِلإمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعداءهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ.۱
و قال سبحانه قبل هذه الآية:
وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
تفسير العلّامة الطباطبائيّ لآية: «و البَلد الطيّب ...»
قال العلّامة آية الله الطباطبائيّ أعلى الله درجته في تفسير هذه الآيات: و في الآية وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ إلى آخر الآية بيان لربوبيّته تعالى من جهة العود، كما أنّ في قوله: إن رَبَّكُمُ اللَّهُ٢ بياناً لها من جهة البدء. و قوله: بُشْرًا، و أصله البشر بضمّتين جمع
بشير كالنُذُر جمع نذير. و المراد بالرحمة المطر. و قوله: بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ، أي: قدّام المطر، و فيه استعارة تخيليّة بتشبيه المطر بالإنسان الغائب الذي ينتظره أهله فيقدم و بين يديه بشير يبشّر بقدومه.
و الإقلال: الحمل، و السحاب و السَّحَابة، الغمام و الغمامة، كتَمْر و تَمْرَة. و كون السحاب ثقالًا باعتبار حمله ثقل الماء، و قوله: لِبَلَدٍ مَيِّتٍ، أي، لأجل بلد ميّت، أو إلى بلدٍ ميّت. و الباقي ظاهر (و لا يحتاج إلى تفسير).
و الآية تحتجّ بإحياء الأرض على جواز إحياء الموتى، لأنّهما من نوع واحد. وَ حُكْمُ الأمْثَالِ في مَا يَجُوزُ وَ مَا لَا يَجُوزُ وَاحِدٌ.۱ و ليس الأحياء الذين عرض لهم عارض الموت بمنعدمين من أصلهم، فإنّ أنفسهم و أرواحهم باقية محفوظة و إن تغيّرت أبدانهم، كما أنّ النبات يتغيّر ما على وجه الأرض منها و يبقى ما في أصله من الروح الحيّة على انعزال من النشوء و النماء، ثمّ تعود إليه حياته الفعّالة. كذلك يخرج الله الموتى. فما إحياء الموتى في الحشر الكلّيّ يوم البعث إلّا كإحياء الأرض الميتة في بعثه الجزئيّ العائد كلّ سنة. و للكلام ذيل سيوافيك في محلّ آخر إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ إلى آخر الآية.
النَّكِد القليل. و الآية بالنظر إلى نفسها كالمثل العامّ المضروب لترتّب الأعمال الصالحة و الآثار الحسنة على الذوات الطيّبة الكريمة كخلافها على خلافها، كما تقدّم في قوله: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ.۱ لكنّها بانضمامها إلى الآية السابقة تفيد أنّ الناس و إن اختلفوا في قبول الرحمة فالاختلاف من قِبَلهم، و الرحمة الإلهيّة عامّة مطلقة.
و قال سماحة العلّامة في البحث الروائيّ:
و في «الكافي» بإسناده عن ميسر، عن أبي جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام قال: قلتُ: قول الله عزّ و جلّ: وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها،٢ قال: فقال: يَا مَيْسَرُ! إن الأرْضَ كانَتْ فَاسِدَةً فَأحْيَاهَا اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِنَبِيِّهِ، وَ لَا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا.
و في «الدرّ المنثور»: أخرج أحمد، و البخاريّ، و مسلم، و النسائيّ، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم:
مَثَلُ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَ العِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصَابَ أرْضاً فَكَانَتْ مِنْهَا بَقَيَّةٌ قَبَلَتِ المَاءَ فَأنْبَتَتِ الكَلَاءَ وَ العُشْبَ الكَثِيرَ. وَ كَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ أمْسَكَتِ المَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَ سَقَوا وَ زَرَعُوا. وَ أصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً اخرى إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَ لَا تُنْبِتُ كَلَاءً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ في دِينِ اللهِ وَ نَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَ عَلَّمَ؛ وَ مَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأساً وَ لَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الذي ارْسِلْتُ بِهِ.٣
أجل، إن تفسير البلد الطيّب بعلم النبيّ و الإمام و هدايتهما، و تفسير
إصلاح الأرض بعد مجيء الرسول و الإمام و أمثالهما ليسا من المعاني التأويليّة للآيات المباركة، بل مفاد العمل بظهور المعاني الظاهريّة للقرآن الكريم و بيانها، إذ إن معنى الأرض الصالحة المستعدّة و مفاد الإفساد في الأرض بعد إصلاحها يتيسّران للإنسان و يتبادران إلى الذهن في أوّل وهلة، و لا حاجة إلى جرّ المعنى الظاهر إلى الباطن و استخراج التأويل.
إن وجود الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين أرض فسيحة شاسعة من العلم و العقل و الدراية و الفطنة و الهداية، يخرج فيها نبات طيّب حَسَن، فيُتحف الدنيا بثمار حلوة ريّانة نافعة، و فواكه ثمينة و أدوية و عقاقير لمعالجة الأمراض و رفع العلل و الأسقام. و لا فائدة للعالم البشريّ و المجتمع الإنسانيّ من وجود المخالفين و المعاندين و المكابرين. ذلك أنّ الأئمّة المعصومين بعيدون عن الهوى و التغطرس و حبّ الذات و الدعوة إلى النفس و جعلها محوراً. فما عندهم يترشّح من نفوس طاهرة صفيّة زكيّة متّصلة بعالم النور و التجرّد و العرفان الإلهيّ و التوحيد الربوبيّ. و من الواضح أنّ الظُّلمة لا تترشّح من النور، و القُبح لا يُولَد من الحُسن، و الخبيث لا يخرج من الطيّب. أي: لا يسري من الله تعالى و أصفيائه المخلصين إلى العالم الخارجيّ إلّا العلم الحقيقيّ اللدنّيّ الخالد الثابت الأصيل.
الإمام الصادق عليه السلام النموذج الماثل للبلد الطَّيِّب
إن الإمام جعفر الصادق عليه السلام من تلك النبتة الفريدة التي نمت في أرض التوحيد الطيّبة. و لم تنفح آثاره العلميّة الهادية الشيعة فحسب، بل نفحت الأجيال البشريّة برمّتها، و لم تُظَلِّل المدينة المنوّرة وحدها بل ظَلَّلت العالَم بأسره، و لم تقتصر على عصر واحد فقط، بل هي للعصور كلّها خالدةً إلى الأبد.
و لِمَ ذاك؟ ذاك لأنّه عليه السلام معصوم، و لكلّ معصوم أبديّة كأبديّة القرآن الكريم ذي العصمة. و لكلمة كلّ فقيهٍ و فتواه و حكمه و رأيه حجّيّة
في حياته اعتباراً من الشيخ الطوسيّ و العلّامة الحلّيّ حتى آية الله البروجرديّ و آية الله الحكيم و من شابههم، بَيدَ أنّ تلك الحجّيّة تسقط بموت هؤلاء الفقهاء، إذ إنّهم غير معصومين، و على الناس أن يقلّدوا المجتهد الحيّ الأعلم الجامع للشرائط، أمّا الآيات القرآنيّة الكريمة، و السنّة النبويّة الثابتة، و السيرة الإماميّة المسلّم بها فهي حُجّة إلى يوم القيامة.
قال آية الله السيّد على خان المدنيّ الشيرازيّ رفع الله رتبته في ترجمة الإمام الصادق عليه السلام: و جعفر بن محمّد هو الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم.
إلى أن قال: قال الشيخ المفيد: لم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته مثل ما نُقل عنه من العلوم و الآثار، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء و المقالات فكانوا أربعة آلاف رجل.
و قال الشيخ كمال الدين بن طلحة الشافعيّ: أمَّا مَنَاقِبُهُ وَ صِفَاتُهُ فَتَكَادُ تَفُوتُ عَدَدَ الحَاصِرِ، وَ يَحَارُ في أنْوَاعِهَا فَهْمُ اليَقِظِ البَاصِرِ، حتى أنَّ مِنْ كَثْرَةِ عُلُومِهِ المُفَاضَةِ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ سِجَالِ التَّقوى صَارَتِ الأحْكَامُ التي لَا تُدْرَكُ عِلَلُهَا، وَ العُلُومُ التي تَقْصُرُ الأفْهَامُ عَنِ الإحَاطَةِ بِحُكْمِهَا تُضَافَ إلَيْهِ وَ تُرْوَى عَنْهُ.۱
افتخار أبي حنيفة بالتتلمذ عند الإمام الصادق عليه السلام
و قال الذهبيّ في «الكاشف»: قال أبو حنيفة: ما رأيتُ أفقه منه. و قد دخلني له من الهيبة ما لم يدخلني من المنصور.۱
و عن عمرو بن أبي المقدام، قال: كنتُ إذا نظرتُ إلى جعفر بن محمّد علمتُ أنّه من سلالة النبيّين.
و عن صالح بن الأسود، قال: سمعتُ جعفر بن محمّد يقول: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي فَإنَّهُ لَا يُحَدِّثُكُمْ أحَدٌ بَعْدي بِمِثْلِ حَدِيثِي.٢
قال العلّامة الجليل الشيخ محمّد حسين المظفّر: و ما كان فقهاء الشيعة عيالًا عليه فحسب، بل أخذ كثير من فقهاء السُّنّة الذين عاصروه الفقه عنه، أمثال مالك، و أبي حنيفة، و السُّفيانِيَّينِ (سفيان الثوريّ، و سفيان ابن عُيَيْنَة)، و أيّوب، و غيرهم، كما ستعرفه في بابه، بل إن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» (ج ۱، ص ٦) أرجع فقه المذاهب الأربعة إليه.
و هذا الآلوسيّ في «مختصر التُّحفة الاثني عشريّة»٣ ص ۸ يقول:
...۱ و هذا أبو حنيفة و هو بين أهل السنّة كان يفتخر و يقول بأفصح لسان: لَوْ لا
السَّنَتَانِ لَهَلَكَ النُّعْمَانُ.
يريد السنتين اللتين صحب فيهما الإمام جعفر الصادق عليه السلام لأخذ العلم.۱
و قال أيضاً تحت عنوان «حياته العلميّة»: علمه إلهاميّ. و قال في شرحه: لا فضيلة كالعلم، فإنّ به حياة الامم و سعادتها و رقيّها و خلودها، و به نباهة المرء و علوّ مقامه و شرف نفسه.
و لا غرابة لو كان العلم أفضل من العبادة أضعافاً مضاعفة. لأنّ العابد صالح على طريق نجاة قد استخلص نفسه فحسب، و لكن العالم مصلح يستطيع أن يستخرج عوالم كبيرة من غياهب الضلال، و صالح في نفسه أيضاً، و قد فتح عينيه في طريقه. و من فتح عينه أبصر الطريق.
و ليس في الفضائل ما يصلح الناس و ينفعهم و يبقى أثره في الوجود مثل العلم، فإنّ العبادة و الشجاعة و الكرم و غيرها إذا نفعت الناس فإنّما نفعها ما دام صاحبها في الوجود، و ليس له بعد الموت إلّا حسن الاحدوثة.
و لكن العالم يبقى نفعه ما دام علمه باقياً، و أثره خالداً.
و قد جاء في السنّة الثناء العاطر على العلم و أهله، كما جاء في الكتاب آيات جمّة في مدحه و مدح ذويه. و هذا أمر مفروغ عنه، لا يحتاج إلى استشهاد و استدلال.
نعم، إنّما الحقّ في أنّ هذا الثناء خاصّ بالعلم الدينيّ و علمائه، أو عامّ لكلّ علم و عالم؟!
أعتقد بشكل قاطع أنّه مختصّ بعلم الدين و علمائه.
و الأحاديث قد صرّحت به. و كفى من الكتاب قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ.۱
و قد لا تجد خشية عند علماء الصنعة و ما سواهم غير علماء الدين، بل إن بعضهم قد لا تجده يعترف بالوجود أو بالوحدانيّة.
و ما استحقّ علماء الدين هذا الثناء إلّا لأنّهم يريدون الخير للناس و يسعون له ما وجدوا إليه سبيلًا. و متى كانوا وجدتَهم أدلّاءَ مرشدين هداةً منقذين.
و علم الدين إلهاميّ و كسبيّ. و الكسبيّ يقع فيه الخطأ و الصواب و الصحيح و الغلط. و غلط العالم و خطؤه يعود على العالم كلّه بالخطأ و الغلط، لأنّ الناس أتباع العلماء في الأحكام و الحلال و الحرام، و الله جلّ شأنه لا يريد للناس إلّا العمل بالشريعة التي أنزلها، و الأحكام التي شرّعها. فلا بدّ من أن يكون في الناس عالم لا يُخطئ و لا يغلط، و لا يسهو و لا ينسى، ليرشد الناس إلى تلك الشريعة المنزلة منه جلّ شأنه، و الأحكام المشرّعة من لدنه سبحانه، فلا تقع الامّة في أشراك الأخطاء و حبائل الأغلاط،
و لا يكون ذلك إلّا إذا كان علم العالم و حياً أو إلهاماً.
فمن هنا كان حتماً أن يكون علم الأنبياء و أوصيائهم من العلم الإيحائيّ أو الإلهاميّ صوناً لهم و للُامم من الوقوع في المخالفة خطاً.
و الله تعالى قد أنزل شريعة واحدة لا شرائع، و في كلّ قضيّة حكماً لا أحكاماً، و نصب للُامّة في كلّ زمن مرشداً لا مرشدين. و نجدها اليوم شرائع و لها مشرّعون لا شريعة واحدة و مشرّعاً واحداً. و نرى في كلّ قضيّة أحكاماً لا حكماً واحداً. و في كلّ زمن مرشدين متخالفين متنابذين، بل يكفّر بعضهم بعضاً، و يبرأ بعضهم من بعض لا مرشداً واحداً. و ليس هذا ما جاء به المصلح الأكبر رسول الله صلّى الله عليه و آله، و لا ما أراده لُامّته.
فلا غرابة لو حكم العقل بأنّ الواجب عليه سبحانه أن ينصب في كلّ فترة زمنيّة عالماً يدلّ الناس على الشريعة كما جاءت، و يأتيهم بالأحكام كما نزلت. و هل يجوز ذلك على أحد سوى عليّ و بنيه؟
و هذه آثارهم العلميّة بين يديك فاستقرئها لعلّك تجد على النور هدىً. و لو لم يكن لدينا أثر أو دليل إلّا قوله صلّى الله عليه و آله: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا،۱ و قوله: أنّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي،٢ لكفى في كون أهل البيت علماء الشريعة و الكتاب الذين أخذوا العلم من معدنه، و استقوه من ينبوعه. و لو كان علمهم بالاكتساب لما جعلهم الرسول علماء الكتاب على طول الدهر دون الناس. و ما الذي ميّزهم على الناس إذا كانوا و الناس في العلم سواء؟!
و ممّا يسترعي الانتباه أنّ الناس كانوا محتاجين إلى علمهم أبداً. و كلّما رجعوا إليهم في أمر وجدوا علمه عندهم، و ما احتاجوا هم إلى علم الناس أبداً.
و لا نريد أن نلمسك هذه الحقيقة بالأخبار دون الآثار، فإنّ في الآثار ما به غنى للبصر. و هذه آثارهم شاهدة على صدق ما ادّعوه و ادّعى فيهم. و أمر حقيق بأن تنتبه إليه، و هو أنّ الجواد عليه السلام انتهت إليه الإمامة و هو ابن سبع، و نهض بأعبائها، و قام بما قام به آباؤه من التعليم و الإرشاد، و أخذ منه العلماء خاضعين مستفيدين. و ما وجدت فيه نقصاً عن علوم آبائه.
و هذا عليّ بن جعفر شيخ العلويّين في عهده سنّاً و فضلًا، إذا أقبل الجواد يقوم فيقبّل يده، و إذا خرج يسوّي له نعله. و سئل عن الناطق بعد الرضا عليه السلام، فقال: أبو جعفر ابنه! فقيل له: أنْتَ في سِنِّكَ وَ قَدْرِكَ وَ أبوكَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ تَقُولُ في هَذَا الغُلَامِ؟! فقال: مَا أرَاكَ إلَّا شَيْطَاناً، ثُمَّ أخَذَ بِلِحْيَتِهِ وَ قَالَ: فَمَا حِيلَتِي إن كَانَ اللهُ رَآهُ أهْلًا وَ لَمْ يَرَ هَذِهِ الشيْبَةَ لَهَا أهْلًا؟۱
علماً أنّ عليّ بن جعفر هو أخو الإمام الكاظم عليه السلام، و الإمام الكاظم هو جدّ الإمام الجواد عليهما السلام. فما ذا ترى بينهما من السنّ؟ و عليّ أخذ العلم من أبيه الصادق، و أخيه الكاظم، و ابن أخيه الرضا عليهم السلام. فلو كان علمهم بالتحصيل لكان عليّ أكثر من الجواد تحصيلًا، أو لو كانت الإمامة بالسنّ لكان عليّ أكبر العلويّين سنّاً.
على أنّ الجواد قد فارقه أبوه يوم سافر إلى خراسان و هو ابن خمس.
فمن الذي كان يؤدّبه و يثقّفه بعد أبيه حتى جعله بتلك المنزلة العليّة لو كان ما عندهم عن تعلّم و تأدّب؟! و لِمَ لا يكون المعلِّم و المثقِّف هو صاحب المنزلة دونه؟! و لِمَ لَمْ يُقِلِ الجواد؟!
أجل، توفّي الجواد و هو ابن خمس و عشرين سنةً. و أنت تعلم أنّ ابن هذا السنّ لم يبلغ شيئاً من العلم لو أنفق عمره هذا كلّه في طلبه، فكيف يكون عالم الامّة و مرشدها، و معلِّم العلماء و مثقِّفهم، و قد رجعت إليه الشيعة و علماؤها من يوم وفاة أبيه الرضا عليه السلام؟
و هكذا الحال في ابنه عليّ الهاديّ عليه السلام. فقد قضى الجواد، و ابنه الهاديّ ابن ستّ أو ثمان. فمن الذي ثقّفه و جعله بذلك المحلّ الأرفع؟ و كيف رجعت إليه العلماء و الشيعة و هو ابن هذا السنّ؟ و ما ذا يُحسن من كان هذا عمره لو كان علمه بالاكتساب؟
فالصادق - كسائر الأئمّة - لم يكن علمه كسبيّاً و أخذاً من أفواه الرجال و مدارستهم. و لو كان كذلك، فممّن أخذ و على يد مَن تخرّج؟ و ليس في تأريخ واحد من الأئمّة عليهم السلام أنّه تتلمذ أو قرأ على واحد من الناس حتى في سنّ الطفولة. فلم يذكر في تأريخ طفولتهم أنّهم دخلوا الكتاتيب۱ أو تعلّموا القرآن على المقرئين كسائر الأطفال من الناس. فما علم الإمام إلّا وراثة عن أبيه، عن جدّه، عن الرسول، عن جبرئيل، عن الجليل تعالى. و سنشير إلى بعض آثاره العلميّة و إلى تعليمه لتلامذته. و ما سواها ممّا هو داخل في حياته العلميّة.
كيفيّة المدرسة العلميّة للإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام
لم يُؤخَذ العلم عنه على هيئة ما هو عليه اليوم من الحوزات العلميّة و النقاش في الدليل و المأخذ، بل كان تلامذته يرون إمامته عدا قليل منهم. و الإماميّة - كما تقدّم - ترى أنّ علم الإمام لا يدخل فيه الرأي و الاجتهاد ليحاسب الإمام على المصدر و المستند. و إنّما علمه إلهيّ موروث. نعم، ربّما يسأله السائل عن علّة الحكم، سؤال تعلّمٍ و استفادة لا سؤال ردٍّ و جدل.
على أنّ مَن أخذ عنه العلم مِن غير الإماميّة كانوا يرون جلالته و سيادته و إمامته،۱ و قد عدّوا أخذهم عنه منقبة شُرفوا بها و فضيلة اكتسبوها.٢ و هذا ابن أبي الحديد قد أرجع علم المذاهب الأربعة إليه في الفقه.٣
فكان السائل يأتي إليه و يستعلمه عمّا أشكل عليه. و كان الكثير منهم قد استحضر الدواة و القرطاس ليكتب ما يمليه عليه الإمام ليرويه عنه عن تثبّت.
و إذا أردت أن تعرف مبلغ علمه فانظر إلى كثرة من استقى منه العلم. فقد بلغ من عرفه منهم أربعة آلاف أو يزيدون. و لما ذا روى هؤلاء كلّهم عنه و لم يرووا عن غيره، مع و فرة العلماء في عصره؟! و لما ذا إذا روى أحد منهم عنه وقف عليه و لا يُسأل عمّن يروي ما أملاه، إلّا أن يخبر هو أنّ ما أملاه عن آبائه، عن جدّه الرسول صلّى الله عليه و آله.
و ما كانت تلك المدرسة التي خرّجت ذلك العدد الجمّ مدرسة تريد أن تعلّم العلوم للذكر و الصيت و الفخر و الشرف. و ما كان هدف تلامذتها إلّا أن يتعلّموا العلم للعلم و خدمة الدين و الشريعة. و مَن خالف هذه السيرة أبعده الإمام عن حوزته. فكم طرد اناساً و لعن قوماً خالفوه في سيرته و سريرته. و ما زالت عظاته و إرشاداته تسبق تعاليمه، أو تطّرد مع بيانه.
تعاليم الإمام الصادق عليه السلام لتلاميذه
ما أكثر تعاليمه و أكثر عظاته و نصائحه! و إنّما نذكر منها هاهنا ما يخصّ طلب العلم.
قال عمرو بن أبي المقدام۱: قال لي أبو عبد الله عليه السلام في أوّل مرّة دخلتُ عليه: تَعَلَّمُوا الصِّدقَ قَبْلَ الحَدِيثِ.٢
ما أثمنها من نصيحة! و ما زال يوصي كلّ مَن دخل عليه مِن أوليائه بالصدق و أداء الأمانة. و لا عجب فإنّ بهما سعادة المرء في هذه الحياة، و وفرة المال و الجاه، و الطمأنينة و الرضى به للحكومة بين الناس.
و أمّا إرشاده إلى طلب العلم، فما أكثر قوله فيه! فتارةً يقول عليه السلام: لَسْتُ احِبُّ أنْ أرَى الشَّابَّ مِنْكُمْ إلَّا غادِياً في حَالَيْنِ: إمَّا عَالِماً أوْ مُتَعَلِّماً. فَإنْ لَمْ يَفْعَلْ فَرَّطَ، وَ إن فَرَّطَ ضَيَّعَ، وَ إن ضَيَّعَ أثِمَ.٣
و اخرى يقول: اطْلُبُوا العِلْمَ وَ تَزيَّنُوا مَعَهُ بِالحِلْمِ وَ الوَقَارِ!٤ و ما اقتصر على حثّهم على طلب العلم، بل حثّهم على ما يزدان به من الحلم
و الوقار ، بل التواضع، كما في قوله عليه السلام: وَ تَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَهُ العِلْمَ، وَ تَوَاضَعُوا لِمَنْ طَلَبْتُمْ مِنْهُ العِلْمَ، وَ لَا تَكُونُوا عُلَمَاءَ جَبَّارِينَ، فَيَذْهَبُ بَاطِلُكُمْ بِحَقِّكُمْ.۱
ما أدقّها من نصيحة، و أسماه من تعليم! فإنّ العلم لا ينفع صاحبه و لا الناس ما لم يكن مقروناً بالتواضع، سواء كان المتحلّي به معلِّماً أو متعلِّماً، و إن الناس لتنفر من ذي الكبرياء، و جبروت النفس يُذهِب ذلك المقدار من العلم الذي عند الإنسان و يقضي عليه.
و يقول عليه السلام في إرشاده لطالب العلم:
وَ لَا تَطْلُبِ العِلْمَ لِثَلَاثٍ: لِتُرَائِي بِهِ، وَ لَا لِتُبَاهِي بِهِ، وَ لَا لِتُمَارِي بِهِ. وَ لَا تَدَعْهُ لِثَلَاثٍ: رَغَبَةٍ في الجَهْلِ، وَ زَهَادَةٍ في العِلْمِ، وَ اسْتِحْيَاءٍ مِنَ النَّاسِ، وَ العِلْمُ المَصُونُ كَالسِّرَاجِ المُطْبَقِ عَلَيْهِ.٢
إن الصادق عليه السلام يريد أن يكون طلب العلم للعلم و لنفع الامّة. فلو طلبه المرء للرياء أو المباهاة أو المجادلة لما انتفع و نفع، بل لتضرّر و أضرَّ، كما أنّ تركه للرغبة في الجهل و الزهد في العلم كاشف عن الحمق، و لا خير في حياء يُقيمك على الرذيلة و يبعد عنك الفضيلة. و لا يكون انتفاع الناس بالعلم إلّا بنشره. و ما فائدة السراج إذا اطبق عليه.
و لنفاسة العلم حضّ على طلبه و إن كلّف غالياً، فقال:
اطْلُبُوا العِلْمَ وَ لَوْ بِخَوْضِ المُهَجِ وَ شَقِّ اللُّجَجِ.٣
و لمّا كان للعلم أوعية و معادن فقد نهاهم عن أخذ العلمِ من غير أهله، فقال عليه السلام: اطْلُبُوا العِلْمَ مِنْ مَعْدِنِ العِلْمِ، وَ إيَّاكُمْ وَ الوَلَايِجَ فَهُمُ الصَّادُّونَ عَنِ اللهِ.۱
إنّنا لنجد عياناً أنّ المتعلّم يتغذّى بروح معلِّمه، و يتشبّع بتعاليمه. فالتلميذ إلى الضلالة أدنى إن كان المعلّم ضالًّا، و إلى الهداية أقرب إن كان هادياً، لأنّ غريزة المحاكاة تقوى عند التلميذ بالقياس إلى معلّمه.
تبجيل الإمام الصادق عليه السلام و تعظيمه للعلماء
و ما حثّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام على طلب العلم فحسب، بل أراد منهم إذا تعلّموه أن يعملوا به، فقال عليه السلام: تَعَلَّمُوا العِلْمَ مَا شِئْتُمْ أنْ تَعَلَّمُوا فَلَنْ يَنْفَعَكُمُ اللهُ بِالعِلْمِ حتى تَعْمَلُوا بِهِ، لأنَّ العُلَمَاءَ هَمُّهُمُ الرِّعَايَةُ، وَ السُّفَهَاءَ هَمُّهُمُ الرِّوَايَةُ.٢
و قال: العِلْمُ الذي لَا يُعْمَلُ بِهِ كَالكَنْزِ الذي لَا يُنْفَقُ مِنْهُ، أتْعَبَ نَفْسَهُ في جَمْعِهِ وَ لَمْ يَصِلْ إلى نَفْعِهِ.٣
و قال: مَثَلُ الذي يَعْلَمُ الخَيْرَ وَ لَا يَعْمَلُ بِهِ مَثَلُ السِّرَاجِ يُضِيءُ لِلنَّاسِ وَ يُحْرِقُ نَفْسَهُ.٤
و قال: إن العَالِمَ إذَا لَمْ يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ زَلَّتْ مَوْعِظَتُهُ عَنِ القُلُوبِ كَمَا يَزِلُّ المَطَرُ عَنِ الصَّفَا.٥
و قد دلَّهم علي ما يحفظون به ما يتعلّمونه، فقال عليه السلام: اكْتُبُوا فَإنَّكُمْ لَا تَحْفَظُونَ حتى تَكْتُبُوا.٦
و ممّا قاله للمفضّل بن عمر: اكْتُبْ وَ بُثَّ عِلْمَكَ في إخْوَانِكَ فَإنْ مِتَّ فَوَرِّثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ فَإنَّهُ يَأتِي زَمَانُ هَرْجٍ مَا يَأنَسُونَ فِيهِ إلَّا بِكُتُبِهِمْ.۱
و قال: احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ فَإنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إلَيْهَا.٢
و لم يُرد عليه السلام فضيلة العلم لأهل زمانه فحسب، بل أرادها لكلّ جيل و عصر، كما أنّه ما أوصاهم بالتعلّم إلّا لأن يجمعوا كلّ فضيلةٍ معه، كما ستعرفه من وصاياه، و كما تعرفه من قوله عليه السلام: فَإنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ إذَا وَرَعَ في دِينِهِ، وَ صَدَقَ الحَدِيثَ، وَ أدَّى الأمَانَةَ، وَ حَسَّنَ خُلُقَهُ مَعَ النَّاسِ، قِيلَ: هَذَا جَعْفَرِيّ، وَ يَسُرُّنِي ذَلِكَ وَ يَدْخُلُ عَلَيّ مِنْهُ السُّرُورُ، وَ إن كَانَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيّ بَلَاؤُهُ وَ عَارُهُ، وَ قِيلَ: هَذَا أدَبُ جَعْفَرٍ.٣
إن الصادق و آباءه من قبل و أبناءه من بعد جاهدوا في حسن تربية الامّة و توجيههم إلى الفضائل، و ردعهم عن الرذائل بشتّى الوسائل. و لكن ما حيلتهم إذا كان الناس يأبون أن يسيروا بنهج الحقّ، و أن يتنكّبوا عن جادّة الباطل؟!
و ما حضّ على طلب العلم إلّا و حضّ على العناية بشأن العلماء و العطف عليهم، فقال عليه السلام:
ثَلَاثَةٌ يَشْكُونَ إلى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ: مَسْجِدٌ خَرَابٌ لَا يُصَلِّي بِهِ أهْلُهُ، وَ عَالِمٌ بَيْنَ جُهَّالٍ، وَ مُصْحَفٌ مُعَلَّقٌ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ غُبَارٌ لَا يُقْرَا فِيهِ.٤
و قال إسحاق بن عمّار الصيرفيّ: قلتُ للصادق عليه السلام: مَنْ قَامَ
مِنْ مَجْلِسِهِ تَعْظِيماً لِرَجُلٍ؟! قال عليه السلام: مَكْرُوهٌ إلَّا لِرَجُلٍ في الدِّينِ.
و قال عليه السلام: مَنْ أكْرَمَ فَقِيهاً مُسْلِماً لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَ هُوَ عَنْهُ رَاضٍ، وَ مَنْ أهَانَ فَقِيهاً مُسْلِماً لَقِيَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَ هُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ.۱
و ما أكثر ما جاء عنه عليه السلام في رعاية أهل العلم و تقديرهم، و إكرام العلماء و توقيرهم، و هكذا كان مجاهداً في تثقيف أتباعه و تهذيبهم و تعليمهم الأخلاق الفاضلة.٢
الإمام الصادق عليه السلام أعلم الامّة بالقرآن
علم التفسير و كيفيّة استخراج معاني القرآن الكريم
كان في الحديث عن أهل البيت الذي أشرنا إليه موارد جمّة للتفسير حتى أنّ بعض المفسّرين جعلوا تفسيرهم كلّه مبنيّاً على الحديث. و إذا شئت أن تعرف شيئاً من كلام الصادق عليه السلام في التفسير، فدونك «مجمع البيان» فإنّه قد أورد شيئاً من أحاديثه في تفسيره، و قد يُشير إلى رأي أهل البيت مستظهراً ذلك من حديثهم.
و هناك مؤلّفات عديدة في آيات الأحكام، و قد علّق عليهما المؤلّفون ما جاء في تفسيرها و الإشارة إلى مفادها من طريق أهل البيت و أحاديثهم. و الحديث الوارد عن سيّد الرسل في عدّة مقامات و من عدّة طرق: الذي يعرّفنا مبلغ علمهم بالقرآن، و إن في كلّ زمن عالماً منهم بالقرآن.
إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي. مَا إن
تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أبَداً. فَإنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.
و تشفع لهذا الحديث الأخبار الكثيرة الواردة عن أهل البيت في شأن علمهم بالقرآن. و الصادق نفسه يقول:
وَ اللهِ إنِّي لأعْلَمُ كِتَابَ اللهِ مِنْ أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ كَأنَّهُ في كفى. فِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ وَ خَبَرُ الأرْضِ وَ خَبَرُ مَا كَانَ وَ خَبَرُ مَا هُوَ كَائِنٌ. قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ.۱
و يفرج أصابعه مرّة اخرى فيضعها على صدره و يقول: وَ عِنْدَنَا وَ اللهِ عِلْمُ الكِتَابِ كُلِّهِ.٢ إلى كثير أمثال ذلك.
و لا بدّ في كلّ زمن من عالم بالقرآن الكريم على ما نزل، كما يشهد لذلك حديث الثقلَين، و لأنّ القرآن إمامٌ صامتٌ و فيه المحكم و المتشابه، و المجمل و المبيّن، و الناسخ و المنسوخ، و العامّ و الخاصّ، و المطلق و المقيّد، إلى غير ذلك ممّا خفي على الناس علمه. و كلّ فرقة من الإسلام تدّعي أنّ القرآن مصدر اعتقادها، و تزعم أنّها وصلت إلى معانيه و اهتدت إلى مقاصده. و تأتي على ذلك بالشواهد.
فالقرآن مصدر الفَرْق بزعم أهل الفِرق. فمن هو الحَكَم الفصل ليردّ قوله و تفسيره شُبهات هاتيك الفِرق و مزاعم هذه المذاهب؟ و قد دلّ حديث الثقلين على أنّ علماء القرآن هم العترة أهل البيت خاصّة و منهم يكون العالم به في كلّ عصر.
و في عصره عليه السلام إذا لم يكن هو العالم بالقرآن فمن غيره؟! ليس في الناس من يدّعي أنّ في أهل البيت أعلم من الصادق في عهده في التفسير أو في سواه من العلوم.۱
دروس الإمام الصادق عليه السلام في عرفان الذات المقدّسة للحقّ المتعال
فتح المرحوم المظفّر هذا البحث تحت عنوان علم الكلام، و قال: نعني من علم الكلام العلم الذي يبحث عن الوجود، و الوحدانيّة، و الصفات (صفات الباري تعالى) و ما يلزم هذه المباحث من نبوّة، و إمامة، و معاد بالأدلّة العقليّة المبتنية على اسس منطقيّة صحيحة، و لا نعني به علم الجدل الذي تاه فيه كثير من الناس لاعتمادهم فيه على خواطر توحيها إليهم نفوس ساقها إلى الكلام حبّ الغلبة في المجادلة دون أن يستندوا إلى ركن وثيق أو يأخذوا هذا العلم من معدنه الصحيح.
و إن جاء ذمّ على ألسنة الأحاديث للمتكلّمين، فيعني بهم الذين تعلّموا الجدل للظهور و الغلبة و لم يستقوا الماء من منبعه، و لم يعبأوا بما يجرّهم إليه الكلام من لوازم فاسدة. و أمّا الذين انتهلوه من مورده الرويّ، و بنوه على اسس صحيحة و دعائم وجدانيّة فإنّهم ألسنة الحقّ و هداته و دعاة الإيمان و أدلّاؤه.
الدليل العقليّ ضروريّ في توحيد ذات الحقّ تعالي
و إن أوّل من برهن على الوجود و لوازم الوجود بالأدلّة العقليّة و الآثار المحسوسة أمير المؤمنين عليه السلام حتى كاد أن يشكّ في تلك الخطب بعض من يجهل أو يتجاهل مقام أبي الحسن من العلم الربّانيّ بدعوى أنّ
العلم على تلك الاصول لم يكن معهوداً في ذلك الزمن. و ليت شِعري إن لم يعترف هذا الجاهل بأنّ علم أبي الحسن إلهاميّ يستقيه من المنبع الفيّاض، فإنّه لا يجهل ما قاله النبيّ صلّى الله عليه و آله فيه: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا.
و نسج على منوال أبي الحسن بنوه في هذا العلم، فإنّهم ما زالوا يفيضون على الناس من علمهم الزاخر عن الوجود و لوازمه. و كيف يعبد الناس ربّاً لا يعرفونه، و يطيعون نبيّاً يجهلونه، و يتّبعون إماماً لا يفقهون مقامه؟! فالمعرفة قبل كلّ علم و أفضل كلّ علم. يقول الصادق عليه السلام: أفْضَلُ العِبَادَةِ العِلْمُ بِاللهِ.۱
و ليس للسمع في تلك القواعد و الاصول مدخل، لأنّ التقليد في العقليّات لا يصحّ عند أرباب العقول.
أجل، قد يجيء النقل دليلًا، و لكنّه من الإرشاد إلى حكم العقل، أو الإشارة إلى الفطرة كما في قوله تعالى: أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ.٢ و أمثاله من القرآن المجيد. فإنّ هذه الآية الكريمة لم تحملك على القول بالوجود حتماً، بل لفتتك إليه من جهة الأثر و مشاهدته.
فإذا جاء عن الرسول و عترته أدلّة على هذه الاصول فما كلامهم في هذا إلّا إرشاد إلى حكم العقل. فإنّهم ما زالوا يدلّون على العقل و يهدون إلى دلالته. و هذا الصادق نفسه يقول: العَقْلُ دَليلُ المؤمِنِ؛ و يقول: دِعَامَةُ الإنْسَانِ العَقْلُ؛ و يقول: لَا يُفْلِحُ مَنْ لَا يَعْقِلُ. و لو قرأتَ ما أملاه الكاظم عليه السلام على هشام بن الحكم في شأن العقل و العقلاء لعرفت كيف
عرفوا حقيقة العقل، و دلّوا عليه، و حثّوا على الاستضاءة بنوره.
و لقد جاء في كلامهم الشيء الكثير من الاستدلال على هذه الاصول. و هذا «نهج البلاغة» قد جمع من البراهين ما أبهر العقول و حيّر الألباب، كما جمعت كتب الحديث و الكلام كثيراً من تلك الحجج. و من تلك الكتب: «الاحتجاج» للطبرسيّ، و «اصول الكافي»، و «التوحيد» للصدوق. و الأوّل و الثاني من «بحار الأنوار». و في كتبه الاخرى التي يترجم فيها الأئمّة عليهم السلام، و يذكر كلامهم طيّ تراجمهم، إلى نظائر هذه الكتب الجليلة!۱
روى المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» عن «الاحتجاج»، عن هشام بن الحكم قال: دخل ابن أبي العوجاء على الصادق عليه السلام، فقال له الصادق عليه السلام: يا بْنَ أبي العَوْجَاء! أ مَصْنُوعٌ أنْتَ أمْ غَيْرُ مَصْنُوعٍ؟!
قال: لستُ بمصنوع!
فقال له الصادق: فَلَوْ كُنْتَ مَصْنُوعاً كَيْفَ كُنْتَ تَكُونُ؟!
فلم يحر ابن أبي العوجاء جواباً. و قام، و خرج. و ورد مثل هذا الحديث أيضاً عن هشام في توحيد الصدوق بسند آخر.
قال المجلسيّ في بيانه موضّحاً هذا الحديث: لمّا كان التصديق بوجود الصانع تعالى ضروريّاً، نبّهه عليه السلام بأنّ العقل يحكم بديهةً بالفرق بين المصنوع و غيره. و فيك جميع صفات المصنوعين، فكيف لم تكن مصنوعاً؟!
أشكل استاذنا العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في تعليقته على التوضيح المذكور، و قال: لَا يَخْفَي أنّ الرواية غير مسوقة للتنبيه على ما
ذكره؛ بل إلزام له بالترجيح بلا مرجّح، فإنّ اختياره عدم المصنوعيّة مع جواز مصنوعيّته قول بلا دليل. (ط).۱
إن ما أفاده استاذنا العلّامة قدّس الله سرّه أفضل ممّا أفاده جدّنا الأقدم من جهة الامّ العلّامة المجلسيّ رضوان الله عليه، بل هو الأولى و المتعيّن.
حوار الإمام الصادق عليه السلام مع الديصانيّ في التوحيد
و روى العلّامة المجلسيّ أيضاً عن «الاحتجاج» أنّ أبا شاكر الديصانيّ و هو زنديق٢ دخل على أبي عبد الله عليه السلام فقال له: يا جعفر بن محمّد! دُلّني على معبودي!
فقال أبو عبد الله عليه السلام: اجلس! فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها. فقال أبو عبد الله عليه السلام: ناولني يا غلام البيضة! فناوله إيّاها!
فقال أبو عبد الله عليه السلام:
يَا دَيْصَانِيّ! هَذَا حِصْنٌ مَكْنُونٌ لَهُ جِلْدٌ غَلِيظٌ، وَ تَحْتَ الجِلْدِ الغَلِيظِ جِلْدٌ رَقِيقٌ، وَ تَحْتَ الجِلْدِ الرَّقِيقِ ذَهَبَةٌ مَائِعَةٌ وَ فِضَّةٌ ذَائِبَةٌ، فَلَا الذَّهَبَةُ المَائِعَةٌ تَخْتَلِطُ بِالْفِضَّةِ الذَّائِبَةِ، وَ لَا الفِضَّةُ الذَّائِبَةُ تَخْتَلِطُ بِالذَّهَبَةِ المَائِعَةِ.
فَهِيَ عَلَى حَالِهَا لَمْ يَخْرُج۱ مِنهَا خَارِجٌ مُصْلِحٌ فَيُخْبِرُ عَنْ إصْلَاحِهَا، وَ لَمْ يَدْخُلْ٢ فِيهَا دَاخِلٌ مُفْسِدٌ فَيُخْبِرُ عَنْ إفْسَادِهَا. لَا يَدْرِي لِلذَّكَرِ خُلِقَتْ أمْ لِلُانْثَى؟!
تَنْفَلِقُ عَنْ مِثْلِ ألْوَانِ الطَّوَاوِيسِ. أ تَرَى لَهَا مُدَبِّراً؟!
قَالَ: فَأطْرَقَ مَلِيَّاً ثُمَّ قَالَ: أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَ أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، وَ أنَّكَ إمَامٌ وَ حُجَّةٌ مِنَ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَ أنَا تَائِبٌ مِمَّا كُنْتُ فِيهِ.
حوار آخر للإمام الصادق عليه السلام مع الديصانيّ
روي في «التوحيد» للصدوق بسنده المتّصل عن عبد الله الديصانيّ أنّه أتى باب أبي عبد الله عليه السلام فاستأذن عليه، فأذن له، فلمّا قعد قال له: يا جعفر بن محمّد! دلّني على معبودي!
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: ما اسمك؟! فخرج عنه و لم يخبره باسمه. فقال له أصحابه: كيف لم تخبره باسمك؟! قال: لو كنتُ قلتُ له: عبد الله، كان يقول: من هذا الذي أنت له عبدٌ؟! فقالوا له: عُد إليه فقل له: يدلّك على معبودك و لا يسألك عن اسمك! فرجع إليه، فقال له: يا جعفر! دلّني على معبودي و لا تسألني عن اسمي. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: اجلس، و إذا غلام صغير ... إلى آخر الخبر.
قال المجلسيّ في بيانه: قد أوردنا الخبر بتمامه في باب القدرة، و تقرير استدلاله عليه السلام أنّ ما في البيضة من الإحكام و الإتقان و الاشتمال على ما به صلاحها و عدم اختلاط ما فيها من الجسمين السيّالين - و الحال أنّه ليس فيها حافظ لها من الأجسام فيخرج مخبراً عن صلاحها،
و لا يدخلها جسمانيّ من خارج فيفسدها، و هي تنفلق عن مثل ألوان الطواويس - يدلّ على أنّ له مبدأ غير جسم و لا جسمانيّ، و لا يخفي لطف نسبة الاصلاح إلى ما يخرج منها، و الإفساد إلى ما يدخل فيها، لأنّ هذا شأن أهل الحصن الحافظين له و حال الداخل فيه بالقهر و الغلبة.۱
و روى المجلسيّ أيضاً عن «الأمالي» للصدوق، عن أحمد بن عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم، قال: دخل أبو شاكر الديصانيّ على أبي عبد الله الصادق عليه السلام، فقال له: إنَّكَ أحَدُ النُّجُومِ الزَّوَاهِرِ، وَ كَانَ آبَاؤُكَ بُدُوراً بَواهِرَ، وَ امَّهَاتُكَ عَقِيلَاتٍ عَبَاهِرَ، وَ عُنْصُرُكَ مِنْ أكْرَمِ العَنَاصِرِ، وَ إذَا ذُكِرَ العُلَمَاءُ فَبِكَ تُثَنَّي الخَنَاصِرُ، فَخَبِّرْنِي أيُّهَا البَحْرُ الخِضَمُّ الزَّاخِرُ: مَا الدَّلِيلُ عَلَى حَدَثِ [حُدُوثِ] العَالَمِ؟!٢
فقال الصادق عليه السلام: يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأقْرَبِ الأشْيَاءِ!
قال: وَ مَا هُوَ؟!
قال: فدعى الصادق عليه السلام ببيضة فوضعها على راحته، ثمّ قال:
هَذَا حِصْنٌ مَلْمُومٌ، دَاخِلُهُ غِرْقِئٌ رَقِيقٌ، تُطِيفُ بِهِ فِضَّةٌ سَائِلَةٌ وَ ذَهَبَةٌ مَائِعَةٌ، ثُمَّ تَنْفَلِقُ عَنْ مِثْلِ الطَّاوُوسِ، أ دَخَلَهَا شَيْءٌ؟!
قال: لا!
قال: فَهَذَا الدَّلِيلُ عَلَى حَدَثِ [حُدُوثِ] العَالَمِ!
قال [الديصانيّ]: أخْبَرْتَ فَأوْجَزْتَ، وَ قُلْتَ فَأحْسَنْتَ، وَ قَدْ عَلِمْتَ أنَّا لَا نَقْبَلُ إلَّا مَا أدْرَكْنَاهُ بِأبْصَارِنَا، أوْ سَمِعْنَاهُ بِآذَانِنَا، أوْ لَمَسْنَاهُ بِأكُفِّنَا، أوْ شَمَمْنَاهُ بِمَنَاخِرِنَا، أوْ ذُقْنَاهُ بِأفْوَاهِنَا، أوْ تُصُوِّرَ في القُلُوبِ بَيَاناً، وَ اسْتَنْبَطَهُ الرِّوَايَاتُ إيقَاناً!
فقال الصادق عليه السلام: ذَكَرْتَ الحَوَاسَّ الخَمْسَ، وَ هِيَ لَا تَنْفَعُ شَيْئاً بِغَيْرِ دَلِيلٍ كَمَا لَا تُقْطَعُ الظُّلْمَةُ بِغَيْرِ مِصْبَاحٍ.
قال العلّامة المجلسيّ في بيانه: قوله عليه السلام: و هي لا تنفع شيئاً بغير دليل، أي: هي عاجزةٌ يتوقّف إدراكها على شرائط، فكيف تنفي ما لم تدركه بحسِّكَ؟ كما أنّ البصر لا يبصر الأشياء بغير مصباح. و يحتمل أن يكون المراد بالدليل العقل، أي: لا تنفع الحواسّ بدون دلالة العقل، فهو كالسراج لإحساس الحواس. و أنت قد عزلتَ العقل و حكمه و اقتصرت على حكم الحواسّ!
قال العلّامة الطباطبائيّ في الهامش: بل المراد أنّ الحواسّ إنّما لها الإدراك التصوّريّ، و أمّا التصديق و الحكم فللعقل. (ط).۱
استهزاء ابن أبي العوجاء بالحجّ و جواب الإمام الصادق عليه السلام
و روى المجلسيّ عن «الاحتجاج» عن عيسى بن يونس، قال: كان ابن أبي العوجاء٢ من تلامذة الحسن البصريّ، فانحرف عن التوحيد، فقيل
له: تركت مذهب صاحبك و دخلت فيما لا أصل له و لا حقيقة؟
قال: إن صاحبي كان مخلّطاً يقول طوراً بالقدر و طوراً بالجبر، فما أعلمه اعتقد مذهباً دام عليه. فقدم مكّة تمرّداً و إنكاراً على من يحجّ، و كان يكره العلماء مجالسته و مساءلته لخبث لسانه و فساد ضميره. فأتى أبا عبد الله عليه السلام فجلس إليه في جماعة من نظرائه، فقال: يا أبا عبد الله! إن المجالس بالأمانات، و لا بدّ لكلّ مَن به سعال أن يسعل، أ فتأذن لي في الكلام؟! فقال الصادق عليه السلام: تكلّم بما شئتَ. فقال:
إلَى كَمْ تَدُوسُونَ هَذَا البَيْدَرَ،۱ وَ تَلُوذُونَ بِهَذَا الحَجَرِ، وَ تَعْبُدُونَ هَذَا البَيْتَ المَرْفُوعَ بِالطُّوبِ وَ المَدَرِ، وَ تُهَرْوِلُونَ حَوْلَهُ كَهَرْوَلَةِ البَعِيرِ إذَا نَفَرَ؟!
إن مَنْ فَكَّرَ في هَذَا وَ قَدَّرَ عَلِمَ أنَّ هَذَا فِعْلٌ أسَّسَهُ غَيْرُ حَكِيمٍ وَ لَا ذِي نَظَرٍ. فَقُلْ فَإنَّكَ رَأسُ هَذَا الأمْرِ وَ سَنَامُهُ، وَ أبُوكَ اسُّهُ وَ نِظَامُهُ!
فقال أبو عبد الله عليه السلام: إن مَنْ أضَلَّهُ اللهُ وَ أعْمَى قَلْبَهُ اسْتَوْخَمَ الحَقَّ وَ لَمْ يَسْتَعْذِبْهُ، وَ صَارَ الشَّيْطَانُ وَلِيُّهُ يُوْرِدُهُ مَنَاهِلَ الهَلَكَةِ ثُمَّ لَا يُصْدِرُهُ.
وَ هَذَا بَيْتٌ اسْتَعْبَدَ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ لِيَخْتَبِرَ طَاعَتُهُمْ في إتْيَانِهِ، فَحَثَّهُمْ عَلَى تَعْظِيمِهِ وَ زِيَارَتِهِ، وَ جَعَلَهُ مَحَلَّ أنْبِيَائِهِ، وَ قِبْلَةً لِلْمُصَلِّينَ لَهُ.
فَهُوَ شُعْبَةٌ مِنْ رِضْوَانِهِ، وَ طَرِيقٌ يُؤَدِّي إلى غُفْرَانِهِ، مَنْصُوبٌ عَلَى اسْتِواءِ الكَمَالِ، وَ مُجْتَمَعِ العَظَمَةِ وَ الجَلَالِ، خَلَقَهُ اللهُ قَبْلَ دَحْوِ الأرْضِ بِألْفَي عَامٍ. فَأحَقُّ مَنْ اطِيعَ فِيمَا أمَرَ وَ انْتُهِيَ عَمَّا نَهَى عَنْهُ وَ زَجَرَ: اللهُ المُنْشِئُ لِلأرْوَاحِ وَ الصُّوَرِ.
فقال ابن أبي العوجاء: ذَكَرْتَ اللهَ۱ فَأحَلْتَ عَلَى غَائِبٍ!
فقال أبو عبد الله عليه السلام: وَيْلَكَ كَيْفَ يَكُونُ غَائِباً مَنْ هُوَ مَعَ خَلْقِهِ شَاهِدٌ؟! وَ إلَيْهِمْ أقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ، يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ، وَ يَرَى أشْخَاصَهُمْ، وَ يَعْلَمُ أسْرَارَهُمْ!
فقال ابن أبي العوجاء: فَهُوَ في كُلِّ مَكَانٍ؟! أ لَيْسَ إذَا كَانَ في السَّمَاءِ كَيْفَ يَكُونُ في الأرْضِ؟! وَ إذَا كَانَ في الأرْضِ كَيْفَ يَكُونُ في السَّمَاءِ؟
فقال أبو عبد الله عليه السلام: إنَّمَا وَصَفْتَ المَخْلُوقَ الذي إذَا انْتَقَلَ مِنْ مَكَانٍ اشْتَغَلَ بِهِ مَكَانٌ وَ خَلَا مِنْهُ مَكَانٌ، فَلَا يَدْرِي في المَكَانِ الذي صَارَ إلَيْهِ مَا حَدَثَ في المَكَانِ الذي كَانَ فِيهِ!
فَأمَّا اللهُ العَظِيمُ الشَّأنِ المَلِكُ الدَّيَّانُ فَلَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ، وَ لَا يَشْتَغِلُ بِهِ مَكَانٌ، وَ لَا يَكُونُ إلى مَكَانٍ أقْرَبَ مِنْهُ إلى مَكَانٍ!
و روى مثلها في «الأمالي» للصدوق بسندٍ، و في «علل الشرائع» بسند آخر أيضاً.
ندم ابن أبي العوجاء على محاورته الإمام عليه السلام
و روى الصدوق مثلها في توحيده بسند آخر. و أضاف في آخرها أنّ الإمام عليه السلام قال في آخرها: وَ الذي بَعَثَهُ بِالآيَاتِ المُحْكَمَةِ، وَ البَرَاهِينِ الوَاضِحَةِ وَ أيَّدَهُ بِنَصْرِهِ، وَ اخْتَارَهُ لِتَبْلِيغِ رِسَالَتِهِ، صَدَّقْنَا قَوْلَهُ بِأنَّ رَبَّهُ بَعَثَهُ وَ كَلَّمَهُ.
فقام عنه ابن أبي العوجاء و قال لأصحابه: مَنْ ألقاني في بحر هذا؟! و في رواية ابن الوليد: مَنْ ألْقَانِي في بَحْرِ هَذَا! سَألْتُكُمْ أنْ تَلْتَمِسُوا لي خُمْرَةً فَألْقَيْتُمونِي عَلَى جَمْرَةٍ!
قالوا: ما كنت في مجلسه إلّا حقيراً. قال: إنَّهُ ابْنُ مَنْ حَلَقَ رُؤُوسَ
مَنْ تَرَوْنَ!
قال المجلسيّ في بيانه: الخُمرة بالضمّ حصيرة صغيرة من السعف. أي: طلبت منكم أن تطلبوا لي خصماً ألعب به كالخمرة فألقيتموني على جمرة ملتهبة!
و في «الاحتجاج» للطبرسيّ روي أنّ الصادق عليه السلام قال لابن أبي العوجاء: إن يَكُنْ الأمْرُ كَمَا تَقُولُ - وَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُ - نَجَوْنَا وَ نَجَوْتَ، وَ إن لَمْ يَكُنِ الأمْرُ كَمَا تَقُولُ نَجَوْنَا وَ هَلَكْتَ!۱
و روى المجلسيّ عن «الخصال» للصدوق، بسنده عن هشام بن سالم، عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: سمعتُ أبي يحدِّثُ عن أبيه عليه السلام أنّ رجلًا قام إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له:
يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! بِمَا عَرَفْتَ رَبَّكَ؟!
قال: بِفَسْخِ العَزْمِ،٢ وَ نَقْضِ الهِمَمِ. لَمَّا أنْ هَمَمْتُ حَالَ بَيْنِي وَ بَيْنَ هَمِّي. وَ عَزَمْتُ فَخَالَفَ القَضَاءُ عَزْمِي. فَعَلِمْتُ أنَّ المُدَبِّرَ غَيْرِي!
قال: فَبِمَاذَا شَكَرْتَ نَعْمَاءَهُ؟!
قال: نَظَرْتُ إلى بَلَاءٍ قَدْ صَرَفَهُ عَنِّي وَ أبْلَى بِهِ غَيْرِي، فَعَلِمْتُ أنَّهُ قَدْ أنْعَمَ عَلَيّ فَشَكَرْتُهُ.
قال: فبماذا أحببتَ لقاءه؟!
قال: لَمَّا رَأيْتُهُ قَدِ اخْتَارَ لي دِينَ مَلَائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ أنْبِيَائِهِ، عَلِمْتُ أنَّ الذي أكْرَمَنِي بِهَذَا لَيْسَ يَنْسَانِي فَأحْبَبْتُ لِقَاءَهُ.
و مثل هذه الرواية في «التوحيد» للصدوق بسنده المتّصل عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام، عن أبيه، عن جدّه عليهما السلام.۱
و أيضاً في «التوحيد» للصدوق بسنده المتّصل عن هشام بن سالم، عن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام عند ما قيل له: بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟! قَالَ: بِفَسْخِ العَزْمِ وَ نَقْضِ الهَمِّ. عَزَمْتُ فَفَسَخَ عَزْمِي، وَ هَمَمْتُ فَنَقَضَ هَمِّي.٢
إراءة الإمام عليه السلام الله لابن أبي العوجاء في وجوده
و روى المجلسيّ أيضاً عن «التوحيد» للصدوق بسنده المتّصل عن أحمد بن محسن الميثميّ،٣ قال: كنت عند أبي منصور المتطبّب، فقال: أخبرني رجل من أصحابي قال: كنتُ أنا و ابن أبي العوجاء و عبد الله بن المقفّع في المسجد الحرام. فقال ابن المقفّع: ترونَ هذا الخلق؟ - و أومى بيده إلى موضع الطواف - مَا مِنْهُمْ أحَدٌ اوجِبُ لَهُ اسْمَ الإنسانيَّةِ إلَّا ذَلِكَ الشَّيْخُ الجَالِسُ - يَعْنِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - فَأمَّا البَاقُونَ فَرَعَاعٌ وَ بَهَائِمُ.
فقال له ابن أبي العوجاء: و كيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟!
قال: لأنّي رأيتُ عنده ما لم أرَ عندهم!
فقال ابن أبي العوجاء: ما بُدَّ من اختبار ما قلت فيه منه.
فقال له ابن المقفّع: لا تفعل فإنّي أخاف أن يفسد عليك ما في يدك!
فقال: ليس ذا رأيك و لكنّك تخاف أن يضعف رأيك عندي في إجلالك إيّاه المحلّ الذي وصفتَ.
فقال ابن المقفّع: أمّا إذا توهّمت عَلَيّ هذا فقم إليه و تحفّظ ما استطعت من الزلل، و لا تثنّ عنانك إلى استرسال يسلمك إلى عقال، و سمه ما لك أو عليك.
قال: فقام ابن أبي العوجاء و بقيت و ابن المقفّع، فرجع إلينا، و قال: يا بن المقفّع ما هذا ببشر. وَ إن كَانَ في الدُّنْيَا رُوحَانِيّ يَتَجَسَّدُ إذَا شَاءَ ظَاهِراً، وَ يَتَرَوَّحُ إذَا شَاءَ بَاطِنَاً فَهُوَ هَذَا!
فقال له: و كيف ذاك؟!
قال: جلستُ إليه فلمّا لم يبق عنده غيري ابتدأني، فقال: إن يَكُنِ الأمْرُ عَلَى مَا يَقُولُ هَؤْلَاءِ - وَ هُوَ عَلَى مَا يَقُولُونَ - يَعْنِي أهْلَ الطَّوَافِ، فَقَدْ سَلِمُوا وَ عَطِبْتُمْ، وَ إن يَكُنِ الأمْرُ كَمَا تَقُولُونَ - وَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ - فَقَدِ اسْتَوَيْتُمْ وَ هُمْ!
فقلتُ له: يرحمك الله! و أيّ شيء نقول؟ و أيّ شيء يقولون؟ ما قولي و قولهم إلّا واحداً.
فقال: كيف يكون قولك و قولهم واحداً، و هم يقولون: إن لهم معاداً و ثواباً و عقاباً، و يدينون بأنّ للسماء إلهاً، و أنّها عمران، و أنتم تزعمون أنّ السماء خراب ليس فيها أحد؟!
قال: فاغتنمتها منه، فقلتُ له: ما منعه إن كان الأمر كما تقول أن يظهر لخلقه و يدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان، و لِمَ احتجب عنهم و أرسل إليهم الرسل؟! و لو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به.
فقال لي: وَيْلَكَ! وَ كَيْفَ احْتَجَبَ عَنْكَ مَنْ أرَاكَ قُدْرَتَهُ في نَفْسِكَ؟ نَشُؤكَ وَ لَمْ تَكُنْ، وَ كِبَرَكَ بَعْدَ صِغَرِكَ، وَ قُوَّتَكَ بَعْدَ ضَعْفِكَ، وَ ضَعْفَكَ بَعْدَ قُوَّتِكَ، وَ سُقْمَكَ بَعْدَ صِحَّتِكَ، وَ صِحَّتَكَ بَعْدَ سُقْمِكَ، وَ رِضَاكَ بَعْدَ غَضَبِكَ، وَ غَضَبَكَ بَعْدَ رِضَاكَ، وَ حُزْنَكَ بَعْدَ فَرَحِكَ، وَ فَرَحَكَ بَعْدَ حُزْنِكَ، وَ حُبَّكَ بَعْدَ بُغْضِكَ، وَ بُغْضَكَ بَعْدَ حُبِّكَ، وَ عَزْمَكَ بَعْدَ إبَائِكَ، وَ إبَاءَكَ بَعْدَ عَزْمِكَ، وَ شَهْوَتَكَ بَعْدَ كَرَاهَتِكَ، وَ كَرَاهَتَكَ بَعْدَ شَهْوَتِكَ، وَ رَغَبَتَكَ بَعْدَ رَهْبَتِكَ، وَ رَهْبَتَكَ بَعْدَ رَغَبتِكَ، وَ رَجَاءَكَ بَعْدَ يَأسِكَ، وَ يَأسَكَ بَعْدَ رَجَائِكَ، وَ خَاطِرَكَ بَعْدُ بِمَا لَمْ يَكُنْ في وَهْمِكَ، وَ عُزُوبَ مَا أنْتَ مُعْتَقِدُهُ مِنْ ذِهْنِكَ.
وَ مَا زَالَ يَعُدُّ عَلَيّ قُدْرَتَهُ التي في نَفْسِي التي لَا أدْفَعُهَا حتى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيَظْهَرُ فِيمَا بَيْنِي وَ بَيْنَهُ.۱
إثباته عليه السلام وجود الله لابن أبي العوجاء عن طريق الصنع
و روى المجلسيّ أيضاً عن «التوحيد» للصدوق، عن الدقّاق، عن الكلينيّ بإسناده رفع الحديث: أنّ ابن أبي العوجاء حين كلّمه أبو عبد الله عليه السلام عاد إليه في اليوم الثاني فجلس و هو ساكت لا ينطق. فقال أبو عبد الله عليه السلام: كأنّك جئتَ تعيد بعض ما كنّا فيه! فقال: أردتُ ذاك يا بن رسول الله! فقال أبو عبد الله عليه السلام: ما أعجب هذا تنكر الله و تشهد أنّي ابن رسول الله!
فقال: العادة تحملني على ذلك.
فقال له العالم عليه السلام: فما يمنعك من الكلام؟
قال: إجْلَالًا لَكَ وَ مَهَابَةً مَا يَنْطِقُ لِسَانِي بَيْنَ يَدَيْكَ فإنّي شَاهَدْتُ العُلَمَاءَ وَ نَاظَرْتُ المُتَكَلِّمِينَ فَمَا تَدَاخَلَنِي هَيْبَةٌ قَطُّ مِثْلُ مَا تَدَاخَلَنِي مِنْ
هَيْبَتِكَ!
قال: يكون ذلك، و لكن أفتح عليك بسؤال و أقْبِل عليه! فقال له: أ مَصْنُوعٌ أنْتَ أوْ غَيْرُ مَصْنُوعٌ؟!
فقال عبد الكريم بن أبي العوجاء: بل أنا غير مصنوع!
فقال له العالِم عليه السلام: فَصِفْ لي لَوْ كُنْتَ مَصْنُوعاً كَيْفَ كُنْتَ تَكُونُ؟!
فبقي عبد الكريم مليّاً لا يحير جواباً، و ولع بخشبة كانت بين يديه و هو يقول: طَوِيلٌ عَرِيضٌ، عَمِيقٌ قَصِيرٌ، مُتَحَرِّكٌ سَاكِنٌ. كلّ ذلك صفة خلقه.
فقال له العالم عليه السلام: فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة غيرها فاجعل نفسك مصنوعاً لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الامور!
فقال له عبد الكريم: سألتني عن مسألة لم يسألني عنها أحد قبلك، و لا يسألني أحد بعدك عن مثلها!۱
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: هبك علمت أنّك لم تُسأل فيما مضى، فما علمك أنّك لا تُسأل فيما بعد؟! على أنّك يا عبد الكريم نقضت قولك، لأنّك تزعم أنّ الأشياء من الأوّل سواء، فكيف قدّمتَ و أخّرتَ؟!
ثمّ قال: يا عبد الكريم أزيدك وضوحاً، أ رأيت لو كان معك كيس فيه جواهر، فقال لك قائل: هل في الكيس دينار؟ فنفيت كون الدينار في الكيس. فقال لك قائل: صف لي الدينار، و كنتَ غير عالم بصفته، هل كان لك أن تنفي كون الدينار عن الكيس و أنت لا تعلم؟!
قال: لا!
فقال أبو عبد الله عليه السلام: فالعالَم أكبر و أطول و أعرض من الكيس، فلعلّ في العالَم صنعة من حيث لا تعلم صفة الصنعة من غير الصنعة!
فانقطع عبد الكريم و أجاب إلى الإسلام بعض أصحابه، و بقي معه بعض، فعاد في اليوم الثالث، فقال: اقلّب السؤال؟
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: اسأل عمّا شئت!
كلام الإمام عليه السلام في حدوث العالَم و الأجسام
فقال: ما الدليل على حدث الأجسام؟!
فقال: إنّي ما وجدتُ شيئاً صغيراً و لا كبيراً إلّا و إذا ضمّ إليه مثله صار أكبر، و في ذلك زوال و انتقال عن الحالة الاولى. و لو كان قديماً ما زال و لا حال، لأنّ الذي يزول و يحول يجوز أن يوجد و يبطل فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، و في كونه في الأزل دخوله في القدم، و لن تجمع صفة الأزل و الحدوث، و القدم و العدم في شيء واحد.
فقال عبد الكريم: هبك علمت في جري الحالتين و الزمانين على ما ذكرت و استدللت على حدوثها. فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدلّ على حدثها؟! فقال العالم عليه السلام: إنّما نتكلّم على هذا العالم الموضوع، فلو رفعناه و وضعنا عالماً آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إيّاه و وضعنا غيره؛ و لكن أجبتك من حيث قدّرت أن تلزمنا و نقول: إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنّه متى ما ضمّ شيء إلى مثله كان أكبر. و في جواز التغيير عليه خروجه من القدم كما بان في تغييره دخوله في الحدث ليس لك وراءه شيء يا عبد الكريم! فانقطع و خزي.
فلمّا أن كان من العام القابل التقي معه في الحرم، فقال له بعض
شيعته: إن ابن أبي العوجاء قد أسلم.
فقال العالم عليه السلام: هو أعمى من ذلك لا يسلم. فلمّا بصر بالعالِم، قال: سَيِّدي وَ مَوْلَايَ! فقال له العالم: ما جاء بك إلى هذا الموضع؟
فقال: عَادَةُ الجَسَدِ، وَ سُنَّةُ البَلَدِ، وَ لِنَبْصُرْ مَا النَّاسَ فِيهِ مِنَ الجُنُونِ وَ الحَلْقِ وَ رَمْي الحِجَارَةِ!
فقال له العالم: أنت بعد على عتوِّك و ضلالك يا عبد الكريم!
فذهب يتكلّم، فقال له: لَا جِدَالَ في الْحَجِ.۱ و نفض رداءه من يده، و قال: إن يَكُنِ الأمْرُ كَمَا تَقُولُ - وَ لَيْسَ كَمَا تَقُولُ - نَجَوْنَا وَ نَجَوْتَ! وَ إن يَكُنِ الأمْرُ كَمَا نَقُولُ - وَ هُوَ كَمَا نَقُولُ - نَجَوْنَا وَ هَلَكْتَ!
فأقبل عبد الكريم على من معه، فقال: وجدتُ في قلبي حرارةً! فردّوني. فردّوه و مات، لا رَحِمَه الله.
و في «الاحتجاج» للطبرسيّ بعض هذا الحديث مرسلًا.
و تحدّث المجلسيّ عن هذا الحديث مفصّلًا تحت عنوان «تَنْوِيرٌ».٢
و كذلك روى المجلسيّ عن «التوحيد» للصدوق بسنده المتّصل عن مروان بن مسلم قال: دخل ابن أبي العوجاء على أبي عبد الله عليه السلام فقال: أ ليس تزعم أنّ الله خالق كلّ شيء؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: بلى!
فقال له: أنا أخلق. فقال له: كيف تخلق؟!
قال: احدث في الموضع ثمّ ألبث عنه فيصير دوابّاً. فأكون أنا الذي خلقتها.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: أ ليس خالق الشيء يعرف كم خلقه؟!
قال له: بلى! قال: فتعرف الذَّكَر منها من الانثى؟! و تعرف كم عمرها؟! فسكت.۱
و روي عنه أيضاً بسنده المتّصل عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: مَا خَلَقَ اللهُ خَلْقاً أصْغَرَ مِنَ البَعْوضِ، وَ الجِرْجِسُ أصْغَرُ مِنَ البَعْوضِ، وَ الذي يُسَمُّونَهُ الوَلَغَ أصْغَرُ مِنَ الجِرْجِسِ، وَ مَا في الفِيلِ شَيءٌ إلَّا وَ فِيهِ مِثْلُهُ، وَ فُضِّلَ عَلَى الفِيلِ بِالجَنَاحَيْنِ.٢
قال المجلسيّ في بيانه: قال الفيروزآباديّ: الجِرجِس بالكسر: البعوض الصغار - انتهى. إلى أن قال: و الولغ هنا بالغين المعجمة، و في «الكافي» بالمهملة. و هما غير مذكورَين فيما عندنا من كتب اللغة. و الظاهر أنّه أيضاً صنف من البعوض.
و الغرض بيان قدرته تعالى. فإنّ القدرة في خلق الأشياء الصغار أكثر و أظهر منها في الكبار، كما هو المعروف بين الصنّاع من المخلوقين.
فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.۱
قال سماحة استاذنا الأفخم الأعظم العلّامة الطباطبائيّ في تعليقه على توضيح المجلسيّ و تعليقه: هذا بحسب الدقّة و اللطف، و كأنّه عليه السلام في هذا المقام، و أمّا بحسب القدرة فالأمر بالعكس من جهة توفيق الذرّات و توديع القوى العظيمة الهائلة. قال تعالى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. (المؤمن: ٥۷) ط.٢
إثبات وجود الله للديصانيّ: عن طريق النظر في الوجود
و روى المجلسيّ أيضاً عن «التوحيد» للصدوق بسنده المتّصل عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو شاكر الديصانيّ: إن لي مسألة تستأذن لي على صاحبك. فإنّي قد سألتُ عنها جماعة من العلماء فما أجابوني بجواب مشبع!
فقلتُ: هل لك أن تخبرني بها فلعلّ عندي جواباً ترتضيه؟
فقال: إنّي احبّ أن ألقى بها أبا عبد الله عليه السلام!
قال: فاستأذنتُ له، فدخل، فقال له: أ تأذن لي في السؤال؟! فقال له: سل عمّا بدا لك! فقال له: ما الدليل على أنّ لك صانعاً؟!
فقال: وجدتُ نفسي لا تخلو من إحدى جهتين: إمّا أن أكون صنعتها أنا (أو غيري)، فلا أخلو من أحد معنيين: إمّا أن أكون صنعتها و كانت موجودة، أو صنعتها و كانت معدومة. فإن كنت صنعتها و كانت موجودة فقد استغنيت بوجودها عن صنعتها. و إن كانت معدومة، فإنّك تعلم أنّ المعدوم لا يحدث شيئاً. فقد ثبت المعنى الثالث أنّ لي صانعاً و هُوَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ. فقام و ما أجاب جواباً.
قال المجلسيّ في بيانه: هذا برهان متين مبنيّ على توقّف التأثير و الإيجاد على وجود الموجود و المؤثِّر. و الضرورة الوجدانيّة حاكمة بحقّيّتها، و لا مجال للعقل في إنكارها.۱
حوار الإمام عليه السلام مع الزنديق المصريّ
و روى المجلسيّ أيضاً عن «التوحيد» للصدوق بسنده المتّصل عن هشام بن الحكم قال: كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد الله عليه السلام، فخرج إلى المدينة ليناظره، فلم يصادفه بها. فقيل له: هو بمكّة. فخرج الزنديق إلى مكّة و نحن مع أبي عبد الله عليه السلام، فقاربنا الزنديق - و نحن مع أبي عبد الله عليه السلام في الطواف، فضرب كتفه كتف أبي عبد الله عليه السلام. فقال له جعفر عليه السلام: ما اسمك؟ قال: اسمي عبد الملك. قال: فما كنيتك؟ قال: أبو عبد الله. قال: فمن المَلِك الذي أنت له عبدٌ. أ من ملوك السماء أم من ملوك الأرض؟! و أخبرني عن ابنك، أعبد إله السماء أم إله الأرض؟! فسكت.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: قُلْ مَا شِئْتَ تُخْصَمْ!
قال هشام بن الحكم: قلتُ للزنديق: أ ما تردّ عليه! فقبّح قولي. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: إذا فرغتُ من الطواف فأتنا! فلما فرغ أبو عبد الله عليه السلام أتاه الزنديق فقعد بين يديه و نحن مجتمعون عنده. فقال للزنديق: أتعلم أنّ للأرض تحت و فوق؟!
قال: نعم! قال: فدخلتَ تحتها؟! قال: لا!
قال: فما يُدريك بما تحتها؟!
قال: لا أدري إلّا أنّي أظنّ أن ليس تحتها شيء.
قال أبو عبد الله عليه السلام: فالظنّ عجز ما لم تستيقن!
قال أبو عبد الله عليه السلام: فصعدتَ إلى السماء؟! قال: لا. قال: فتدري ما فيها؟ قال: لا. قال: فعجباً لك لم تبلغ المشرق، و لم تبلغ المغرب، و لم تنزل تحت الأرض، و لم تصعد إلى السماء، و لم تجز هنالك فتعرف ما خلفهنّ و أنت جاحد ما فيهنّ! و هل يجحد العاقل ما لا يعرف؟! فقال الزنديق: ما كلّمني بهذا أحد غيرك!
قال أبو عبد الله عليه السلام: فأنت في شكّ من ذلك! فلعلّ هو، أو لعلّ ليس هو. قال الزنديق: و لعلّ ذاك.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: أيّها الرجل! ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم، فلا حجّة للجاهل - يا أخا أهل مصر! تفهّم عنّي فإنّا لا نشكّ في الله أبداً. أ ما ترى الشمس و القمر و الليل و النهار يلجان ليس لهما مكان إلّا مكانهما. فإن كانا يقدران على أن يذهبا و لا يرجعا، فَلِمَ يرجعان؟! و إن لم يكونا مضطرّين فَلِمَ لا يصير الليل نهاراً و النهار ليلًا؟! اضطرّا و اللهِ يا أخا أهل مصر إلى دوامهما، و الذي اضطرّهما أحكم منهما و أكبر منهما.
قال الزنديق: صدقتَ!
ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام: يا أخا أهل مصر! الذي تذهبون إليه و تظنّونه بالوهم، فإن كان الدهر يذهب بهم، لِمَ لا يردّهم؟! و إن كان يردّهم لِمَ لا يذهب بهم؟! القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر. السماء مرفوعة، و الأرض موضوعة، لِمَ لا تسقط السماء على الأرض؟! و لِمَ لا تنحدر الأرض فوق طباقها فلا يتماسكان و لا يتماسك من عليهما؟!
فقال الزنديق: أمسكهما و اللهِ ربّهما و سيّدهما. فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله عليه السلام.
فقال له حمران بن أعين: جُعلت فداك! إن آمنت الزنادقة على يديك فقد آمنت الكفّار على يدي أبيك.
فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد الله عليه السلام: اجعلني من تلامذتك! فقال أبو عبد الله عليه السلام لهشام بن الحكم: خذه إليك فعلِّمه. فعلَّمه هشام. فكان معلّم أهل مصر و أهل الشام. و حسنت طهارته حتى رضي بها أبو عبد الله عليه السلام.۱
و روى المجلسيّ مثله عن «الاحتجاج» عن هشام بن الحكم. و ذكر بعده شرحاً مفصّلًا مهمّاً نوعاً ما، و هو تحت عنوان: «إيضاح». و قال في آخره: تفصيل القول في شرح تلك الأخبار الغامضة يقتضي مقاماً آخر. و إنّما نُشير في هذا الكتاب إلى ما لعلّه يتبصّر به اولو الأذهان الثاقبة من اولي الألباب. و سنبسط الكلام فيها في كتاب «مرآة العقول» إن شاء الله تعالى.٢
كتاب «توحيد المفضَّل»، و كتاب «الإهليلَجَة» المنسوبَين إلى مولانا الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليهما أفضل الصلاة و السلام٣
قال المجلسيّ رحمه الله: و لنذكر بعد ذلك «توحيد المفضّل بن عمر»، و رسالة «الإهليلجة» المرويّتين عن الصادق عليه السلام لاشتمالهما على دلائل و براهين على إثبات الصانع تعالى. و لا يضرّ إرسالهما لاشتهار
انتسابهما إلى المفضّل. و قد شهد بذلك السيِّد ابن طاووس۱ و غيره، و لا ضعف محمّد بن سنان و المفضّل، لأنّه في محلّ المنع، بل يظهر من الأخبار الكثيرة علوّ قدرهما و جلالتهما. مع أنّ متن الخبرين شاهدا صدق على صحّتهما. و أيضاً هما يشتملان على براهين لا تتوقّف إفادتها العلم على صحّة الخبر.
قال سماحة استاذنا الأكرم العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله تربته في تعليقه على كلام المجلسيّ على صحّة الخبر: أمّا متن الخبر الأوّل المشتهر بـ «توحيد المفضّل» فهو مطابق لجلّ الأخبار المرويّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام المطابقة لمعارف الكتاب العزيز، و ما يشتمل عليه من الأدلّة براهين تامّة لا غبار عليها.
و أمّا خبر «الإهليلجة» فمحصّل ما فيه إثبات حجّيّة حكم العقل و عدم
كفاية الحواسّ في الأحكام، و إثبات وجود الصانع من طريق السببيّة، و إثبات وحدته من طريق اتّصال التدبير. و هذا لا شكّ فيه من جهة العقل، و لا من جهة مطابقته لسائر النقل، غير أنّه مشتمل على تفاصيل لا شاهد عليها من النقل و العقل، بل الأمر بالعكس، كاشتماله على كون علوم الهيئة و أحكام النجوم مستنداً إلى الوحي، و كذا كون علم الطبّ و القرابادين (علم الأدوية) مستندين إلى الوحي، مستدلًّا بأنّ إنساناً واحداً لا يقدر على هذا التتبّع العظيم و التجارب الوسيعة.
مع أنّ ذلك مستند إلى أرصاد كثيرة و محاسبات علميّة و تجارب ممتدّة من امم مختلفة في أعصار و قرون طويلة تراكمت حتى تكوّنت في صورة فنّ أنتجه مجموع تلك المجاهدات العظيمة.
و الدليل عليه أنّ النهضة الأخيرة سبكت على الهيئة و الطبّ في قالب جديد أوسع من قالبهما القديم بما لا يقدّر من السعة. و لا مستند له إلّا الأرصاد و التجارب و المحاسبات العلميّة. و كذا ما هو مثلهما في السعة كالكيمياء، و الطبيعيّات، و علم النبات، و الحيوان، و غير ذلك. نعم من الممكن استناد أصلهما إلى الوحي و بيان النبيّ.
و ممّا يشتمل عليه الخبر كون البحار باقية على حال واحدة دائماً من غير زيادة و نقيصة، مع أنّ التغيّرات الكلّيّة فيها ممّا هو اليوم من الواضحات. على أنّ الكتاب و السنّة يساعدانه أيضاً.
و الذي أظنّه - و الله أعلم - أنّ أصل الخبر ممّا صدر عنه عليه السلام، لكنّه لم يخل عن تصرّف المتصرّفين فزادوا و نقصوا بما أخرجه عن استقامته الأصليّة. و يشهد على ذلك النسخ المختلفة العجيبة التي سينقلها المصنِّف رحمه الله. فإنّ النسخ يمكن أن تختلف بالكلمة و الكلمتين و الجملة و الجملتين لسهوٍ من الراوي في ضبطه أو من الكاتب في
استنساخه. و أمّا بنحو الورقة و الورقتين و خمسين سطراً و مائة سطر فمن المستبعد جدّاً، إلّا أن يستند إلى تصرّف عمدي. و ممّا يشهد على ذلك أيضاً الاندماج و عسر البيان الذي يشاهَد في أوائل الخبر و أواسطه. و الله أعلم. (ط).۱
وصف فذّ للإمام الصادق عليه السلام على لسان ابن أبي العوجاء
نقل المجلسيّ رواية «التوحيد» عن محمّد بن سنان، عن المفضّل بن عمر أنّه قال: كنتُ ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة بين القبر و المنبر، إلى أن قال: فقال ابن أبي العوجاء لصاحبه: دَعْ ذِكْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَقَدْ تَحَيَّرَ فِيهِ عَقْلِي، وَ ضَلَّ في أمْرِهِ فِكْرِي، وَ حَدِّثْنَا في ذِكْرِ الأصْلِ الذي يُمْشَى بِهِ!
ثُمَّ ذَكَرَ ابتِدَاءَ الأشْيَاءِ وَ زَعَمَ أنَّ ذَلِكَ بِإهْمَالٍ لَا صَنْعَةَ فِيهِ وَ لَا تَقْدِيرَ، وَ لَا صَانِعَ لَهُ وَ لَا مُدَبِّرَ، بَلِ الأشْيَاءُ تَتَكَوَّنُ مِنْ ذَاتِهَا بِلَا مُدَبِّرٍ، وَ عَلَى هَذَا كَانَتِ الدُّنْيَا لَمْ تَزَلْ وَ لَا تَزَالُ!
قال المفضّل: فلم أملك نفسي غضباً و غيظاً و حنقاً، فقلتُ: يا عدوّ الله! ألحدتَ في دين الله، و أنكرتَ الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم، و صوّرك في أتمّ صورة، و نقلك في أحوالك حتى بلغ بك إلى حيث انتهيت. فلو تفكّرت في نفسك و صدّقك لطيف حِسّك، لوجدتَ دلائل الربوبيّة و آثار الصنعة فيك قائمةً، و شواهده جلّ و تقدّس في خلقك واضحة، و براهينه لك لائحة.
فقال: يَا هَذَا! إن كُنْتَ مِنْ أهْلِ الكَلَامِ كَلَّمْنَاكَ، فَإنْ ثَبَتَ لَكَ حُجَّةٌ تَبِعْنَاكَ. وَ إن لَمْ تَكُنْ مِنْهُمْ فَلَا كَلَامَ لَكَ!
وَ إن كُنْتَ مِنْ أصْحَابِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ فَمَا هَكَذَا يُخَاطِبُنَا،
وَ لَا بِمِثْلِ دَلِيلِكَ يُجَادِلُنَا. وَ لَقَدْ سَمِعَ مِنْ كَلَامِنَا أكْثَرَ مِمَّا سَمِعْتَ، فَمَا أفْحَشَ في خِطَابِنَا، وَ لَا تَعَدَّي في جَوَابِنَا.
وَ إنَّهُ لَلْحَلِيمُ الرَّزِينُ العَاقِلُ الرَّصِينُ، لَا يَعْتَرِيهِ خُرْقٌ وَ لَا طَيْشٌ وَ لَا نَزْقٌ. وَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا وَ يُصْغِي إلَيْنَا وَ يَسْتَعْرِفُ حُجَّتَنَا حتى إذَا اسْتَفْرَغْنَا مَا عِنْدَنَا وَ ظَنَنَّا أنَّا قَدْ قَطَعْنَاهُ أدْحَضَ حُجَّتَنَا بِكَلَامٍ يَسِيرٍ وَ خِطَابٍ قَصِيرٍ يُلْزِمُنَا بِهِ الحُجَّةَ، وَ يَقْطَعُ العُذْرَ، وَ لَا نَسْتَطِيعُ لِجَوابِهِ رَدَّاً. فَإنْ كُنْتَ مِنْ أصْحَابِهِ فَخَاطِبْنَا بِمِثْلِ خِطَابِهِ!
قال المفضّل: فخرجتُ من المسجد محزوناً مفكّراً فيما بلى به الإسلام و أهله من كفر هذه العصابة و تعطيلها. فدخلت على مولاي صلوات الله عليه فرآني منكسراً، فقال: ما لك؟ فأخبرته بما سمعتُ من الدهريَّين و بما رددتُ عليهما.
فقال: لُالقينّ إليك من حكمة الباري جلّ و علا و تقدّس اسمه في خلق العالم و السباع و البهائم و الطير و الهوامّ، و كلّ ذي روح من الأنعام، و النبات و الشجرة المثمرة و غير ذات الثمر و الحبوب و البقول المأكول من ذلك و غير المأكول ما يعتبر به المعتبرون، و يسكن إلى معرفته المؤمنون، و يتحيّر فيه الملحدون. فبكّر عَلَيّ غداً!
قال المفضّل: فانصرفت من عنده فرحاً مسروراً و طالت عَلَيّ تلك الليلة انتظاراً لما وعدني به ... إلى أن قال:
فَقَالَ: يَا مُفَضَّلُ! إن اللهَ كَانَ وَ لَا شَيْءَ قَبْلَهُ وَ هُوَ بَاقٍ وَ لَا نِهَايَةَ لَهُ. فَلَهُ الحَمْدُ عَلَى مَا ألْهَمَنَا، وَ لَهُ الشُّكْرُ عَلَى مَا مَنَحَنَا، وَ قَدْ خَصَّنَا مِنَ العُلُومِ بِأعْلَاهَا، وَ مِنَ المَعَالِي بِأسْنَاهَا، وَ اصْطَفَانَا عَلَى جَمِيعِ الخَلْقِ بِعِلْمِهِ، وَ جَعَلَنَا مُهَيْمِنِينَ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِهِ!
قال المفضّل: فقلتُ: يا مولاي! أ تَأذن لي أن أكتب ما تشرحه؟!
- و كنتُ أعددتُ معي ما أكتب فيه - فقال لي: افعلْ!۱
أهمّيّة كتاب «توحيد المفضّل»
و ذكر المجلسيّ رضوان الله عليه هنا الخبر بحذافيره مع شرح موجز لبعض المفردات و المطالب. و استوعب الخبر خمساً و تسعين صفحة من القطع الوزيريّ اعتباراً من ص ٥۷ إلى ص ۱٥۱. و هو زاخر بنفائس المعاني و دُرَر العِلم و المنطق و العقل و الدراية حقّاً. كما أنّه آية بارزة على ربوبيّة الحقّ جلّ و عزّ و وحدته في مظاهر عالم الإمكان جميعها. و قد سُرِدَ بنحوٍ مستدلّ لطيف حتى أنّ البصر لا يشبع من مطالعته، و البصيرة لا ترتوي من درايته. من هنا أمر السيّد ابن طاووس أعلى الله درجته بمطالعته و ملازمته. و من هنا أيضاً ترجمه المجلسيّ إلى الفارسيّة، و صنّفه في رسالة مستقلّة، اعيد طبعها مراراً. و من هنا أيضاً طُبع ذلك الكرّاس من «البحار» باللغة العربيّة مستقلًّا و أصبح في متناول أيدي العامّة من العرب و العجم.
و ما كان أحسن أن نُورد الرسالة كلّها هنا، بَيدَ أنّه متعذّر بسبب تفصيلها و ضيق هذه المجموعة عن استيعابها. و يبدو أنّ اختيار بعض الفقرات دون بعض أمر لا مبرّر له. لهذا تأسّياً بالعالِم الجليل و الحبر النبيل الشيخ محمّد حسين المظفّر نكتفي بما يأتي:
قال في كتاب «الإمام الصادق عليه السلام»: حقّاً لقد ألقى الصادق عليه السلام على المفضّل من البيان ما أنار به الحجّة، و أوضح الشبهة، و لم يدع للشكّ مجالًا، و للشبهة سبيلًا. و أبدى من الكلام عن بدائع خلائقه، و غرائب صنائعه ما تحار منه الألباب، و تندهش منه العقول. و أظهر من خفايا حِكَمه ما لا يهتدي إليه إلّا أمثاله ممّن اوتي الحكمة و فصل الخطاب.
و كلّما حاولت أن أنتخب فصولًا خاصّة من تلك البدائع لم اطق، لأنّي أجدها كلّها منتخبة، و أن أقتطف من كلّ روضة زهرتها اليانعة لم أستطع، لأنّي أراها كلّها وردة واحدة في اللون و العرف. فما رأيتُ إلّا أن أذكر من كلّ فصل أوّله، و اشير إلى شيءٍ منه، و الفصول أربعة:
- ۱ - تفصيل الجنين و الطفل الرضيع
قال عليه السلام بعد أن ذكر عمي الملحدين و أسباب شكّهم و تهيئة هذا العالَم و تأليف أجزائه و انتظامها. نبتدئ يا مفضّل بذكر خلق الإنسان فاعتبر به! فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم و هو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، و ظلمة الرحم، و ظلمة المشيمة.۱ حيث لا حيلة عنده في طلب غذاه، و لا دفع أذًى، و لا استجلاب منفعة، و لا دفع مضرّة. فإنّه يجري إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات. فلا يزال ذلك غذاءه حتى إذا كمل خلقه، و استحكم بدنه، و قوي أديمه على مباشرة الهواء و بصره على ملاقاة الضياء، هاج الطلق بامّه فأزعجه أشدّ إزعاج و أعنفه حتى يولد.
و إذا ولد صرف ذلك الدم الذي كان يغذوه من دم امّه إلى ثديها. فانقلب الطعم و اللون إلى ضرب آخر من الغذاء، و هو أشدّ موافقة للمولود من الدم، فيوافيه في وقت حاجته إليه. فحين يولد قد تلمّظ و حرّك شفتيه طلباً للرضاع. فهو يجد ثدي امّه كالأداوتين٢ المعلّقتين لحاجته إليه، فلا يزال يغتذي باللبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء ليّن الأعضاء، حتى إذا تحرّك و احتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتدّ و يقوى بدنه طلعت له الطواحن
من الأسنان و الأضراس، ليمضغ بها الطعام فيلين عليه و تسهل له إساغته.
فلا يزال كذلك حتى يدرك. فإذا أدرك و كان ذكراً طلع الشعر في وجهه، فكان ذلك علامة الذَّكر و عزّ الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبيّ و شبه النساء. و إن كانت انثى يبقى وجهها نقيّاً من الشعر لتبقى لها البهجة و النضارة التي تحرّك الرجال لما فيه دوام النسل و بقاؤه.
اعْتَبِرْ يَا مُفَضَّلُ فيما يدبّر الإنسان في هذا الأحوال المختلفة. هل ترى يمكن أن يكون بالإهمال؟! أ فرأيت لو لم يجر إليه ذلك الدم و هو في الرحم، أ لم يكن سيذوي و يجفّ كما يجفّ النبات إذا فقد الماء؟! و لو لم يزعجه المخاض عند استحكامه، أ لم يكن سيبقى في الرحم كالموءود في الأرض؟! و لو لم يوافقه اللبن مع ولادته، أ لم يكن سيموت جوعاً أو يغتذي بغذاء لا يلائمه و لا يصلح عليه بدنه!! و لو لم تطلع عليه الأسنان في وقتها، أ لم يكن سيمتنع عليه مضغ الطعام و إساغته؟! أو يقيمه على الرضاع فلا يشدّ بدنه و لا يصلح لعمل، ثمّ كان تشتغل امّه بنفسه عن تربية غيره من الأولاد؟
و لو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته، أ لم يكن سيبقى في هيئة الصبيان و النساء، فلا ترى له جلالًا و لا و قاراً؟! فمن هذا الذي يرصده حتى يوافيه بكلّ شيء من هذه المآرب إلّا الذي أنشأه خلقاً بعد أن لم يكن، ثمّ توكّل له بمصلحته بعد أن كان. فإن كان الإهمال يأتي بمثل هذا التدبير فقد يجب أن يكون العمد و التقدير يأتيان بالخطأ و المحال، لأنّهما ضدّ الإهمال. و هذا فظيعٌ من القول و جهل من قائله، لأنّ الإهمال لا يأتي بالصواب، و التضادّ لا يأتي بالنظام تعالى اللهُ عَمَّا يَقُولُ المُلحِدُونَ عُلُوَّاً كَبِيراً.
قال المظفّر: إن الإهمال دوماً يأتي بالخطأ كما نشاهده عياناً. أ رأيت
لو وجّهت الماء إلى الزرع، و أهملت تقسيمه على الألواح، أ يسقي الألواح كلّها من دون خلل؟! أو إذا نثرت البذر في الأرض من دون مناسبة، أ يخرج الزرع بانتظام، أو إذا جمعت قطعاً من خشب و واصلتها بمسامير، أ تكون كرسيّاً أو باباً من دون تنسيق؟!
الحكمة الإلهيّة من عدم تعقّل الطفل حين الولادة
ثمّ قال عليه السلام: و لو كان المولود يولد فهماً عاقلًا لأنكر العالم عند ولادته و لبقي حيران تائه العقل إذا رأى ما لم يعرف، و ورد عليه ما لم يَرَ مثله من اختلاف صور العالم من البهائم و الطير إلى غير ذلك ممّا يشاهده ساعة بعد ساعة و يوماً بعد يوم، و اعتبر ذلك بأنّ من سبي من بلد إلى بلد و هو عاقل يكون كالواله الحيران فلا يسرع في تعلّم الكلام و قبول الأدب كما يسرع الذي يُسبى صغيراً غير عاقل.
ثمّ لو ولد عاقلًا كان يجد غضاضة إذا رأى نفسه محمولًا مرضعاً معصّباً بالخرق مسجّى في المهد، لأنّه لا يستغني عن هذا كلّه لرقّة بدنه و رطوبته حين يولد. ثمّ كان لا يوجد له من الحلاوة و الوقع من القلوب ما يوجد للطفل. فصار يخرج إلى الدنيا غبيّاً غافلًا عمّا فيه أهله فيلقى الأشياء بذهن ضعيف و معرفة ناقصة. ثمّ لا يزال يتزايد في المعرفة قليلًا قليلًا و شيئاً بعد شيء و حالًا بعد حال، حتى يألف الأشياء و يتمرّن و يستمرّ عليها، فيخرج من حدّ التأمّل لها و الحيرة فيها إلى التصرّف و الاضطراب في المعاش بعقله و حيلته، و إلى الاعتبار و الطاعة و السهو و الغفلة و المعصية. و في هذا أيضاً وجوه اخر. فإنّه لو كان يولد تامّ العقل مستقلًّا بنفسه لذهب موضع حلاوة تربية الأولاد، و ما قدّر أن يكون للوالدين في الاشتغال بالولد من المصلحة، و ما يوجب التربية للآباء على الأبناء من المكافاة بالبرّ و العطف عليهم عند حاجتهم إلى ذلك منهم. ثمّ كان الأولاد لا يألفون آباءهم و لا يألف الآباء أبناءهم، لأنّ الأولاد كانوا يستغنون عن تربية الآباء
و حياطتهم فيتفرّقون عنهم حين يولدون، فلا يعرف الرجل أباه و امّه، و لا يمتنع من نكاح امّه و اخته و ذوات المحارم منه، إذ لا يعرفهنّ.
و أقلّ ما في ذلك من القباحة، بل هو أشنع، و أعظم، و أفظع، و أقبح، و أبشع لو خرج المولود من بطن امّه و هو يعقل أن يرى منها ما لا يحلّ له، و لا يحسن به أن يراه. (عورة الامّ). أ فلا ترى كيف اقيم كلّ شيء من الخلقة على غاية الصواب و خلا من الخطأ دقيقه و جليله؟!
قال المظفّر: إن بعض هذا البيان البديع من الإمام عن تدرّج الإنسان في نموّه، و نموّه في أوقاته كافٍ في حكم العقل بأنّ له صانعاً صنعه عن علم، و حكمة، و تقدير، و تدبير. ثمّ إن الصادق عليه السلام جعل يذكر فوائد البكاء للأطفال من التجفيف لرطوبة الدماغ، و إن في بقاء الرطوبة خطراً على البصر و البدن.
الحكمة الإلهيّة في كيفيّة أعضاء الإنسان
ثمّ ساق البيان إلى جعل آلات الجماع في الذكر و الانثى على ما يشاكل أحدهما الآخر. ثمّ ذكر أعضاء البدن و الحكمة في جعل كلّ منها على الشكل الموجود.
و هاهنا يقول له المفضّل: يَا مَوْلَايَ! إن قوماً يزعمون أنّ هذا من فعل الطبيعة، فيقول له الإمام: سلهم عن هذه الطبيعة أ هي شيء له علم و قدرة على مثل هذه الأفعال، أم ليست كذلك؟! فإن أوجبوا لها العلم و القدرة، فما يمنعهم من إثبات الخالق؟ فإنّ هذه صفته. و إن زعموا أنّها تفعل هذه الأفعال بغير علم و لا عمد، و كان في أفعالها ما قد تراه من الصواب و الحكمة، عُلِم أنّ هذا الفعل للخالق الحكيم، و أنّ الذي سمّوه طبيعة هو سنّته في خلقه الجارية على ما أجراه عليه.
قال المظفّر: انظر إلى قول أهل الطبيعة فإنّهم جروا على نسق واحد من عهد الصادق عليه السلام إلى اليوم، و كأنّهم لم يتعقّلوا هذا الجواب
القاطع لحججهم أو أغضوا عنه إصراراً على العناد و الجحود.
إن الإمام عليه السلام حصر الطبيعة بين اثنين لا ثالث لهما، و ذلك لأنّها إمّا تكون ذات علم و حكمة و قدرة، أو تكون خالية عن ذلك كلّه. فإن كان الأوّل فهي ما نثبته للخالق، و لا فارق إذن بينهم و بيننا إلّا التسمية. و إن كان الثاني كان اللازم أن تكون آثارها مضطربة لا تقدير فيها و لا تدبير، شأن من لا يعقل و يبصر و يسمع في أفعاله، و لكنّنا نشاهد الآثار مبنيّة على العلم، و الحكمة، و القدرة، و التقدير. فلا تكون إذن من فعل الطبيعة العمياء الصمّاء، و كانت الطبيعة غير الله العالم القادر المدبّر، و لا تكون الطبيعة إذن إلّا سنّته في خلقه، لا شيء آخر له كيان مستقلّ عن خالق الكون.
ثمّ إن الإمام عليه السلام عاد إلى كلامه الأوّل، فتكلّم عن وصول الغذاء إلى البدن و كيفيّة انتقال صفوه من المعدة إلى الكبد في عروق رقاق و اشجة بينها قد جعلت كالمصفى للغذاء، ثمّ صيرورته دماً و نفوذه إلى البدن كلّه في مجارٍ مهيّأة لذلك، ثمّ كيفيّة تقسيمه في البدن و بروز الفضلة منه. فكأنّما الإمام كان الطبيب النطاسيّ الذي لم يماثله أحد في الطبّ، و العالِم الماهر في التشريح الذي قضى عمره في عملية التشريح، بل كشف الإمام في هذا البيان الدورة الدمويّة التي يتغنّى الغربيّون باكتشافها. و قد سبقهم إليها بما يقارب اثني عشر قرناً.۱ ثمّ ساق كلامه إلى نشوء الأبدان و نموّها
حالًا بعد حال، و ما شرّف الله به الإنسان من الميزة في الخلقة على البهائم، ثمّ استطرد الكلام إلى الحواسّ التي خصّ الله بها الإنسان و فوائد جعلها على النحو الموجود، و اختصاص كلّ منها بأثر لا تؤدّيه الثانية.
و هكذا يفيض في بيانه عن الأعضاء المفردة و المزدوجة و الأسباب التي من أجلها جعلها على هذا التركيب. إلى أن يطّرد في بيانه عمّا منحه الجليل من النِّعَم في المطعم و المشرب، و ما جعل فيه من التمايز في الخلقة حتى لا يشبه أحد الآخر.
إلى أن يقول عليه السلام: لو رأيتَ تمثال الإنسان مصوّراً على حائط فقال لك قائل: إن هذا ظهر هاهنا من تلقاء نفسه لم يصنعه صانع، أ كنتَ تقبل ذلك؟ بل كنت تستهزئ به، فكيف تنكر هذا في تمثال مصوّر جماد، و لا تنكر في الإنسان الحيّ الناطق؟!
قال المظفّر: ما أقواها حجّةً، و أسماه بياناً، و إن كلّ ناظرٍ فيه من أهل كلّ قرن يكاد أن يقول: إنّه أتى به لأهل زمانه و قرنه في الحجّة و الاسلوب لما يجده من ملاءمة البيان و البرهان.
- ٢ - كلام الإمام عليه السلام في مصالح خلقة الإنسان و الحيوان
ثمّ إنّه في اليوم الثاني أورد على المفضّل الفصل الثاني، و هو في خلقة الحيوان، فقال عليه السلام: أبتدئ لك بذكر الحيوان ليتّضح لك من أمره ما وضح لك من غيره. فكِّرْ في أبنية أبدان الحيوان و تهيئتها على ما هي عليه، فلا هي صلاب كالحجارة، و لو كانت كذلك لا تنثني و لا تتصرّف في الأعمال، و لا هي على غاية اللين و الرخاوة، فكانت لا تتحامل و لا تستقلّ بأنفسها، فجُعلت من لحم رخو ينثني تتداخله عظام صلاب يمسكه عصب و عروق تشدّه و تضمّ بعضه إلى بعض، و غُلفت فوق ذلك بجلدٍ يشتمل على البدن كلّه.
و من أشباه ذلك هذه التماثيل التي تُعمل من العيدان، و تلفّ بالخرق، و تشدّ بالخيوط، و يطلى فوق ذلك بالصمغ، فتكون العيدان بمنزلة العظام، و الخرق بمنزلة اللحم، و الخيوط بمنزلة العصب و العروق، و الطلاء بمنزلة الجلد. فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرّك حدث بالإهمال من غير صانع، جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميّتة. فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحريّ ألّا يجوز في الحيوان.
و فكّر بعد هذا في أجساد الأنعام فإنّها خُلِقَتْ على أبدان الإنس من اللحم و العظم و العصب، اعطيت أيضاً السمع و البصر، ليبلغ الإنسان حاجياته منها. و لو كانت عمياً صمّاً لما انتفع بها الإنسان، و لا تصرّفت في شيء من مآربه. ثمّ مُنعت الذهن و العقل لتذلّ للإنسان، فلا تمتنع عليه إذا كدّها الكدّ الشديد، و حمّلها الحمل الثقيل.
فإن قال قائل: إنّه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس يذلّون و يذعنون بالكدّ الشديد، و هم مع ذلك غير عديمي العقل و الذهن. فيقال في جواب ذلك: إن هذا الصنف من الناس قليل. فأمّا أكثر البشر، فلا يذعنون بما
تذعن به الدوابّ من الحمل و الطحن و ما أشبه ذلك، و لا يقومون بما يحتاجون إليه منه. ثمّ لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال، لأنّه كان يحتاج مكان الجمل الواحد و البغل الواحد إلى عدّة أناسي. فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات، مع ما يلحقه من التعب الفادح في أبدانهم و الضيق و الكدّ في معاشهم.
ثمّ إنّه عليه السلام أخذ يذكر المميّزات لكلّ نوع من الأنواع الثلاثة للحيوان و هي: الإنسان، و آكلات اللحوم، و آكلات النبات، و ما يقتضي كلّ نوع منها حاجته من كيفيّة الأعضاء و الجوارح، فيأتيك بلطائف الحكمة، و بدائع القدرة، و محاسن الطبيعة.
و يدلّك على الحكمة في جعل العينين في وجه الدابّة شاخصتين، و الفم مشقوقاً شقّاً في أسفل الخطم، و لم يجعل كفم الإنسان، إلى غير ذلك من خصوصيّات الأعضاء و الجوارح.
و يرشدك إلى الفطنة في بعضها اهتداءً لمصلحته كامتناع الأيِّل الآكل للحيّات عن شرب الماء، لأنّ شرب الماء يقتله.۱ و استلقاء الثعلب على ظهره و نفخ بطنه إذا جاع، حتى تحسبه الطير ميّتاً. فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها، إلى غيرهما من الحيوانات، فيقول الصادق عليه السلام: من
جعل هذه الحيلة طبعاً في هذه البهيمة لبعض المصلحة؟!
ثمّ إنّه عليه السلام تعرّض في كلامه للذَّرَّة، و النملة، و الليث و تسمّيه العامّة أسد الذباب، و تمام خلقة الذرّة مع صغر حجمها، و النملة و ما تهتدي إليه لاقتناء قوتها، و الليث و ما يهتدي إليه في اصطياد الذباب، ثمّ يقول: فانظر إلى هذه الدويبة كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه الإنسان إلّا بالحيلة و استعمال الآلات! فلا تزدر بالشيء إذا كانت العبرة فيه واضحة كالذرّة و النملة و ما أشبه ذلك، فإنّ المعنى النفيس قد يمثّل بالشيء الحقير فلا يضع منه ذلك، كما لا يضع من الدينار و هو ذهب أن يوزن بمثقال من حديد.
ثمّ إنّه عليه السلام استطرد ذكر الطائر و كيف خفّف جسمه و أدمج خلقه و جعل له جؤجؤاً ليسهل عليه أن يخرق الهواء إلى غير ذلك من خصوصيّات خلقته، و الحكمة في خلق تلك الخصوصيّات. و هكذا يستطرد الحكمة في خصوصيّات خلقة الدجاجة، ثمّ العصفور، ثمّ الخفّاش، ثمّ النحل، ثمّ الجراد، و غيرها من صغار الطيور، و ما جعله الله فيها من الطبائع، و الفطن، و الهداية لطلب الرزق، و ما سوى ذلك ممّا فيها من بدائع الخلقة.
ثمّ استعرض خلق السمك و مشاكلته للأمر الذي قدّر أن يكون عليه. ثمّ يقول عليه السلام: فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق و قصر علم المخلوقين، فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك و دوابّ الماء و الأصداف و الأصناف التي لا تُحصى و لا تُعرف منافعها إلّا الشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث ... إلى آخر كلامه، و به انتهى هذا الفصل.
قال المظفّر: ليس العجب من خالق أمثال هذه الذرّة و الدودة و أصناف الأسماك الغريبة التي اختلفت أشكالها، و تنوّعت الحكمة فيها،
و ليس العجب ممّن يهتدي إلى الحكمة في كلّ واحد من تلك المصنوعات بعد وجودها و تكوينها، و إنّما العجب ممّن ينكر فاطر السماوات و الأرضين و ما فيهنّ و بينهنّ مع إتقان الصنعة، و إحكام الخلقة، و بداعة التركيب. و لو نظر الجاحد إلى نفسه مع غريب الصنع و تمام الخلق لكان أكبر برهان على الوجود و وحدانيّة الموجود.
- ٣ - عجائب الخلقة في السماوات و الكرات السماويّة
ثمّ بكّر المفضّل في اليوم الثالث، فقال له الصادق عليه السلام: قد شرحت لك يا مفضّل خلق الإنسان و ما دبّر به، و تنقّله في أحواله، و ما فيه من الاعتبار، و شرحت لك أمر الحيوان. و أنا أبتدئ الآن بذكر السماء، و الشمس، و القمر، و النجوم، و الفلك، و الليل، و النهار، و الحرّ، و البرد، و الرياح، و المطر، و الصخر، و الجبال، و الطين، و الحجارة، و المعادن، و النبات، و النخل، و الشجر، و ما في ذلك من الأدلّة و العبر.
فكّر في لون السماء و ما فيه من صواب التدبير، فإنّ هذا اللون أشدّ الألوان موافقة و تقوية للبصر، حتى أنّ من و صفات الأطبّاء لمن أصابه شيء أضرّ ببصره إدمان النظر إلى الخضرة، و ما قرب منها إلى السواد. و قد وصف الحذّاق منهم لمن كلّ بصره الاطّلاع في إجّانة خضراء مملوءة ماءً. فانظر كيف جعل الله جلّ و تعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد، ليمسك الأبصار المنقلبة عليه، فلا تنكأ فيها بطول مباشرتها له، فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر و الرويّة و التجارب يوجد مفروغاً عنه في الخلقة، حكمة بالغة ليعتبر بها المعتبرون، و يفكّر فيها الملحدون قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.۱
فكّر يا مفضّل في طلوع الشمس و غروبها لإقامة دولتي الليل و النهار. فلولا طلوعها لبطل أمر العالم كلّه، فلم يكن الناس يسعون في معايشهم، و ينصرفون في امورهم و الدنيا مظلمة عليهم، و لم يكن يتهنَّون بالعيش مع فقدهم لذّة النور و روحه. و الأرب في طلوعها ظاهر مستغن بظهوره عن الإطناب في ذكره، و الزيادة في شرحه. بل تأمّل المنفعة في غروبها. فلولا غروبها لم يكن للناس هدوء و لا قرار مع عظم حاجتهم إلى الهدوء و الراحة لسكون أبدانهم، و وجوم حواسّهم، و انبعاث القوّة الهاضمة لهضم الطعام و تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء، ثمّ كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل و مطاولته على ما يعظم نكايته في أبدانهم. فإنّ كثيراً من الناس لو لا جثوم هذا الليل لظلمته عليهم لم يكن لهم هدوء و لا قرار حرصاً على الكسب و الجمع و الادّخار.
ثمّ كانت الأرض تستحمي بدوام الشمس ضياءها، و تحمي كلّ ما عليها من حيوان و نبات. فقدّرها الله بحكمته و تدبيره، تطلع وقتاً و تغرب وقتاً، بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم، ثمّ يغيب عنهم مثل ذلك ليهدأوا و يقرّوا، فصار النور و الظلمة مع تضادّهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم و قوامه.
إلى أن يقول عليه السلام في آخر هذا الفصل: فكّر في هذه العقاقير و ما خصّ بها كلّ واحد منها من العمل في بعض الأدواء. فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول مثل الشيطرج، و هذا ينزف المرّة السوداء مثل الأفتيمون، و هذا ينفي الرياح مثل السكبينج، و هذا يحلّل الأورام و أشباه هذا من أفعالها. فمن جعل هذه القوي فيها إلّا من خلقها للمنفعة؟! و من فطن الناس بها إلّا من جعل هذا فيها؟!
إلى أن يقول: و اعلم أنّه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته، بل
هما قيمتان مختلفتان بسوقين. و ربّما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيساً في سوق العلم. فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته. فلو فطن طالبو الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان و غالوا بها.
- ٤ - حكمة الآفات و الأضرار التكوينيّة
ثمّ إن المفضّل بكّر إليه في اليوم الرابع، فقال له الصادق عليه السلام: يا مفضّل! قد شرحتُ لك من الأدلّة على الخلق و الشواهد على صواب التدبير و العمد في الإنسان، و الحيوان، و النبات، و الشجر، و غير ذلك ما فيه عبرة لمن اعتبر!
و أنا أشرح لك الآن الآفات الحادثة في بعض الأزمان التي اتّخذها اناس من الجهّال ذريعة إلى جحود الخالق و الخلق و العمد و التدبير، و ما أنكرت المعطّلة و المانويّة۱ من المكاره و المصائب، و ما أنكروه من
الموت و الفناء، و ما قاله أصحاب الطبائع، و من زعم أنّ كون الأشياء بالعرض و الاتّفاق ليتّسع ذلك القول في الردّ عليهم، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ.۱
اتّخذ اناسٌ من الجهّال هذه الآفات الحادثة في بعض الأزمان كمثل الوباء و اليرقان و البرد و الجراد ذريعة إلى جحود الخلق و التدبير و الخالق. فيقال في جواب ذلك: إنّه إن لم يكن خالق و مدبّر، فَلِمَ لا يكون ما هو أكثر من هذا و أفظع؟! فمن ذلك أن تسقط السماء على الأرض، و تهوي الأرض فتذهب سفلًا، و تتخلّف الشمس عن الطلوع أصلًا، و تجفّ الأنهار و العيون حتى لا يوجد ماء للشفة، و تركد الريح حتى تخمّ الأشياء و تفسد، و يفيض ماء البحر على الأرض فيغرقها!
الآفات التكوينيّة لتأديب البشر
ثمّ هذه الآفات التي ذكرناها من الوباء و الجراد و ما أشبه ذلك، ما بالها لا تدوم و تمتدّ حتى تجتاح كلّ ما في العالم، بل تحدث في الأحايين، ثمّ لا تلبث أن ترفع؟! أ فلا ترى أنّ العالم يصان و يحفظ من تلك الأحداث الجليلة التي لو حدث عليه شيء منها كان فيه بواره، و يلدغ أحياناً بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس و تقويمهم، ثمّ لا تدوم هذه الآفات، بل
تكشف عنهم عند القنوط منهم، فيكون وقوعها بهم موعظة، و كشفها عنهم رحمة؟!
و قد أنكرت المُعَطِّلة ما أنكرت المانَوِيَّة من المكاره و المصائب التي تصيب الناس، فكلاهما يقول: إن كان للعالم خالق رؤوف رحيم، لِمَ يحدث فيه هذه الامور المكروهة؟! و القائل بهذا القول يذهب به إلى أنّه ينبغي أن يكون عيش الإنسان في هذه الدنيا صافياً من كلّ كدر. و لو كان هكذا كان الإنسان يخرج من الأشرّ و العُتوّ إلى ما لا يصلح في دين و دنيا، كالذي ترى كثيراً من المترفين و من نشأ في الجدة و الأمن يخرجون إليه، حتى أنّ أحدهم ينسى أنّه بشراً و أنّه مربوب أو أنّ ضرراً يمسّه أو أنّ مكروهاً ينزل به، أو أنّه يجب عليه أن يرحم ضعيفاً، أو يواسي فقيراً، أو يرثى لمبتلي، أو يتحنّن على ضعيف، أو يتعطّف على مكروب.
فإذا واجهته المكاره و أحسّ بمرارتها اتّعظ و أبصر كثيراً ممّا كان عنه جاهلًا و غافلًا، و رجع إلى كثير ممّا كان يجب عليه. و المنكرون لهذه الأدوية المؤذية بمنزلة الصبيان الذين يذمّون الأدوية المرّة البشعة، و يتسخّطون لمنعهم من الأطعمة الضارّة، و يكرّهون الأدب و العمل، و يحبّون أن يتفرّغوا للّهو و البطالة، و ينالوا كلّ مطعم و مشرب، و لا يعرفون ما تؤدّيهم إلى البطالة من سوء النشو و العادة، و ما تعقبهم الأطعمة اللذيذة الضارّة من الآلام و الأسقام، و ما لهم في الأدب من الصلاح، و في الأدوية من المنفعة، و إن شاب ذلك بعض المكاره.۱
قال المظفّر: و على هذا و مثله مثّل الصادق عليه السلام أقوال اولئك الملحدين في شأن الآفات و أجاب عنها بنيّر البرهان، إلى أن انتهى في البيان إلى ذات الخالق تعالى في شبه الملحدين، فقال: و إنّه كيف يكلّف العبد الضعيف معرفته بالعقل اللطيف و لا يحيط به؟
فيقول في الجواب: إنّما كلّف العباد من ذلك ما في طاقتهم أن يبلغوه و هو أن يوقنوا به و يقفوا عند أمره و نهيه، و لم يكلّفوا الإحاطة بصفته، كما أنّ الملك لا يكلّف رعيّته أن يعلموا أ طويل هو أم قصير، أبيض هو أم
أسمر. و إنّما يكلّفهم الإذعان بسلطانه و الانتهاء إلى أمره. أ لا ترى أنّ رجلًا لو أتى إلى باب الملك، فقال: اعرض عَلَيّ نفسك حتى أتقصّى معرفتك، و إلّا لم أسمع لك، كان قد أحلّ نفسه العقوبة. فكذا القائل إنّه لا يقرّ بالخالق سبحانه حتى يحيط بكنهه متعرّض لسخطه.
قال المظفّر: و على مثل هذا البديع من البيان، و الساطع من البرهان، أتمّ الصادق عليه السلام دروسه التي ألقاها على المفضّل بن عمر، فقال في آخر كلامه: يَا مُفَضَّلُ! خُذْ مَا أتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرينَ، وَ لآلَائِهِ مِنَ الحَامِدِينَ، وَ لأوْلِيَائِهِ مِنَ المُطِيعِينَ. فقد شرحتُ لك من الأدلّة على الخلق و الشواهد على صواب التدبير و العمد قليلًا من كثير و جزءاً من كلّ، فتدبَّرْه! و فكّر فيه! و اعتبر به!
ختام الحوار الذي دار بين الإمام الصادق عليه السلام و المفضّل
يقول المفضّل: فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله.۱
قال المظفّر: حقيق بأن يغتنم أرباب المعارف جلائل هذه الحِكَم كما اغتنمها المفضّل، فقد أوضح فيها أبو عبد الله من حِكَم الأسرار و أسرار الحِكَم ما خفي على الكثير علمه و صعب على الناس فهمه.
و هذه الدروس كما دلّتنا على الحكيم في صنائعه تعالى أرشدتنا إلى إحاطته عليه السلام بفلسفة الخلقة، بل تراه في هذه الدروس فيلسوفاً إلهيّاً، و عالماً كلاميّاً، و طبيباً نطاسيّاً، و محلّلًا كيمياويّاً، و مشرّحاً فنّيّاً، و فنّاناً في
الزراعة و الغرس، و عالماً بما بين السماء و الأرض من مخلوقاته، و قادراً على التعبير عن أسرار الحكم في ذلك الخلق!۱
ذكر المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» في آخر هذا الحديث بعد قول الإمام عليه السلام للمفضّل: فتدبّره! و فكّر فيه! و اعتبر به! أنّ المفضّل قال:
بِمَعُونَتِكَ يَا مَوْلَايَ أقْوَى عَلَى ذَلِكَ وَ أبْلُغُهُ إن شَاءَ اللهُ. فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي فَقَالَ: احْفَظْ بِمَشِيَّةِ اللهِ وَ لَا تَنْسَ إن شَاءَ اللهُ!
فَخَرَرْتُ مَغْشِيَّاً عَلَيّ فَلَمَّا أفَقْتُ قَالَ: كَيْفَ ترى نَفْسَكَ يَا مُفَضَّلُ؟! فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَغْنَيْتُ بِمَعُونَةِ مَوْلَايَ وَ تَأيِيدِهِ عَنِ الكِتَابِ الذي كَتَبْتُهُ، وَ صَارَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيّ كَأنَّمَا أقْرَأهُ مِنْ كفى! وَ لِمَوْلَايَ الحَمْدُ وَ الشُّكْرُ كَمَا هُوَ أهْلُهُ وَ مُسْتَحِقُّهُ!
فقال عليه السلام: يَا مُفَضَّلُ! فَرِّغْ قَلْبَكَ وَ اجْمَعْ إلَيْكَ ذِهْنَكَ وَ عَقْلَكَ وَ طُمَأنِينَتَكَ! فَسَالْقِي إلَيْكَ مِنْ عِلْمِ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضِ، وَ مَا خَلَقَ اللهُ بَيْنَهُمَا وَ فِيهِمَا مِنْ عَجَائِبِ خَلْقِهِ وَ أصْنَافِ المَلَائِكَةِ وَ صُفُوفِهِمْ وَ مَقَامَاتِهِمْ وَ مَرَاتِبِهِمْ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وَ سَائِرِ الخَلْقِ مِنَ الجِنِّ وَ الإنْسِ إلى الأرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى وَ مَا تَحْتَ الثَّرَى حتى يَكُونَ مَا وَعَيْتَهُ جُزْءً مِنْ أجْزَاءٍ.
انْصَرِفْ إذَا شِئْتَ مُصَاحَباً مَكْلُوءَا! فَأنْتَ مِنَّا بِالْمَكَانِ الرَّفِيعِ، وَ مَوْضِعُكَ مِنْ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ مَوْضِعُ المَاءِ مِنَ الصَّدَى! وَ لَا تَسْألَنَّ عَمَّا وَ عَدْتُكَ حتى احْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً!
قال المفضّل: فانصرفت من عند مولاي بما لم ينصرف أحد بمثله!
الخبر يفيد تجرّد النفس الناطقة و المجرّدات الاخري
قال المجلسيّ في آخر هذا الخبر: ثمّ اعلم أنّ بعض تلك الفقرات تومئ إلى تجرّد النفس، وَ اللهُ يَعْلَمُ وَ حُجَجُهُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ.
قال استاذنا الأكرم سماحة العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله تربته في تعليقه على كلام المجلسيّ: بل إلى وجود امورٍ اخرى غير النفس مجرّدة كما يشعر به قوله عليه السلام: وَ كَذَلِكَ الامُورُ الرُّوحَانِيَّةُ اللَّطِيفَةُ. و منه يظهر أنّ وصف شيء بأنّه روحانيّ أو لطيف في الأخبار يُشعر بتجرّده. (ط).۱
احتجاج الإمام الصادق عليه السلام مع الطبيب الهنديّ في التوحيد
إن ما ذكرناه هنا بحمد الله و منّه يدور حول الخبر المشهور بتوحيد المفضّل. و ما يأتي بعدُ يحوم حول ما رواه العلّامة المجلسيّ رضوان الله عليه عن المفضّل بن عمر، عن الإمام الصادق عليه السلام في خبر «الإهليلجة» التي كانت بِيَدِ طبيب هنديّ. قال:
الخبر المرويّ عن المفضَّل بن عمر في التوحيد المشتهر بالإهليلجة٢
حدّثني محرز بن سعيد النحويّ بدمشق قال: حدّثني محمّد بن أبي مسهر٣ بالرملة، عن أبيه، عن جدّه قال: كتب المفضّل بن عمر الجعفيّ إلى
أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام يُعلمه أنّ أقواماً ظهروا من أهل هذه الملّة يجحدون الربوبيّة، و يجادلون على ذلك، و يسأله أن يردّ عليهم قولهم، و يحتجّ عليهم فيما ادّعوا بحسب ما احتجّ به على غيرهم. فكتب أبو عبد الله عليه السلام:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أمّا بعد؛ وفّقنا الله و إيّاك لطاعته! و أوجب لنا بذلك رضوانه برحمته! وصل كتابك تذكر فيه ما ظهر في ملّتنا، و ذلك من قومٍ من أهل الإلحاد بالربوبيّة قد كثرت عدّتهم و اشتدّت خصومتهم. و تسأل أن أصنع للردّ عليهم و النقض لما في أيديهم كتاباً على نحو ما رددت على غيرهم من أهل البدع و الاختلاف.
و نحن نحمد الله على النِّعَم السابغة، و الحجج البالغة، و البلاء المحمود عند الخاصّة و العامّة (النعمة التي يُثني عليها الخاصّة و العامّة و يرونها قريبة منّا هي العلم، أو النعمة التي تصل إلى الخاصّة و العامّة من ساحتنا).
فكان من نعمه العظام و آلائه الجسام التي أنعم بها تقريره قلوبهم بربوبيّته، و أخذه ميثاقهم بمعرفته، و إنزاله عليهم كتاباً فيه شفاء لما في الصدور من أمراض الخواطر و مشتبهات الامور. و لم يدع لهم و لا لشيء من خلقه حاجة إلى من سواه، و استغني عنهم، وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً.۱
و لعمري ما اتي الجهّال من قبل ربّهم (و ما يصيبهم من جميع أقسام الضرر و الهلاك فهو من أنفسهم فحسب) و أنّهم ليرون الدلالات الواضحات و العلامات البيّنات في خلقهم، و ما يعاينون من ملكوت السماوات
و الأرض، و الصنع العجيب المتقن الدالّ على الصانع، و لكنّهم قوم فتحوا على أنفسهم أبواب المعاصي، و سهّلوا لها سبيل الشهوات، فغلبت الأهواء على قلوبهم، و استحوذ الشيطان بظلمهم عليهم، كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ.۱
و العجب من مخلوق يزعم أنّ الله يخفي على عباده، و هو يرى أثر الصنع في نفسه بتركيب يبهر عقله، و تأليف يُبطل حجّته.٢ و لعمري لو تفكّروا في هذه الامور العظام لعاينوا من أمر التركيب البيّن، و لطف التدبير الظاهر، و وجود الأشياء مخلوقة بعد أن لم تكن، ثمّ تحوّلها من طبيعة إلى طبيعة، و صنيعة بعد صنيعة ما يدلّهم ذلك على الصانع فإنّه لا يخلو شيء منها من أن يكون فيه أثر تدبير و تركيب يدلّ على أنّ له خالقاً مدبّراً، و تأليف بتدبير يهدي إلى واحد حكيم.٣
أجل، هذا الحديث مفصّل أيضاً، و هو دلالة تامّة على حجّيّة العقل. و لمّا كان ذكره بحذافيره لا يناسب كتابنا هذا، لذا نكتفي هنا بذكر صدره تأسّياً بالشيخ العلّامة المظفّر رحمة الله عليه. قال في كتاب «الإمام الصادق»: الإهليلجة.
سُمّي هذا التوحيد بالإهليلجة لأنّ الصادق عليه السلام كان مناظراً فيه لطبيب هنديّ في إهليلجة كانت بِيَدِ الطبيب. و ذلك أنّ المفضّل بن عمر كتب إلى الصادق عليه السلام يخبره أنّ أقواماً ظهروا من أهل هذه الملّة
يجحدون الربوبيّة و يجادلون على ذلك، و يسأله أن يردّ عليهم قولهم و يحتجّ عليهم فيما ادّعوا بحسب ما احتجّ به على غيرهم.
فكتب إليه الصادق عليه السلام فيما كتب: و قد وافاني كتابك و رسمت لك كتاباً كنت نازعتُ فيه بعض أهل الأديان من أهل الإنكار. و ذلك أنّه كان يحضرني طبيب من بلاد الهند، و كان لا يزال ينازعني في رأيه و يجادلني عن ضلالته. فبينا هو يوماً يدقّ إهليلجة ليخلطها دواءً احتجت إليه من أدويته إذ عرض له شيء من كلامه الذي لم يزل ينازعني فيه من ادّعائه أنّ الدنيا لم تزل و لا تزال شجرة تنبت و اخرى تسقط، و نفس تولد و اخرى تتلف. و زعم أنّ انتحالي المعرفة للّه دعوى لا بيّنة عليها و لا حجّة لي فيها، و أنّ ذلك أمر أخذه الآخر عن الأوّل و الأصغر عن الأكبر، و أنّ الأشياء المختلفة و المؤتلفة و الباطنة و الظاهرة إنّما تعرف بالحواسّ الخمس: النظر، و السمع، و الشمّ، و الذوق، و اللمس. ثمّ قاد منطقه على الأصل الذي وضعه، فقال: لم يقع شيء من حواسّي على خالق يؤدّي إلى قلبي (فلا أستطيع أن أقرّ بالخالق) إنكاراً للّه تعالى.
عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود
ثمّ قال: أخبرني بم تحتجّ في معرفة ربّك الذي تصف قدرته و ربوبيّته. و إنّما يعرف القلب الأشياء كلّها بالدلالات التي وصفت لك؟ قلتُ: بالعقل الذي في قلبي، و الدليل الذي أحتجّ في معرفته! قال: فإنّي يكون ما تقول و أنت تعرف أنّ القلب لا يعرف شيئاً بغير الحواسّ؟! فهل عاينت ربّك ببصر، أو سمعتَ صوته باذُن أو شممته بنسيم، أو ذقته بفم، أو مسسته بِيَدٍ، فأدّى ذلك المعرفة إلى قلبك؟!
قلتُ: أ رأيت إذا أنكرت الله و جحدته لأنّك زعمت أنّك لا تحسّه بحواسّك التي تعرف بها الأشياء و أقررتُ أنا به، هل من بدّ أن يكون أحدنا صادقاً، و الآخر كاذباً؟!
قال: لا.
قلتُ: أ رأيت إن كان القول قولك، فهل تخاف عَلَيّ شيئاً ممّا اخوّفك به من عقاب الله؟
قال: لا!
قلتُ: أ فرأيت إن كان كما أقول و الحقّ في يدي، أ لستَ قد أخذتَ فيما كنتُ احاذر من عقاب الله بالثقة، و أنّك قد وقعتَ بجحودك و إنكارك في الهلكة؟!
قال: بلى!
قلتُ: فأيّنا أولى بالحزم و أقرب من النجاة؟!
قال: أنت! إلّا أنّك من أمرك على ادّعاء و شبهة، و أنا على يقين و ثقة، لأنّي لا أرى حواسّي الخمس أدْرَكَتْهُ. و ما لم تدركه حواسّي فليس عندي بموجود!
قلتُ: إنّه لمّا عجزت حواسّك عن إدراك الله أنكرتَه، و أنا لمّا عجزت حواسّي عن إدراك الله صدّقت به! قال: و كيف ذلك؟!
قلتُ: لأنّ كلّ شيء جري فيه أثر التركيب لجسم، أو وقع عليه بصر للون. فما أدركته الأبصار و نالته الحواسّ فهو غير الله سبحانه، لأنّه لا يشبه الخلق و لا يشبهه الخلق، و أنّ هذا الخلق ينتقل بتغيير و زوال، و كلّ شيء أشبه التغيير و الزوال فهو مثله، وَ لَيْسَ المَخْلُوقُ كَالخَالِقِ وَ لَا المُحْدَثُ كَالْمُحْدِثِ.
ثمّ إن الصادق عليه السلام قال: قلتُ له: أخبرني هل أحطتَ بالجهات كلّها و بلغتَ منتهاها؟ قال: لا؟ قلتُ: فهل رقيت إلى السماء التي ترى، أو انحدرت إلى الأرض السفلى فجلتَ في أقطارها؟! أو هل خضتَ في غمرات البحور، و اخترقتَ نواحي الهواء فيما فوق السماء أو تحتها إلى
الأرض و ما أسفل منها فوجدت ذلك خلاءً من مدبّر حكيم عالم بصير؟!
قال: لا!
قلتُ: فما يدريك لعلّ الذي أنكره قلبك هو في بعض ما لم تدركه حواسّك و لم يُحط به علمك!
قال: لا أدري! لعلّ في بعض ما ذكرت مدبّراً، و ما أدري لعلّه ليس في شيءٍ من ذلك!
قال المظفّر: ربّما يتوهّم بأنّ في كلام الصادق هذا إشعاراً بالتجسيم، لأنّه جوّز أن يكون في جهة معيّنة، و هو من شئون الجسم، و لكن ذلك كان منه إنكاراً على الطبيب الذي يريد أن يستدلّ على عدم الوجود بعدم الوجدان، و إنّما أراد الصادق أن يكذِّب دعواه بعدم الوجدان، فيورد عليه احتمال وجوده في جهة لم يصل إليها الطبيب، و أنّ احتمال وجوده في جهةٍ كافٍ في ردّ دعواه بعدم الوجدان. و هذا من باب الإلزام للخصم و إبطال حجّته، لا من باب إثبات وجوده في جهة. و قد سبق من كلامه إنكار إدراكه بالحواسّ، و المثبت في جهة خاصّة مدرك بالحواسّ.
ثمّ قال الصادق عليه السلام: قلتُ: أما إذ خرجتَ من حدّ الإنكار إلى منزلة الشكّ فإنّي أرجو أن تخرج إلى المعرفة!
قال: فإنّما دخل عَلَيّ الشكّ لسؤالك إيّاي عمّا لم يُحط به علمي، و لكن من أين يدخل عَلَيّ اليقين بما لم تدركه حواسّي؟!
قلتُ: من قِبَل اهليلجتك هذه! قال: ذاك إذن أثبت للحجّة، لأنّها من آداب الطبّ الذي اذعن بمعرفته!۱
شرح الإمام الصادق عليه السلام للإهليلجة و إقرار المخالف
ثمّ إن الصادق عليه السلام صار يلقي عليه الأسئلة عمّا يخصّ الإهليلجة من كيفيّة صنعتها، و من وجود أمثالها في الدنيا، و الطبيب يراوغ في الجواب حذراً من الالتزام بالصنعة الدالّة على الصانع، إلى أن ألزمه بما لا يجد محيصاً من الاعتراف به، و هو أنّها خرجت من شجرة.
ثمّ قال الصادق عليه السلام:
أ رَأيْتَ الإهْلِيلَجَةَ قَبْلَ أنْ تَعْقِدَ؟! إذْ هِيَ في قَمِعِهَا۱ مَاءٌ بِغَيْرِ نَوَاةٍ، وَ لَا لَحْمٍ، وَ لَا قِشْرٍ، وَ لَا لَوْنٍ، وَ لَا طَعْمٍ، وَ لَا شِدَّةٍ؟!
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قُلْتُ لَهُ: أ رَأيْتَ لَوْ لَمْ يَرْفُقِ٢ الخَالِقُ ذَلِكَ المَاءَ الضَّعِيفَ الذي هُوَ مِثْلُ الخَرْدَلَةِ في القِلَّةِ وَ الذِّلَّةِ، وَ لَمْ يُقَوِّهِ بِقُوَّتِهِ، وَ يُصَوِّرْهُ بِحِكْمَتِهِ وَ يُقَدِّرْهُ بِقُدْرَتِهِ، هَلْ كَانَ ذَلِكَ المَاءُ يَزِيدُ عَلَى أنْ يَكُونَ في قَمِعِهِ غَيْرَ مَجْمُوعٍ بِجِسْمٍ وَ لَا قَمِعٍ وَ تَفْصِيلٍ؟!
فَإنْ زَادَ زَادَ مَاءً مُتَرَاكِباً غَيْرَ مُصَوَّرٍ، وَ لَا مُخَطَّطٍ، وَ لَا مُدَبَّرٍ بِزَيَادَةِ أجْزَاءٍ وَ لَا تَألِيفِ أطْبَاقٍ؟!
قال: أريتني من تصوير شجرتها و تأليف خلقتها و حمل ثمرتها و زيادة أجزائها و تفصيل تركيبها أوضح الدلالات و أظهر البيّنات على معرفة الصانع. و لقد صدقت بأنّ الأشياء مصنوعة، و لكنّي لا أدري لعلّ الإهليلجة و الأشياء صنعت نفسها.
ثمّ إن الصادق عليه السلام أثبت له أنّها مصنوعة لغيرها، لسبقها بالعدم۱، و لأن صنعتها تدلّ على أنّ صانعها حكيم عالم، إلى غير ذلك من البراهين.
ثمّ ما زال الصادق يسايره في الكلام، و محور الكلام الإهليلجة، إلى أن أرغمه الدليل على الاعتراف بالصانع الواحد، بعد أن صار كلامهما إلى النجوم و المنجّمين.
ثمّ صار الصادق يدلي عليه بالبيان عن تلك العلامات على ذلك الصانع الواحد، و الدلالات على ذلك الحكيم القدير و العالم البصير من مصنوعاته من السماء، و الأرض، و الشجر، و النبات، و الأنعام، و غيرها، و كيفيّة دلالتها عليه. ثمّ أخذ في بيان صفاته من اللطف، و العلم، و القوّة،
و السمع، و البصر، و الرأفة، و الرحمة، و الإرادة.
كلام المرحوم المظفّر حول الإمام الصادق عليه السلام
قال المظفّر: و ما حداني على الإشارة إلى مواضع هذه الرسالة دون إيرادها إلّا رعاية الإيجاز، على أنّ هذه الرسالة جمعت فنوناً من العلم إلى قوّة الحجّة و جودة البيان، و ما كان محور المناظرة فيها إلّا إهليلجة، و هي من أضعف المصنوعات، و أصغرها جرماً و شأناً.۱
و قال الشيخ المظفّر أيضاً: تعرف المواهب الغزيرة من المقدرة في البيان، فبينا تجده يطنب في الدليل كما في توحيد المفضّل و غيره، إذ تراه يأتي بأوجز بيان في البرهان مع الوفاء بالقصد، و ذلك حين يُسأل عن الدليل على الخالق فيقول عليه السلام: مَا بِالنَّاسِ مِنْ حَاجَةٍ.٢
قال المظفّر: ما أوجزها كلمةً، و أكبرها حجّةً! فإنّا نجد الناس في حاجة مستمرّة في كلّ شأن من شئون الحياة. و هذه الحاجة تدلّ على وجود مآل لهم في حوائجهم غنيّ عنهم بذاته، و أنّ ذلك المآل واحد. و إلّا لاختلف السير و النظام.٣
و يسأله مرّة هشام بن الحكم بقوله: مَا الدَّليلُ عَلَى أنَّ اللهَ تعالى وَاحِدٌ؟! فَيَقُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اتِّصَالُ التَّدْبِيرِ، وَ تَمَامُ الصُّنْعِ.۱
قال المظفّر: إن كلّ واحدة من هاتين الكلمتين تصلح لأن تكون دليلًا برأسه، و ذلك لأنّ اتّصال التدبير شاهد على وحدانيّة المدبِّر، إذ لو كان اثنين أو أكثر لكان الخلاف بينهما سبباً لحدوث فترة أو تضارب، فلا يكون التدبير متّصلًا و التقدير دائماً. كما أنّ تمام الصنعة في الخلقة دائماً شاهد آخر على الوحدانيّة، لأنّ استمرار الاتّفاق في الاثنين مع التكافؤ في كلّ شأن لا يكون أبداً، كما نشاهده في الذين يديرون دولاب البلاد. فإن حصل اختلاف و لو برهة، فسد المخلوق، فأين تمام الصنع؟ فالتمام دليل الوحدة أيضاً.٢
دروس الإمام الصادق عليه السلام في العلوم المختلفة
دروس الإمام الصادق عليه السلام في: الكلام، الفلسفة، الحكمة، الطبّ، الكيمياء، الصيدلة،
و جميع العلوم الطبيعيّة من المعدن، النبات، الحيوان، الإنسان، التنجيم، و غير ذلك
ذكر العالم الجليل و الحبر النبيل الشيخ محمّد حسين المظفّر في كتابه ما نصّه:
علم الطبّ
نزّل الله تعالى الكتاب تبياناً لكلّ شيء،۱ و قد جمع الكتاب الطبّ كما يقولون في كلمتين، و هما قوله تعالى: كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا.٢ فلا غرابة إذن لو كان العلماء بما في القرآن علماء في الطبّ أيضاً، و كان ما يظهر منهم، من البيان عن طبائع الأشياء و الأمزجة و المنافع و المضارّ يرشدنا إلى وجود هذا العلم لديهم. و لقد جمع بعض علماء السلف شيئاً كثيراً من كلامهم في ذلك، و سمّاه «طبّ الأئمّة». و أخال أنّ الكتاب لا وجود له اليوم، غير أنّ المجلسيّ طاب ثراه يروي عنه كثيراً في «بحار الأنوار»، كما يروي عنه الحرّ العامليّ في «وسائل الشيعة».
و كفى دلالة على علم الصادق بالطبّ ما جاء في «توحيد المفضّل» من الأخبار عن الطبائع و فوائد الأدوية، و ما جاء فيه من معرفة الجوارح التي تكفّل بها علم التشريح. و سيأتي ما في بعض مناظراته مع الطبيب الهنديّ ممّا يدلّ على ذلك.
و بإمكان الكاتب أن يجمع كتاباً فيما ورد عنه في خواصّ الأشياء و فوائدها، و في علاج الأمراض و الأوجاع، و في الحميّة و الوقاية. و هي متفرّقة في غضون كتب الأحاديث و نحوها. و ربّما لم يكشف عنها إلّا العلم الحديث مثل مداواة الحمّى بالماء البارد، فإنّه ذكروا له الحمّى، فقال عليه السلام: إنَّا أهْلُ بَيْتٍ لَا نَتَداوَى إلَّا بِإفَاضَةِ المَاءِ البَارِدِ يُصَبُّ عَلَيْنَا.
و نحن نحيلك على كتاب الأطعمة و الأشربة من «الوسائل»: ج ٣، ص ٢۷٦ إلى ٣۱۱، لترى الشيء الكثير من ذلك.
علم الجَفْر
الجفر في الأصل ولد الشاة إذا عظم و استكرش. و لعلّ مبدأ هذا العلم كان يكتب على جلد ولد الشاة فسمّي به. و علم الجفر على الحروف الذي تعرف به الحوادث المستقبلة.
و جاء عن الصادق عليه السلام أنّ عندهم الجفر و فسّره بأنّه وعاء من أدم فيه علم النبيّين و علم العلماء الذين مضوا من بني إسرائيل. و جاء عنهم الشيء الكثير عن الجفر الذي عندهم. و إنّا و إن لم نعرف هذا العلم و ما القصد منه إلّا أنّنا نعرف من هاتيك الأحاديث التي ذكرت الجفر، و أنّه من مصادرهم، أنّ هذا العلم شريف منحهم الله إيّاه. و جاء في «الكافي» أحاديث كثيرة عن الجفر الذي عندهم.
و ذكر بعض علماء أهل السنّة الجفر، و أنّه ممّا يعلمه الصادق عليه السلام. قال: الشلبنجيّ في «نور الأبصار» ص ۱٣۱: و في «حياة الحيوان الكبرى» فائدة. قال ابن قتيبة في كتاب «أدب الكاتب»: و كتاب الجفر كتبه الإمام جعفر الصادق بن محمّد الباقر، فيه كلّ ما يحتاجون إلى علمه إلى يوم القيامة. و إلى هذا الجفر أشار أبو العلاء بقوله:
لَقَدْ عَجِبُوا لآلِ البَيْتِ لَمَّا | *** | أتَاهُمْ عِلْمُهُمْ في جِلْدِ جَفْرِ |
فَمِرآةُ المُنَجِّمِ وَ هِيَ صُغْرَى | *** | تُرِيهِ كُلَّ عَامِرَةٍ وَ قَفْرِ۱ |
و قال في «الفصول المهمّة»: نقل بعض أهل العلم أنّ كتاب الجفر
الذي بالمغرب يتوارثونه بنو عبد المؤمن بن عليّ من كلام جعفر الصادق. و له فيه المنقبة السنيّة، و الدرجة التي في مقام الفضل عليه.۱
الكيمياء و جابر بن حيّان تلميذ الإمام الصادق عليه السلام
ذكر علم الصادق عليه السلام بالكيمياء كثير من المؤلّفين. و إن تلميذه جابر بن حيّان الصوفيّ الطرطوسيّ أخذ عنه هذا العلم، و ألّف خمسمائة رسالة فيه في ألف ورقة، و هي تتضمّن رسائل جعفر الصادق عليه السلام.٢
و للقدماء و المتأخّرين من المستشرقين كلام كثير في شأن جابر. و قد ذكره ابن النديم في «الفهرست»، ص ٤٩۸ إلى ٥۰٣. و أطال فيه الكلام و ذكر له من الكتب و الرسائل في مختلف العلوم لا سيّما الكيمياء، و الطبّ، و الفلسفة، و الكلام شيئاً كثيراً لا يكاد يتّسع وقت الإنسان في العمر الطبيعيّ لتأليفها. نعم إلّا لأفذاذ في الدهر منحوا ذكاءً و فطنة مفرطين و انكبّوا على الكتابة و التأليف. و ذكر أنّ له تآليف على مذاهب الشيعة. و من ثمّ استظهر تشيّعه. و لعلّ أخذه عن الصادق و ائتمان الصادق به على هذا العلم شاهد على تشيّعه.
و ذكره في «الذريعة» في عداد مؤلّفي الشيعة في ج ٢، ص ٤٥۱ و ٤٥٢
عند ذكره لكتابه «الإيضاح» في الكيمياء.
و لو تصفّحت شيئاً من رسائله التي نشرها المستشرق «كراوس» لأيقنت بتشيّعه و أخذه عن الإمام الصادق، لأنّه أخذ عنه كإمام مفترض الطاعة متّبع الرأي، و لعرفت أنّه لم يأخذ عنه الكيمياء فحسب، بل الكلام و غيره.
و قد أكبر مؤلّفو الإسلام منزلة جابر و عدّوه مفخرة من مفاخر الإسلام، و لا عجب فإنّ من تزيد مؤلّفاته على ثلاثة آلاف كتاب و رسالة في مختلف العلوم، و جلّها من العلوم النظريّة و الطبيعيّة التي تحتاج إلى زمن طويل في تجاربها و تطبيقها - هذا عدا الفلسفة و الكلام - لجدير بالتقدير و الإكبار و أن يكون مفخرة يعتزّ به.
و قد كبر على المستشرقين أن يكون عربيّ مسلم و من أهل القرن الثاني للهجرة يمتاز بتلك الآراء السديدة، و تكون نظريّاته الاسس العامّة التي قام عليها علم الكيمياء قديمه و حديثه، فصاروا يخبطون في تعرّضهم لكتبه كحاطب ليل، فمرّة يشكّون في وجوده، و تارة في زمانه، و اخرى فيما نُسب إليه من تلك الكتب، و رابعة في نسبة البعض ممّا يرويه عن استاذه الصادق عليه السلام، و خامسة في التبويب و الوضع و الاسلوب، لأنّه لم يكن يعرفه أهل ذلك العصر، إلى غير ذلك.
و قد فنّد بعض تلك الشكوك و المزاعم الكاتب إسماعيل مظهر صاحب مجلّة «العصور» فيما نشره في «المقتطف» (٦۸/ ٥٤٤ - ٥٥۱ و من ٦۱۷ - ٦٢٥). و جرى في هذه الحلبة الاستاذ أحمد زكي صالح فيما كتبه في مجلّة «الرسالة» المصريّة، السنة الثامنة (ص ۱٢۰٤ - ۱٢۰٦، و من ۱٢٣٥ - ۱٢٣۷، و من ۱٢٦۸ - ۱٢۷۰، و من ۱٢٩٩ - ۱٣۰٢)، و لقد فنّد تلك الأوهام و المزاعم تفنيداً حكيماً علميّاً. و صرّح مراراً بتشيّعه.
و قال في مناقشة رأي الاستاذ كراوس، ص ۱٢٩٩: و من الجليّ الواضح لدي كلّ من درس علم الكلام أنّ فِرَق الشيعة كانت أنشط الفرق الإسلاميّة حركةً، و كانت اولي من أسّس المذاهب الدينيّة على اسس فلسفيّة، حتى أنّ البعض ينسب فلسفة خاصّة لعلي بن أبي طالب.
و كان هذا الكلام من أحمد زكي لتصحيح ما يُنسب إلى جابر من المقارنة بين الآراء الكلاميّة و الفلسفيّة.
و جملة القول: أنّه قد أصبح من الواضح تشيّع جابر و تقدّمه في عدّة علوم لا سيّما الكلام، و الفلسفة، و الطبّ، و الكيمياء، و الطبيعيّات عامّة. و ما كادت لتكون آراؤه الاسّ العامّ لدعائم علم الكيمياء إلّا لأنّه أخذ ذلك من معدنه الصحيح الإمام الصادق عليه السلام.
و كنت قد جمعت عدّة مصادر عن جابر لأتبسّط في ترجمته، غير أنّي اكتفيتُ بهذا الوجيز عن الإطالة فيها. فإنّا لو استقصينا الكلام على كلّ ما يقتضي التوسعة في البحث عنه لكان هذا الكتاب عدّة أجزاء، و هو و إن كان لا يخلو من فائدة، غير أنّه يكون أبعد عن حياة الصادق الخاصّة.
سائر العلوم المتنوّعة للإمام الصادق عليه السلام
لا نعني بما ذكرناه من العلوم التي كتبنا عنها و أوضحنا أخذ الناس عن الصادق فيها أنّ تلك جميع ما لديه، بل إن الإمام على رأي الإماميّة يجب أن يكون عالماً بكلّ شيء و أعلم الناس في كلّ علم و فنّ و لسان و لغة، كما يقتضيه حكم العقل.
و لو نظرنا إلى الدليل السمعيّ من دون أن نثبت له الإمامة الإلهيّة لفهمنا منه أنّ في كلّ زمان عالماً من العترة بالكتاب و السنّة كما هو مفاد حديث الثقلين، و أنّ عالم الكتاب الذي نزل على الرسول تبياناً لكلّ شيء
يجب أن يكون عالماً بكلّ شيء. و ما دام الكتاب موجوداً فالعالم به من العترة موجود إلى يوم الحشر، و لا يعدو أن يكون ذلك العالم في عهد الصادق عليه السلام نفسه، إذ ليس في زمانه مَن هو أعلم منه في العترة. و كفت آثاره دلالة على ذلك العلم.
فصادق أهل البيت إذن عالم أهل البيت في عصره، و عالم العترة بالكتاب الجامع للعلوم و الفنون. فمن ثمّة نستغني بما سلف عن التعرّض لبقيّة العلوم، و الشواهد على علمه فيها. فليس غريباً لو جاء الحديث أنّ الصادق عليه السلام كلّم الفُرْس بلسانهم و أهل اللغات بلغاتهم. و ناظر أهل كلّ علم و فنّ فخصمهم، مثل علماء النجوم، و الفلك، و الطبيعيّات، و الطبّ و ما عداها. و كلّ ذلك نطقت به الأخبار و دلّت عليه الآثار.۱
جابر بن حيّان مؤسّس علم الكيمياء
قال المستشار عبد الحليم الجنديّ: جابر بن حيّان أوّل مَن استحقّ في التأريخ لقب كيميائيّ، كما تسمّيه اوربّة المعاصرة.٢
و هو الذي يُشير إليه أبو زكريّا الرازيّ (٢٤۰ - ٣٢۰) - جالينوس العرب - فيقول: «استاذنا أبو موسى جابر بن حيّان». و المؤرّخون - إلّا بعضاً من غير المسلمين - متّفقون على تلمذته للإمام، و على صلته أو تأثّره به في العلم و العقيدة. و أكثرهم على أنّه صار بعد موت الإمام من الشيعة الإسماعيليّة.
يقول جابر في كتابه «الحاصل»: لَيْسَ في العَالَمِ شَيءٌ إلَّا وَ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ الأشْيَاءِ، وَ اللهِ لَقَدْ وَ بَخَّنِي سَيِّدِي (يقصد الإمام الصادق) عَلَى عَمَلِي فَقَالَ: وَ اللهِ يَا جَابِرُ! لَوْ لا أنّي أعْلَمُ أنَّ هَذَا العِلْمُ لَا يَأخُذُهُ عَنْكَ إلَّا مَنْ يَسْتَأهِلُهُ، وَ أعْلَمُ عِلْماً يَقِيناً أنَّهُ مِثْلُكَ لأمَرْتُكَ بِإبْطَالِ هَذِهِ الكُتُبِ مِنَ العِلْمِ.
و كانت له كتب رياضة و كيمياء تسبق العصور بجدّتها. قيل: إنّه أخذ علمه عن خالد بن يزيد، ثمّ أخذ عن الإمام جعفر. و هو يشير إلى الإمام دائماً بقوله: سيّديّ، و يحلف به. و يعتبره مصدر الإلهام له.
يقول في مقدّمة كتابه «الأحجار»: وَ حَقِّ سَيِّدي لَوْ لا أنَّ هَذِهِ الكُتُبَ بِاسْمِ سَيِّدي صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ لَمَا وَصَلْتُ إلى حَرْفٍ مِنْ ذَلِكَ إلى الأبَدِ.
ذكر له المستشرق كراوس Kraus ناشر كتبه في العصر الحديث أربعين مؤلّفاً. و أضاف ابن النديم في القرن الرابع للهجرة عشرين كتاباً اخرى. و ينقل ابن النديم قوله: «ألّفتُ ثلاثمائة كتاب في الفلسفة و ألفاً
و ثلاثمائة رسالة في صنائع مجموعة، و آلات الحرب، ثمّ ألّفت في الطبّ كتاباً عظيماً، ثمّ ألّفت كتباً صغاراً و كباراً، و ألّفت في الطبّ نحو خمسمائة كتاب. ثمّ ألّفت في المنطق على رأي أرسطاطاليس. ثمّ ألّفت كتاب الزيج أيضاً نحو ثلاثمائة ورقة. ثمّ ألّفت كتاباً في الزهد و المواعظ. و ألّفت كتباً في العزائم كثيرة حسنة. (و هي الأدعية و العوذ التي يكتبونها و يحملونها معهم). و ألّفت في الأشياء التي يعمل بخواصّها كتباً كثيرة. ثمّ ألّفت بعد ذلك نحو خمسمائة كتاب نقضاً على الفلاسفة. ثمّ ألّفت كتاباً في الصنعة يعرف بـ «كتب الملك». و كتاباً يعرف بـ «الرياض».۱
جابر بن حيّان في كلام هنري كوربان
قال هنري كوربان مدير التدريس في معهد الدراسات العالي و صاحب كرسي التخصّص في الشؤون الشيعيّة في جامعة السوربون و المدير العام لقسم الإيرانيّات في المعهد الإيرانيّ الفرنسيّ بطهران حول جابر بن حيّان:
۱ - إن المجموعة الضخمة من المؤلّفات التي تحمل اسم جابر بن حيّان هي بدورها أيضاً هرمسيّة في عدد من مصادرها. و لا يسعنا إلّا أن نحيل القارئ إلى العمل الضخم الذي وقفه لها المستشرق بول كراوس٢ الذي بقي ردحاً من الزمن المرشد الأمين في الدراسات الجابريّة.
إن إعطاء الحكم الفصل على هويّة مؤلّف هذه المجموعة لهو موضوع خطير، بَيدَ أنّ المستشرق برتلو٣ الذي انصرف بشكل خاصّ إلى دراسة
مؤلّفات جابر اللاتينيّة انتهى به البحث إلى إنكار كلّيّ و غير مدعوم برهانيّاً، لكون الوثائق صعبة المنال. مقابل ذلك قام المستشرق هوليمار۱ بجمع عدد من الوثائق الملائمة التي تدعم العُرف السائد. فهو يؤكّد أنّ جابراً عاش في حدود القرن الثامن الميلاديّ (الثاني للهجرة)، و أنّه كان تلميذاً للإمام جعفر الصادق [عليه السلام]، الإمام السادس، و هو فعلًا صاحب المجموعة الضخمة التي تُنسب إليه و التي يناهز عددها نحواً من ثلاثة آلاف رسالة (و ليس هذا الأمر ببعيد التصديق، إذا ما قايسناه بمؤلّفات ابن عربي أو المجلسيّ مثلًا).
حاول المستشرق رسكا٢ أن يجد سبيلًا وسطاً بنفيه التأثير المباشر للإمام جعفر (و هذا النفي يتجاهل وجود تراث شيعيّ ثابت و لكنّه يقرّ بوجود تراث له مراكزه في إيران). أمّا بول كراوس فقد خلص من أبحاثه و انتقاداته المتحفّظة إلى إثبات عدّة مؤلّفين. و تكون هكذا قد نشأت مجموعات عدّة من المؤلّفات حول نواة أصليّة؛ و ذلك وفق ترتيب نكاد على وجه التقريب نتوصّل إلى إقامته من جديد. و يجعل (كراوس) تأريخ نشأة هذه المجموعات في حدود القرنين التاسع و العاشر للميلاد (الثالث أو الرابع للهجرة) لا في حدود القرن الثامن (الثاني للهجرة). و نحبّ أن نشير إلى أنّه بالرغم من التناقض القائم بين «المجموعات التقنيّة» و المجموعات الاخرى هناك صلة عضويّة بينها جميعاً و مصدر إلهاميّ ثابت.
و إذا كان صحيحاً أنّ واحدة من هذه المجموعات تُسند إلى كتاب
«سرّ الخليقة» المنسوب لأبولونيوس الطوانيّ۱ في القرن التاسع للميلاد (الثالث للهجرة) فلسنا على شيء من اليقين من أنّ صاحب هذه المجموعة قد أوجد هو بنفسه تعابير الخاصّة و موضوعاته الخاصّة، و أنّه لم يستقها هو الآخر من مفكّر غيره.٢
إن شهادة الفيلسوف سليمان المنطقيّ السجستانيّ (المتوفّى حوالي سنة ٣۷۱ هـ ٩۸۱ م) التي يوردها ضدّ جابر بن حيّان لتتناقض مع ذاتها. و إذا شئنا أن نتكلّم صراحة فإنّنا نعتقد في مثل هذا الميدان (حيث ضاع قسم كبير من مؤلّفات ذلك العصر) أنّ الرغبة في إظهار ما يفسّر التقليد و العُرف، و ما يدلّ عليه هذا التقليد، هي أشدّ خصباً و فائدة من الانتقاد التأريخيّ المتطرّف الذي يطأ أرضاً غير ثابتة لا تلبث في كلّ لحظة أن تنخسف و تغور.٣ و إذا كنّا حقّاً لا نودّ أن نبخس أئمّة الشيعة حقّهم، و لا أن نتجاهل جملةً كلّ ما روي لنا عنهم (و تأخّر الدراسات الشيعيّة يظهر بشكل خاصّ هنا). و إذا كنّا نذكر أنّ الإسماعيليّة تكوّنت في البدء مع أتباع الإمام إسماعيل بن الإمام جعفر، فإنّ الصلات بين جابر و الإسماعيليّة و بين جابر
و الإمام جعفر تظهر لنا على وجهها الحقيقيّ. و إذا كانت السيرة المتلاحمة لحياة جابر التي استخلصها الكيميائيّ «الجلدكي» من مجمل المصنّفات الجابريّة تؤكّد أنّ هناك بالفعل رجلًا يدعى جابر بن حيّان، و أنّه كان كيميائيّاً و تلميذاً للإمام السادس [عليه السلام] و من أتباع الإمام الثامن عليّ الرضا [عليه السلام]، و أنّه مات في طوس (في خراسان) في العام ٢۰۰ هـ/ ۸۰٤ م، فإنّه لم يعد هناك سبب وجيه لإنكار ذلك. و أمّا أن تفترض المجموعات المختلفة عدّة مؤلّفين، فليس في ذلك شيء من الخلف، إذ سوف نرى أخيراً أنّ الفكر جابر، و شخصيّة قد أخذت في النهاية معنىً خاصّاً يتخطّى حدود وضع محدود و متحجّر في تأريخ الحوادث.
٢ - تميل الأبحاث التي قام بها المستشرق بول كراوس إلى أنّ النظريّة الجابريّة عن «الميزان» «تمثّل في العصر الوسيط محاولة دقيقة لبناء نظام كمّيّ في العلوم الطبيعيّة».
كان من الممكن أن تظهر صحّة هذه العبارة واضحة لو لا أن حالت وفاة بول كراوس دون إنجاز أبحاثه. بقي بعد ذلك تحقيق القصد الرامي إلى إظهار العلاقات بين الكيمياء الجابريّة و الفلسفة الدينيّة عند الإسماعيليّة، إذ إن العلوم «الكمّيّة» الجابريّة لا تؤلّف فقط فصلًا في التأريخ البدائيّ للعلوم، كما نعني اليوم بكلمة «علوم» و لكنّها «نظرة شاملة في الكون» قائمة بذاتها.
فعلم الميزان يكاد يشمل معطيات المعرفة البشريّة بأكملها، و هو لا يطبّق فقط على العوالم الثلاثة المؤلّفة لفلك ما دون القمر [أي: الموادّ المرتبطة بالحيوان و النبات و المعدن]، و لكنّه يشمل أيضاً حركات الكواكب و أقانيم العالم الروحيّ. و كما يذكر كتاب «الخمسينيّات» فإنّ هناك موازين لقياس كلّ من العقل و نفس العالم، و الطبيعة، و الصور، و الأفلاك،
و الكواكب، و الطبائع الأربعة، و الحيوان، و النبات، و المعدن، و أخيراً ميزان الحروف الذي هو أشرف الموازين جميعاً. لذلك يُخشى أن تخلق كلمة «كمّي» في إطلاقها على العلوم الجابريّة بعض الإبهام و الالتباس.
اعتقاد جابر بابتناء علم الكيمياء على روح الأجسام و نفسها
إن ما قصد إليه كتاب «علم الميزان» هو اكتشاف العلاقة القائمة في كلّ جسم من الأجسام بين ظاهره و باطنه. و العمليّة الكيميائيّة تظهر هكذا، كما أشرنا سابقاً، و كأنّها حالة مثاليّة من حالات التأويل، أي: إخفاء الظاهر، و إظهار الخفي. و كتاب «ميدان العقل» يشرح بإسهاب أنّ قياس طبائع الشيء (من حرارة، و برودة، و رطوبة، و يبوسة) هو في الآن نفسه قياس للكمّيّات التي اختصّتها منه نفس العالم، أي: مدى شوق النفس لحلولها في المادّة. و من هذا الشوق الذي يحدو النفس نحو العناصر الطبيعيّة ينشأ المبدأ الذي هو في أصل الموازين. و باستطاعتنا إذن أن نقول: إن تحوّل الأجسام مرهون بتحوّل النفس المرتدّة إلى ذاتها. و النفس هي عين المكان الذي يحدث فيه التحوّل. فالعمليّة الكيميائيّة تظهر و كأنّها عمليّة نفسيّة - روحيّة-. لا نقول ذلك لكي نجعل من النصوص الكيميائيّة رموزاً خرافيّة عن النفس، و لكن لأنّ مراحل العملية المطبّقة حقّاً على مادّة حقيقيّة ملموسة ترمز إلى مراحل ارتداد النفس إلى ذاتها. إن المقاييس المعقّدة، و الأعداد الكبيرة التي توصّل إليها جابر بدقّة متناهية ليس لها أيّ معنى بالنسبة لمختبراتنا اليوم. و لمّا كان المبدأ و الهدف لـ «علم الميزان» هو الوصول إلى قياس رغبة «نفس العالم» و تشوّقها للحلول في المادّة، يصعب علينا إذن أن نرى فيه سبقاً في موضوع العلم الكمّيّ الحديث، و لكنّه، بالمقابل، يمكن أن ينظر إليه على أنّه سبق علميّ في موضوع «الطاقة النفسيّة» التي تستدعي في أيّامنا هذه مجموعة كبيرة من الأبحاث.
كان «ميزان» جابر «علم الجبر» الوحيد الذي يخوّله أن يلاحظ درجات «الطاقة الروحيّة» للنفس التي تحلّ في الطبائع، ثمّ تتحرّر من هذه بواسطة الكيميائيّ الذي بتحريره للطبائع يحرّر نفسه أيضاً في آن واحد.
٣ - أشرنا إلى أنّ جابر بن حيّان كان ينظر لميزان الحروف على أنّه أشرف الموازين جميعاً. و قد توسّع الغنوصيّون في الإسلام بنظريّة حول الغنوص القديم، و رأوا أنّ الحروف الهجائيّة لكونها في أساس الخلق تمثّل تجسيماً أو تجسيداً للكلام الإلهيّ (انظر: ماركوس۱ الغنوصيّ، و في هذا الكتاب العرفان الشيعيّ «المغيرة»).
و قد أجمع الرأي على أنّ الإمام جعفراً هو معرّف الناس لـ «علم الحروف». و قد أخذ المتصوّفون السنّة، هم أيضاً، هذا العلم عن الشيعة منذ النصف الثاني للقرن التاسع الميلاديّ (الثالث للهجرة). كما بحث ابن عربي و تلاميذه في هذا العلم. أمّا عند الإسماعيليّة فإنّ النظر في الاسم الإلهيّ يقابل «الغنوص» اليهوديّ [يَهْوَهْ] حول «الكلمات الرباعيّة».٢
يهتمّ جابر بنوع خاصّ بـ «ميزان الحروف» هذا في رسالة له بعنوان «كتاب المجيد»؛٣ هذه الرسالة، بالرغم من كونها عويصة الفهم، إلّا أنّها تُفصح لنا عن الروابط بين مذهب جابر الكيميائيّ و «الغنوص» الإسماعيليّ، لا بل إنّها قد تؤدّي بنا إلى معرفة سرّ شخصيّة جابر.
تحلّل هذه الرسالة مطوّلًا قيمة الحروف الرمزيّة و معناها. هذه الحروف الرمزيّة ثلاثة: العين (رمز الإمام الصامت عليّ)، و الميم (رمز النبيّ الناطق المعبّر عن الشريعة محمّد [صلّى الله عليه و آله]، و السين (تذكّر بسلمان الحجّة).
و قد سبقت الإشارة إلى أنّه حسب ترتيب المقامات التي نجعلها لكلٍّ من هذه الحروف يكون لدينا الترتيب الرمزيّ المميّز للشيعة الاثني عشريّة و الإسماعيليّة الفاطميّة (ميم - عين - سين) أو للإسماعيليّة الاولى (و هم الذين تشير إليهم رسالة «امّ الكتاب» تحت فصل «معارك سلمان السبعة») أو إسماعيليّة ألموت (عين - سين - ميم): في هذه الحالة يكون المقام الأوّل لسلمان «الحجّة» على الميم. و يبرّر جابر هذا الترتيب المقاميّ بتطبيق دقيق للقيمة التي يكتشفها الميزان لكلّ من الحروف الثلاثة موضوع حديثنا. و بعد، فمن هو «السين» المجيد؟ لم يُشر جابر في أيّ من كتاباته إلى أنّه الإمام المنتظَر، الإكسير الذي يفيض من الروح الإلهيّ سوف يبدّل الامور في هذه الحياة الدنيا. (و هذه الفكرة تقابل علم المعاد في كلّ الفرق الشيعيّة، و التي حاول الشرّاح الغربيّون أن يسيّسوها).
السين هو الغريب، أو اليتيم و هو المنزوى، هو ذاك الذي اهتدى إلى الطريق السويّ و تبع الإمام، بمجرّد جهده و نظره. ذاك الذي يظهر نور الـ «عين» (الإمام) لكلّ الغرباء أمثاله، ذلك النور الخالص الذي ينسخ الأبدان و الأرواح فى قانون العذاب الجهنّميّ۱، نورٌ قد انتقل فى سلالة البشر منذ عهد شيث بن آدم إلى المسيح، و منه انتقل إلى محمّد صلّى الله عليه و آله، و من ثَمَّ انتقل إلى شخص سلمان.
و لكن «كتاب المجيد» ينصّ على أنّ فهم هذا الكتاب، و فهم الترتيب نفسه لكلّ المؤلّفات الجابريّة. يعني أن يكون المرء و كأنّه جابر نفسه.
و في مكان آخر، و تحت ستار اللغة الحميريّة و الشيخ الغامض الذي علّمه إيّاها، يقول جابر لقارئه: «إذا قرأت كتابنا المعروف بالتصريف،۱ فحينئذٍ تعرف فضل هذا الشيخ و فضلك أيّها القارئ و الله يعلم أنّك أنت هو». إن شخصيّة جابر بن حيّان ليست اسطورة و لا خرافة، و لكنّ جابراً هو أكثر من شخصيّته التأريخيّة.
«المجيد» هو النموذج و المثال.٢ فإن كان هناك أكثر من مؤلّف لمجموع المصنّفات المنسوبة إلى جابر لكان على كلٍّ منهم أن يعاود الكتابة تحت اسم جابر بن حيّان، و مأثرة المثال نصب عينيه.
العلماء الذين نهجوا منهج جابر في الكيمياء
هذه المأثرة هي الكيمياء التي لا نقدّر أن نرسم لها طريقاً إلّا بذكر بعض الأسماء منها: مؤيّد الدين حسين الطغرائيّ، شاعر كبير و كاتب و كيميائيّ شهير من أصفهان. (اعدم سنة ٥۱٥ هـ/ ۱۱٢۱ م). و محيي الدين أحمد البونيّ (المتوفّى سنة ٦٢٢ هـ/ ۱٢٢٥ م) الذي درس نحواً من مائتي كتاب من مؤلّفات جابر. و الأمير المصريّ «أيدمور الجلدقيّ»٣ (توفّي سنة ۷٤٣ هـ/ ۱٣٤٢ م، أو سنة ۷٦٢ هـ/ ۱٣٦۰ م) و هو يُحيل دائماً إلى كتب جابر. و بين كتبه العديدة واحد بعنوان كتاب «البرهان في أسرار الميزان» و هو مؤلّف من أربع مجلّدات ضخمة (و هذا المؤلّف يهتمّ بنوع خاصّ بالتحوّل الروحيّ و يماثله بالعمليّة الكيميائيّة).
الفصل الأخير من كتاب «نتائج الفكر» و عنوانه «حلم الكاهن»٤ يشير
إلى اتّصال هرمس بطبيعته التامّة.
في إيران، و في القرن الخامس عشر علّق أحد شيوخ التصوّف في كرمان، و هو «شاه نعمة الله ولى»، علّق بخطّ يده على نسخة لديه من كتاب «نهاية الطالب» للجلدكيّ. و بين القرن الثامن عشر و التاسع عشر أعرب شيوخ النهضة الصوفيّة في إيران، بدورهم، عن مراحل الاتّصال الصوفيّ ببعض الإشارات و الملاحظات الكيميائيّة، نذكر منهم «نور على شاه» و «مظفّر على شاه». أمّا في المدرسة الشيخيّة فإنّ التصوّرات الكيميائيّة متعلّقة بالمذهب الحِكَميّ لجسد القيامة.۱
و في سنة ۱٣٥٤ هـ نشرت مجلّة «خواندنيها» في طهران مقالات متسلسلة في أعداد كثيرة حول العلوم البديعة التي اكتشفها الإمام جعفر الصادق عليه السلام. تلك العلوم التي لم تخطر في بال أحد حتى ذلك الحين، و لم يُعرف لها حلّ حتى عصرنا هذا عصر التجدّد العلميّ. و كانت هذه المقالات في غاية الروعة، و لقيت ترحيباً عامّاً حتى بلغ الأمر أنّ دار منشورات «شركة الإسمنت المساهمة في فارس و خوزستان» التي كان يشرف عليها المهندس سالور قامت بطبعها على شكل كرّاسات جيبيّة صغيرة و وزّعتها في أرجاء البلاد مجّاناً.
العقل المفكّر للعالم الشيعيّ، أو الإمام الصادق عليه السلام، كما
ذهبتُ ذات يوم من طهران إلى قم، و التقيت بالعلّامة الطباطبائيّ قدّس سرّه و جرى الحديث عن الكرّاسات المذكورة. فكان مسروراً ينظر بإعجاب و لم تفارق البشاشة و الابتسامة وجهه الصبيح حتى ساعة من
الوقت. و كان يُثني على جهود المهندس سالور و رغبته في هذه الامور. و لمّا عدتُ إلى طهران راسلتُ سالور على مدينة درود، فبعث لي الجزءان ٢٢ و ٢٣ من الكرّاسات فوراً.۱
و هذه المقالات و الكرّاسات مأخوذة من كتاب بعنوان «مغز متفكّر جهان شيعة» (= العقل المفكّر للعالم الشيعي) أو (= الإمام الصادق عليه السلام كما عرفه علماء الغرب) الذي ترجمه ذبيح الله منصوري إلى الفارسيّة.
قامت دار منشورات «جاويدان» بطبع الكتاب المذكور لأوّل مرّة سنة ۱٣٩٥ هـ. و ذكر مترجمه في مقدّمته أنّه حصل عليه من مركز الدراسات الإسلاميّة في مدينة ستراسبورغ.٢ و لم يقتصر هذا المركز على الدراسات الإسلاميّة بل يتناول جميع الأديان في العالم بالدراسة، و منها الإسلام.
الباحثون في المركز المذكور ليسوا من سكّان ستراسبورغ الدائميّين. فهم يعيشون في أقطار اخرى، ما عدا أساتذة جامعة ستراسبورغ (الأعضاء في المجمع المتخصّص بالبحث و الدراسة في أديان العالم). بَيدَ أنّهم يرسلون دراساتهم إلى أمانة المجمع الواقع في المركز. و يجتمعون أحياناً في ستراسبورغ مرّة في كلّ سنتين لتبادل الآراء، كما أخبرني أحد أساتذة اللغة الفارسيّة الذين يزاولون التدريس في جامعة ستراسبورغ.
و قد تناولت إحدى الدراسات التي قام بها العلماء في المجمع المذكور المذهب الشيعيّ الإماميّ الإثني عشريّ. و ساهم فيها خمسة و عشرون عالِماً من أعضاء المجمع. و نقلتُ قسماً من تلك الدراسة في كتاب «الإمام الحسين و إيران»، كما أنّ قسماً آخر منها يترجم للإمام السادس جعفر الصادق عليه السلام.
و يعدّ المترجم هنا أسماء العلماء الخمسة و العشرين، و أوّلهم (أرمان بيل) استاذ جامعتَي بروكسل وغان، و آخرهم (هانس رومر) استاذ جامعيّ في ألمانيا الغربيّة.
جميع الأسماء غير معروفة ما عدا (هنري كوربان) و هو استاذ جامعيّ و مدير الدراسات المرتبطة بعلوم الأديان، و (توفيق فحل) و هو استاذ في جامعة ستراسبورغ، و السيّد حسين نصر، و هو استاذ في جامعة طهران، و السيّد موسى الصدر مدير المعهد العلميّ للدراسات الإسلاميّة في صور.
من الحريّ بالعلم و الاطّلاع أنّ أهمّيّة الكتاب تعود فقط إلى موقف أشخاص غير مسلمين و غير شيعة من العلوم اللدنّيّة المتنوّعة للإمام جعفر الصادق عليه السلام، التي أفصحت عنها العلوم المعاصرة. كما تعود إلى اعترافهم بعظمته و ابّهته العلميّة من خلال ما بلغوه، و إن كان ذلك ضئيلًا قاصراً بالنسبة إلينا نحن الشيعة الذين نعتقد بولايته و علومه الغيبيّة و أسراره الملكوتيّة عليه السلام.
وحدة الوجود في كلام الإمام الصادق عليه السلام
و من مباحث الكتاب المذكور مناظرات جابر بن حيّان المستغرقة في أربعة فصول منه بالتفصيل. و قد اخترنا من كلّ فصل مطالب موجزة جدّاً. و هي كما يأتي:
قال جعفر الصادق: بلى يا جابر قلتُ هذا و هو رأيي.
فقال جابر: أنت تقول: الله موجود في كلّ مكان فلا بدّ أن تصدّق أنّه
موجود في كلّ شيء أيضاً.
فأجابه جعفر الصادق بالإيجاب.
قال جابر: فقول من يذهب إلى أنّ الخالق و المخلوق شيء واحد صحيح إذن. إذ لو قلنا: إن الله موجود في كلّ شيء فلا بدّ أن نؤمن بأنّ كلّ شيء هو الله حتى لو كان حجراً أو ماءً أو نباتاً.
قال جعفر الصادق: ليس كذلك و قد أخطأتَ. و الله موجود في الحجر و الماء و النبات، لكنّها ليست هي الله، كما أنّ الزيت موجود في السراج لكن السراج ليس زيتاً.
الله موجود في كلّ شيء، لكنّه يكون فيه من أجل أن يتحقّق وجود ذلك الشيء أوّلًا، و يواصل حياته الجماديّة أو النباتيّة أو الحيوانيّة و يبقى و لا يفنى ثانياً.
الأصل في نور السراج هو بقاء زيته و فتيلته، لكنّ السراج ليس زيتاً و فتيلة. فوجود الزيت و الفتيلة هو من أجل خلق النور في السراج. و ليس للسراج أن يزعم أنّه هو الزيت و الفتيلة لوجودهما فيه. و محال أن يكون المخلوق الذي أوجده الخالق خالقاً. و كلّ من كان يعتقد بوحدة الخالق و المخلوق فيما مضى فهو مخدوع بالشكل الظاهريّ لاستدلاله. و كانوا يقولون: لمّا كان الخالق موجوداً في كلّ ما وُجد في هذا العالم، فكلّ ما فيه هو الله.
و لو صحّت هذه العقيدة فلِكُلّ موجود من الموجودات في العالم قدرة إلهيّة كالله. لكن العالم يخلو من موجود له قدرة إلهيّة.
هل استطاع القائلون بهذا الرأي أن يوجدوا حُصَيَّةً واحدةً؟! إذ إن ما تستلزمه وحدة الخالق و المخلوق هو أن يكون الإنسان إلهاً، و تستلزم إلهيّته أن يفعل ما يفعله الله، و يخلق الكون بكلمة «كُنْ»، و يخلق الإنسان
من نطفة.
هل استطاع القائلون بوحدة الخالق و المخلوق الذين يرون أنفسهم آلهة أن يفعلوا ما يستبين أنّ له صفات إلهيّة؟!
عند ما يقال لهؤلاء: أنتم تذهبون إلى أنّكم آلهة، فافعلوا واحداً من أفعال الله لنستيقن أنّكم هو، يقولون: نحن كذلك لكنّنا لا ندري أنّنا هو.
فهل يمكن أن نقرّ بهذا الكلام الفارغ الذي يُشبه كلام الأطفال؟!۱
إلى أن يقول: قال الإمام: لمّا كان الأصل في الحكمة، سواء في عصر الإغريق أم في عصرنا، أنّ الأشياء لا تفنى و إنّما تتغيّر أشكالها، فالإنسان لا يفنى أيضاً و يتغيّر شكله بعد الموت. و يتغيّر فكره كما يتغيّر هو ذاته، و لا شكّ أنّه يبقى بشكل آخر. و ما يبقى من عوامله و صفاته المعنويّة بعد الموت هو الروح.٢
الدين هو غير الحكمة، و ليست الحكمة للعوامّ
إلى أن قال: اعلم يا جابر أنّ الدين هو غير الحكمة. فكلّ ما يقال في الحكمة يستند إلى الاستدلال ليقبله عقل السامع. و السامعُ قضيّة فلسفيّة لن يقبلها إلّا أن يُثبت قائلها صحّتها بالدليل. لأنّ السامع حكيم كالقائل. و لو لم يكن حكيماً فله في الحكمة رغبة و إلّا فلا يرغب أن يسمع قضيّة فلسفيّة و يفهمها.
كلّ مسألة متعلّقة بالحكمة إذا قيلت للحكماء أو لمن كان لهم ذوق فلسفيّ ينبغي أن تتوكّأ على الدليل و يثبتها أصحابها كي يقبلها الحكماء.
لذا لا بدّ من الدليل أو الأدلّة في كلّ قضيّة فلسفيّة. و أنّ لكلّ مسألة فلسفيّة ارتباط بعقل الإنسان و ما لم يقبلها العقل فلا تثبت صحّتها.۱
إلى أن قال: لا فائدة في كلّ توضيحٍ يُقَدَّم للعوامّ حول المصلحة في حقائق الإسلام، إذ لا مَعْدِلَ للمرء عن طيّ مقدّمات العلم من أجل أن يفهم الموضوع من الوجهة العلميّة، و إلّا لن يفهم شيئاً، و أنّ سَبْرَ غور الحقائق الدينيّة للعوامّ مع الدليل يعني تقديم التوضيح العلميّ لهم. و لا يفهم التوضيح العلميّ إلّا من كان عالماً أو كان قد طوى مقدّمات العلم. و تعلّم العلم يحتاج إلى إرادة، و يجب أن تتوفّر هذه الإرادة عند الإنسان كي تحفّزه على طلب العلم. و هي معدومة لدى العوامّ، و سبب ذلك أنّ العامّيّ يعلم أنّه إذا بدأ بطلب العلم فسوف تمرّ السنون بلا فائدة يقطفها.
بَيدَ أنّه لو استبدل الزراعة أو تربية المواشي بطلب العلم فسوف يستفيد كثيراً، و لا يتسنّى استنباط النتائج المعنويّة التي تعود على الإنسان بالنفع.
فالأفضل للعوامّ أن يكونوا من اولي الإيمان فحسب، و لا يفهموا من اصول الدين و فروعه إلّا ما يُستنبَط من الظواهر.٢
إلى أن قال: قال جابر: آسي على عوامّ الناس، لأنّهم لا يفهمون مصلحة أحكام الدين المبين و مفهوم كلام الله. و أحسب أنّهم لو فهموا ذلك لاتّسع دين الله أكثر ممّا نراه اليوم.
فأجاب جعفر الصادق أنّ الأقلّيّة وحدها في الأديان السابقة جميعها هي التي تفهم أحكام الدين جيّداً و تقف على مصلحة كلّ ما تقرّر فيه، فتلي قيادة الناس من الوجهة الدينيّة.
و هكذا الأمر في الإسلام، فكما أنّ الأقلّيّة اليوم تلي قيادة الناس دينيّاً، فالأقلّيّة من علماء المسلمين ستتقلّد زعامة الناس من الوجهة الدينيّة في المستقبل أيضاً، و اعلم أنّ هذا الوضع سيدوم ما دام العلم غير عامٍّ.۱
٢ - سؤال جابر بن حيّان حول الآلهة الثلاثة للهنود
طرح جابر هنا أسئلة مفصّلة حول السبب الذي دعا إلى تغيير قبلة المسلمين، و واصل كلامه إلى أن قال: سمعتُ من التجّار الهنود الوافدين إلى جُدَّة٢ أنّ للهنود ثلاثة آلهة، فهل تعرف أسماءهم؟!
قال جعفر الصادق: أسماؤهم بالهنديّة بَراما (أو بَرَهْمَا)، و يَشْنو و شيوا.
قال جابر: أعجب أنّهم لما ذا يعبدون ثلاثة آلهة مكان التوحيد؟!
قال جعفر الصادق: لأنّهم لم يريدوا أن يقبلوا كلام الله الواحد الحقيقيّ، فاخترعوا ثلاثة آلهة من عند أنفسهم و عبدوهم. و هم يعتقدون أنّ براما، أو برهما هو الإله الذي خلق العالم، و يوردون شرحاً حول ذلك خلاصته: خلق براما العالَم من نفسه، و بعد خلقه تكفّل إليه آخر يُدعى ويشنو بحفظه، و الإله الثالث هو شيوا، و هو إله الموت و الفناء عند الهنود. و كلّ ما أوجده و يوجده الإله الأوّل براما يُفنيه الإله الثالث. و لا يستطيع الإله الثاني أن يحول دون عمل الإله الثالث المتمثّل بالإماتة و الإفناء، مع أنّه حافظ العالم.٣
نسبيّة الزمان في كلام الإمام الصادق عليه السلام
٣ - سؤال جابر بن حيّان حول الحياة بعد الموت
دار هنا بحث مفصّل حول علماء اليونان، إلى أن قال جعفر الصادق: هل كنتَ في بطن امّك إنساناً كاملًا، لكنّك صغير، أم لا؟!
قال جابر: نعم، كنتُ إنساناً كاملًا.
فسأله جعفر الصادق: هل تذكر أنّك كنتَ تفكّر بالموت في بطن امّك أو لا؟!
قال جابر: لا أعلم هل كنت افكّر به أو لا؟!
قال جعفر الصادق: دع ذكر الموت، ما ذا كنت تأمل في بطن امّك؟!
قال جابر: لا أذكر شيئاً عن حياتي في بطن امّي.
قال جعفر الصادق: مع أنّك لا تذكر شيئاً عنها، فهل ترى حياتك في هذا العالم أفضل أو حياتك في بطن امّك؟!
قال جابر: كانت حياتي في بطن امّي قصيرة لم تتجاوز تسعة أشهر.
قال جعفر الصادق: لعلّ التسعة الأشهر التي أمضيتها في بطن امّك تبدو لك أطول من الثمانين أو التسعين سنة التي ستقضيها في هذه الدنيا.
ذلك أنّ الزمان ليس واحداً بالنسبة إلى جميع الأشخاص في كافّة الحالات، و كلّ إنسان أدرك هذا الموضوع في حياته بقدرٍ ما.
و أنا على يقين أنّ عدداً من الساعات قد تمرّ عليك بسرعة و كأنّها ساعة واحدة، و قد تمرّ عليك ساعة منها تطول و تطول حتى تظنّها عدداً من الساعات.
إن ما أقوله هو أنّ تلك الأشهر التسعة التي أمضيتها في بطن امّك لعلّها أكثر من العمر الذي ستعيشه في هذا العالم!
قال المترجم المحترم في الهامش معلِّقاً: نلحظ أنّ الإمام السادس عليه السلام قد سبق بكرل الفرنسيّ، و أينشتَين الألمانيّ، و هينتون
الإنجليزيّ باثني عشر قرناً في القول بنسبيّة الزمان، و نحن ندرك ذلك في حياتنا العاديّة بخاصّة في الأحلام، فقد نرى حلماً يستغرق عدداً من السنين حين الرؤيا، و عند ما نستيقظ ندرك أنّنا لم نَنَمْ أكثر من ساعة واحدة.
أجل، إذا تجاوزنا كلام المترجم، فإنّ الإمام عليه السلام يقول: يا جابر! كنتَ في بطن امّك إنساناً حيّاً كاملًا ذا شعور، و لعلّك كنتَ تأمل شيئاً بسبب هذا الشعور، و ها أنت تعيش في هذا العالم و لم يبق في ذاكرتك أدنى شيء من حياتك في بطن امّك.
ألا تفكّر أنّك عند ما كنتَ في بطن امّك، كنتَ تريد أن تبقى فيها و لا تخرج منها أبداً، و تتصوّر عدم وجود عالم أفضل من بطن الامّ و أكثر راحة منه؟ و غضبتَ بسبب الخروج الذي ربّما يعدّ نوعاً من الموت حتى أنّك كنت تصرخ حين دخلتَ في هذا العالم؟ لكنّك تصدّق اليوم أنّ الدنيا التي تعيش فيها أفضل من الدنيا التي كنتَ تعيشها في بطن امّك!
قال جابر: مع أنّي لا أعلم كيف كانت حياتي في بطن امّي، بَيدَ أنّي أعتقد أنّ الدنيا التي أعيش فيها الآن أفضل من الدنيا التي كنت أعيشها في بطن امّي!۱
بقاء الروح بعد الموت
و للإمام عليه السلام مناظرة طويلة مع جابر يثبت فيها بقاء الروح بعد الموت و تجرّدها. و واصل كلامه حتى قال: هل تشكّ في وجود الروح و حياتها المستقلّة حين الرؤيا (الحُلم) أو لا؟!
قال جابر: لا أشكّ في ذلك.
قال جعفر الصادق: هل تقرّ بأصل الحكمة القائلة بأنّ شيئاً إذا وُجِدَ لا يفنى؟!
قال جابر: نعم، اقرّ بذلك.
قال جعفر الصادق: فروحك التي وُجدت، و لا تشكّ في وجودها لا تفنى بعد موتك. و لمّا كان ما تعرفه «الأنا» هو روحك، لذا ستبقى أنت «الأنا» أيضاً، و ستعرف نفسك بعد الموت.
قال جابر: لا أشكّ في وجود روحي حين الرؤيا (الحُلم). لكنّ هذا الوجود تبعيّ لا انفراديّ و مستقلّ. لأنّه لو لا جسمي لا أرى حُلماً، و لو لم أرَ حلماً فلا أشاهد روحي المجرّدة ذات الحياة المستقلّة.
قال جعفر الصادق: عند ما تشرق عليك الشمس، و يكون ظلّك في الأرض، فهل ذلك الظلّ تبعيّ أو لا؟!
قال جابر: هو تبعيّ.
فسأله جعفر الصادق: لأيّ شيءٍ يتبع؟!
أجاب جابر: يتبع شيئين: الأوّل: نور الشمس، و الثاني: وجودي أنا. و بدونهما لا يوجد الظلّ.
قال جعفر الصادق: وفقاً لأصل الحكمة فإنّ ظلّك الذي يسقط على الأرض و يزول في الظاهر بعد غروب الشمس، لن يزول أبداً فضلًا عن روحك، و لو كانت ذات حياة تبعيّة.۱
سبب سقوط الكواكب، و الحياة في العوالم الاخري
٤ - سؤال جابر بن حيّان حول النجوم
واصل جابر أسئلته بعد أن استفسر من الإمام عليه السلام عن سبب استمرار الكواكب السيّارة في الحركة، فقال: كيف تكون الكواكب في الفضاء؟!
قال جعفر الصادق: بعض الكواكب السماويّة أجرام جامدة، و بعضها الآخر أجرام سائلة، و قسم منها وُجِد من الأبخرة.
فسأله جابر متعجّباً: كيف يمكن أن نقبل وجود الكواكب السماويّة من الأبخرة؟!
و هل يتسنّى للبخار أن يتلألأ كما نشاهد الكواكب ليلًا؟!
قال جعفر الصادق: لم تتكوّن جميع النجوم من الأبخرة، لكنّ الكواكب التي تكوّنت من الأبخرة حارّة، و الحرارة الكثيرة تسبّب تلألؤ الكوكب كما تسبّب تلألؤ الشمس. و أرى أنّ الشمس من الأبخرة أيضاً.
قال جابر: ما بال حركة الكواكب لا تمنع من سقوطها؟!
قال جعفر الصادق: هل أدرتَ مقلاعاً فيه حجر حول رأسك؟!
أجاب جابر بالإيجاب.
قال جعفر الصادق: هل أوقفته فجأة عند التدوير؟!
قال جابر: لا، لم أوقفه!
قال جعفر الصادق: أوقفه مرّة عند تدويره لتعرف ما ذا يحدث، و بعد توقيفه يسقط و يهوى الحجر الذي فيه إلى الأرض، و هذه قرينة على أنّ الكواكب تسقط إذا لم تكن في حركة دائميّة.
سأل جابر قائلًا: أنت قلتَ إن كلّ كوكب نراه عالم بذاته.
فصدّقه جعفر الصادق.
سأل جابر: هل يعيش الإنسان في تلك العوالم كما يعيش في هذا العالم؟!
قال جعفر الصادق: لا أستطيع أن اجيبك حول الإنسان و أقول: هل يعيش الإنسان في العوالم الاخرى أو لا؟! و لكنّي لا أشكّ في أنّ كائنات
حيّة تعيش في العوالم الاخرى، و نحن لا نراها لبعد الكواكب عنّا.۱
و يواصل جابر أسئلته إلى أن يقول: كنتُ أتحدّث سابقاً مع رجل يزعم أنّه مطّلع، فقال: يُؤاخَذُ بنو آدم جميعهم بذنب جدّهم. فسألته عن سبب ذلك، فقال: لا وجود للماضي و المستقبل عند الله، فكلّ ما هو موجود زمان حاضر بالنسبة إليه. و لمّا كان الآن هو الزمان الذي وجد فيه آدم عنده، فبنوه - و هم نحن - يؤاخذون بذنب آدم و حوّاء.
قال جعفر الصادق: غفل هذا الشخص عن أنّه لا وجود للزمان عند الله، فيشمله الزمان و لو كان حاضراً. و اشتمال الزمان من خصائص المخلوق لا الخالق.
لو كان هذا الرجل مسلماً لقلت له: إن الله حسب كلامك قد صرّح بأنّه يُدخل المطيعين الجنّة و يُدخل العاصين النار. و لكن لمّا كان غير مسلم (و إلّا لم يحدّثك بهذا الكلام) فينبغي إجابته بحكمة.
هذا الرجل فهم - من جهة - حقّاً و هو أنّ الله لا يشمله الماضي و المستقبل، لكن لا بمعنى عدم وجود الماضي و المستقبل بالنسبة إليه، أي: لا يستطيع أن يستنبط الماضي و المستقبل. و شتّان بين من لا يشمله الماضي و المستقبل، و بين من لا يستطيع أن يفهم معنى الماضي و المستقبل! و أضرب مثالًا ليتيسّر فهم الموضوع:
إذا حرثت الأرض و زرعت فيها قمحاً فإنّك تعلم ما ذا سيكون القمح في المستقبل، لكنّك سوف لن يشملك مستقبل تلك الغلّة. و حبّات القمح التي بذرتها في الأرض، لا تعلم ما ذا سيكون مستقبلها، لكنّك تعلم ذلك اسبوعاً بعد اسبوع، و تعلم في كلّ اسبوع كيف يكون القمح، و درجة نموّه،
و وقت حصاده.
القمح نفسه، بناءً على استنباطنا، لا يعلم عن ماضيه و مستقبله شيئاً (أقول: بناءً على استنباطنا، لأنّ للقمح شعوراً لكنّنا لا نعلم كيفيّته، و نعتقد بأنّ القمح لا يعلم عن ماضيه و مستقبله شيئاً) لكنّك أنت زارعه تعلم عن ماضيه و مستقبله جيّداً بدون أن يشملك ذلك الماضي و المستقبل!
الله تعالى غير مشمول بالتقدّم و التأخّر
الله أيضاً لا يشمله ماضينا و مستقبلنا. و لا يشمله ماضي هذا العالم و مستقبله، لكنّه يعلم ماضي و مستقبل هذا العالم و كلّ موجود في هذه الدنيا.۱
سأل جابر: هل يأتينا يوم نعرف فيه الوسائل التي صُنع بها العالم (أو الحياة)؟!
قال جعفر الصادق: نعم يا جابر! إذ إن ما أثبتته التجربة حتى الآن هو أنّ للعلم فترات ركود و حركة. و لعلّ فترات حركة علميّة تظهر في المستقبل يفهم فيها الإنسان الوسائل التي صُنع بها العالم.
سأل جابر: ممّ تنشأ الشيخوخة؟!
قال جعفر الصادق: الأمراض التي تعتري الإنسان على نوعين: أمراض حادّة تعتريه فجأةً فيبرأ منها سريعاً أو تسبّب موته.
و أمراض مُزمنة و هي تدريجيّة و طويلة، و تبقى في جسم الإنسان مدّةً، و قد لا تُعالج حتى تهلكه، و الشيخوخة نوع من المرض لكنّه مزمن.
قال جابر: هذه أوّل مرّة أسمع فيها أنّ الشيخوخة مرض.
قال جعفر الصادق: يصل هذا المرض إلى بعض الأشخاص عاجلًا، و إلى بعضهم الآخر آجلًا. فالذين لا يتّبعون تعاليم الله و لا ينتهون عن
نواهيه يشيخون عاجلًا، بَيدَ أنّ الذين يعملون بها يشيخون آجلًا.۱
قال المترجم المحترم في الهامش: لاحظوا كيف ينطبق كلام الإمام عليه السلام مع النظرية العلميّة الجديدة التي تذهب إلى أنّ الشيخوخة مرض. و قرأنا في مجلّة «علم و زندگى» (= العِلم و الحياة) الصادرة بباريس أنّ الشيخوخة ناتجة عن فيروس. و يعيش فيروس الشيخوخة في دور النموّ ثلاثين سنة بنحو متوسّط إلى أن يبلغ مرحلة الكمال. و إذا ما بلغها فإنّه يقتل الإنسان، و لو لا خشية الإطناب لنقلنا للقرّاء عمله كما جاء في المجلّة المذكورة.٢
سأل جابر: هل يتسنّى لأحد الموجودات في الدنيا أن يشذّ عن القواعد التي وضعها الله للعالم، و يعصيها؟!
قال جعفر الصادق: يا جابر! محال أن يستطيع موجود الخروج على القواعد التي أقرّها الله لإدارة هذا العالم و لو كانت نملة أو أصغر منها و هي الذرّة، و ما تسبيح الموجودات التي لا روح لها في رأينا (لكن حركتها الحيويّة أكثر منّا) إلّا طاعة للقواعد التي أقرّها الله لإدارة العالم.
قال المترجم المحترم في الهامش: صرّح الفيزيائيّ الإنجليزيّ السير آرتور دادينغتون المتوفّى سنة ۱٩٤٤ م بأنّه إذا شذّت قطرة دم واحدة في جسم الإنسان أو أحد الأحياء الاخرى عن قانون الجاذبيّة العامّ فإنّ ردّ الفعل الناتج عن ذلك يدمّر كحدّ أدنى عالم الشمس التي نعرف بأنّها لا تشذّ عن القانون المذكور.
و إذا كان هذا القانون سائداً في العالم كلّه بالشكل الموجود في عالم
الشمس فسيُدمَّر العالم (و تدلّ الاكتشافات التي جرت في الربع الأخير من القرن الحالي أنّ هذا القانون سائد في نقاط اخرى من العالم أيضاً).
و يقول الفيزيائيّ المذكور: لو شذّت ذرّة واحدة في عالم الشمس عن قانون الجاذبيّة العامّ فسيُدمّر عالم الشمس، و يؤدّي إلى موتنا نحن المعدودين من كائنات هذا العالم.۱
حول ساعات السعد و النحس
سؤال المُفَضَّل بن عَمْرُو٢ حول ساعات السعد و النحس
كان المفضّل بن عمرو أحد تلاميذ جعفر الصادق، و خلّف آثاراً من دروس أستاذه.
سأله ذات يوم قائلًا: هل تصحّ ساعات السَّعد و النحس التي يعيّنها المنجّمون و أصحاب الطوالع؟!
قال جعفر الصادق: كلّ ما كان من السِّحر باطل، و الله نهى عن السِّحر.
قال المفضّل بن عمرو: المنجّمون هم الذين يعيّنون ساعات السعد و النحس و هم ليسوا سَحَرَة.
قال جعفر الصادق: ما كان من علم النجوم معيِّن لساعات السعد و النحس فهو سِحر، و هو باطل كسائر أقسام السِّحر، و الله نهى عن كلّ نوع منه.
قال المفضّل بن عمرو: فجميع الذين كانوا يعتقدون بساعات السعد
و النحس هم على باطل.
قال جعفر الصادق: بلى يا مفضّل، و لكن في حياة الإنسان ساعات مساعدة و غير مساعدة.
قال المفضّل بن عمرو: لو كان الأمر كذلك فما ذا تختلف عن ساعات السعد و النحس التي يعيّنها المنجّمون؟!
أجاب جعفر الصادق: ساعات السعد و النحس التي يعيّنها المنجّمون تقوم على قواعد السِّحر. أمّا الساعات المساعدة و غير المساعدة الموجودة في الإنسان فهي مرتبطة بمزاج الإنسان و لا علاقة لها بالسِّحر.
يظهر الوضع المساعد أو غير المساعد عند كلّ أحد مرّةً في عدد من الأيّام، و اخرى في يوم واحد. و سببه هو أنّ الأخلاط ليست على حالة واحدة في وجود الإنسان دائماً، و تختلف في ساعات الليل و النهار، و تقوم بعض الأعضاء الباطنيّة في الجسم بأعمال لا تتشابه في الليل و النهار. و كانوا يعرفون هذا الموضوع في الأزمنة القديمة، و أحد الذين وقفوا عليه هو بُقراط الطبيب، و هو القائل إن الكبد يقوم بعدد من الأعمال في البدن، لكنّه لا يقوم بها في لحظة واحدة، بل يجعل لكلّ واحد منها موعداً. و هذا الترتيب الذي يضعه الكبد للأعمال قد يؤثّر في وضعنا المزاجيّ أيّاماً و قد يؤثّر نهاراً و ليلة.
اذكّرك بشيءٍ لُابيّن لك كيف تكون ساعات السعد و النحس في وجودنا لا بالشكل الذي يذكره السَّحَرَة، فأقول قد تختلف غلظة دمنا في اليوم حتى الخُمس أو حتى الربع أحياناً. فعند ما نستيقظ من النوم فجراً للصلاة فإنّ غلظة الدم تكون أقلّ ممّا هي عليه في الزمان الذي ننام فيه بعد الأعمال اليوميّة بخُمس أو حتى بربع.
هذا الموضوع يؤثّر في حالنا و قد يُخملنا و قد يجعل نشاطنا قليلًا.
و من ثمّ فقد ننشط في يوم واحد عند ما تكون غلظة الدم قليلة، و قد نخمل حين تكون كثيرة.
المصابون بالربو إذا استعملوا دواءهم منتصف الليل فأثره أكثر ممّا لو استعملوه في النهار، إذ تتولّد عندهم حالة في الليل تضاعف أثر الدواء. فمنتصف الليل ساعة سعد لهؤلاء في استعمال الدواء، لأنّه يساعد في إزالة الانزعاج الناتج من الربو. و مع أنّ الربو لا يُعالَج باستعمال الدواء منتصف الليل، بَيدَ أنّ الانزعاج يزول آنئذٍ فيستطيع المصاب أن ينام.
بعض الأطعمة التي نتناولها سعدٌ لنا و بعضها نحسٌ. فالأطعمة التي لا تثقلنا، و لا تحول دون قيامنا بأعمالنا، و نشعر بالقوّة و الخفّة و النشاط إذا تناولناها يمكن أن نعبِّر عنها أنّها سعد.
أمّا الأطعمة التي تثقلنا فلا نستطيع القيام بأعمالنا من جرّائها فهي نحسٌ إذ تولّد فينا آثاراً سلبيّة.
هذا هو السعد و النحس في حياتنا يا مفضّل، و لا وجود للسعد و النحس خارج المسائل المتعلّقة بمزاجنا.۱
أجل، هذه المطالب المذكورة نزر يسير من الكتاب الضخم ذي القطع الوزيريّ، البالغ عدد صفحاته (٦٢۱) صفحة.
و أشعر هنا أنّي أضنّ على القرّاء إذا لم اتحفهم بذكر مقدار موجز آخر من هذا الكنز الذي راق استاذنا العلّامة. و هو نُخبة من بعض محتويات الكتاب التي لا تتعلّق بجابر بن حيّان و المفضّل بن عمر. و تمثّل هذه النخبة عددين خاصّين من كرّاسات (دائرة انتشارات درود، دفتر مذهبي سيمان و فارسيت) (= مركز «دُرُود» للنشر، مكتب «سيمان
و فارسيت» الدينيّ). و هاتان الكرّاستان هما اللتان و افتاني بريديّاً.
دين محمّد صلّى الله عليه و آله هو المنقذ للبشريّة
الكرّاسة الاولى و عددها (٢٢) تحمل عنوان «حقائق علميّة في الإسلام». و ننقلها فيما يأتي نصّاً لإيجازها و انتخابها، و نورد في الهامش المواضع المذكورة مطابقةً لأصل الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
كلّما تقدّم العلم البشريّ و خطا العلماء خطوات جديدة في اكتشاف أسرار الكون، بانت قيمة التعاليم الإسلاميّة و عظمة قادتها أكثر فأكثر.
إن القوانين التي وضعها خالق الإنسان و العالَم و بارئ الموجودات و العالِم بأسرار الخلقة و رموزها تنسجم مع الفطرة، و لن تبلى و تفقد شأنها و اعتبارها أبداً.
الباحثون الواعون المنصفون الذين حصلوا على دراسة التعاليم الإسلاميّة أكبروا الدين و عبّروا عن احترامهم له و الثناء عليه بكلّ تواضع.
و اعتنق فريق منهم هذا الدين المقدّس و ألزموا أنفسهم باتّباعه حتى آخر أعمارهم.۱ و ذهب فريق آخر - بنظرته المنفتحة - إلى أنّ الإسلام دين العالم في المستقبل.
يقول الكاتب الإنجليزي الشهير برنارد شو(Bernard shaw) :
I have always held the rieligon on of mohammad in the highest esteem because of its wonderful vitality it is the only religion which appears to me possess assimilating… .
و تعريبه: أنا أحترم دين محمّد غاية الاحترام دائماً لحيويّته العجيبة.
و هو الدين الوحيد الذي يبدو لي أنّه يستوعب شتّى الظروف الحياتيّة المتغيّرة ... .
هكذا أتوقّع و قد ظهرت آثاره منذ الآن، إذ ستقبل اوروبا دين محمّد في المستقبل. و كان رجال الدين في القرون الوسطى يقدّمون صورة مظلمة لدين محمّد نتيجة لجهلهم أو تعصّبهم. و كانوا يرونه ضدّ المسيح من منطلق حقدهم و تعصّبهم. و لقد طالعتُ حول هذا الرجل المتفوّق و توصّلتُ إلى أنّه لم يكن ضدّ المسيح، بل ينبغي أن يُسمّى منقذ البشريّة.
و أحسب لو أنّ رجلًا مثله يقود العالم اليوم فسينجح في علاج مشاكله بنحوٍ يضمن فيه السلام و السعادة التي يتوق إليها جميع الناس.۱
إن الآثار التي تركها الأئمّة الطاهرون عليهم السلام و علماء الإسلام الكبار قد أدهشت الباحثين و الدارسين.
نحن الذين نعتقد بأنّ قادة الإسلام هم صفوة الله و علومهم منبثقة من العلم الإلهيّ لا نعجب حين نقرأ النبوءات العلميّة لهؤلاء العلماء، بَيدَ أنّ الباحثين غير المسلمين الذين يريدون تحليل الأشياء من منظار العلوم البشريّة المادّيّة يُصابون بالدهشة و الحيرة حتى أنّهم لا يستطيعون كتمان دهشتهم و حيرتهم.
قامت مجلّة «خواندنيها» قبل مدّة بترجمة كتابٍ بعنوان «مغز متفكّر جهان شيعه» و نشره. و الكتاب المذكور ألّفه لفيف من العلماء و الباحثين المسيحيّين (مركز الدراسات الإسلاميّة في استراسبورغ).٢ و يتناول
الكتاب المذكور حياة الإمام السادس جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام و علومه بالدراسة و التحليل. و قد طبّق مؤلّفوه الذين يتخصّص كلّ واحد منهم في فرع من الفروع العلميّة كلمات الإمام مع العلوم و الاكتشافات الحديثة، و كلّهم حائرون مندهشون و لسان حالهم: من أيّ مصدر أخذ الإمام الصادق عليه السلام؟ و ننقل فيما يأتي أقساماً من الكتاب المذكور كنماذج:
تدريس علم الطبّ
لدينا روايتان: إيجابيّة و سلبيّة حول تدريس علم الطبّ بين يدي محمّد الباقر عليه السلام. و يقول البعض إن الطبّ كان يُدرَّس هناك، في حين أنكر البعض الآخر ذلك. و لكن لا شكّ في أنّ جعفراً الصادق حين شرع بالتدريس فإنّه كان يدرّس علم الطبّ، و قد تركت آراؤه العلميّة في هذا المجال بصماتها على العلم المذكور. و كان الأطبّاء في القرنين الثاني و الثالث الهجريَين يستفيدون من آرائه الطبّيّة.۱
قلنا: إنّنا لا نعلم هل كان محمّد الباقر عليه السلام يدرّس الطبّ أو لا؟ و هل تعلّم ابنه ذلك العلم عليه أو لا؟ و لكن لا نشكّ أنّ جعفراً الصادق نفسه كان يدرّس علم الطبّ، و قد أتى فيه بأشياء لم يأت بها الأطبّاء في الشرق من قبله. و لا نريد من الشرق شبه الجزيرة العربيّة لخلوّها من علم الطبّ، و إنّما وصل إليها الطبّ من مناطق اخرى بعد الإسلام. و إذا سلّمنا أنّ الصادق عليه السلام تعلّم الطبّ من أبيه، فذلك يستلزم أخذ الأب علم الطبّ من مكان معيّن، و لا ندري من أين أخذه.٢
و نحن نعلم أنّ جعفراً الصادق عليه السلام لم يزاول الطبّ فيستنبط تلك القواعد في سياق عمله. و لذا يبدو أنّه تعلّم تلك القواعد من أحدٍ. و إذا ما تعلّمها من أبيه، فمن أين تعلّمها الأب نفسه؟۱
التراب و الهواء ليسا عنصراً واحداً
كان جعفر الصادق ذات يوم في درس أبيه الاستاذ - أي: الإمام محمّد الباقر عليه السلام - فدار الحديث حول رأي أرسطو٢ في أصل الكون، و أنّه يتألّف من عناصر أربعة هي التراب، و الماء، و الهواء، و النار، فانتقد هذا الرأي و قال: أستغرب أنّ رجلًا مثل أرسطو لم ينتبه إلى أنّ العناصر الأربعة و منها التراب ليست عناصر بسيطة غير قابلة للتجزئة، و قال: إن التراب مركّب من أجزاء و عناصر كثيرة، و كلّ فلزّ من الفلزّات الموجودة في التراب عنصر مستقلّ.
و كان الاعتقاد بوجود عناصر أربعة سائداً من عصر أرسطو و إلى أيّام الإمام جعفر صادق عليه السلام، أي ما يقرب من ألف سنة. و الناس تذهب إلى ما ذهب إليه فلاسفة اليونان حول أصل الكون، و كانت العناصر الأربعة تعتبر ركناً هامّاً في علم الأشياء، و لم يشكّك أحد في صحّة هذه النظريّة طوال هذه الفترة الممتدّة.
و بعد ألف سنة قال فتىً لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره: إن التراب ليس عنصراً بسيطاً، بل هو مركّب من عناصر كثيرة.
و هذا الفتى نفسه بعد أن بدأ في التدريس خطّأ عنصراً آخر من حيث البساطة، و قال: الهواء ليس عنصراً بسيطاً، بل هو مركّب من عدّة عناصر.
و قد سبق جعفر الصادق عليه السلام علماء القرن الثامن عشر الميلاديّ في اوروبّا، الذين اكتشفوا أجزاء الهواء و حلّلوه، بألف و مائة سنة فقال: الهواء ليس عنصراً بسيطاً، بل هو مركّب من عناصر شتّى.
إذا كان الجميع قد سلّموا بعد التفكّر و التعقّل أنّ التراب ليس عنصراً بسيطاً، بل عناصر عدّة، فلم يشكّ أحد في أنّ الهواء عنصر بسيط واحد.
لم يعلم أبرز علماء الفيزياء في العالم بعد أرسطو أنّ الهواء ليس عنصراً بسيطاً حتى في القرن الثامن عشر الميلاديّ الذي كان من قرون العلم الزاهرة إلى عصر لافوازييه۱ الفرنسيّ. و كان عدد من العلماء يرى أنّ الهواء عنصر بسيط، و لم يحسب أنّه مركّب من عدّة عناصر. بعد أن استخرج لافوازييه الاوكسجين و فصله عن سائر الغازات و برهن على أثره الحيويّ الفعّال في التنفّس و في حياة الإنسان و عمليّات الاحتراق، سلّم جمهور العلماء أنّ الهواء ليس بسيطاً، بل هو مركّب من عدّة غازات. و في يوم من أيّام سنة ۱۷٩٤ م فُصل رأس لافوازييه عن بدنه بالمقصلة.٢ و انتهت حياة أبي الكيمياء الحديثة، الذي لو قد مُدّ في عمره لحقّق إنجازات اخرى.
فلا بدّ إذن من الاعتراف بأنّ جعفراً الصادق، بذهابه إلى أنّ الهواء مركّب من عناصر مختلفة، قد سبق العلماء بألف و مائة سنة.
و يذهب الشيعة إلى أنّه استنبط هذه الحقيقة العلميّة و غيرها من الحقائق بالعلم اللدُنّيّ، أي: علم الإمامة.۱
يظهر هذا الموضوع لنا عاديّاً اليوم، إذ نعلم أنّ في الكون مائة و عنصرين، أمّا في القرن السابع الميلادي و الأوّل الهجريّ فقد كانت نظريّة ثوريّة كبيرة. و لم تسلّم العقول البشريّة يومئذٍ بأنّ الهواء عنصر مركّب، و نقول مرّة اخرى إنّه لم يسع اوروبّا في ذلك العصر و الأعصار اللاحقة بعده حتى القرن الثامن عشر الميلاديّ أن تستوعب ذلك الرأي العلميّ الثوريّ و أشياء اخرى نطق بها جعفر الصادق عليه السلام و سنذكرها في الفصول القادمة ...٢.
رأي الإمام الصادق عليه السلام في احتراق الاوكسجين
الاوكسجين
قال في درسه: الهواء مركّب من عدّة أجزاء، و ينفذ أحد أجزائه في بعض الأجسام و يغيّرها، و هو الذي يساعد على الاحتراق، و لو لا مساعدته لا تحترق الأجسام القابلة للاحتراق.
و جعفر الصادق عليه السلام هو الذي وسّع هذه النظريّة، و هو القائل في دروسه أيضاً: إن الذي يساعد على احتراق الأجسام لو فُصل عن الهواء و تحصَّل بشكل خالص لكان من فعله النفاذ في الأجسام و تذويب الحديد.
إذن، فقد سبق جعفر الصادق عليه السلام بريستلي٣ و لافوازييه بألف سنة في اكتشاف الاوكسجين، و إن كان لم يطلق عليه اسم الاوكسجين أو مُوَلِّد الحموضة.
و مع أنّ بريستلي قد اكتشف الاوكسجين لكنّه لم يمكنه أن يتوصّل إلى أنّه يُذيب الحديد. و مع أنّ لافوازييه قد استنبط أقساماً من خواصّ الاوكسجين بالتجربة بَيدَ أنّه لم يوفّق إلى تجربة ذوبان الحديد بفعل الاوكسجين. أمّا جعفر الصادق عليه السلام فقد أدرك هذا الموضوع قبله بألف سنة. و نحن نعرف اليوم أنّه متى حُمّي الحديد بالنار إلى درجة الاحمرار، ثمّ وُضع في اوكسجين خالص، اشتعل و انبعث منه شعلة مضيئة شبيهة بالفتيل الذي كان يغمس في الزيت في المصابيح القديمة. و يتسنّى صناعة مصباح فتيله من حديد و يغمس في اوكسجين سائل، و إذا اشتعل الفتيل إلى درجة الاحمرار فإنّه يضيء الليل بنور متلألئ جدّاً.
و قد جاء في رواية أنّ الإمام محمّداً الباقر عليه السلام قال في درسه: إن الماء الذي يطفئ النار يستطيع أن يوقدها بفضل العلم. فحسب البعض أنّ هذا القول ملقى على عواهنه، أو أنّه من قبيل الفكاهة أو خيالات الشعراء، و لكن الذي تحقّق فعلًا منذ القرن الثامن عشر أنّ الماء يزيد النار اشتعالًا، و يولّد قوّة محرقة أشدّ بكثير من نار الحطب، لأنّ لغاز الهيدروجين، و هو أحد العنصرين الهامّين في تركيب الماء، قوّة إحراق إذا اضيفت إلى قوّة الاوكسجين بلغت درجة حرارتهما ٦٦٦٤ درجة. و يطلق على هذه العمليّة اسم العمليّة الاوكسجينيّة الهيدروجينيّة، و هي تستخدم في لحام الحديد و الفولاذ، أو في تقطيع الفولاذ و تثقيبه.۱
في مسألة دوران الأرض حول نفسها
كان هنري بوانكاره٢ الذي توفّي سنة ۱٩۱٢ م عن عمر ناهز السابعة
و الخمسين يُعدّ ألمع عالم في الرياضيّات في عصره. و يدلّ تأريخ وفاته على أنّه أدرك بداية القرن العشرين.
مع هذا كان يقول: إنّني غير متأكّد من أنّ الأرض تدور حول نفسها. فإن صحّ بأنّ عالماً كهنري بوانكاره شكّك في مطلع القرن العشرين بدوران الأرض حول نفسها، فمن اليسير علينا أن ندرك ما ذا كان الناس يتصوّرون أو يقولون بشأن هذه النظريّة في النصف الأوّل من القرن الثاني الهجريّ.
و دوران الأرض حول نفسها لم يثبت عمليّاً إلّا بعد ما وضع الإنسان قدميه على سطح القمر، و شاهد الكرة الأرضيّة من هناك.
و في السنين الاولى من غزو الفضاء لم يستطع روّاد الفضاء أن يروا دوران الأرض حول نفسها، إذ لم تكن لهم قاعدة ثابتة يومذاك، و كانوا في مراكب فضائيّة تنطلق بسرعة فائقة و تدور حول الأرض مرّة في كلّ تسعين دقيقة أو أكثر، و لم تثبت أقدامهم في نقطة ما ليشاهدوا منها حركة الأرض. و لكنّهم عند ما استقرّوا على سطح القمر و وجّهوا أجهزة تصويرهم إلى الأرض شاهدوا عندئذٍ دوران الأرض حول نفسها ببطء، فثبت دورانها عمليّاً آنذاك ... .
صحيح أنّ غاليليو۱ كان يدرك جيّداً أنّ الكرة الأرضيّة تدور حول الشمس كغيرها من كواكب المنظومة الشمسيّة، و لا يستبعد أبداً أن يكون قد انتهى إلى أنّ الأرض تدور حول نفسها. و لكنّنا لا نجد في مؤلّفاته أثراً لهذا الكشف ... و لم يتحدّث في حياته عن دوران الأرض حول نفسها، كما لم يُلْحَظ في كتاباته شيء يدلّ على أنّه كان قد عرف ذلك.
و في القرن السادس عشر الميلاديّ كان عالم فلكيّ آخر يعيش في الدانمارك و هو «تيخو براهة» أو «تيكو براهة»، يعتقد بدوران الأرض حول الشمس. و كان ينتمي إلى طبقة الأشراف المترفة في بلاده على النقيض من «كوبرنيكوس»۱ البولونيّ الذي كان رقيق الحال لا يجد ما يسدّ به جوعه، في حين كان يتظاهر بالترف و يقيم في قصره المآدب الفخمة.
و قد مهّدت أبحاث تيخو براهة - الذي توفّي سنة ۱٦۰۱ م - في علم الفلك طريق الكشف أمام العالم الألمانيّ كبلر،٢ فوضع هذا الأخير بفضله قوانينه الفلكيّة الثلاثة المشهورة الخاصّة بحركة السيّارات - و منها الكرة الأرضيّة - حول الشمس.
و لكن تيخو براهة لم يهتد بدوره إلى أنّ الأرض تدور حول نفسها. و لو اهتدى إلى هذه النتيجة لبادر إلى إعلانها، كما كان يدعم حركة الأرض حول الشمس علناً.
و ظلّت القوانين الثلاثة التي وضعها كبلر - المتوفّى سنة ۱٦٣۰ - عن حركة السيّارات تظفر بإعجاب الأوساط العلميّة في ذلك الوقت إلى يومنا هذا. و ذلك العالم الكبير الذي أثبت للعالم نبوغه العلميّ باكتشافه القوانين الثلاثة لم يهتد إلى حركة الأرض.
و لكنّ جعفراً الصادق عليه السلام اكتشف هذه الحقيقة العلميّة قبله باثني عشر قرناً، و قال: إن الأرض تدور حول نفسها، و إنّ تعاقب الليل و النهار ليس سببه حركة الشمس حول الأرض (و كان يرى ذلك مستحيلًا عقلًا) و إن الليل و النهار ناشئان عن حركة الأرض حول نفسها، فيصبح
نصف الكرة الأرضيّة في نهار مشرق، و نصفها الآخر في ليل مظلم.
و القدماء الذين كانوا يعتقدون بكرويّة الأرض يعرفون أنّ نصف الكرة الأرضيّة ليل و نصفها الآخر نهار، بَيدَ أنّهم كانوا يرون أنّ الليل و النهار ناشئان عن حركة الشمس حول الكرة الأرضيّة.
فما الذي جعل الإمام جعفراً الصادق عليه السلام يكتشف أنّ الأرض تدور حول نفسها فيتعاقب الليل و النهار بسبب ذلك؟
في حين أنّ علماء القرنين الخامس عشر و السادس عشر الميلاديينِ الذين ذُكرت أسماء بعضهم قد اهتدوا إلى قسم من القوانين الميكانيكيّة للنجوم دون أن يتوصّلوا إلى حقيقة دوران الأرض حول نفسها. بينما كان الإمام الصادق عليه السلام يعيش في منطقة - المدينة - بعيدة كلّ البعد عن عواصم العلوم، فكيف اكتشف هذه الحقيقة؟۱
نشأة الكون
قال جعفر الصادق بشأن نشأة الكون:
نشأ الكون من جرثومة، و هذه الجرثومة أصبحت قطبين متضادّين، و هذان القطبان المتضادّان سبّبا نشوء الذرّة، ثمّ نشأت المادّة، و تنوّعت، و تنوّعها ناشئ من قلّة ذرّاتها أو زيادتها.
و لا تختلف هذه النظريّة عن النظريّة العصريّة الخاصّة بالذرّة و أصل الكون. و قد أشار الإمام إلى وجود قطبين متضادّين، و هو ما يماثل القوّتَين الإيجابيّة و السلبيّة داخل الذرّة، و منهما تتألّف الذرّة نفسها، و تتولّد المادّة
من الذرّة، و التفاوت الملحوظ بين الموادّ (أي: العناصر) ناشئ من قلّة أو كثرة الأشياء التي يمثّل داخل الذرّة فيها العناصر الموجودة ... .
ترى الشيعة أنّ اهتداء الإمام إلى أسرار الكون و النجوم و علوم الفيزياء و الرياضيّات و ما إليها إنّما هو من خصائص الإمامة، أي: من مقتضيات العلم اللدنّيّ ... و قد شرعنا القول في علم الإمام الصادق عليه السلام بالجغرافية و علم الهيئة و النجوم و الفيزياء في مبحث نشأة الكون، و ها نحن نواصل كلامنا في علم الإمام بالفيزياء، و سنصل بعده إلى مباحث اخرى، و نقول: تعرّض جعفر الصادق في مباحث الفيزياء لمسائل لم يتعرّض لها أحد، لا قبله و لا بعده إلى منتصف القرن الثامن عشر و إلى القرنين التاسع عشر و العشرين.۱
كلام الإمام عليه السلام حول العناصر التي يتركّب منها جسم الإنسان
كان من رأي الإمام الصادق عليه السلام كغيره من المسلمين أنّ الإنسان خُلق من تراب، و لكن التوضيح الذي أتى به لم يقل به غيره من المسلمين لا قبله و لا بعده في العصور المتعاقبة. و لم يقم أحد بشرح أفكار الإمام الصادق عليه السلام بشأن الكيان البشريّ. فإن وجدنا شرحاً في العصور التالية للإمام فهو من صنع تلاميذه أو روّاد مدرسته.
يقول الإمام الصادق: إنّ جسم الإنسان يتألّف من نفس العناصر الموجودة في الأرض، و لكن بنسب متفاوتة، فهناك عناصر توجد في جسم الإنسان بنسبة أكبر من نسبة وجودها في الأرض، و هناك عناصر
اخرى توجد بنسبة أقلّ منها. كما كان يقول: إن هناك أربعة أشياء توجد في جسم الإنسان بصورة أكبر من سواها، كما أنّ هناك ثمانية أشياء تأتي في مرحلة ثانية، و ثمانية أشياء هي أقلّ ممّا في القسمين الأوّلين.
و لا ريب في أنّ هذه النظريّة غريبة و بعيدة عن فهم الإنسان، و أنّ المرء ليتساءل تلقاءها: هل كان للإمام الصادق علم باطنيّ (غيبيّ) كما تقول الشيعة؟ و هل استنبط هذه النظريّة بعلم الإمام دون العلم البشريّ؟
و في رأينا أنّ من العسير التوصّل إلى مثل هذه الحقائق العلميّة دون مختبرات علميّة عصريّة، و لكن هذا هو ما تناهى إلى علم الصادق قبل اثني عشر قرناً و نصف القرن ... .
إن جعفراً الصادق سواء كان له علم الإمامة باعتقاد الشيعة، أم انتفع بشعوره الباطنيّ حسب نظريّة القائلين بالشعور الباطنيّ غير المحدود، أم كان يتمتّع باندفاعة قويّة للحياة كما يراه برجسون،۱ قال شيئاً حول تركيب جسم الإنسان أثبت أنّه لا نظير له في علم التشريح بين معاصريه و من جاء بعدهم في العصور اللاحقة.
إذ برهن التمحيص العلميّ الدقيق لنظريّة الإمام الصادق عليه السلام بعد اثني عشر قرناً و نصف قرن على أنّها نظريّة صحيحة، حتى و إن كان الإمام لم يعط أسماء معيّنة لأجزاء الجسم و الموادّ التي يحتويها.
و قد قال الصادق: إن العناصر الموجودة في الأرض، و عددها مائة و اثنان، موجودة في جسم الإنسان بدرجات متفاوتة. و إن بعضها يذهب من القلّة مذهباً يحول دون تعيين مقداره و حجمه بالدقّة المطلوبة ... كما
قلنا: ثبتت هذه النظريّة اليوم.
إن العناصر الثمانية التي توجد في جسم الإنسان بمقدار ضئيل هي: الموليبدنوم - السلنيوم - الفلور - الكوبلت - المنغنيز - اليود - النحاس - الرصاص.
و أمّا العناصر الثمانية التي توجد في جسم الإنسان بكمّيّة أكبر قليلًا فهي: المنغيسيوم - الصوديوم - البوتاسيوم - الكالسيوم - الفوسفور - الكلور - الكبريت - الحديد.
أمّا العناصر الأربعة التي توجد في جسم الإنسان بوفرة، فهي: الاوكسجين - الكربون - الهيدروجين - الأزوت (النتروجين).
لم يتسنّ للعلماء الاهتداء إلى هذه العناصر في جسم الإنسان في غضون يوم أو يومين. فقد بدأ هذا العمل بعمليّات تشريح دقيقة منذ بداية القرن الثامن عشر الميلاديّ، و كان لفرنسا و النمسا دور رياديّ في اوروبّا في علم التشريح.
لم يزاوَل علم التشريح في البلدان الاخرى إلّا نادراً. و لم يكن له وجود في الأقطار الشرقيّة، و في البلدان الاوروبّيّة كانت الكنائس الأرثوذكسيّة و الكاثوليكيّة و البروتستانتيّة تخالف التشريح. أمّا في النمسا و فرنسا فقد كانت عمليّات التشريح تجري خفية خوفاً من معارضة الكنيسة.
مع هذا، لم يتّسع نطاق التشريح في فرنسا حتى عهد الطبيب الفرنسيّ (مارا)، و كان يجري بخفاء تقريباً. و قام مارا بالاشتراك مع عدد من العلماء الفرنسيّين و منهم لافوازييه الشهير - الذي قطع رأسه بالمقصلة سنة ۱۸٩٤ م - بتحليل الأنسجة و الخلايا في جسم الإنسان للوقوف على أسرارها و مكوّناتها.
و بعد وفاة مارا، استمرّت التجارب و التحاليل على جسم الإنسان يُجريها تلامذته و المتأثّرون به، و ظلّت هذه التجارب تجري طوال القرن التاسع عشر و إلى مطلع القرن العشرين.
كان التشريح في بداية القرن الثامن عشر الميلاديّ مقتصراً على فرنسا و النمسا، ثمّ راج في سائر البلدان الاوروبّيّة، و بلدان القارّات الاخرى. و أصبح اليوم متداولًا في كلّ مكان من العالم إلّا بعض البلدان التي ليس فيها كلّيّة الطبّ و الجراحة.
أينما كان التشريح فإنّ التحقيق يجري حول العناصر التي يتألّف منها جسم الإنسان. و قد تختلف نتيجة التحقيق في الجزئيّات بين مركزين، أمّا في الأرقام الكبرى فلا اختلاف بينهما، و التناسب الذي ذكره جعفر الصادق محفوظ بشأن جميع الأشخاص السالمين في كافّة الأقطار.۱
الاوكسجين و الهيدروجين في الماء
لم يتمثّل إعجاز جعفر الصادق في تحريك الجبل، بل يتمثّل في كشفه وجود الاوكسجين في الهواء قبل اثني عشر قرناً و نصف القرن، و كذلك اهتدى آنذاك إلى أنّ في الماء شيئاً يحترق. من هنا ذكر أنّ الماء يتبدّل ناراً.
الذين يقولون: أبرز إعجاز لأحد الأنبياء كلامه، ينطقون بكلامٍ له أساسه القويّ كما يبدو ... إذ إنّنا عند ما نسمع أنّ جعفراً الصادق اهتدى في النصف الأوّل من القرن الثاني الهجريّ إلى وجود الاوكسجين
و الهيدروجين معاً (في الماء) نصدّق في قلوبنا أنّه إعجاز ... .
يذهل الإنسان في كيفيّة اهتداء جعفر الصادق أو أبوه (محمّد الباقر) إلى وجود غاز الهيدروجين الذي لا وجود لخالصه في الطبيعة، و ليس له لون و رائحة و طعم؟!
جعفر الصادق أو أبوه لم يستطع أن يهتدي إلى وجود الهيدروجين إلّا في الماء، و لم يتسنّ له أن يعرف ذلك بلا تحليلٍ للماء.
إن تحليل الماء يستلزم استخدام التيّار الكهربائيّ، إذ لم يتيسّر تحليل الماء بشكل آخر. و هل استطاع أحد الاثنين أن يستخدم التيّار الكهربائيّ لتحليل الماء؟! و هو ما لا يقع موقع القبول.
إن أوّل من نجح في فصل الهيدروجين عن الماء في الأعصار الجديدة هو هنري كفنديش الإنجليزيّ الذي توفّي سنة ۱۸۱۰ م عن إحدى و ثمانين سنةً.
لقد جهد هذا العالم عدد سنين لتحليل الماء، و حصل بعد ذلك على الهيدروجين الذي سمّاه الهواء القابل للاحتراق، و كاد يحترق هو و بيته في أوّل مرّة أو قد فيها الهيدروجين ... .
تمّ اكتشاف غاز الهيدروجين في وقت كان استخدام الطاقة الكهربائيّة قد تقدّم فيه بنحو تيسّر فيه تحليل الماء باستخدامها.
أمّا في عصر الإمام الصادق فقد كان استخدام الطاقة الكهربائيّة في حدود استعمال القشّ و الكهرباء للهو و اللعب، و كانوا يدلكون قطعة من الكهرباء بقماش صوفيّ و يقرّبونها من القشّ فتجذب الكهرباءُ القشَّ.
هل اهتدي جعفر الصادق أو أبوه محمّد الباقر إلى وسيلة لفصل الهيدروجين عن الماء، لم يطّلع عليها العلماء بعد؟ و هل استطاعا أن يفصلاه عن الماء بوسيلة غير التيّار الكهربائيّ؟
لم تُعرف وسيلة لفصل الهيدروجين عن الماء غير التيّار الكهربائيّ منذ اليوم الذي نجح فيه كفنديش لأوّل مرّة في الحصول على الهيدروجين حتى يومنا هذا، و لم يستطع العلماء لحدّ الآن أن يفصلوه عن الماء إلّا بهذه الوسيلة.۱
تلوّث البيئة
لم يعرف عصر جعفر الصادق عليه السلام من الصناعات إلّا ما كان يدويّاً تقليديّاً، و لم تكن الصناعة الحديثة قد عرفت في ذلك الحين. و كانت عمليّة صهر الحديد و الفولاذ تتمّ داخل أوان كرويّة صغيرة على نار الحطب، و هذا لا يخلق مشكلة خاصّة بتلوّث البيئة.
و حتى لو استخدمت في صهر الحديد و الفولاذ كمّيّات من الفحم الحجريّ بدلًا من الحطب، فإنّ حجم هذه العمليّة لم تكن بالقدر الذي يؤثّر في تلوّث البيئة. و عند ما شرعت ألمانيا الغربيّة و فرنسا و بريطانيا في إنتاج الحديد و الفولاذ في مطلع القرن الثامن عشر الميلاديّ، ثمّ تلتها دول اوروبّيّة اخرى، لم تكن هناك شكوى من تلوّث البيئة بفعل هذه المصانع التي كانت تستخدم الفحم الحجريّ في صهر المعادن، و التي كان دخانها يتصاعد من المداخن طوال السنة دون توقّف.
فإذا كانت هذه الدول لم تشكُ من التلوّث، ولديها صناعة ضخمة للحديد و الفولاذ و قودها الفحم الحجريّ، فكيف و عصر الصادق عليه السلام الذي لم يعرف هذه المصانع الضخمة أصلًا و لم يعرف حتى الفحم الحجريّ؟
مع هذا قال جعفر الصادق، و كأنّه يرى العالم اليوم: «إن على الإنسان ألّا يلوّث ما حوله» لكي لا يجعل الحياة شاقّة له و لغيره.
و لم يُعن العالم بموضوع تلوّث البيئة إلّا من نحو ثلاثين سنة عند ما القيت القنبلة الذرّيّة على اليابان و لوّث إشعاعها المنطقة المحيطة بمكان الإنفجار.
و لو اكتفوا بذلك الإنفجار لما تلوّثت البيئة، فقد واصلت البلدان الحائزة على السلاح النوويّ إجراء تجاربها على ذلك السلاح، و إلى جانب هذه التجارب تمّ تشغيل المصانع المولّدة للكهرباء بالطاقة الذرّيّة فازداد تلوّث الجوّ من النفايات السامّة.
و أدّت المصانع الضخمة في اوروبّا و أميركا دوراً كبيراً آخر في تلوّث مياه الأنهار و البيئة، لأنّها كانت تلقي بنفاياتها في الأنهار الجارية، مثل نهر (الرون) في اوروبّا الغربيّة، فقتلت الأسماك، و تعرّضت بحيرات المياه العذبة في أميركا الشماليّة لمصير مماثل. و أخطر من تلوّث الجوّ تلوّث المحيطات، لأنّ العوالق البحريّة (البلانكتون) التي تعيش فيها معرّضة للفناء لا سيّما و هي تعيش قريباً من اليابسة. و من فوائد هذه العوالق البحريّة أنّها تولّد حوالي ٩۰% من الاوكسجين المنتشر في الأرض، و إن فتك بها التلوّث هبطت نسبة الاوكسجين إلى ۱۰%، و هو ما لا يفي بحاجات التنفّس للإنسان و الحيوان و النبات، ممّا يهدّد الحياة نفسها، و ينذر بانقراض نسل الحيوان و النبات. و هذه النتيجة ليست مجرّد نظريّة تحتمل الصدق و الكذب، بل هي محاسبة علميّة. فبسبب تلوّث المحيطات يتناقص عدد العوالق البحريّة في كلّ سنة، و سينخفض عددها إلى النصف بعد خمسين سنة، مع ما يترتّب على ذلك من انخفاض الاوكسجين في الأرض بنسبة مماثلة.
و معنى هذا أنّ الطفل الذي يولد اليوم، و الذي تكتب له الحياة إلى أن يبلغ الخمسين من عمره سيتنفّس وقتذاك و كأنّه يتسلّق جبال الهملايا دون الاستعانة بجهاز اوكسجين.
و إذا استمرّ تلوّث مياه المحيطات فسيكون تنفّس الإنسان و الحيوان بعد خمسين سنة كتنفّس المصابين بالاختناق.
و إذا رغب امرؤ بعد خمسين سنة في إشعال عود ثقاب أو موقد الطهي، لوجد صعوبة في ذلك لعدم توفّر القدر الكافي من الاوكسجين في الهواء، هذه حقيقة و ليست خرافة ... .
وقوفاً على عدم الالتزام بوصيّة جعفر الصادق عليه السلام بألّا يلوّث الإنسان ما حوله، و كيف يفضي هذا إلى تورّط شعب غنيّ بالمشاكل الناجمة عنه، نضرب مثالًا باليابان و نقول:
ها نحن نرى اليابان متقدّمة في صناعات السيّارات، و الحاسوب الألكترونيّ، و الأقمشة المصنوعة من الألياف الصناعيّة (السليلوز)، و في صناعة السفن، و أجهزة المذياع و التلفاز، و أجهزة التصوير، و الدرّاجات الناريّة، و هلمّ جرّا، و لعلّها تحتلّ المنزلة الثانية بعد أميركا في هذه الصناعات.
إذا أردنا أن نعرف كيف استطاعت اليابان أن تصل إلى هذا المستوى الصناعيّ و التجاريّ خلال فترة قصيرة و هي التي بدأت من الصفر، خرجنا من نطاق بحثنا الذي يحوم حول تلوّث البيئة. و نقول بإيجاز: ثمّة عاملان أصليّان أوصلاها إلى هذا المستوى، و هما: الإدارة الجيّدة الكفوءة، و إخلاص العامل اليابانيّ في عمله.
بَيدَ أنّ هذا الشعب الغنيّ الفعّال لمّا لم ينتبه إلى أن يمسك عن تلوّث البيئة، فإنّه الآن لم يُمْنَ بإشكال كبير فحسب، بل عرّض نفسه للخطر،
فظهرت في اليابان أمراض لم يعهد تأريخ الطبّ مثلها بسبب تلوّث البيئة ... .۱
الآن أدرك الإنسان الأخطار الناجمة عن تلوّث البيئة، بخاصّة الأرض و الأنهار و البحار. أمّا أُولو الألباب الغابرون كجعفر الصادق عليه السلام فقد أدركوا ذلك قبل ألف و مائتي سنة فقالوا: إن على الإنسان أن يعيش بنحوٍ لا يلوّث فيه ما حوله.٢
إن ما تقدّم كان نموذجاً لآراء الباحثين في استراسبورغ حول أقسام من المعطيات العلميّة للإمام الصادق عليه السلام و قد نقلناها من مجلّة «خواندنيها» بَيدَ أنّ الباحثين المذكورين قد حصلوا على دراسة حياة إمامنا السادس فحسب فأصابهم الذهول، فكيف بهم إذا قاموا بدراسة حياة سائر الأئمّة عليهم السلام؟ إذ لو ألقوا نظرة عليها لألْفَوهُم مستودعاً للعلوم الإلهيّة كالصادق عليه السلام.
يتصدّر القرآن الكريم العلوم و الآثار الإسلاميّة. و هو زاخر بالمسائل العلميّة التي اهتدى العلماء المعاصرون إلى بعضها.
الجاذبيّة العامّة
يقولون: إن نيوتن٣ هو الذي اكتشف قوّة الجاذبيّة، و الذي مهّد لهذا الاكتشاف هو سقوط تفّاحة من شجرة كان جالساً تحتها فخمّن وجود
جاذبيّة دائميّة بين الأجسام. و أيّدت التجارب التي اجريت بعده صحّة هذه النظريّة. بَيدَ أنّا لو رجعنا إلى القرآن الكريم لوجدناه قد صرّح بوجود هذه القوّة في العالم قبل أربعة عشر قرناً. قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ... .۱
نصّت هذه الآية على أنّ الكرات السماويّة ثابتة بفضل أعمدة لا ترى، و هذه الأعمدة هي قوّة الجاذبيّة العامّة.
إن البحث في هذا المجال، و ذكر أدلّة اخرى يتطلّبان فرصة كبيرة. فعلى الراغبين مراجعة الكتب المفصّلة التي ألّفها العلماء في هذا المجال. علماً أنّنا سنتحدّث أيضاً عن هذه الامور في المستقبل بفضل الله تعالى - انتهى.٢
العلوم التجربيّة في كلمات المعصومين عليهم السلام
و ننقل فيما يأتي الكرّاسة الثانية المتمثّلة بالعدد ٢٣ من مجلّة «الحقائق العلميّة في الإسلام» على نفس النسق الذي نهجناه في العدد ٢٢ المارّ ذكره.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن المباحث الواردة في القرآن الكريم و سائر الآثار الإسلاميّة، التي هي بين أيدي العلماء، تشتمل على مسائل علميّة عميقة و قد ظفر الباحثون اولو البصائر ببعضها و أدركوها.
لم تستخدم الاصطلاحات المعاصرة المتداولة في تلك الآثار، بَيدَ أنّ
الباحثين على علمٍ بأنّ عدم استخدامها يعود إلى عدم استعداد الناس يومئذٍ. و قد عرض أئمّة الإسلام و قادته المطالب العلميّة العميقة بنحوٍ يفهمه مجتمعهم نوعاً ما.
ففي عصرٍ لم يُصنع فيه المِرقَب (التلسكوب)، و لم يُؤسَّس فيه المرصد، و لم يطّلع فيه أحد على الكون الفسيح. و في عصر لم تُكتَشف فيه الجراثيم، و لم يُعرَف فيه المجهر، و لم يطّلع فيه أحد على الكائنات الدقيقة المجرّدة. و في عصر لم يسخّر فيه العلماء الطاقة الكهربائيّة، و لم تُطرح فيه الاكتشافات المتعلّقة بها، تكون الأرضيّة غير مساعدة لإبراز الحقائق العلميّة، و لا سبيل إلى تفهيمها و تبيانها إلّا الإشارة أو استعمال العبارات و المصطلحات المتداولة آنذاك.
من هنا، جاءت المسائل العلميّة جميعها في آثار أئمّة أهل البيت عليهم السلام بمستوى تفهمه مجتمعاتهم و بألفاظٍ قابلة لإدراكهم.
نقلنا في البحث المتقدّم مقتطفات من كتاب «مغز متفكّر جهان شيعه» الذي يعرض قسماً من علوم الإمام السادس جعفر الصادق عليه السلام. و لمّا كان لهذه البحوث التي كتبها من الباحثين و العلماء المحايدين أثرها المطلوب على القرّاء، ننقل فيما يأتي أقساماً اخرى منها:
ذكرنا سابقاً أنّ مجلّة «خواندنيها» قامت بنشر الكتاب على شكل مقالات متسلسلة بعد أن ترجمه الأخ منصوري إلى الفارسيّة.
و هذا الكتاب أعدّه لفيف من العلماء و الباحثين المسيحيّين في مركز الدراسات الإسلاميّة في استراسبورغ، و كلّ منهم متخصّص في فرع من العلوم المختلفة.
تأسّس المركز المذكور في مدينة استراسبورغ مركز مقاطعة الألزاس الفرنسيّة على نهر الرون. و يزاول عمله في تحقيق و دراسة المسائل و الآثار
و العلوم الإسلاميّة،۱ و يستأثر هذا الكتاب بدراسة آثار الإمام جعفر الصادق عليه السلام.
النقطة التي ينبغي أن ننبّه عليها هي أنّنا لم نغيّر في عبارات الكتاب شيئاً مراعاةً للأمانة. و إذا ما ذُكر اسم الإمام السادس عليه السلام مجرّداً بلا تبجيل، فذلك يعود إلى اسلوب المؤلّفين المحترمين أنفسهم. و فيما يأتي أقساماً من الكتاب:
توصية الإمام الصادق بإرقاد الطفل في الجانب الأيسر من الامّ
من مظاهر عبقريّة جعفر الصادق توصيته للُامّهات بأن يرضعن أطفالهنّ و هم راقدون إلى الناحية اليُسرى منهنّ.
و ظلّت هذه التوصية طوال قرون ممتدّة كمزايدة لا لزوم له أو تدخّل فيما لا يعني و سبب ذلك أنّ أحداً لم يُدرك فائدتها. و لعلّ البعض كان يرى خطراً في تنفيذها و يخال أنّ الطفل الرضيع لو رقد إلى الجانب الأيسر من امّه فربّما تتحرّك الامّ عند نومها و تخنقه تحتها.
و عند ما سئل محمّد بن إدريس الشافعيّ - الذي وُلد بعد وفاة جعفر الصادق بعامين (أي: في سنة ۱٥۰ هـ) في مدينة غزّة، و توفّي في القاهرة في سنة ۱٩٩ هـ عن رضاعة الطفل، و هل الأسلم أن يرضع الطفل و هو راقد إلى الجانب الأيمن من امّه أو إلى جانبها الأيسر، ردّ قائلًا: لا فرق بين الأيمن و الأيسر، و للُامّ أن تُرضع طفلها كما تشاء و بالاسلوب الذي يشعره
بالراحة.
و رأى البعض أنّ كلام جعفر الصادق يغاير العقل السليم، و أنّه خالف ما جرت عليه الامّهات من وضع الطفل في الناحية اليُمنى عند إرضاعه، و أنّ من الأكرم للأمّ و للطفل أن يكون في ناحية الميمنة عند الرضاع.
و هكذا خفيت الحكمة من هذه النظريّة في الشرق و في الغرب، و لم يُقم أحد فيهما وزناً لها، حتى في عصر النهضة و التجديد حيث يهتمّ العلماء بكلّ موضوع علميّ من منظار نقديّ. و لم يقع أحد على الفوائد المرتجاة من تطبيقها عمليّاً عند الرضاعة.
و مرّت القرون السادس عشر و السابع عشر و الثامن عشر الميلاديّ، و هي قرون التجديد، ثمّ حان القرن التاسع عشر فانشئت جامعة كورنيل في ولاية نيويورك و بدأت عملها في النصف الثاني من ذلك القرن.
يُعزى الفضل في تأسيس هذه الجامعة إلى عزرا كورنيل الذي عانى في صغره عناءً شديداً من مشكلات الرضاعة و متاعبها. و من هنا اعتزم أن يُلحق بالجامعة مستشفى، و أن يُلحق بالمستشفى معهداً لدراسة مشكلات الرضاعة و الطفولة.
أنشأت جامعة كورنيل هذا المعهد في أوّل سنة دراسيّة. و التحق بكلّيّة الطبّ. و ها هو يواصل عمله في دراسة كلّ ما يتعلّق بالطفولة و الرضاعة منذ ما يربو على قرن من الزمان.
و قلّ أن تجد موضوعاً يتعلّق بالطفل أو بالرضاعة إلّا وفّاه هذا المعهد دراسةً و بحثاً و خرج فيه بأسلم النتائج العلميّة. و لا يفوقه مركز علميّ في العالم من حيث المعلومات المرتبطة بالرضّع.
و يستحيل أن تجد موضوعاً مرتبطاً بهم إلّا و قد نال نصيبه من
الدراسة، حتى اللوحات الزيتيّة التي رسمها كبار الفنّانين للأطفال و التي تقتنيها المتاحف الرئيسة، و لوحظ أنّ معظم هذه الصور كانت تمثّل الامّ حاملةً طفلها من الناحية اليُسرى. ذلك أنّ عدد الصور التي دُرست كان ٤٦٦ صورة، تبيّن أنّ ٣۷٣ صورةً منها تمثّل امّهات يحضنّ أطفالهنّ في الناحية اليُسرى، في حين أنّ ٩٣ صورة كان الطفل فيها محمولًا من الناحية اليمنى. أي: أنّ ۸۰% من الصور الموجودة في المتاحف المعروفة، و التي تمثّل الامومة، قد أظهرت الطفل محمولًا من الناحية اليسرى.
و في ولاية نيويورك عدد من مستشفيات الولادة التابعة لمؤسّسة كورنيل الجامعيّة للأطفال. و الأطبّاء العاملون فيه يوافون المعهد العلميّ للجامعة بالتقارير و الملفّات الطبّيّة الخاصّة بالأطفال و الامّهات لدراستها.
و يستشفّ من التقارير المرسلة إلى هذا المعهد العلميّ في فترة غير قصيرة أنّ الطفل في أيّامه الاولى يكون أهدأ و أقلّ بكاءً لو نام إلى الجانب الأيسر لأمّه. أمّا إن نام إلى الناحية اليمنى، فهو يستيقظ في فترات قصيرة متقطّعة و يجهش في البكاء.
و يلاحظ أنّ هذه الدراسة تناولت الأطفال البيض و السود دون تفرقة. و قد برهنت في جميع الحالات على أنّ الطفل، سواء كان أبيضاً أم أسوداً أم هنديّاً أحمر، يجد مزيداً من الراحة و الهدوء إذا رقد إلى الجانب الأيسر لُامّه. و قد أنفقت جامعة كورنيل وقتاً طويلًا متواصلًا في بحث هذا الموضوع. و توفّر للأطبّاء في مركز البحوث على فحص بطن الحامل بأشعّة مجهولة حتى يروا الجنين فيها. لكنّ رؤيته لم تُضِف إلى معلوماتهم شيئاً إلى أن تمّ اختراع جهاز هولوجرافي.۱
و بعد اختراع هولوجرافي حاول الأطبّاء تصوير الجنين في بطن امّه في وقت كشفته الأشعّة المجهولة، فتبيّن أنّ ضربات قلب الامّ تُحدث أمواجاً تنتشر في جسمها و تصل إلى سمع الطفل. و بعد أن عرف الأطبّاء هذه الحقيقة، رغبوا في معرفة الآثار التي تظهر في الطفل عند توقّف ضربات قلب الامّ. و لمّا لم يستطيعوا أن يوقفوا قلب الامّ إذ يعني الموت للُامّ و للطفل معاً. فأجروا تجاربهم على الحيوانات المرضعة، فتبيّن لهم أنّ إيقاف نبضات قلب الحيوان الحامل ينعكس على جنينه فوراً. و هي نتيجة تحقّقت من التجارب التي اجريت على فصائل شتّى من الحيوانات. و قطع الأطبّاء بأنّ توقّف قلب الامّ يؤثّر تأثيراً مباشراً على الجنين، و بوفاة الامّ يموت الجنين بدوره، لأنّ الجنين يتغذّى من الشريان الاورطيّ المتّصل بقلب الامّ و يتأثّر بنبضات قلبها. و لو توقّف هذا النبض لا نقطع الغذاء عن الجنين و لمات في بطن امّه.
و قد استنتج الأطبّاء من هذه التجارب أنّ الجنين لا يعتاد سماع ضربات قلب امّه فحسب، بل إن حياته ترتبط أيضاً بهذه الضربات. فإن توقّفت الضربات انقطع الغذاء عن الجنين و مات.
و قد اعتاد الجنين على سماع ضربات قلب امّه بنحو أنّه إذا لم يسمعها بعد ولادته فإنّه يشعر بالقلق. و يشخّص تلك الضربات جيّداً. و هذا هو السرّ في أنّ حمل الطفل من ناحية الامّ اليسرى يجعله أكثر اطمئناناً
و هدوءاً، و هو ما يفتقر إليه الجانب الأيمن للُامّ.
بحوث مؤسّسة كورنيل حول موضوع هذه التوصية
و لو لا جهود المعهد العلميّ الجامعيّ الذي أسّسته جامعة كورنيل في دراسة أوضاع الطفل و مشكلاته الصحّيّة و النفسيّة و أسباب الرعاية السليمة التي تُتاح له في أيّامه الاولى، لما عرفنا أهمّيّة النظريّة التي ساقها جعفر الصادق في هذا المقام، و مؤدّاها أنّ الرضاعة السليمة تقتضي من الامّ توسيد طفلها إلى جانبها الأيسر لا الأيمن.
و قد ارتأى مركز الولادة و رعاية الطفل التابع لجامعة كورنيل تجهيز جميع فروعه و وحداته بجهاز يوضع في غرفة الأطفال الحديثي العهد بالولادة، و مهمّته بثّ صوت شبيه بنبضات قلب الامّ، و زوّدت أسِرَّة الأطفال بجهاز مهمّته نقل صوت هذه الضربات إليهم. و معروف أنّ قلب الشخص البالغ السليم يدقّ عادةً ۷٢ مرّة في الدقيقة.
و من التجارب التي اجريت على الأطفال زيادة عدد نبضات القلب إلى ۱۱۰ أو ۱٢۰ نبضة في الدقيقة، فكان من أثر ذلك انزعاج الأطفال و ارتفاع أصواتهم بالبكاء. فإن اعيدت النبضات إلى وضعها الطبيعيّ، و هو ۷٢ دقّة في الدقيقة كفّ الأطفال عن البكاء. و قد جُرِّبت هذه التجربة و اعيدت في مراكز الرضاعة مرّات كثيرة فكانت نتيجتها واحدة.
و هناك تجربة اخرى اجريت على الأطفال الرضّع، فقد وُضعت مجموعة منهم في غرفة بها جهاز يقلّد ضربات قلب الامّ بحيث لا يسمعه الأطفال، و وُضعت مجموعة اخرى في غرفة بحيث يسمعون ضربات قلبها، فاتّضح للأطبّاء أنّ الأطفال الذين يسمعون صوت النبضات يزيد وزنهم بسرعة تفوق سرعة الوزن لدى الذين لا يسمعون، في حين أنّ الغذاء المقدّم للمجموعتين متشابه من حيث النوع.
لكن في الغرفة التي يسمع فيها الأطفال صوت النبضات يأكلون
بشهيّة تفوق شهيّة الذين لا يسمعونه.
و بحثوا أيضاً في الصوت الاصطناعيّ لقلب الامّ من حيث شدّته، و ذلك في مراكز الولادة لمعهد الدراسات في جامعة كورنيل فعرفوا أنّ ذلك الصوت إذا كان أشدّ من الصوت الطبيعيّ لنبضات قلب الامّ فإنّه يُقلق الأطفال و يدفعهم إلى البكاء.
و قد قام الدكتور «لي سولك»، و هو طبيب متخصّص في طبّ الأطفال في معهد كورنيل الجامعيّ بجولة حول العالم لدراسة التقاليد التي تجري عليها الشعوب و الامم في إرضاع الطفل و رعاية الطفولة، و كتب في تقريره يقول إنّه رأى في مناطق شتّى من العالم امّهات يحتضنّ أطفالهنّ في الجانب الأيسر، و ذلك أثناء نهوضهنّ بأعمالهنّ أو عند عبور الطرق. كما لاحظ أنّ معظم الامّهات اللائي يحضنّ أطفالهنّ من الناحية اليمنى هنّ عسراوات (أي: يستخدمن أيديهنّ اليسرى). بخاصّة إذا حملن زنبيلًا فإنّهن يحتضنّ أطفالهنّ في الجانب الأيمن حتى يتسنّى لهنّ حمل الزنبيل بأيديهنّ اليسرى.
و ممّا قاله الدكتور «لي سولك» في تقريره إنّه سأل عدداً من الامّهات الخارجات من مركز الولادة عن سبب حملهنّ لأطفالهنّ من الناحية اليسرى و إرضاعهنّ لهم في هذا الوضع، فلم تستطع الامّهات تعليل ذلك و لا خطر ببال إحداهنّ أن تقول للدكتور «سولك» بأنّ الطفل يأنس بسماع صوت القلب عند ما تحمله امّه من الناحية اليسرى. و الامّهات يحضنّ أطفالهنّ في الجانب الأيسر بدون أن يعرفن سبب ذلك.
حتّى النساء الإفريقيّات السوداوات فإنّهنّ عند ما يحملن أطفالهنّ على ظهورهنّ يجعلنهم في الجانب الأيسر من أجسامهنّ. و في جميع الطوائف الإفريقيّة السوداء تعرف النساء أنّهنّ عند ما يضعن الطفل في
الجانب الأيسر من صدورهن فإنّه يرضع بنحو أفضل. و شهّيته للارتضاع من الثدي الأيسر أكثر منها للارتضاع من الثدي الأيمن.
و سمع الدكتور «لي سولك» من الامّهات أنّ الطفل عند ما يجوع ليلًا فإنّه يهتدي إلى الثدي الأيسر في الظلام بسرعة محيّرة و يلتقم الثدي و يرضع.
إنّهم يتعجّبون لسرعة الطفل في وضع فمه على الثدي بدون أن يكون مصباح مضيء يرى الطفل بواسطته ثدي امّه.
و يوضّح الدكتور «لي سولك» للُامّهات أنّ دليل الطفل للرضاع من ثدي امّه ضربات قلبها، و أنّه عند ما يسمعها يهتدي إلى ثديها الأيسر و يضعه في فمه بلا تردّد.۱
انتقال المرض بواسطة النور
... و من النظريات التي قال بها جعفر الصادق و كشفت عن نبوغه العلميّ و إحاطته الواسعة بدقائق العلوم نظريّته المتعلّقة بانتقال بعض الأمراض من المريض إلى السليم عن طريق الضوء.
و ذكر جعفر الصادق أنّ أمراضاً ينبعث منها ضوء، فإذا أصاب الضوء أحداً انتابته العلّة.
و لا بدّ من ملاحظة أنّ هذا القول لا ينسحب على العدوى بطريق الهواء أو الميكروب (إذ لم تُكشف هذه الحقيقة في النصف الأوّل من القرن الثاني الهجريّ)، و إنّما ينصبّ هذا القول على الضوء، و ليس كلّ ضوء، بل الضوء الذي يشعّه المريض، فإذا أصاب سليماً أمرضه.
و قد ذهب علماء الأحياء و الطبّ إلى أنّ هذه النظريّة ضرب من الخرافة، اعتقاداً منهم بأنّ العامل الرئيس في انتقال المرض هو الميكروب أو الفيروس الذي ينتقل بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن طريق الحشرات أو الماء أو الهواء الملوّث أو الاحتكاك المباشر بين المريض و السليم.
و كان الاعتقاد السائد قبل اكتشاف الميكروب و الفيروس أنّ الرائحة هي السبب الفعّال في انتقال المرض. و لهذا صرفوا اهتمامهم إلى الحيلولة دون انتقال الرائحة من المريض إلى السليم. أمّا ما ذهب إليه الصادق عليه السلام من أنّ الضوء المشعّ المنبعث من المريض هو الذي يتسبّب في نقل العدوى، فهو نظريّة لم يقل بها أحد في أيّ مرحلة من مراحل تأريخ الطبّ الطويل.
و ظلّت هذه النظريّة معدودة من الخرافات في رأي العلماء و الباحثين إلى أن جاءت التجارب العلميّة المعاصرة معزّزةً لها و مُثبتة لصدق آراء جعفر الصادق، إذ إن بعض الأضواء إذا انتقلت من المريض إلى السليم فإنّها تُمرضه. و كشفت هذه الحقيقة لأوّل مرّة في الاتّحاد السوفييتيّ (السابق).
ففي مدينة «نوو - وو - سيبيرسك» الواقعة في الاتّحاد السوفييتيّ، في سيبيريا مركز من أهمّ مراكز البحوث في العلوم الكيميائيّة و الطبّيّة و البايولوجيّة. و قد استطاع هذا المركز أن يثبت أوّلًا: أنّ هناك من الأمراض ما يُشعّ ضوءاً. ثانياً: أنّ هذا الضوء قادر في حدّ ذاته على إصابة الخلايا السليمة و إيقاع المرض بها دون أدنى احتكاك بين الخلايا المريضة و الخلايا السليمة، و دون ميكروب أو فيروس ينتقل من الخلايا المريضة إلى الخلايا السليمة.
أمّا الاسلوب الذي اتّبعه العلماء في مركز نوو - وو - سيبيرسك في
إجراء تجاربهم فكان على النحو الآتي:
اختار العلماء مجموعتين من الخلايا الموجودة في كائن حيّ، و فصلوهما عن بعضهما فرأوا أنّ تلك الخلايا تشعّ أنواعاً من الفوتون۱ ... و بعد أن اختاروا تينك المجموعتين من الخلايا المتماثلة من كائن حيّ و جعلوهما في قسمين منفصلين، أدخلوا المرض على مجموعةٍ منها ليتابعوا تأثير إشعاعه، فوجدوا أنّ الفوتون يشعّ من الخليّة المريضة أيضاً، و أنّ المرض يمنع الخليّة من الإشعاع.
ثمّ انتقل العلماء إلى المرحلة الثانية من التجارب، فوضعوا الخلايا السليمة في حافظتين إحداهما «الكوارتز» و اسمها الآخر «السليكا»، و الاخرى من الزجاج.
و معروفٌ أنّ من خواصّ الكوارتز مقاومته للأشعّة، فلا تخترقه إلّا الأشعّة فوق البنفسجيّة، في حين أنّ من خواصّ الزجاج العادي أنّ فوتون أنواع الأشعّة يخترقه ما عدا الأشعّة فوق البنفسجيّة.
و قد تبيّن للعلماء بعد انقضاء ساعات على الخلايا السليمة الموجودة في الحافظتين أمام الخليّة المريضة أنّ ما كان منها في حافظة الكوارتز اصيب بالمرض، أمّا الخلايا التي كانت في الحافظة الزجاجيّة فقد بقيت سالمة.
... و قد اعيدت هذه التجارب على أمراض مختلفة و على خلايا متشابهة أو مختلفة طوال عشرين سنة، و بلغ عدد التجارب التي اجريت خمسة آلاف، و ذلك للتوصّل إلى رأي علميّ ثابت بالبرهان العلميّ المتكرّر و بدون أيّ تردّد في نتيجة التجارب. و قد تشابهت نتائج هذه
التجارب، و دلّت بصورة قاطعة على أنّ الخلايا المريضة تنبعث منها أشعّة مختلفة، منها الأشعّة فوق البنفسجيّة، و أنّ الخلايا السليمة إذا ما أصابتها أشعّة فوق البنفسجيّة صادرة عن خليّة مريضة (لا أشعّة فوق بنفسجيّة اخرى)، انتقلت إليها نفس علّة الخليّة المريضة. و أنّ مرض تلك هو نفس مرض الخلايا المريضة.
و لم يحدث في جميع التجارب التي استمرّت عشرين سنة أن تجاورت الخلايا السليمة و الخلايا المريضة بحيث يقال إن عدوى الميكروب أو الفيروس انتقلت من هذه إلى تلك بالاحتكاك. فثبت للباحثين أنّ سبب انتقال العدوى هو الأشعّة فوق البنفسجيّة المنبعثة من الخليّة المريضة ... .
... و يستشفّ من التجارب التي أجراها اولئك العلماء أنّ خلايا جسم الإنسان كمحطّة الإرسال و الاستقبال، تصدر عنها الأشعّة، كما أنّها تستقبل هذه الأشعّة و تسجّلها ... .
... و لا ريب في أنّ النتائج التي أسفرت عنها هذه التجارب قد فتحت أمام علماء الأحياء و الطبّ ميداناً جديداً يطرقونه لمعالجة الأمراض ... .
... و قد اجريت تجارب علميّة مماثلة في الولايات المتّحدة الأميركيّة فجاءت نتائجها متّفقة مع ما انتهى إليه مركز الأبحاث السوفييتيّة. و نشرت المجلّات الطبّيّة و العلميّة نتائج هذه البحوث، كما وضع الدكتور «جون اوت» كتاباً في هذا الموضوع.
سُقنا هذا العرض لندلّل على أنّ العلم الحديث قد جاء مؤكّداً للنظريّة التي دعا إليها جعفر الصادق في منتصف القرن الثاني للهجرة و مؤدّاها أنّ الضوء المنبعث من مرضٍ ما يتسبّب في إصابة الغير بالمرض، و هي النظريّة التي اعتبرت يومها من الخرافات البعيدة عن الواقع. فقد أقام العلم
الحديث البرهان على أنّ الأشعّة فوق البنفسجيّة المنبعثة من الخلايا المريضة تتسبّب في نقل الأمراض إلى الخلايا السليمة. أمّا الأشعّة فوق البنفسجيّة المنبعثة من الشمس فهي لا تُصيب الإنسان أو الكائنات الحيّة بالمرض إلّا إذا وصلت إلى جسم الإنسان و الحيوان دون أن تمرّ من الهواء،۱ أي دون أن يفصل بينها و بين الكائن الحيّ عائق مثل طبقة الهواء. و لو لا هذه الطبقة الهوائيّة العازلة لهلكت الكائنات الحيّة. و لكن هذه الأشعّة نفسها، بعد أن تمرّ بطبقة الهواء و تصل إلى الأرض فإنّها لا تُمرض أيّ كائن حيّ.
و صفوة القول: أنّ التجارب البيولوجيّة و الطبّيّة العلميّة الحديثة قد أثبتت صحّة نظريّة جعفر الصادق عليه السلام بعد ألف و مائتين و خمسين سنة.٢
علوم العوالم الاخري
من الأسئلة التي سئل بها جعفر الصادق سؤال مفاده: مَن نستطيع أن نعدّه عالماً مطلقاً؟ و متى يشعر الإنسان أنّه تعلّم كلّ شيء؟
قال جعفر الصادق للسائل: اجعل هذا السؤال قسمين و اسألني عن كلٍّ منهما على حدة!
لك أن تسأل في القسم الأوّل و هو: مَن نستطيع أن نعدّه عالماً مطلقاً؟
فأقول في جوابك: لا عالم مطلق إلّا الله. و محال أن يكون أحد أبناء البشر عالماً مطلقاً. إذ إن العلم واسع إلى درجةٍ لا يستطيع المرء أن يعلم كلّ شيء فيه و لو عمّر آلاف السنين و كان مشتغلًا بتعلّمه طول المدّة المذكورة. و لعلّه يقف على علوم هذا العالم كلّها بعد آلاف من السنين. و لكن هناك عوالم اخرى ما وراء هذا العالم، و فيها علوم، فمن تعلّم كافّة العلوم في هذا العالم و دخل تلك العوالم فهو جاهل. و ما عليه إلّا أن يبدأ بتعلّمها كي يقف عليها.
فلا وجود لعالِمٍ مطلقٍ إلّا الله وحده. ذلك أنّ الإنسان لا يستطيع أن يُلمّ بجميع العلوم أبداً.
و سأل طلّاب جعفر الصادق القسم الثاني من السؤال فقالوا: متى يغني الإنسان بالعلم؟
قال جعفر الصادق: أجبتُ عن سؤالكم في جوابي السابق و قلتُ: لو عمّر الإنسان آلاف السنين، و انهمك في تحصيل العلم، فلن يتسنّى له أن يتعلّم كافّة العلوم.
إذن، لن يأتي زمان يشعر فيه الإنسان أنّه غني بالعلم، و الذين يشعرون أنّهم استغنوا بالعلم هم جهلاء حقّاً، و الجاهل يرى نفسه مستغنياً عن العلم.
و سئل جعفر الصادق عن القصد من علم العوالم الاخرى، فقال: ثمّة عوالم غير عالمنا الذي نعيش فيه، و هي أكبر منه، و فيها علوم تختلف عن علومه.
و سئل عن عددها، فقال: لا يعلم ذلك إلّا الله. و سئل: كيف يختلف علم العوالم الاخرى و علم هذا العالم؟ أ ليس العلم قابلًا للتعلّم؟ و ما كان قابلًا للتعلّم كيف يمكن ألّا يُعدّ من علوم هذا العالم؟
قال جعفر الصادق: في العوالم الاخرى ضربان من العلم. أحدهما يُشبه علوم هذا العالم. و إذا ذهب إليها أحد فإنّه يستطيع أن يتعلّمها. أمّا بعض العوالم الاخرى ففيها علوم تعجز عقول الناس عن إدراكها. إذ لا يتسنّى فهمها بعقول الناس في هذا العالم.
كان كلام جعفر الصادق هذا لغزاً عند علماء الأجيال المتأخّرة. فبعضهم لم يره مقبولًا و ذكر أنّ ما قاله في هذا المجال لا مسوّغ له.
و من الذين امتروا فيه ابن الراونديّ الأصفهانيّ، فقد قال: إن عقل الإنسان يستطيع أن يدرك كلّ شيء من العلم سواء علوم هذا العالم، أم علوم العوالم الاخرى.
بَيدَ أنّ تلاميذ جعفر الصادق قبلوا قول استاذهم و ذهبوا إلى أنّ في بعض العوالم الاخرى علوماً يعجز البشر عن تعلّمها، لأنّ فكره قاصر عن إدراكها.
و تيسّر اليوم فهم ما قاله جعفر الصادق في هذا الحقل بعد ما فتحت نظريّة أينشتَين في النسبيّة فصلًا جديداً لا عهد للأذهان به في الفيزياء، و بعد ما تخطّت نظريّة وجود «مضادّ المادّة» حدودها النظريّة و دخلت مرحلة جديدة من العلم، و ثبت للعلماء وجود «مضادّ المادّة».
ذلك أنّ في العالم المضادّ للمادّة قوانين فيزيائيّة هي غير القوانين الفيزيائيّة في عالمنا. و أكثر من ذلك قوانين المنطق و الاستدلال فهي غير ما يستطيع عقلنا أن يضعها و يدركها.
العالم المضادّ للمادّة عالم في داخل ذرّاته شحن الإلكترون موجب، و شحن البروتون «في نواة الذرّة» سالب. أمّا في عالمنا فعلى العكس، إذ إن شحن الإلكترون سالب، و شحن البروتون «في نواة الذرّة» موجب.
لا يعلم أحد القوانين الفيزيائيّة السائدة في عالم يكون فيه شحن
إلكترونات الذرّة موجباً، و شحن البروتونات سالباً.
في منطقنا و استدلالنا الكلّ أعلى من الجزء. أمّا في ذلك فلعلّ الجزء أعلى من الكلّ، و فكرنا قاصر عن أن يفهم هذا الموضوع و يقبله.
عند ما نغمس جسماً ثقيلًا في الماء فإنّ داخل الماء يخفّ حسب القانون الذي اكتشفه أرخميدس. و لكن لو غمسناه في ذلك العالم في داخل الماء أو سائل آخر فلعلّه يثقل.
و في هذا العالم عند ما نضغط على نقطة من سائل في إناء فإنّ هذا الضغط يصل إلى كافّة النقاط في ذلك السائل حسب قانون باسكال. و استُفيد من هذا القانون في صنع مكابح زيتيّة لوسائط النقل، بخاصّة للثقيلة منها. و إذا ما ضغط السائق بقدمه على دوّاسة المكبح التي تضغط على الزيت قليلًا، و بلغ الضغط جميع نقاط الزيت، فإنّها تضغط على عجلات الشاحنة ألف مرّة و توقفها في لحظة واحدة.
بَيدَ أنّ هذا القانون الفيزيائيّ لعلّه عديم الأثر في العالم المضادّ للمادّة، و لعلّ الضغط البالغ نقطة من السائل لا يصل إلى نقاطه الاخرى.
إذا دخل شخص من هذا العالم إلى العالم المضادّ للمادّة؛ فلعلّه ينسجم تدريجيّاً مع قوانينه الفيزيائيّة التي تبدو له عجيبة و غير عاديّة كما ينسجم روّاد الفضاء مع انعدام الوزن عند ما يدورون حول الأرض بسفنهم الفضائيّة أو يضعون أقدامهم على سطح القمر. ذلك أنّهم تمرّنوا على انعدام الوزن في الأرض قبل إرسالهم إلى الفضاء.
أمّا الذي لا يستطيع أن يقبله الإنسان في العالم المضادّ للمادّة فهو الأشياء المغايرة لقوانين منطقه و استدلاله.
فإذا رأى فيه أنّ الجزء أكبر من الكلّ، و الناس لا يراعون القواعد الأصليّة في العمليّات الحسابيّة الأربع: الجمع و الطرح و الضرب و التقسيم،
و شعر أنّ الحرارة فيه تجمّد الماء و البرودة تسبّب تبخيره بدون أن يكون خلاء، فإنّه لا يستطيع أن يدرك تلك الظواهر اللاعقليّة.
هنا تبدو نظريّة جعفر الصادق القائلة بوجود علومٍ في بعض العوالم، لا يستطيع الإنسان أن يتعلّمها، مقبولة ... .۱
... النتيجة المأخوذة من البحث المتقدّم هي: أوّلًا: كان جعفر الصادق يرى أنّ العلم غير محدود. ثانياً: و كان يذهب إلى أنّ في العوالم الاخرى علوماً لا يستطيع المرء أن يدركها بفكره الذي يدرك به علوم عالمه هذا. و اليوم يتسنّى لنا أن نفهم، بعد النظريّة النسبيّة لأينشتَين، و بعد النظريّة المضادّة للمادّة التي ذكرنا بأنّها تخطّت الحدود النظريّة و دخلت مرحلة علميّة، بأنّ جعفراً الصادق قد عرض نظريّة صحيحة قبل اثني عشر قرناً و نصف القرن.٢
إن النماذج المذكورة الدالّة على قطرة من بحر علوم أهل البيت عليهم السلام اللامتناهي تبيّن لنا أنّ علومهم نابعة من منهل لا يبلغه الناس العاديّون، و لا يتيسّر الارتشاف منه إلّا عن طريقهم عليهم السلام.
و تعلّمنا أيضاً أنّنا ينبغي ألّا نقصّر في تطبيق التعاليم الإسلاميّة و العمل بإرشادات الدين المنجية مهما كان الأمر، إذ إن لكلّ حكم حكمة و لكلّ أمرٍ فلسفة، و عصيانها يستتبع مضاعفات تصيبنا و ربّما لا تعوَّض و قد تنسف أساس سعادتنا.
نبتهل إلى الله تعالى في ختام البحث أن يوفّق عامّة المسلمين لاتّباع
تعاليم القرآن الكريم بتوجيهات أهل بيت العصمة عليهم السلام، و يسدّد خطاهم - انتهى.۱
جميع عناصر الهواء ضروريّة للتنفّس
قال جعفر الصادق: الهواء مركّب من عناصر، و عناصره ضروريّة للتنفّس.
و بعد أن فصل لافوازييه الاوكسجين عن الغازات الاخرى، و دلّ على أنّه سبب حياة الأحياء، ذهب العلماء إلى أنّ الغازات الاخرى في الهواء عديمة الفائدة في حفظ الحياة. و هذه النظريّة مخالفة لنظريّة جعفر الصادق الذي قال: إن جميع العناصر الموجودة في الهواء ضروريّة للتنفّس.
و في منتصف القرن التاسع عشر صحّح العلماء رأيهم في الاوكسجين بعد ما تبيّنوا أنّ هذا العنصر الهامّ اللازم لتنقية الدم و استمرار الحياة عند الإنسان ليس على هذه الدرجة من الفائدة و النفع للكائنات الاخرى، إذ تبيّن أنّ هناك كائنات حيّة لا تقوى على استنشاق الاوكسجين الخالص فترة طويلة، لأنّ خلايا أجهزتها التنفّسيّة تتأكسد و تتآكل بتفاعلها مع الاوكسجين، أي: أنّ هذه الخلايا تحترق بفعل الاوكسجين الخالص.
و الاوكسجين في حدّ ذاته لا يحترق و لكنّه يساعد على الاحتراق. فإذا تعرّض له جسم، و كان قابلًا للاحتراق، فإنّه يحترق. و إذا تنفّست الخلايا الموجودة داخل رئة الإنسان أو الحيوان الاوكسجين الخالص فترة طويلة، احترقت هذه الخلايا، و مات الإنسان أو الحيوان. و لهذا يوجد الاوكسجين في الهواء مختلطاً بغازات اخرى كفيلة بمنع أثره السيّئ و الضارّ و الحئول دون احتراق رئة الكائنات الحيّة نتيجة تنفّس الاوكسجين
الخالص. و بالوصول إلى هذه الحقيقة العلميّة صحّ ما ذهب إليه جعفر الصادق من أنّ الهواء مفيد للإنسان بمجموع أجزائه بما في ذلك أجزاؤه من الغازات الاخرى التي يوجد منها مقدار ضئيل فيه.
و من قبيل المثال، نذكر أنّ لغاز الاوزون خواصّاً كيميائيّة مشابهة لخواصّ الاوكسجين. و قوام جزيء۱ هذا الغاز ثلاث من ذرّات الاوكسجين. و إذا كان الظاهر أنّ غاز الاوزون لا يقوم بدور هامّ في التنفّس فواقع الأمر أنّ له أثراً فعّالًا في تثبيت الاوكسجين عند دخوله الدورة الدمويّة. أي: أنّه يحافظ على الاوكسجين في الدم و لا يدعه يذهب هباءً. و هذا يؤيّد ما ذهب إليه جعفر الصادق من أنّ الهواء - بكلّ أجزائه - ضروريّ للحياة. و هي حقيقة اميط عنها اللثام منذ منتصف القرن التاسع عشر.
و من خواصّ الغازات الموجودة في الهواء أنّها تمنع الاوكسجين من الترسّب. و نحن نعلم أنّ الاوكسجين غير مركّب في الهواء، بل هو مختلط بالغازات الاخرى، و لمّا كان أثقل الغازات الموجودة في الهواء فلا بدّ أن يترسّب حسب القاعدة. و هو أمر لو حدث لجعل الاوكسجين يملأ سطح الأرض إلى ارتفاع معيّن، و لاتّخذت الغازات الاخرى مكانها فوق الاوكسجين، و لأدّى هذا الخلل إلى احتراق جهاز التنفّس عند جميع الكائنات الحيّة، و لانقرضت هذه الكائنات.
و لَمَا نما نبات، لأنّ النبات يحتاج بدوره إلى الاوكسجين و معه الكاربون كالكائن الحيّ. و لو حدث هذا الخلل لباتت حياة النبات مهدّدة بأشدّ المخاطر. غير أنّ وجود غازات اخرى مختلطة بالاوكسجين في الهواء يحول دون رسوبه، و يمدّ في حياة الإنسان و الحيوان و النبات.
و قد كان جعفر الصادق أوّل من فنّد القول بأنّ هناك عناصر أربعة، فقوّض هذه النظريّة من أساسها بعد ما عاشت قرابة ألف سنة، و كان شابّاً يافعاً آنذاك، بَيدَ أنّه ذكر النظريّة المتعلّقة بالهواء بعد بلوغه سنّ الرُّشد و شروعه بالتدريس.۱
و من الأشياء التي ذكرها جعفر الصادق حول ظهور العالم نظريّة القطبين المتضادّين التي ظهرت أهمّيّتها بعد القرن السابع عشر الميلاديّ عند ما أثبت علم الفيزياء وجود هذين القطبين. و الذين عاصروا الإمام و من جاءوا بعده ظنّوه قائلًا بما قال به القدماء من قبله من أنّ الشيء يُعرف بضدّه. و لكن ثبوت وجود القطبين المتضادّين في الفيزياء و ما نعرفه اليوم من علوم الذرّة و الإلكترونيّات قد قطعا بسلامة هذه النظريّة.
لقد بدأنا الكلام بعلوم جعفر الصادق من الجغرافية و الهيئة و الفيزياء في مبحث نشأة الكون و العناصر. و نواصل كلامنا في مبحث الفيزياء و سنصل منه إلى مباحث اخرى، و نقول: إن جعفراً الصادق قد تعرّض في الفيزياء لمسائل لم يتعرّض لها أحد، لا قبله و لا بعده إلى منتصف القرن الثامن عشر، و القرن التاسع عشر، و القرن العشرين.
سبب شفّافيّة الأجسام أو كدورتها
و من ذلك مثلًا قانون الأجسام الصلبة. فقد صنّف تلك الأجسام إلى أجسام كدرة و اخرى مصقولة شفّافة، إذ قال: كلّ جسم صلب جامد يكون
كدراً، و كلّ جسم جامد دافع يكون لمّاعاً و شفّافاً. و قال في الردّ على سؤال: ما الذي يجذب؟ إن الحرارة هي التي تجذب.
و قد أصبحت هذه النظريّة في يومنا الحاضر قانوناً علميّاً في الكهرباء و الفيزياء. أ فليس ممّا يُدهش أن يكون القائل بهذه النظريّة منتمياً إلى النصف الثاني من القرن السابع الميلاديّ، و النصف الأوّل من القرن الثاني الهجريّ؟
و لو سألنا في يومنا هذا مائة شخص كيف يكون من الأجسام الصلبة ما هو لمّاع و ما هو كَدِر؟ لما استطاع أحد منهم أن يجيب جواباً صحيحاً، أي: أن يقول لنا سبب كون الحديد كدراً و البلّور لمّاعاً و شفّافاً.
يقول القانون الفيزيائيّ الحديث: إن كلّ جسم تصدر عنه أمواج و أشعّة حراريّة فيكون موصّلًا جيّداً للحرارة (مُوصّل الحرارة) و للأمواج الإلكترونيّة (موصّل الكهرباء و الأمواج المغناطيسيّة)۱ هو جسم كدر لا لمعان له. و إن الأجسام التي لا تنتقل منها الحرارة بسهولة (أي: غير الموصّلة للحرارة) و لا تنقل الأمواج الإلكترونيّة (عازلة) هي أجسام شفّافة لمّاعة.
و لم يتحدّث جعفر الصادق عن أمواج كهر و مغناطيسيّة (كهربائيّة مغناطيسيّة) و لكنّه تحدّث عن الحرارة فحسب. و جاءت أقواله مطابقة لقوانين الفيزياء في يومنا هذا. و تقول القوانين الفيزيائيّة: إن سبب كدورة
بعض الأجسام (كالحديد) هو أنّها تنقل الأمواج الكهرومغناطيسيّة. و بعبارة جامعة: أنّها مُوصِّلة. في حين أنّ الأجسام التي لا توصل الحرارة أو توصّلها ببطء و تحول دون انتقال الأمواج الكهرومغناطيسيّة تعتبر أجساماً عازلة، و تكون لمّاعة شفّافة.
نجوم أسطع من الشمس
و تقوم نظريّة جعفر الصادق في كدورة الأجسام أو صفائها على أساس الجاذبيّة. و لمّا سئل عن سبب كدورة الأجسام أو صفائها قال: إن الجسم الممتصّ للحرارة كدر، و الأجسام التي لا تمتصّ الحرارة شفّافة على اختلاف مراتبها.
و لا تقلّ نظريّة الجاذبيّة عند جعفر الصادق في أهمّيّتها عن نظريّته القائلة بوجود قطبين متضادّين. و هي تطابق قوانين الفيزياء الحديثة من حيث تعليل أسباب كدورة الأجسام الصلبة أو صفائها.۱
ذكرنا فيما سبق أنّه قلّ أن يكون هناك موضوع علميّ و ليس لجعفر الصادق رأي ذو وزن فيه. و تدلّ بعض نظريّاته على نبوغه العلميّ.
و من ذلك ما قاله في ضوء النجوم. و مؤدّاها أنّ بين النجوم التي نراها في الليل ما هو أضخم من الشمس، و إن لها من الأشعّة ما تضؤل أمامه الشمس و أشعّتها.
إن المعلومات البشريّة المحدودة حول الكواكب تحول دون إدراك هذه الحقيقة في عصر جعفر الصادق و بعده إلى فترة أخيرة. و كان العلماء يظنّون أنّ ما قاله جعفر الصادق حول ضوء بعض النجوم بعيد عن العقل، و لا يمكن قبوله، و محال أن تكون هذه النقاط الصغيرة المضيئة المعروفة بالنجوم شديدة الضياء بحيث يتضاءل أمامها ضوء الشمس.
و ثبت اليوم بعد مضيّ اثني عشر قرناً و نصف القرن على عصر جعفر الصادق صحّة ما قاله ذلك الرجل العظيم، إذ تبيّن للعلماء أنّ هناك مجموعات من النجوم السواطع تتضاءل تلقاء حجمها و ضيائها الشمس نفسها.
و يطلق على هذه النجوم المضيئة اسم (الكوزرز)۱ الواحدة منها كوزار. و بعضها يبعد عن الأرض بمقدار تسعة آلاف مليون (تسعة مليارات) سنة ضوئيّة. و ما يصل إلى المراقب الفلكيّة نهاراً و ليلًا من الأمواج الصادرة عن هذه المجموعات يقطع المسافة الشاسعة بين هذه المجموعات و بيننا في تسعة آلاف مليون سنة ضوئيّة.
قلنا (نهاراً و ليلًا). و لعلّ البعض يتصوّر أنّنا قد أخطأنا إذ لا يمكن رؤية النجوم نهاراً، بَيدَ أنّ عدم رؤيتها نهاراً يعود إلى فترة لم يكن فيها مرقب راديو تلسكوبيّ. أمّا اليوم فإنّنا نشهد مراقب راديو تلسكوبيّة ضخمة ترصد النجوم و الأنوار الساطعة المنبعثة منها حتى في النهار، منها مرقب (آرسى بوئه) في جزيرة (بورتوريكو) و الذي يبلغ قطره ثلاثمائة متر.٢
و يساوي الضوء المنبعث من بعض هذه الكوازر ضوء الشمس عشرة آلاف مليار مرّة. و هو رقم ليس فيه خطأ أو شطط.
و وحدة قياس الضوء التي يستند إليها علماء الفلك في قياس ضوء
النجوم هي ضوء الشمس. و للمرء أن يتصوّر الضخامة المتناهية لبعض المجموعات من الكوازر إذا كان ضوءها يعادل ضوء الشمس عشرة آلاف مليار مرّة. و لذا نقول بلا إغراق: إن ضوء الشمس ينحطّ أمامها و يصبح كضوء شمعة صغيرة. و إذا أردنا أن نجسّد عشرة مليارات ضعف الشمس، نقول: نكتب العدد (۱) و نضع أمامه ستّة عشر صفراً.
و رغبةً في رصد هذه المجرّات الضوئيّة الضخمة التي اكتشفت المجرّة الاولى منها في سنة ۱٩٦٣ م (و هناك أكثر من مائتي مجرّة قد اكتشفت حتى الآن) فكّر العلماء في صنع مرقب فلكيّ سعة رصده كسعة رصد ثلاثين ألف متر (ثلاثين كيلومتراً).
نقول: إنّه كسعة رصد ثلاثين ألف متر لاستحالة صنع مرقب راديو تلسكوب له هذه السعة. و بالنظر إلى استحالة ذلك بدأ العلماء يفكّرون في صنع مرقب كهربائيّ له هوائيّات قويّة ترتفع على شكل حرف(Y) بحيث تكون المسافة بين كلّ رأس من رؤوس هذا الحرف واحداً و عشرين كيلومتراً، و تتحرّك الهوائيّات بين المحاور الثلاثة و يتمّ التحكّم فيه إلكترونيّاً.
و يبلغ طول الهوائيّات الثلاثة (٢۱) كيلومتراً، و لها قدرة على الرصد كما لو كانت سعة المرصد ثلاثين ألف متر، و يتمّ توجيه هذا الجهاز إلى الكوازر لمشاهدتها بمزيد من الدقّة.
و قد اعتاد الفلكيّون منذ القرن الثامن عشر الميلاديّ على اكتشاف كتل ضوئيّة في السماء. و كانت المسافة السحيقة التي تفصل هذه الأجرام المضيئة عنّا من الامور المألوفة التي لا تثير دهشة العلماء آنذاك.
و لكن لمّا رأى علماء الفلك مجموعة الكوازر البعيدة في سنة ۱٩٦٣ م مستعينين بمرقب (راديو تلسكوب) آرسى بوئه في بورتوريكو، استولت
عليهم الدهشة، لأنّها تبعد عنّا بمقدار (٩) مليارات سنة ضوئيّة، في حين أنّ العالِم أينشتَين كان يعتقد بأنّ قطر العالَم ثلاثة مليارات سنة ضوئيّة. و لكي تستطيع الأذهان إدراك مدى ضخامة هذه المسافة الشاسعة نذكر أنّ الضوء يحتاج إلى سنة كاملة كي يقطع بسرعته الفائقة مسافة (٩٥۰۰) مليار كيلومتر. فإذا أردنا أن نعرف مقدار المسافة الحقيقيّة بين مجرّات الكوازر و الأرض، ضربنا (٩٥۰۰) مليار سنة في (٩٥۰۰) مليار كيلومتر.
و بغضّ النظر عن ضخامة هذه المسافة التي يتعذّر على العقل تصوّرها، فإنّ ممّا يزيد في حيرة علماء الفلك أنّ مجرّات الكوازر تطلق ضوءاً ساطعاً يساوي ضوء الشمس عشرة آلاف مليار مرّة، و لم يكتشف العلماء حتى الآن كنه هذه الكوازر و العناصر التي تتركّب منها و تمكّنها من توليد كلّ هذه الحرارة و الطاقة العجيبة.۱
... قال جعفر الصادق: إن لبعض النجوم ضوءاً هو من الشدّة بحيث يتضاءل أمامه ضوء الشمس.
و ها هو العلم الحديث قد برهن على صدق نظريّة جعفر الصادق، و دلّل على أنّ لبعض النجوم من الأشعّة ما تتضاءل أمامه الشمس و أشعّتها. أ فلا يُستخلص من ذلك أنّ رجلًا عاش في النصف الأوّل من القرن الثاني الهجريّ كان عبقريّاً في المباحث العلميّة، و أدرك حقيقةً إطّلعنا عليها اليوم؟
وجود عوالم اخرى
و ثمّة سؤال قد يعنّ للباحث هو: أين تقع مجرّات (الكوازر) التي يبعد بعضها عن الكرة الأرضيّة بمسافة تسعة آلاف مليون سنة ضوئيّة؟
هل تقع في مركز الكون أو في أوّله أو في نهايته؟۱ ... .
قال جعفر الصادق: إن الكون لا ينحصر في عالمنا وحده، و إنّما هناك عوالم اخرى. و ها قد جاء العلم الحديث مبرهناً على هذه النظريّة، و أقام الأدلّة على أنّ هناك آلافاً من العوالم و المنظومات الشمسيّة، و أنّها تفنى و تزول ما عدا مجرّات الكوازر، فهي باقية على الدوام ... .٢
و هذا يؤكّد ما قاله جعفر الصادق. و كلّما تقدّم علم الفلك عرف الفلكيّون أنّ عدد المجرّات و المنظومات الشمسيّة الموجودة في الكون هي أكثر ممّا كانوا يتصوّرون. حتى أنّ عدد المنظومات الشمسيّة فيه تفوق العدد الذي ذكره أرخميدس لذرّات الكون قبل الميلاد بثلاثة قرون.
كان أرخميدس يقول: إن عدد الذرّات المبعثرة في العالم هو عشرة مضروبة في نفسها ٦٣ مرّة. و إن الذرّة هي أصغر أجزاء المادّة و لا تقبل التجزئة، و لهذا سمّيت بالجزء الذي لا يتجزّأ ... .٣
من هنا، فإنّ أكثر النظريّات منطقيّة حول عدد العوالم الكبيرة و الصغيرة هي نظريّة جعفر الصادق، إذ قال: إن العوالم الصغيرة و الكبيرة لا يعرف عددها إلّا الله، و المفهوم الآخر لهذه النظريّة هو أنّ الإنسان عاجز عن إحصائها.٤
و لقد سئل جعفر الصادق: متى خُلق العالم؟ فكان ردّه: أنّ العالم خلقه الله، و لا سبيل إلى تحديد زمانه. و قيل له: أخبرنا تأريخ نشأته.
فقال: لا سبيل إلى ذلك! ... .
... و جملة القول: أنّ الشيعة تعتقد بأنّ جعفراً الصادق كان يعلم بتأريخ ذلك، لكنّه لم يُرد أن يخبر به لئلّا يضطرب الناس.
قال جعفر الصادق: إن سألتموني ما دمتُ حيّاً ما ذا كان قبل هذا العالم؟ قلتُ: كان العالم موجوداً. و هذا يدلّ على أنّه كان يعتقد بأزليّة العالم.۱
أجل، هذه العلوم المبتكرة هي التي دفعت مؤلّفي الكتاب المذكور إلى القول في فصل مستقلّ: إذا ادّعينا أنّ النهضة العلميّة الأخيرة أوجدها جعفر الصادق فقد أصبنا. و به صرّح المستشار عبد الحليم الجنديّ المصريّ في كتابه «الإمام جعفر الصادق» و ذكر الدليل عليه.
ذلك الإمام الذي دُهش المتقدّمون و المتأخّرون لمعرفته، و حاروا في ذلك، و ثمّنوا منزلته الشامخة الرفيعة قلباً و فكراً و قولًا، و أقرّوا بإمامته المطلقة كحامٍ لدين النبيّ، و سند رصين للكتاب السماويّ.
تعاقد أربعة من الزنادقة على معارضة القرآن
روى الشيخ أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسيّ عن هشام بن الحكم أنّه قال: اجتمع ابن أبي العوجاء، و أبو شاكر الديصانيّ الزنديق، و عبد الملك البصريّ، و ابن المقفّع عند بيت الله الحرام، يستهزئون بالحاجّ و يطعنون بالقرآن.
فقال ابن أبي العوجاء: تعالوا ننقض كلّ واحد منّا ربع القرآن، و ميعادنا من قابل في هذا الموضع! نجتمع فيه و قد نقضنا القرآن كلّه. فإنّ في نقض القرآن إبطال نبوّة محمّد، و في إبطال نبوّته إبطال الإسلام و إثبات ما نحن فيه. فاتّفقوا على ذلك و افترقوا. فلمّا كان من قابل اجتمعوا عند
بيت الله الحرام، فقال ابن أبي العوجاء: أمّا أنا فمفكّر منذ افترقنا في هذه الآية: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا.۱ فما أقدر أن أضمّ إليها في فصاحتها و جميع معانيها شيئاً، فشغلتني هذه الآية عن التفكّر فيما سواها.
فقال عبد الملك: و أنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ.٢ و لم أقدر على الإتيان بمثلها!
فقال أبو شاكر: و أنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا.٣ لم أقدر على الإتيان بمثلها.
فقال ابن المقفّع: يا قوم! إن هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، و أنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.٤ لم أبلغ غاية المعرفة بها، و لم أقدر على الإتيان بمثلها.
قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك، إذ مرّ بهم جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام، فقال:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً.٥
فنظر القوم بعضهم إلى بعض، و قالوا: لَئِن كَانَ لِلإسْلَامِ حَقِيقَةٌ لَمَا
انْتَهَتْ أمْرُ وَصِيَّةِ مُحَمَّدٍ إلَّا إلى جَعْفَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَ اللهِ مَا رَأيْنَاهُ قَطُّ إلَّا هِبْنَاهُ وَ اقْشَعَرَّتْ جُلُودُنَا لِهَيْبَتِهِ!۱ ثمّ تفرّقوا مقرّين بالعجز.
و نقل الشيخ الراونديّ هذه الرواية باختصار في «الخرائج و الجرائح»، كما رواها عنه الملّا محسن الفيض الكاشانيّ في «الصافي»، و الملّا عبد على ابن جمعة في «نور الثقلين»، و المجلسيّ في «بحار الأنوار».٢
الإمام الصادق عليه السلام مؤسّس علم العرفان
جاء في كتاب «مغز متفكّر» أيضاً: أنّ وجود العرفان في دروس جعفر الصادق يلفت نظرنا إلى كيانه المعنويّ أكثر فأكثر و يدلّ على أنّ لذوقه تجلّيات متنوّعة.
إن مبادئ العرفان منذ القرن الثاني الهجريّ الذي ظهر فيه العرفان لم تكن تزيد على سلوك العارف و قوّة تخيّله و تأمّله. و إذا كان من آثار العرفان على العارف تغيير اسلوب حياته و التأثير في خلقه و سلوكه و أدبه، فلسنا نشكّ في أنّ جعفراً الصادق كان بهذا رائداً و إماماً للغير. و لكن لا علاقة لهذا السلوك المعنويّ بالعلوم التجريبيّة و المادّيّة في الإسلام.
و كان جعفر الصادق أوّل عالم و خبير في العلوم التجريبيّة في الإسلام. و هو أوّل عالم جمع بين النظريّة العلميّة و التجربة العمليّة،
و لم يكن يقبل أو يؤيّد نظريّة في الفيزياء أو الكيمياء إلّا بعد التحقّق منها بنفسه في التجربة العمليّة و الاختبار. و عالم كهذا لا يهتمّ بعلوم نظريّة بحتة اهتمامه بالعلوم التجريبيّة، إذ لا يمكن قياس العرفان بتجربة فيزيائيّة أو كيميائيّة، و لا يتأتّى إلّا بعد مدّة طويلة من ترويض النفس.
و في التأريخ الإسلاميّ أنّ جعفراً الصادق كان أوّل عالم تحدّث عن الفيزياء و الكيمياء، فلا ينبغي أن يُبدي رغبةً في العرفان حسب القاعدة، لكنّه في طليعة العرفاء و الزهّاد، حتى أنّ الزمخشريّ المعروف، بعد ما أثنى عليه ثناءً كريماً في كتابه «ربيع الأبرار» عدّه من طلائع العرفاء و زعمائهم.
و كان العطّار النيسابوريّ صاحب «تذكرة الأولياء» يرى أنّ الصادق رائد للعرفاء. و لكن شتّان بين ما سجّله الزمخشريّ، و بين ما أورده العطّار. فقيمة ما كتبه الأوّل تفوق قيمة ما كتبه الثاني، إذ مضافاً إلى أنّ بعض الروايات في «تذكرة الأولياء» غير منظّمة من حيث تأريخ الوقوع،۱ إن الكاتب كان مغرماً متيّماً حين الكتابة، و كان عاشقاً للعرفان دون أن ينتبه إلى غلوّه في بعضها.
حضور تلامذة صابئة دروس الإمام الصادق عليه السلام
من هنا، نقول: إنّه لم ينتبه إلى غلوّه، و لو كان فطن له لما غَلَا، إذ كان يعلم أنّ المبالغة تقلّل من قيمة الكلام. و إذا وجدت المبالغة إلى التأريخ سبيلًا، فلا يتسنّى اعتباره تاريخاً. و يمكن القول: إن القلم في يد الزمخشريّ قلم مؤرّخ يتحكّم فيه العقل و الدقّة، أمّا القلم في يد العطّار فيتحكّم فيه الحبّ و العشق. و أيّاً كان الأمر، فالصادق يعدّ في تأريخ العلوم
الإسلاميّة من مؤسّسي علم العرفان أو أحد عرفاء العالم الإسلاميّ. و كان يحضر دروسه و يستفيد من علومه عدد من غير المسلمين أيضاً. فقد جاء في عدد من المصادر أنّ نفراً من الصابئة قرأوا عليه. و الصابئة بآرائهم الدينيّة هم وسط بين المسيحيّة و اليهوديّة، و كانوا يعدّون من الموحّدين. و منهم من كان مشركاً، و بعد أن اتّسع نطاق الإسلام تظاهروا بالتوحيد كي يستطيعوا العيش مع المسلمين، إذ نعرف أنّ المسلمين كانوا لا يتعرّضون للموحّدين الذين يسمّونهم «أهل الكتاب» بأذى.
و كان مركزهم «حرّان» غرب بلاد ما بين النهرين (العراق). و كان هذا المركز يسمّى قديماً عند الاوروبّيّين بـ «كارْهْ» بسكون الحرفين الثالث و الرابع. و من عادات الذين كانوا يعبدون الله منهم تعميد الطفل (غسله) بعد ولادته و تسميته.
... و يقول صاحب كتاب «تذكرة الأولياء»:۱ كانت جميع الفرق تحضر درس الصادق و تنهل من نميره.
و يقول الشيخ أبو الحسن الخرقانيّ٢ لقد استفاد كلٌّ من المسلم
اسرار ازل را نه تو داني و نه من | *** | و اين حرف معمّا نه تو خواني و نه من |
اندر پس پرده گفتگوى من و تو | *** | چون پرده بر افتد نه تو ماني و نه من |
و الكافر من فضل الصادق عليه السلام و علمه.
و لا ندري هل كان تسامح الصادق مع غير المسلم راجعاً إلى عرفانه و زهده، أو أنّه كان ينظر إلى الامور بمنظار شامل. و كان يريد الخير و العلم للجميع. و لهذا فهو يسمح لمن حضر درسه بأن يستمع إليه و لو كان غير مسلم.
و من الثابت أنّ بين تلامذته من كان صابئيّاً. و ذهب بعض الباحثين الاوروبّيّين - كما في «دائرة المعارف الإسلاميّة» - إلى أنّ جابر بن حيّان - و هو من أشهر تلاميذ الصادق - كان من الصابئة أيضاً.
و كان الصابئة في درس الصادق أذكياء، و كانوا يبذلون قصارى جهدهم لاستيعاب الدروس و فهمها، و تقدّموا في العلم، و بهذا استطاعوا وضع اسس علميّة ثقافيّة للصابئة. و بموازنة ثقافة الصابئة قبل عهد الصادق و بعده نرى فرقاً شاسعاً كالفرق بين النور و الظلمة.
و كان الصابئة قبل الصادق فئة متخلّفة لا تتجاوز معلوماتها معلومات البدو، حتى الموحّدين منهم فإنّهم لم يكونوا يعرفون الكثير و لم يكن علمهم يتجاوز علم البدويّ من العرب. لكنّهم أصبحوا بعد الصادق اولي ثقافة، و اشتهر علماء منهم في «الطبّ»، و «الفيزياء»، و «الكيمياء»، و «الهندسة». و نقرأ أسماءهم اليوم في دوريّات المعارف و المعاجم.
و إلى الصادق يُعزى الفضل في أنّ الصابئة الغارقة في الجهل و الحرمان قد أصبحت طائفة متقدّمة متمدّنة اشتهر كثير من أبنائها في ميادين العلوم المتباينة، كما انتفع العالم بثقافتهم و علمهم. و بفضل إشعاع مدرسة الصادق بقيت لهؤلاء القوم شخصيّتهم الخاصّة و كيانهم المستقلّ.
و أمّا القوم الذين لا يعرفون عن أنفسهم شيئاً و يجهلون تأريخهم و ليس لهم ثقافة تميّزهم و رجال بارزون يعلونهم، فلا بد أن ينقرضوا.
أمّا الذين لهم تأريخ و يعرفون عن أنفسهم الشيء الكثير و لهم رجال لامعون و ثقافة تميّزهم فإنّهم لا ينقرضون. كما أنّ الصابئة لم ينقرضوا، و لهم وجودهم اليوم، و إن قلّ عددهم عمّا كان عليه سابقاً. و ما زال البعض منهم يعيش في المنطقة نفسها «حرّان».
هناك إجماع بين الشيخ أبي الحسن الخرقانيّ، و الزمخشريّ، و العطّار النيسابوريّ (و من الطبيعيّ أنّ العطّار كان بعد الخرقانيّ) على أنّ جعفراً الصادق هو قدوة العرفاء في التأريخ الإسلاميّ، و لا غرو أن يذكروه بعظيم الإجلال و الاحترام و الودّ.
و يمكن أن نعدّ الشيخ أبا الحسن الخرقانيّ باحثاً تاريخيّاً أيضاً، لأنّه تناول جذر العرفان في مباحثه و التفت إلى أنّ العرفان كان موجوداً في الشرق قبل الإسلام.۱
و بسبب اتّساع علوم الإمام و ضخامة مدرسته العلميّة وصفه الشيخ أبو زهرة المصريّ بأنّه أفضل من سقراط، و رآه وحيد عصره و ملجأ علماء زمانه في أنواع العلوم و أقسامها.
يقول الشيخ محمّد جواد مغنيّة: قال الشيخ أبو زهرة في كتاب «الإمام الصادق»: نشأ جعفر في مهد العلم و معدنه. نشأ ببيت النبوّة الذي توارث علمها كابراً عن كابر. و عاش في مدينة جدّه رسول الله صلّى الله عليه و آله فتغذّى من ذلك الغرس الطاهر و أشرق في قلبه نور الحكمة بما درس، و ما تلقّى، و بما فحص و محّص.
و كان قوّة فكريّة في عصره، فلم يكتف بالدراسات الإسلاميّة و علوم القرآن و السنّة و العقيدة، بل اتّجه إلى دراسة الكون و أسراره، ثمّ حلّق بعقله الجبّار في سماء الأفلاك، و مدار الشمس و القمر و النجوم، كما عني عناية كبرى بدراسة النفس الإنسانيّة. و إذا كان التأريخ يقرّر أنّ سقراط قد أنزل الفلسفة من السماء إلى الإنسان، فإنّ الإمام الصادق قد درس السماء و الأرض و الإنسان و شرائع الأديان.
و كان في علم الإسلام كلّه الإمام الذي يُرجع إليه. فهو أعلم الناس باختلاف الفقهاء، و قوله الفصل و العدل. و قد اعتبره أبو حنيفة استاذه في الفقه.۱
مراحل التشيّع و سبب التسمية بالمذهب الجعفريّ
ذكر الشيخ مغنيّة ثلاث مراحل للتشيّع و كيفيّة تبلوره و تمذهبه بالمذهب الجعفريّ.
الدور الأوّل:
قال: و الخلاصة أنّه بعد وفاة النبيّ اجتمع الأنصار في سقيفتهم يتداولون فيما بينهم، لتكون الخلافة فيهم و لهم دون قريش. فقصدهم أبو بكر، و عمر، و أبو عبيدة الجرّاح، و تمكّنوا من صرف الخلافة عن الأنصار إلى أبي بكر. و كان بنو هاشم في شغل بمصيبتهم و تجهيز الرسول. و عارض قوم من الأصحاب العارفين لحقّ عليّ، و أصرّوا على أن تكون
الخلافة له، و لكن القوّة كانت ضدّهم. فكفّوا عن المعارضة و أمسكوا و أظهروا التسليم، و لكنّهم بثّوا الدعوة لعليّ بين الناس، و نقلوا إلى الأجيال ما سمعوه من نصّ النبيّ على عليّ.
فالدعوة إلى التشيّع في هذا القرن كانت بسيطة ساذجة تماماً كالدعوة الإسلاميّة في هذا العهد لا فلسفيّة فيها، و لا شيء سوى حجج القرآن و السنّة النبويّة التي قبلها المسلمون الأوّلون، و آمنوا بها بدون جدال و تعليل و تأويل، و لا تعمّق في الشروح و التفاصيل، و لم يكن في هذا الدور فقه يعرف بفقه الشيعة، و آخر يعرف بفقه السنّة، و لذا لم يظهر أيّ فرق بين الشيعة و غيرهم إلّا في مسألة الخلافة، و إمارة المؤمنين. و كان الشيعة في هذا الدور يعرفون بالتقوى و الزهد، و مناهضة الظلم و الظالمين، و من هنا لاقوا من حكّام الجور ألواناً من التقتيل و التنكيل.
الإمام الصادق عليه السلام يجيب عن الأسئلة العلميّة و الشبهات
الدور الثاني
يبدأ الدور الثاني بعصر الإمام جعفر الصادق عليه السلام، و نعني به آخر الدولة الأمويّة، حيث دبّ فيها الضعف، و أوّل دولة العبّاسيّين، حيث تنفّس الشيعة الصعداء بعد الأيّام السود التي عاشوها مع الأمويّين، و أصبحوا على شيء من الحرّيّة و الأمن على أرواحهم و أموالهم. و اتيح لأئمّة أهل البيت أن ينشروا تعاليمهم في هذه الفرصة و الفرجة. فرواها الالوف، و تقبّلها الملايين إلى أن قام المنصور، فوضع في طريقها العراقيل، و عاد الأمر أشدّ و أسوأ ممّا كان في عهد الأمويّين إبّان قوّتهم و عظمتهم.
ازدحم الرواة و العلماء - في هذه الفترة - حول الإمام الصادق، و قصده الناس من كلّ قطر ينهلون من معينه، و يأخذون عنه شتّى العلوم
و المعارف.
و نقل الشيخ مغنيّة هنا مطالب من «أعيان الشيعة» للسيّد محسن الأمين، و «تأريخ الشيعة» للمظفّر. أمّا مطالب «الأعيان» فقد أوردناها في سياق الحديث. و أمّا مطالب المظفّر فقد ذكرها كالآتي: أحسن أيّام مرّت على الشيعة هي الفترة التي امتزجت من اخريات دولة بني مروان، و اوليات دولة بني العبّاس، في اشتغال الأمويّين بقتل بعضهم البعض، و في انتقاض البلاد عليهم، و في اشتغال بني العبّاس بالحروب مع المروانيّين تارة، و استتباب الأمن اخرى. فانتهز الشيعة هذه الفرصة للارتواء من مناهل علم الإمام الصادق، فشدّوا الرحال إليه لأخذ أحكام الدين و المعارف عنه.
إتاحة الفرصة للإمام الصادق عليه السلام من أجل بثّ العلم
و لقد روي عنه في كلّ علم و فنّ، كما تشهد به كتب الشيعة، و لم تقتصر الرواية عنه على الشيعة فحسب، بل روت عنه سائر الفرق كما تفصح بذلك كتب الحديث و الرجال ... .
و صارت الشيعة في غضون هذه الفترة تنشر الحديث، و تجهر بولاء أهل البيت. و ربا عددهم في مختلف الجهات. و لمّا قامت دعائم السلطان للمنصور، ضيّق على الإمام الصادق، و أراد أن يقطع الأصل ليكون به جفاف الفرع.۱
لقد وافق عصر الإمام الصادق حركة فكريّة بلغت الغاية في نشاطها و انتشارها. و ظهرت مقالات غريبة، و تيّارات أجنبيّة عن الإسلام تفشّت بين المسلمين، بخاصّة بين شبابهم بالنظر لاتساع رقعة الإسلام، و كثرة
الفتوحات التي فتحها العرب، و اندماجهم بالامم العديدة المتباينة في ثقافاتها و أديانها.
فكان الملحدون يلقون الشبهات، و المرجئة يساندون حكّام الجور، و المغالون يدعون مع الله إلهاً آخراً، و الخوارج يكفّرون المسلمين، و المتصوّفة يضلّلون و يراؤون، و المحدِّثون يضعون الأحاديث على رسول الله، و المؤمنون يريدون إيماناً واعياً. فكان الشغل الشاغل لقادة الدين أن يدافعوا عنه و يثبتوا صحّة العقيدة، و يفنّدوا مزاعم المبطلين، و يزيّفوا أقوالهم.
و كانت مدرسة الإمام الصادق عليه السلام أوّل من شعر بهذا الخطر، و أسبق من عمل لدرئه و مناهضته، فأخذت على نفسها الذبّ عن الحقّ و أهله، و حملت لواء الشريعة الإسلاميّة اصولها و فروعها، و تصدّت لكلّ مهاجم و معاند، و أعلنت حرباً لا هوادة معها على الغلاة،۱ و ناضلت ضدّ المعتزلة، و المتصوّفة، و المرجئة، و الخوارج، و الأشاعرة، و صحّحت لعلماء الكلام الذين حاولوا إثبات الدين كثيراً ممّا وقعوا فيه من الأخطاء.
و جرت بين هؤلاء من جهة، و بين الإمام الصادق و تلاميذه من جهة مناظرات و مجادلات كان الفوز و النصر فيها لمدرسة الإمام. فأثبت بالبرهان أنّ أقوالهم تبتعد عن الحقّ بمقدار صدودها عن الإسلام و تعاليمه.٢ لذا اتّجهت الأنظار إلى المعلّم الأكبر، و تشيّع له المفكّرون،
و حفظوا أقواله و دوّنوها، و اعتبروها الفصل بين الحقّ و الباطل، و بين الأصيل و الدخيل تماماً كأقوال جدّه الرسول صلّى الله عليه و آله.
و كان من نتيجة هذه الفترة و مرافقتها لتلك الحركات الفكريّة أن عرف المذهب صافياً على حقيقته في العقائد و التفسير، و الأخلاق و الفقه و اصوله، و أخذ التشيّع معناه و مجراه في إطاره العلميّ اصولًا و فروعاً. و قد كان المذهب في أشدّ الحاجة إلى هذا المتنفّس و المنطلق الذي صادف وجود الإمام، إذ لو أمكنت الفرصة و لم يوجد الإمام، أو وجد و لم تكن الفرصة ممكنة، أو تحقّق الأمران و لم تكن تلك الحركات الفكريّة، لم يكن لنا هذا التراث الضخم في شتّى العلوم الإسلاميّة، خصوصاً الفقه، بل لم يكن هذا التقارب بين الشيعة و السنّة في اصول الدين و مبادئ التشريع. فالفضل في استقلال المذهب و تركيزه كما هو الآن يعود للإمام الصادق بعد أن أسعفته الظروف، و مهّدت له السبيل.
و من هنا اطلق على الشيعة لفظ الجعفريّين، و على فقههم الفقه الجعفريّ.
نحن نؤمن و ندين بأنّ كلّ إمام من الأئمّة الأثني عشر عنده علم الكتاب و سنّة الرسول بكاملهما. و أنّه أعلم أهل زمانه على الإطلاق. و لكن العلم ليس بالسبب الكافي لبثّه و نشره ما لم تواكبه عوامل اخرى. و قد ساعد الإمامَ الصادقَ على بثّ علومه و معارفه العامل الحضاريّ من جهة، و فترة انتقال الحكم من الأمويّين إلى العبّاسيّين من جهة ثانية، و وجود رواة ثقات كثيرين يؤمنون بالصادق و يحسنون الأخذ عنه من جهة ثالثة، حتى ذهب بعض علماء الإماميّة إلى القول بتوثيق الأربعة آلاف راوٍ بدون استثناء. و قد يكون هناك عوامل اخرى خفيت علينا إلى جانب هذه العوامل التي استبانت لنا.
و على أيّة حال، فإنّ هذه الأسباب مجتمعة لم تتوفّر لأحد من الأئمّة غير الإمام الصادق. فقد كان للإمام عليّ حواريّون و أصحاب خلّص كميثم التمّار، و كميل بن زياد، و حجر بن عديّ، و محمّد بن أبي بكر و غيرهم، و لكنّه مُنيَ في خلافته بالحروب و الفتن الداخليّة. و لمّا انتقل إلى جوار ربّه عمل معاوية على طمس آثاره، و قتل رجاله، و القضاء على كلّ ما يمتّ إليه بسبب.
أمّا عهد الحسنين و الإمام السجّاد فهو عهد معاوية، و ولده يزيد، و زياد، و ابنه عبيد الله، و عبد الملك و شيطانه الحجّاج، عهد مذابح الشيعة و مجازرهم، و استشهاد أئمّتهم، عهد سمّ الحسن، و مذبحة مرج عذراء، و مأساة كربلاء، و وقعة الحَرَّة، و ما إليها.
أمّا الإمام الباقر فهو المؤسّس الأوّل لمدرسة ولده الصادق. فقد كان له أصحاب و تلاميذ من كبار التابعين و أعيان الفقهاء و المحدّثين يتحلّقون حوله للدرس في مسجد جدّه الرسول، و لكنّ الله سبحانه قد اختاره إليه قبل أن تبلغ هذه المدرسة الغاية في النموّ و الازدهار، فقبض في خلافة هشام ابن عبد الملك، و هو ابن ٥۷ سنة، فخلفه ولده الإمام الصادق، و توالت على مدرسته حظوظ و توفيقات شتّى، حيث ربا عدد تلاميذها على ما كانوا أيّام أبيه، و أصبح الذين يفدون إليها، و يهتدون بهديها يعدّون بالالوف.
و بعد الإمام الصادق عادت الظروف إلى قسوتها، و الحوادث إلى شدّتها على الأئمّة و شيعتهم، و لكن المذهب كان قد انتشر في كلّ قطر، و عرفت معالمه، و تركّزت اسسه، و حُفِظَ و دُوّنَ، و عمل الناس به منذ أيّام الصادق، حتى اليوم، و إلى آخر يوم.
و بالتالي، فإنّ مذهب أهل البيت تبلور و اتّخذ صورته واضحةً جليّةً، و ثبتت أركانه و دعائمه في عهد الإمام الصادق، و أصبح للشيعة فقههم
المستقلّ، و علماؤهم و رواتهم المعروفون، و آراؤهم الخاصّة بالتوحيد و العدل و عصمة الأنبياء و شفاعتهم، و بالجبر و الاختيار، و ما إلى ذلك. و تميّز مذهب التشيّع عن بقيّة المذاهب تميّزاً تامّاً كما تميّز مذهب المعتزلة عن مذهب الأشاعرة. أمّا أقوال بقيّة الأئمّة الأطهار منذ الإمام الكاظم إلى نهاية الغيبة الصغرى فهي إمّا تأكيد لأقوال الصادق، و إمّا متمّمة لبعض اصول المذهب أو فروعه. أمّا رجالات الشيعة في عهد الإمام الصادق و بعده فكان همّهم و اهتمامهم حفظ تعاليمه، و تدوينها و الدفاع عنها.۱
و اليوم لا يرتوي تفسير الشيعة الاثني عشريّة و علومهم فحسب من نمير الإمام الصادق عليه السلام، بل يرتوي منه أيضاً فقه السبعيّة «الإسماعيليّة» و تفسيرهم و علومهم على كثرتهم و وفور عددهم. و ما كتاب «دعائم الإسلام» للقاضي نعمان التميميّ المغربيّ إلّا نموذج لذلك الفقه على أساس روايات الإمام الصادق عليه السلام.
لذلك فالمذهب الجعفريّ مذهب مشترك بين الطائفة الشيعيّة الاثني عشريّة الحقّة المحقّة و الطائفة السبعيّة الإسماعيليّة التي أقامت مذهبها على العدد سبعة، إذ ذهبت إلى أنّ إسماعيل ابن الإمام الصادق، الذي توفّي في حياة أبيه، هو إمامها السابع.
لهذا تمييزاً بين هاتين الطائفتين أضاف العلماء الأعلام لفظ «الاثني عشريّة» بعد «الجعفريّة» و قالوا: الشيعة الجعفريّة الاثنا عشريّة.
معنى الإمام عند الشيعة و انحصاره بالائمّة الاثني عشر عليهم السلام
إن المقصود من الاثني عشريّة هم الذين يقرّون و يعترفون بإمامة اثني عشر شخصاً من أهل البيت عليهم السلام، و يجعلون ذلك ديناً لهم.
و يتواضعون أمام هؤلاء الأئمّة. و يرونهم اولي مَلَكَة العصمة، و يذهبون إلى أنّهم عِدل القرآن الكريم: كتاب الوحي السماويّ في حُجّيّة كلامهم. و في ضوء حديث الثقلين فإنّ كلامهم معصوم ككتاب الله. و كذا أفعالهم و أفكارهم. لا يصدر منهم خطأ، لأنّ جواز الخطأ عليهم يلازم سقوط الحجّيّة عن أقوالهم. و وفقاً للحديث المذكور الذي قرنهم بالكتاب الأبديّ الثابت الذي لا يقبل الخطأ فإنّ عصمة كلامهم و فعلهم أمر لازم لا يقبل الشبهة.
ذلك أنّنا لو فرضنا جواز الخطأ عليهم، فإنّنا إمّا نجيز هذا الخطأ على كتاب الله، و حينئذٍ يلازم ذلك فرض الخطأ في الوحي الإلهيّ و أزليّته و أبديّته، و هذا محال.
و إمّا أن نسلب احتمال الخطأ عن الإمام، و نراه معصوماً ككتاب الله، و عندئذٍ تثبت استقامتهم و عصمتهم في جميع مراحل حياتهم بدون أدنى خطأ أو أقلّ اشتباه سواء في الشؤون التبليغيّة و الإرشاديّة و الإمارة و الرئاسة على المسلمين، أم في الشؤون الشخصيّة و الاجتماعيّة كالمعاملات، و المقايضات، و أمثال ذلك.
غير المعصوم لا يُسمّى إماماً عند الشيعة
هذا هو معنى الإمام في الاصطلاح الشيعيّ. أي: زعيم العالمين و مقتداهم في الشؤون الظاهريّة و الباطنيّة، و الاجتماعيّة و المعنويّة الروحانيّة، و الملكيّة و الملكوتيّة. و قد وهبه الله الحصانة و العصمة اصطفاءً من لدنه ليكون زعيماً مقدّماً في جميع الامور.
و هؤلاء الأئمّة ينحصرون في اثني عشر شخصاً: أوّلهم الإمام عليّ ابن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام، و آخرهم الإمام الحجّة بقيّة الله: محمّد بن الحسن العسكريّ عجّل الله تعالى فَرَجَهُ المبارك.
و هو حيّ حسب عقيدة الشيعة الراسخة، و بيده ولاية الشؤون
المعنويّة و الملكوتيّة في العوالم، بَيدَ أنّه غائب عن الأنظار الآن بسبب غصب الغاصبين للخلافة و الإمامة، و يظلّ غائباً إلى أن يأذن الله تعالى بظهوره فيُقيل المتصدّين للسلطة على الناس باطلًا، و يتولّى حكومة الناس على أساس الطهارة السرّيّة و العصمة الإلهيّة و الولاية الحقّة الحقيقيّة الكبرى.
لهذا عدد هؤلاء الأئمّة اثنا عشر كنقباء بني إسرائيل، لا ينقص و لا يزيد. و العدد (۱۱) غلط، كمن يختم الإمامة مثلًا بالإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، و العدد (۱٣) غلط أيضاً، كمن يختار له إماماً غير الإمام المهديّ بقيّة الله أرواحنا فداه.
من الطبيعيّ أنّ هذا الموضوع يقوم على أساس معتقد الشيعة و مذهبهم و اصطلاحهم، لا كما ورد في اللغة و استعمال العامّة الذين يطلقونه على كلّ من كان زعيماً مقدّماً في أمر من الامور.
كما وردت في القرآن الكريم آيات بهذا اللفظ في المعنى المطلق للإمام و القدوة. كقوله تعالى:
وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً.۱
لفظ الإمام في هذه الآية يعود إلى مطلق المراد منه هنا طبعاً مطلق الإمام الصالح.
و قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ.٢ و اللفظ هنا أيضاً يراد به مطلق الإمام، المقصود هنا مطلق أئمّة الكفر.
و قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ.۱
و لفظه في هذه الآية يرتبط بمطلق الإمام أيضاً، سواء كان إمام الفجّار الذي يسوق الآثمين إلى النار يوم القيامة، أم إمام الأبرار الذي يقود الصالحين إلى الجنّة يومئذٍ.
علماً أنّ لفظ الإمام قد ورد في القرآن الكريم بمعنى الإمام حسب مصطلح الشيعة الإماميّة أيضاً، كقوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.٢
المراد من لفظ الإمام هنا هو المعنى الأخصّ له. و لهذا لا ينال الظالمون هذا المقام، و إلّا فمن الواضح أنّهم لا يحرزون مقام الإمامة بمعناها المطلق أيضاً.
أجل، إن لفظ الإمام و الإماميّة في عرف الشيعة هو خصوص المعنى المعهود و المعروف، لا مطلقه، و إلّا فلا معنى لإطلاق الإماميّة على الشيعة الاثني عشريّة. و كلّ جماعة تتبع مقتداها تُدعى الإماميّة حتماً كالحنابلة، و الحنفيّة، و الوهّابيّين، إذ إن لكلّ فرقة من هؤلاء إماماً. و لمّا كان مقتدوهم أبا حنيفة، أو أحمد بن حنبل، أو محمّد بن عبد الوهّاب، فلا جرم أن يقال لهم: الإماميّة أيضاً، و يكون إطلاق هذا اللفظ عليهم صحيحاً، في حين ليس الأمر كذلك.
إن لفظ الإماميّة يطلق على القائلين بولاية الأئمّة المعصومين الاثني عشر و إمارتهم. و يطلقه عليهم المؤرّخون بما فيهم مناوءوهم كأحمد أمين
المصريّ، و الشهرستانيّ، و فريد وجدي، و ابن خلدون،۱ و من شابههم. فإنّ هؤلاء يرون أنّ الإماميّة اصطلاح خاصّ لهذه الجماعة خاصّةً. و ذكر كلّ منهم فصلًا في كتابه حول الإماميّة. و عقّبوه بشرح مشبع يتناول مزايا المذهب الشيعيّ الإماميّ الاثني عشريّ، أو الإسماعيليّ و آثارهما و أخبارهما و خصائصهما.
و لهذا في ضوء عقيدة الشيعة الاثني عشريّة المؤمنة بحياة الحجّة عليه السلام و إمامته لا يمكن أن نطلق لقب «الإمام» على غيره.٢
الألقاب المختلفة لمجتهدي الشيعة على مرّ التأريخ
و في عرف الشيعة يطلق على المجتهدين العظام اولي الفقاهة و العدالة الجامعين للشرائط ألقاب نحو «نائب الإمام» و أمثاله. جاء في مجلّة «الحوزة»:
[كان المرحوم الكلينيّ يُدعى «ثقة الإسلام»، لأنّه كان متبحّراً في حفظ آثار أهل البيت و أحاديثهم.
و كان كلٌّ من الميرزا حسين النوريّ، و الشيخ عبّاس القمّيّ يسمّى «المحدِّث»، و أطلقوا على المرحوم الصدوق «رئيس المحدِّثين». و دُعي المرحوم السيّد محمّد مهدي الطباطبائيّ «بحر العلوم» لسعة علمه و غزارته. و اشتهر المرحوم الحسن بن يوسف الحلّيّ بـ «العلّامة» لجامعيّته في
الكمالات المختلفة و غزارة علمه في الفقه و الكلام.
كما عُرف المرحوم الطبرسيّ صاحب «مجمع البيان» بـ «أمين الإسلام»، و المرحوم الأردبيليّ بـ «المقدّس»، و المرحوم الشفتيّ بـ «حجّة الإسلام»، و الشيخ الطوسيّ بـ «شيخ الطائفة»، و صاحب «الكفاية» بـ «الآخوند»، و أبو القاسم نجم الدين جعفر بن محمّد صاحب «شرائع الإسلام» بـ «المحقّق» بسبب دراساته العميقة و نفاذ بصره في المسائل الفقهيّة.
و ألحق العلماء الذين كانوا يدركون المستوى العلميّ و الإيمانيّ للمرحوم الميرزا الشيرازيّ ألقاباً و أوصافاً باسمه الشريف، بسبب ما اتّصف به من علم، و بصيرة، و تقوى، و ما عرف به من جهود سياسيّة. و يعبّر كلّ منها عن بُعد من أبعاد شخصيّته.
۱ - حجة الإسلام: كان المرحوم الملّا أسد الله البروجرديّ المتوفّى سنة ۱٢۷۰ هـ، و الملّا محمّد النراقيّ، و المولى محمّد تقي المامقانيّ يتلقّبون بهذا اللقب قبل المرحوم السيّد محمّد باقر الشفتيّ البيدآبادي أحد مراجع أصفهان الكبار].۱
و يُلحظ أنّ أيّاً من هؤلاء و أمثالهم لم يلقّب بلقب «الإمام»، حتى الشيخ المفيد الذي لا خلاف عند الشيعة و العامّة في رئاسته العلميّة و الكلاميّة و زعامته، و الشريف المرتضى و الشريف الرضيّ مع زعامتهما الظاهريّة و منزلتهما عند السلاطين، و غزارة علومهما، و تقواهما الفريدة، و علوّ همّتهما و شهامتهما و مِنعَتهما التي استأثرا بها.
توصية البعض من اولي البصيرة بعدم استعمال لفظ الإمام
و من المناسب أن نذكر القصّة الآتية دعماً للموضوع و تأكيداً له: الرسالة الآتية هي الرسالة التي أرسلها لي صديقي العزيز المرحوم حجّة الإسلام و المسلمين صاحب العلم و التقوى و الشخصيّة الميرزا حسن النوري الهمدانيّ رحمه الله. و قد بعثها من قم إلى مشهد استجابة لطلبي، و و افتني في ٢۷ ذي القعدة سنة ۱٤۱۰ هـ. علماً أنّه كان قد شافهني بمضمونها و محتواها بعد عودته من لندن التي أمضى فيها مدّة ممثّلًا للمرحوم آية الله العظمى السيّد محمّد رضا الكلبايكانيّ،۱ و كنتُ يومها في طهران
و لم اغادرها إلى مشهد المقدّسة بعد. و طلبت منه أن يوافيني بها تحريريّاً رغبة منّي في ضبط محتواها.
و لمّا كانت الثورة الإسلاميّة في إيران قد انتصرت في ربيع المولد سنة ۱٣٩٩ هـ، و بعد سنة و شهرين غادرتُ طهران إلى مشهد، أي: في ٢٤ جمادى الاولى سنة ۱٤۰۰ هـ، لهذا كانت هذه الواقعة الواردة في رسالته المرسلة في شهر رمضان قد حدثت في شهر رمضان من السنة الاولى للثورة، أي: سنة ۱٣٩٩ هـ. و فيما يأتي نصّ الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا بَقيَّة الله أدْرِكنا
عند ما كنت في لندن جاء ذات يوم مستخدم البناية التي كنت أعيش فيها، و كان الوقت رمضان، و يبدو أنّه اليوم السادس عشر منه، فقال لي: جاء ثلاثة أشخاص و هم يريدونك. فنزلت إلى الطابق الأرضيّ حيث صالة الاستقبال فرأيت ثلاثة فتيان، عمر أحدهم ٢۸ سنة تقريباً، و عمر الآخرين بين ٢٢ سنة و ٢٣ سنة.
جلسنا للحديث. و كانت آثار الصلاح بادية في سيماهم. قالوا: جئنا لنأخذ منك القرآن حتى نقرأه، إذ لا يتوفّر في مكتبات البيع و المطالعة في لندن. فقدّمت لهم ثلاثة مصاحف، ثمّ ودّعوني و ذهبوا. و ما إن غادروا المكان حتى رجع أكبرهم إلى الباب فقال: لنا لقاء بأبي عبد الله الحسين عليه السلام مساء غدٍ، فهل لك من حاجة أو تريد أن تسأل عن شيء؟!
قلتُ: كيف يمكن أن يتمّ هذا اللقاء؟!
قال: أنت تعلم. القيَ في روعنا أن نقول لك. و أراد أن يرجع، فقلتُ له: إذا رغبتَ فاسأله عن ثورة إيران (كانت الثورة في سنيها الاولى) و ما ذا سيحدث؟!
قال: سألنا أمير المؤمنين عليه السلام عن ذلك في الاسبوع الماضي، فأسأل عن شيء آخر!
قلتُ: اسألوا عن الوقت الذي يظهر فيه وليّ العصر أرواحنا فداه فإذا سألتم فإنّي آخذ بعين الاعتبار موضوعاً أو موضوعين، فاسألوا عن جواب ذلك؟ ثمّ ذهبوا. و بعد أيّام جاءوا إلى ذلك المكان و كنت مشغولًا في محاضرةٍ فرأيتهم، و أنهيت محاضرتي بسرعةٍ، و أقبلتُ عليهم. فبدأ الحديث و سألتهم عن الأشياء التي كنت قد طلبتها منهم.
قالوا: أمّا مسألة الظهور، فكما جاء عنها في الأخبار و الأحاديث، و اختيار ذلك و علمه عند الله تعالى. و أمّا الأسئلة الاخرى التي كانت على بالي، فقد أتوني بأجوبة مساعدة عنها تقريباً.
و قالوا لي: و أوصاكم أن لا تسمّوا السيّد الخمينيّ إماما، بل سمّوه نائب الإمام، هكذا كما يبدو. و أعطانا دعاءً موجزاً نقرأه، و ذكر لنا موضوعاً آخر و أوصانا أن نخبرك به و لا تخبر به أحداً، و حكوه لي.
قلتُ: أنتم ذكرتم لي أنّكم كنتم قد سألتم أمير المؤمنين عليه السلام عن الثورة الإسلاميّة في إيران! فما ذا قال لكم؟!
قالوا: قال لنا: نحن رفعنا راية التوحيد أو راية لا إله إلّا الله (الشكّ منّي) في إيران، و سيمرّ الشعب الإيرانيّ بمحنٍ و ابتلاءات، فكيف يجتازها؟
قلتُ: ما هي طبيعة اتّصالكم؟! و كيف تلتقون بالإمام؟!
قالوا: لنا استاذ يرتّب لنا اللقاء، و يبلغنا بوقته. قلتُ: مثلًا كيف؟ و أين هو؟! فتلكّأوا و لم يتكلّموا أكثر من ذلك، أو قالوا: لا نستطيع أن نتكلّم.
و عند ما أرادوا الذهاب، قلتُ: متى سيكون موعدنا القادم؟!
قالوا: لا ندري! فلسنا مختارين. و لو قيل لنا: اذهبوا إلى إفريقية السوداء، لتحرّكنا فوراً، كما أنّ قدومنا إلى لندن لم يكن باختيارنا.
و ودّعوني و ذهبوا و لم يرجعوا.
هذا ما أذكره من اللقاء. و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته. علماً أنّ أكبرهم سنّاً كان يتحدّث معي أكثر منهم. أمّا الآخران فقلّما كانا يتكلّمان.۱
مكيدة المصريّين في تلقيب كاشف الغطاء بالإمام
أجل، لم نعهد أحداً من علماء الشيعة قد تلقّب بلقب الإمام إلّا المرحوم المغفور له سماحة آية الله الشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء الذي كان من المعاصرين للطبقة التي سبقتني. و مع أنّي لم أدرس عنده في النجف الأشرف، بَيدَ أنّه يعدّ في طبقة أساتذتي.
كان هذا الشيخ نسيج وحده في العربيّة و الأدب و الفقه و العرفان و الفلسفة و التفسير و التأريخ و الكلام، و بخاصّة في الدفاع عن حريم التشيّع. و كان ذا قلم قويّ و لسان بليغ في الخطابة و التدريس. و هو من أحفاد مالك الأشتر النخعيّ رضوان الله عليه صاحب أمير المؤمنين عليه
السلام.
و كانت له مدرسة مستقلّة في النجف الأشرف، و انتهت إليه المرجعيّة، إذ كان يقلّده كثير من العرب و قليل من العجم.
و كان مقدّماً على أترابه في الخطب من الدرجة الاولى و المجالس و المحافل الدوريّة للمسلمين، التي كانت تعقد تحت عنوان «الملتقي» أو «الندوة». و له مركز الصدارة فيها. و كان ذا كلام مؤثّر و خدمات جليلة يُحتفى بها.
و جملة القول، عند ما شارك في أحد المجالس المصريّة لقّبه المصريّون بالإمام على علم و عمد منهم لكسر هيبة الإمام و عظمته و عصمته عند الإماميّة. لقّبوه بهذا اللقب إذ كان الشخص الأوّل و المرجع التامّ لجميع العرب، و لغته الامّ هي العربيّة. و احتفوا به أحسن حفاوةٍ و بذلوا قصارى جهدهم في وسائل الإعلام من أجل إسماع أهل مصر و سائر البلدان بخبر قدومه إلى مصر.
و قد انطلت عليه مكيدة علماء مصر إذ لم يقصدوا من تلقيبه بالإمام المعنى المطلق الذي يستعملونه في أكابرهم، بل أرادوا الحطّ من شأن الإماميّة و الإمامة عبر تلقيبه بالإمام. و في السنة التي تلتها - أو المرّة التي تلتها - إذ عُقد ذلك الملتقى بمصر، دعا المصريّون عالماً آخر مزيّفاً من علماء النجف الأشرف و كان معروفاً بعمالته للنظام الحاكم يومئذٍ، و كان من طلّاب الدنيا و لم يتورّع عن الكذب، لكن معلوماته جيّدة نوعاً ما، و من أهل الحوار، و كان حسن اللسان، و كان أعجميّاً. دعوه بوصفه عالماً شيعيّاً. فلبّى الدعوة و توجّه تلقاء مصر، فلقّبوه بالإمام ككاشف الغطاء، و لم يدّخروا وسعاً في تكريمه بلفظ الإمام حتى انتهت مجالسهم و محافلهم.
و دلّ الجميع على أنّ هذا الرجل الذي لا حظّ له من العلم و العمل
و التقوى هو إمام الشيعة. لذلك فإنّ أئمّة الشيعة الوارد ذكرهم في التأريخ، و الذين يتبعهم جميع الشيعة بوصفهم المقتدين المعصومين، من أين نعرف أنّهم ليسوا كهؤلاء الأئمّة؟! كلّ ما في الأمر أنّهم اتّخذوا طابع الطهارة و النزاهة و العصمة بسبب بُعد الفترة الزمنيّة. و على تعبير العامّة: لم يدخلوا الماء لكنّهم سبّاحون مؤهّلون.
و نحن نلحظ عين هذه التهم منسوبة إلى الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين في كلمات أحمد أمين المصريّ.
و علم العارفون أنّ المرحوم كاشف الغطاء قد أخطأ في هذا الأمر و باع رسالته بقبوله لقب «الإمام» مع فهمه العميق و ذكائه و بصيرته النافذة. و أنّ ما كان يدافع عنه في كتبه قد ذهب أدراج الرياح بقبوله إلصاق هذا اللقب به. و جعل شخصيّته مضاهية لشخصيّة الإمام في خضمّ تيّار الآراء و الأهواء لشياطين مصر السنّة.۱
خُذْ يَا وَلِيّ غَدَاةَ العِيدِ وَ الطَّرَبِ | *** | قَصِيدَةً هِيَ لِلأعْدَاءِ كَالشُّهُبِ |
ألَا إن مِنْ يَوْمِ السَّقِيفَةِ عَمَّمُوا | *** | إمَامَ الهُدَى سَيْفاً مُقِيمَ الرَّوَاتِبِ |
ألَا إن مِنْ يَوْمِ السَّقِيفَةِ سُمَّ بِال | *** | نقِيعِ الإمَامُ المجتبى في المَشَارِبِ |
و رأينا بعد كاشف الغطاء أيضاً أنّ بعض العلماء الذين تصدّوا للمرجعيّة، و شيّدوا مدارس، زيّنوا مدارسهم بلوحة كتب عليها «مدرسة الإمام». و هنا يكون ميدان المسابقة و المغالبة طبعاً، فإنّ بعضهم طبعوا
رسائلهم باسم «الإمام الأكبر».
و العجيب أنّ لقب «علم الهدي» الذي عُرِف به الشريف المرتضى منحه إيّاه الإمام المهديّ في المنام، و لقب «بحر العلوم» الذي اشتهر به السيّد مهدي الطباطبائيّ البروجرديّ منحه إيّاه أعاظم زمانه. و مع هذا لم يُلَّقب أيّ منهما بالإمام، مع أنّهما كانا بلا شكّ إمامين بالمعنى اللغويّ و لهما صدارة محافل العلم و مجالس التدريس.
اختصاص لقب «اولي الأمر» بالمعصومين عليهم السلام
إن إمامة الإمام حسب منطق الشيعة تثبت من آية اولي الأمر التي يستفاد منها العصمة حتماً، بَيدَ أنّ السنّة يسمّون كلّ من تقلّد زمام الامور: وليّ الأمر، سواء كان معاوية، أم يزيد، أم فهد، أم صدّام، أم الحسن الثاني، أم حسين الأردنيّ، و مهما كانت أفعالهم و انتها كاتهم و مظالمهم. و يرونه واجب الإطاعة وفقاً لمفاد آية اولي الأمر. و لذا نلحظ ضروب الدمار التي حدثت و تحدث من هذا التفسير الخاطئ.
أمّا الشيعة فإنّهم يختصّون هذه الآية بأهل بيت العصمة باستدلال متين و برهان رصين و يقولون: محال على الله أن يأمر بطاعة الوليّ الجائر و الحاكم الظالم.
و يفرّق الشيعة بين ولاية النبيّ و الأئمّة الطاهرين عليهم السلام و بين ولاية الفقيه العادل الجامع للشرائط، و يستهدون بالقرآن و السنّة في تحديد معيار كلّ منهما و نطاقه.
إن منطق الشيعة هو أنّ في الآية المباركة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ،۱ طاعة الله هي طاعة كتابه و الأحكام العامّة التي أنزلها فيه كوجوب الصلاة. و طاعة الرسول هي أوّلًا:
طاعته في الأحكام الجزئيّة التي يشرّعها مثل كيفيّة الصلاة و عدد ركعاتها و شرائطها و موانعها. ثانياً: طاعته في أوامره الولائيّة المتعلّقة بجماعة المسلمين و حكومتهم كالأمر بالجهاد.
و لهذا لمّا كان رسول الله لا يشرّع الأحكام الكلّيّة، و كان ذلك مختصّاً بالله وحده فإنّ طاعة الله و طاعة رسوله المشرِّع للأحكام الجزئيّة قد وردت بتكرار لفظ الطاعة، إذ جاء فيها: أطيعوا الله، و أطيعوا الرسول! و أمّا طاعة اولي الأمر فتتمثّل في الشؤون الولائيّة و الاجتماعيّة للمسلمين، إذ ليس للأئمّة عليهم السلام حق التشريع حتى في الامور الجزئيّة، لكنّهم لمّا كانوا يشتركون مع النبيّ صلّى الله عليه و آله في وجوب إطاعة الأوامر الولائيّة، فقد أوجب الله طاعتهم مع رسوله في سياق واحد بلا تكرار للفظ الإطاعة، و قال: وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.
هذا البحث يدور حول ولاية رسول الله و الأئمّة و حجمها.۱ أمّا بشأن ولاية الفقيه، فلا دليل لنا من الآية القرآنيّة. و ما ذُكر حولها فهو مأخوذ من الروايات. و ذلك كافٍ و وافٍ بحمد الله و منّه. و أهمّ هذه الروايات التي تعدّ أساساً و محوراً لسائر الروايات هي مقبولة عمر بن حنظلة التي يمكن الاستهداء بها في فصل الخصومة، بل في سائر الامور الولائيّة التي تقع على عاتق الحاكم، و يتسنّى لنا أن نستنبط منها أيضاً حُجّيّة أوامر الفقيه في باب القضاء و الحكومة و الجهاد.
بَيدَ أنّنا ننبّه على نقطتين جديرتين بالذكر: الاولى: حكومة الوليّ الفقيه ليست في درجة حكومة الإمام و ولايته، إذ إن هذا النصب هو من
جانب الإمام، و المنصوب يخضع لولاية الناصب حتماً.
قول الإمام الصادق عليه السلام في المقبولة المذكورة فإنّي جَعَلْتُهُ حَاكِماً، يدلّ على أنّ الوليّ الفقيه منصوب من قبل الإمام المعصوم، و هو تحت ولايته.
الثانية: سعة الأوامر الولائيّة للوليّ الفقيه و إن كانت في نطاق الأوامر الولائيّة للإمام المعصوم و بمستواها، بَيدَ أنّ الخطأ جائز في ولاية الوليّ الفقيه، إذ إنّه كغيره من عامّة الناس لا يتمتّع بملكة العصمة و الحصانة من الخطأ، فيجوز عليه الخطأ. و يمكن أن يُخطئ في الامور الولائيّة، أو القضائيّة، أو الاستفتاءات. بَيدَ أنّ هذا الخطأ معفوّ عنه إن لم ينطلق عن عمدٍ أو تهاون. فلا هو يعذّب بعذاب الله، و لا الناس العاملون برأيه.
أمّا لو قصّر و أخطأ في مقدّمات استنتاج الفتوى فهو الذي يُعاقَب، لا الناس.
يقول الشيعة: إن الإمامة في عصر غيبة الإمام تختصّ به، و الوليّ الفقيه تحت ولايته، و ليس له أن يقوم بعمل من عنده تشريعيّاً أو تكوينيّاً. كما ليس له أن يسمّي نفسه إماماً. و إذا ثبتت نيابته الخاصّة فهو نائب خاصّ، و إلّا فهو نائب عامّ.
الفقيه غير معصوم و رأيه ليس أبديّاً
إن جميع الفقهاء و المجتهدين العظام عند الشيعة يجوز عليهم الخطأ، أيّاً كان منهم: الشريف المرتضى و الشيخ المفيد، أو الشيخ الطوسيّ و العلّامة الحلّيّ، أو السيّد ابن طاووس و السيّد بحر العلوم.
و لمّا كانوا يجوز عليهم الخطأ، فحجّيّة كلامهم تنحصر في زمان حياتهم. و المجتهد و إن كان في ذروة العلم و التحقيق و الحكمة بإقرار جميع الحاضرين و الغائبين لكنّ كلامه يسقط من الحجّيّة بمجرّد موته، و بترك الناس تقليده. لأنّه يجوز عليه الخطأ. و لعلّ كلامه خاطئ، بَيدَ أنّ كلامه
الخاطئ هذا حجّة على الناس في حياته، ذلك أنّ الإمام المعصوم جعله حجّة في حياته. لكن لا نيابة له من قبل الإمام بمجرّد موته، كما أنّ كلامه يزول بزوال حياته.
أمّا الإمام المعصوم فليس كذلك، إذ إن كلامه هو عين الحقّ و الواقع. لهذا يبقى حيّاً ذا حجّيّة بموته كالآيات القرآنيّة فإنّها حيّة دائماً و أبداً من حيث العصمة.
كلام النبيّ و الإمام حيّ و حجّة سواء كانا حيّين أم ميّتين. و كلام إمام الزمان حيّ و حجّة سواء كان حاضراً أم غائباً.
أمّا كلام آية الله الخمينيّ قدّس سرّه و رأيه و أمره و فتواه فليس كذلك، إذ يفقد كلامه و فتاواه درجة الاعتبار بمجرّد موته. و يجب على عامّة الناس الرجوع فوراً إلى المجتهد الحيّ الأعلم الجامع للشرائط و أخذ الأحكام و المسائل منه، و الخضوع لأوامره الولائيّة.
و كما كان أمره في حياته بشأن الحرب و السلم تابعاً لذلك الزمان، فكذلك فتاواه و آراؤه. فهل من المعقول أن يقول أحد: لمّا كان السيّد الخمينيّ شجاعاً بصيراً عارفاً بامور الناس و المسلمين، و أمر بالحرب، فعلى الناس أن يحاربوا بعد وفاته أيضاً؟!
أجل، ذلك الرجل العظيم الشأن ليس معصوماً عند الشيعة، و يجوز عليه الخطأ كغيره من المجتهدين. و لمّا كان مقرّاً و معترفاً بإمام العصر و الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف فهو مقرّ و معترف بوجود الإمام الذي هو حيّ و غائب الآن. و حينئذٍ كيف يرضى أن يتلقّب بلقب الإمام، و يتلقّى ذلك بقبول حسن، و يستسيغه منذ أوّل نشيد قُرئ عند استقباله في مطار مهرآباد بطهران (خميني أي إمام) (= الخمينيّ، أيّها الإمام!) حتى آخر لحظة من حياته؟!
هل كان ذلك بسبب تصدّيه لحكومة المسلمين، فهو إمام المسلمين؟ و هذا لا ينسجم مع منطق الشيعة و حياة إمام العصر و الزمان الذي له سيطرة و ولاية عليه و على الجميع.
هل كان ذلك لأنّ ولاية الفقيه عنده كولاية الإمام بعينها؟ و على فرض قبول هذه النقطة، فلا يتمّ رضاه بعنوان الإمام في مقابل إمام العصر و الزمان، و وجوده و الاستمداد من فيوضاته الظاهريّة و الباطنيّة. و ما ذا يضرّ لو كانت ولاية الوليّ الفقيه كولاية الإمام في حجمها و سعتها و نطاق حكومة الوليّ المذكور، لكنّه مع ذلك يكون نائبه، لا هو بذاته؟! و هل من المحال أن تكون نيابة النائب بقدر سلطة المنوب عنه؟!
هل كان ذلك لأنّ المقصود من الإمام هو المعنى اللغويّ و مطلق الزعيم، لا الإمام الأصل؟ و هذا يُستبعد من شخص خبير بصير فقيه حكيم متألّه مطّلع على جميع الامور و الأحداث. و هل كانت الألقاب الاخرى الدالّة على زعامته المطلقة كقائد الثورة الإسلاميّة الكبير، و مؤسّس الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، و أعلى مقام الاجتهاد و الولاية، و أمثال ذلك قليلة حتى يُختار لقب الإمام من بين تلك الألقاب جميعها؟!
و صفوة القول أنّنا لم نقف لحدّ الآن على سرّ هذا الأمر و حقيقته. لكنّا لمّا كنّا في صدد التعريف بالمدرسة الشيعيّة، فلا يمكن أن نتجاوز هذا الموضوع و نهمله.
و لو تغاضينا عن إطلاق لفظ الإمام في حياة ذلك المرحوم، لكنّنا كيف نتغاضى عمّن يريد أن يستغلّ هذا اللقب بعد مماته، و يُضفي على كلامه صبغة الأبديّة، و يخلّد فتاواه و آراءه.
هذا التوجّه خاطئ. أجل، إذا أرادوا أن يكتبوا و يتحدّثوا عن جرأته و شجاعته و علوّ همّته و استقلاله الفكريّ و تفانيه و نكران ذاته و بُعد نظره
و أمثال ذلك فليكتبوا و ليتحدّثوا ما شاءوا فهو قليل بحقّه. فلقد كان رحمه الله قدوة و اسوة في هذه الامور حقّاً و حقيقة. إلّا أنّه لا يمكن إضفاء صبغة الأبديّة على فتاواه كفتواه في حلّيّة الشطرنج، و حرّيّة الموسيقى المبتذلة التي تُبثّ من الإذاعة و الإذاعة المرئيّة و غيرهما. فهذا سدٌّ لباب الاجتهاد. و نكون كالسنّة حتى يبلغ الأمر في آخر المطاف ما بلغ عند الوهّابيّة. إن آية الله الخمينيّ يجوز عليه الخطأ. و في فتاواه الصحيح و السقيم. و هو مأجور في صحيحه، و أمره إلى الله في سقيمه. و ليس لنا أن نضفي طابع الأبديّة على فتواه، فنستند إليها إلى يوم القيامة كاستنادنا إلى رأي الإمام الصادق عليه السلام الذي هو عِدل الكتاب.
لقد كانت لي سوابق متألّقة مع ذلك المرحوم، و لم آل جهداً في إراءة الطريق و النصيحة له في حياته، كما أنّي أنظر إليه بنظرة الإعجاب في مماته، و أدعو له بالعفو و الغفران و الخير، و أقول في قنوتي:
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.۱
أنا لحدّ الآن لم اطلق على سماحته لقب الإمام في المجالس و المحافل، لا تكبّراً على مقامه المنيع الرفيع، بل مراعاةً لآداب المذهب. لكنّي استعملتُ اللقب المذكور في ثلاث رسائل كتبتها إليه، و كانت مليئة بالألقاب التي تليق به، مع ذلك اخبرت أنّ الرسائل لا تُقبل إلّا بذكر كلمة الإمام، فألحقتها بها.٢
رسالة انتقاديّة لكتاب «وظيفة الفرد المسلم ...»
و منذ الأيّام الاولى للعزاء المعقود بعد وفاته تحدّثت لطلّاب العلوم الدينيّة الأعزّاء في مشهد عن روابطي المهمّة و الحسّاسة به في تأسيس الحكومة الإسلاميّة و ذلك على شكل دروس ألقيتها في ستّ جلسات. ثمّ صدرت هذه الدروس تحت عنوان «وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام».
و قد أثنيتُ في هذا الكتاب على مواقفه الحسّاسة غاية الثناء، و لم أذكر فيه لقب الإمام، بل أشرتُ إلى بعض أخطائه في هذا الطريق الذي كنّا فيه معاً منذ قديم الأيّام. علماً أنّي لم أقصد تبيان الخطأ، بل تبيان التأريخ، إذ إن هذه الدروس قد القيت على شكل سردٍ تاريخيّ متسلسل. و من الطبيعيّ أنّ تبيان بعض الألفاظ كان يستلزم هذا المعنى.
و أرسلتُ نسخة من الكتاب المذكور إلى سماحة آية الله الخامنئيّ، لأنّي كنتُ قد سمعتُ أنّه ينتظر مطالعته، و كذلك أرسلتُ نسخاً متعدّدة منه للأصدقاء التوّاقين إلى فهم الواجب بعد وفاة ذلك الرجل الكبير. علماً أنّهم كانوا من معارفي. كما أرسلتُ نسخة منه إلى أحد أرحامي القريبين الذي يتمتّع بمنزلة علميّة، و كان يتفانى معنا بصدقٍ قبل الثورة من أجل تأسيس الحكومة الإسلاميّة. و بعد الثورة كان سبّاقاً في وضع الحجر الأساس لها
و رفع المحن عنها، و تصدّى لبعض المهامّ الرسميّة، و كان يُدَرِّس أحياناً، و هو الآن عضو في مجلس الشورى الإسلاميّ.
و لعلّ الكتاب المذكور غير صحيح عند البعض الذين ينظرون من زاوية واحدة و قد عاتبوني هاتفيّاً، بخاصّة اثنان من الأحبّة من علماء شيراز. و كان مثيراً للسؤال عند البعض إجمالًا، إذ ما هو الباعث على صدور الكتاب بعد وفاة ذلك القائد مباشرة؟ بَيدَ أنّ من يعرفني و يفهم منهجي يعلم أنّ ذلك الكتاب لم يكن إلّا لتبيان التأريخ الصحيح، و بيان المهمّة الحاليّة التي تقع على عاتق عامّة الناس بعد تلك الحادثة المؤلمة و الكارثة المؤسفة.
و راسلني ذلك القريب المحترم سريعاً برسالة ذكر فيها ما وقف عليه من إشكالات و نقاط ضعف، علماً أنّه أثنى على أصل الكتاب، و أجبته في حينها.
و لمّا كانت الرسالة و جوابها ليسا خاصّين، بل هما عبارة عن إشكال و رفع لذلك الإشكال، لذا ينبغي الاطّلاع عليهما و مطالعتهما كأصل كتاب «وظيفة الفرد المسلم ...»، و كنت قد اكتفيت برسالتي في جواب الهاتف الذي وافاني به ذانك العالمان الشيرازيّان، لذلك من المناسب أن أنقل فيما يأتي نصّ الرسالة و جوابها بلا أدنى تغيير:
بسم الله الرحمن الرحيم
سماحة العلّامة المفكِّر آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ دامت بركاته، الحاجّ السيّد ... الكريم المكرّم سلام عليكم، سلام الله و رحمته و بركاته المتتابعة عليكم.
طالعتُ كتابكم الموسوم «وظيفه فرد مسلمان در احياي حكومت
إسلام» (= «وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام») بدقّة و استفدتُ منه. وَ لَكُمُ السَّبْقُ وَ لَكُمُ الشُّكْرُ وَ الأجْرُ. و حقيق بهذا الكتاب أن يكون من أفضل وثائق الثورة، فينوّر أفكار الجيل المعاصر و الأجيال القادمة و يُطلعها على المشاقّ و المحن التي مرّت على الثورة. بَيدَ أنّي لاحظتُ فيه نقاطاً قلّلت من قيمته، و كان حريّاً بالمؤلّف المحترم أن يتناولها بالحديث:
۱ - أعتقد من وحي حبّي و ودّي القديم لكم أنّكم قد أصبتم في قولكم «يشهد الله أنّي ما كتبت شيئاً إلّا و هدفي المقدّس هو عظمة الإسلام و إحقاق الحقّ و الدفاع عن حقوق المظلوم و إبراز الحقيقة». (ص ۱٥٥).
و تعتقدون بحقّ «أنّ لحاكم المسلمين مزايا و مواصفات. و بمجرّد وصف الشخص بأنّه حاكم إسلاميّ، تتغيّر المهمّة الإلهيّة، و تكون الدقّة في العمل، و ينبغي احترامه، و تجب طاعته و اتّباع أمره» (ص ۱۷۰).
«أي: أمره أمر الله، و أمر رسول الله، و احترامه و إعزازه أيضاً احترام رسول الله و إعزازه، و لا يجوز التخلّف عن ذلك».
٢ - من هنا كان حقيقاً بكم في كتاباتكم عند ذكر سماحة قائد الثورة الكبير أن تذكروه بتعظيم و تبجيل وافيين، و تراعوا احترامه و إعزازه المفروض، فلا يشعر القارئ غير المطّلع بوجود امتهانٍ له أو عدم اكتراث به.
بخاصّة في النصّ الوارد بشأن الشيخ حسن سعيد دامت معاليه و المذكور لأحد المراجع الماضين «سماحة آية الله البروجرديّ»، و تقدّر خدماته و تُشكَر بإضافة كلمة «سماحة»، فمن اللائق أن تذكر كلمات التقدير و الشكر أضعافاً مضاعفة لقائد الثورة الإسلاميّة الكبير و المرجع الشجاع العظيم. و يُلحظ هذا التقدير و الخضوع و الطّاعة و الاحترام عند ذكر اسمه المقدّس.
٣ - اعترضتم على الشاه المقبور أنّه: لم يطلق عبارة «آية الله» على العلماء، بل أطلق عبارة «حجّة الإسلام» ... و هذا الاعتراض سديد و ممدوح. و عند ما يرفض العرف استعمال مثل هذه الألقاب و يرى فيها ازدراءً و امتهاناً، فهل يجدر بكم في هذا النصّ الثمين أن تذكروا اسم قائد الثورة الكبير في مصافّ أسماء تلامذته كآية الله الآذريّ و آية الله اليزديّ بمستوى واحد؟!
٤ - إن حذف الكلمات التشريفيّة نحو «الإمام» و «إمام الامّة» التي ألفها العرف و تداولتها الألسن يعتبر إهانة له في منظار محبّيه و مواليه، بخاصّة أنتم ذكرتم «الإمامة و الإمارة» مترادفتين في هذا الكتاب. (ص ۱٦٩).
و عند ما يُطلق على المتقدّم الذي يؤمّ المصلّين إمام الجماعة، فَلِمَ لا يمكننا أن نطلق على مثل هذا القائد الشجاع المقدام إمام الامّة؟!
٥ - كنتم و ما زلتم تعتقدون بحقّ «أنّ الإسلام قد تجسّد في شخصه» (ص ٩٣)، و أنّ أيّ مسّ لهذا الوجه المتألّق مسّ للإسلام و المسلمين. لكنّكم عملتم خلاف عقيدتكم و رأيكم، و خلاف حرصكم على الكتمان مراعاةً لحرمة بعض الأشخاص. و لم تصرّحوا باسمه و قلتم: «أحد علماء طهران المعروفين» و «بعد اللّتيّا و التي» (ص ۸٩) ... و سردتم مسائلَ يُشمّ منها هتك لحرمة القائد و ولايته عمداً أو سهواً. (ص ۸٩). مثلًا قلتم: إنّه قال: «لقد زللنا في هذا الطريق». و قلتم في بياناته الاولى (ص ٩٣): «لكن وردت فيها موضوعات لا تخلو من إشكال» و نقاط اخرى غيرها ... (ص ٥٥). و من الطبيعيّ أنّ تبيان هذه المسائل و التذكير و النصيحة امور ضروريّة، بَيدَ أن نشرها في كتاب من قبل ثقةٍ أمثالكم - بعد تسنّمه القيادة - سيكون حربة بِيَدِ الأعداء، و سيستفيد منه أعداء الدين قبل أوليائه! أ ليست النصيحة أمام الملأ تقريعاً؟!
٦ - بشأن «طَيِّب» [اسم شخص] الذي غسل عاره و طهّر ماضيه بدم استشهاده و شهامته، لا يبدو مستحسناً أن تفضحوه و تكشفوا سوابقه بألفاظٍ من قبيل قولكم: «كان طيّب شرّير طهران الشاذّ (ص ۸٣)». و «كان طيّب الأوّل في كلّ سيّئة تتصوّرونها» ... (ص ۸٥).
و أنا أتذكّر أنّكم كنتم تقولون على المنبر: إن الله يكتم سيّئة عبده حتى على نبيّه فلا يعلم بها. و مضافاً إلى ذلك أنّي لنا أن نعلم بأنّ «طيّب» كان الأوّل في كلّ سيّئة؟!
۷ - تحدّثتم جيّداً حول قيادة سماحة آية الله الخامنئيّ الذي شهد خبراء الامّة باجتهاده. و أدّيتم ما عليكم بضرورة اتّباع الوليّ الفقيه من خلال تلك الإشارات الموجزة المعبّرة، و أحسنتم و أجدتم في ذلك.
لكن لمّا كانت ولاية الفقيه و الوليّ الفقيه ركن الحكومة الإسلاميّة و محورها و كان إعزاز الوليّ الفقيه و إكرامه هو إعزاز لأمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام و إكرام له، فمن المناسب أن تذكروا اسمه - و هو المتولّي لشؤون القيادة - بتشريف و تفخيم أكثر، و تستندوا إلى كلمات فقيدنا الإمام الراحل بحقّه.
۸ - يتسنّى لنا أن نقول بكلّ ثقة و اطمئنان: إن هذا الكتاب من أفضل وثائق الثورة الإسلاميّة بعد تدارك الملاحظات السابقة و أمثالها. و بعد هذا التلافي يمكن أن يكون مشعلًا وهّاجاً ينير الطريق للمسلمين ليقيموا حكومة إسلاميّة من خلال جهودهم المتواصلة.
٩ - لقد عرضتم هذه الامور استنارةً بحديث شريف ذكرتَه في آخر الكتاب و هو يُلزم بالنصيحة لأئمّة المسلمين.
في الختام أدعو الله تعالى لكم بدوام التوفيق و مزيد العزّة و الكرامة
في الدنيا و الآخرة إنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.۱
التوقيع بالاسم المعروف
التوقيع بالاسم الموجود في الجنسيّة
۱٦ رمضان المبارك سنة ۱٤۱۰ هـ. ق.
الردّ على الانتقاد
و أمّا الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
و صلّى الله على سيّدنا محمّد و آله الطيّبين الطاهرين، و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
جناب المكرّم المبجّل سيّد الفضلاء العِظام فخر العشيرة الفخام ... دامت معاليه.
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
أدام الله سبحانه توفيقكم و تسديدكم و أنعم عليكم بطيّ مراقي العلم و العمل و الارتواء من منهل العلم و العرفان كما ترومون. و افتني رسالتكم الكريمة و اطّلعتُ على ما فيها. و كانت نقداً و تحليلًا لكتاب «وظيفه فرد مسلمان در احياي حكومت اسلام» (= «وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلام»). الذي أهدينا كموه و طالعتموه.
و مجمل ما أقوله في دفع الشبهات:
لقد تضمّن كتابي المذكور تكريماً وافياً للفقيد سماحة آية الله الخمينيّ قدّس سرّه. و عتابكم عَلَيّ أنّي لم أستعمل كلمة «الإمام» أو «إمام الامّة» و هي كلمة غير صحيحة.
استدلال خاطئ على جواز التلقيب بالإمام
إذا جاز استعمال كلمة «الإمام» لغويّاً، فهي عند الشيعة منحصرة اصطلاحاً بالأئمّة الاثني عشر اولي العصمة المنصوبين بالنصّ النبويّ. فلهذا تسمّى هذه الطائفة من الشيعة بالإماميّة، و إلّا فإنّ إطلاق الإماميّة عليهم كان لغواً. و ينبغي أن يكون كلّ طائفة إماميّة لوجود الإمام فيها.
و قد اعترف بهذا مخالفونا كأحمد أمين المصريّ الذي ذكره في كتبه. و اطلق لفظ «الإمام» في الروايات المأثورة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام على الأئمّة الاثني عشر فحسب على عكس الإمام المضاف مثل إمام الجماعة، و إمام الجيش، و هو بمعناه اللغويّ لا الاصطلاحيّ.
و لدينا ألفاظ كثيرة عدلت في الاصطلاح عن معناها اللغويّ و حُرِّم استعمالها في غير معناها الاصطلاحيّ كلفظ «أمير المؤمنين» الذي يمكن إطلاقه لغة على كلّ من كانت له إمارة على المؤمنين، أمّا اصطلاحاً (و واضعه رسول الله نفسه) فيحرم إطلاقه حتى على الأئمّة الطاهرين بما فيهم بقيّة الله في الأرضين (الإمام المهديّ عليه السلام)، إذ هو من الألقاب الخاصّة بعلي بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة و السلام. و كذلك لفظ «بقيّة الله»، و «المهديّ»، و «صاحب الزمان» فلا يحظر إطلاقها على المتّصف بها، أمّا في اصطلاح الإماميّة و الشيعة الذين أخذوا مذهبهم من الأئمّة فلا يجوز إطلاقها إلّا على الإمام المهديّ عليه السلام.
و تحدّثتُ عن هذا الموضوع في أجزاء من كتابي «معرفة الإمام» بخاصّة في الجزء الأوّل موجزاً، و في الجزء الرابع عشر مفصّلًا.
علينا لا سمح الله ألّا نضحّي بالحقائق في سبيل أهوائنا و نزواتنا و إلّا فقد خسرنا بلا مبرّر، و بعنا رسالتنا بلا عوض. كُلُّ شَيءٍ جَاوَزَ عَنْ حَدِّهِ انْعَكَسَ إلى ضِدِّهِ.
و يرى المذهب الشيعيّ الإماميّ الاثني عشريّ أنّ إمام العصر و الزمان
إمام و هو حيّ يُرزق. و لا يجتمع سيفان في غمدٍ واحدٍ. و سنخجل أمامَ الإمام الحيّ الذي نراه إماماً منذ عصر النبيّ إلى الآن لكنّا نعرض عنه و ندعه جانباً لا سمح الله في العمل، و نلصق بأنفسنا عنوانه الخاصّ به.
و جاء إتباع لفظ الإمارة للإمامة في كلامي الدائر حول لزوم البيعة، في بحث إمامة الإمام المعصوم - و الإمارة شرط للإمامة طبعاً - لا في بحث ولاية الوليّ الفقيه و حكومته. و صِدْقُ عنوان الحكومة و الإمارة هناك لا يستلزم صِدق عنوان الإمامة. و إلّا فلا معنى لفصل البحث تارةً بوصفه بيعة الإمام، و اخرى بوصفه بيعة الوليّ الفقيه، و يُختم كلّه في لزوم بيعة حاكم الشرع.
و تحدّث الدكتور حسن روحاني مرّةً في مجلس فاتحة اقيم بمناسبة استشهاد المرحوم السيّد مصطفى الخمينيّ زاده الله علوّاً و مرتبة فاستدلّ بالآية الكريمة وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ،۱ التي تفيد أنّ الله أعطى إبراهيم عليه السلام منصب الإمامة بعد ابتلائه بذبح ولده إسماعيل، فدعا إلى إطلاق كلمة «الإمام» على السيّد الخمينيّ بسبب استشهاد نجله السيّد مصطفى.
و لا يتمّ هذا الاستدلال، إذ إن الله تعالى هو الذي منح إبراهيم ذلك العنوان و أدّاه بقوله: إنِّي جَاعِلُكَ. و الله سبحانه الذي ترك الإمام المهديّ حيّاً و جعله ملجاً و ملاذاً و موئلًا و منجياً، لا يجعل إماماً آخراً إلّا على سبيل النيابة. لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ.٢
و نلحظ في الكتب المدرسيّة اليوم أنّ الطلّاب يكتبون - من جهةٍ -: الأئمّة اثنا عشر، و ثاني عشرهم حيّ غائب عن الأنظار، و من جهة اخرى يكتبون عبارة «الإمام الخمينيّ» كذا و كذا. و سألني هؤلاء الطلّاب مراراً: أ ليس من الخطأ أن نقول: الأئمّة اثنا عشر، و هم ثلاثة عشر. فلم أحِرْ جواباً عن سؤالهم حقّاً.
لقد شيّدوا قبر آية الله الخمينيّ قدّس سرّه بما نلحظه من تنظيم و صحن و رواق و مسجد و مكتبة و غيرها. و هذا ليس مهمّاً مقلقاً. فالقلق إذا كتبوا له لا سمح الله زيارة مفصّلة و نصبوها على قبره كإمام أو كإمام الامّة، فيكون في مصافّ الإمام الرضا عليه السلام. و هذا ما يبدّل تأريخ التشيّع للجيل القادم.
كانت في شخصيّة الفقيد السعيد آية الله الخمينيّ قدّس سرّه ملامح متألّقة ساطعة إلى درجة أنّ الإنسان إذا أراد أن يقوم بدراستها دراسة وافية، فإنّها ستكون كافية لهذا الجيل و الأجيال القادمة، و هي في غنى عن هذه الامور الاعتباريّة الموضوعة غير الحقيقيّة.
أمّا «طيِّب» فإنّي عند ما ذكرته أردتُ أن ابيّن للمتقدّسين المزيّفين أنّ هذا الرجل الذي كان لا يرعوي عن كلّ إثم قال من وحي غيرته الفطريّة الوجدانيّة: «أنا لا أتّهم السيّد». و يتعذّر الكلام عنه إجمالًا بلا ذكر لسوابقه.
فالتلميح أو التصريح بآثامه التي كان يرتكبها علناً و تشهد بها المناطق التي كانت حمى له كالأحياء الشعبيّة و مخزن القمح و شارع خراسان، إنّما يزيد شهامته و شجاعته، إذ تنازل عن جميع المناصب، و لم أقصد لا سمح الله بثّ الفحشاء و ذكر الموتى بسوء.
نحن نتوقّع من الجمهوريّة الإسلاميّة أن تنوّه باسمه كما تنوّه باسم «تختي». و كنتُ أوّل من زار قبره بعد إعدامه رمياً بالرصاص، إذ ذهبتُ إليه
و استمددتُ من روحه الرفيعة و استقامته و استشفعتُه إلى الله كي يختم عاقبتنا بخير و يصوننا من الهواجس النفسانيّة و الهزاهز الخادعة التي تغرّ المرءَ بنحو من الأنحاء، و يؤتينا كتابنا بيميننا صحيحاً سالماً. و الآن كلّما أتشرّف بزيارة السيّد عبد العظيم الحسنيّ عليه السلام أزور قبره أيضاً رحمة الله عليه رحمة واسعة.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.۱
نسأل الله تعالى أن يوفّقنا و إيّاكم لما يُحبّ و يرضى، و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.
۷ شوّال ٤۱۰٢
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
ليس بإمكان المؤرِّخ من سرد التأريخ ناصعاً
أجل، كيفما كان كتاب «وظيفة ...» فهو هو. و قد تكفّل بسرد سلسلة من الوقائع التأريخيّة بدون أدنى تزويق. و دلّ على هويّة الثورة، و استبان واجب كلّ شخص كما هو حقّه. و إن أقلّ تغيير فيه يسقطه من بساطته و صفائه و نقائه و يجعل تاريخاً صحيحاً يفلت من يد مؤرّخ محايد.
أ لم نعلم أنّ الحكومة الإسلاميّة تُقام على أساس حكومة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. و قواعدها هي عين الاستقامة و الصدق. و لو خرجت من هذا المحور فهي ليست حكومة عليّ. و ينبغي أن نُعْرَفَ داخليّاً و خارجيّاً كما نحن عليه. و الزيادة و النقصان يخزياننا و يشوّهان سمعتنا. ناشدتكم الله هلمّوا لا نتحمّس على الإسلام و المسلمين
أكثر من الحدّ المطلوب، فنتحمّس لصيانته و حفظه من خلال إشاعات كاذبة. و إلّا خسرنا في هذه المعركة، ذلك أنّ أعداءنا أشطن منّا و أمكر في الشيطنة. و لو أردنا إسقاطهم بالكذب و الشيطنة لخاطرنا بأنفسنا، إذ على فرض تفوّق شيطنتهم فإنّهم سيوقعون بنا.
إن سبيل تصدير الثورة هو الصدق و الصدق وحده بلا بثٍّ للدعايات، و هو الذي يُخضع الأجانب حتى اليهود و النصارى و سائر الحكومات الكافرة، و يستقطب الشعوب، لأنّهم يلمسون حقّانيّة الإسلام و نبيّه عمليّاً في وجودنا. بَيدَ أنّا إذا أردنا أن نخضعهم بغير الصدق فلن يتيسّر ذلك أبداً، لأنّهم يعرفون اسلوب الخداع و غير الصدق أفضل منّا، بل يظفرون بمعلومات جديدة حول كذبنا.
جاء في التأريخ أنّ الإنجليز لمّا اقترحوا على أحمد شاه قاجار مدّ سكّة الحديد من الجنوب حتى ميناء گز (= جز)، فإنّ السلطان أحمد شاه ذكّر بمثالب هذا السكّة، و قال: إن مصلحة السكك الحديديّة في إيران تستلزم مدّ السكّة من الشرق إلى الغرب، و إن تجارة الهند سوف تساعد إيران و صادراتها. بَيدَ أنّ سكّة الحديد التي تصل الجنوب بالشمال ذات بُعدٍ عسكريّ استراتيجيّ و ليست في مصلحة الشعب الإيرانيّ. و أنا لا أستطيع أن آخذ مال الشعب أو أستلف من الأجانب فأنفق على سكّة حديد يستفيد منها الإنجليز عسكريّاً فحسب.
فقال الوزير الذي أتى بالرسالة إلى السلطان: لا يمكن أن نجيب الوزير المفوّض للإنجليز بهذه الصراحة و نميت أمله! فليكن جوابنا أكثر مرونة من هذا و ألين منه.
تأمّل السلطان قليلًا، ثمّ قال: إن هؤلاء يعرفوننا أنا و إيّاك و غيرنا أفضل ممّا نعرف أنفسنا. و لو أجبناهم بغير هذا الجواب لعرفوا أنّنا
أجبناهم جواباً كاذباً. فالأفضل أن نجيبهم بهذه الصراحة و ليعلموا أنّي لا اوافق على خطّتهم أبداً.۱
أجل، دار الكلام حول تلقيب آية الله الخمينيّ قدّس سرّه بإمام الامّة، و اتّضح أنّ هذا اللقب لم يستعمل بمعناه اللغويّ، بل بمعناه الاصطلاحيّ «الإمام»، و إلّا فلما ذا لا يُلقّب قائد الثورة الحالي سماحة آية الله الخامنئيّ بالإمام؟ أ لم يكن زعيماً و قائداً؟!
إن الذين لقّبوا آية الله الخمينيّ بالإمام أرادوا أن يُضفوا عليه صبغة الإمامة، و يختاروا له لفظ «الإمام» أو «إمام الامّة». و هل هناك فرق بين لفظ «إمام الامّة» و لفظ «إمام الزمان»؟ لكن لمّا كان لفظ «إمام الزمان» ينقدح في الأذهان و يُراد منه إمام العصر و الزمان، فقد استبدلوا به لفظ «إمام الامّة».٢
لزوم المحافظة على المعالم الإسلاميّة كالمنبر و غيره
و من الأخطاء الاخرى لهذه الحكومة استعمال التأريخ المجوسيّ الشمسيّ و الشهور الاوستائيّة كارْديبهشت، و شَهْريوَر، و امرداد، و إسفند. و قد ألّفنا رسالة في هذا الموضوع بعنوان «رسالة جديدة في بناء الإسلام على الشهور القمريّة». و كانت رسالة مدعومة بالدليل و البرهان و لا تقبل الإنكار و التخطئة. و بعثنا نسخة مخطوطة منها إلى قائد الثورة الكبير (السيّد الخمينيّ). و بعد طبعها أهديناه أوّل نسخة منها، مع ذلك لم يُعِر اهتماماً لهذا الموضوع.
و من أخطائها الاخرى رفع المنبر، إذ رُفع في خطب صلاة الجمعة و غيرها و استبدلوا به المنصّة. و يقف الواعظ و الخطيب خلف المنصّة و يتكلّم.
لا منصّة في الإسلام، بل فيه المنبر الذي صُنع بأمر الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله من الأثْل المأخوذ من غابات المدينة (القصب) و هو
قويّ و خفيف،۱ ليتسنّى حمله للخطيب في صلاة الجمعة و العيد إذا اقيمت في الصحراء أحياناً. و لهذا جاء في السنّة أن يحمل المنبر من داخل مسجد المدينة في صلاة عيدَي الفطر و الأضحى التي يجب أن تقام خارج المدينة في القاع (أرض مكشوفة). و لا يقفِ الإمام أو نائبه على شيء آخر غير المنبر ليخطب في الناس. و عليه أن يقف على مرقاته الاولى و لا يجلس.
أمّا في سائر الأوقات، فيجلس المدرّس و الخطيب و الحكيم و المفسّر في أعلى المنبر للتدريس. و ينبغي أن تكون للمنبر ثلاث مراقي، لأنّ منبر النبيّ صلّى الله عليه و آله كان كذلك، و في طرفيه من الأعلى رمّانتان تعرفان برمّانتي المنبر. و من آداب زيارة مسجد النبيّ في المدينة تقبيل رمّانتي منبره و مسح العين بهما للاستشفاء، لأنّهما الموضعان اللذان كان رسول الله يضع يديه الشريفتين عليهما.
و في بعض المساجد المكتظّة تصنع لمنابرها خمس أو سبع مراقي بسبب الازدحام على ما يرى أصحابها.
و أوّل من قام بتكبير المنبر هو معاوية، إذ خرّب منبر النبيّ و خلط بعيدانه عيداناً جديدة و صنع له منبراً كبيراً.
و نقلنا في الجزءين ۱٦ و ۱۷ من كتابنا هذا «معرفة الإمام» عن ابن قتيبة الدينوريّ أنّ هارون الرشيد لمّا قدم المدينة قال لمالك بن أنس: ما تقول
في هذا المنبر؟ فإنّي اريدُ أن أنزع ما زاد فيه معاوية بن أبي سفيان، و أردّه إلى الثلاث درجات التي كانت بعهد رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم!
فقال له مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين! فإنّما هو من عود ضعيف قد تخرّمته المسامير. فإن نقضته تفكّك و ذهب أكثره ... إلى آخر الحديث!۱
أجل، إن «المنبر» و «المحراب» من شعائر الاسلام و لهما أحكام خاصّة و لا ينبغي رفع اليد عنهما. و لا يرتقي المنبر إلّا العالم بالشريعة و القرآن، المتولّي تربية الناس روحيّاً، المنزّه التقيّ العالم المعلّم المربّي للخاصّة و العامّة، و بيده الخلافة المعنويّة عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله.
المنصّة موضع لخطاب اللورد غلادستون، ذلك السياسيّ الدمويّ السفّاح عدوّ الإسلام الذي قام بتنشيط الاستعمار الإنجليزيّ ضدّ القرآن و الإسلام و نبيّه. و خطبه ما زالت في متناول الأيدي.
و المنصّة موضع لخطاب اللورد كُرزن وزير خارجيّة المستعمرات الإنجليزيّة الذي انتهج سياسة مشؤومة في أواخر العصر القاجاريّ للإطاحة بالاسرة القاجاريّة و تسليط الاسرة البهلويّة من خلال مؤامرة السيّد ضياء الطباطبائيّ، و بذل الأموال، و تسليم المخطّط المرسوم لنرمان الوزير الإنجليزيّ المفوّض في طهران فوضع غبار الذلّ على ناصية الشعب الإيرانيّ المسلم الشيعيّ المشرّد.
ما ذا رأيتم من منبر النبيّ و أمير المؤمنين و الإمام الصادق و علماء الدين الأبرار حتى تستبدلوا المنصّة به؟!
كان أوّل مَن وضع المنصّة في المسجد هو المرحوم السيّد محمود الطالقانيّ. فقد وضعها في مسجد «هدايت» الواقع في شارع «اسلامبول» و لعلّه فعل ذلك بتشجيع من بعض الدكاترة و المهندسين الذين كانوا يريدون أن يتحدّثوا لمناسبة المبعث النبويّ الشريف. فلا معنى لارتقائهم المنبر، لذلك تركوه و وضعوا المنصّة مكانة. و بعد ذلك لم تُرَ منصّة في مسجد من مساجد طهران حتى اقيمت أوّل صلاة جمعة في جامعة طهران، و هو الذي أقامها، فخطب خلف المنصّة و اهمل المنبر.
إن الشخص الذي يريد أن يدرّس ساعات كثيرة، أو يتحدّث و يحاور أشخاصاً معيّنين كقاضي المحكمة، و المفتي، و المتصدّي لشؤون الناس كالحاكم، فعليه أن يجلس حتى يستقرّ جسمه و يفرغ باله. و الوقوف المتّصل يضرّ الجسم، و يسبّب أمراضاً في الأوعية الشعريّة للرِجل، و نزف الدم في العروق يؤدّي إلى تمزّقها و يفضي إلى توسّع الأوردة(Varicosity) و هو ما يتعذّر علاجه.
كما يضرّ الوقوف المتّصل الفكر، إذ يُرهقه و يجعل قوّة التفكير عاجزة، على عكس حركة الإنسان و تشغيله فلا يقف في سكون دائم. من هنا فإنّ تغيير الحالة يرفع مثل هذه الأضرار.
و كان النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله يجلس و يتحدّث إلى الناس. و في الخطب القصيرة يقف و يتوكّأ على عمود الحنّانة و يخطب. و لو قُدِّر الاكتفاء بالوقوف وحده فلا ضرورة لصنع المنبر حينئذٍ.
و علينا أن نتّبع ذلك النبيّ العظيم دائماً لنضمن سلامة روحنا و جسمنا و ظاهرنا و باطننا. و لا ننسَ قوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً،۱ و لا نقايض أنفسنا و رسالتنا بالتنميقات الخادعة و العسل المُداف بالسمّ.
كم هو شاذّ في الأسماع عند ما يعلن المُوَقِّت أنّ أذان الظهر يوم الجمعة يُبثّ من خلف منصّة مسجد گوهرشاد!! لاحظوا فقد حلّت المنصّة محلّ المئذنة لا لفظاً فحسب، بل حقيقة و واقعاً.
يذكر الدكتور على شريعتي في رسالة «حركت تاريخ» مطالب معيّنة على أساس الهجوم و الدفاع إلى أن يقول: هذا هو الخطر. الخطر الذي نتحدّث عنه دائماً هو أنّنا عند ما نضع حقيقة خالدة في وعاء متغيّر يبلى فإنّ ملازمتها للوعاء تجعلها تقليداً و سنّة موروثة على تواتر الأيّام فلا تستطيع الأجيال القادمة أن تميّز بين المحتوى - العقيدة و الرسالة و الإيمان - و بين الوعاء - اللغة، و البيان، و المنطق، و العلوم، و السنّة، و الاستدلال-.
و لا بدّ أن ترى الاثنين لازماً و ملزوماً خطأ، و لمّا كانت هذه الأوعية لا يمكن أن تبقى في جميع العصور، و تبلى حتماً، فإنّها تذهب و تتقهقر. و هي غير قابلة للبقاء و الاستعمال ذاتيّاً. و إذا قصّر الجيل الواعي المعتقد العارف بهذا المحتوى - الإسلام و الدين - في إحيائها و استخراجها، و لم يجدّدها في أوعية بيانيّة و علميّة مناسبة لعصرها فقد بلى الوعاء و ما فيه.
على سبيل المثال لو اكتفينا بمنبر النبيّ صلّى الله عليه و آله ذي المراقي الثلاث. بعد بثّ الأصوات و الألحان و الأشعار و المحاضرات و ضروب الموسيقى على الأمواج الطويلة و القصيرة في أرجاء العالم، و انفعال منطقة واسعة من الكرة الأرضيّة بالبثّ الإذاعيّ و التلفزيونيّ،
و الصحف و المجلّات و مكبّرات الصوت و الأفلام فكريّاً، فإنّ أفضل و أعلى الكلام الذي نطرحه يظلّ في نطاق ضيّق و لن يباشر أسماع الناس في العالم.۱
نلحظ في هذا الاستدلال مغالطة واضحة. فشتّان بين أن نقول: ليبقى المنبر، و لا تبقى معه هذه الوسائل الإعلاميّة المكثّفة، و أن نقول: يلغي المنبر و تحلّ المنصّة مكانه، و تستتبعها جميع الوسائل المذكورة. و لم يقل أحد: ليبقى المنبر و لا تبقى معه الوسائل. و قال كبارنا: ليبقى المنبر و يتحقّق كلّ ضرب من ضروب الإعلام من عليه. و هذا أمر في غاية البساطة. و لا ملازمة بين ذهاب المنبر و ظهور الحضارة. و لا نقلق إلّا على ذهاب المنبر و استعمال المنصّة، فتحلّ حضارتهم محلّ الحضارة الإسلاميّة.
حافظوا على المنبر، و بثّوا ثقافتكم على البسيطة، بل إلى الأجرام السماويّة من عليه. لا تفرّوا من حجر امّكم فتكونون بلا امّ. حجر الامّ دافئ و ثير مأمون. و حجر الضَّرّة و المنصّة ذعر و خشونة و خطر.
لزوم لعن أعداء محمّد و آل محمّد صلوات الله عليهم في الخطب
و من الأخطاء الاخرى إسقاط لعن أعداء محمّد و آل محمّد الذي كان متداولًا ثابتاً ملازماً للصلوات على النبيّ و آله في الخطب و المحاضرات و الكتب و المجلّات. و ها هم اليوم يكتفون بالصلوات في كلّ مكان بذريعة الوحدة بين الشيعة و السنّة، غافلين عن أنّ ما يخالف الوحدة هو لعن بعض الأشخاص المعيّنين. أمّا لعن أعداء آل محمّد بنحوٍ عام فقد اتّفق جميع العامّة و الخاصّة على جوازه أو رجحانه. و إذا سألتم أبا بكر، و عمر، و عثمان
عنه لأجابوا بأنّه حَسَنٌ جدّاً، بَيدَ أنّهم يرون أنّ أعداء آل محمّد هم غيرهم، زاعمين الولاء لهم. حتى أنّ معاوية الذي كان يلعن عليّاً و حسناً و حسيناً و عبد الله بن عبّاس و قيس بن سعد بن عبادة و أمثالهم من الصالحين بزعم أنّ هؤلاء ليسوا أهل بيت النبيّ، بل إن أهل بيته زوجاتُه كعائشة و حفصة و اخته امّ حبيبة، و حينئذٍ لا محذور في لعن أعداء آل محمّد.
و من الأخطاء الاخرى حذف كلمة «السيّد»، و «الشيخ»، و «الميرزا»، إذ لا تُستعمل هذه الكلمات في الصحف و المجلّات و الكتب و وسائل الإعلام و بثّ الأخبار أبداً.
و لعلّ الباعث على ذلك هو أنّ هذه الكلمات عربيّة، و العربيّة لغة أجنبيّة، و نحن فُرس علينا أن نعود إلى اصولنا و لا نستخدم هذه الألفاظ!
و هذه ذريعة لا غير. فالحقّ أنّهم يتهرّبون من روح السيّد المرتضى، و السيّد الرضيّ، و السيّد ابن طاووس، و السيّد محمّد باقر الشفتيّ، و سائر السادات، و يتهرّبون أيضاً من روح الشيخ المفيد، و الشيخ الصدوق، و الشيخ الطوسيّ، و الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ، و الميرزا محمّد تقي الشيرازيّ، و الميرزا محمّد حسين النائينيّ، و أمثالهم؛ و يخشون ذكر أسمائهم و ألقابهم كنماذج للعلم و الألقاب البارزة للرئاسة في التشيّع و الإسلام.
و إلّا فإنّ عنوان «الدكتور» و «البروفيسور» يكثر في كلماتهم و تواقيعهم. إنّهم يعادون اللغة العربيّة خاصّة، لأنّها لغة القرآن الكريم، و لغة «نهج البلاغة» و الروايات و الفقه و التفسير، و لا شغل لهم بمطلق اللغة الأجنبيّة، و إلّا فلاحظوا هذه المفردات التي يستعملها العالِم و العامّيّ في المحادثة اليوميّة نحو «پاركينگ» (= موقف السيّارات)، و «پلاك» (= رقم المبنى)، و «فاميل» (= اللقب)، و «إيده» (= الفكرة أو العقيدة) و نظائرها
فإنّها تفوق الإحصاء.
إنّهم يقولون في الأخبار: آية الله عبد الكريم الحائريّ [إشارة إلى هذا العالم الذي أسّس الحوزة العلميّة في قم المقدّسة] و يُسقطون لفظ (الشيخ) منه و هو وثيقة عظمته و علمه و زعامته العلميّة. لكنّهم من المستحيل أن يسقطوا لفظ «الدكتور» و يقولون: السيّد محمّد حسين البهشتيّ، بل لا بدّ أن يقولوا: الدكتور البهشتيّ، و الدكتور مفتّح. و لا نتحدّث في هذا المجال عن الأطبّاء الذين استأثروا بلقب «الدكتور» منذ البداية و استعملوه بدل لقب «الحكيم»، بل عن الأخصّائيّين في الآداب أو الفلسفة الإسلاميّة إذ استبدلوا لفظ «المجتهد» الذي كان يعدّ مفخرة لهم سابقاً بلفظ «الدكتور»، حتى نجدهم يوقّعون بهذا اللفظ.
أجل، يحوم كلامنا حول كلمة «السيّد»، و «الشيخ»، و «الميرزا» التي تعتبر من مزايا الإسلام و الألقاب الخاصّة الدالّة على الرسالة الإسلاميّة، و التي لم تكن لتوجد لو لا الجهود المضنية التي بذلها شهداء الإسلام و التشيّع و علماؤها على امتداد أربعة عشر قرناً. و يا للخسارة أن نفقدها سدى!
إن رسالة التشيّع و الإمام الثاني عشر الغائب من أسمى الرسالات و أرفعها و أبلغها واقعيّة و أكثرها إمداداً بالحياة. و هي التي تعالج مشاكل البشريّة ليس في زمن الظهور فحسب، بل في زمن الانتظار و الفرج أيضاً، و تنقذها من المآزق التي لا محيد عنها و تأخذ بأيديها إلى الصراط المستقيم بفكر هادئ و بالٍ رخيّ و قلب مطمئن، و ترشدها إلى الهدف الأعلى الذي تنشده الإنسانيّة.
لما ذا ننسى إمام العصر و الزمان، و نكتفي بلفظ مجرّد له من خلال تبديلنا بعض الاصطلاحات؟! إن رسالتنا زاخرة بالحياة، و هي نعم الدواء المهدّئ الناجع للبشريّة. هذا الدواء الذي يعدو المرء خلفه و يجدّ في
استقصائه من كلّ جانب.
البروفيسور هنري كوربان يكتب: ما هي بشارة المذهب الشيعيّ للبشريّة؟!
كتب هذا الاستاذ الفرنسيّ المتخصّص بالشؤون الشيعيّة موضوعات رائعة تحت هذا العنوان، و هي تدور حول موقف التشيّع من العالم المعاصر. و أثبت فيها أنّ العقيدة المهدويّة التي يستند إليها الشيعة صحيحة كعقيدة النصارى بروح الله الضامن الحافظ للدين المسيحيّ. و هي حافظة لقوام الوجود البشريّ. و لا علاج لسنّة العالم جميعهم، بل للفِرَق بأسرها إلّا بالاستناد إليها. و على الناس قاطبة أن يرحّبوا بدخول هذه العقيدة في دينهم من أجل خلاصهم و نجاتهم.
حوار هنري كوربان مع أردنيّ مشغوف بالغرب
و كان هذا الرجل قد أجرى مقابلة مع أحد المسئولين الكبار في الأردن قبل أربعين سنة تقريباً. و أعرب في حديث موجز له أن سبيل نجاته و هدوء باله يتحقّق بالرجوع إلى المذهب الشيعيّ و قبول فكرة «الإمام الحيّ الغائب». و تحدّث له باستدلال في رسالة تدور حول هذا الموضوع.
و لمّا كانت هذه الرسالة الموجزة حاوية على ملاحظات دقيقة و عميقة، فمن المناسب - و قد سيق حديثنا إلى أفضل هديّة شيعيّة للعالَم برمّته - أن ننقل ذات عباراته كي يظلّ طريق التأمّل و الإمعان في هذه المطالب المستدلّ عليها مفتوحاً لُاولي البصائر و الألباب، يقول:
إن الموضوعات التي تحدّثنا عنها في الجلسة الماضية (٢۷ تشرين الأوّل ۱٩٥٩ م) قد الهمتُها في مقابلة كانت قد جرت مع أحد الشخصيّات الأردنيّة البارزة.
و كانت هذه المقابلة ذات أبعاد سياسيّة أساساً، لكن لا ضرورة
لانشغالنا بها. فالذي يهمّنا هو الوضع المعنويّ و الدينيّ.
إن ما ينبغي أن ينال اهتمامنا بعامّة، حسب رأيي هو ما يأتي:
لا يتمثّل الموضوع في دراسة الإسلام مُقايساً بما يُسمّى اليوم «التقدّميّة» بنظرة متفائلة أو متشائمة. فالتقدّميّة لم تسلم من شكّ كثير من الغربيّين منذ مدّة.
لا ضرورة أن نسأل أنفسنا: كيف يمكن الانسجام مع سِبق التقدّميّة المفروضة؟ بل نسأل أنفسنا: كيف يتسنّى لنا أن نواجه الكارثة المعنويّة العظمى التي عمّت قسماً كبيراً من البشريّة كما يبدو، و عرّضت الباقين للخطر؟
إن ما يدعو إلى الحديث حول شخصيّة أردنيّة هو أنّه نموذج بارز لشخصيّة شرقيّة ظهرت فيها خلال بضع سنين كارثة قد ظهرت في الغرب تدريجيّاً خلال عدّة قرون.
هذه الأزمة العامّة في الجانب المعنويّ نتيجة لُاسلوب جسّد فيه الغربيّون الحقائق المعنويّة و علاقاتها بأنفسهم. فتسخير قوى الطبيعة يمكن أن يقترن بزيادة القوى المعنويّة جيّداً.
إن سيطرة الإنسان على الطبيعة، و إنجازاته المضادّة لعالم الروح - حتى أزالت مفهومه من الوجود - تثيران السؤال الآتي: هل نعدّ هذا الأمر حتميّاً لا بدّ منه، أو نواجهه مستعينين بالقوى المعنويّة المتفوّقة؟
و هذا سؤال يُسأل الجانب المعنويّ في الإسلام و خاصّة في التشيّع عنه. و إذا استطعنا أن نطرح هذا السؤال و نُحييه، فإنّنا نتمكّن كثيراً من التفوّق على قوى الجمود التي يعتقد بها بعض المنتقدين للإسلام في مقابل «الرقيّ» و «التطوّر» في الغرب.
۱ - المفهومان النموذجيّان: «الحلول» و «الرقيّ». يذكر الأردنيّ
المشار إليه آنفاً قائلًا: بوصفي مسلماً تابعاً اؤمن إيماناً عميقاً بسنّة تحلّ في «السلطان»، بَيدَ أنّي لمّا كنتُ أعيش في عصري، و نشأتُ على تعليم اوروبّيّ فإنّي أعتقد أنّ الرُّقيّ لا يتحقّق إلّا خارج السنّة الدينيّة! نلحظ هنا أنّ «التغرّب» ملحوظ تماماً في كلامه، إذ انبهر بأفكار الغربيّين إلى درجة أنّه أخذ منهم جميع اصطلاحاتهم.
أ - يُثار هذا السؤال: ما معنى «الحلول» من منظاره؟ لا شكّ أنّ معناه هو ما نجده عند الغربيّين. ذلك أنّه أدرك نتيجة حيرته الإرادة التي تفصل التمثيلات المشهودة عن العلاقات التي تربطنا بالماضي.
إنّه يقايس التحمّس الذي كان عليه قتلة «الاسرة الهاشميّة» بثمالة القتلة غير المتديّنين لل - «قساوسة» الذين كانوا من الجمهوريّين المتطرّفين، أي: الذين قتلوا لويس السادس عشر إمبراطور فرنسا.
لا شكّ أنّ معنى الإمبراطور في فرنسا قد وُضع منذ القديم على مفهوم «الحلول». أي: كان الإمبراطور مقدّساً، و في شخصه يتحقّق حلول الالوهيّة في المجتمع الإنسانيّ.
حسبنا أن نقرأ رسائل «سنت جستSain jus » لنلحظ كيف كان أعضاء المؤتمر الوطنيّ الفرنسيّ يعرفون هذا الأمر تماماً. و كان موت الإمبراطور يُعدّ انقطاعاً لحلول الالوهيّة في المجتمع. لكن لا يمكن التفكير بهذا الاسلوب ما لم نطبّق التعاريف الرسميّة للمجالس الدينيّة المسيحيّة بعد القرن الرابع، التي كانت ترى أنّ «اللاهوت» و «الناسوت» شيء واحد في شخص الإنسان الالوهيّ أو السيّد المسيح عليه السلام.
و هذا اسلوب قارعه الإسلام و يقارعه دائماً. و إذا تسنّى لنا أن نبيّن كيف تؤدّي دنيويّة المفهوم الدينيّ إلى كارثة عظيمة، أمكننا أن نسأل: هل كان هذا الخطر يخلو من مفهوم الوجود في نفسه منذ البداية؟ ثانياً: إن
الذين لم يعتقدوا بهذا المفهوم منذ البدء، هل عليهم - على عكس ما يُتوقّع - أن يخضعوا له أو يواجهوه، و يناضلوا ضدّه؟
نقول بإيجاز بعد سرد هذا الموضوع: إن معرفة الإمام عند الشيعة يمكن أن تنال نصيبها من التفكّر و التعمّق هنا، إذ ألا يكون رأي الشيعة صراطاً مستقيماً بين «الوحدة الانتزاعيّة للإسلام السنّيّ» و «حلوليّة الكنائس المسيحيّة الرسميّة»؟
يمكن أن نقترح على علماء الشيعة الشباب في وقتنا هذا مجالًا مثمراً للبحث: مطالعة ما كتبه الغربيّون حول تأريخ العقائد الكنسيّة، و الذهاب إلى أنّ «معرفة الإمام» واجهت نفس المسائل التي وجدتها المسيحيّة أمامها. بَيدَ أنّنا نعالج هذه المسائل بنحو يعارض الاسلوب الرسميّ للكنيسة تماماً، و على العكس، يماثل الاسلوب العرفائيّ المرتبط بالمسيحيّة.
و خلاصة الموضوع: أنّ جميع أهل الغرب قد تلمّسوا الاتّصال بالله في واقعة تأريخيّة يفهمونها بشكل الحلول، في حين أنّ الإسلام الشيعيّ يتطلّب هذا الاتّصال في «تجلّي الحقّ و ظهوره و مظهره» المخالف لتصوّر الحلوليّين.
فإذا كان لهذه العقيدة - الحلول - دور في أزمة الضمير الحاليّة لسكّان الغرب، فهل يخلو التشيّع من موضوعات جديدة يبثّها في هذا المجال؟ و هي موضوعات تغاير أفكار الإسلام السنّيّ. و التشيّع بلا «معرفة الإمام» لا يمكن تصوّره كالمسيحيّة بدون المسيح.
و إذا ترك الغربيّون المسيحيّة فالتقصير في منهج معرفتهم للمسيح (أو أنّهم لم يسلكوا سبيل الأشخاص الذين كانوا يعتقدون - على مرّ القرون - بحلول معنويّ شديد القرب للتجلّي).
و إذا تأثّر مسلم سنّيّ بأفكار الغربيّين فلفقدانه معرفة الإمام، إذ إن هذا
المنهج الصائب يعود إلى تصوّر العلاقة بين الله و الإنسان، و هو منهج صحيح لمواجهة اللاأدريّين.
ب - يُعلن الأردنيّ المذكور أنّه «يعيش مع عصره» (أو أنّه متعصرن!) فيا أسفا أنّ هذه الاصطلاح من أكثر الاصطلاحات تداولًا و أشدّها حمقاً في الغرب. فالشخصيّة القويّة غير مجبورة أن تعيش مع عصرها، بل يجب أن تكون هي العصر نفسه.
و من البديهيّ أنّ هذا الموضوع يقدّم قضيّة الزمان و معناه و التأريخ. و هذه موضوعات قد طُرحت في الغرب سابقاً. و أنّ أشدّ المنتقدين لـ «التطوّر»، و «أصالة التأريخ»، و «أصالة الاجتماعيّات» قد انطلقوا من هذا المنطلق.
و نريد من مدرسة «أصالة التأريخ» تلك المدرسة التي تعتقد أنّ جميع فلسفة الإلهيّات ينبغي أن تُبيَّن بواسطة اللحظة التي ظهرت في تقويم التأريخ. و في مثل هذا البيان لا يبقى شيء إلّا الماضي. و نريد من مدرسة «أصالة الاجتماعيّات» تلك المدرسة التي تتكفّل بتبيان الفلسفة كلّها بواسطة الكيان الاجتماعيّ الذي ظهرت هذه الفلسفة في أحضانه.
إذا كانت الصور المعنويّة بُنية فوقيّة للحظة تأريخيّة أو مؤسّسة اجتماعيّة فحسب فلا قيمة معرفيّة عندنا و يصبح حالنا كحال اللاأدريّين.
أرغب أن أذكّر أنّي نشرتُ بحثاً بواسطة «علاء الدولة السمنانيّ» يتضمّن انتقاداً رائعاً لمفهوم الزمن. و يذهب السمنانيّ إلى التمييز بين الزمن الأنفسيّ و الزمن الآفاقيّ في ضوء الآية الكريمة «سَنُرِيهِمْ آياتِنا ...».۱
إذا اتّبعنا إشارات مشابهة لكلام هذا العارف الكبير و استفدنا منها، استطعنا أن نواجه السفسطة التي تذهب إلى وجود التضادّ و التعارض بين «الرقيّ» و «السنّة الدينيّة».
ذلك أنّ هذه السفسطة غيّرت هذين المفهومين و جعلتهما في مستوىً واحد، بينما هما مرتبطان بدرجات مختلفة. لكن لا شكّ في أنّ أحد مفاهيم «السنّة الدينيّة» مسؤول عن جعلهما في مستوىً واحد.
***
٢ - التراكيب الممتنعة. لا شكّ أنّ الأردنيّ المذكور وجد نفسه أمام تركيب متعذّر بسبب تلك الرؤية التي ارتضاها بلا انتقاد.
يقول: «عند ما افكّر كغيري من إخوتي العرب و المسلمين جميعهم أرى أنّنا نعيش في أجواء قصّة ظالمة قاسية. و حينما نحاول فصل الدين عن نظم اجتماعيّ يسوده الرقيّ الفنيّ العلميّ الجديد، أ لا يمكن لنا أن ننكر وجود الله؟ الدين و الاجتماع في الإسلام متمازجان، و وجود أحدهما يستلزم وجود الآخر. و لهما وجودهما بواسطة الاتّحاد الذي لا يقبل الفصل، فهل يسعنا أن نحسبنا متجدّدين دون أن نلعن أنفسنا؟».
أقترح أن نفكّر بالموضوعات الآتية:
أ - العجيب أنّ الإنسان المسلم يشعر أنّه معرّض لخطر الأفكار التي تمثّل صيحة «نيتشة» في القرن الماضي. أي: «الله ميّت». و لعلّ هذه الصيحة قد انعكست بين سكّان الغرب بأسرهم! و أنّ الحديث عن التمييز بين باطن هذا الموضوع و ظاهره: أي «علم الظواهر» (La phenomenologie) أطول من أن نستطيع طرحه في هذا الوقت، بَيدَ أنّ رأي «نيتشة» هو نتيجة للاعتقاد بالحلول كما تمّ الاعتراف به في الكنائس (أي: اتّحاد أقانيم الإنسان و الالوهيّة) حيث
لا حلول و لا تجسّد، بل هو التجسّد يسود كلّ مكان. كيف يمكن «إبادة الله»؟ لا معنى لهذه الجملة عند العارف المسيحيّ، بَيدَ أنّ هذا الرجل الأردنيّ لم يدرك شيئاً من العرفان قطّ.
ب - الجانب الآخر. إن تجانس اللاهوت و الناسوت في الكنيسة الكاثوليكيّة قد انتقل إلى التسلسل الهرميّ المؤسّس للكنيسة، أي: البابا و الأساقفة. و ينبغي أن نطالع حادثة التحقيق الموسّع للمحكمة الروحانيّة في كتاب(Grand Inquisiteur) لمؤلِّفة إخوان كارامازاف دستويفسكي(karamazov de .dostoievski) مرّة اخرى لإدراك معنى هذا الموضوع.
و أصبحت للدين بوصفه الكنيسة سلطة معيّنة و أخذ رؤساء الكنيسة مقام الإلهام السماويّ، و سجنوا روح الأشخاص في سلطتهم.
إذا لم يعرف الإنسان الظاهرة و الكنيسة، فلن يفهم ظاهرة «المجتمعات الدكتاتوريّة» المعاصرة. و هذه المجتمعات تمثّل الجانب الدنيويّ و العرفيّ للتنظيم الكنسيّ، بَيدَ أنّ لغتيهما تتشابهان تشابهاً عجيباً، و هذا هو ما نقصده من كلامنا حين نقول: استبدل «الحلول الاجتماعيّ» بـ «الحلول الالوهيّ».
أ لا نجد تشابهاً بين هذه الظاهرة التي ترى أنّ الدين و الكنيسة شيء واحد و بين الإسلام؟ - كما تصوّره الأردنيّ المذكور أنّه يعني «تمازج الدين و المجتمع-.
هل يمكن أن نرى أنفسنا متجدّدين بدون أن نلعن أنفسنا؟ و إذا نظرنا إلى هذا الموضوع في ضوء المسيحيّة المعنويّة للغرب المخالفة لمسيحيّة الكنائس، المعتقدة باجتماعيّة الدين (كسنّة «يواخيم فلورا» و «بوهمة» و «سويد نبورغ» و «ستانير»)۱ تسنّى لنا أن نقول: إن «خطر اللعنة»
و «موت الله» ناتجان من عدم التفريق بين الدين و المجتمع و اعتبارهما شيئاً واحداً، لا من التفريق بينهما.
و نشهد في الغرب اليوم إصراراً متزايداً على أهمّيّة «الشهادة الاجتماعيّة»، و يتحدّث الكاثوليك قبل كلّ شيء عن الإيمان بالكنيسة، و يحسبون الوعي الدينيّ هو السياسة الكنسيّة. و أرى أنّ هذا التمازج أكبر خيانة و غدر بالجانب المعنويّ. و الكنيسة لا تهب الإيمان و الحياة الأبديّة مهما كان نوعها و انتماؤها.
و عند ما يتحدّث هذا الرجل الأردنيّ عن التركيب الممتنع، يمكن أن نقول له: نعم، هذا التركيب متعذّر. لكن الأمر ليس هكذا، و لا ينبغي أن نحاول القيام به.
***
الرسالة الجديدة للجانب المعنويّ في التشيّع
٣ - حول الرسالة الجديدة للجانب المعنويّ للتشيّع. أرى أنّ هذا الفكر يستقي ممّا مضى. و يمكننا أن نحاول تلمّس مشاهدة واضحة و منهج معنويّ في موضوعات الفكر الشيعيّ من أجل مواجهة المفاهيم التي تمّ تحليلها سابقاً، و استطعنا أن نشهد ظهورها نوعاً ما. تلك المشاهدة التي تتفوّق على اليأس المعاصر للبشريّة و تُزيله.
أ - معرفة النبيّ و معرفة الإمام. إن ما بيّنه التشيّع حول شخصيّة «الأئمّة الاثني عشر» (الأئمّة الأطهار) لا هو «حلول» يتضمّن «هبوط الله» في التأريخ التجريبيّ، و لا عقائد لاأدريّة تجعل الإنسان يواجه عالماً تركه الله، و لا «وحدة انتزاعيّة للإسلام السنّيّ» التي توجد بعد اللانهاية بين الله و الإنسان. و الوضع الحاليّ للعالم يدفعنا إلى التفكير مرّة اخرى في «الصراط المستقيم» بين «التشبيه» و «التعطيل».
و هكذا نعرض مسائل الحقيقة و المفاهيم البسيطة المتعالية عرضاً بِكراً قبل أن تقع في طرق وجهات ذكرناها سابقاً. ذلك أنّ تلك الحقائق البسيطة المتعالية قد أدّت بعد الانحرافات المذكورة إلى تدمير الجانب الروحيّ في الناس المعاصرين، و هم نحن.
أنت تعرف و تدرك السنن الأوّليّة التي ارتسم فيها الوجه الحقيقيّ و المعنويّ للرسول الأكرم و الأئمّة الأطهار أفضل منّي. إنّها تجربة روحيّة جديدة عميقة لك الآن إذا كنتَ مستعدّاً أن تنظر في تلك الوجوه الأوّليّة البكر من خلال إدراك الفكر الغربيّ و المسائل التي تُطرح له في هذا الباب. بخاصّة أنّ هذا الفكر الغربيّ يصطحب تلك الصور المعنويّة في كلّ مكان حتى البلاد الشرقيّة و الروح الشرقيّة التي تعتبر منبعه.
بَيدَ أنّ المسئولين عن «فلسفة الإسلام الإلهيّة» إذا حبسوا أنفسهم في سجن الأفكار المتعصّبة المتحجّرة و أغلالها، و أبوا طرح المسائل الجديدة، و لم يرغبوا في أن ينسجموا مع تلميذ الفلسفة الغربيّة الذي يتطّلع إليهم بشوق بالغ، و يأمل علاج تلك المشكلات، فحينئذٍ أ لا يستحقّون كلّ حُكم قاسٍ شاذٍّ يصدر بحقّهم؟
ب - مفهوم الغيبة. لم تنل حقيقة «الغيبة» نصيبها من التفكير العميق في إطار المتطلّبات التي يقتضيها عالم اليوم قطّ. و من المناسب حقّاً أن تنال اهتماماً خاصّاً بالنظر إلى نقطةٍ صرّح بها «المفضّل» قائلًا: «ظلّ الباب الثاني عشر مستوراً في حجاب الغيب و الخفاء إثر غيبة الإمام الثاني عشر». و معنى هذا باعتقادي مصدر أبديّ لا متناه من المعاني و الحقائق، و هو في الحقيقة الترياق القاطع أمام كلّ نوع من أنواع السموم (سوسياليزاسيون) (= الاشتراكيّة) و (ماترياليزاسيون) (= المادّيّة)، و كلّ ما تستحسنه العامّة من الأصل و الحقيقة المعنويّة، و كذلك هو الترياق ضدّ ما أبديناه في صدر
المقالة.
إن حقيقة الغيبة - في رأيي - أساس و بنية أصيلة لتنظيم المجتمع الإسلاميّ و ينبغي أن يُنظَر إليها كقاعدة معنويّة غيبيّة، و تظلّ مصونة من كلّ ضرب من ضروب التبديل و التحوّل و التجسّد بأشكال مادّيّة و اجتماعيّة في منظومات اجتماعيّة.
و كما أنّ الحقيقة المذكورة تُعدّ ترياق الظاهرة الكنسيّة (الروحانيّة) في الغرب، و يمكن تحقّق ميلها من حيث التظاهر و التجسّد الاجتماعيّ للحقيقة الإلهيّة في المجتمع و كافّة النتائج التي يتضمّنها هذا اللون من التفكير، فإنّها يمكن أن ترفع التشويش و القلق اللذين يعاني منهما زميلنا و صديقنا الأردنيّ، و تعالج مشكلته، ذلك أنّه حسب الإسلام خليطاً غامضاً من «الدين و المجتمع».
و في عقيدتي أنّ الغيبة تتضمّن حقيقة تبلغ من الوضوح درجة أنّها لا تقبل مثل هذا الغموض و التبلبل الفكريّ، و يمكنها أن تعدّ العلاج الوحيد لمثل هذا التشويش و البلبلة عند ظهورهما.
و في رأيي أنّ الجانب المعنويّ للإسلام قابل للحياة و الديمومة و النشاط بالتشيّع فحسب، و يصمد هذا المعنى أمام كلّ لون من ألوان التحوّل و التغيير اللذين تصاب بهما المجتمعات الإسلاميّة.
العلاقة الحقيقيّة لإمام العصر بالحياة المعنويّة
ج - «إمام الزمان». مفهوم أعلى يكمل مفهوم الغيبة، بَيدَ أنّه يرتبط بشخصيّة الإمام الغائب ارتباطاً تامّاً. و أنا أشعر و أدرك مفهوم «الإمام الغائب» بنحو جديد و بكر بما أحمله من روح غربيّة. و القي في روعي أنّ علاقته الحقيقيّة ترتبط بالحياة المعنويّة للبشر. و كأنّ هذه العلاقة أخذت مكانها الحقيقيّ في خاطري كمنهج عمل باطنيّ معنويّ يرى كلَّ مؤمن بنفسه قريناً و مرافقاً لشخصيّة الإمام، و يستعيد سلسلة من فتيان المعنويّة
و شعيرة الفتوّة الضائعة، على شرط أن نكيّف الحقيقة الأخيرة مع الظروف و الإمكانيّات الروحيّة المعاصرة.
و بنظري أنّ هذه العلاقة الخاصّة للأرواح بالإمام الغائب هي الترياق الوحيد ضدّ خلط حقيقة الدين. و أنّ كرامة الإمام و إقراره هما ذوا صبغة معنويّة كأصالة حياته.
و هكذا التفاتنا و اهتمامنا بتعاليم الأئمّة الذين ظهروا و يعيشون الآن في عالم المعنى.
إن المستشرقين الذين اعتقدوا بأنّ المذهب الشيعيّ بمنزلة مذهب مستبدّ قد ضلّوا و وقعوا في خطأ فادح، و قد تسرّبت هذه الفكرة إلى أذهانهم من المفهوم الكنسيّ بقرينة فكريّة معيّنة.
إن ما يلفت الأنظار أكثر من كلّ شيء عند عرفاء الشيعة كحيدر الآمليّ هو التشبيه الذي اقيم بين الإمام الغائب و «البارقليط» و استشهاده بإنجيل يوحنّا (الإنجيل الرابع)، و لا عهد للأذهان بهذا الالتقاء الفكريّ و المعنويّ بما عليه من وضوح.
۱ - ينبغي أن اصرّح بأنّ مفهوم البارقليط Paraclet بمعنى المنقذ خاصّ بالعقائد المسيحيّة التي نشطت على هامش الكنيسة و الروحانيّة.
٢ - المفهوم المذكور يسود مشهداً من معرفة المعاد المشتركة بين المسيحيّين المعنويّين و المعتقدين المخلَصين بالمذهب الشيعيّ. و لا نقصد هنا الحوادث الواقعة على امتداد القرون و الأعصار، بل نقصد مرحلة من فراق دنيا عمياء البصيرة يملأها الرياء. و مفهوم معرفة المعاد عامل يقطع في كلّ لحظة الجهة التي يطلق عليها الجهة التأريخيّة. و في اعتقادي أنّ المعنى الحيّ لحضور الإمام الغائب هو الاتّجاه العموديّ و الصعوديّ لنداء النفي المطلق المواجه لجميع مظاهر الرياء و عمى البصيرة و نسخ الحقيقة
المعنويّة عند البشر.
٣ - أرى من المناسب للمتعلّمين و الطلّاب الشباب المنتمين إلى المذهب الشيعيّ أن يطالعوا الدراسات حول التيارات المعنويّة للغرب منذ القرون الوسطى حتى الآن، أي: الكتابات و الحقائق التي عُرفت بعنوان عامّ هو المذهب الباطنيّEsoterisme .
و أعتقد أنّ من المناسب و المفيد أن نقوم في مناظراتنا القادمة بدراسة القصد من معرفة المعاد و ندقّق التفكير النظر فيه.
و لا مِراء في أنّ الرموز و الكنايات و الإشارات التي تستعمل في الأدب العرفانيّ لتبيان الحقائق المعنويّة قد مُنيت بالبِلى و سقوط قوّة التبين. بَيدَ أنّ مهمّة إحيائها المتواصل تقع على عاتق المؤمن و المسلم الحقيقيّين.
و الموضوع هو أنّ الذي يشيخ و يبلى هو أرواح الآدميّين لا أصل الرموز و الكنايات و الإشارات التي تبيّن الحقيقة و تبشّر بها.
***
هذه الأفكار هي أفكار رجل غربيّ، بَيدَ أنّها لمّا أفرزها ذهنه بسبب تماسّه مع الحقائق الشيعيّة - بخاصّة أنّها صدرت عن شخص مشتاق و باحث غربيّ استهوته الحقائق المعنويّة الشيعيّة و بشائر التشيّع فأدخلها في بوتقة ذوقه و فلسفته - فإنّها يمكن أن تكون دليلًا آمناً مضموناً على الإمكانيّات و المكنونات الحيّة للمذهب الشيعيّ.
و الآن أستأذنكم بطرح السؤال الآتي و أسترشدكم: في رأيكم، أ يضمّ مذهب الشيعة الإماميّة بشارةً و حقيقة لإنقاذ البشريّة في عالم اليوم أم لا؟
اسمحوا لي في هذا المجال أن اضيف متسائلًا: أ يمتزج اجتهادنا
كباحثين في العلوم بتكليفنا المعنويّ كاناسٍ مطلقين، و لا يفترقان؟
در عشق خانقاه و خرابات فرق نيست | *** | هر جا كه هست پرتو روي «حبيب» هست |
البروفيسور هنري كوربان
طهران ۸ تشرين الثاني ۱٩٦۰ م۱
أجل، لقد طال حديثنا حول علوم الشيعة، و جهودهم في تأسيس المعارف المختلفة، و العلوم الخاصّة للإمام السادس مظهر الحقائق و مُظهر العجائب، و سبب تسمية المذهب الشيعيّ بالمذهب الجعفريّ، و تسمية الشيعة بالإماميّة، و حاجة الناس الماسّة في العالم إلى وجود الإمام الثاني عشر. و من المناسب أن يكون مسك الختام إحدى وصايا الإمام الصادق لولده الإمام الكاظم عليهما السلام رغبة منّا في مضاعفة الخير و البركة لهذه المجموعة و لقرّائنا الكرام.
وصيّة الإمام الصادق للإمام الكاظم عليهما السلام
قال الحافظ أبو نعيم الأصفهانيّ: حدّثنا أحمد بن محمّد بن مقسم، حدّثني أبو الحسن عليّ بن حسين الكاتب، حدّثني أبي، حدّثني الهيثم، حدّثني بعض أصحاب جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام، قال: دخلتُ على جعفر، و موسى بين يديه و هو يوصيه بهذه الوصيّة. فكان ممّا حفظت منها أن قال: يَا بني! اقْبَلْ وَصِيَّتِي، وَ احْفَظْ مَقَالَتِي، فَإنَّكَ إن حَفِظْتَهَا
تَعِيشُ سَعِيداً وَ تَمُوتُ حَمِيداً!
يَا بني! مَنْ رَضِيَ بِمَا قُسِّمَ لَهُ اسْتَغْنَى، وَ مَنْ مَدَّ عَيْنَهُ إلى مَا في يَدِ غَيْرِهِ مَاتَ فَقِيراً، وَ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِمَا قَسَمَهُ اللهُ لَهُ اتَّهَمَ اللهَ في قَضَائِهِ، وَ مَنِ اسْتَصْغَرَ زَلَّةَ نَفْسِهِ اسْتَعْظَمَ زَلَّةَ غَيْرِهِ، وَ مَنِ اسْتَصْغَرَ زَلَّةَ غَيْرِهِ اسْتَعظَمَ زَلَّةَ نَفْسِهِ!
يَا بني! مَنْ كَشَفَ حِجَابَ غَيْرِهِ انْكَشَفَتْ عَوْرَاتُ بَيْتِهِ، وَ مَنْ سَلَّ سَيْفَ البَغْي قُتِلَ بِهِ، وَ مَنِ احْتَفَرَ لأخْيِهِ بِئْراً سَقَطَ فِيهَا، وَ مَنْ دَاخَلَ السُّفَهَاءَ حُقِّرَ، وَ مَن خَالَطَ العُلَمَاءَ وُقِّرَ، وَ مَنْ دَخَلَ مَدَاخِلَ السُّوءِ اتُّهِمَ!
يَا بني! إيَّاكَ أنْ تَزْرِيَ بِالرِّجَالِ فَيُزْرَى بِكَ، وَ إيَّاكَ وَ الدُّخُولَ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ فَتَذِلَّ لِذَلِكَ!
يَا بني! قُلِ الحَقَّ لَكَ أوْ عَلَيْكَ تُسْتَشَانُ مِنْ بَيْنَ أقْرَانِكَ!
يَا بني! كُنْ لِكِتَابِ اللهِ تَالِياً، وَ لِلإسْلَامِ۱ فَاشِياً، وَ بِالمَعْرُوفِ آمِراً، وَ عَنِ المُنْكَرِ نَاهِياً، وَ لِمَنْ قَطَعَكَ وَاصِلًا، وَ لِمَنْ سَكَتَ عَنْكَ مُبْتَدِئاً، وَ لِمَنْ سَألَكَ مُعْطِياً، وَ إيَّاكَ وَ النَّمِيمَةَ، فَإنَّهَا تَزْرَعُ الشَّحْنَاءَ في قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَ إيَّاكَ وَ التَّعَرُّضَ لِعُيُوبِ النَّاسِ فَمَنْزِلَةُ التَّعْرُّضِ لِعُيُوبِ النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ الهَدَفِ!
يَا بني! إذَا طَلَبْتَ الجُودَ فَعَلَيْكَ بِمَعَادِنِهِ، فَإنَّ لِلْجُودِ مَعَادِنَ، وَ لِلْمَعَادِنِ اصُولًا، وَ لِلُاصُولِ فُرُوعاً، وَ لِلْفُرُوعِ ثَمَراً، وَ لَا يَطِيبُ الثَّمَرُ إلَّا بِاصُولٍ، وَ لَا أصْلٌ ثَابِتٌ إلَّا بِمَعْدِنٍ طَيِّبٍ!
يَا بني! إن زُرْتَ فَزُرِ الأخْيَارَ، وَ لَا تَزُرِ الفُجَّارَ، فَإنَّهُمْ صَخْرَةٌ لَا يَتَفَجَّرُ مَاؤهَا، وَ شَجَرَةٌ لَا يَخْضَرُّ وَرَقُهَا، وَ أرْضٌ لَا يَظْهَرُ عُشْبُهَا!
قَالَ عَلِيّ بْنُ موسى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ: فَمَا تَرَكَ هَذِهِ الوَصِيَّةَ إلى أنْ تُوُفِّيَ.۱
نواى بلبل ز عشوهء گل | *** | فغان قمري ز شور سنبل |
گرفته از كف عنان طاقت | *** | ربوده از دل مرا تحمّل |
ز طوطي طبع با لطافت | *** | خوش بودن زهي خرافت |
بزن نوائى كه بيم آفت | *** | بود در اين صبر اين تأمّل |
بزن نوائى به ياد ساقي | *** | گهى حجازي گهى عراقي |
كه وقت فرصت نمانده باقي | *** | مكن توقّف مكن تعلّل |
ز خُمّ وحدت بنوش جامي | *** | ز جام عشرت بگير كامي |
مباش در فكر ننگ و نامي | *** | كه عين خامى است اين تخيّل |
تَبارك الله از آن مه نو | *** | فكنده بر مهر و ماه پرتو٢ |
قصيدة المرحوم الكمبانيّ في مدح الإمام الصادق عليه السلام
هزار شيرين هزار خسرو | *** | به حلقة بندگيش در غلّ |
به لب حديثي ز سرّ مجمل | *** | به حسن مجموعة مفصّل |
به چين آن گيسوى مسلسل | *** | فتاده هم دور و هم تسلسل |
به صورت آن گوهر مقدّس | *** | ظهور معناى ذات أقدس |
به قعر دريا نميرسد خس | *** | به كنه او چون رسد تعقّل |
به طلعت آئينه تجلّي | *** | ز عكس او نور عقل كلّي |
ز ليلى حسن اوست ليلى | *** | مثال ناقص گه تمثّل |
به روي و موى آن يگانه دلبر | *** | جمال غيب و حجاب اكبر |
به جلوه سر تا قدم پيمبر | *** | در او عيان سرّ كلّ في الكُل |
حقيقة الحقّ و الحقائق | *** | كلام ناطق إمام صادق |
علوم را كاشف الدقائق | *** | رسوم را حافظ از تبدّل |
صحيفة حكمت الهي | *** | لطيفة معرفت كما هي۱ |
كتاب هستي دهد گواهى | *** | كه هستي از او كند تنزّل |
به خلوت قدس «لي مع الله» | *** | جمال او شاهدي است دلخواه |
به شمع رويش خرد برد راه | *** | كه اوست حقّ را ره توسّل |
صبا برو تا به قاب قوسين | *** | بگو به آن شهريار كونين |
كسي به غير از تو نيست در بين | *** | كه مفتقِر را كند تكفّل |
چه كم شود از مقام شاهي | *** | اگر كني سوى ما نگاهى |
كه از نگاهى برد سياهي | *** | برو سفيدى كند تحوّل |
مگر تو أي غاية الأماني | *** | مرا به اميد خود رساني |
نميسزد اين قدر تواني | *** | مكن از اين بيشتر تغافل۱ |
قصيدة في المدح للزاهيّ و اخرى للعونيّ في وفاة الإمام عليه السلام
قَوْمٌ سَمَاؤُهُمُ السُّيُوفُ وَ أرْضُهُمْ | *** | أعْدَاؤُهُمْ وَ دَمُ السُّيُوفِ نُحُورُهَا |
يَسْتَمْطِرُونَ مِنَ العَجَاجِ سَحَائباً | *** | صَوْبَ الحُتُوفِ على الرُّجُوفِ٢ مَطِيرُهَا |
وَ حَنَادِسُ الفِتَنِ التي إن أظْلَمَتْ | *** | فَشُمُوسُهَا آرَاؤُهُمْ وَ بُدُورُهَا |
مَلَكُوا الجِنَانَ بِفَضْلِهِمْ فَرِيَاضُهَا | *** | طُرَّاً لَهُمْ وَ خِيَامُهَا وَ قُصُورُهَا |
وَ إذَا الذُّنُوبُ تَضَاعَفَتْ فَبِحُبِّهِمْ | *** | يُعْطِي الأمَانَ أخَا الذُّنُوبِ غَفُورُهَا |
تِلْكَ النُّجُومُ الزُّهْرُ في أبْرَاجِهَا | *** | وَ مِنَ السِّنِينَ بِهِمْ تَتِمُّ شُهُورُهَا۱ |
و قال العونيّ في وفاة الإمام عليه السلام و دفنه في بقيع الغرقد مُهدياً إليه التحيّة:
عُجْ بِالمَطِيّ على البَقِيعِ الغَرْقَدِ | *** | وَ اقْرَأ التَّحِيَّةَ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدِ |
وَ قُلِ ابْنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ وَ وَصِيِّهِ | *** | يَا نُورَ كُلِّ هِدَايَةٍ لَمْ تُجْحَدِ |
يَا صَادِقاً شَهِدَ الإلَهُ بِصِدْقِهِ | *** | فَكَفَى مَهَابَةُ ذِي الجَلَالِ الأمْجَدِ |
يَا بْنَ الهُدَى وَ أبَا الهُدَى أنْتَ الهُدَي | *** | يَا نُورَ حَاضِرَ سِرِّ كُلِّ مُوَحِّدِ |
يَا بْنَ النَّبِيّ مُحَمَّدٍ أنْتَ الذي | *** | أوْضَحْتَ قَصْدَ وَلاءَ آلِ مُحَمَّدِ |
يَا سَادِسَ الأنْوَارِ يَا عَلَمَ الهُدَى | *** | ضَلَّ امْرُؤٌ بِوَلَائِكُمْ لَمْ يَهْتَدِ۱ |
الدَّرْسُ السَّادِسُ و السّتُّونَ: بَعْدَ المائَتَين إلى السَّبْعينَ بَعْدَ المائتَين: إرْجَاعُ مُعَاوِيَةُ مَسَارَ النُّبُوَّةِ العَادِلَةِ إلى الطَّاغُوتِيَّةِ المُتَجَبِّرَةِ
بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعداءهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ.۱
قال سماحة استاذنا الأعظم آية الله العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ تغمّده الله أعلى درجات جنانه في تفسيره المبارك ما نصّه:
الاجتثاث الاقتلاع، يقال: جَثَثْتُهُ و اجْتَثَثْتُهُ أي: قَلَعْتُهُ و اقْتَلَعْتُهُ، وَ الجُثُّ بالضمّ ما ارتفع من الأرض كالأكمة، و جُثَّةُ الشيء شخصه الناتئ. كذا في «المفردات».
جذور الخلاف بين بني اميّة و بني هاشم
و الكلمة الخبيثة ما يقابل الكلمة الطيّبة، و لذا اختلفوا فيها فقال كلّ قوم فيها ما يقابل ما قاله في الكلمة الطيّبة. و كذا اختلفوا في المراد بالشجرة الخبيثة فقيل: هي الحنظلة، و قيل: الكَشُوث، و هو نبت يلتفّ على الشوك
و الشجر لا أصل له في الأرض و لا ورق عليه، و قيل: شجرة الثوم، و قيل: شجرة الشوك، و قيل: الطحلب، و قيل: الكمأة، و قيل: كلّ شجرة لا تطيب لها ثمرة.
و قد عرفت حال هذه الاختلافات في الآية السابقة، و عرفت أيضاً ما يعطيه التدبّر في معنى الكلمة الطيّبة و ما مثّلت به و يجري ما يقابله في الكلمة الخبيثة و ما مثّلت به حرفاً بحرف. فإنّما هي كلمة الشرك مثّلت بشجرة خبيثة مفروضة اقتلعت من فوق الأرض ليس لها أصل ثابت و ما لها من قرار، و إذ كانت خبيثة فلا أثر لها إلّا الضرّ و الشرّ.
قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ إلى آخر الآية. الظاهر أنّ «بالقول» متعلّق بقوله يُثَبِّتُ لا بقوله: ءَامَنُوا و الباء للآلة أو السببيّة لا للتعدية، و أنّ قوله: في الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ متعلّق أيضاً بقوله: يُثَبِّتُ لا بقوله: الثَّابِتِ.
فيعود المعنى إلى أنّ الذين آمنوا إذا ثبتوا على إيمانهم و استقاموا ثبّتهم الله عليه في الدنيا و الآخرة. و لو لا تثبيته تعالى لهم لم ينفعهم الثبات من أنفسهم شيئاً و لم يستفيدوا شيئاً من فوائده، فإليه تعالى يرجع الأمر كلّه. فقوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ في باب الهداية يوازن قوله: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ،۱ في باب الإضلال.
غير أنّ بين البابين فرقاً و هو أنّ الهدى يبتدئ من الله سبحانه و يترتّب عليه اهتداء العبد. و الضلال يبتدئ من العبد بسوء اختياره فيُجازيه الله بالضلال على الضلال، كما قال: وَ مَا يُضِلُّ بِهِ إلَّا الْفَاسِقِينَ.٢ و قد
تكاثرت الآيات القرآنيّة أنّ الهداية من الله سبحانه ليس لغيره فيها صنع.۱
أجل، إن أحد المصاديق الكبرى للشجرة الخبيثة هم بنو اميّة الذين عبّر عنهم القرآن الكريم أيضاً بالشجرة الملعونة. قال الشيخ محمود أبو رَيَّة في هذا المجال:
أمّا ما كان بين بني اميّة و بين بني هاشم في الجاهليّة فإنّا ندع القول فيه للمؤرّخ الكبير المقريزيّ فقد سجّله في كتابه «النزاع و التخاصم فيما بين بني اميّة و بني هاشم». و إليك بعض ما قاله في ذلك:
إنّي كثيراً ما كنتُ أتعجّب من تطاول بني اميّة إلى الخلافة مع بعدهم من جذم رسول الله، و قرب بني هاشم، و أقول: كيف حدّثتهم أنفسهم بذلك؟ و أين بنو اميّة، و بنو مروان بن الحكم طريد رسول الله و لعينه من هذا الحديث مع تحكّم العداوة بين بني اميّة و بني هاشم في أيّام جاهليّتها؟! ثمّ شدّة عداوة بني اميّة لرسول الله، و مبالغتهم في أذاه، و تماديهم على تكذيبه فيما جاء به منذ بعثه الله عزّ و جلّ بالهدى و دين الحقّ، إلى أن فتح مكّة شرّفها الله تعالى فدخل من دخل منهم في الإسلام! فلعمري لا بُعد أبعد ممّا كان بين بني اميّة و بين هذا الأمر، إذ ليس لبني اميّة سبب إلى الخلافة، و لا بينهم و بينها نسب.٢
و قد كانت المنافرة لا تزال بين بني هاشم، و بين عبد شمس بحيث إنّه يقال: إن هاشماً و عبد شمس ولدا توأمين، فخرج عبد شمس في الولادة قبل هاشم و قد لصقت إصبع أحدهما بجبهة الآخر. فلمّا نزعت دمي المكان
فقيل: سيكون بينهما أو بين أولادهما دمٌ، فكان كذلك.
و يقال: إن جباههما كانت ملتصقة بعضها ببعض، فأخذ السيف ففرّق بين جباههما.۱
و كانت المنافرة بين هاشم بن عبد مناف بن قصي، و بين ابن أخيه اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف.٢
قال المقريزيّ: ثمّ تمادت العداوة بين البيتين حتى قام سيّد بني هاشم أبو القاسم محمّد بن عبد الله بمكّة يدعو قريشاً إلى توحيد الله تعالى، و ترك ما كانت تعبد من دون الله، فانتدب لعداوته جماعة من بني اميّة منهم: أبو احَيْحَة سعيد بن العاص بن اميّة،٣ وَ عَقَبَةُ بن أبي مُعَيْط، وَ الحَكَمُ بن أبي العاص بن اميّة. و كان مؤذياً لرسول الله يطّلع عليه و هو في حجرات نسائه. و قد قال فيه النبيّ: مَنْ عَذِيرِي مِنْ هَذَا الوَزَغَةِ! لَوْ أدْرَكْتُهُ لَفَقَأتُ عَيْنَهُ.
ثمّ لعنه و ما ولد، و غرّبه عن المدينة. فلم يزل خارجاً عنها بقيّة حياة رسول الله و خلافة أبي بكر و عمر. فلمّا استخلف عثمان ردّه إلى المدينة و ولده مروان، و لمّا مات ضرب على قبره فُسطاطاً.
و منهم: عُتْبَة بن أبي ربيعة بن عبد شمس، و هو أبو هند٤ التي لاكت كبد حمزة بن عبد المطّلب.
و منهم: الوليد بن عُتْبَة بن أبي ربيعة. و الوليد هذا هو خال معاوية.
و منهم: شَيْبَة بن ربيعة بن عبد شمس عمّ هند.
نفاق أبي سفيان في تعامله مع المسلمين
و منهم أبو سفيان صَخْر بن حَرْب بن اميّة۱ قائد الأحزاب، الذي قاتل رسول الله يوم احُد. و قُتل من خيار أصحابه سبعون ما بين مهاجريّ و أنصاريّ، بينهم أسد الله حمزة عمّ النبيّ، و قاتل رسول الله يوم الخندق. و لم يزل يحادّ الله و رسوله حتى سار رسول الله لفتح مكّة، فأتى به العبّاس ابن عبد المطّلب رسول الله، و قد أردفه - كان صديقه و نديمه في الجاهليّة - فلمّا دخل به على رسول الله، سأله أن يؤمنه، فلمّا رآه رسول الله قال له: وَيْلَكَ يَا أبَا سُفْيَانَ! أ لَمْ يَأنِ لَكَ أنْ تَعْلَمَ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ؟!
اطردوا الديكَ عن ذُؤابةِ زيدٍ | *** | طالَ ما كان لا تطأه الدجاجُ |
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلةٍ | *** | و لم نَرَ مهديّاً على الجذعِ يُصلبُ |
فقال له: بِأبي أنْتَ وَ امِّي، مَا أوْصَلَكَ وَ أجْمَلَكَ وَ أكْرَمَكَ! وَ اللهِ لَقَدْ ظَنَنْتُ أنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَ اللهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أغْنَى عَنِّي شَيْئاً!
فقال: يَا أبَا سُفْيَان! أ لَمْ يَأنِ لَكَ أنْ تَعْلَمَ أنّي رَسُولُ اللهِ؟!
فقال: أمَّا هَذِهِ فَفِي النَّفْسِ مِنْهَا شَيْءٌ!
فقال له العبّاس: ويلك! اشهد بشهادة الحقّ قبل أن تضرب عنقك! فشهد و أسلم.
و قد اختلف في حسن إسلامه فقيل: إنّه شهد حنيناً مع رسول الله و كانت الأزلام معه يُستقسم بها،۱ و كان كهفاً للمنافقين في الجاهليّة.٢
و في خبر لعبد الله بن الزبير أنّه رآه يوم اليرموك قال: فكانت الروم إذا ظهرت قال أبو سفيان: إيهِ بني الأصْفَرِ! فإذا كشفهم المسلمون قال:
وَ بَنُو الأصْفَرِ المُلُوكُ مُلُوكُ الرُّ | *** | ومِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمُ مَذْكُورُ |
و ممّن حاربوا النبيّ معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن اميّة. و هو الذي جدع أنف حمزة و مثّل به. و معاوية هذا هو أبو عائشة امّ عبد الملك ابن مروان. و عبد الملك هذا أعرق الناس في الكفر، لأنّ أحد أبويه الحكم ابن أبي العاص لعين رسول الله و طريده، و الآخر معاوية بن المغيرة.۱
و منهم حَمَّالَةُ الحَطَبِ و اسمها امّ جميل ابنة حَرْب بن اميّة، و إيّاها عني الله تعالى بقوله في سورة تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ ... إلى آخر السورة.
و قال المقريزيّ: و ما من أحد من هؤلاء الذين تقدّم ذكرهم إلّا و قد بذل جهده في عداوة رسول الله و بالغ في أذى من اتّبعه و آمن به، و نالوا منهم من الشتم و أنواع العذاب حتى فرّ منهم مهاجرون إلى بلاد الحبشة، ثمّ إلى المدينة، و أغلقت أبوابهم بمكّة، فباع أبو سفيان بعض دورهم و قضى من ثمنها دَيناً عليه. و همّوا بقتل رسول الله غير مرّة، و تناظروا في أمره ليُخرجوه من مكّة أو يقيّدوه و يحبسوه حتى يهلك. و بالغ كلٌّ منهم في ذلك بنفسه و ماله و أهله و عشيرته، و نصب لرسول الله الحبائل بكلّ طريق سرّاً و جهراً ليقتله.٢
ما قاله الجاحظ في ذلك
قال الشيخ محمود أبو ريّة: و نردف ما قاله المقريزيّ بصفحتين من رسالة بليغة كتبها الجاحظ في معنى ما نحن بصدده، لتكونا دليلًا آخر على تصوير موقف الأمويّين من النبيّ و من عليّ و بنيه.
قال الجاحظ و هو يتحدث عن أمر قتل عثمان و ما جرى على المسلمين من بلايا و محن: ثمّ ما زالت الفتن متّصلة، و الحروب مترادفة، كحرب الجمل و كوقائع صفّين، و كيوم النهروان ... إلى أن قتل أشقاها عليّ ابن أبي طالب رضوان الله عليه ... إلى أن كان اعتزال الحسن عليه السلام الحروب و تخلية الامور، عند انتشار أصحابه و ما رأى من الخلل في عسكره، و ما عرف من اختلافهم على أبيه و كثرة تلوّنهم عليه.
فعندها استوى معاوية على الملك. و استبدّ على بقيّة الشورى و على جماعة المسلمين من الأنصار و المهاجرين في العام الذي سمّوه عام الجماعة! و ما كان عام جماعة! بل كان عام فرقة و قهر و جبريّة و غلبة! و العام الذي تحوّلت فيه الإمامة ملكاً كسرويّاً، و الخلافة غصباً قيصريّاً ... .
ثمّ ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا، و على منازل ما رتّبنا،۱ حتى ردّ قضيّة رسول الله ردّاً مكشوفاً و جحد حكمه جحداً ظاهراً، في ولد الفراش و ما يجب للعاهر، مع اجتماع الامّة أنّ سميّة لم تكن لأبي سفيان فراشاً، و أنّه إنّما كان بها عاهراً، فخرج بذلك من الفجّار إلى حكم الكفّار.٢
يَا مَنْ أحَسَّ بابْنَيّ اللَّذَيْنِ هُمَا | *** | كَالدُّرَّتَيْنِ تَشَظَّي عَنْهُمَا الصَّدَفُ |
أنْحَى على وَدَجَي طِفْلَيّ مُرْهَفَةً | *** | مَطْرُودَةً وَ عَظِيمُ الإثْمِ يُقْتَرَفُ |
عَيْنُ جُودِي بِعَبْرَةٍ وَ عَويلِ | *** | وَ انْدُبي إن نَدَبْتِ آلَ الرَّسُولِ |
تِسْعَةٌ مِنْهُمْ لِصُلْبِ عَلِيّ | *** | قَدْ اصِيبُوا وَ تِسْعَةٌ لِعَقِيلِ |
و ليس قتل حجر بن عديّ، و إطعام عمرو بن العاص خراج مصر، و بيعة يزيد الخليع،۱ و الاستئثار بالفيء، و اختيار الولاة على الهوى، و تعطيل الحدود بالشفاعة و القرابة من جنس جحد الأحكام المنصوصة، و الشرائع المشهورة، و السنن المنصوبة. و سواء في باب ما يستحقّ من الكفّار جحد الكتاب و ردّ السنّة، إذ كانت السنّة في شهرة الكتاب و ظهوره، إلّا أنّ أحدهما أعظم و عقاب الآخرة عليه أشدّ.
فهذه أول كفرة كانت من الامّة، ثمّ لم تكن إلّا فيمن يدّعي إمامتها و الخلافة عليها، على أنّ كثيراً من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره، و قد أربت عليهم نابتة عصرنا و مبتدعة دهرنا، فقالت لا تسبّوه فإنّ له صحبة، و سبّ معاوية بدعة، و من يبغضه فقد خالف السنّة! فزعمت أنّ مِن السنّة ترك البراءة ممن جحد السنّة.
جرائم يزيد الرجس
ما كان من يزيد
ثمّ الذي كان من يزيد ابنه و من عماله و أهل نصرته، ثمّ غزو مكّة و رمي الكعبة و استباحة المدينة، و قتل الحسين عليه السلام في أكثر أهل بيته، مصابيح الظلام، و أوتاد السلام، بعد الذي أعطى من نفسه، من تفريق أتباعه، و الرجوع إلى داره و حرمه، أو الذهاب في الأرض حتى لا يحسّ به، أو المقام حيث أمر به، فأبوا إلّا قتله و النزول على حكمهم.
إلى أن قال الجاحظ: كَيْفَ نَصْنَعُ بِنَقْرِ القَضِيبِ بَيْنَ ثِنِيَّتَي الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَ حَمْلِ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ حَوَاسِرَ على الأقْتَابِ العَارِيَةِ وَ الإبِلِ الصِّعَابِ، وَ الكَشْفِ عَنْ عَوْرَةِ عَلِيّ بْنِ الحُسَيْنِ عِنْدَ الشَّكِّ في بُلُوغِهِ على
أنَّهُمْ إن وَجَدُوهُ وَ قَدْ أنْبَتَ قَتَلُوهُ، وَ إن لَمْ يَكُنْ أنْبَتَ حَمَلُوهُ، كَمَا يَصْنَعُ أمِيرُ جَيْشِ المُسْلِمِينَ بِذَرَارِي المُشْرِكِينَ.۱
و كيف تقول في قول عبيد الله بن زياد لإخوته و خاصّته: دَعُونِي أقْتُلْهُ فَإنَّهُ بَقِيَّةُ هَذَا النَّسْلِ، فَأحْسِمُ بِهِ هَذَا القَرْنَ، وَ امِيتُ بِهِ هَذَا الدَّاءَ، وَ أقْطَعُ بِهِ هَذِهِ المَادَّةَ!
خَبّرونا على ما تدلّ هذه القسوة و هذه الغلظة بعد أن تشفوا بقتلهم، و نالوا ما أحبّوا فيهم؟! أ تدلّ على نصب و سوء رأي و حقد و بغضاء و نفاق و على يقين دخول و إيمان معيوب أم تدلّ على الإخلاص و حبّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و المحافظة عليه و على برائة الساحة و صحّة السريرة؟!
فإن كان على ما وصفناه لا يعدو الفسق و الضلال، و ذلك أدنى منازله. فالفاسق ملعون. و من نهى عن لعن الملعون ملعون. و زعمت نابتة عصرنا و مبتدعة دهرنا أنّ سبّ ولاة السوء فتنة و لعن الجورة بدعة ... و النابتة في هذا الوجه أكفر من يزيد و أبيه، و ابن زياد و أبيه.٢
على أنّهم مجمعون على أنّه ملعون من قتل مؤمناً متعمّداً أو متأوّلًا. فإذا كان القاتل سلطاناً جائراً، و أميراً عاصياً، لم يستحلّوا سبّه، و لا خلعه و لا نفيه و لا عيبه، و إن أخاف الصلحاء، و قتل الفقهاء، و أجاع الفقير، و ظلم الضعيف، و عطّل الحدود و الثغور، و شرب الخمور، و أظهر الفجور. ثمّ ما زال الناس يتسكّعون مرّةً، و يداهنونهم مرّة، و يقاربونهم مرّة، و يشاركونهم مرّة، إلّا بقيّة ممّن عصمه الله تعالى ذكره!
ثمّ أخذ الجاحظ يُبَيِّن ما وقع ممّن جاء بعد يزيد من الفظائع التي تقشعرّ منها الأبدان، و لم يسمع بمثله في أيّ زمان.
و لو أنّ المقام يحتمل ما في رسالة الجاحظ ممّا ارتكب بنو اميّة من الظلم و البغي و القهر لجئنا به كاملًا، فليرجع إلى هذه الرسالة القيّمة - و هي مطبوعة - من يريد.
عداء أبي سفيان السافر للنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم
قال الشاعر و صدق:
عَبْدُ شَمْسٍ قَدْ أضْرَمَتْ لِبَنِي هَا | *** | شِمٍ نَاراً يَشِيبُ مِنْهَا الوَلِيدُ |
فَابْنُ حَرْبٍ لِلْمُصْطَفَى وَ ابْنُ هِنْدٍ | *** | لِعَلِيّ وَ لِلْحُسَيْنِ يَزِيدُ |
و ابن حرب هو أبو سفيان بن اميّة بن عبد شمس. كان رأساً من رؤوس الأحزاب على رسول الله، و من الذين أجمعوا على منابذته، و ممّن حضروا دار الندوة ليتشاوروا في قتله، و تعاقدوا على القضاء عليه، كما ذكر المقريزيّ من قبل. ثمّ كان على رأس المحرّضين على محاربة النبيّ في موقعة بدر.۱ و في هذه الغزوة قُتِلَ مَن قُتِل مِن سادات قريش و منهم: الوليد بن عقبة خال معاوية و والد هند.
و بعد هذه الغزوة التي نجا منها أبو سفيان، أصبح سيّد مكّة بلا منازع و زعيم قريش في حربها و سلمها. و هو الذي قاد قريشاً يوم احد و الخندق. و ألّب العرب على النبيّ و أصحابه، و أغرى اليهود حتى نقضوا عهدهم مع النبيّ و أصحابه. و هو الذي ظلّ يدبّر مقاومة قريش للنبيّ و كيدها له، و مكرها به.٢ و استمرّ على ذلك حوالي عشرين سنة من أوّل قيام الدعوة
حتّى كان يوم فتح مكّة فأسلم مُرغماً.
و كان قد نذر أن لا يمسّ رأسه ماءٌ من جنابة حتى يغزو محمّداً.
كان أبو سفيان من المُؤلَّفة قلوبهم و من الطلقاء
و قد بيّنّا لك من قبل قصّة إسلامه، عند ما احيط به على ما رواه المقريزيّ آنفاً و كان معه ابنه معاوية و سائر أولاده و من أسلم من قومه،
و قال لهم النبيّ يومئذٍ: اذْهَبُوا فَأنْتُمُ الطُّلَقَاءُ. و كان كذلك هو و أولاده من المُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ، و هم قوم من كبار العرب كانوا يُعطَون من الصدقات مالًا، إمّا دفعاً لأذاهم، و إمّا طمعاً في إسلامهم، و إمّا تثبيتاً في الإسلام.۱
و كان أبو سفيان و أولاده من الذين كان يعطيهم النبيّ دفعاً لأذاهم، لأنّ إسلامهم كما بيّنّا لم يكن صحيحاً، فلمّا تولّى عمر حرمهم ذلك، و قال: انْقَطَعَتِ الرُّشَا، لأنّ المسلمين قد كثروا.
و المُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُم ناسٌ من قريش أسلموا يوم الفتح إسلاماً ضعيفاً. و الطلقاء جمع طليق و هو مَن حصل المنّ عليه يوم فتح مكّة من قريش، و من هؤلاء: أبو سفيان، و سهل بن عمرو، و حويطب بن عبد العزّى، و معاوية و يزيد ابنا أبي سفيان.
و كان الطلقاء يقولون في محمّد صلّى الله عليه و آله:
دَعُوْهُ وَ قَوْمَهُ فَإنْ غَلَبَهُمْ دَخَلْنَا في دِينِهِ، وَ إن غلَبُوهُ كَفَوْنَا أمْرَهُ!
و قال ابن عبّاس: إن قوماً كانوا يأتون النبيّ فإذا أعطاهم مدحوا الإسلام، و إذا منعهم ذمّوا و عابوا، و كان من هؤلاء أبو سفيان و عُيينة بن حصن، و كانوا إذا ذكروا أبا سفيان ذكروا معه ابنه معاوية.۱
و ذكر أبو ريّة موضوعاً حول أبي هريرة قبل هذه الموضوعات قال فيه: ممّا لا ريب فيه أنّ أبا هريرة قد اتَّصل بدولة بني اميّة و بني أبي معيط اتِّصالًا وثيقاً، فتشيّع لها، و حطب في حبلها، و استظلّ بظلّها، و ناصرها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، و من أجل ذلك ظفر بمكانة عظيمة لديها فغمرته بأعطياتها، و ملئوا يديه من نوالها. و جدير بنا قبل أن نعرض لهذا الاتّصال أن نوطّئ بصدرٍ من القول نبيّن فيه حقيقة هذه الدولة، و كيف قامت، و ما ذا كان من أمر زعمائها من النبيّ من أوّل يوم قام فيه بدعوته، و قعودهم له كلّ مرصد، و إمعانهم في أذاه! و شنّ الحروب عليه. إلى أن قال:
كان أبو سفيان يتربّص الدوائر بالنبيّ أبداً
إن قيام الدولة الأمويّة له جذور عميقة تضرب في أحشاء الزمن البعيد في الجاهليّة، يجب على كلّ من يتصدّى لتأريخ هذه الفترة من الزمن أن ينفذ إليها و يتعمّقها، و أن يصوّرها تصويراً صادقاً، ثمّ يعرض صورتها جليّةً على الناس. و هذه الجذور ترجع إلى ما كان من شنآن متأصّل في صدر بني اميّة لبني هاشم قبل الإسلام. و ظلّ هذا الشنآن يؤجّ بينهما على مدّ الزمن ناراً و سعيراً، حتى إذا ظهر النبيّ صلّى الله عليه و آله بدعوته، كان هؤلاء القوم أسرع الناس إلى معارضته، و التصدّي لدعوته، فعاجلوه بالمعارضة، و تولّوه بالأذى حسداً من عند أنفسهم، و لم يذروه ينشر
دعوته، و يبلّغ رسالته، بل أضرموا عليه حرباً ضروساً، اتّصلت بينهم و بينه حوالي عشرين سنة إلى أن فتحت مكّة بنصر الله فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ.۱
و لم يجد أبو سفيان الذي كانت له الزعامة في قريش بعد أن قتل صناديدهم في وقعة بدر مناصاً من أن يستسلم و أن يسلم مرغماً هو و أولاده، و منهم معاوية.
و لمّا كان إسلامهم هذا ظاهراً لم يجاوز حناجرهم، و لمّا يدخل الإيمان في قلوبهم، فقد ظلّوا على ما بأنفسهم، مضمرين بغضهم القديم، و مقتهم الموروث، و ما أربي عليه من حقد جديد يأكل صدورهم أن تظهر النبوّة في بني هاشم أعدائهم و إن أيقنوا أنّ دعوة هذا النبيّ ستقضي إلى الأبد على نفوذهم بمكّة التي كانت يومئذٍ خالصة لهم، و تمحو سيطرتهم على أهلها، و لبثوا من أجل ذلك كلّه يتربّصون بالنبيّ الدوائر، و يرتقبون أن
تتاح لهم فرصة فيعيدوا الكرّة لكي يستعيدوا مجدهم الذاهب، و يستردّوا نفوذهم البائد.
و ما إن لحق النبيّ بالرفيق الأعلى حتى أسرعوا إلى إشعال نار الفتنة ليعيدوها جذعة، و لكنّهم خابوا فيما كانوا يبتغون، و حاق بهم ما كانوا يمكرون، إذ لم يدع لهم أبو بكر و عمر و عليّ أيّ منفذ إليه ينفذون،۱ إلى أن قُتل عمر بمؤامرة أثيمة،٢ و هنالك أماطوا عن وجوههم أقنعة النفاق، و أخذوا يسعون بكلّ ما استطاعوا في سبيل قيام دولة منهم بعد أن طال ارتقابهم، و شدّ من عزمهم أن استُخلِفَ عثمانُ بعد عمر في ظروف لا نتوسّع بتفصيلها - و كان أمويّاً منهم فما لبث أن وطّأ لهم و لبني أبي معيط من رقاب المسلمين و خالف بذلك وصيّة عمر.٣
و قال أبو ريّة في كتابه النفيس الآخر متحدّثاً عن هذا الموضوع و ذاكراً مطالب يدور حولها الحديث: إن الذي يريد أن يدرس تأريخ الإسلام على حقّه إنّما يجب عليه أن يحيط علماً بما كان عليه العرب قبل
الإسلام عامّة، و بخاصّة بين بني هاشم و بين بني اميّة في الجاهليّة،۱ ثمّ في الإسلام. و بما شَجَرَ بين الصحابة منذ عهد عثمان و الحروب التي وقعت بين عليّ رضي الله عنه و بين معاوية، و جنودهما أكثرهما من الصحابة. و ما كان بعد ذلك بين الأمويّين و العبّاسيّين، و كذلك ما كان بين النبيّ صلّى الله عليه و آله و بين اليهود، و ما تكنّه قلوب أهل الأديان و الامم الاخرى للإسلام من بغض و شنآن.
حقّاً يجب على كلّ من يريد أن يقف على تأريخ الإسلام الصحيح أن يحيط بذلك كلّه علماً فتنكشف أمامه آفاق بعيدة ينبعث منها نور قويّ يهدي إلى تحليل الحوادث تحليلًا صحيحاً. فإنّ كلّ هذه الامور كان لها و لا ريب أثر بعيد في تكوين التأريخ الإسلاميّ، و فيما تدسّسَ إلى تفسير القرآن من أساطير، و ما نُسب إلى النبيّ - كذباً - من أحاديث.
و إن التأريخ ليُنبئك أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله ما كاد ينتقل إلى الرفيق الأعلى حتى بدا ما كان يُكنّه بنو اميّة من الموجدة لبني هاشم ممّا كان قد استتر بغطاء الإسلام حيناً، فحاولوا إغراء بني هاشم بالمطالبة بالخلافة لكي تقع الفتنة، و لكن يقظة عليّ أحبطت كيدهم فسكنوا و طووا على ما بين جوانحهم حتى يهيّئوا فرصةً تسنح لهم إلى أن تهيّأت في خلافة عثمان.
ذلك بأنّه ما كاد يتولّى الأمر حتى كشف الأمويّون عمّا كانت تخفي صدورهم - و كان أمويّاً - و أخذوا ينفّذون خطّتهم بدقّة و مهارة حتى أصبح الأمر كلّه في عهده لهم. و انقلب نظام الحكم كلّه في السنين الأخيرة من
حكم عثمان من خلافةٍ عادلةٍ۱ إلى ملكٍ تتعاوره الأهواء، و تتداوله الأغراض.
وضع الأحاديث سلاح لغلبة بني اميّة
و لمّا انشقّت العصا بعد وفاة عثمان و استعرت نار الفتنة، و انشعب الناس إلى شعب متعدّدة، أخذ كلّ فريق يؤيّد حزبه بكلّ ما يستطيع من وسائل التأييد المادّيّة و المعنويّة و القوليّة، فهذا يشايع الهاشميّين، و ذاك يناصر الأمويّين، و هكذا. و قد رأوا أنّ أقوى أسلحة الغلب أن يستعين كلّ فريق بأدلّة مأثورة عن النبيّ تشدّ أزر فرقته و تقوّى دعوتها، من أجل ذلك أخذوا جميعاً يروون أحاديث ينسبونها إلى الرسول صلّى الله عليه و آله،
و بخاصّة في الفضائل، كما رأيت ذلك في أسباب وضع الحديث من قبل!
و إنّهم لم يفعلوا ذلك إلّا لأنّهم وجدوا أنّ شخص الرسول صلّى الله عليه و آله ممّا تعنو له الهام و أنّ مقامه بينهم جميعاً فوق كلّ مقام، و لكن الغلب كتب لبني اميّة على بني هاشم بما كان لهم من قوّة و مكر، و ما كان في أيديهم من مالٍ و سلطانٍ و قهرٍ.
و ثمّ ناحية اخرى كان لها حظّ كبير - في العبث بالرواية - و كان عمل أصحابها دينيّاً خفيّاً، و غايتها التي تسعى إليها أن تفسد عقائد الدين النقيّة، بأن تدخل فيها ما ليس منها و تدسّ إليها من التعاليم الزائفة ما يشوّه جمالها، اولئك هم أهل الكتاب من اليهود و النصارى الذين أظهروا الإسلام خدعة، ثمّ ألقوا ما شاء لهم الكيد و الهوى من الإسرائيليّات و المسيحيّات و الأكاذيب في دين العرب الجديد - كما مرّ بك - و من هذا و من أسباب كثيرة بيّنّاها من قبل، أخذ الوضع و الكذب يفشوان بين الناس، و استجرت الرواية عن رسول الله حتى رَكِبَ النَّاسُ في ذَلِكَ - كما قال ابن عبّاس - الصَّعْبَةَ وَ الذَّلُولَ.۱
أي: التقوا بكلّ حديثٍ صحيحٍ و سقيم، و سمعوا كلّ كلامٍ حقٍّ و باطل منسوباً إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله.
الإسلام الظاهريّ للبعض من أجل ترويج كتبهم
و كان الشيخ محمّد عبدُه يرى أنّ وضع الأحاديث بخاصّةٍ في زمن الأمويّين من أعظم المصائب التي نزلت بالإسلام.
قال أبو ريّة تحت عنوان أعْظَمُ مَا رُزِئَ بِهِ الإسْلَامُ: قال الاستاذ الإمام محمّد عبده:
لم يُرزأ الإسلام بأعظم ممّا ابتدعه المنتسبون إليه، و ما أحدثه الغلاة من المفتريات عليه، فذلك ممّا جلب الفساد على عقول المسلمين، و أساء ظنون غيرهم فيما بني عليه الدين. و قد فشت للكذب فاشية على الدين المحمّديّ في قرونه الاولى حتى عرف ذلك في عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل عهد الكذب على النبيّ صلّى الله عليه و آله في حياته ... .
إلّا أنّ عموم البلوى بالأكاذيب حقّ على الناس بلاؤه في دولة الأمويّين فكثر الناقلون و قلّ الصادقون و امتنع كثير من أجلّة الصحابة عن الحديث إلّا لمن يثقون بحفظه خوفاً من التحريف فيما يؤخذ عنهم ... .
و روى الإمام مسلم في مقدّمة صحيحه قال: مَا رَأيْتُ أهْلَ الخَيْرِ في شَيْءٍ أكْذَبَ مِنْهُمْ في الحَدِيثِ.۱
ثمّ اتّسع شرّ الافتراء، و تفاقم خطب الاختلاق، و امتدّ بامتدادات الزمان، و من راجع مقدّمة الإمام مسلم، علم ما لحقه من التعب و العناء في تصنيف صحيحه، و اطّلع على ما أدخله الدخلاء في الدين و ليس منه في شيء.
لم يخف على أهل النظر في التأريخ أنّ الدين الإسلاميّ غشي أبصار العالم بلامع القوّة، و علا رؤوس الامم بسلطان السطوة، و فاض في الناس فيضان السيول المنحدرة، و لاحت لهم فيه رغبات، و تمثّلت لهم منه مرهبات، و قامت لُاولي الألباب عليه آيات بيّنات، فكان الداخلون في الدين على هذه الأقسام:
قوم اعتقدوا به إذعاناً لحجّته و استضاءة بنوره و اولَئِكَ الصَّادِقُونَ.
و قوم من ملل مختلفة انتحلوا لقبه و اتّسموا بسمته، إمّا لرغبةٍ في مغانمه أو لرهبةٍ من سطوات أهله، أو التعزّز بالانتساب إليه فتدثّروا بدثاره، لكنّهم لم يستشعروا بشعاره، لبسوا الإسلام على ظواهر أحوالهم، إلّا أنّه لم يمسّ أعشار قلوبهم، فهم كانوا على أديانهم في بواطنهم، و يضارعون المسلمين في ظواهرهم.
و قد قال الله في قوم من أشباههم: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ.۱
فمن هؤلاء مَن كان يبالغ في الرياء حتى يظنّ الناس أنّه مِن الأتقياء، فإذا أحسّ من قوم ثقة بقوله أخذ يروي لهم أحاديث دينه القديم مسنداً لها إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله أو بعض أصحابه.
و لهذا ترى جميع الإسرائيليّات و ما حوته شروح التوراة قد نقل إلى الكتب الإسلاميّة على أنّه أحاديث نبويّة.٢
و منهم مَن تعمّد وضع الأحاديث التي لو رسخت معانيها في العقول أفسدت الأخلاق و حملت على التهاون بالأعمال الشرعيّة و فتّرت الهمم عن الانتصار للحقّ، كالأحاديث الدالّة على انقضاء عُمر الإسلام و العياذ بالله، أو المُطمِّعة في عفو الله مع الانحراف عن شرعه، أو الحاملة على التسليم للقَدَر بترك العقل فيما يُصلح الدين و الدنيا.
كلّ ذلك يضعه الواضعون قصداً لإفساد المسلمين و تحويلهم عن اصول دينهم. ليختلّ نظامهم و يضعف حولهم.
و مِن الكاذبين قوم ظنّوا أنّ التزيّد في الأخبار و الإكثار من القول،
يرفع من شأن الدين، فهذروا بما شاءوا، يبتغون بذلك الأجر و الثواب، و لن ينالهم إلّا الوزر و العقاب، و هم الذين قال فيهم مسلم في صحيحه: مَا رَأيْتُ الصَّالِحِينَ في شَيْءٍ أكْذَبَ مِنْهُمْ في الحَدِيثِ.۱
و يريد بـ «الصالحين» اولئك الذين يطيلون سبالهم و يوسّعون سربالهم و يطأطئون رؤوسهم و يخفتون من أصواتهم، و يغدون و يروحون إلى المساجد بأشباحهم، و هم أبعد الناس عنها بأرواحهم، يحرّكون بالذكر شفاههم و يلحقون بها في الحركة سُبخهم.٢ و لكنّهم كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب:
جَعَلُوا الدِّينَ مِنْ أقْفَالِ البَصِيرَةِ وَ مَغَالِيقِ العقلِ، فَهُمْ أغْرَارٌ٣ مَرْحُومُونَ، يُسِيئُونَ وَ يَحْسَبُونَ أنَّهُمْ يُحْسِنُونَ ... .
فَهؤُلاءِ قَدْ يُخَيَّلُ لَهُمُ الظُّلْمُ عَدْلًا، وَ الغَدْرُ فَضْلًا، فَيَرَوْنَ أنَّ نِسْبَةَ مَا يَظُنُّونَ إلى أصْحَابِ النَّبِيّ مِمَّا يَزِيدُ في فَضْلِهِمْ، وَ يُعْلِى في النُّفُوسِ مَنْزِلَتَهُمْ، فَيَصِحُّ فِيهِمْ مَا قِيلَ: عَدُوٌّ عَاقِلٌ خَيْرٌ مِنْ مُحِبٍّ جَاهِلٍ.٤ ببعض
زاهد چه بلائي تو كه صد دانة تسبيح | *** | از دست تو سوراخ به سوراخ گريزد |
خلق از پى تو زار دويدن عجبي نيست | *** | يك برّه نديدم كه ز سلّاخ گريزد |
اختصار.
يواصل أبو ريّة كلامه في باب الرواية في الإسلام و كيفيّتها في عصر الخلفاء إلى أن يقول: و كان أكثر الصحابة روايةً أبو هُريرة، و قد صحب ثلاث سنين،۱ و عمّر بعده صلّى الله عليه [و آله] و سلّم نحواً من خمسين سنةً،٢ و لهذا كان عمر و عثمان و عائشة ينكرون عليه و يتّهمونه. و هو أوّل راويةٍ اتُّهِم في الإسلام. و كانت عائشة أشدّهم إنكاراً عليه لتطاول الأيّام بها و به، إذ توفّيت قبله بسنةٍ ... .
ثمّ كانت الفتنة أيّام عثمان و اضطرب من بعدها حبل الكلام في الخلافة، و خاض الناس في ضروب من الشكّ و الحيرة و القلق فكان فيهم من لا يتوقّى و لا يتثبّت، و ألف كثيرٌ من الناس أمر هؤلاء فلم يبالوا أن يتبيّنوا فيرجعوا في الرواية إلى شهادةٍ قاطعةٍ أو دلالة قائمةٍ ... .
(إلى أن يقول:) غير أنّ الأعلام كانت يومئذٍ لا تزال قائمةً، و الفروع لا تزال باسقة، فكان الخطب لم يستفحل حتى إذا خرجت الخوارج، و تحزّب الناس فرقاً، و جعلوا أهلها شيعاً.
ثلاث طوائف في الإسلام وضعت الحديث
(من هنا فالطوائف التي وضعت الحديث ثلاث)
بدءوا يتّخذون من الحديث صناعة فيضعون و يصنعون و يصفون الكذب. ثمّ ظهر القصّاص و الزنادقة، و أهل الأخبار المتقادمة،٣ ممّا يشبه
أحاديث خرافة. فوقع الشوب و الفساد في الحديث من كلّ هذه الوجوه في عصور مختلفة.
أمّا القصّاص فإنّهم كانوا يُميلون وجوه القوم إليهم و يستدرّون ما عندهم بالمناكير و الغرائب و الأكاذيب من الأحاديث. و من شأن العوامّ القعود عند القاصّ ما كان حديثه عجيباً خارجاً عن قطر المعقول، أو كان رقيقاً يحزن القلوب و يستغزر العيون. و للقوم في هذه الفنون الأكاذيب العريضة و الأخبار المستفيضة.
و أمّا الزنادقة فقد جعلوا يحتالون للإسلام و يهجنونه بدسّ الأحاديث المستشنعة و المستحيلة ممّا يشبه خرافات اليونان و الرومان و أساطير الهنود و الفرس ليشنّعوا بذلك على أهل السنّة في روايتهم ما لا يصحّ في العقول و لا يستقيم على النظر.
و أمّا أهل الأخبار المتقادمة فقد قصدوا من ذلك إلى إثبات الخرافات الجاهليّة و جعلها بسبيل من الصحّة للاستعانة بها على التفسير و ما إليه. و أمثلة ذلك كلّه فاشية.۱
و يعتقد العلّامة الحلّيّ رحمه الله أنّ معاوية أسلم إسلاماً ظاهريّاً قبل وفاة النبيّ صلّى الله عليه و آله بستّة أشهر. و قال رادّاً على عمل العامّة و عقودهم الموضوعة:
و سمّوها (عائشة) امّ المؤمنين، و لم يسمّوا غيرها بذلك، و لم يسمّوا أخاها محمّد بن أبي بكر - مع عظم شأنه و قرب منزلته من أبيه و اخته عائشة امّ المؤمنين - خال المؤمنين، و سمّوا معاوية بن أبي سفيان خال المؤمنين، لأنّ اخته امّ حبيبة ابنة أبي سفيان بعض زوجات الرسول
صلّى الله عليه و آله، و اخت محمّد بن أبي بكر و أبوه أعظم من اخت معاوية و من أبيها.
مع أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله لَعَنَ مُعَاوِيَةَ الطَّلِيقَ ابْنَ الطَّلِيقِ اللَّعِينَ ابْنَ اللَّعِينِ. و قال: إذَا رَأيْتُمْ مُعَاوِيَةَ على مِنْبَرِي فَاقْتُلُوهُ!
و كان من المُؤَلَّفَةِ قُلُوبِهِمْ. و قاتل عليّاً عليه السلام و هو عندهم رابع الخلفاء إمام حقّ. و كلّ من حارب إمام حقّ فهو باغٍ ظالمٌ.
و سبب ذلك محبّة محمّد بن أبي بكر لعليّ عليه السلام و مفارقته لأبيه و بغض معاوية لعليّ عليه السلام و محاربته له.
لم يكن معاوية من كتّاب الوحي
و سمّوه كاتب الوحي و لم يكتب كلمةً واحدةً من الوحي، بل يكتب له صلّى الله عليه و آله رسائل، و قد كان بين يدي النبيّ صلّى الله عليه و آله أربعة عشر نفساً يكتبون الوحي، أوّلهم و أخصّهم به و أقربهم إليه صلّى الله عليه و آله علي بن أبي طالب عليهما السلام، مع أنّ معاوية لم يزل مشركاً في مدّة كون النبيّ صلّى الله عليه و آله مبعوثاً يُكذِّبُ بالوحي و يهزأ بالشرع، و كان باليمن يوم الفتح يطعن على رسول الله صلّى الله عليه و آله، و يكتب إلى أبيه صخر بن حرب يعيّره بإسلامه، و يقول: أ صَبَوْتَ إلى دِينِ مُحَمَّدٍ.
و كتب إليه:
يَا صَخْرُ لَا تُسْلِمَن طَوْعاً فَتَفْضَحَنَا | *** | بَعْدَ الَّذِينَ بِبَدْرٍ أصْبَحُوا مَزِقَا |
جَدِّي وَ خَالِي وَ عَمِّ الامِّ يَا لَهُمُ | *** | قَوْماً وَ حَنْظَلَةَ المُهْدِي لَنَا الأرَقَا |
فَالمَوْتُ أهْوَنُ مِن قَوْلِ الوُشَاةِ لَنَا | *** | خَلَّي ابْنَ هِنْدٍ عَنِ العُزَّي إذَا فُرِقَا |
و الفتح كان في شهر رمضان لثمان سنين من قدوم النبيّ صلّى الله عليه و آله المدينة و معاوية حينئذٍ مقيمٌ على شِركه، هاربٌ من النبيّ صلّى الله عليه و آله، لأنّه كان قد أهدر دمه فهرب إلى مكّة، فلمّا لم يجد له مأوى صار إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله مضطرّاً، فأظهر الإسلام، و كان إسلامه قبل موت النبيّ صلّى الله عليه و آله بخمسة أشهر، و طرح نفسه على العبّاس، فسأل فيه رسول الله صلّى الله عليه و آله فعفا عنه، ثمّ شفع إليه أن يشرّفه و يُضيفه إلى جملة الكتّاب، فأجابه و جعله واحداً من أربعة عشر، فكم كان يخصّه من الكتّاب في هذه المدّة لو سلّمنا أنّه كان كاتب الوحي حتى استحقّ أن يوصف بذلك دون غيره؟!
مع أنّ الزمخشريّ - من مشايخ الحنفيّة - ذكر في كتاب «ربيع الأبرار» أنّه: ادّعى بنوّته أربعة نفر.
على أنّ من جملة كتبة الوحي ابن أبي سرح و ارتدّ مشركاً، و فيه نزل: وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.۱
و قد روى عبد الله بن عمر قال: أتيتُ النبيّ صلّى الله عليه و آله، فسمعته يقول: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَمُوتُ على غَيْرِ سُنَّتِي فَطَلَعَ مُعَاوِيَةُ.٢
الأشخاص الذين كانت لهم اليد الطولى في وضع الأحاديث
لم يدّخر معاوية وسعاً و لم يأل جهداً في الاستفادة من وُضّاع الحديث مثل كَعْب الأحبار، و أبي هريرة، و عبيد الله بن عمرو بن العاص،
و سَمرة بن جُنْدَب. أوّلًا: لَفَتَهُم إلى الشام، و أبان لعامّة الناس أنّها مقرّ النور و الرحمة و نزول البركات السماويّة و ذلك بواسطة هؤلاء الوضّاع. ثانياً: زهّدهم عن العراق و عليّ و أصحابه بزعمه أنّ العراق مركز الفظاظة و الخشونة و المحنة و البعد عن النور و الرحمة.
و ظهر أشخاص كانت لهم اليد الطولى في وضع الحديث، و حافزهم على ذلك انحراف المذهب و تحريف عقائد المسلمين الثابتة، و استعان معاوية بهم و بتلاميذهم من أجل إعلاء شأنه و الحطّ من شأن أمير المؤمنين عليه السلام. و كان كعب الأحبار، و عبد الله بن سلام، و وهب بن منبّه - كما سنرى لاحقاً - ثلاثة من أعلام اليهود و أعيانهم و أحبارهم و علمائهم لم يُسلموا قبل الهجرة و بعدها. و حين رأوا الغلبة السياسيّة للنبيّ و نفوذ كلمته، و رأوا أنفسهم متخلّفين عن الركب أسلموا إسلاماً ظاهريّاً ليُصيبوا حظّاً من المزايا الظاهريّة للإسلام، و ليحقّقوا مآربهم الخبيثة و يوجّهوا ضرباتهم القاصمة للإسلام الأصيل بوضع الأحاديث المحرّفة، عن التوراة، و الافتراء على رسول الله صلّى الله عليه و آله لما كانوا عليه من اطّلاعٍ كافٍ على التوراة و كتب الأنبياء السابقين.
لقد كانوا ممّن تصرّم شطر من أعمارهم، و كان لهم شأنهم و وجاهتهم في المجتمع، و كانوا ملمّين باللغة العبريّة (لغة التوراة) التي لم يعرف العرب عنها شيئاً، لذا كان الطريق مفتوحاً أمامهم لوضع الأخبار و تزويرها أيّاً كانت.
كانوا يقرأون على الناس أخباراً من التوراة في عظمة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و منزلته إرضاءً للمسلمين السذّج البسطاء، و لفتاً لأنظار عامّة الناس إليهم بوصفهم اولي أسرارٍ إلهيّة و رموز ربّانيّة من كتب الأنبياء الماضين، كما فعلوا ذلك ليسمعهم الناس و يُنصتوا إليهم و يثمّنوا كلامهم.
و من الطبيعيّ أنّ الناس الحديثي العهد بالإسلام كانوا يلتفّون حولهم، و يقبلون كلامهم تماماً مهما كان بوصفه يحمل أخباراً غيبيّة عن الأنبياء السابقين، و ذلك لتطيب قلوبهم بنبوّة نبيّهم صلّى الله عليه و آله. فكانوا يضعون في تضاعيف تلك الأخبار أحاديث كاذبة مخالفة للعقل و الوجدان و الشرع و ينسبونها إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله ليُظهروا الأحاديث النبويّة للناس بمظهر السنن القبيحة و الممارسات الشاذّة. و برواية هذه الأحاديث لم يدخل في دين الله أحد من الناس، و ليس هذا فحسب، بل إن عقيدة المسلمين السابقين قد ضعفت شيئاً فشيئاً حتى دخلت في قلوب أبنائهم مشوّهةً مقدوحاً فيها، و من ثمّ لن يُكتب لها الثبات و الاستمرار.
لاحظوا أنّ هذه الحالة تُشبه حالة الشيعة اليوم تماماً إذ بمجرّد أن تطرأ واقعة جديدة، يتساءلون: هل هذه من علامات الظهور في الأخبار و الأحاديث؟! و حينئذٍ لو وُجد شخص غير صالح لا سمح الله فإنّه يبدأ بطرح موضوعات لا سنداً شرعيّاً لها و لا دليلًا عقليّاً عليها اجتذاباً لقلوب العامّة من الناس و إشغالًا لهم. و عند ذاك يلحظ هبوط في درجة اعتقادهم عن المعرفة الحقيقيّة للإمام في حين لا يُنتظَر من المذهب الشيعيّ الرصين المشفوع كلامه بالدليل العقليّ و البرهان أن تُحاك حوله الحكايات و القصص الخياليّة و الأساطير الشبيهة بمنسوجات الأحلام و أن تُسْتَخْدَمَ فيه المطالب التي يأباها العقل.
الجزيرة الخضراء حكاية خياليّة
و من الموضوعات الخياليّة و الأساطير المزيّفة حول وجود قائم آل محمّد عجّل الله تعالى فرجه الشريف قصّة البحر الأبيض، و الجزيرة الخضراء، و مثلّث برمودا، التي تتداولها الألسن، و تُطرح حولها مطالب على المنابر بلا سندٍ معتبر، حتى ذكر بعض الكتب مسائل كلّها خالية من الحقيقة.
إن الجزيرة الخضراء كانت في غرب الأندلس مركزاً للمهديّ خليفة الفاطميّين، و هي الآن مغمورةٌ بالماء.
كانت هذه الجزيرة مركزاً للمهديّ الذي اضيفت إليه كلمة القائم فصارت مركزاً للمهديّ القائم، ثمّ قالوا بعد ذلك: لا بدّ للمهديّ من زوجة إذ لا يمكن أن لا يعمل إمام الزمان بسُنّة النبيّ، و له أولاد و أحفاد وَ هَلُمَّ جَرَّاً.
كما أنّ مثلّث برمودا خليجٌ تحته مغناطيس متحرّك يجذب كلّ باخرةٍ و أحياناً كلّ طائرةٍ تمرّ من هناك. مَن الذي قال: إن تلك الجزيرة هي محلّ إقامة الإمام عليه السلام؟! و اليوم يصوّرون كلّ نقطةٍ من الأرض بالأقمار الصناعيّة حتى قالوا: إن في إيران عدداً من البحيرات غير موجودة على الخارطة، و قال البعض: يمكن أن تكون سدوداً انشئت حديثاً ثمّ اتّخذت شكل البحيرات.
لما ذا تُسقط الجزيرة الخضراء في مثلّث برمودا الطائرات و تُغرق البواخر حتى لو كان جميع ركّابها مشركين!؟ أ ليس إمام العصر و الزمان مركزاً للعدل و موئلًا للرحمة!؟ إنّه لا يقتل أحداً حتى الكفّار الحربيّين فضلًا عن المستضعفين ما لم يُلقِ الحجّة و يُقمِ البرهان!
أ لم يقرأ الإمام قوله تعالى: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.۱
يخاف الكثيرون هذا اليوم من ظهور الإمام. يقولون: إذا ظهر فإنّه يقتلنا. و هذه العقيدة الخرافيّة باطلة. فهو لا يقتل أحداً ما لم يلق عليه الحجّة. إنّه لا يقتل أهل الدين، بل يقتل المنكرين و المعاندين و الأعداء. فلما ذا نفرّ من ظهوره؟! نحن ننتظر الفَرَجَ لينظر إلينا بعين الرحمة و يُحيي أرواحنا و نفوسنا و يملأها سروراً و نضارة و عشقاً إلهيّاً!
و لم يذكر المجلسيّ في «بحار الأنوار» قصّة الجزيرة الخضراء ضمن الاصول المعتبرة و الروايات الواردة عنها، بل يصرّح أنّه لم يجد سنداً يدلّ على صحّتها، لذا أفرد لها باباً مستقلًّا تحت عنوان أشياء موجودة بلا سند. و أورد أنّه وجد هذه الرسالة المشتهرة بقصّة الجزيرة الخضراء في البحر الأبيض و أحبّ ذكرها. و بلغ كلام صاحب الرسالة (و هو مجهول) بقوله:
فقد وجدتُ في خزانة أمير المؤمنين عليه السلام و سيّد الوصيّين و حجّة ربّ العالمين و إمام المتّقين علي بن أبي طالب عليه السلام بخطّ الشيخ الفاضل و العالم العامل الفضل بن يحيى بن عليّ الطيِّبيّ الكوفيّ قدّس الله روحه ما هذا صورته ... .
و ذكر المحدّث النوريّ رحمه الله هذه القصّة في كتاب «النجم الثاقب» مفصّلًا، و قال في آخرها: نقل العلّامة المجلسيّ في «البحار» و الفاضل الخبير الميرزا عبد الله الأصفهانيّ في «رياض العلماء» عن رسالة الجزيرة الخضراء أنّ صاحب الرسالة قال: فقد وجدتُ بخطّ الشيخ الفاضل - إلى آخر الموضوع، و لم يشيرا إلى اسم الواجد و اكتفيا بهذا القدر في الاعتبار. و لكنّ الفاضل الصالح آغاخوند ملّا كاظم هزار جريبي، تلميذ الاستاذ الأكبر العلّامة البهبهانيّ، قال في مناقبه: إن هذه الحكاية منقولة عن خطّ الشيخ الأجلّ الأفضل ... محمّد بن مكّي المشهور بالشهيد كما نقل جمع من المؤمنين التقاة الثقات المعتمدين بلفظ عربيّ.۱
إلى أن قال: و أمّا الفضل بن يحيى راوي أصل الحكاية بعده فهو من العلماء المعروفين. قال الشيخ الحرّ: هو فاضل عالم جليل، روى «كشف الغمّة» عن مؤلِّفه عليّ بن عيسى الإربليّ و كتبه بخطّه، و له إجازة منه. سنة
ستمائة و إحدى و تسعين - إلى آخر الكلام.۱
و أنا أقول: أوّلًا: إن جلالة الفضل بن يحيى و علمه و فضله كلّ ذلك لا يُضفي على الرسالة اعتباراً، لأنّ الرجل الراوي عنه مجهول لا هو نفسه مجهول. و الوضّاع يختلقون الحديث على لسان رجل مشهور و معتمد، لا على لسان كلّ أحد.
ثانياً: لا جَرَمَ أنّ نقل آغاخوند ملّا كاظم هزار جريبي عن جمع من المؤمنين التقاة الثقات الذين رووا رسالة الشهيد غير صحيح، لأنّ الشهيد وُلد سنة ۷٣٤ و استُشهد سنة ۷۸٦، و هو في الثانية و الخمسين من عمره،٢ و ذكر مُنشئ الرسالة أنّه أنشأها سنة ٦٩٩. فالشهيد وُلد بعد حكاية الجزيرة الخضراء بخمس و ثلاثين سنة، فكيف يمكن أن يكون راوياً للرسالة؟! يضاف إلى ذلك أنّنا نجد في نصّ الرسالة موضوعات تخالف الحقيقة.٣
قال المرحوم المحدّث النوري رحمه الله: نقل في مجلّد السماء و العالم من «البحار» عن كتاب تقسيم أقاليم الأرض و البلدان لأحد علماء السنّة أنّه قال: «بلد المهديّ» حسنٌ و محكم، بناه المهديّ الفاطميّ و جعل له قلعة، كما جعل له أبواباً من حديد يزيد حديد كلّ باب على مائة قنطار. و لمّا بناه و أحكمه قال: الآن اطمأننتُ على الفاطميّين.۱
قال المعلّق على هذا الجزء من كتاب «بحار الأنوار» للمجلسيّ: العالم المتضلّع الخبير الشيخ محمّد باقر البهبوديّ في تعليقه على هذا القسم من الكتاب:
هذه قصّة مصنوعة تخيليّة قد سردها كاتبها على رسم القصّاصين. و هذا الرسم معهود في هذا الزمان أيضاً يسمّونه (رمانتيك) و له تأثير عظيم في نفوس القارئين لانجذاب النفوس إليه، فلا بأس به إذا عرف الناس أنّها قصّة تخيليّة!٢
و مرّ آية الله المحقّق الخبير الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ على هذا الموضوع مشيراً إشارة عابرة إلى أنّه و هم، و ذكره آية الله الشيخ حسن حسن زاده الآمليّ.۱
حياة الإمام المهديّ و إمامته أظهر من الشمس
أجل، إن وجود الإمام المهديّ الحجّة بن الحسن العسكريّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف مطلب برهانيّ بدليل العقل من الأحاديث المتواترة المستفيضة الثابتة بإجماع الامّة. فما حاجة الشيعة إلى نقل أدلّة و موضوعات ضعيفة لا شأن لها في كتبهم؟!
و هل لهذا الضرب من الروايات، التي تدور حول الجزيرة الخضراء و هي مخالفة للواقع و الحقيقة، إلّا استهزاء المعاندين و الأعداء و سخريتهم بنا؟!
و عند ما يهتدي الاستاذ الفرنسيّ البروفيسور هنري كوربان المتخصّص في الشؤون الشيعيّة إلى المذهب الشيعيّ بسبب اعتقاده بوجود إمام العصر و الزمان الحيّ فحسب، و يعدّ المذهب المذكور من أكثر المذاهب أصالةً في العالم، و يقيم الدليل العقليّ على ذلك الأساس، فليس لنا أن نتجاوز الاصول العقليّة الثابتة المعتبرة و النقليّة الصحيحة و نُشغل أنفسنا بكلمات مُريبة و حكايات خياليّة.
كان سماحة العلّامة استاذنا الأكرم الطباطبائيّ رضوان الله عليه يقول: كان كوربان يعتقد أنّ المذهب الوحيد الذي ظلّ حيّاً أصيلًا لم يمت في العالم هو المذهب الشيعيّ لقوله بوجود الإمام الحيّ، و جعله أساس
اعتقاده على هذه الدعامة. فهو حيّ دائماً و أبداً لاتّكائه على المهديّ قائم آل محمّد: محمّد بن الحسن العسكريّ.
ذلك أنّ دين اليهود قد مات بموت موسى و دين النصارى قد مات بعروج عيسى. و سائر مذاهب المسلمين بوفاة النبيّ. بَيدَ أنّ الشيعة تذهب إلى أنّ إمامها و صاحب ولايتها المتّصل بعالم المعنى و الإلهامات السماويّة حيّ يُرزق. فما هو إلّا مذهب الشيعة فقط حيّ خالد.
كان كوربان قريباً جدّاً إلى التشيّع. و غالباً ما كان يقرا أدعية «الصحيفة المهدويّة» و يبكي.۱
أجل، ذكرنا هذا الموضوع كدليل على ما نقول حتى تستبين مسؤوليّة الامّة عامّة حِيال وُضّاع الحديث.
رواج سوق الوضّاعين في عصر معاوية
استفاد معاوية كثيراً من كعب الأحبار اليهوديّ المنافق المكّار المحتال، و من تلميذه أبي هريرة - و قد اختلق هذان و أمثالهم مئات الأحاديث في إعلاء شأن معاوية، و الحطّ من منزلة أمير المؤمنين عليه السلام.
يقول أبو ريّة: لم يكن ما قدّم أبو هريرة إلى آل أبي العاص عامّة، و سائر بني اميّة و معاوية خاصّة، جهاداً بسيفه أو بماله، و إنّما كان كما قلنا أحاديث ينشرها بين الناس، يطعن فيها على عليّ رضي الله عنه و يخذّل بها أنصاره، و يجعل الناس يتبرّأون منه، أو يُشيد بفضل عثمان و معاوية!٢
و قد بلغ من شدّة إخلاص أبي هريرة لمعاوية أنّه كان يتمنّى لو يكون من أبطال الحروب فيغامر في مواقع صفّين ضدّ عليّ رضي الله عنه.
فقد روى العتكيّ قال: كان أبو هريرة مع معاوية في صفّين، و كان يقول: لأن أرمي فيهم بسهم (يعني أهل العراق) أحبّ إلى من حُمْرِ النَّعَم.۱
و في كلام ابن الصلاح و غيره في باب «رواية الأكابر عن الأصاغر» أنّ ابن عبّاس و العبادلة الثلاثة و أبا هريرة و غيرهم قد رووا عن كعب الأحبار اليهوديّ الذي أسلم خداعاً في عهد عمر و عدّوه من كبار التابعين، ثمّ سوّده بعد ذلك على المسلمين.٢
راجت سوق الوضّاعين في عهد معاوية كثيراً، إذ كان فيها رضاه وَ دَعَتُه، و من الطبيعيّ أنّ في مثل هذه الامور يشتدّ كلّ أمر و تترسّخ التهم و الافتراءات.
ذكر آية الله الشيخ حسين على المنتظريّ أنّ المرحوم الميرزا على آغائي الشيرازيّ رحمه الله أحد علماء أصفهان كان يقول: كان أحد العلماء جالساً في مجلس عزاء. و كان الخطيب يُطريه على المنبر! فقال له: يا ولدي! أنا أعلم أنّك تكذب و تتملّق، لكن قل ما تشاء فإنّه يروقني!٣
تدلّ هذه الحكاية على أنّ للإطراء تأثيراً في النفوس حتى لو كان لعلماء الدين و كان كذباً، لذا لا بدّ من الحئول دونه و قطعه من دابره.
يذكر أبو ريّة قصّةً عجيبةً ذات سماعٍ في هذا الموضوع، فيقول: و إليك مثلًا واحداً من أمثلة الوضع للتقرّب من الملوك و الامراء:
كان الرشيد يُعجبه الحَمَامُ و اللهو به، فاهدي إليه حمام و عنده أبو البختريّ القاضي،۱ فقال: روى أبو هُريرة عن النبيّ أنّه قال: لَا سَبْقَ٢ إلّا في خُفٍّ أوْ حَافِرٍ أوْ جَنَاحٍ. فزاد جناح، و هي لفظة وضعها للرشيد، فأعطاه جائزة سنيّة. و لمّا خرج قال الرشيد: و الله لقد علمتُ أنّه كذّاب. و أمر بالحمام أن يُذبح، فقيل: و ما ذنب الحمام؟! قال: من أجله كُذب على رسول الله!٣
نلحظ هنا أنّ هارون أهدى أبا البختريّ جائزة سنيّة لوضعه هذا الحديث الذي يدعم لهوه بالحمام مع عمله بأنّه كذب بإضافة كلمة جناح.
كان معاوية هو الذي هدم مبدأ الخلافة في الإسلام فلم تقم لها من بعده إلى اليوم قائمة، و قد اتّخذ دمشق حاضرةً لملكه. و إليك بعض ما وضعوه من الأحاديث في فضله:
أخرج الترمذيّ أنّ النبيّ قال لمعاوية: اللهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِياً مَهْدِيَّاً.٤
و في حديث آخر أنّ النبيّ قال: اللهُمَّ عَلِّمْهُ الكِتَابَ وَ الحِسَابَ، وَ قِهِ العَذَابَ! و هناك زيادة في هذا الحديث تقول: وَ أدْخِلْهُ الجَنَّةَ.٥
و روى البيهقيّ في «الدلائل» عن أبي هريرة مرفوعاً: الخِلافَةُ
بِالمَدِينَةِ وَ المُلْكُ بِالشَّامِ. و عن كعب الأحبار: أهْلُ الشَّامِ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ يَنْتَقِمُ اللهُ بِهِمْ مِمَّنْ عَصَاهُ.
و من حديثٍ: سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمُ الشَّامُ. فَإذَا خَيَّرْتُمُ المَنَازِلَ فِيهَا فَعَلَيْكُمْ بِمَدِينَةٍ يُقَالُ لَهَا: «دِمَشْقُ» - وَ هِيَ حَاضِرَةُ الأمَويِّينَ - فَإنَّهَا مَعْقِلُ المُسْلِمِينَ في المَلَاحِمِ، وَ فُسْطَاطُهَا مِنْهَا بِأرْضٍ يُقَالُ لَهَا: الغُوطَةُ.۱
و قد صنّف طائفة من الناس مصنّفات في فضائل بيت المقدس و غيره من البقاع التي بالشام، و ذكروا فيها من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب و عمّن أخذ عنهم ما لا يحلّ للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم، و أمثل من نقل عنه تلك الإسرائيليّات كعب الأحبار، و كان الشاميّون قد أخذوا عنه كثيراً من الإسرائيليّات.
معاوية يرى نفسه أمين وحي الله
أصل قرية الأبدال
كان ممّا خصّوا به بلاد الشام من الفضل - بعد أن وصفوها و أهلها بما وصفوا - أن جعلوا منها «الأبدال». و قد كانت هذه العقيدة من عوامل هدم الإسلام إذ اتّخذها الصوفيّة أصلًا لطريقتهم، و بنوا عليها ما بنوا من أوهامهم و خرافاتهم.
روى الواقديّ٢ أنّ معاوية لمّا عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن (سنة ٤۱ هـ) خطب فقال:
أيُّهَا النَّاسُ! إن رَسُولَ اللهِ قَالَ: إنَّكَ سَتَلِي الخِلافَةَ مِنْ بَعْدِي! فَاخْتَرِ الأرْضَ المُقَدَّسَةَ فَإنَّ فِيهَا الأبْدَالَ؛ وَ قَدْ أخْبَرْتُكُمْ فَالعَنُوا أبَا تُرَابٍ!
- أي عَلِيّ بْنَ أبي طَالِبٍ-.
فلمّا كان من الغدِ كتب كتاباً ثم جمعهم فقرأه عليهم و فيه:
هَذَا كِتَابٌ كَتَبَهُ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَةُ صَاحِبُ وَحْيِ اللهِ الذي بَعَثَ مُحَمَّداً نَبِيَّاً وَ كَانَ أُمِّيّاً لَا يَقْرَا وَ لَا يَكْتُبُ، فَاصْطَفَى لَهُ مِنْ أهْلِهِ وَزِيراً كَاتِباً أمِيناً. فَكَانَ الوَحْيُ يَنْزِلُ على مُحَمَّدٍ وَ أنَا أكْتُبُهُ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ مَا أكْتُبُ! فَلَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَ بَيْنَ اللهِ أحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ.۱ فَقَالَ الحَاضِرُونَ: صَدَقْتَ!٢
كلام ابن خلدون في طريقة دسّ الإسرائيليّات في التفاسير
قال ابن خلدون في وضع الإسرائيليّات المدسوسة في تفسير القرآن
الكريم: ثمّ صارت علوم اللسان صناعيّة من الكلام في موضوعات اللغة و أحكام الإعراب و البلاغة في التراكيب فوضعت الدواوين في ذلك بعد أن كانت ملكات للعرب لا يرجع فيها إلى نقل و لا كتاب فتنوسي ذلك و صارت تُتلَقّى من كتب أهل اللسان فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنّه بلسان العرب و على منهاج بلاغتهم و صار التفسير على صنفين: تفسير نقليٍ مسندٍ إلى الآثار المنقولة عن السلف و هي معرفة الناسخ و المنسوخ و أسباب النزول و مقاصد الآي و كلّ ذلك لا يُعرَف إلّا بالنقل عن الصحابة و التابعين، و قد جمع المتقدّمون في ذلك و أوعوا إلّا أنّ كتبهم و منقولاتهم تشتمل على الغثّ و السمين و المقبول و المردود، و السبب في ذلك أنّ العرب لم يكونوا أهل كتاب و لا علم و إنَّما غلبت عليهم البداوة و الامّيّة و إذا تشوّقوا إلى معرفة شيءٍ ممّا تتشوّق إليه النفوس البشريّة في أسباب المكوّنات و بدء الخليقة و أسرار الوجود فإنّما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم و يستفيدونه منهم۱ و هم أهل التوراة من اليهود و من تبع دينهم من النصارى و أهل التوراة الذين بين العرب يومئذٍ باديةٌ مثلهم و لا يعرفون من ذلك إلّا ما تعرفه العامّة من أهل الكتاب و معظمهم من حِمْيَر الذين أخذوا بدين اليهوديّة فلمّا أسلموا بقوا على ما كان عندهم ممّا لا تعلّق له بالأحكام الشرعيّة التي يحتاطون لها مثل أخبار بدء الخليقة و ما يرجع إلى الحدثان و الملاحم و أمثال ذلك و هؤلاء مثل كعب الأحبار و وهب بن منبّهٍ و عبد الله بن سلام و أمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأغراض أخبارٌ موقوفةٌ عليهم و ليست ممّا يرجع إلى الأحكام فتُتَحَرَّى في الصحّة
التي يجب بها العمل و تساهل المفسّرون في مثل ذلك و ملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات.۱
و قال ابن خلدون أيضاً في بداية مقدّمته حول فضل علم التأريخ و تحقيق مذاهبه: ... و كثيراً ما وقع للمؤرّخين و المفسّرين و أئمّة النقل من المغالط في الحكايات و الوقائع لاعتمادهم فيها على مجرّد النقل غثّاً أو سميناً و لم يعرضوها على اصولها و لا قاسوها بأشباهها و لا سبروها بمعيار الحكمة و الوقوف على طبائع الكائنات و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار فضلّوا عن الحقّ و تاهوا في بيداء الوهم و الغلط.٢
إن ابن خلدون مع غزارة معلوماته و سعة دراساته و تدقيقاته، رجل مترف لا يروقه اسلوب أمير المؤمنين صلوات الله عليه، و ينحاز إلى معاوية عليه اللعن و الهاوية و يُخفي جرائمه و يؤوّلها و يُوجّهها، و يراه مجتهداً يخطئ في اجتهاده أحياناً.
انحياز ابن خلدون إلى سلطة معاوية
يواصل المؤرّخ المذكور كلامه فيتحدّث بدهاء و براعة عن تبدّل الخلافة إلى مُلك و سلطنة على يد معاوية و ذلك في مقدّمات مفصّلة حتى يظنّ الإنسان غير المطّلع على حقائق التأريخ أنّ هذا التبدّل كان أمراً بسيطاً ضروريّاً حتميّاً قد حدث. فهو يقول بعد مقدّمة و تفصيل في هذا المجال:
و لمّا لقي معاوية عُمر بن الخطّاب عند قدومه إلى الشام في ابَّهة المُلكِ و زِيِّهِ من العديد و العدّة استنكر ذلك و قال: أ كِسرَويَّةٌ يا معاوية؟ فقال: يا أمير المؤمنين أنا في ثَغْرٍ تجاه العدوّ و بنا إلى مُباهاتهم بزينة الحرب و الجهاد حاجة فسكت و لم يُخطّئه لِمَا احتجّ عليه بمقصد من مقاصد
الحقّ و الدين. فلو كان القصد رفض المُلك من أصله، لم يُقنعه الجواب في تلك الكسرويَّة و انتحالها بل كان يُحرّض على خروجه عنها بالجملة. و إنّما أراد عمر بالكسرويّة ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل و الظلم و البغي و سلوك سبله و الغفلة عن الله و أجابه معاوية بأنّ القصد بذلك ليس كسرويّة فارس و باطلهم و إنّما قصده بها وجه الله، فسكت.
و يواصل ابن خلدون كلامه إلى أن يقول: فلمّا تدرّجت البداوة و الغضاضة إلى نهايتها و جاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبيّة كما قلناه و حصل التغلّب و القهر كان حكم ذلك المُلك عندهم حكم ذلك الرَّفَهِ و الاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التغلّب في باطل و لا خرجوا به عن مقاصد الديانة و مذاهب الحقّ.
و لمّا وقعت الفتنة بين عليّ و معاوية و هي مقتضى العصبيّة كان طريقهم فيها الحقّ و الاجتهاد. و لم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيويّ أو لإيثار باطل أو لاستشعار عقد كما قد يتوهّمه متوهّم و ينزع إليه ملحد.۱
و إنّما اختلف اجتهادهم (عليّ و معاوية) في الحقّ و سفّه كلُّ واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحقّ فاقتتلوا عليه، و إن كان المُصيبُ عليّاً فلم يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل،۱ إنّما قصد الحقّ و أخطأ، و الكلّ كانوا في مقاصدهم على حقٍّ. ثمّ اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد و استئثار الواحد به. و لم يكن لمعاوية أن يدفع عن نفسه و قومه، فهو أمر طبيعيّ ساقته العصبيّة بطبيعتها، و استشعرته بنو اميّة و من لم يكن على طريقة
معاوية في اقتفاء الحقّ من أتباعهم فاعصوصبوا عليه و استماتوا دونه و لو حملهم معاوية على غير تلك الطريقة و خالفهم في الانفراد بالأمر لوقعوا في افتراق الكلمة التي كان جمعها، و تأليفها أهمّ عليه من أمرٍ ليس وراءه كبير مخالفة.
إلى أن يقول: و هذا كلّه إنّما حمل عليه منازع المُلك التي هي مقتضى العصبيّة. فالمُلك إذا حصل، و فرضنا أنّ الواحد انفرد به و صرفه في مذاهب الحقّ و وجوهه لم يكن في ذلك نكيرٌ عليه ... .۱
و كذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو اميّة لم يرضوا تسليم الأمر إلى ما سواهم. فلو كان قد عهد إلى غيره لاختلفوا عليه، مع أنّ ظنّهم كان به صالحاً و لا يرتاب أحدٌ في ذلك و لا يُظَنّ بمعاوية غيره فلم يكن ليعهد إليه و هو يعتقد ما كان عليه من الفسق. حاشا الله لمعاوية من ذلك!۱
لقد دار ابن خلدون هنا مائة و ثمانين درجة تماماً، و قلب الحقائق و جعل مدار الحقيقة و الحقّ العصبيّة التي تقتضيها طبيعة البشر. و مفاد استدلاله البقاء على الهمجيّة و البربريّة و الحيوانيّة لأنّها من لوازم الغرائز البشريّة. و كأنّه لا يدري أنّ الدين و النبيّ و القرآن جاءوا ليديروا الحكومة من مدار العصبيّة و يجعلوها على محور الحقّ و الواقعيّة و يستبدلوا المدينة الإنسانيّة بالمدينة الحيوانيّة.
إن كلمات ابن خلدون و أدلّته في هذا المقام تتعارض مع موضوعات الأجزاء الثمانية عشر من كتابنا هذا «معرفة الإمام» كما يتسنّى لنا أن نعدّ الأجزاء المذكورة ردّاً على كلامه بإيجاز.
لقد جاء الإسلام و جميع الأديان و الأنبياء من أجل تربية الناس، و جعل المحور الأصليّ على مركز الحقّ و الصدق، و البعد عن العصبيّة و حميّة الجاهليّة. و قالت كلمتها و بلّغت و حاربت لإعلاء الحقّ. و نلحظ أنّ ابن خلدون باستدلاله الماكر قد غيّر مسار دعوة الأنبياء. و غطّى على أعمال الجبابرة الطواغيت من أمثال فرعون، و النمرود، و أبي سفيان، و معاوية، و يزيد، و أوّلها تأويلًا متعسّفاً ما أنزل الله به من سلطان.
الكلام كثير هنا، و لنا أن نُدرك عن طريق هذا الاستدلال لبّ الأدلّة التي يعرضها السنّة و اسلوبهم في التغطية على حكوماتهم الجائرة. وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.۱ و هنا ينبغي الخضوع و التسليم أمام عظمة الله و التجلّيات الجلاليّة و القهريّة و الغضبيّة التي صاغت أمثال هؤلاء الأشخاص، و النظر إلى هذه الحجب العميقة - مع سعة العلم و الفهم عند ابن خلدون و أضرابه - على أنّها ناتجة من عظمة جلاله، في مقابل عظمة الجمال المتجلّي عند المؤمنين و الصادقين.
أنوار جمال توست در ديدهء هر مؤمن | *** | آثار جلال توست در سينهء هر كافر٢ |
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ ، أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها
وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.۱
تسرّب الإسرائيليّات بواسطة أحبار اليهود الحديثي العهد بالإسلام
قال أبو ريّة: و قال الدكتور أحمد أمين:
«اتّصل بعض الصحابة بوهب بن منبّه، و كعب الأحبار، و عبد الله بن سلام، و اتّصل التابعون بابن جريح، و هؤلاء كانت لهم معلومات يروونها عن التوراة و الإنجيل و شروحهما و حواشيهما، فلم ير المسلمون بأساً من أن يقصّوها بجانب آيات القرآن. فكانت منبعاً من منابع التضخّم» انتهى.٢
من أجل ذلك كلّه أخذ اولئك الأحبار يبثّون في الدين الإسلاميّ أكاذيب و ترّهات. يزعمون مرّةً أنّها في كتابهم أو من مكنون علمهم، و يدّعون اخرى أنّها ممّا سمعوه من النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، و هي في الحقيقة من مفترياتهم.
و أنّي للصحابة أن يفطنوا لتمييز الصدق من الكذب من أقوالهم و هم من ناحية لا يعرفون العبرانيّة٣ التي هي لغة كتبهم، و من ناحية اخرى كانوا أقلّ منهم دهاءً و أضعف مكراً، و بذلك راجت بينهم سوق هذه الأكاذيب، و تلقّي الصحابة و من تبعهم كلّ ما يلقيه هؤلاء الدهاة بغير نقد أو تمحيص، معتبرين أنّه صحيح لا ريب فيه.
و قبل أن نعرض لبيان بعض الإسرائيليّات التي امتلأت بها كتب التفسير و الحديث و التأريخ، نؤرّخ هنا بإيجاز لزعماء هؤلاء الأحبار: كعب، و وهب، و عبد الله بن سلام.
ترجمة كعب الأحبار و وهب بن منبّه و عبد الله بن سلام
كعب الأحبار۱
هو كعب بن ماتع الحِمْيَريّ من آل ذي رعين، و قيل من ذي الكلاع، و يكنّى أبا إسحاق من كبار أحبار اليهود، و عُرف بكعب الأحبار و أسلم في عهد عمر على التحقيق و سكن المدينة في خلافته، و كان معه في فتح القدس، ثمّ تحوّل إلى الشام في زمن عثمان فاستصفاه معاوية و جعله من مستشاريه لكثرة علمه.٢
و هو الذي أمرهُ أن يقصّ في بلاد الشام٣ و بذلك «أصبح أقدم الأخباريّين في موضوع الأحاديث اليهوديّة و الإسلاميّة»، و بواسطة كعب و ابن منبّه و سواهما من اليهود الذين أسلموا تسرّبت إلى الحديث طائفةٌ من أقاصيص التلمود - الإسرائيليّات - و ما لبثت هذه الروايات أن أصبحت جزءاً من الأخبار الدينيّة و التأريخيّة. و قال عنه الذهبيّ في «تذكرة الحفّاظ» إنّه قدم من اليمن في دولة أمير المؤمنين عمر فأخذ عنه الصحابة و غيرهم، و روى عنه جماعة من التابعين مرسلًا. مات بِحمْص٤ في سنة ٣٢ أو ٣٣ أو ٣۸ بعد ما ملأ الشام و غيرها من البلاد
الإسلاميّة برواياته اليهوديّة و قصصه المستمدّة من الأخبار، كما فعل تميم الداريّ في الأخبار النصرانيّة.۱
سبب إسلامه
ذكر هذا الكاهن لإسلامه سبباً عجيباً ليتسلّل به إلى عقول المسلمين و قلوبهم. فقد أخرج ابن سعد بسندٍ صحيح عن سعيد بن المسيّب قال: قال العبّاس لكعب: ما منعك أن تسلم في عهد النبيّ و أبي بكر؟! فقال: إن أبي كتب لي كتاباً من التوراة، فقال أعجل به! و ختم على سائر كتبه، و أخذ عَلَيّ بحقّ الوالد على الولد - ألّا أفضّ الختم عنها. فلمّا رأيت ظهور الإسلام، قلت لعلّ أبي غيّب عنّي علماً! ففتحتها فإذا صفة محمّد و امّته! فجئت الآن مسلماً!
وهب بن منبّه
ذكر المؤرّخون أنّه فارسيّ الأصل جاء جدّه إلى اليمن في جملة مَن بعثهم كسرى لنجدة اليمن على الحبشة، فأقاموا هناك و تناسلوا و صاروا يعرفون بين العرب بالأبناء أي أبناء الفرس، و منهم طاووس بن كيسان
التابعيّ المشهور.
و كان آباء وهب على دين الفرس - المجوسيّة أو الزردشتيّة - فلمّا أقاموا بين اليهود باليمن، أخذوا عنهم آداب اليهود و تقاليدهم فتعلّموا شيئاً من النصرانيّة.
و كان يعرف اليونانيّة و عنده من علم أهل الكتاب شيء كثير، و لكن ضعّفه الفلّاس.۱
أدرك عدّة من الصحابة و روى عنهم، و كذلك روى عنه كثير من الصحابة منهم أبو هريرة، و عبد الله بن عمر و ابن عبّاس و غيرهم و كان للعرب ثقة به.
و ذكر الإمام أحمد منبّهاً أنّ والده فارسيّ أخرجه كسرى إلى اليمن فأسلم، و أنّ ابنه وهباً كان يختلف من بعده إلى بلاده بعد فتحها. و من أقواله:
إنّي قرأتُ من كتب الله ۷٢ كتاباً.
و قال الذهبيّ في «تذكرة الحفّاظ» إنّه عالم أهل اليمن ولد سنة ٣٤ هـ، و تُوفّي بصنعاء سنة ۱۱۰ هـ. أو بعد ذلك بسنة أو أكثر، و قيل: إنّه تُوفِّي سنة ۱۱٦ هـ.٢
عبد الله بن سلام
هو أبو الحارث الإسرائيليّ، أسلم بعد أن قدم النبيّ صلّى الله عليه و آله المدينة، و هو من أحبار اليهود، حدّث عنه أبو هريرة و أنس بن مالك، و جماعة، و قال فيه وهب بن منبّه الإسرائيليّ: كان أعلم أهل زمانه،
و كعب أعلم أهل زمانه، و قد مات سنة ٤۰ هـ.۱
في حين أنّنا نجد أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله منع امّته منعاً شديداً من مراجعة علماء اليهود و أخذ أخبارهم و آثارهم.
الأحاديث في فضيلة بيت المقدس موضوعة
قصّة صخرة بيت المقدس بين عمر و كعب الأحبار
لمّا افتُتِحت إيليا و أرضها على يدي عمر في ربيع الآخر سنة ۱٦ هـ و دخل عمر بيت المقدس، دعا كعب الأحبار و قال له: أين ترى أن نجعل المُصَلّي؟! فقال كعب الأحبار: إلى الصخرة!٢ فقال له عمر: ضاهيتَ و الله اليهوديّة!٣ يا كعب. و في رواية: يا بن اليهوديّة! خالطتك يهوديّة، أبنيه في صدر المسجد؟! فإنّ لنا صدر المساجد. و قد رأيتك و خلعك نعليك! فقال: أحببتُ أن اباشره بقدمي!
و لمّا أخذ في تنظيف بيت المقدس من الكناسة التي كانت الروم قد دفنتها به٤ - سمع التكبير من خلفه - و كان يكره سوء الرعة في كلّ شيء. فقال: ما هذا؟! فقالوا: كبّر كعب و كبّر الناس بتكبيره. فقال: عَلَيّ به! فقال: يا أمير المؤمنين! إنّه قد تنبّأ على ما صنعت اليوم نبيّ منذ خمسمائة سنة!! قال: و كيف؟! قال: إن الروم أغاروا على بني إسرائيل فأديلوا عليهم فدفنوه. إلى أن وليتَ فبعث الله نبيّاً على الكناسة. فقال: أبشري
اوريشلم! عَلَيْكِ الفَارُوقُ يُنَقِّيكِ مِمَّا فِيكِ!۱ و في روايةٍ: أتَاكِ الفَارُوقُ في جُنْدِي المُطِيعِ وَ يُدْرِكُونَ لأهْلِكِ بِثَأرِكِ مِنَ الرُّومِ. إلى آخر هذه الخرافات التي افتجرها هذا الدجّال الأفّاك.
و قد ظلّت الصخرة مكشوفةً في خلافة عمر و عثمان مع حكمهما على الشام، و كذلك في خلافة عليّ رضي الله عنه و إن كان لم يحكم عليها. ثمّ كذلك في إمارة معاوية و ابنه و ابن ابنه. فلمّا كان في زمن عبد الملك و جرى بينه و بين ابن الزبير من الفتنة ما جرى كان هو الذي بني القبّة على الصخرةِ.٢ و عظّم عبد الملك شأن الصخرة بما بناه عليها و جعل عليها من الكسوة في الشتاء و الصيف، ليكثر قصد الناس للبيت المقدس فيشتغلوا بذلك عن قصد ابن الزبير - وَ النَّاسُ على دِينِ المُلُوكِ.
و ظهر من ذلك الوقت من تعظيم الصخرة ما لم يكن المسلمون يعرفونه، و صار بعض الناس ينقل الإسرائيليّات في تعظيمها، حتى روى بعضهم عن كعب الأحبار عند عبد الملك بن مروان - و عروة بن الزبير حاضر - أنّ الله قال للصخرة: أنْتِ عَرْشِيَ الأدْنَى!
و قد صنّف طائفة من الناس مصنّفات في فضائل بيت المقدس و غيره
من البقاع التي بالشام، و ذكروا من الآثار المنقولة عن أهل الكتاب و عمّن أخذ عنهم ما لا يحلّ للمسلمين أن يبنوا عليه دينهم. و أمثل من ينقل عنه تلك الإسرائيليّات كعب الأحبار. و كان الشاميّون قد أخذوا عنه كثيراً من الإسرائيليّات.
و في «مرآة الزمان» لسبط بن الجوزيّ: توقّفهم فيما رواه كعب الأحبار عن الرسول صلّى الله عليه و آله، لأنّه أسلم على يد الفاروق، و كان يضربه بالدرَّة و يقول له: دَعْنَا مِنْ يَهُودِيَّتِكَ!۱
الأحاديث الموضوعة في تفضيل بيت المقدس على الكعبة
و قال اليعقوبيّ في تاريخه: و منع عبد الملك أهل الشام من الحجّ، و ذلك أنّ ابن الزبير كان يأخذهم إذا حجّوا بالبيعة. فلمّا رأى عبد الملك ذلك منعهم من الخروج إلى مكّة فضجّ الناس و قالوا: تمنعنا من حجّ بيت الله الحرام و هو فرض من الله علينا! فقال لهم: هذا ابن شهاب الزهريّ يحدّثكم أنّ رسول الله قال: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَ مَسْجِدِي، وَ مَسْجِدِ بَيْتِ المَقْدِسِ. وَ هُوَ يَقُومُ لَكُمْ مَقَامَ المَسْجِدِ الحَرَامِ. وَ هَذِهِ الصَّخْرَةُ التي يُرْوَي أنَّ رَسُولَ اللهِ وَضَعَ قَدَمَهُ عَلَيْهَا لَمَّا صَعَدَ إلى السَّمَاءِ، تَقُومُ لَكُمْ مَقَامَ الكَعْبَةِ!
فبنى (عبد الملك) على الصخرة قبّة، علّق عليها ستور الديباج، و أقام لها سَدَنَةً و أخذ الناسَ بأن يطوفوا حولها كما يطوفون حول الكعبة. و أقام بذلك أيّام بني اميّة.٢
و تبنّى هذا الرأي جولدتسيهر. و قد نقله الاستاذ الدكتور مصطفى السباعيّ في كتابه «السنّة و مكانتها في التشريع الإسلاميّ» عن مسوّدة للُاستاذ الدكتور على حسن عبد القادر كما ألقاها على طلّابه في الدرس، و لا تزال المسوّدة بخطّ الدكتور عبد القادر محفوظةً عند الاستاذ الدكتور السباعيّ. و فيما يأتي بعض ما جاء في مسوّدة الدكتور عبد القادر من رأي جولدتسيهر، قال:
إن عبد الملك بن مروان منع الناس من الحجّ أيّام فتنة ابن الزبير، و بني قبّة الصخرة في المسجد الأقصى ليحجّ الناس إليها و يطوفون حولها بدلًا من الكعبة. ثمّ أراد أن يحمل الناسَ على الحجّ إليها بعقيدة دينيّة، فوجد الزهريّ - و هو ذائع الصيت في الامّة الإسلاميّة - مستعدّاً لأن يضع له أحاديث في ذلك، فوضع أحاديث، منها حديث: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدي هَذَا، وَ المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَ المَسْجِدِ الأقْصَى، و منها حديث: الصَّلَاةُ في المَسْجِدِ الأقْصَى تَعْدِلُ ألْفَ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ. و أمثال هذين الحديثين. و الدليل على أنّ الزهريّ هو واضع هذه الأحاديث أنّه كان صديقاً لعبد الملك، و كان يتردّد عليه، و أنّ الأحاديث التي وردت في فضائل بيت المقدس مرويَّةً من طريق الزهريّ فقط ... .۱
نعم، جاء في كتاب «الحيوان» للدميريّ نقلًا عن ابن خلّكان أنّ عبد الملك هو الذي بني القبّة و عبارته هكذا: بَنَاهَا عَبْدُ المَلِكِ وَ كَانَ النَّاسُ يَقِفُونَ عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ.
و رجّح سائر المستشرقين، ما عدا جولدتسيهر، الرأي القائل بأنّ عبد الملك هو الذي بني القبّة، لكنّهم لم يذهبوا إلى ما ذهب إليه
(جولدتسيهر) من أمره الناس الطواف حولها، و إن كان أكثرهم يعتقد سوءاً في بني اميّة.
يقول المستشرق يوليوس فلهوزن: و لكي يزيد خلفاء بني اميّة في رجحان كفّة الشام من الناحية السياسيّة حاولوا فيما حاولوا نقل مركز الشعائر الدينيّة إلى الشام. و كان ممّا استوجب ذلك أنّ ابن الزبير ظلّ يحتلّ البيت الحرام في مكّة قرابة من عشر سنين، فلم يكن أهل الشام يستطيعون الحجّ ما داموا على ولائهم للُاسرة الأمويّة إلّا بمشقّة.
و قد استغلّ عبد الملك ذلك لمنع رعاياه من الحجّ إلى مكّة، و حضّهم على أن يحجّوا إلى بيت المقدس بدلًا من أن يحجّوا إلى مكّة. و هذا ما يحكيه (أوتيخيوس) على الأقلّ في كتابه «التاريخ». أمّا الذي لا شكّ فيه فهو أنّ عبد الملك جهد في أن يجعل لبيت المقدس - باعتباره مكاناً مقدّساً في نظر الإسلام - مظهراً أروع ممّا كان له. و ذلك أنّ الدليل على صدق الرواية القائلة بأنّه هو الذي بني قبّة الصخرة موجود في النقش الذي لا يزال باقياً في الجزء القديم من هذا البناء.
أمّا النقش الحالي فيُذكر فيه اسم المأمون الخليفة العبّاسيّ، على أنّه هو الباني، و لكن (دي فوجي) اكتشف أنّ اسم المأمون إنّما ادخل في النقش الأصليّ من طريق تصحيحٍ لكتابة سابقة. و قد فات على المصحّحين أن يصحّحوا التأريخ القديم الذي يُبيّن السنة التي كان فيه البناء. و يمكن على هذا أن يكون النصّ الأصليّ على القطع هكذا: «بني هذا القبّة في سنة ۷٢ هـ عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين».۱
الروايات في فضل الشام كلّها مدسوسة بوجود الأمويّين
الذين كانوا قد اتّخذوها عاصمةً لملكهم
قال أبو ريّة: قال كعب: إن اللهَ نَظَرَ إلى الأرْضِ فَقَالَ: إنِّي وَاطِئٌ على بَعْضِكِ فَاسْتَبقَتْ لَهُ الجِبَالُ، وَ تَضَعْضَعَتِ الصَّخْرَةُ، فَشَكَرَ لَهَا ذَلِكَ فَوَضَعَ عَلَيْهَا قَدَمَهُ.
و قال: إن العَرْضَ وَ الحِسَابَ مِنْ بَيْتِ المَقْدِسِ، مَقْبُورَ بَيْتِ المَقْدِسِ لَا يُعَذَّبُ.
و قال: هِيَ أقْرَبُ إلى السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا، وَ هِيَ أرْضُ المَحْشَرِ وَ المَنْشَرِ.
و قال: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَزُورَ البَيْتُ الحَرَامُ بَيْتَ المَقْدِسِ، فَيَنْقَادَانِ جَمِيعاً إلى الجَنَّةِ وَ فِيهِمَا أهْلُوهُمَا.
و قال: إن في التَّورَاةِ إنَّهُ يَقُولُ لِصَخْرَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ: أنْتِ عَرْشِيَ الأدْنَى وَ مِنْكِ ارْتَفَعْتُ إلى السَّمَاءِ، وَ مِنْ تَحْتِكِ بَسَطْتُ الأرْضَ وَ كُلَّ مَا يَسِيلُ مِنْ ذِرْوَةِ الجِبَالِ، مَنْ مَاتَ فِيكِ فَكَأنَّمَا مَاتَ في السَّمَاءِ ... إلى آخره.
و عن أبي هريرة - تلميذ كعب الأحبار - أنّ النبيّ قال: الأنْهَارُ كُلَّهَا وَ السَّحَابُ وَ البِحَارُ وَ الرِّيَاحُ تَحْتَ صَخْرَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ.
و قال كعب: قَالَ الله عزّ و جلّ لبيت المقدس: أنْتِ جَنَّتِي وَ قُدْسِي
وَ صَفْوَتِي مِنْ بِلَادِي! مَنْ سَكَنَكِ فَبِرَحْمَةٍ مِنِّي، وَ مَنْ خَرَجَ مِنْكِ فَبِسَخَطٍ مِنِّي عَلَيْهِ!
و عن كعب: اليوم في بيت المقدس كألف يوم، و الشهر كألف شهر، و السنة فيه كألف سنةٍ، و مَن مات فيه فكأنّما مات في السماء، و من مات حوله فكأنّما مات فيه.۱
و عن وهب بن منبّه قال: أهل بيت المقدس جيران الله و حقّ الله عزّ و جلّ ألّا يعذّب جيرانه، و من دُفن في بيت المقدس نجا من فتنة القبر و ضيقه.
و في حديث: إن الطَّائِفَةَ مِنْ امَّتِهِ الظَّاهِرِينَ على الحَقِّ وَ الَّذِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حتى يَأتِيَهُمْ أمْرُ اللهِ، إنَّهُمْ في بَيْتِ المَقْدِسِ وَ أكْنَافِهِ.
و قال العلّامة الاستاذ نعمة الله السلجوقيّ رئيس فخر المدارس بهرات من بلاد أفغانستان و هو يقرظ كتابنا «أضواءٌ على السُّنَّةِ المُحَمَّدِيَّة» في كتاب قيّم بعث به إلينا:
أمّا الأحاديث المرويّة في فضل الشام فنحن نعترف بأنّ أكثرها دسائس إسرائيليّة. و في ذلك ما رُوي في بعض الكتب:
إن مَنْ أهَلَّ مِنَ المَسْجِدِ الأقْصَى لِلحَجِّ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَ مَا تَأخَّرَ.
فهذه الرواية مع ما تدلّ على أفضليّة المسجد الأقصى تؤدّي إلى الإلحاد و عدم المبالاة بإرتكاب المعاصي و تفتح أبواب الفسوق.
و من الخرافات التي دسّها اليهود و ادرجت في كتب السير و بعض التفاسير: أنّ السماوات بعضها من الفضّة و بعضها من الزبرجد، و أنّ السيّارات مركوزة في السماوات على الترتيب المذكور في كتب اليونان، مثل أنّ القمر مركوز بسماء الدنيا، و العُطَارِد بالثانية، و هكذا إلى السابعة.
و هكذا أنّ السماوات موضوعة على رأس جبل محيط بالأرض يقال له: قاف. و أنّ الأرض موضوعة على قرن ثور قائم فوق ظهر حوت يسبح في الماء.
كلّ ذلك من غفلة العلماء، و عدم مبالاتهم بوخامة عاقبة ما دسّ أعداء الدين بين المسلمين.۱
دور اليهود في الأحاديث التي تفضّل الشام
اليد اليهوديّة في تفضيل الشام
و قال أبو ريّة أيضاً: إن إشادة كهّان اليهود إلى أنّ مُلك النبيّ سيكون بالشام إنّما هو لأمرٍ خُبِّئَ في أنفسهم. و نبيّن هنا أنّ الشام ما كان ليُنال من الإشادة بذكره، و الثناء عليه، إلّا لقيام دولة بني اميّة فيه، تلك الدولة التي
قلبت الحكم من خلافة عادلة إلى ملك عضوض، و التي تحت كنفها و في أيّامها نشأت الفرق الإسلاميّة التي فتّت في عضد الدولة الإسلاميّة و مزّقتها تمزيقاً و استفاض فيها وضع الحديث. فكان جديراً بكهنة اليهود أن ينتهزوا هذه الفرصة و ينفخوا في نار الفتنة، و يمدّوها بجيوش الأكاذيب و الكيد. و كان من هذه الأكاذيب أن بالغوا في مدح الشام و أهله، و أنّ الخير كلّ الخير فيه، و الشرّ كلّ الشرّ في غيره.
و على أنّه قد مرّ بك ذرو ممّا قاله هؤلاء الكهنة في أنّ ملك النبيّ سيكون بالشام، و أنّ معاوية قد زعم أنّ الرسول قد قال له: إنّه سيلي الخلافة من بعده. و طلب منه أن يختار الأرض المقدّسة التي فيها الأبدال، فإنّا نكشف هنا عن جانب آخر من كيد الدهاء اليهوديّ للمسلمين و دينهم و ملكهم، ذلك أنّهم لم يكتفوا بما قالوه في الشام ممّا أتينا على بعضه من قبل، بل زادوا على ذلك بأن جعلوا الطائفة الظاهرة على الحقّ تكون في الشام كذلك، و حتى نزول عيسى الذي قالوا عنه سيكون بأرضه ... .
و في «كشف الخفاء» أنّ كعب الأحبار قال: أهل الشام سيف من سيوف الله ينتقم الله بهم من العصاة.۱
و لعلّ العصاة هنا هم الذين لا ينضوون تحت لواء معاوية و يتّبعون غيره، و غيره هو عليّ رضي الله عنه ... .
و عن نافع، عن ابن عمر، عن كعب قال: تَخْرُجُ نَارٌ تَحْشِدُ النَّاسَ فَإذَا سَمِعْتُمْ بِهَا فَاخْرُجُوا إلى الشَّامِ.۱ و ابن عمر هو أحد تلاميذ كعب.
و من أحاديث «الجامع الصغير» للسيوطيّ التي أشَّرَ عليها بالصحّة:
الشَّامُ صَفْوَةُ اللهِ مِنْ بِلَادِهِ، إلَيْهَا يَجْتَبِي صَفْوَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ، فَمَنْ خَرَجَ مِنَ الشَّامِ إلى غَيْرِهَا فَبِسَخَطِهِ، وَ مَنْ دَخَلَهَا فَبِرَحْمَتِهِ. طُوبَى لِلشَّامِ، إن الرَّحْمَنَ لَبَاسِطٌ رَحْمَتَهُ عَلَيْهِ.
لَيَبْعَثَنَّ اللهُ مِنْ مَدِينَةٍ بِالشَّامِ يُقَالُ لَهَا «حِمْصُ» سَبْعِينَ ألْفاً يَوْمَ القِيَامَةِ لَا حِسَابَ عَلَيْهِمْ وَ لَا عَذَابَ. يَبْعَثُهُمْ فِيمَا بَيْنَ الزَّيْتُونِ وَ الحَائِطِ ... . إلى آخره.
و مدينة حِمْص هذه يجب أن يكون لها هذا الشأن العظيم حتى في الآخرة بحيث لا يُدانيها في ذلك مدينة اخرى حتى مدينة النبيّ! ... و ذلك لأنّ الكاهن اليهوديّ - الذي يعدّه كثير من شيوخ المسلمين أنّه من كبار التابعين - قد اتّخذها مقاماً له، ثمّ ضمّت رُفاته بعد موته. و لا نُطيل بإيراد كلّ ما لدينا من هذه الأخبار لأنّ ما جئنا به فيه الكفاية.
ثمّ ذكر أبو ريّة مفصّلًا انتقادات ابن تيميّة، و ابن كثير، و ابن خلدون لكعب و إسرائيليّاته، و قال بعد ذلك:
و لم نجد في هذا العصر، بل في العصور الأخيرة من فطن لدهاء كعب و وهب و كيدهما، مثل الفقيه المحدّث السيّد محمّد رشيد رضا رحمه الله. و إنّي انقل هنا بعض ما قاله في كعب خاصّة. و فيه و في زميله وهب عامّة.
قال في كعب ردّاً على من وصفوه بأنّه كان من أوعية العلم ما يلي:٢
إن ثبوت العلم الكثير لا يقتضي نفي الكذب. و كان جُلُّ علمه عندهم ما يرويه عن التوراة لِيُقْبَلَ، و غيرها من كتب قومه و ينسبه إليها لِيُقْبَلَ. و لا شكّ أنّه كان من أذكى علماء اليهود قبل إسلامه و أقدرهم على غشّ المسلمين بروايته بعده.
الصحابة غير معصومين في معرفة الأشخاص
و قال عنه: إنّه كان من زنادقة اليهود الذين أظهروا الإسلام و العبادة لِتُقبل أقوالهم في الدين. و قد راجت دسيسته حتى انخدع به بعض الصحابة و رووا عنه، و صاروا يتناقلون قوله بدون إسناد إليه، حتى ظنّ بعض التابعين و من بعدهم أنّها ممّا سمعوه عن النبيّ.
و أدخلها بعض المؤلّفين في الموقوفات التي لها حكم المرفوع كما قال الحافظ ابن كثير في مواضع من تفسيره.۱
و قال عنه: إنّه كان بُركان الخرافات و أجزم بكذبه، بل لا أثق بإيمانه.٢
و قال فيهما معاً - أيّ كعب و وهب:٣
«إن شرّ رواة هذه الإسرائيليّات، أو أشدّهم تلبيساً و خداعاً للمسلمين هذان الرجلان. فلا تجد خُرافة دخلت في كتب التفسير و التأريخ الإسلاميّ في امور الخلق و التكوين و الأنبياء و أقوامهم، و الفتن و الساعة و الآخرة، إلّا و هي منهما مضرب المثل في كلّ وادٍ أثرٌ من ثعلبة، و لا يهولنّ أحداً انخداعُ بعض الصحابة و التابعين بما بثّاه و غيرهما من هذه الأخبار، فإنّ تصديق الكاذب لا يسلم منه أحد البشر و لا المعصومين من الرُّسل.
فإنّ العصمة إنّما تتعلّق بتبليغ الرسالة و العمل بها، فالرسل معصومون من الكذب و من الخطأ في التبليغ و من العمل بما ينافي ما جاءوا به من التشريع، لأنّ هذا ينافي القدوة و يُخلّ بإقامة الحجّة. و لكن الرسول إذا صدّق الكاذب في أمر يتعلّق به و بعمله، أو بمصلحة الامّة، فإنّ الله تعالى يبيّن له ذلك و منه ما كان، من بعض أزواجه، الذي نزل فيه أوّل سورة التحريم، و علم من قوله تعالى فيها: قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ.۱
أي: أنّه لم يعلم المكيدة بمَلَكة العصمة، بل بوحي الله تعالى بعد وقوعها. و منه قوله تعالى فيما كان كذب عليه بعض المنافقين الذين اعتذروا عن الخروج معه صلّى الله عليه و آله إلى تبوك: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ ... .٢
و قال رحمهُ الله:٣ و إنّا بعد اختبارنا ثلث قرن قضيناه في معالجة الشبهات و مناظرة الملاحدة و أمثالهم من خصوم الإسلام و الردّ عليهم قولًا و كتابةً، قد ثبت عندنا أنّ روايات كعب، و وهب في كتب التفسير و القصص و التأريخ، كانت شبهات كثيرة للمؤمنين، لا للملاحدة و المارقين وحدهم. و أنّ المستقلّين في الرأي لا يقبلون ما قالوه: إن كلّ من قال جمهور رجال الجرح و التعديل بعدالته فهو عدل، و إن ظهر لمن بعدهم فيه من أسباب الجرح ما لم يظهر لهم.
و قال رحمه الله: رأينا الشيء الكثير في رواياتهما ممّا نقطع بكذبه،
لمخالفة ما روياه ممّا كانا يعزوانه للتوراة و غيرها من كتب الأنبياء، فجزمنا بكذبهما و هو ممّا لم يكن يعلمه المتقدّمون، لأنّهم لم يطّلعوا على كتب أهل الكتاب.
و الطعن في روايتهما يدفع شبهات كثيرة عن كتب الإسلام و لا سيّما تفسير كتاب الله المحشوّ بالخرافات.
و قال كذلك عن روايتهما: إن أكثرها خرافات إسرائيليّة شوّهت كتب التفسير و غيرها من الكتب، و كانت شبهاً على الإسلام يحتجّ بها أعداؤه الملاحدة أنّه كغيره دين خرافات و أوهام، و ما كان فيها غير خرافة فقد تكون الشبهة فيه أكبر كالذي ذكره كعب من صفة النبيّ في التوراة.۱
و على أنّ الأئمّة المحقّقين قد طعنوا في رواية هذين الكاهِنَين، و لا يزال يوجد بيننا - و آسفاه - مَن يثق بهما، و يصدّق ما يرويانه، و لا يقبل أيّ كلام فيهما.٢
و قال أبو ريّة أيضاً: و إليك مثلًا من هذا الكيد في أمر خطير تحوّل به التأريخ الإسلاميّ عن مجراه:
كعب الأحبار و معاوية
و ذكر أبو ريّة هنا قتل عمر الذي كان لكعب دور فيه بعد أن فصّل الكلام في نهى عمر كعب الأحبار عن الحديث سواء كان عن التوراة أم عن رسول الله، و قال: و لمّا خلا له الجوّ بقتله، و أ مِنَ من خوفه، أطلق العنان لنفسه لكي يبثّ ما شاء الكيد اليهوديّ أن يبثّ من الخرافات
و الإسرائيليّات التي تشوّه بهاء الدين، يعاونه في ذلك تلاميذه الكبار أمثال عبد الله بن عَمْرو، و عبد الله بن عُمَر، و أبو هريرة ... و لنضرب لذلك هنا مثلًا واحداً نجتزئ به، ذلك أنّه لمّا اشتعلت نيران الفتنة في زمان عثمان و اشتدّ زفيرها، حتى التهمت عثمان فقتلته و هو في بيته، لم يدع هذا الكاهن الماكر هذه الفرصة تمرّ دون أن يهتبلها، بل أسرع ينفخ في نارها و يسهم بكيده اليهوديّ فيها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. و قد كان من كيده في هذه الفتنة أن أرهص بيهوديّته بأنّ الخلافة بعد عثمان ستكون لمعاوية.
فقد روى وكيع عن الأعمش، عن أبي صالح۱ أنّ الحادي كان يحدو بعثمان يقول:
إن الأمِيرَ بَعْدَهُ عَلِيّ | *** | وَ في الزُّبَيْرِ خُلُقٌ رَضِيٌ |
فقال كعب الأحبار: بل هو صاحب البغلة الشهباء! (يعني معاوية)، و كان يراه يركب بغلة. فبلغ ذلك معاوية فأتاه فقال: يا أبا إسحاق ما تقول هذا!! و هاهنا عليّ و الزبير و أصحاب محمّد صلّى الله عليه [و آله] و سلّم! قال: أنت صاحبها. و لعلّه أردف ذلك بقوله: إنّي وجدتُ ذلك في الكتاب الأوّل!!
و قدّر معاوية هذه اليد الجليلة لكعب، و أخذ يغمره بأفضاله. و قد عرف من تأريخ هذا الكاهن أنّه تحوّل إلى الشام في عهد عثمان و عاش تحت كنف معاوية فاستصفاه لنفسه و جعله من خلصائه لكي يروي من أكاذيبه و إسرائيليّاته ما شاء أن يروي في قصصه لتأييده، و تثبيت قوائم دولته. و قد ذكر ابن حجر العسقلانيّ في «الإصابة» بأنّ معاوية هو الذي أمر
كعباً بأن يقصّ في الشام ... .۱
و من العجيب أنّ هذه الإسرائيليّات لا تزال تجد إلى اليوم مَن يصدّقها، بل يقدّسها. و إذا بصّرناهم بتخفيفها هبّ في وجهنا أدعياء العلم في عصرنا و بخاصّة مَن كانوا مِن حفدة الأمويّين، و رمونا بالسبّ و الشتم تعصّباً لهم و حماقة.
هذا مثل واحد نسوقه هنا في مواقف كعب مع معاوية خاصّة، و ما أصاب الإسلام من كيده و مكره عامّة، و لأنّ عليّاً هو ابن عمّ النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم الذي أرصد له هؤلاء الكهّان كلّ قواهم لمحاربة شريعته. و لو شئنا أن نستوفي كلّ ما أتاه هذا الكاهن من كيدٍ للإسلام و أهله لاقتضى منّا ذلك أن نعقد مؤلَّفاً خاصّاً كما فعلنا لتلميذه الأكبر أبي هريرة.٢
و لا ننسى أنّ عليّاً رضي الله عنه كان يقول عن كعب: إنّه لكذّاب.
و ممّا يلفت النظر و يسترعي الفكر أنّنا نجد هؤلاء الكهّان جميعاً من اليهود و النصارى و ذوي الهوى من المسلمين يتحوّلون كلّهم إلى الشام بعد مقتل عثمان. و يبدو أنّ هذا التحوّل لم يكن للّه، و إنّما كان ذلك ليتعاونوا على نشر الفتنة و ليُشعلوا نار البغضاء بين المسلمين لكي تنضج دولة الأمويّين، و يتمزّق شمل المسلمين. و يملأوا أيديهم بعد ذلك من غنائم الأمويّين.٣
يواصل أبو رَيّة كلامه على هذا المنوال فيتحدّث عن طعام أبي هريرة عند معاوية، و يقول: كان أبو هريرة يُلقّب بـ: شَيْخُ المَضِيرَة. و قد نالت
هذه المضيرة من عناية العلماء و الكتّاب و الشعراء ما لم ينله مثلها من أصناف الحلوى، و ظلّوا يتندّرون بها، و يغمزون أبا هريرة قروناً طويلة من أجلها. و إليك بعض ما أرسلوه فيها.
قال الثعالبيّ في كتابه «ثمار القلوب في المضاف و المنسوب» ما يلي:
شيخ المضيرة: كان أبو هريرة رضي الله عنه على فضله و اختصاصه بالنبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم مزّاحاً أكولًا. و كان مروان بن الحكم يستخلفه على المدينة، فيركب حماراً قد شَدَّ عليه برذعة، فيلقى الرجل فيقول: الطَّرِيقَ الطَّرِيقَ! قَدْ جَاءَ الأمِيرُ ... و كان يدّعي الطبّ ... و بعد أن ذكر الثعالبيّ شيئاً من طبّه و كلّه طعام يشفي داء الأمعاء، و يُداوي نهم البطن، قال: و كان يُعجبه المضيرة جدّاً فيأكل مع معاوية. فإذا حضرت الصلاة صلّى خلف عليّ رضي الله عنه، فإذا قيل له في ذلك، قال: مَضِيرَةُ مُعَاوِيَةَ أدْسَمُ وَ أطْيَبُ، وَ الصَّلَاةُ خَلْفَ عَلِيّ أفْضَلُ.
و كان يقال له: شيخ المضيرة. و ختم الثعالبيّ قوله ببيتين لشاعر هجا فيهما أبا هريرة أعرضنا عنهما.
و عقد بديع الزمان الهمدانيّ مقامه خاصّة - من مقاماته - لهذه المضيرة، غمز فيها أبا هريرة غمزة أليمة، فقال:
حدّثنا عيسى بن هشام قال: كُنْتُ بِالبَصْرَةِ وَ مَعِي أبُو الفَتْحِ الإسْكَنْدَرِيّ: رَجُلُ الفَصَاحَةِ يَدْعُوهَا فَتُجِيبُهُ، وَ البَلَاغَةَ يَأمُرُهَا فَتُطِيعُهُ. وَ حَضَرْنَا مَعَهُ دَعْوَةَ بَعْضِ التُّجَّارِ، فَقُدِّمَتْ إلَيْنَا مَضِيرَةٌ تُثْنِي على الحَضَارَةِ، وَ تَتَرَجْرَجُ في الغَضَارَةِ، وَ تُؤْذِنُ بِالسَّلَامَةِ، وَ تَشْهَدُ لِمُعَاوِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ بِالإمَامةِ ... .
قال أبو ريّة: و قال استاذنا الإمام محمّد عبده في شرح ذلك: و معاوية ادّعى الخلافة بعد بيعة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فلم يكن من
يشهد له بها في حياة عليّ إلّا طلّاب اللذائذ، و بُغاة الشهوات. فلو كانت هذه المضيرة من طعام معاوية لحملت آكليها على الشهادة له بالخلافة، و إن كان صاحب البيعة الشرعيّة حيّاً. و إسناد الشهادة إليها، لأنّها سببها الحامل عليها. و الإمامة و الخلافة في معنى واحد.
و في كتاب «أساس البلاغة» لجار الله الزمخشريّ: عَلِيّ مَعَ الحَالِ المُضِيرَةِ۱ خَيْرٌ مِنْ مُعَاوِيَةَ مَعَ المَضِيرَةِ.٢
و قال أبو ريّة في كتاب الآخر: روى ابن طباطبا المعروف بابن الطقطقيّ في كتابه «الفخريّ» ص ۷٩: أنّ معاوية كان يأكل كلّ يوم خمس أكلات و آخرهنّ أغلظهنّ ثمّ يقول: يَا غُلَامُ! ارْفَعْ فَوَ اللهِ مَا شَبِعْتُ وَ لَكِنِّي مَلَلْتُ! وَ إنَّهُ أكَلَ عِجْلًا مَشْوِيّاً مَعَ دَشتٍ مِنَ الخُبْزِ السَّمِيذِ وَ أرْبَعَ فَرَانِيّ، وَ جَدْياً حَارَّاً وَ آخَرَ بَارِداً سِوَى الألْوَانِ.٣
أمّا رواية ابن كثير في «البداية و النهاية» ج ۸، ص ۱۱٩ فهي: أنّ معاوية كان يأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، و من الحلوى و الفاكهة كثيراً و يقول: ما أشبع و إنّما أعيا ... .
و إليك وصفاً لبعض طعام معاوية يرويه لك الأحنف بن قيس:
قَالَ: دَخَلْتُ على مُعَاوِيَةَ فَقَدَّمَ لي مِنَ الحَارِّ وَ البَارِدِ، وَ الحُلْوِ وَ الحَامِضِ مَا كَثُرَ تَعَجُّبِي مِنْهُ. ثُمَّ قَدَّمَ لي لَوْناً لَمْ أعْرِفْ مَا هُوَ، فَقُلْتُ: مَا
هَذَا؟!
فَقَالَ: مَصَارِينُ۱ البَطِّ مَحْشُوَّةً بِالمُخِّ قَدْ قُلِيَ بِدُهْنِ الفُسْتُقِ، وَ ذُرَّ عَلَيْهِ بِالطَّبَرْزَدِ.
فَبَكِيتُ. فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟!
قُلْتُ: ذَكَرْتُ عَلِيَّاً، بَيْنَما أنَا عِنْدَهُ، وَ حَضَرَ وَقْتُ الطَّعَامِ وَ إفْطَارِهِ، وَ سَألَنِي المُقَامَ فَجِيءَ لَهُ بِجِرَابٍ مَخْتُومٍ. فَقُلْتُ: مَا في هَذَا الجِرَابِ؟!
قَالَ: سَوِيقُ شَعِيرٍ! قُلْتُ: خِفْتَ عَلَيْهِ أنْ يُؤْخَذَ؟! أوْ بَخِلْتَ بِهِ؟!
فَقَالَ: لَا، وَ لَا أحَدُهُمَا. وَ لَكِنِّي خِفْتُ أنْ يَلُتَّهُ الحَسَنُ وَ الحُسَيْنُ بِسَمْنٍ أوْ زَيْتٍ.
فَقُلْتُ: مُحَرَّمٌ هُوَ يَا أمِيرُ المُؤْمِنِينَ؟!
فَقَالَ: لَا، وَ لَكِنْ يَجِبُ على أئِمَّةِ الحَقِّ أنْ يَعُدُّوا أنْفُسَهُمْ مِنْ ضَعَفَةِ النَّاسِ لِئَلَّا يُطْغِى الفَقِيرَ فَقْرُهُ.
فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: ذَكَرْتَ مَا لَا يُنْكَرُ فَضْلُهُ!٢
لا ينازع معاوية أحد في النفاق و التزوير
استبان ممّا ذكرناه أنّ معاوية كان السبّاق بلا منافس في النفاق
و المكر و الخديعة و العمل ضدّ الإسلام و هدم القرآن و القضاء على نبوّة محمّد و اجتثاث ولاية عليّ من جذورها و ذلك في جبهتين: خارجيّة و تتمثّل في تعبئة الجيوش و صرف الأموال من بيت المال لأجل ذلك، و داخليّة و تتجسّد في وضع الأخبار و اختلاق الأحاديث و تزويرها منسوبة إلى رسول الله. و قد خرج ظافراً في الجبهتين معاً. و استحوذ على قوى الإسلام جميعها و نقل العاصمة المعنويّة الروحانيّة الملكوتيّة للرسول الأكرم من المدينة المنوّرة إلى شام الطغيان و الاستبداد و الكذب و الدَّغَل، و وجّه ضربة عنيفة إلى دين النبيّ لا تقوم لها قائمة و لا ينفعها علاج، و استولى على العالم كلّه من الصين إلى الأندلس، و لم تُلْحَظْ نافذة أملٍ حتى قيام قائم آل محمّد مع القدرة و الشوكة النكراء و النفاق و الحيلة و السياسة المزدوجة التي عمّت و شملت كلّ مكان، و ضرب رأس عليّ فدُفنت تلك الدعوة و ذلك النهج و المنهاج بين الحكومات و المجتمعات في قبر الاضمحلال فيتقوّض جذره و أساسه في داخل الأرض.
لقد صار معاوية رئيساً في الشام من حيث الشوكة و الابّهة، و من حيث التزوير و الخداع، و من حيث تبديل روح الولاية و النبوّة إلى طاغوتيّة و جبّاريّة جاهليّة، و رفع اسم محمّد من الألسن، و سخر بالله و النبيّ و عليّ و أهل البيت و الوحي و المعاد و البعث و العدل و الحساب و الكتاب و القرآن و السنّة. و هذا هو مراده و قصده.
لم يَرْعَوِ معاوية عن أفعاله القبيحة طوال أربعين سنة من حكومته في الشام، و لم يسترح لحظة واحدة من أجل هذا الهدف. و لم يخجل و لم ير نفسه مجرماً مذنباً أمام تلك الجرائم الظاهرة و الباطنة التي ارتكبها، بل كان ينظر إلى النبيّ و أمير المؤمنين و القرآن على أنّهم خونة مجرمون ناهضوا فرعونيّته و ممارساته الدنيئة، و أطاحوا برئاستهم في مكّة و الجزيرة.
و هنا يعلو صوت العالم الواعي المطّلع الشيخ محمود أبو ريّة بعد حديثه المفصّل عن الجمل و صفّين و إثارة جميع القوى و الإمكانيّات ضدّ علي بن أبي طالب عليه الصلاة و السلام بلا اختيار: لَكَ اللهُ يَا عَلِيّ! تَألَّبَتْ كُلُّ القُوَى عَلَيْكَ! وَ كَمْ نِلْتَ مِنَ البَعِيدِ وَ القَرِيبِ! وَ كَمْ حَمَلْتَ مِمَّا تَأبى الجِبَالُ أنْ تَحْمِلَهُ!۱
و من هنا نفهم كلام أحد كبار علماء الألمان في الأستانة لبعض المسلمين - و فيهم أحد أشراف مكّة: إنَّهُ ينبغي لَنَا أنْ نُقِيمَ تِمْثَالًا مِنَ الذَّهَبِ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أبي سُفْيَانَ في مَيْدَانِ كَذَا مِنْ عَاصِمَتِنَا «برْلين».
فقيل له: لما ذا؟!
قال: لأنَّهُ هُوَ الذي حَوَّلَ نِظَامَ الحُكْمِ الإسْلَامِيّ عَنْ قَاعِدَتِهِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ إلى عَصَبِيَّةٍ. وَ لَوْ لا ذَلِكَ لَعَمَّ الإسْلَامُ العَالَمَ كُلَّهُ وَ إذَنْ لَكُنَّا نَحْنُ الألْمَانُ وَ سَائِرُ شُعُوبِ اورُوبا عُرْباً٢ مُسْلِمِينَ.٣
نقل المحدّث القمّيّ رحمه الله عن صاحب «كامل بهائي»، عن البيهقيّ في جواب من سأله: إن مُعَاوِيَةَ خَرَجَ مِنَ الإيمَانِ بِمُحَارِبَةِ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ؟!
فقال: إن مُعَاوِيَةَ لَمْ يَدْخُلِ في الإيمَانِ حتى خَرَجَ مِنْهُ بَلْ خَرَجَ مِنَ الكُفْرِ إلى النِّفَاقِ في زَمَنِ الرَّسُولِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلى الكُفْرِ
الأصْلِيّ بَعْدَهُ.۱
جرائم سمرة بن جندب عامل معاوية
لقد قلب معاوية الإسلام بتغييره سنّة رسول الله. و خرّب المعارف الإسلاميّة و شوّه صورة الإسلام النقيّة الصافية بوضعه الأحاديث التي لا تُحصى و بثّها في التأريخ و السنّة الإسلاميّة بواسطة رموزه الأصليّين مثل كعب الأحبار، و وهب بن منبّه، و تلاميذهما نحو عبد الله بن عمر، و المغيرة بن شُعبة، و عمرو بن العاص، و عروة بن الزبير، و سَمُرَة بن جُندب، و أبي هُريرة.
و ها هي كتب السنّة جميعها مشحونة بالأحاديث المشئومة لهؤلاء الأصاغر و عليها يقوم منهج التعليم و التعلّم. فانظروا من أين يبدأ الأعوجاج و الانحراف و النقصان و الدمار و أين تنتهي؟!
إن السنّة يصحّحون أحاديث سَمُرَة بن جندب لأنّه من الصحابة - و كلّ صحأبي عادل - و لأنّه كان والياً بأمر معاوية - و معاوية عادل أيضاً - مع أنّه كان فاسقاً فاجراً سفّاكاً للدماء قاتلًا للأبرياء و قد أراق أنهاراً من دمائهم، و كان يبيع الخمر جهرةً.
قال العالم الجليل السيّد عبد الحسين شرف الدين العامليّ:
أخرج الطبريّ في أحداث سنة خمسين من تاريخه بالإسناد إلى محمّد بن سليم، قال: سألت أنس بن شيرين، هل كان سمرة قتل أحداً؟
قال: و هل يُحصي من قتلهم سمرة بن جندب؟ استخلفه زياد على البصرة ستّة أشهر حين كان والياً عليها و على الكوفة من قبل معاوية و أتى الكوفة فجاء، و قد قتل ثمانية آلاف من الناس، فقال له زياد: هل تخاف أن تكون قتلت أحداً بريئاً؟! قال: لو قتلت منهم مثلهم ما خشيت!
و أخرج (الطبريّ) هناك أيضاً بالإسناد إلى أبي سوار العَدْويّ، قال: قتل سمرة من قومي في غداةٍ سبعة و أربعين رجلًا ممّن كان قد جمع القرآن.
و أخرج هناك أيضاً بإسناده عن عوف. قال: أقبل سمرة من المدينة فلمّا كان عند دور بني أسد خرج رجل من بعض أزقّتهم ففاجأ أوّل الخيل فحمل عليه رجل من القوم فأوجره الحربة (عبثاً و عتوّاً)، قال: ثمّ مضت الخيل فأتى عليه سمرة بن جندب و هو متشحّط بدمه، فقال: ما هذا؟ قيل: أصابته أوائل خيل الأمير. قال (عتوّاً و استكباراً): إذَا سَمِعْتُمْ بِنَا قَدْ رَكِبْنَا فَاتَّقُوا أسِنَّتَنَا - انتهى.
و هذه القضايا من المتّفق على صدورها من سمرة، نقلها كلّ من أرّخ حوادث سنة الخمسين، كابن جرير و ابن الأثير و أمثالهما. و إذا كانت هذه أعمال سمرة في ستّة أشهر و هو ثقة البخاريّ، و دليلهِ على دين الباري، و قد احتجّ به في الورقة الثالثة في كتاب «بدء الخلق» من صحيحه۱ و جزم
بعدالته۱ في ظاهر القول و صريحه، فما ظنّك بأعمال زياد ابن سميّة الخبيث الفاسق بإجماع البريّة، و قد ولّاه معاوية (كما نصّ عليه الطبريّ في أحداث سنة خمسين من تاريخه) أعمال الكوفة و البصرة و المشرق كلّه، و سجستان و فارس و السند و الهند: فَكَمْ حُرَّةٍ في تِلْكَ الوِلَايَةِ هُتِكَتْ، وَ كَمْ حُرْمَةٍ لِلَّهِ انْتُهِكَتْ، وَ كَمْ دِمَاءٍ زَكِيَّةٍ سُفِكَتْ، وَ كَمْ لِشرْعَةٍ انْدَرَسَتْ، وَ كَمْ بِدْعَةٍ اسِّسَتْ، وَ كَمْ أعْيُنٍ سُمِلَتْ، وَ أيْدٍ وَ أرْجُلٍ قُطِعَتْ و. و. و. إلى مَا لَا يُحْصَى مِنَ الأعْمَالِ البَربَرِيَّةِ وَ الفَظَائِعِ الأمَوِيَّةِ التي تَقْشَعِرُّ لَهَا جُلُودُ البَرِيَّةِ، وَ يَتَصَدَّعُ بِهَا قَلْبُ الإنْسَانِيَّةِ.
لكن الجمهور لمّا بنوا على اجتهاد معاوية عذروه في أعمال عمّاله، و لم يخدش في عدالته عندهم بوائقه و لا بوائق رجاله.٢
جوائز معاوية الكبيرة لوضع الحديث ضدّ عليّ عليه السلام
ذكر شيخ المعتزلة الإمام أبو جعفر الإسكافيّ رحمه الله تعالى فيما نقله عنه ابن أبي الحديد:٣ أنّ معاوية حمل قوماً من الصحابة، و قوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليّ عليه السلام تقتضي الطعن فيه
و البراءة منه، و جعل لهم على ذلك جعلًا يرغب في مثله، فاختلقوا له ما أرضاه. قال: منهم أبو هريرة، و عمرو بن العاص، و المغيرة بن شعبة، و من التابعين عروة بن الزبير، قال: و روى الزهريّ: أنّ عروة بن الزبير حدّثه فقال: حدّثتني عائشة قالت: كنت عند رسول الله صلّى الله عليه و آله، إذ أقبل العبّاس و عليّ، فقال لي صلّى الله عليه و آله:
يَا عَائِشَةُ! إن هَذينِ يَمُوتَانِ على غَيْرِ مِلَّتِي - أوْ قَالَ: على غَيْرِ دِينِي.
قال: و روى عبد الرزّاق عن معمّر قال: كان عند الزهريّ حديثان عن عروة، عن عائشة في عليّ عليه السلام فسألته عنهما يوماً فقال: ما تصنع بهما و بحديثهما؟ اللهُ أعْلَمُ بِهِمَا وَ بِحَدِيثِهِمَا. أنّي لأتَّهِمُهُمَا في بني هَاشِمٍ.
قال: فأمّا الحديث الأوّل فقد ذكرناه، و أمّا الحديث الثاني فهو أنّ عروة زعم أنّ عائشة حدّثته قالت:
كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَأقْبَلَ العَبَّاسُ وَ عَلِيّ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ! إن سَرَّكِ أنْ تَنْظُري إلى رَجُلَيْنِ مِنْ أهْلِ النَّارِ فَانْظُرِي إلى هَذَيْنِ قَدْ طَلَعَا!
فَنَظَرْتُ، فَإذَا العَبَّاسُ وَ عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ.
قال: و أمّا عمرو بن العاص فروى فيه الحديث الذي أخرجه البخاريّ و مسلم في صحيحيهما مسنداً متّصلًا بعمرو بن العاص. قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول:
إن آلَ أبي طَالِبٍ لَيْسُوا لي بِأوْلِيَاءَ، إنَّمَا وَلِيِّيَ اللهُ وَ صَالِحُ المُؤْمِنِينَ.۱
حديث موضوع في خِطبة عليّ عليه السلام لابنة أبي جهل
قال: و أمّا أبو هريرة فروى عنه الحديث الذي معناه أنّ عليّاً عليه السلام خطب ابنة أبي جهل في حياة رسول الله صلّى الله عليه و آله فأسخطه، فخطب صلّى الله عليه و آله على المنبر، و قال:
لَا هَا اللهِ لَا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ وَلِيّ اللهِ وَ ابْنَةُ عَدُوِّ اللهِ أبي جَهْلٍ. إن فَاطِمَةَ بِضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا يُؤْذِيهَا! فَإنْ كَانَ عَلِيّ يُريدُ ابْنَةَ أبي جَهْلٍ فَلْيُفَارِقْ ابْنَتِي وَ لْيَفْعَلْ مَا يُرِيدُ.
قال: و الحديث مشهور في رواية الكرابيسيّ. قال: قلت: و هذا الحديث مخرج أيضاً في «صحيح مسلم» و «البخاريّ» عن المسوّر بن مخرمة الزهريّ. فقد ذكره المرتضى في كتابه المسمّى «تنزيه الأنبياء و الأئمّة» و ذكر أنّه من رواية حسين الكرابيسيّ، و أنّه مشهور بالانحراف عن أهل البيت عليهم السلام و عداوتهم و المناصبة لهم فلا تُقبل روايته.۱
قال أبو ريّة: لكي يدرأوا التهم عن بعض الصحابة الذين فتنتهم الدنيا أوردوا حديثاً يقول: أصْحَابي كَالنُّجُومِ بِأيِّهِمُ اقْتَدَيْتُمُ اهْتَدَيْتُمْ. و هذا الحديث لا أصل له. و لهذا الحديث قصّة جرت بيني و بين الناصبيّ محبّ الدين الخطيب. فإنّه عند ما ظهر كتابي «الأضواء» و اطّلع فيه على فصل «عدالة الصحابة» قابلني غاضباً، و قال: كيف تذكر ذلك بعد أن قال فيهم النبيّ صلّى الله عليه و آله: أصْحَابي كَالنُّجُومِ (الحديث).
فقلت له: إنّك قد أوردت هذا الحديث في تعليقاتك على كتاب «المنتقى» للذهبيّ ص ۷۱ على أنّه صحيح و قد طعنوا فيه، و من كبار الطاعنين ابن تيميّة فاشتدّ غضبه، و قال: في أي موضعٍ هذا الطعن؟! فقلتُ له: في نفس كتابك «المنتقى»! فكاد يتميّز من الغيظ، و قال: في أي صفحةٍ؟ قلتُ له: في صفحة (٥٥۱) و فيها يقول ابن تيميّة: و حَدِيثُ أصْحَابي كَالنُّجُومِ، ضَعّفه أئمّة الحديث فلا حجّة فيه. و ما كاد يقرأ هذا الكلام الذي أثبته هو بنفسه في كتاب حقّقه و نشره بين الناس حتى بُهت و اصفرّ وجهه. و قد قلتُ له قبل أن اغادر مجلسه: إن كتاب «المنتقى» هذا سيسجّل عليك هذا الجهل و هذه الوصمة إلى يوم القيامة!۱
و بمناسبة التشيّع لمعاوية و التقرّب إليه برواية أحاديث مكذوبة على النبيّ صلّى الله عليه و آله ترفع من شأنه نسوق إليك حديثاً رواه مسلم في صحيحه!! معناه:
أنّ أبا سفيان بن حرب طلب من النبيّ صلّى الله عليه و آله أن يزوّجه ابنته امّ حبيبة و أن يجعل معاوية كاتباً بين يديه ... إلى آخر الحديث. و قد ذكر أئمّة الحديث أنّ هذا الحديث باطل بالإجماع لأنّ أبا سفيان قد دخل في الإسلام يوم فتح مكّة بالإجماع، أمّا ابنته امّ حبيبة - و اسمها رملة - فقد أسلمت قبل الهجرة و حَسُنَ إسلامها، و كانت ممّن هاجر إلى الحبشة هرباً
من أبيها، و قد تزوّجها رسول الله و أبوها كافر. و لمّا بلغه هذا الزواج، قال كلمته المشهورة: ذَلِكَ الفَحْلُ لَا يُجْدَعُ أنْفُهُ (ص ۱٦ من «تفسير سورة الإخلاص» لشيخ الحنابلة ابن تيميّة و الذي يلقّب عند الجمهور بشيخ الإسلام).۱
موضوعات أبي هريرة في فضل عثمان و معاوية
و لم يكن ما قدّم أبو هريرة لمعاوية جهاداً بسيفه أو بماله، و إنّما كان جهاده أحاديث ينشرها بين المسلمين يخذّل بها أنصار عليّ و يطعن فيها عليه، و يجعل الناس يبرؤون منه، و يشيد بفضل معاوية و دولته. و قد كان ممّا رواه أحاديث في فضل عثمان و معاوية و غيرهما ممّن يمتّ بأواصر القُربى إلى آل أبي العاص و سائر بني اميّة.
روى البيهقيّ عنه أنّه لما دخل دار عثمان و هو محصور، استأذن في الكلام. و لمّا أذن له قال: أنّي سمعتُ رسول الله يقول: أنّكم ستلقون بعدي فتنةً و اختلافاً. فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟! أوَما تأمرنا؟! فقال: عليكم بالأمين و أصحابه، و هو يُشير إلى عثمان.٢ و قد أورده أحمد بسند جيّد.
و لمّا نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة، فقال:
أصَبْتَ وَ وُفِّقْتَ! أشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: إن أشَدَّ امَّتِي حُبّاً لي قَوْمٌ يَأتُونَ مِنْ بَعْدِي يُؤْمِنُونَ بِي وَ لَمْ يَرَوْنِي، يَعْمَلُونَ٣ بِمَا جَاءَ في
الوَرَقِ المُعَلَّقِ. فَقُلْتُ: أيّ وَرَقٍ حتى رَأيْتُ المَصَاحِفَ.۱
قال: فأعجب ذلك عثمان، و أمر لأبي هريرة بعشرة آلاف.
و هذا الحديث من غرائبه، و هو ينطق و لا ريب بأنّه ابن ساعته.
و ممّا وضعه في معاوية ما أخرجه الخطيب عنه: ناول النبيّ صلّى الله عليه و آله معاوية سهماً، فقال:
خُذْ هَذَا السَّهْمَ حتى تَلْقَانِي بِهِ في الجَنَّةِ.
و أخرج ابن عساكر، و ابن عديّ، و الخطيب البغداديّ عنه: سمعت رسول الله يقول: إن اللهَ ائْتَمَنَ على وَحْيِهِ ثَلَاثَةً: أنَا وَ جَبْرِيلَ وَ مُعَاوِيَةَ.
في رواية اخرى عن أبي هريرة مرفوعاً: الامَنَاءُ ثَلَاثَةٌ: جِبْرِيلُ وَ أنَا وَ مُعَاوِيَةُ.٢
و نظر أبو هريرة إلى عائشة ابنة طلحة و كانت مشهورةً بالجمال الفائق فقال:
سُبْحَانَ اللهِ! مَا أحْسَنَ مَا غَذَّاكِ أهْلُكِ! وَ اللهِ مَا رَأيْتُ وَجْهاً أحْسَنَ مِنْكِ إلَّا وَجْهَ مُعَاوِيَةَ على مِنْبَرِ رَسُولِ اللهِ.٣
و الأخبار في ذلك كثيرة. و لقد بلغ من مناصرته لبني اميّة أنّه كان يحثّ الناس على ما يطالب به عمّالهم من صدقات، و يحذّرهم أن يسبّوهم.٤
و مع أنّنا نلحظ آلاف الأحاديث الموضوعة في كتب العامّة عن أبي
هريرة، و ذهب البعض إلى أنّها بلغت (٥٣۷٤)، هلمّوا لننظر كم عدد الأحاديث المأثورة عن أمير المؤمنين، و سيّد الوصيّين و قائد الغرّ المحجّلين و يعسوب المسلمين؟!
قال أبو ريّة: أوّل من أسلم و تربّى في حجر النبيّ و عاش تحت كنفه من قبل البعثة و ظلّ معه إلى أن انتقل النبيّ إلى الرفيق الأعلى لم يفارقه لا في سفر و لا في حضر و هو ابن عمّه و زوج ابنته فاطمة الزهراء، شهد المشاهد كلّها سوى تبوك فقد استخلفه النبيّ فيها على المدينة. فقال: يا رسول الله! أ تخلّفني في النساء و الصبيان؟ فقال رسول الله: أ ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟
هذا الإمام الذي لا يكاد يضارعه أحد من الصحابة جميعاً في العلم قد أسندوا له كما روى السيوطيّ (٥۸) حديثاً. و قال ابن حزم: لم يصحّ منها إلّا خمسون حديثاً لم يرو البخاريّ و مسلم منها إلّا نحواً من عشرين حديثاً.۱
لما ذا كانت أحاديث أبي هريرة أكثر من سائر الصحابة؟
قال المحقّق الخبير و العالم البصير السيّد عبد الحسين شرف الدين العامليّ:
افترى أبو هريرة افتراءات قبيحة على النبيّ و نسب إليه كلمات غير صحيحة من خلال التغطية على جرائم مروان و معاوية و أوليائهما كي يجعلهم مثل النبيّ في الخطأ و يجعل معاصيهم و جرائمهم قابلةً للعفو و التغاضي. و بعبارةٍ اخرى: أتّهم النبيّ حفظاً لكرامة معاوية و مروان.
نقل آية الله العامليّ عن أبي هريرة أنّه قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول:
اللهُمَّ إنَّمَا مُحَمَّدٌ بَشَرٌ يَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ البَشَرُ. فَأيُّمَا مُؤْمِنٍ آذَيْتُهُ
أوْ سَبَبْتُهُ أوْ جَلَدْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهُ وَ قُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بِهَا إلَيْكَ يَوْمَ القِيَامَةِ.
و قد عمل مروان و بنوه في تعداد أسانيد أبي هريرة و تكثير طرقه أعمالًا جبّارة لم يألوا فيها جهداً، و لم يدّخروا وسعاً؛ حتى أخرجه أصحاب الصحاح و السنن و المسانيد.۱
أجمع أهل الحديث - كما في ترجمته من «الإصابة» و غيرها على أنّه أكثر الصحابة حديثاً، و قد ضبط الجهابذة من الحفظة الأثبات حديثه، فكان خمسة آلاف و ثلاثمائة و أربعة و سبعين مسنداً. و له في البخاريّ فقط أربعمائة و ستّة و أربعون حديثاً.
و قد نظرنا في مجموع ما روي من الحديث عن الخلفاء الأربعة فوجدناه بالنسبة إلى حديث أبي هريرة وحده أقلّ من السبعة و العشرين في المائة، لأنّ جميع ما روي عن أبي بكر إنّما هو مائة و اثنان و أربعون حديثاً، و كلّ ما أسند إلى عمر إنّما هو خمسمائة و سبعة و ثلاثون حديثاً، و كلّ ما لعثمان مائة و ستّة و أربعون حديثاً، و كلّ ما رووه عن عليّ خمسمائة و ستّة و ثمانون مسنداً فهذه ألف و أربعمائة و أحد عشر حديثاً، فإذا نسبتها إلى حديث أبي هريرة وحده (و قد عرفت أنّه ٥٣۷٤) تجد الأمر كما قلناه!٢
و قال السيّد شرف الدين أيضاً: لو صحّ ما زعمه أبو هُريرة من دعاء النبيّ له و لُامّه بأن يحبّبهما إلى المؤمنين و يحبّب المؤمنين إليهما لأحبّه أهل بيت النبوّة و موضع الرسالة فإنّهم سادة المؤمنين و قادة أهل الملّة
و الدين. فما بال أئمّتهم الاثني عشر و سائر علمائهم يرذلونه و يُسقطون حديثه و لا يأبهون بشيء ممّا انفرد به؟ حتى قال أمير المؤمنين۱ عليه السلام: ألَا إن أكْذَبَ النَّاسِ - أوْ قَالَ: أكْذَبُ الأحْيَاءِ - على رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لأبُو هُرَيْرَةَ الدَّوْسِيّ!٢
على هذا الأساس ينقل العامّة أحاديث أبي هريرة و أمثاله في كتبهم و يعدّونها من الأحاديث الصحيحة، و يرون أنّ صحاحهم – كـ «صحيح البخاريّ» و «مسلم» - مشحونة بها و باعتبارها.
و لمّا ثبت بطلان و كذب و دغل أبي هريرة، و عِكرمة، و المغيرة، و عروة بن الزبير، و كعب، و أمثالهم. و وجدنا أنّ هؤلاء يشكّلون معظم المصادر الأصليّة لأحاديث العامّة، فلا شأن و لا وزن لكتبهم، و دُمِّر صرح وهمهم و خيالهم.
انتقاد رشيد رضا لأحاديث الصحيحَين
و هذه حقيقة اعترف بها كثير من الناقدين و الباحثين في مغزى الأحاديث و متونها كالدكتور أحمد أمين، و السيّد محمّد رشيد رضا، و الشيخ محمّد عبده، و الدكتور طه حسين، و الدكتور محمّد توفيق صدقي، و الشيخ محمود أبو ريّة و تحدّثوا بالتفصيل عن سقم أخبار الصحيحين و نظائرهما إجمالًا.
قال أبو ريّة: و من الذين انتقدوا أحاديث أبي هريرة في هذا العصر
هم (هؤلاء).۱
قال السيّد محمّد رشيد رضا: ... و ممّا لا شكّ فيه أيضاً أنّه يوجد في غيرهما ( «صحيح البخاريّ» و «مسلم») من دواوين السنّة أحاديث أصحّ من بعض ما فيهما ... .
و لكنّه (صحيح البخاريّ) لا يخلو من أحاديث قليلة في متونها نظر قد يصدق عليه بعض ما عدّوه من علامة الوضع، كحديث سحر بعضهم للنبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم الذي أنكره بعض العلماء كالإمام الجصّاص من المفسّرين المتقدّمين، و الاستاذ الإمام محمّد عبده من المتأخّرين لأنّه معارض بقوله تعالى:
إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً ، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا.٢
هذا و إن في البخاريّ أحاديث في امور العادات و الغرائز ليست من اصول الدين و لا فروعه.
فإذا تأمّلتم هذا و ذاك علمتم أنّه ليس من اصول الإيمان و لا من أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكلّ حديث رواه البخاريّ مهما يكن موضوعه، بل لم يشترط أحد في صحّة الإسلام و لا في معرفته التفصيليّة الاطّلاع على «صحيح البخاريّ» و الإقرار بكلّ ما فيه.
و علمتم أيضاً أنّ المسلم لا يمكن أن ينكر حديثاً من هذه الأحاديث بعد العلم به إلّا بدليل يقوم عنده على عدم صحّته متناً أو سنداً. فالعلماء الذين أنكروا صحّة بعض هذه الأحاديث لم ينكروها إلّا بأدلّة قامت عندهم
قد يكون بعضها صواباً و بعضها خطاً. و لا يُعدّ أحدهم طاعناً في دين الإسلام.۱
وَ مَا كَلَّفَ اللهُ مُسْلِماً أنْ يَقْرَأ «صَحِيحَ البُخَارِيِّ» وَ يُؤْمِنَ بِكُلِّ مَا فِيهِ وَ إن لَمْ يَصِحَّ عِنْدَهُ، أوِ اعْتَقَدَ أنَّهُ يُنَافِي اصُولَ الإسْلَامِ.
سبحان الله! يقول ملايين المسلمين من الحنفيّة: إن رفع اليدين عند الركوع و القيام منه مكروه شرعاً. و قد رواه البخاريّ في صحيحه و غير صحيحه عن عشرات من الصحابة بأسانيد كثيرة جدّاً، و لا إثم عليهم و لا حرج، لأنّ إمامهم لم يصحّ عنده لأنّه لم يطّلع على أسانيد البخاريّ فيه. و كلّ مَنِ اطّلع من علماء مذهبه عليها يوقن بصحّتها. ثمّ يُكفَّر مسلم من خيار المسلمين علماً و عملًا و دفاعاً عن الإسلام و الدعوة إليه،٢ بدليل أو شبهة على صحّة حديث رواه البخاريّ عن رجل يكاد يكون مجهولًا و اسمه يدلّ على أنّه لم يكن أصيلًا في الإسلام و هو عبد بن حنين. و موضوع متنه ليس من عقائد الإسلام و لا من عباداته و لا من شرائعه، و لا التزم المسلمون العمل به.
بل ما من مذهب من مذاهب المقلّدة إلّا و أهله يتركون العمل ببعض ما صحّ عند البخاريّ و عند مسلم أيضاً من أحاديث التشريع المرويّة عن كبار أئمّة الرواة لعلل اجتهاديّة أو لمحض التقليد.
و قد أورد المحقّق ابن القيّم أكثر من مائة شاهد على ذلك في كتابه «أعلام الموقّعين»، و هذا المكفِّر للدكتور منهم٣ (و لا يعمل بكثير من أخبار
البخاريّ و مسلم).
و هاك كلمةً للمسيو أميل درمنغهم، قالها في كتاب «حياة محمّد»:
إن من المنابع الاولى لسيرة محمّد القرآن و السنّة. فالقرآن هو أوثقها سنداً و لكنّه غير شامل الشمول الكافي في هذا الموضوع، و أمّا الحديث فبرغم جميع ما تحرّاه المحدّثون لا سيّما البخاريّ في جمع أقوال الرسول و الإحاطة بأقلّ إشارة من إشاراته و ترجمة الرجال الذين روى عنهم الحديث مسلسلًا و معنعناً لا يزال فيه كثير ممّا هو محلّ للتهمة و ممّا هو موضوع ... إلى آخره.
و علّق الأمير شكيب أرسلان على كلام درمنغهم بقوله:
... هو غير معتقد بصحّة كثير من الأحاديث حتى الوارد منها في الصحيحين. و هذا مشرب من المشارب الفكريّة لا نقدر أن نؤاخذه عليه لا سيّما أنّ كثيرين من المسلمين، و من ذوي الحميّة الإسلاميّة و ممّن لا ينقصهم شيء من الإيمان و الإيقان يشاركون المسيو درمنغهم في هذا الرأي ... و لا يرون من الواجب الدينيّ الإيمان بكلّ ما جاء في الصحيحين و غيرهما من الأحاديث لاحتمال أن يكون تطرّق إليها التبديل و التغيير، أو دخلها الزيادة و النقصان، إذ من المعلوم أنّهم كانوا يروون الأحاديث بالمعنى. و إذا روى الحديث بالمعنى لم يخل الأمر من أن تتطرّق إليه زيادات كثيرة قد يتغيّر بها المعنى أو يبعد عن أهله، إلى أن قال:
و الأدلّة التي تستظهر بها هذه الفئة على وجوب عدم القطع بأكثر الأحاديث و لزوم التوقّف في كثيرٍ ممّا يسارع الناس فيه هي ما يلي:
أوّلًا: عدم إمكان رواية الأحاديث إلّا النادر الأندر بدون زيادة أو نقصان ممّا يعرفه كلّ إنسان من نفسه، و ذلك أنّه إذا أراد أن يُعيد كلاماً سمعه و لو بعد سماعه إيّاه بساعةٍ من الزمن تعذّر عليه سرده بحرفه.
ثانياً: كونهم يقولون: إن ما لا يكاد يُحصى من الأحاديث مرويّ بالمعنى، فيتغيّر فيه كثير من اللفظ.
ثالثاً: جواز السهو و النسيان ممّا لا يخلو منه إنسان و لا يمكن الجدال فيه أصلًا.
رواج الكذب في عصر النبيّ صلّى الله عليه و آله
رابعاً: كون النبيّ صلّى الله عليه و آله نفسه أشار إلى وضع الأحاديث عليه في أيّامه و أنّه من أوثق الأحاديث قوله:
لَقَدْ كَثُرَتْ عَلَيّ الكَذَّابَةُ، فَمَنْ كَذَبَ عَلَيّ فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.۱
ثمّ قال: و لا يزال الشكّ يحوم حول أحاديث كثيرة واردة في الصحاح، و هذا الشكّ ليس من جهة عدم الأمانة في النقل و لكن من جهة عدم استطاعة البشر إلّا ما ندر من رواية كلّ ما يسمعونه بحرفه، أو من وصف كلّ حادثة كانوا فيها كما وقعت بلا زيادة و لا نقصان، و قد يكون اثنان في حادثة من الحوادث و يرويها كلّ واحد منهما بشكل يختلف قليلًا أو كثيراً عن الآخر.٢
هذا المورد الرابع في غاية الأهمّيّة أي: الكذب على النبيّ. لهذا ينبغي ألّا نكتفي بالنظر في سند الحديث للوقوف على صوابه و سقمه، بل لا بدّ من النظر أيضاً في متنه و مضمونه. و من المؤسف أنّ صحاح العامّة لا تنظر إلى عدالة الرواة (لأنّهم جميعاً عدول عندهم) بل لا تنظر أيضاً إلى متن الحديث و مضمونه، و لهذا تُلحظ فيها كثيراً أخبار يخالف محتواها
العقل و العلم و الشهود و الوجدان. منها الأحاديث التي اختلقها أبو هريرة. و ننقل فيما يأتي عدداً منها:
الأوّل: طواف سُليمان بمائة امرأة في ليلة!
أخرج الشيخان بالإسناد إلى أبي هريرة مرفوعاً قال: قال سليمان بن داود: لأطوفنّ الليلة بمائة امرأةٍ! تلد كلّ امرأةٍ غلاماً يقاتل في سبيل الله! فقال له المَلَك: قل: إن شاء الله، فلم يقل!! فأطاف بهنّ، فلم تلد منهنّ إلّا امرأة نصف إنسان!
قال أبو هريرة: قال النبيّ صلّى الله عليه و آله: لو قال: إن شاء الله لم يحنث و كان أرجى لحاجته.
قال السيّد عبد الحسين شرف الدين بعد نقل هذا الحديث: و في هذا أيضاً نظر من وجوه:
أحدها: أنّ القوّة البشريّة لتضعف عن الطواف بهنّ في ليلة واحدةٍ مهما كان الإنسان قويّاً. فما ذكره أبو هريرة من طواف سليمان عليه السلام بهنّ مخالف لنواميس الطبيعة لا يمكن عادةً وقوعه أبداً.
ثانيها: أنّه لا يجوز على نبيّ الله تعالى سليمان عليه السلام أن يترك التعليق على المشيئة، و لا سيّما بعد تنبيه المَلَك إيّاه إلى ذلك. و ما يمنعه من قول: إن شاء الله، و هو من الدعاة إلى الله و الأدلّاء عليه؟ و إنّما يتركها الغافلون عن الله عزّ و جلّ، الجاهلون بأنّ الامور كلّها بيده. فما شاء منها كان و ما لم يشأ لم يكن.
و حاشا أنبياء الله عن غفلة الجاهلين. إنّهم عليهم السلام لفوق ما يظنّ المخرّفون.
ثالثها: أنّ أبا هريرة قد اضطرب في عدّة نساء سليمان، فتارة روي
أنّهنّ مائة امرأة،۱ و تارة روي أنّهنّ تسعون،٢ و تارة روي أنّهنّ سبعون،٣ و تارة روي أنّهنّ ستّون.٤ و هذه الروايات كلّها في صحيحَي البخاريّ و مسلم و «مسند أحمد». فما أدري ما يقوله فيها المعتذرون عن هذا الرجل (أبي هريرة)؟! أ يقولون: إن هذه الحادثة تكرّرت من سليمان مع زوجاته؟ و كنّ مرّة مائة، و مرّة كنّ تسعين، و مرّة سبعين، و اخرى ستّين! و في كلّ مرّة ينبّهه المَلَكُ فلا يقول، ما أظنّهم يقولون بهذا. و لو قالوا: قَدِ اتَّسَعَ الخَرْقُ على الرَّاقِعِ، لكان أولى بهم. و في المثل السائر: لَيْسَ لِكَذُوبٍ حَافِظَةٌ.٥
لطم موسى مَلَك الموت
الثاني: لطم موسى عينَ مَلَك الموت.
أخرج الشيخان في صحيحيهما بالإسناد إلى أبي هريرة قال: جاء ملك الموت إلى موسى عليهما السلام فقال له: أجِبْ رَبَّكَ! قال: فلطم
موسى عين ملك الموت ففقأها. قال: فرجع المَلَك إلى الله تعالى، فقال: إنّك أرسلتني إلى عبدٍ لك لا يريد الموت ففقأ عيني. قال: فردّ الله إليه عينه و قال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياة تريد، فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما توارت بيدك من شعرة فإنّك تعيش بها سنة (الحديث).۱
و أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة في مسنده٢ و فيه: إن ملك الموت كان يأتي الناس عياناً: قال: فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه (الحديث).
و أخرجه ابن جرير الطبريّ في الجزء الأوّل من تاريخه٣ عن أبي هريرة و لفظه عنده: أنّ ملك الموت كان يأتي الناس عياناً حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه و في آخره: أنّ ملك الموت جاء إلى الناس خفيّاً بعد موت موسى.٤
و أنت ترى ما فيه ممّا لا يجوز على الله تعالى، و لا على أنبيائه. و لا على ملائكته، أ يليق بالحقّ تبارك و تعالى أن يصطفي من عباده من
يبطش على الغضب بطش الجبّارين؟ و يوقع بأسه حتى في ملائكة الله المقرّبين؟ و يعمل عمل المتمرّدين؟ و يكره الموت كراهة الجاهلين؟
و كيف يجوز ذلك على موسى، و قد اختاره الله لرسالته و ائتمنه على وحيه، و آثره بمناجاته، و جعله من سادة رُسُله؟! و كيف يكره الموت هذا الكُره مع شرف مقامه، و رغبته في القرب من الله تعالى و الفوز بلقائه؟ و ما ذنب مَلَك الموت عليه السلام؟ و إنّما هو رسول الله إليه و بما استحقّ الضرب و المثلة فيه بقلع عينه؟ و ما جاء إلّا عن الله و ما قال له سوى: أجب ربّك؟ أ يجوز على اولي العزم من الرسل إهانة الكرّوبيّين من الملائكة و ضربهم حين يبلّغونهم رسالات الله و أوامره عزّ و جلّ؟ تعالى اللهُ وَ تَعَالَتْ أنْبِيَاؤُهُ وَ مَلَائِكَتُهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً.
و نحن لِمَ برئنا من أصحاب الرسّ، و فرعون موسى، و أبي جهل، و أمثالهم و لعنّاهم بكرةً و أصيلًا؟ أ ليس ذلك لأنّهم آذوا رسل الله حين جاءوهم بأوامره فكيف نجوّز مثل فعلهم على أنبياء الله و صفوته من عباده؟
حَاشَا لِلَّهِ إن هَذَا لَبُهْتَانٌ عَظِيمٌ!
ثمّ إن من المعلوم أنّ قوّة البشر بأسرهم، بل قوّة جميع الحيوانات منذ خلقها الله تعالى إلى يوم القيامة لا تثبت أمام قوّة ملك الموت فكيف - و الحال هذه - تمكّن موسى عليه السلام من الوقيعة فيه؟ و هلّا دفعه الملك عن نفسه؟ مع قدرته على إزهاق روحه، و كونه مأموراً عن الله تعالى بذلك. و متى كان للملك عين يجوز أن تُفقَأ؟!
و لا تنسَ تضييع حقّ المَلَك و ذهاب عينه! و لطمته هدراً؟ إذ لم يؤمر الملك من الله بأن يقتصّ من موسى صاحب التوراة التي كتب الله فيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِ
وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ.۱
و لم يعاتب الله موسى على فعله هذا بل أكرمه إذ خيّره بسببه بين الموت و الحياة سنين كثيرة بقدر ما تواريه يده من شعر الثور. و ما أدري و الله ما الحكمة في ذكره شعر الثور بالخصوص؟! أما و عزّة الحقّ، و شرف الصدق، و علوّهما على الباطل و الإفك لقد حمّل هذا الرجل أولياءه ما لا طاقة لهم به، و كلّفهم بأحاديثه هذه بما لا تحتمله عقولهم أبداً و لا سيّما قوله في هذا الحديث: إن مَلَكَ الموتِ قبل وفاة موسى كان يأتي الناس عياناً، و إنّما جاءهم خفيّاً بعد موت موسى. نعوذ بالله من سبات العقل و خطل القول و الفعل. وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ.٢
سرقة الحجر ثياب موسى
الثالث: فرار الحجر بثياب موسى و عدوّ موسى خلفه و نظر بني إسرائيل إليه مكشوفاً.
أخرج الشيخان في صحيحيهما بالإسناد إلى أبي هريرة قال: كان بنو إسرائيل يغتسلون عراةً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض. و كان موسى عليه السلام يغتسل وحده. فقالوا: و الله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلّا أنّه آدر (أي: ذو فتق) قال: فذهب مرّة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه. فجمع موسى بأثره يقول: ثَوْبِي حَجَرُ! ثَوْبِي حَجَرُ!
حتّى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا: و الله ما بموسى من
بأس. فقام الحجر بعد حتى نظر إليه فأخذ موسى ثوبه فطفق بالحجر ضرباً. فو الله إن بالحجر ندباً ستّة أو سبعة (الحديث).۱
و في الصحيحين عن أبي هريرة أنّ هذه الواقعة هي التي أشار الله إليها بقوله عزّ من قائل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً.٢
و أنت ترى ما في هذا الحديث من المحال الممتنع عقلًا فإنّه لا يجوز تشهير كليم الله عليه السلام بإبداء سوأته على رؤوس الأشهاد من قومه، لأنّ ذلك ينقصه و يسقط من مقامه، و لا سيّما إذا رأوه يشتدّ عارياً ينادي الحجر، و هو لا يسمع و لا يبصر: ثَوْبِي حَجَرُ! ثَوْبِي حَجَرُ!
ثمّ يقف عليه و هو عاري أمام الناس فيضربه و الناس تنظر إليه مكشوف العورة كالمجنون! و هذه الحركة لو صحّت فإنّما هي من فعل الله تعالى فكيف يغضب منها كليم الله فيعاقب الحجر عليها؟! و ما هو إلّا مقسور على الحركة، و أيّ أثر لعقوبة الحجر؟
ثمّ إن هربه بثياب موسى عليه السلام لا يبيح له إبداء عورته، و هتك نفسه ذلك و قد كان في إمكانه أن يبقى في مكانه حتى يؤتى بثيابه أو بساتر غيرها كما يفعله كلّ ذي لُبٍّ إذا ابتلي بمثل هذه القصّة.
على أنّ هرب الحجر من المعجزات و خوارق العادات التي لا تكون إلّا في مقام التحدّي كمقام انتقال الشجرة في مكّة المعظّمة لرسول الله صلّى الله عليه و آله حين اقترح عليه المشركون ذلك فنقلها الله عزّ و جلّ من مكانها تصديقاً لدعوته و تثبيتاً لنبوّته صلّى الله عليه و آله، و من المعلوم أنّ مقام موسى عليه السلام و هو يغتسل لم يكن مقام تَحدٍّ و تعجيز فلا تقع فيه المعجزات و خوارق العادات و لا سيّما إذا ترتّب عليهما فضيحة نبيّ الله بإبداء سوأته للملأ من قومه على وجه يستخفّ به كلّ من رآه و كلّ من سمع بخبره هذا. و أمّا براءته من الأدرة فليست من الامور التي يباح في سبيلها هتكه و تشهيره و لا هي من المهمّات التي تصدر بسببها الآيات، إذ يمكن العلم ببراءته منها بسبب اطّلاع نسائه عليه؛ و إخبارهن بحقيقة حاله.
و لو فُرض ابتلاؤه بالأدرة فأيّ بأس عليه بذلك؟ و قد أصيب شعيب عليه السلام ببصره و أيّوب عليه السلام بجسمه، و أنبياء الله كافّة تمرّضوا و ماتوا، و لا يجب انتفاء مثل هذه العوارض عن أنبياء الله و رسله، و لا سيّما إذا كانت مستورة عن الناس كالأدرة، نعم لا يجوز عليهم ما يوجب نقصاً في مداركهم أو في مروءتهم أو يوجب نفرة الناس عنهم و استخفافهم بهم. و الأدْرَة ليست في شيء من ذلك. على أنّ القول بأنّ بني إسرائيل كانوا يظنّون أنّ في موسى أدرة لم يُنقل إلّا عن أبي هريرة.
أمّا الواقعة التي أشار الله إليها بقوله عزّ من قائل:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا. فالمرويّ عن أمير المؤمنين عليه السلام، و ابن عبّاس أنّها قضيّة اتّهامهم إيّاه بقتل هارون، و هو الذي اختاره الجبّائيّ. و قيل: هي قضيّة المومسة التي أغراها قارون بقذف موسى عليه السلام بنفسها فبرّأه الله تعالى إذ أنطقها بالحقّ. و قيل: آذوه من حيث نسبوه إلى السِّحْر و الكذب
و الجنون بعد ما رأوا الآيات.
و أنّي لأعجب من الشيخين يُخرّجان هذا الحديث و الذي قبله في فضائل موسى. و ما أدري أيّ فضيلة بضرب ملائكة الله المقرّبين و فقء عيونهم عند إرادتهم تنفيذ أوامر الله عزّ و جلّ؟ و أيّ منقبة بإبداء العورة للناظرين؟ و أيّ وزن لهذه السخافات؟
إن كَلِيمَ اللهِ وَ نَجِيَّهُ وَ نَبِيَّهُ لأكبر من هذا. و حسبه ما صدع به الذِّكر الحكيم و الفرقان العظيم من خصائصه الحسنى عليه السلام.۱
حديث: لَا عَدْوَى وَ لَا طِيَرَةَ وَ لَا هَامَةَ
الرابع: حديث لَا عَدْوَى وَ لَا طِيَرَةَ وَ لَا هَامَةَ.
روى الشيخان عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قال:
لَا عَدْوَى وَ لَا طِيَرَةَ وَ لَا هَامَةَ.٢
و قد روى هذا الحديث بألفاظ مختلفة، و لكنّ الصحابة عملوا بما يخالفه. فقد روى البخاريّ عن اسامة بن زيد أنّ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قال:
إذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا، وَ إذَا وَقَعَ بِأرْضٍ وَ أنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا.
و قد جاء هذا الحديث كذلك عن عبد الرحمن بن عوف. و رووه أيضاً في مرض الوباء. و روى الغزاليّ في «إحياء العلوم» ج ٤، ص ٢٥۰، عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم يقول: إذَا سَمِعْتُمْ بِالوَبَاءِ في أرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَ إذَا وَقَعَ في أرْضٍ وَ أنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ.
و لمّا سمع عمر هذين الحديثين، و حديث لَا يُورَدَنْ مُمْرَضٌ على مُصَحٍّ. و هو ممّا رواه أبو هريرة كذلك،۱ و كان قد خرج إلى الشام، و وجد الوباء، عاد بمن معه.٢
و قد اضطرّ أبو هريرة أمام هذه الأخبار القويّة إلى أن يرجع عمّا
حدّث، و أنكر روايته الاولى لَا عَدْوَى.
و لمّا أنكر عليه الحارث بن أبي ذباب (ابن عمّ أبي هريرة) و قال له: كنتُ أسمعكَ يا أبا هريرة تحدّثنا مع حديث (لا يورد ...) حديث (لا عدوى) فأنكر معرفته لذلك! و وقع عند الإسماعيليّ من رواية شعيب. فقال الحارث (ابن عمّ أبي هريرة): إنّك حدّثتنا!
فأنكر أبو هريرة و قال: لم احدّثك ما تقول. و رواية مسلم: أ لَمْ تُحَدِّثْ أنَّهُ لَا عَدْوَى؟ صَمَتَ وَ رَطَنَ بِالحَبَشِيَّةِ.۱
أي: إنّه غالط و ضيّع الموضوع.
حديث الذُّباب
الخامس: حديث الذُّباب.
قال أبو ريّة: روى البخاريّ، و ابن ماجة عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله قال: إذَا وَقَعَ الذُّبَابُ في إنَاءِ أحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ فَإنَّ في أحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَ الآخَرِ شِفَاءً.
و لهذا الحديث ألفاظ مختلفة منها:
فِي أحَدِ جَنَاحَيْهِ سَمٌّ وَ في الآخَرِ شِفَاءٌ وَ إنَّهُ يُقَدِّمُ السَّمَّ وَ يُؤَخِّرُ الشَّفَاءَ.
و منها: إن تَحْتَ جَنَاحِ الذُّبَابِ الأيْمَنِ شِفَاءً وَ تَحْتَ جَنَاحِهِ الأيْسَرِ سَمّاً. فَإذَا سَقَطَ في إنَاءٍ أوْ في شَرَابٍ أوْ في مَرَقٍ فَاغْمِسُوهُ فِيهِ، فَإنَّهُ يَرْفَعُ
عَنْهُ ذَلِكَ الجَنَاحَ الذي تَحْتَهُ الشِّفَاءُ، وَ يَحْفَظُ الذي تَحْتَهُ السَّمُّ.۱
هذا الحديث قد وجد من نقد الباحثين ما لم يجده حديث آخر؛ ذلك بأنّ الذباب في نفسه قذر تنفر النفوس من رؤيته. فكيف يأمر النبيّ بغمسه إذا سقط في الإناء الذي فيه طعام أو شراب ثمّ يتعاطون بعد ذلك ما في الإناء؟!
و منذ سبع عشرة سنة هبّ النطاسيّ البارع الدكتور سالم محمّد يشكِّك في هذا الحديث مرتكناً على ما أثبته الحسّ و العلم، و أجمع عليه الأطبّاء قاطبة من ضرر الذباب، و أنّه أكبر أعداء الإنسان، لأنّه يسبّب أمراضاً كثيرة تفتك بالملايين من البشر كلّ عام، فوقف في وجهه شيخ جامد يدرّس - للأسف - الشريعة الإسلاميّة بإحدى الجامعات المصريّة، فرمى هذا الطبيب الفاضل بالجهل، و أنّه لم يحترم (البخاريّ المقدّس).
و قد رأيتُ حينئذٍ إنصافاً للعلم، و تنزيهاً لمقام النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، و تأييداً لهذا الدكتور الباحث أن أنشر في العدد ٩٦٤ - ٢٤ كانون الأوّل سنة ۱٩٥۱ م من مجلّة «الرسالة» - كلمةً هذا نصّها:
معركة الذباب
قامت في الشهور الأخيرة معركة حامية بين مجلَّتَي «لواء الإسلام»، و الدكتور حول حديث الذباب. فالاولى تتمسّك بهذا الحديث، و تصرّ على إثباته، ليأخذ الناس به، و يصدّقوا بمدلوله، مرتكنة على أنّ كتب الحديث
قد أوردته - و منها البخاريّ. و أمّا الثانية فتدفع هذا الحديث و تستبعد صدوره عن النبيّ الذي لا ينطق عن الهوى،۱ و حجّتها ما أثبته العلم و حقّقته التجربة من ضرر الذباب، و أنّه ناقل للعدوى في أمراض كثيرة.
و إن المرء ليأسى أن يقوم إنسان في هذا العصر الذي زخرت فيه بحار العلم و أخرجت من عجائب المخترعات و المستكشفات ما يُدهش العقول، و تسابق أهلوه في مضمار ما استطاعوا للانتفاع بما خلق الله لهم و سخّره لعلومهم في السماوات و الأرض، متّخذين في ذلك كلّ سبب من أسباب العرفان و التجربة، فيشغل الناس بهذه الأبحاث العقيمة التي لا تنفع و لا تفيد، بل هي إلى إساءة الدين أدنى، و إلى ضرر الناس أقرب!
و لقد كان جديراً بمجلّة «لواء الإسلام» ألّا تسوّد صفحاتها بمثل هذا البحث العقيم الذي يفتح و لا ريب على الدين شبهة يستغلّها أعداؤه، و يتوارى منها أولياؤه، و أن تدع الأمر في مثل هذا الحديث إلى العلم و تجاربه، و ما وصلت إليه أبحاثه الدقيقة التي لا يمكن نقضها، و لا يردّ حكمها!
و ما ذا يضرّ الدين إذا أثبت العلم ما يخالف حديثاً من الأحاديث التي جاءت من طريق الآحاد؟!
أمّا الأخبار التي جاءت من طريق الآحاد فإنّها لا تعطي اليقين، و إنّما تعطي الظنَّ الذي لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً.٢ فللمسلم أن يأخذ بها و يصدّقها إذا اطمأنّ قلبه بها، و له أن يدعها إذا حاك في صدره شيء منها. و هذا أمر معروف عند النظّار، و لا يعارض فيه إلّا زوامل الأسفار من الحشويّة
الجامدين الذين لا يُقام لهم وزن.
و إذا نحن أخذنا حديث الذباب على إطلاقه و لم نسلّط عليه أشعّة النقد فإنّا نجده من أحاديث الآحاد و هي التي تفيد الظنّ. فإذا لم يسعنا ذلك في ردّه بعد أن أثبت العلم بطلانه، فليسعنا ما وصفه العلماء من قواعد عامّة في ذلك، مثل:
لَيْسَ كُلُّ مَا صَحَّ سَنَدُهُ يَكُونَ مَتْنُهُ صَحِيحاً، وَ لَا كُلُّ مَا لَمْ يَصِحَّ سَنَدُهُ يَكُونُ مَتْنُهُ غَيْرَ صَحِيحٍ.۱
و إذا قيل: إن هذا الحديث قد رواه البخاريّ، و هو لا يروي إلّا ما كان صحيحاً، فإنّا نردّ على ذلك بأنّه قد روى في كتابه ما عدّه هو صحيحاً عملًا بظاهر الإسناد، لا ما ثبت أنّه صحيح في الواقع. و لذلك لا يلزم غيره ما اعتبره هو لنفسه.
قال الزين العراقيّ في شرح ألفيّته: و حيث قال أهل الحديث: هذا حديث صحيح، فمرادهم فيما ظهر لنا عملًا بظاهر الإسناد، لا أنّه مقطوع بصحّته في نفس الأمر لجواز الخطأ و النسيان على الثقة. هذا هو الصحيح عند أهل العلم المحقّقين، و لهذه القاعدة قال ابن أبي ليلى: لَا يَفْقَهُ الرَّجُلُ في الحَدِيثِ حتى يَأخُذَ مِنْهُ وَ يَدَعَ! ... أمّا راوي هذا الحديث و هو أبو هريرة، فقد ردّوا له أحاديث كثيرة في حياته و بعد مماته، حتى من التي صرّح بأنّه سمعها من النبيّ مثل حديث: خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ.٢
و إنّا نكتفي اليوم بهذه الكلمة القصيرة و نشكر لحضرة النطاسيّ البارع
الدكتور سالم محمّد الذي أثار هذا البحث النافع. و ندعوه و سائر زملائه الأطبّاء، ثمّ رجال العلم جميعاً من مهندسين، و فلكيّين، و جغرافيّين، و غيرهم أن يستمرّوا في أبحاثهم العلميّة النافعة بوسائلهم الصحيحة التي دعا إليها الإسلام، و لا تخشوا أحداً في ذلك ... .
المنصورة - محمود أبو ريّة
و في نفس اليوم الذي نشرت فيه مجلّة «الرسالة» هذه الكلمة، و هو يوم ٢٤/ ۱٢/ ۱٩٥۱ م تلقّيت من سيادة الدكتور سالم محمّد، و كان حينئذٍ مديراً لمستشفى كفر الشيخ، هذه البرقية ننشرها بنصّها لتسجّل على وجه التأريخ.
الاستاذ محمود أبو ريّة بك - المنصورة - بمَقالِكَ مُغْتَبِطُونَ، وَ لَكَ شَاكِرُونَ!
دكتور سالم محمّد
ثمّ تحدّث الشيخ محمود أبو ريّة مفصّلًا عن هذا الحديث و الردّ المفصّل الذي كتبه السيّد محمّد رشيد رضا و دحض فيه هذا الحديث بالدليل المتقن. و ختم كلامه ببيان ضرر الذباب و قذارته عند العرب.۱
و مثل هذه الأحاديث المخالفة للواقع كثير عند العامّة. و لمّا كان
سندها صحيحاً بزعمهم - كأحاديث عِكْرَمة، و مقاتل بن سليمان، و ابن عمر، و عائشة، و ابن الزبير، و كعب، و أمثالهم - فإنّهم يتمسّكون بها و لا يتركونها و يصرّون على صحّة متونها و مضامينها بألف دليل سقيم غير وجيه. و من هذه الأحاديث: الأحاديث المتعلّقة بالصلاة و الصوم و النكاح و الحجّ عندهم، كغسل الرِّجلين في الوضوء على خلاف النصّ القرآنيّ، و غسل اليدين من أطراف الأصابع إلى المرافق على عكس ما هو معتاد، فإنّهم يبدأون من الأصابع و يختمون بالمرافق، من الأسفل إلى الأعلى. و ما زالوا يصرّون على هذا الأمر، لأنّ الاجتهاد محظور في مذاهبهم. و كلّهم مضطرّون مقسورون على أن يضعوا عقولهم تحت أقدامهم، و يقلّدوا أحد العلماء الأربعة الذين ربّما سبقهم أو جاء بعدهم مَن هو أعلم منهم. و السبب الآخر هو أنّهم يعتقدون بعدالة الصحابة أيّاً كانوا حتى معاوية بن أبي سفيان، و أبي هريرة الكذّاب. فلهذا يذهبون إلى صحّة كلّ حديث ينقلونه و يعملون بمفاده حتى لو كان فيه مائة إشكال على صعيد الرجال و الدراية.
نقاش عامل شيعيّ مع فؤاد الآلوسيّ
إن موضوع حديث الذباب لأبي هريرة، و إصرار ذلك السنّيّ الحشويّ على صحّته خلافاً للعقل و العلم ذكّراني بحكاية جميلة رائعة ذاتِ سَماعٍ نقلها لي أحد أصدقائي الأعزّاء، و هو: الحاجّ أبو علي موسى محيي نجل الحاجّ أبي موسى جعفر محيي، الذي وُلد في النجف الأشرف، و كان ساكناً في الكاظميّة.
و نوردها فيما يأتي كما نقلها باللهجة العربيّة البغداديّة الدارجة غير الفصيحة لمزيد اللطف و لفت الأنظار كي لا يخلو كتابنا من ذكر مثل هذه اللهجة، و نكون قد استفدنا من أصل الموضوع.
چَانْ شابْ سَاكِنْ بَغْدَادْ بَسْ بِالأصْلِ نَجَفِي اسْمَه حَمُّودِي إبْن عَبْدِ الزَّهْرَة ألْكُرُكْچِي، نِقَلِّي فَدْ يَومْ گَالْ طَبَّيْتِ الْجَامِع مَرْجَانْ إبْرَاسِ
الشَّورْجَه أصَلِّي فَرِحِتْ إلْمَحَلِّ الْوُضُو، و ابْدَيتْ بِالْوُضُوء، إجَانِي الإمَامِي فُؤَادِ الآلُوسِي نِزَلْ عَلَيّ عَبَالَكْ دَيْرِيدْ يِتْعَارَكْ وِيَّايَه. گَلِّي: وُلَكْ هَذَا اشْلَونْ وُضُو؟!
إلَى متى تُبْقُونْ مَتِفْتَهْمُونْ؟!
فَحَمُّودِي ايْگُولْ: إتْرِيدِ الصُّدُگْ، آنِي أوَّلًا شَخِصْ عَامِلْ مَا أگْدَرْ أجَادْلَه، او ثَانِياً آنِي عَصَبِي نَارْ كَبْرَه، وَ لَكِنْ ألله سُبْحَانَه او تعالى ألْهَمْنِي اشْلَونْ أحَاچِيه وَ ابْكُلْ بُرُودَه!
فَحَمُّودِي گَلَّه: شَيْخَنَه، مُمْكِنِ اتْعَلِّمْنِي اشْلَونِ الْوُضُوءِ الصَّحِيحِ؟! إلْجَاهِلْ غَيرِ أيْعَلْمُو لَوْ يِتْعَارْكُونْ وِيَّا.
الإمَامِي گَالْ: إبْنِي، چَفْ إيدَكْ إتْصَعْدَه لِيفَوگْ و ادِّيرِ الْمَايْ عَلَه چَفْ إيدَكْ لِيجَوَّه إلْحَدِّ الْعِكِسْ.
حَمُّودِي گَلَّه: آنِي اهْوَايَه أشْكُرَكْ! بَسْ أرِيدْ أسْألْ مِنَّكْ: لُوَيشْ، يَعْنِي شِنُو السَّبَبْ؟!
الإمَامِي گَلَّه: إبْنِي الأطِبَّاء إيعِرْفُوهَه الْهَايِ الشَّغْلَة. بِلْجِسِمْ أكُو اثْقُوبْ يِسَمُّوهَه الْمَسَامَاتْ، فالْمَايْ لَمَّنْ يِنْزِلْ مِنْ فَوگْ لِيجَوَّه يِدْخُلِ ابْهَايِ الْمَسَامَاتْ فَلْوُضُو ايْصِيرْ صَحِيحْ!
حَمُّودِي گَلَّه: آنِي اهْوَايَه أشْكُرَكْ و انْتَه نَبَّهِتْنِي عَلَه شِي ثَانِي آنِي هَمَّينَه چِنِتْ مُدَّه امْنِ الزَّمَنْ مِشْتِبِهْ بِي!
الإمَامِي گَلَّه: شُنُو هُوَّه؟!
حَمُّودِي جَاوَبِه، گَلَّه: آنِي مِنْ چِنِتْ أغْتِسِلْ غُسْلِ الْجَنَابَة، كُلْ غُسْلِي بَاطِلْ!
الإمَامِي گَلَّه: لُوَيشْ؟!
حَمُّودِي جَاوَبِه، گَلَّه: لأنَّهُ مِنْ چِنْتِ أغْتِسِلْ أو گَفُ او أغْتِسِلْ فَهَسَّه
بَعَدْ مَا نَبَّهِتْنِي عَنْ هَايِ لِزْرُوفْ إلى بِلْجِسِمْ، جَوَّه الدّوشْ لَازِمْ وَكْتِ الْغُسُلْ أضْرُبْ چُقْلُنْبَه، يَعْنِي أصَعِّدْ رِجْلِي لِيفَوگْ، اوْ رَاسِي لِيجَوَّه!
الإمَامِي گَلَّه: أي هَايْ لَيشْ؟!
حَمُّودِي جَاوَبَه، گَلَّه: مُو إنْتَه اللِّي گِلِتْ إلْمَايْ لَازِمِ ايطُبْ بِزْرُوفِ الْجِلدِ!
الإمَامِي گَلَّه الْحَمُّودِي: وُلَكْ إنْتُو اشْلَونْ مِلَّه مَحَّدْ يِگْدَرْ عَلَيكُمْ!
دعم الآلوسيّ لجريمة نجيب باشا
علماً أنّ فؤاد الآلوسيّ هو من أحفاد السيّد محمود بن السيّد عبد الله الآلوسيّ صاحب تفسير «روح المعاني»، و كان يسكن في بغداد، و له مقام الإفتاء فيها على المذهب الحنفيّ أيّام السلطان محمود و ابنه السلطان عبد المجيد العثمانيَّين، مع أنّه كان سلفيّ الاعتقاد في الاصول شافعيّ المذهب في الفروع. و شهد هذا الرجل غارة محمّد نجيب باشا على كربلاء و المذبحة التي ارتكبها بحقّ أهلها بأمر من الحكومة العثمانيّة، و هاجم دورها ما عدا دار السيّد كاظم الرشتيّ. فنظم الآلوسيّ - بوصفه قاضي العسكر - بيتين من الشعر يفتخر بهما بقتل شيعة كربلاء، الذين قتل منهم تسعة آلاف خلال ثلاثة أيّام. و نوردهما هنا نقلًا عن كتاب «زنبيل» للمرحوم الحاجّ فرهاد ميرزا رضوان الله عليه.۱ علماً أنّ من استطاع الفرار
...۱
من الناس فقد فرّ، و من لم يستطع فقد قُتل. و كُسرت الألواح في الروضة المنوّرة، و جُرحت قلوب الأحبّة، وَ كَانَ مَا كَانَ وَ وَقَع مَا وَقَعَ.
و بعد المذبحة الجماعيّة صدر قرار بأمر الولاية، و رجع في الرابع عشر من الشهر المذكور. و نظم ابن الآلوسيّ، الذي كان من فضلاء أهل السنّة و كان قاضياً لعسكر محمّد نجيب باشا، البيتين الآتيين آنذاك:
أ حُسَيْنُ دَنَّسَ طِيبَ مَرْقَدِكَ الاولَى | *** | رَفَضُوا الهُدَى وَ على الضَّلَالِ تَرَدَّدُوا |
حتى جَرَى قَلَمُ القَضَاءِ بِطُهْرِهَا | *** | يَوْماً فَطَهَّرَهَا النَّجِيبُ مُحَمَّدُ۱ |
السادس: حديث: خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ.
قال أبو ريّة: روى مسلم في كتابه عن أبي هريرة:
أخَذَ رَسُولُ اللهِ بِيَدِي! فَقَالَ: خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَ خَلَقَ فِيهَا الجِبَالَ يَوْمَ الأحَدِ، وَ خَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَ خَلَقَ المَكْرُوهَ يَوْمَ الثَّلَاثَاءِ، وَ خَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأرْبَعَاءِ، وَ بَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الخَمِيسِ، وَ خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ العَصْرِ يَوْمَ الجُمُعَةِ في آخِرِ الخَلْقِ سَاعَةً مِنْ سَاعَاتِ الجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ العَصْرِ إلى اللَّيْلِ.٢
إخْسَأ عَدُوَّ اللهِ إن نَجِيبَكُمْ | *** | رَفَضَ الهُدَي وَ على العَمَي يَتَردَّدُ |
وَ لَئِنْ بِهِ وَ بِكَ البَسِيطَةُ دُنِّسَتْ | *** | فَأبْشِرْ يُطَهِّرُهَا المَلِيكُ مُحَمَّدُ |
إخْسَأ عَدُوَّ اللهِ كُلُّ نَجِيبَكُمْ | *** | كَيَزِيدِكُمْ شُرْبَ الدِّمَاءِ تَعَوَّدُوا |
هذا ابنُ هِنْدٍ وَ المدينة | *** | و الدَّمُ المهراق فيها و النبيّ محمّدُ |
تَبّاً لأشقَي الأشقِيَاءِ نَجِيبكُم | *** | نَصَبَ الحسين و في لَظَي يتخلَّدُ |
لا تعجبوا ممَّا أتي إذ قد أتي | *** | بصحيفةٍ ملعونةٍ يتقلَّدُ |
حديث خلق الأرض في سبعة أيّام!
و قد روى هذا الحديث كذلك الإمام أحمد، و النسائيّ عن أبي هريرة، و رواية النسائيّ: إن اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ وَ مَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى على العَرْشِ في اليَوْمِ السَّابِعِ.
و قد ذكر الأئمّة و منهم البخاريّ في «التاريخ الكبير» و ابن كثير أنّ أبا هريرة قد تلقّى هذا الحديث عن كعب الأحبار، لأنّه يخالف نصّ القرآن في أنّه خلق السماوات و الأرض في ستّة أيّام!!
و ممّا يدلّ على أنّ أبا هريرة قد استقى هذا الحديث من كعب الأحبار كما نصّ الأئمّة على ذلك، و أنّه من نبع إسرائيليّ، أنّ هناك خبراً آخر يشابهه مرويّاً عن عبد الله بن سلام - الذي كان من أحبار اليهود و أسلم - رواه الطبرانيّ،۱ و هذا نصّه:
إن اللهَ بَدَأ الخَلْقَ يَوْمَ الأحَدِ فَخَلَقَ الأرَضِينَ في الأحَدِ وَ الاثْنَيْنِ، وَ خَلَقَ الأقْوَاتَ وَ الرَّوَاسِيَ في الثَّلَاثَاءِ وَ الأرْبَعَاءِ، وَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ في الخَمِيسِ وَ الجُمُعَةِ، وَ فَرَغَ في آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَخَلَقَ فِيهَا آدَمَ على عَجَلٍ. فَتِلْكَ السَّاعَةُ التي تَقُومُ فِيهَا السَّاعَةُ.
و عبد الله بن سلام هذا قد حدّث عنه أبو هريرة كما حدّث عن كعب الأحبار.٢
و من العجيب أنّ أبا هريرة قد صرّح في هذا الحديث بسماعه من النبيّ و أنّه صلّى الله عليه و آله قد أخذ بيده حين حدّثه به.
و إنّي لأتحدّى الذين يزعمون أنّهم على شيء من علم الحديث، أن يحلّوا هذا المشكل و أن يخرجوا شيخهم من هذه الورطة التي ارتطم فيها!
إن الحديث صحيح السند على قواعدهم، لا خلاف في ذلك بينهم، و قد رواه مسلم في صحيحه. و لم يصرّح بسماعه من النبيّ فحسب، بل زعم أنّ رسول الله قد أخذ بيده و هو يحدّثه به. و قد قضى أئمّة الحديث بأنّ أبا هريرة قد أخذه من كعب الأحبار و أنّه مخالف للكتاب العزيز. و لو رواه عنعنةً لقلنا عسى، و لالتمسنا له مخرجاً يخرج منه، و لكنّه صرّح بسماعه و وضع يده في يد النبيّ عند ما تلقّاه منه. فمثل هذه الرواية تعدّ و لا ريب كذباً صراحاً و افتراءً على رسول الله، فما حكم من يقترفها؟! و هل تدخل تحت طائلة حكم حديث الرسول: مَنْ كَذَبَ عَلَيّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ؟ أم هناك مخرج لراوي هذا الحديث بذاته، لأنّه صاحب الثوب، و الوعاءين، و المِزْوَد؟۱
إنّي و الله لفي حاجة إلى الانتفاع بالجواب المقنع عن ذلك! لأنّ هذا الحديث وحده لو أمعن الإنسان نظره فيه و حقّق في ظاهره و مطاويه، لكشف و لا ريب عن حقيقة روايات أبي هريرة كلّها. لأنّه إذا كان هذا شأنه في رواية ما يصرّح بسماعه بأذنه من النبيّ صلّى الله عليه و آله، فكيف يكون الأمر فيما يرويه عنعنةً عن غيره؟!
و لقد أحسن علماؤنا في تكذيب هذا الحديث، و أن يقطعوا بأنّ أبا هريرة قد كذب في أنّه رواه عن النبيّ. و أنّه قد تلقّاه عن كعب الأحبار اليهوديّ الذي لم يكن له من عمل إلّا أن يدسّ في الإسلام ما يشوّه بهاءه، و أن يفتح باب الطعن في علم من جاء به ... .
روى أحمد عن أبي هريرة أنّه قال: إن رَسُولَ اللهِ قَالَ: يَخْرُجُ مِنْ خُرَاسَانَ رَايَاتٌ سُودٌ لَا يَرُدُّهَا شَيْءٌ حتى تُنْصَبَ بِإيلِيَا! (إيليا في الشام).
رواه البيهقيّ، و قد قال الحافظ ابن كثير: إنّه من كعب الأحبار،۱ و ليس كلام رسول الله.
قال أبو ريّة في الصفحات الأخيرة من الكتاب: و قد طعن في هذا الحديث الأئمّة، و قالوا: إنّه ليس من قول النبيّ صلّى الله عليه و آله، و جزموا بأنّه من قول كعب الأحبار، و إليك ما قاله ابن تيميّة الذي يلقّبه أهل السنّة بشيخ الإسلام. قال:
و أمّا الحديث الذي رواه مسلم في قوله: خَلَق اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ فهو حديث معلول، قدح فيه أئمّة الحديث كالبخاريّ و غيره. قال البخاريّ: الصحيح أنّه موقوف على كعب الأحبار، و قد ذكر تعليله البيهقيّ أيضاً و بيّنوا أنّه غلط، ليس ممّا رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم. و هو ما أنكر الحذّاق على مسلم إخراجه إيّاه.
و قال: و قد نوزع مسلم بن الحجّاج في عدّة أحاديث ممّا خرّجها، و كان الصواب مع من نازعه. كما روى في حديث الكسوف أنّ النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم صلّى بثلاث ركوعات، و الصواب أنّه لم يصلّ إلّا بركوعين.
و كذلك روى مسلم: خَلَقَ اللهُ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ. و نازعه فيه من هو أعلم منه كيحيى بن معين، و البخاريّ فبيّنوا أنّه غلط و ليس من كلام النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، و الحجّة مع هؤلاء. فإنّه قد ثبت بالكتاب و السنّة و الإجماع أنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ في سِتَّةِ أيَّامٍ.
و كذلك روي أنّ أبا سفيان لمّا أسلم طلب من النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم أن يتزوّج بامّ حبيبة، و أن يتّخذ معاوية كاتباً له. و غلّطه في ذلك طائفة من الحفّاظ. و ذلك بأنّ النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قد تزوّج بامّ حبيبة و أبو سفيان كافر!۱
أجل، لقد بذل معاوية قصارى جهده على جبهتين: جبهة الدعايات و الأحاديث الموضوعة؛ و جبهة الحرب و المذابح المتكرّرة التي ارتكبها بحقّ الشيعة فتمكّن من الإطاحة بالنبوّة و استبدال المَلَكيّة بها. كما تمكّن من اجتثاث الحياة المعنويّة من جذورها، و إحلال شجرة الاستبداد
و الطاغوتيّة الحنظليّة محلّها على امتداد أربعين سنة من حكومته بالشام يوم كان أميراً عليها في العشرين سنة الاولى، و يوم تقمّص خلافة المسلمين في العشرين الثانية. و مع أنّ للحكّام الغاصبين الذين سبقوه قسطاً كبيراً في هذا الأمر - إذ انطلق السهم من سقيفتهم حقّاً و استقرّ في حلقوم عليّ الأصغر - لكنّ هذا الطاغي المكّار الغدّار الأثيم قد بزّهم في تنفيذ خطّته و بلوغ هدفه المنشود.
لقد كان وضع الأحاديث و قتل الشيعة المظلومين و أسرهم أشياء مألوفة منذ البداية، بَيدَ أنّها نضجت و تطوّرت أكثر فأكثر في عهد معاوية.
بعض الأحاديث الموضوعة
قال المحدّث القمّيّ رحمه الله في بعض الأحاديث الموضوعة: ذكر بعض الأحاديث الموضوعة عن الصنعانيّ من علماء العامّة أنّه قال في كتاب «الدُّرر الملتقطة»: و من الموضوعات ما زعموا أنّ النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم قال: إن اللهَ يَتَجَلَّى لِلْخَلَايِقِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَامَّةً، وَ يَتَجَلَّى لَكَ يَا أبَا بَكْرٍ خَاصَّةً!
و أنّه قال: حَدَّثَنِي جَبْرَئِيلُ: إن اللهَ تعالى لَمَّا خَلَقَ الأرْوَاحَ اخْتَارَ رُوحَ أبي بَكْرٍ مِنَ الأرْوَاحِ.
ثمّ قال الصنعانيّ: و أنا أنتسب إلى عمر، و أقول فيه الحقّ لقول النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: قُولُوا الحَقَّ وَ لَوْ على أنفُسِكُمْ أوِ الوَالِدَيْنِ وَ الأقْرَبِينَ!
فمن الموضوعات ما روي: إن أوَّلَ مَا يُعْطَي كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَ لَهُ شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ. قِيلَ: فَأيْنَ أبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: سَرَقَتْهُ المَلَائِكَةُ!
و قال الصنعانيّ: و منها: مَنْ سَبَّ أبَا بَكْرٍ وَ عُمَر قُتِلَ، وَ مَنْ سَبَّ عُثْمَانَ وَ عَلِيًّا جُلِدَ الحَدَّ. إلى غير ذلك من الأحاديث المختلفة.
و من الموضوعات: زُرْ غِبّاً تَزْدَدْ حُبَّاً!
النَّظَرُ إلى الخُضْرَةِ تَزِيدُ في البَصَرِ.
مَنْ قَادَ أعْمَى أرْبَعِينَ خُطْوَةً غَفَرَ اللهُ لَهُ.
العِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الأبْدَانِ وَ عِلْمُ الأدْيَانِ.
الجَنَّةُ دَارُ الأسْخِيَاءِ.
طَاعَةُ النِّسَاءِ نَدَامَةٌ.
دَفْنُ البَنَاتِ مِنَ المَكْرُمَاتِ.
اطْلُبُوا الخَيْرَ عِنْدَ حِسَانِ الوُجُوهِ!
لَا هَمَّ إلَّا هَمُّ الدَّيْنِ.
لَا وَجَعَ إلَّا وَجَعُ العَيْنِ.
المَوْتُ كَفَّارَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
إن التُّجَّارَ هُمُ الفُجَّارُ. إلى غير ذلك.۱
هل كان نهج معاوية في حكمه القائم على القتل و الدعايات بُغية بقاء مُلكه و استمراره من بنات أفكاره أو كان متأسّياً بمن سبقه من الحكّام الذين انتهجوا هذا الاسلوب من أجل المحافظة على سياستهم و إمارتهم؟
لقد هدّد عمر بحرق بيت فاطمة توطيداً للبيعة، و صَرَفَ الآية الكريمة: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً-٢ التي نزلت في عيد الغدير يوم الثامن عشر من ذي الحجّة، و الأدلّة التأريخيّة القطعيّة على ذلك كثيرة لا يأتي عليها الإحصاء عن موضوعها الحقيقيّ، و ذكر أنّها نزلت يوم عرفة.
أ ليس هذا التحريف وضعاً و دسّاً و تزويراً في التأريخ و التفسير و الحديث؟!
تحدّث الدكتور السيّد محمّد التيجانيّ التونسيّ عن هذه الآية و ذكر أنّ اليهود و النصارى قالوا: لو نزلت هذه الآية فينا لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً. و أورد أحاديثاً عن «صحيح البخاريّ»،۱ و «الدرّ المنثور»٢ للسيوطيّ، يقول فيها عمر: أنّي لأعلم أيّ مكان انزلت، انزلت و رسول الله واقف على جبل الرحمة يوم عرفة. ثمّ قال التيجانيّ:
و لا يستبعد أن يكون عمر بن الخطّاب نفسه هو الذي صرف نزولها إلى يوم عرفة، لأنّه كان بطل المعارضة لخلافة عليّ، كما كان هو مؤسّس و مشيّد البيعة لأبي بكر يوم السقيفة حتى وصل به الأمر إلى تهديد المتخلّفين عنها في بيت فاطمة الزهراء بحرق البيت بمن فيه إن لم يخرجوا لبيعة أبي بكر.٣
نبذة تأريخيّة عن الوهّابيّة
فمن كانت همّته بهذه القوّة و عزيمته بهذه الشدّة لا يصعب عليه إقناع الناس بأنّ الآية إنّما نزلت يوم عرفة. و إذا كان النصّ بالخلافة على علي بن أبي طالب قد حرفوه عن حقيقته و باغتوا الناس (بما فيهم عليّاً نفسه و الذين كانوا منشغلين معه بتجهيز الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم و دفنه) بالبيعة لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة على حين غفلة، و ضربوا بنصوص الغدير عرض الجدار، و جعلوه نسياً منسيّاً، فهل يمكن لأيّ أحد بعد الذي وقع أن يحتجّ بنزول الآية يوم الغدير؟! و تلك السلسلة هي التي أسّست الوهّابيّة
و روّجتها.۱
أبو بكر و عمر أوّل الوضّاعين
فليست الآية أوضح في مفهومها من حديث الولاية، و إنّما تحمل معناها إكمال الدين و إتمام النعمة و رضاء الربّ فليكن ذلك اليوم (عند عمر) عيداً بالمعنى، لا بالفعل!۱
و ذكر السيّد هاشم البحرانيّ رواية مفصّلة عن كتاب سليم بن قيس في احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على أبي بكر بعد غصب الخلافة، و إلزامه بحقّانيّته و حقّه، إلى أن بلغ كلام أبي بكر إذ قال: كلّما قلت حقٌّ قد سمعناه بآذاننا و عرفناه و وعته قلوبنا و لكن سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم يقول:
إنَّا أهْلُ بَيْتٍ اصْطَفَانَا اللهُ تعالى وَ اخْتَارَ لَنَا الآخِرَةِ على الدُّنْيَا، فَإنَّ اللهَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْمَعَ لَنَا أهْلَ البَيْتِ النُّبُوَّةَ وَ الخِلافَةَ!
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: هل أحد من أصحاب رسول الله شهد هذا معك؟ فقال عمر: صدق خليفة رسول الله قد سمعته منه كما قال. و قال أبو عُبيدة، و سالم مولى حُذيفة، و معاذ بن جبل: قد سمعنا ذلك من رسول الله! فقال لهم عليّ عليه السلام: لقد وفيتم بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها في الكعبة إن قتل الله محمّداً و مات لنذودُّنَّ هذا الأمر عنّا
أهل البيت!۱
نلحظ هنا بوضوح أنّ أبا بكر نفسه قد وضع حديثاً، و صدّقه عليه أقطاب بيعة السقيفة: عمر، و سالم، و أبو عُبيدة، و معاذ. و لكن أيّ حديث هذا و هو مخالف للقرآن و الاصول الإسلاميّة الثابتة؟! و مخالف أيضاً للأحاديث القطعيّة و الأدلّة العقليّة و النقليّة؟! و أيّ حديث هذا الذي لم يسمعه أهل البيت، و المهاجرون و الأنصار إلّا أفراداً قلائل منهم؟! الله وحده أعلم!
لقد تحدّثنا سابقاً عن سقم هذا المنطق القائل بتعذّر الجمع بين النبوّة و الخلافة، و بعده عن العقل في هذه الدورة من المعارف و العلوم، فيُرجع إليه للاطّلاع على أساس هذا الموضوع و أصله.٢
أ لم يكن أبو بكر نفسه فارس الحلبة في وضع هذا الحديث: نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِياءِ لَا نُوَرِّثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ؟٣
هذا الحديث يعارض منطوق عموم آية الإرث في القرآن الكريم، و لم يسمعه أحد المسلمين من النبيّ لا في مكّة و لا في المدينة، و لا في سفر و لا في حضر، و لا في الغزوات و لا في أيّام السلم، و لا و لا و لا ... فكيف يظهر أعرابي بغتةً بعد وفاة النبيّ فيصير هو و أبو بكر شاهِدَي صِدْقٍ، و يسلبا فاطمة الزهراء سلام الله عليها حقّها عناداً و استكباراً و توحّشاً؟! أ لم
يكن هذا الأمر قد جرى بإشراف مباشر من لدن أبي بكر و عمر؟!
صلاح الدين الأيّوبيّ يقتل الشيعة في حلب
قتل صلاح الدين الأيّوبيّ الشيعة في حَلَب
و سجن العلويّين في مصر
و فصل الرجال عن النساء قطعاً لنسل الشيعة
و هو أوّل من اتّخذ يوم عاشورا عيداً في مصر
كان قتل الشيعة و نهبهم و أسرهم من جهة، و وضع الأحاديث ضدّهم و خلع امرائهم و قضاتهم و حكّامهم و مفتيهم من جهة اخرى، منذ غصب الخلافة حتى اليوم اموراً مألوفةً و شائعة في العالم.
و يعود هذا إلى استقلالهم الفكريّ و منهاجهم الأصيل. و كلّ شخصٍ كان يتقلّد الأمر و يقبض على السلطة يمارس ضروب الضغط و التنكيل ضدّهم خوفاً من نهضتهم ضدّ الظلم و الجور، و خشيةً من تأسيسهم حكومة مستقلّة. و أفضل دليل نذكره كنموذج على ذلك هو أنّ صلاح الدين الأيّوبيّ عند ما استولى على الحكم عزل الخليفة الفاطميّ العاضد، و أطاح بالحكومة الفاطميّة التي امتدّت في مصر و أفريقية مائتين و اثنتين و سبعين سنة.
قال آية الله المحقّق الخبير السيّد محسن الأمين العامليّ رحمه الله: فولّي العاضدُ صلاح الدين الوزارة، و لقّبه بالملك الناصر. و يقول أبو الفداء في تاريخه: إنّه تاب عن شرب الخمر، و ضعف أمر العاضد، و عزل صلاح الدين قضاة المصريّين، و كانوا شيعة إسماعيليّة، و رتّب قضاة شافعيّة. و في سنة ٥٦۷ قطع خطبة العاضد و خطب للعبّاسيّين. و كان العاضد مريضاً، فتُوفّي و لم يعلم بقطع خطبته.
و استولى على قصر الخلافة و جميع ما فيه، و كان يخرج عن
الإحصاء. و كانت مدّة ملكهم ٢۷٢ سنة. و حبس صلاح الدين العلويّين، و منع الرجال من النساء حتى لا يتناسلوا. و هو أوّل من جعل يوم عاشوراء عيداً بمصر.۱
قال آية الله الشيخ محمّد حسين المظفّر في هذا المجال: كان التشيّع مخيّماً على القاهرة، و ضارباً أطنابه في القرى و البلدان، إلى أن قوي صلاح الدين يوسف الأيّوبيّ، و بلغ من الشأن أن استوزره العاضد لدين الله الفاطميّ. فكان جزاؤه منه حينما عرف من نفسه القوّة و الغلبة أن حَجَرَ على العاضد و منعه من الخروج و استلب جميع ما لديه من الصفايا و الأموال حتى لم يبق عنده إلّا فرس واحد. و بعد ذلك استلبه منه.
ثمّ شرع في قلب الدولة و الدعوة للمستنصر بأمر الله العبّاسيّ ببغداد، فساعده الطالع على ما أراد. فدعا للعبّاسيّ، و الفاطميّ مسجّى على فراش المرض. فلم يعلم بالحال حتى جاءه الموت.٢
و لمّا تمهّدت للأيّوبيّ قواعد الدولة أوقع بالامراء و الجند، و أنشأ بمدينة مصر مدرسة لفقهاء الشافعيّة، و اخرى للمالكيّة. و صرف قضاة الشيعة كلّهم. و فوّض القضاء لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارتيّ الشافعيّ، فلم يستنب عنه في إقليم مصر إلّا من كان شافعيّ المذهب.٣ فتظاهر الناس من ذلك اليوم بما كان عليه هوى الملك.
و كيف لا يختفي مذهب أهل البيت و الأيّوبيّ يستقدم العلماء الذين على رأيه، و يبني المدارس و يخصّص لها الرواتب، و يحمل الناس على عقيدة الأشعريّ. و مَن خالف ضُربت عُنقه. و ساعد على ذلك أنّ السلطان نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي تعصّب فنشر مذهب أبي حنيفة في بلاد الشام. فما زال من ذلك الوقت تنتشر مذاهبهم و تقوى، و تزداد فقهاؤهم، و تكثر بمصر و الشام. و جروا على ذلك في جميع البلاد التي لهم عليها سلطان، و عُودِيَ مَن تمذهب بغيرها، و انكر عليه.
و لم يُولَّ قاضٍ و لا قُبلت شهادة أحد. و لا قُدِّم للخطابة و الإمامة و التدريس إنسانٌ ما لم يكن مقلّداً لأحد المذاهب الأربعة.
و أفتى فقهاؤهم في طول مدّة الأيّوبيّين و بعدهم بوجوب اتّباع هذه المذاهب و تحريم ما عداها.۱
و ما قنع الأيّوبيّ بما ارتكبه من الفاطميّين و مذهب أهل البيت حتى ناصب العداء للبيت الطاهر نفسه. فقابل الشيعة و الفاطميّين بالعكس ممّا كانوا يعملونه يوم عاشوراء.
قال المقريزيّ في ج ٢، ص ٣۸٥: كان الفاطميّيون يتّخذون يوم عاشوراء يوم حزن تتعطّل فيه الأسواق و يعمل فيه السماط العظيم المسمّى سماط الحزن و كان يصل إلى الناس منه شيء كثير.
فلمّا زالت الدولة اتّخذ الملوك من بني أيّوب يوم عاشوراء يوم سرور يوسّعون فيه على عيالهم، و يتبسّطون في المطاعم، و يصنعون الحلاوات، و يتّخذون الأواني الجديدة، و يدخلون الحمّام جرياً على عادة أهل الشام التي سنّها لهم الحجّاج أيّام عبد الملك بن مروان ليرغموا بذلك آناف شيعة
علي بن أبي طالب، الذين يتّخذون يوم عاشوراء يوم عزاء و حزن على الحسين بن عليّ، لأنّه قُتل فيه. و قد أدركنا بقايا ممّا عمله بنو أيّوب من اتّخاذ يوم عاشوراء يوم سرور و تبسّط.
لا أدري إذا كان الأيّوبيّون أعداء بني فاطمة فهل ساغ لهم أن يعادوا الرسول و أهل بيته؟ و لما ذا صنعوا يوم مقتل الحسين عيداً، و قد بكاه الرسول و حزن عليه قبل ذلك اليوم بعشرات السنين و الحسين في الأحياء؟ و إن الأغرب أن يُطرى الأيّوبيّ و يكال له المدح جزافاً و هو صاحب يوم عاشوراء! فـ: إنَّا لِلَّهِ وَ إنَّآ إلَيْهِ رَاجِعُونَ!۱
...۱
سبب كتمان النصوص الماثورة في أهل البيت عليهم السلام
تحدّث آية الله المتضلّع الخبير و العالم الواعي البصير في عصرنا المرحوم السيّد عبد الحسين شرف الدين العامليّ عن سرّ كتمان فضائل أهل البيت، و الأحاديث المدسوسة الموضوعة، و الظلامة التي عانوا منها بسردٍ رائع و تفصيلٍ مُطَعَّمٍ بالدليل. و لمّا كان حديثه غنيّاً بالموضوعات الواعية الواقعيّة، فمن الخليق بنا أن نورده هنا. قال السيّد المذكور في جواب الشيخ سليم البشريّ المصريّ زعيم السنّة في العالم و العميد العلميّ للأزهر حين سأله عن سبب خلوّ صحاح السنّة و مسانيدهم من تلك النصوص الجليّة:
أمّا عدم إخراج تلك النصوص فإنّما هو لشنشنة نعرفها لكلّ من أضمر لآل محمّد حسيكةً، و أبطن لهم الغلّ من حزب الفراعنة في الصدر الأوّل، و عَبَدة اولي السلطة و التغلّب الذين بذلوا في إخفاء فضل أهل البيت و إطفاء نورهم كلّ حول و كلّ طول، و كلّ ما لديهم من قوّة و جبروت، و حملوا الناس كافّة على مصادرة مناقبهم و خصائصهم بكلّ ترغيب و ترهيب، و أجلبوا على ذلك تارة بدراهمهم و دنانيرهم، و اخرى بوظائفهم و مناصبهم، و مرّة بسياطهم و سيوفهم، يُدنونَ من كذّب بها، و يُقصون مَن صدّق بها، أو ينفونه أو يقتلونه، و أنت تعلم أنّ نصوص الإمامة و عهود الخلافة لمّا يخشى الظالمون منها أن تدمّر عروشهم و تنقض أساس ملكهم، فسلامتها منهم و من أوليائهم المتزلّفين إليهم، و وصولها إلينا بالأسانيد المتعدّدة، و الطرق المختلفة، آية من آيات الصدق، و معجزة من معجزات الحقّ، إذ كان المستبدّون بحقّ أهل البيت و المستأثرون بمراتبهم التي رتّبهم الله فيها، يسومون من يتّهمونه بحبّهم سوء العذاب، يحلقون لحيته، و يطوفون به في الأسواق، ثمّ يُرَذِّلونه و يُسقطونه و يحرمونه من كلّ حقّ، حتى ييأس من عدل الولاة،۱ و يقنط من معاشرة الرعيّة، فإذا ذكر عليّاً ذاكرٌ بخير برئت منه الذمّة و حلّت بساحته النقمة، فتُستصفى أمواله، و تضرب عنقه، و كم استلّوا ألسنةً نطقت بفضله، و سملوا أعيناً رمقته باحترام، و قطعوا أيدياً أشارت إليه بمنقبة، و نشروا أرجلًا سعت نحوه بعاطفة، و كم حرقوا على أوليائه بيوتهم، و اجتثّوا نخيلهم، ثمّ صلبوهم على جذوعها، أو
شرّدوهم عن عقر ديارهم. فكانوا طرائق قدداً.
و كان في حَمَلة الحديث و حفظة الآثار، قوم يعبدون أولئك الملوك الجبابرة و ولاتهم من دون الله عزّ و جلّ، و يتزلّفون إليهم بكلّ ما لديهم من تصحيف، و تحريف، و تصحيح، و تضعيف، كالذين نراهم في زماننا هذا من شيوخ التزلّف و علماء الوظائف و قضاة السوء، يتسابقون إلى مرضاة الحكّام بتأييد سياستهم عادلة كانت أو جائرة، و تصحيح أحكامهم، صحيحة كانت أو فاسدة، فلا يسألهم الحاكم فتوى تؤيّد حكمه، أو تقمع خصمه إلّا بادروا إليها على ما تقتضيه رغبته، و تستوجبه سياسته، و إن خالفوا نصوص الكتاب و السنّة، و خرقوا إجماع الامّة، حرصاً على منصب يخافون العزل عنه، أو يطمعون في الوصول إليه، و شتّان بين هؤلاء و أولئك، فإنّه لا قيمة لهؤلاء عند حكوماتهم، أمّا أولئك فقد كانت حاجة الملوك إليهم عظيمة، إذ كانوا يحاربون الله و رسوله بهم، و لذا كانوا عند الملوك و الولاة اولي منزلة سامية، و شفاعة مقبولة فكانت لهم بسبب ذلك صولة و دولة و كانوا يتعصّبون على الأحاديث الصحيحة إذا تضمّنت فضيلة لعليّ أو لغيره من أهل بيت النبوّة، فيردّونها بكلّ شدّة، و يسقطونها بكلّ عنف، و ينسبون رواتها إلى الرفض - و الرفض أخبث شيء عندهم - هذه سيرتهم في السنن الواردة في عليّ، و لا سيّما إذا تشبّث الشيعة بها، و كان لأولئك المتزلّفين من يرفع ذكرهم من الخاصّة في كلّ قطر، و لهم من يروّج رأيهم من طلبة العلم الدنيويّين، و من المرائين بالزهد و العبادة و من الزعماء و شيوخ العشائر، فإذا سمع هؤلاء ما يقولون في ردّ تلك الأحاديث الصحيحة اتّخذوا قولهم حجّة، و روّجوه عند العامّة و الهمج، و أشاعوه و أذاعوه في كلّ مصر، و جعلوه أصلًا من الاصول المتّبعة في كلّ عصر. و هناك قوم آخرون من حَمَلَة الحديث في تلك الأيّام، اضطرّهم الخوف إلى ترك التحديث
بالمأثور من فضل عليّ و أهل البيت و كان هؤلاء المساكين إذا سئلوا عمّا يقوله اولئك المتزلّفون في ردّ السنن الصحيحة المشتملة على فضل عليّ و أهل البيت يخافون - من مبادهة العامّة بغير ما عندهم - أن تقع فتنة عمياء بكماء صمّاء فكانوا يضطرّون في الجواب إلى اللواذ بالمعاريض من القول، خوفاً من تألّب اولئك المتزلّفين، و مروّجيهم من الخاصّة، و تألّب مَن ينعق معهم مِن العامّة و رعاع الناس.
و كان الملوك و الولاة أمروا الناس بلعن أمير المؤمنين، و ضيّقوا عليهم في ذلك، و حملوهم بالنقود و بالجنود، و بالوعيد و الوعود، على تنقيصه و ذمّه و صوّروه للناشئة في كتاتيبها بصورة تشمئزّ منها النفوس و حدّثوها عنه بما تستكّ منها المسامع و جعلوا لعنه على منابر المسلمين من سنن العيدين و الجمعة، فلولا أنّ نور الله لا يُطفأ و فضل أوليائه لا يخفى، ما وصلت إلينا السنن من طريق الفريقين صحيحة صريحة بخلافته و لا تواترت النصوص بفضله!
وَ إنِّي وَ اللهِ لأعْجَبُ مِنَ الفَضْلِ البَاهِرِ الذي اخْتَصَّ بِهِ عَبْدَهُ وَ أخَا رَسُولِهِ عَلِيّ بْنَ أبي طَالِبٍ، كَيْفَ خَرَقَ نُورُهُ الحُجُبَ مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ المُتَرَاكِمَةِ وَ الأمْوَاجِ المُتَلَاطِمَةِ، فَأشْرَقَ على العَالَمِ كَالشَّمْسِ في رَائِعَةِ النَّهَارِ.۱
الموالاة و البراءة أصلان ثابتان من اصول الشيعة
أجل، يستبين ممّا ذكرناه منهج الشيعة و منهاجهم و سنّتهم في جميع مراحل الاعتقاد و الفكر و العمل في مقابل غيرهم من جميع المذاهب الأربعة و الظاهريّة و الخوارج و سواهم. و قد جعل الشيعة أساس عملهم
دعامة الحقّ، و استهدوا بالكتاب و السنّة فرأوا أنّ موالاة أولياء الله و البراءة من أعدائهم جزءاً لا يتجزّأ من اصولهم و عقائدهم، و عرفوا التشيّع على أنّه التعبّد بولاية الأئمّة الاثني عشر في كافّة الامور و في مراحل الأخذ و البطش و الفكر و الفعل في الحياة و الممات، بَيدَ أنّ العامّة بجميع أقسامهم و أصنافهم يرون أنّ كلام الخلفاء حجّة في مقابل الكتاب و السنّة، و جعلوه من شئونهم العمليّة اليوميّة، و قدّموا الاعتباريّات على الحقائق.
إن الأشاعرة أغلظ من المعتزلة في الفكر و العقيدة و العمل، و المعتزلة قريبون من الشيعة في عقائد كثيرة، إلّا أنّهم لا يبرأون من الشيخين، بل يرونهما، و عثمان، و أمير المؤمنين عليه السلام خلفاء حقيقيّين. و يذهب المعتزلة إلى أنّ معاوية رجل خبيث فاسد على عكس الأشاعرة الذين كانوا يقدّسونه، و جميع بني اميّة و بني مروان. و المعتزلة ملمّون بالحكمة و المطالب العقليّة و البرهان، في حين أنّ الأشاعرة لم يقطعوا شوطاً على هذا الطريق مبدئيّاً، و هم خصوم العقل و العقليّات.
يتحدّث ابن أبي الحديد المعتزليّ في شرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام: يَهْلَكُ في رَجُلَانِ: مُحِبٌّ مُفْرِطٌ، وَ بَاهِتٌ مُفْتَرٍ، فيقول:
و لهذا كان أصحابنا أصحاب النجاة و الخلاص و الفوز في هذه المسألة، لأنّهم سلكوا طريقة مقتصدة: قالوا إن عليّاً أفضل الخلق في الآخرة، و أعلاهم منزلةً في الجنّة، و أفضل الخلق في الدنيا، و أكثرهم خصائص و مزايا و مناقب. و كلّ من عاداه أو حاربه أو بغضه فإنّه عدوّ الله سبحانه، و خالد في النار مع الكفّار و المنافقين، إلّا أن يكون ممّن قد ثبت توبته، و مات على توليته و حبّه.
فأمّا الأفاضل من المهاجرين و الأنصار الذين ولوا الإمامة قبله، فلو أنّه أنكر إمامتهم، و غضب عليهم و سخط فعلهم، فضلًا أن يشهر عليهم
السيف، أو يدعو إلى نفسه لقلنا: إنّهم من الهالكين، كما لو غضب عليهم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، لأنّه قد ثبت أنّ رسول الله قال له:
حَرْبُكَ حَرْبِي، وَ سِلْمُكَ سِلْمِي، وَ أنَّهُ قَالَ: اللهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ. وَ قَالَ لَهُ: لَا يُحِبُّكَ إلَّا مُؤْمِنٌ، وَ لَا يُبْغِضُكَ إلَّا مُنَافِقٌ!
و لكنّا رأيناه رضي إمامتهم و بايعهم، و صلّى خلفهم، و أنكحهم، و أكل من فيئهم، فلم يكن لنا أن نتعدّى فعله، و لا نتجاوز ما اشتهر عنه.
أ لا ترى أنّه لمّا برئ من معاوية برئنا منه، و لمّا لعنه لعنّاه، و لمّا حكم بضلال أهل الشام، و مَن كان فيهم مِن بقايا الصحابة كعمرو بن العاص، و عبد الله ابنه و غيرهما حكمنا أيضاً بضلالهم؟!
و الحاصل أنّا لم نجعل بينه و بين رسول الله صلّى الله عليه و آله إلّا رتبة النبوّة، و أعطيناه كلّ ما عدا ذلك - أي: ما عدا النبوّة - من الفضل المشترك بينه و بينه. و لم نطعن في أكابر الصحابة الذين لم يصحّ عندنا أنّه طعن فيهم، و عاملناهم بما عاملهم هو عليه السلام به.
ثلّة من الصحابة القائلين بتفضيل عليّ عليه السلام
فصل: فيما قيل في التفضيل بين الصحابة
و القول بالتفضيل - أي: تفضيل عليّ على جميع الصحابة - قول قديم قال به كثير من أصحاب رسول الله و التابعين. فمن الصحابة عمّار، و المقداد، و أبو ذرّ، و سلمان، و جابر بن عبد الله، و أبي بن كعب، و حُذَيفة، و بريدة، و أبو أيّوب، و سهل بن حنيف، و عثمان بن حنيف، و أبو الهيثم ابن التَّيِّهان، و خزيمة بن ثابت، و أبو الطفيل عامر بن وائلة، و العبّاس بن عبد المطّلب، و بنوه، و بنو هاشم كافّة، و بنو عبد المطّلب كافّة.
و كان الزبير من القائلين به في بدء الأمر، ثمّ رجع.
مناظرة في تفضيل عليّ عليه السلام
و كان قوم من بني اميّة يقولون بذلك، منهم خالد بن سعيد بن
العاص، و منهم عمر بن عبد العزيز. و نذكر هنا الخبر المرويّ المشهور عن عمر، و هو من رواية ابن الكلبيّ. قال: بينا عمر بن عبد العزيز جالساً في مجلسه إذ دخل حاجبه و معه امرأة أدماء (سمراء) طويلة حسنة الجسم و القامة، و رجلان متعلّقان بها، و معهم كتاب من ميمون بن مهران إلى عمر، فدفعوا إليه الكتاب، ففضّه، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز من ميمون بن مهران، سَلَامٌ عَلَيْكَ وَ رَحْمَةُ اللهِ وَ بَرَكَاتُهُ؛ أمَّا بَعْد، فإنّه ورد علينا أمر ضاقت به الصدور، و عجزت عنه الأوساع، و هربنا بأنفسنا عنه، و وكلناه إلى عالمه، لقول الله عزّ و جلّ:
وَ لَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَ إلى اولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ.۱
و هذه المرأة و الرجلان، أحدهما زوجها، و الآخر أبوها. و إن أباها يا أمير المؤمنين زعم أنّ زوجها حلف بطلاقها إن لم يكن علي بن أبي طالب عليه السلام خَيْرُ هَذِهِ الامَّةِ وَ أوْلَاهَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
و أنّه يزعم أنّ ابنته قد طُلّقت منه، و لا يجوز له في دينه أن يتّخذ صهراً، و هو يعلم أنّه حرام عليه كامّه. و أنّ الزوج يقول له: كذبتَ! و أثمتَ! لقد بَرَّ قسمي، و صدقت مقالتي، و أنّها امرأتي على رغم أنفك، و غيظ قلبك. فاجتمعوا إلى يختصمون في ذلك، فسألتُ الرجل عن يمينه، فقال: نعم، قد كان ذلك! و قد حلفتُ بطلاقها إن لم يكن عَلِيّ خَيْرُ هَذِهِ الامَّةِ وَ أوْلَاهَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، عَرَفَهُ مَن عرفه، و أنكره من أنكره، فليغضب من غضب، و ليرضى من رضي. و تسامع الناس بذلك،
فاجتمعوا له، و كانت الألسنة مجتمعة و القلوب شتّى.
و قد علمتَ يا أمير المؤمنين اختلاف الناس في أهوائهم، و تسرّعهم إلى ما فيه الفتنة. فأحجمنا عن الحكم لتحكم بِمَا أرَاكَ اللهُ. و إنّهما تعلّقا بها، و أقسم أبوها ألّا يدعها معه، و أقسم زوجها ألّا يفارقها و لو ضُرِبَت عنقه إلّا أن يحكم عليه بذلك حاكم لا يستطيع مخالفته و الامتناع منه، فرفعناهم إليك يا أمير المؤمنين، أحْسَنَ اللهُ تَوْفِيقَكَ وَ أرْشَدَكَ!
فجمع عمر بن عبد العزيز بني هاشم و بني اميّة و أفخاذ قريش، ثمّ قال لأبي المرأة: ما تقول أيّها الشيخ؟! قال: يا أمير المؤمنين، هذا الرجل زوّجته ابنتي، و جهّزتها إليه بأحسن ما يجهّز به مثلها، حتى إذا أمّلتُ خَيْرَهُ، و رجوتُ صلاحه، حَلَفَ بطلاقها كاذباً، ثمّ أراد الإقامة معها! فقال له عمر: يا شيخ! لعلّه لم يطلّق امرأته! فكيف حلف؟!
قال الشيخ: سبحان الله! الذي حلف عليه لأبينُ حِنثاً و أوضح كذباً من أن يختلج في صدري منه شكّ، مع سنّي و علمي، لأنّه زعم أنَّ عَلِيّاً خَيْرُ هَذِهِ الامَّةِ وَ إلَّا امْرَأتُهُ طَالِقٌ ثَلَاثاً. فقال للزوج: ما تقول؟ أ هكذا حلفت؟ قال: نعم، فقيل إنّه لمّا قال، كاد المجلس يرتجّ بأهله، و بنو اميّة ينظرون إليه شزراً، إلّا أنّهم لم ينطقوا بشيء، كلّ ينظر إلى وجه عمر.
فأكبَّ عمر مليّاً ينكت الأرض بيده و القوم صامتون ينظرون ما يقوله، ثمَّ رفع رأسه و قال:
إذَا وَلِيَ الحُكُومَةَ بَيْنَ قَوْمٍ | *** | أصَابَ الحَقَّ وَ التَمسَ السَّدَادَا |
وَ مَا خَيْرُ الإمَامِ۱ إذَا تَعَدَّي | *** | خِلَافَ الحَقِّ وَ اجْتَنَبَ الرَّشَادَا |
ثمّ قال للقوم: ما تقولون في يمين هذا الرجل؟ فسكتوا. فقال:
سبحان الله! قولوا. فقال رجلٌ من بني اميّة: هذا حكم في فرج، و لسنا نجترئ على القول فيه، و أنت عالم بالقول، مؤتمن لهم و عليهم، قل ما عندك، فإنّ القول ما لم يكن بحقّ باطلًا و يبطل حقّاً جائز عَلَيّ في مجلسي.
قال: لا أقول شيئاً؛ فالتفت إلى رجلٍ من بني هاشمٍ من ولد عقيل بن أبي طالب.
فقال له: ما تقول فيما حلف به هذا الرجل يا عقيليّ؟ فأغتنمها، فقال يا أمير المؤمنين! إن جعلتَ قولي حكماً، أو حُكمي جائزاً قلتُ، و إن لم يكن ذلك فالسكوت أوسع لي، و أبقي للمودّة. قال: قل و قولُك حُكم، و حكمكُ ماضٍ.
فلمّا سمع ذلك بنو اميّة قالوا: ما أنصفتنا يا أمير المؤمنين إذ جعلت الحكم إلى غيرنا، و نحن من لحمتك و أولي رحمك! فقال عمر: اسكتوا أ عَجَزاً و لؤماً! عرضت ذلك عليكم آنفاً فما انتدبتم له. قالوا: لأنّك لم تعطنا ما أعطيتَ العقيليّ، و لا حكّمتنا كما حكّمته. فقال عمر: إن كان أصاب و أخطأتم، و حزم و عجزتم، و أبصر و عميتم فما ذنب عمر، لا أبا لكم! أ تدرون ما مثلكم؟ قالوا: لا ندري، قال لكنّ العقيليّ يدري، ثمّ قال: ما تقول يا رجل؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، كما قال الأوّل:
دُعِيتُم إلى أمْرٍ فَلَمَّا عَجَزْتُمُ | *** | تَنَاوَلَهُ مَنْ لَا يُدَاخِلُهُ عَجْزُ |
فَلَمَّا رَأيْتُمْ ذَاكَ أبْدَتْ نُفُوسُكُمْ | *** | نَدَاماً وَ هَلْ يُغْنِي مِنَ الحَذَرِ الحَرْزُ |
قال عمر: أحسنتَ و أصبتَ! فقل ما سألتك عنه! قال: إن الزوج برّ قسمه، و لم تطلّق امرأته! قال عمر: كيف عرفتَ هذا؟
قال العقيليّ: نشدتك الله يا أمير المؤمنين! إن رسول الله صلّى الله
عليه [و آله] و سلّم قال لفاطمة و هو عائد لها: يا بُنيّة! ما عليك؟! قالت: الوعك يا أبتاه. و كان عليّ غائباً في بعض حوائج النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم. فقال لها: أ تشتهين شيئاً؟! قالت: أشتهي عنباً، و أنا أعلم أنّه عزيز، و ليس الوقت وقت عنبٍ.
قال النبيّ صلّى الله عليه [و آله]: إن الله قادر على أن يجيئنا به. ثمّ قال: اللهُمَّ ائتِنَا بِهِ مَعَ أفْضَلَ امَّتِي عِنْدَكَ مَنْزِلَةً. فطرق عليّ الباب، و معه مكتل قد ألقى عليه طرف ردائه.
فقال النبيّ: ما هذا يا عليّ؟! قال: عنب التمسته لفاطمة! فقال النبيّ: اللهُ أكْبَرُ، اللهُ أكْبَرُ، اللهُمَّ كَمَا سَرَرْتَنِي بِأنْ خَصَصْتَ عَلِيّاً بِدَعْوَتِي فَاجْعَلْ فِيهِ شِفَاءَ بُنَيَّتِي! ثمّ قال: كُلي على اسم الله! و ما خرج النبيّ حتى برأت.
فقال عمر: صدقتَ و بررتَ! أشهد لقد سمعته و وعيته. يا رجل خذ بِيَدِ امرأتك، فإن عرض لك أبوها، فاهشم أنفه. ثمّ قال: يا بني عبد مناف! و الله ما نجهل ما يعلم غيرنا، و لا بنا عميً في ديننا، و لكنّا كما قال الاوَل:
تَصَيَّدَتِ الدُّنْيَا رِجَالًا بِفَخِّهَا | *** | فَلَمْ يُدْرِكُوا خَيْراً بَلِ اسْتَقْبَحُوا الشَّرَّا |
وَ أعْمَاهُمُ حُبُّ الغِنَى وَ أصَمَّهُمْ | *** | فَلَمْ يُدْرِكُوا إلَّا الخَسَارَةَ وَ الوِزْرَا |
و كأنّما ألقم بني اميّة حجراً، و مضى الرجل بامرأته.
و كتب عمر بن عبد العزيز إلى ميمون بن مَهران:
عَلَيْكَ سَلَامٌ، فإنّي أحْمَدُ إلَيْكَ اللهَ الذي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. أمّا بعد؛ فإنّي قد فهمتُ كتابك، و ورد الرجلان و المرأة، و قد صَدَق الله يمين الزوج، و أبرّ قسمه، و أثبته على نكاحه، فاستيقِن ذلك، و اعمل عليه، و السلام
عليك و رحمة الله و بركاته.
فأمّا من قال بتفضيله على الناس كافّة من التابعين فخلق كثير كاوَيس القرنيّ، و زيد بن صُوحان، و صعصعة أخيه، و جندب الخير،۱ و عُبيدة السلمانيّ، و غيرهم ممّن لا يُحصى كثرةً، و لم تكن لفظة الشيعة تُعرف في ذلك العصر إلّا لمن قال بتفضيله. و لم تكن مقالة الإماميّة و مَن نحا نحوها من الطاعنين في إمامة السلف مشهورة حينئذٍ على هذا النحو من الاشتهار، فكان القائلون بالتفضيل هم المسمّون الشيعة. و جميع ما ورد من الآثار و الأخبار في فضل الشيعة، و أنّهم موعودون بالجنّة، فهؤلاءهم المعنيّون به دون غيرهم، و لذلك قال أصحابنا المعتزلة في كتبهم و تصانيفهم: نحن الشيعة حقّاً. فهذا القول هو أقرب إلى السلامة و أشبه بالحقّ من القولين المقتسمين طرفي الإفراط و التفريط إن شاء الله.٢
و قال العالم البصير و المحقّق الخبير المعاصر الشيخ محمّد جواد مغنيّة بعد أن ذكر الكلام المتقدّم عن «شرح نهج البلاغة» مفصّلًا: و كان من نتيجة هذه الحادثة و غيرها أن دسّ الأمويّون السمّ لعمر بن عبد العزيز، كما فعلوا من قبل بمعاوية الثاني، لأنّهم لا يطيقون أن يكون بينهم من يناصر الحقّ و أهله. لقد تعجّلوا عليه خشية أن يعرف الناس من فضل عليّ ما يعرف الأمويّون، فيتفرّقوا عنهم إلى أولاد أمير المؤمنين عليه السلام. كما قال عبد العزيز الأمويّ الذي كان يتلعثم عند ذكر سيّد الكونين، و هو الخطيب البليغ. خاف الأمويّون من الحقّ، لأنّه يسلّبهم الملك و السلطان، و هابوا العدل، لأنّه يقضي عليهم بالموت، لذا حاولوا إخفاء الحقّ قبل أن يقضي عليهم، و لكن مهما حاول المشعوذون و المنحرفون إخفاءه فلا بدّ أن يظهر و ينتصر، و يكشف أمر المبطلين.
توضيح حول عمر بن عبد العزيز
و قال قائل: إن عمر بن عبد العزيز رجل عادي، و إنّما عظم أمره لأنّه أعور بين عميان كما قال المنصور، قام عمر بعد قوم بدّلوا شريعة الدين و سنن النبيّ، و كان الناس قبله من الظلم و الجور و التهاون بالإسلام ما لم يسبق بمثيل، أو يجرِ بحُسبان، و حسبك من ذلك أنّهم كانوا يعلنون سبّ عليّ على المنابر، فلمّا نهى عنه عمر عدّ محسناً، بل جُعل في عداد الأئمّة الراشدين، و يشهد لذلك قولُ كثير.
وَ لَيْتَ وَ لَمْ تَشْتِمْ عَلِيّاً وَ لَمْ تُخِفْ | *** | بَرِيّاً وَ لَمْ تُتْبِعْ مَقَالَةَ مُجْرِمِ |
و بكلمة: إن عمر استمدّ حسناته من سيّئات غيره.
و الجواب: إن هذا القائل أراد أن يحطّ من مكانة عمر فدلّ كلامه على عكس ما أراد، لقد عرفنا و عرف التأريخ كثيرين نشئوا في بيت صلاحٍ و تُقى و أفنوا حياتهم في دراسة علوم الإسلام و القرآن، و مع ذلك رأيناهم ينحرفون عن طريق الدين، و لا يصمدون أمام المغريات الشيطانيّة
و الشهوات الدنيويّة، أمّا عمر فقد تمرّد على بيئته و قومه، و تعالت نفسه عن عاداتهم و تقاليدهم و لم تغترّ بشهوة الحكم و فتنة السلطان، و هنا مكان عظمته و سرّ عبقريّته، نقم عمر على آبائه و أجداده، و شهد عليهم بالفعل قبل القول بأنّهم ضالّون مضلّون، و لم يكترث بما تجرّه هذه الشهادة عليه من المتاعب و المصاعب.
لذلك نحن نُكبره و نعظّم فيه يقظة الضمير. و قوّة الإيمان و الجهاد في سبيل الحقّ، و التمرّد على الباطل، باطل أهله و بيته. و السلام على روحه الطيّب، و بدنه الطاهر، لقد كانت سيرة ابن عبد العزيز انقلاباً في السياسة الأمويّة، و إصلاحاً جذريّاً لما أفسد الأمويّون، و هذه فضيلة لا يُدانيها شيء، و مكرمة لا يعادلها إلّا الجهاد بين يديّ الرسول الكريم.
الثقافة الشيعيّة أساس الثقافات
و تحدّث مغنيّة أيضاً تحت عنوان «أدب الشيعة في الشعر و خدمته للأدب العربيّ» عن الأحاسيس و العواطف و تصاعد الغضب و المحن التي حلّت بالشيعة و قد جسّدها شعراؤهم في قالب النثر و النظم أمثال: دعبل، و ابن الروميّ، و أبي فراس الحمدانيّ. و قد أضفوا على العربيّة و أدبها حُلّةً جميلة و خلعةً رائعةً حقّاً، و واصل كلامه، إلى أن قال:
و نختم هذا الفصل بكلمتين: احداهما لمحمّد سيّد كيلاني قالها في كتابه «أثر التشيّع في الأدب العربيّ» ص ٢٢، طبعة القاهرة، لجنة النشر للجامعيّين:
جاء الأدب الشيعيّ صورة صادقة لما وقع على العلويّين من اضطهاد. فقد قُتل عليّ و أصبح آله يُستذلّون، و يضامون، و يُقصون و يمتهنون، و يُحرَمون و يُقتلون، و يخافون و لا يأمنون على دمائهم و دماء أوليائهم، فقُتل أنصار عليّ في كلّ قطر و كلّ مصر و عُذّبوا تعذيباً مرّاً، قطعت منهم الأيدي و الأرجل.
و من ذكر عليّاً سُجن أو نُهب ماله أو هُدمت داره، و كان البلاء يشتدّ على العلويّين يوماً بعد يوم. فمن دفن الناس أحياء إلى الصلب إلى الحرق إلى الحبس و منع الهواء و الأكل و الماء عن المحبوس، حتى يقضي نحبه جوعاً و عطشاً. و كانوا يصلّبونهم و يتركونهم حتى تنبعث منهم الروائح الكريهة، ثمّ يحرّقونهم و يذرّونهم في الهواء و حرّموا على الناس أن يسمّوا أبناءهم عليّاً أو حسناً أو حسيناً.
و كان العبّاسيّون أشدّ كرهاً للعلويّين من الأمويّين و أعظم بغضاً، فأمعنوا فيهم قتلًا و حرقاً، و اضطهاداً و تعذيباً، فأمر المنصور، فحُمل إليه من المدينة كلّ من كان فيها من العلويّين مقيّدين بالسلاسل و الأغلال، و لمّا و صلوا إليه حبسهم في سجن مظلم لا يُعرف فيه ليل من نهار، و كان إذا مات أحدهم ترك معهم، و أخيراً أمر بهدم السجن عليهم، و في ذلك يقول أحد شعراء الشيعة:
و اللهِ مَا فَعَلَتْ امَيَّةُ فِيهِمُ | *** | مِعْشَارَ مَا فَعَلَتْ بَنُو العَبَّاسِ |
و قال أبو فراس:
مَا نَالَ مِنْهُمْ بَنُو حَرْبٍ وَ إن عَظُمَتْ | *** | تِلْكَ الجَرَائِمُ إلَّا دُونَ نَيْلِكُمُ |
و قال الشريف الرضيّ:
ألَا لَيْسَ فِعْلُ الأوَّلِينَ وَ إن عَلَا | *** | على قُبْحِ فِعْلِ الآخِرِينَ بِزَائِدِ |
و قد بالغ الرشيد في التنكيل بالعلويّين، و لم يخفّ الضغط عليهم إلّا حين ضعفت الخلافة العبّاسيّة، و أصبح السلطان الفعليّ في الممالك الإسلاميّة للترك و الديلم و بني حمدان. كلّ هذه النكبات قد أثّرت تأثيراً كبيراً في الأدب الشيعيّ نثره و شعره.
و الثانية لعبد الحسيب طه حميدة قالها في كتاب «أدب الشيعة»
ص ٣٢۸، طبعة ۱٩٥٦ م: في الحقّ أنّ حركة التشيّع أغنت الأدب العربيّ إلى حدّ كبير، و ساهم ادباؤه في بناء النهضة الأدبيّة مساهمةً مشكورةً بما انتحوا من أدب و أثاروا من خصومة.
و قد رأينا كيف كان الأدب الشيعيّ جزل اللفظ، محكم النسج، رصين العبارة، صادق الأداء ... صورة ناطقة لنفسيّات قومه و عواطفهم و سجلًّا خالداً لحياتهم و عقائدهم، و تصويراً رائعاً لما أصابهم من محن و حلّ بساحتهم من نكبات.
و علمنا مصادر الإلهام لهذا الأدب الكريم، فهو نتاج عاطفتين: عاطفة الحزن، و عاطفة الغضب، و خلاصة ثقافات مختلفة، عربيّة و أعجميّة، مزجها الإسلام روحاً و معنى، و نقل أصحابها ذاتاً و وطناً، و أخضعهم لسلطانه إخضاعاً تداخلت به اللغات و الأفكار و العقائد.
... ثمّ كان الأدب الشيعيّ أصدق ما تمثّلت فيه هذه الثقافات، إذ كان الحزب الشيعيّ لأسباب سياسيّة و دينيّة أكبر حزب جمع هذه العناصر، فأغنى بذلك النتاج الشيعيّ، و كان الأدب الناتج عنهم أدباً غزيراً قويّاً تصدره عاطفة و قلب و عقل، و تنضح عليه ثقافات العراق المعرّقة في الرقيّ المتعدّدة المشارب، فاستفاد الأدب العربيّ من هذه الناحية، و عزّزت مادّته، و اتّسعت معانيه و أغراضه.
ترى ذلك واضحاً في هذه العقائد الشيعيّة التي شرحناها قبلًا، و رأينا أثرها في الأدب، و أدركنا إلى أيّ حدّ كان التشيّع مجازاً لنقل هذه العقائد المختلفة إلى الحياة العربيّة، و العقليّة العربيّة، و الأدب العربيّ، و تلك و لا شكّ مساهمة في المجهود الأدبيّ لم تكن لو لا التشيّع.
و اخرى من ناحية التأثير أنّ الموقف الذي وقفته الدولة من الشيعة من شأنه أن يُلهب العاطفة، و يُثير الوجدان، و يخلق فنّاً جديداً من القول،
و مسرحاً جديداً للخيال، و قد تمثّل ذلك في الأدب السياسيّ و العاطفيّ. و ظهر أوّل ما ظهر، و أقوى ما ظهر في الأدب الشيعيّ، أدب النفس الثائرة و العاطفة الصادقة و الحبّ المتأجّج، أدب العقيدة، كما قلنا، فبنى الشيعة بذلك ركناً من الحضارة الأدبيّة باذخاً و شديداً، و كان لهم أكبر الفضل في النهوض بهذه الناحية العاطفيّة و السياسيّة.۱
في وقت كان الأدب الرسميّ فيه تطغى عليه الرغبات المادّيّة و المعنويّة و تصرفه عوامل الرجاء و الخوف، و تلهب نفوس أصحابه سيّئات العطايا. و إنّك لتلمس ذلك فيما صوّره الشيعة من آلام، و شرحوا من حُجَج، و كشفوا من مظالم، و أثاروا من أحقاد، دفاعاً عن عقيدتهم و جهاداً في
سبيل قضيّتهم.۱
و تحدّث مغنيّة عن الوليد و سليمان نجلَى عبد الملك بإيجاز، و ذكر استبانة نتائج الانحراف عن الولاية و الثمرة الخبيثة للشجرة الملعونة، و لِلَّبنة المعوجّة لأوّل نقطة لانتهاك القرآن الكريم و النبيّ العظيم و الأولياء الأبرار من ذرّيّته. و هذه سلسلة متّصلة.
جرائم الوليد بن عبد الملك و ولاته
الوليد بن عبد الملك
مات عبد الملك سنة ستّ و ثمانين هجريّة. و كانت ولايته إحدى و عشرين سنةً، و شهراً و نصفاً و تولّى بعده ابنه الوليد. قال المسعوديّ: كان الوليد جبّاراً عنيداً، ظلوماً غشوماً.
و كان قد أوصاه أبوه أن يكرم الحجّاج و يلبس جلد نمر، و يضع سيفه على عاتقه، فمن أبدى ذات نفسه ضُربت عنقه. و نفّذ الوليد وصيّة الوالد، فأطلق يد الحجّاج بالتقتيل و التنكيل، تماماً كما فعل أبوه، و في أيّام الوليد قتل الحجّاج سعيد بن جبير.
و روى ابن الأثير حكاية تدلّ على مكانة الحجّاج عند الوليد، و قرب منزله منه، قال: مرض الوليد مرضة اغمي عليه يوماً، و ظنّوا أنّه قد مات، و لمّا بلغ الخبر إلى الحجّاج شدّ في يده حبلًا إلى إسطوانة، و قال: اللهمّ طالما سألتك أن تجعل منيّتي قبل الوليد. و حين أفاق الوليد قال: ما أجد أشدّ سروراً بعافيتي من الحجّاج!
و كان عمر بن عبد العزيز والياً على المدينة من قبل الوليد، و كان ملجاً لكلّ مظلوم يأوي إليه الهاربون من ظلم الحجّاج في العراق، فكتب
كتاباً إلى الوليد يشكو عسف الحجّاج و إعتداءه على أهل العراق، فعزله الوليد إرضاءً للحجّاج و لم يكتف بذلك بل طلب من الحجّاج أن يسمّي من يشاء لتولية الحجاز فأشار عليه بالجلّاد خالد بن عبد الله القسريّ، فولاه على مكّه المكرّمة.
قال ابن الأثير في حوادث سنة تسع و ثمانين: في هذه السنة ولى خالد بن عبد الله القسريّ مكّة، فخطب أهلها، و قال: أيّها الناس أيّهما أعظم خليفة الرجل على أهله - أي الوليد - أو رسوله إليهم - أي إبراهيم؟! و الله لم تعلموا فضل الخليفة ... إن إبراهيم خليل الرحمن استسقاه، فسقاه ملحاً اجاجاً و استقى الخليفة فسقاه عذباً فراتاً - يعني بالملح زمزم، و بالفرات بئر حفرها الوليد - و كان خالد ينقل ماء البئر التي حفرها الوليد، و يضعها في حوض إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم، فغارت البئر و ذهب ماؤها. و قال صاحب «الأغاني» ج ۱٩، ص ٥٩ و ما بعدها: إن خالداً هذا كان يسمّى ماء زمزم امّ الجِعْلان۱ و أنّه صعد المنبر، و قال: إلى كَمْ يَغْلِبُ بَاطِلُنَا حَقَّكُمْ؟! ... أمَا آنَ لِرَبِّكُمْ أنْ يَغْضِبَ لَكُمْ؟! ... لَوْ أمَرَنِي أمِيرُ المُؤْمِنِينَ نَقَضْتُ الكَعْبَةَ حَجَراً وَ نَقَلْتُهَا إلى الشَّامِ! وَ اللهِ لأمِيرُ المُؤْمِنِين أكْرَمُ على اللهِ مِنْ أنْبِيَائِهِ.
ثمّ قال صاحب «الأغاني»: كان خالد زنديقاً، و امّه نصرانيّة، فكان يُولي النصارى و المجوس على المسلمين، و يأمرهم بامتهانهم و ضربهم، و قد أباح للنصارى أن يشتروا الجواري المسلمات و ينكحوهنّ.
... | *** | كما تضرُّ رياح الورد بالجُعَلِ |
و قال المستشرق الألمانيّ فلهوزن في كتاب «تاريخ الدولة العربيّة» ص ٣۱٩: إن خالداً حين أصبح والياً بالكوفة بني لُامِّه كنيسة في ظهر قبلة المسجد، و حُكيت عنه فضائح تقشعرّ منها الأبدان، و كان في حداثته يتخنّث و يسعى بين الشباب و الناس، و أنّه نال من كرامة الكعبة و النبيّ و أهل بيته و القرآن، و قال: لا يوجد رجلٌ عاقل يحفظ القرآن عن ظهر قلب. ثمّ قال فلهوزن: و إنّه زنديق كافر فاسق.
و ما كان الأمويّون يركنون إلى أحدٍ، أو يولون أحداً إلّا إذا كان كافراً على شاكلتهم، يفضّلهم على محمّد و جميع الأنبياء و المرسلين.
و بالتالي، فلا شيء أصدق في الدلالة على طغيان الوليد من اعتماده على الحجّاج، و إقراره على ما كان عليه أيّام أبيه عبد الملك.
سأل سليمان بن عبد الملك يزيد بن مسلم عن الحجّاج، و حاله يوم القيامة، فقال له: يأتي غداً عن يمين أبيك عبد الملك، و يسار أخيك الوليد، فاجعله حيث شئت.
جرائم سليمان بن عبد الملك
سليمان بن عبد الملك
مات الوليد سنة ستّ و تسعين، و كانت أيّامه تسع سنين و شهراً، و قام مكانه أخوه سليمان، و كان رجلَ طعامٍ و نكاحٍ.
قال المسعوديّ: كان سليمان صاحب أكلٍ كثيرٍ يجوز المقدار ... يأكل في كلّ يوم مائة رطلٍ۱ عراقيّ، و كان ربّما أتاه الطبّاخون بالسفافيد
- حديد يُشوى عليه اللحم - التي فيها الدجاج المشويّة، فيلتهمها، و كان يقبض على الدجاجة بكمّه و هي حارّة فيفصلها! و خرج يوماً من الحمّام، فاستعجل الطعام فقُدِّم له عشرون خروفاً فأكل أجوافها كلّها مع أربعين رقاقة، ثمّ قرب بعد ذلك الطعام، فأكل مع ندمائه، كأنّه لم يأكل شيئاً. و كان يتّخذ سلال الحلوى، و يجعلها حول مرقده فإذا أفاق من نومه يمدّ يده فلا تقع إلّا على سلّةٍ يأكل منها.
و بقي سليمان في الحكم سنتين و أشهراً، و لو امتدّت به الحياة لفعل مثل ما فعلوه، و مع ذلك فقد أقرّ ولاية خالد بن عبد الله القسريّ خليفة الحجّاج في القسوة و البغي.
قال صاحب «العقد الفريد» في ج ٤، ص ۱٩۱، طبعة ۱٩٥٣ م: صعد خالد المنبر يوم الجمعة، و هو والي مكّة في عهد سليمان، فذكر الحجّاج و أثنى عليه.
و قتل سليمان الفاتح العربيّ الكبير موسى بن نصير الذي فتح بلاد المغرب كلّها و الأندلس، إسبانيا و البرتغال اليوم، قتله لأنّه أعطى الغنائم للوليد و لم يؤخّرها إلى أن يتولّى سليمان الحكم، و قتل قتيبة بن مسلم الذي امتدّت فتوحاته من بلاد فارس إلى الصين، و سبب قتله أنّه وافق الوليد على خلع سليمان من ولاية العهد.
و بالجملة، إن سليمان لا يختلف في شيء عمّن تقدّمه من حكّام اميّة، غير أنّ الظروف لم تُمهله، حتى يفعل أكثر ممّا فعل، و يدلّ على ذلك أنّ معاوية بن أبي سفيان ذُكر في مجلسه فصلّى على روحه، و أرواح من سلف من آبائه، و قال: و الله ما رُئى مثل معاوية! ترحّم سليمان على معاوية، و صلّى على روحه، لأنّه لم ير أحداً أقدر منه على المكر و الخيانة، و لا أجرأ على العسف و الظلم.
هذه هي الروح الحقيقيّة للأمويّين لا يعجبها شيء إلّا الخداع و البهتان و الجور و الطغيان.۱
و قال الشيخ مغنيّة أيضاً في الشيعة و معاوية أيّام الإمام أمير المؤمنين عليه السلام.
ثأر معاوية المزيّف لدم عثمان ذريعة للتسلّط
معاوية
إن لمعاوية مآثر لا يُحصى عديدها، منها: أنّه ملعون على لسان الله و نبيّه. فلقد فسّر المفسّرون الشجرة الملعونة في القرآن ببني اميّة. و رآه النبيّ يوماً يقود أخاه يزيد، فقال: لَعَنَ اللهُ القَائِدَ وَ المَقُودَ.
و منها: أنّه يموت على غير الإسلام برواية عبد الله بن عمر الذي قال: سمعتُ رسول الله يقول: يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَمُوتُ على غَيْرِ سُنَّتِي! فطلع معاوية.
و منها: أنّه رأس الفئة الباغية التي قتلت عمّاراً.
و منها: أنّه ابن من قاد الحروب ضدّ الرسول و أنّه ابْنُ آكِلَةِ الأكْبَادِ.
و منها: أنّه شرب الخمر، و هو يحكم باسم الإسلام. («دلائل الصدق» ج ٣، ص ٢۱٣، نقلًا٢ عن «مسند أحمد»).
و منها: إلحاق ابن السفاح بغير أبيه.
و منها: دسّه السمّ بالعسل لقتل الأولياء و الصلحاء، و قوله: إن لِلَّهِ جُنُوداً مِنْ عَسَلٍ.
و منها: جمعه اللصوص و قطّاع الطرق، و مدّهم بالقوّة و السلاح للسلب و النهب، و قتل النساء و الأطفال، و إحراق البيوت على أهلها.
و منها: تفنّنه في المكر و الكذب و الخداع.
و منها: كرهه الشديد لأهل الحقّ و العدل.
و منها: إعلانه السبّ و اللعن لأولياء الله.
و منها: تحويله الخلافة إلى وراثة.
لهذه الأسباب و لغيرها لم يجد معاوية ما يتذرّع به لطلب الخلافة من سابقةٍ أو منقبة أو حديث إلّا قول الرسول الأعظم: لَا أشْبَعَ اللهُ لَهُ بَطْناً.۱ فانتحل دم عثمان، و نشر قميصه مع أصابع زوجته نائلة على المنبر، و أسعفته عائشة و جملها، و قطام و ابن ملجمها، و الخوارج و مروقهم، و أهل الشام و غباوتهم، و أهل العراق و تخاذلهم، و الطامعون و أساليبهم، و صلابة الإمام في دينه، و معاوية في كفره. كلّ هذه و ما إليها كانت عوامل هامّة و فعّالة في وصول معاوية إلى الخلافة، و تسميته بداهية العرب. لقد انتفع معاوية بالظروف و المناسبات، و كان أهمّها قميص عثمان الذي أصبح مضرب الأمثال.
قال المستشرق الألمانيّ يوليوس فلهوزن في كتاب «تاريخ الدولة العربيّة» ص ۱٢٩، طبعة ۱٩٥۸ م: «كان الثأر لمقتل عثمان هو الأساس الذي بني عليه معاوية حقّه في وراثة الخلافة، أمّا بأيّ معنى قام الثأر لعثمان فهو يتجلّى في أنّه من أجل ذلك اتّحد مع عمرو بن العاص الذي ألّب على عثمان أخبث تأليب، و لم تكن التقوى و لا البرّ بعثمان باعثاً لمعاوية».
دافع عليّ عن عثمان، و حرّض على قتله طلحة، و الزبير، و عائشة، و معاوية، و ابن العاص. و لمّا قُتل ثاروا على الإمام، و طالبوه بدمه، فقُتل طلحة، و الزبير، و عُقر الجمل، و آبت صاحبته بالخذلان، و سلم معاوية، و ابن العاص بعد أن رفعا المصاحف. و لو لا ها لوردا مورد الجمل و أصحابه. و رجع معاوية من صفّين ليدبّر الاغتيالات و الغارات ضدّ عليّ و شيعته.
غارات معاوية على الولايات الخاضعة لحكومة أمير المؤمنين
غارات القتل و التخريب
كانت الأمصار الإسلاميّة بكامل أطرافها في طاعة أمير المؤمنين عليه السلام ما عدا الشام، حيث يوجد معاوية.
فالعراق و الحجاز و اليمن و مصر و فارس و غيرها كان عليها ولاة يحكمونها و يديرون شئونها من قبل الإمام.
فجمع معاوية حوله الأشقياء الجلّادين، و البغاة من قطّاع الطرق و المخرّبين أمثال النعمان بن بشير، و يزيد بن شجرة، و عبد الرحمن بن قباث، و زهير بن مكحول، و مسلم بن عقبة، و سفيان بن عوف، و بسر بن أرطاة، و الضحّاك بن قيس، و غيرهم و غيرهم، و أمدّهم بالخيل و الرجال، و السلاح و المال، و أمرهم بالغارة على البلاد الآمنة التابعة للإمام، و أوصاهم أن ينشروا الفوضى و الفساد، و يحدثوا التخريب و الذعر.
سفيان بن عوف الغامديّ
دعا معاوية سفيان بن عوف، و قال له: أنّي موجّهك في جيش كثيف ذي أداة و جلادة، فالزم لي جانب الفرات، حتى تمرّ «بهيت» فتقطعها فإن وجدت بها جنداً فأغر عليها، و امض، حتى تغير على الأنبار، فإن لم تجد بها جنداً، فامض حتى توغل المدائن، ثمّ أقبل إلى، و اتّق أن تقرب
الكوفة، و اعلم أنّك إن أغرت على الأنبار و أهل المدائن، فكأنّك أغرت على الكوفة، إن هذه الغارة يا سفيان على العراق ترعب قلوبهم، و تُفرح كلّ من له فينا هدى منهم، و تدعو إلينا كلّ من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممّن ليس على مثل رأيك، و اخرب كلّ ما مررت به من القرى، و احرب الأموال فإنّ حرب الأموال - أي: اسلبها - شبيهة بالقتل و هو أوجع للقلب ... ( «شرح ابن أبي الحديد» ج ۱، ص ۱٤٤، الطبعة القديمة).
و امتثل سفيان أمر سيّده، فحمل بخيله على الآمنين، و ملأ البيوت و الأزقّة بجثث القتلى. و حمل ما وجد من الأموال، و رجع إلى معاوية، و قال له فيما قال:
وَ اللهِ مَا غَزْوَةٌ أقَرَّ لِلْعُيُونِ وَ لَا أسَرَّ لِلْنُفُوسِ مِنْهَا، وَ لَقَدْ أرْعَبْتُ قُلُوبَ النَّاسِ!
فقال له معاوية: كُنْتَ عِنْدَ ظَنِّي بِكَ!
و ندب الإمام أهل الكوفة لدفع العدوان عنهم، فتثاقلوا، فخرج وحده يمشي راجلًا، فلحق به قوم، و قالوا: ارجع يا أمير المؤمنين، و نحن نكفيك، فقال: ما تكفوني و لا تكفوا أنفسكم، فلم يزالوا به حتى صرفوه إلى منزله، و هو واجم كئيب. ثمّ خاطبهم بخطبة جاء فيها:
... ألَا وَ أنّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إلى قِتَالِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ لَيْلًا وَ نَهَاراً، وَ سِرّاً وَ عَلَانِيَةً، وَ قُلْتُ لَكُمْ: اغْزُوهُمْ قَبْلَ أنْ يَغْزُوكُمْ. فَوَ اللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ في عُقْرِ دَارِهِمْ إلَّا ذَلُّوا!
فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ حتى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الغَارَاتُ، وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الأوْطَانُ!
وَ هَذَا أخُو غَامِدٍ - أي سُفْيَانُ - قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الأنْبَارَ، وَ قَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانِ البَكْرِيّ، وَ أزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا. وَ قَدْ بَلَغَنِي أنَ
الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ على المَرأةِ المُسْلِمَةِ وَ الاخرى المُعَاهَدَةِ، فَينْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَا - أي سَوَارَهَا - وَ قَلَائِدَهَا وَ رِعَاثَهَا - القُرْطَ - مَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ إلَّا بِالاسْتِرْجَاعِ وَ الاسْتِرْحَامِ، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ ... .
فَيَا عَجَبَاً! وَ اللهِ يُمِيتُ القَلْبَ وَ يَجْلِبُ الهَمَّ مِنِ اجْتِمَاعِ هَؤُلَاءِ القَوْمِ على بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ ... .
يَا أشْبَاهَ الرِّجَالِ! وَ لَا رِجَالَ! حُلُومُ الأطْفَالِ، وَ عُقُولُ رَبَّاتِ الحِجَالِ، لَوَدِدْتُ أنّي لَمْ أرَكُمْ، وَ لَمْ أعْرِفْكُمْ ... .
قَاتَلَكُمُ اللهُ لَقَدْ مَلأتُمْ قَلْبِي قَيْحاً، وَ شَحَنْتُمُ صَدْرِي غَيْظاً ... وَ أفْسَدْتُمْ عَلَيّ رَأيِي بِالعِصْيَانِ وَ الخِذْلانِ ... وَ لَكِنْ لَا رَأيَ لِمَنْ لَا يُطَاعُ!۱
و هكذا ابتُلي الإمام بعدوّ كمعاوية يغدر و يفجر، و يستبيح الدماء، و نهب الأموال و هتك الأعراض، و بأصحابٍ كأهل الكوفة متواكلين متخاذلين، يُغزون في عقر دارهم فيذلّون و يستكينون، و يفرّون و لا يكرّون!
الضحّاك بن قيس الفهريّ
دعا معاوية الضحّاك بن قيس الفهريّ، و قال له: سِرْ حتى تمرّ بناحية الكوفة، و ترتفع عنها ما استطعت، فمن وجدته من الأعراب في طاعة عليّ، فأغر عليه، و إن وجدتَ له مسلحة أو خيلًا، فأغر عليها، و إذا أصبحت في بلدٍ فأمسى في اخرى، و لا تقيمنّ لخيلٍ بَلَغَكَ أنّها قد سرّحت
إليك لتلقاها فتقاتلها. ثمّ جهّزه بثلاثة آلاف إلى أربعة (ابن أبي الحديد: ج ۱، ص ۱٥٤، الطبعة القديمة).
و أنفذ الضحّاك أمر سيّده، و أسرف في القتل و الفتك، و السلب و النهب، فكان يقتل كلّ من رآه في طريقه، و أغار على قافلة الحجّاج، فأخذ أمتعتهم، ثمّ قتل جماعة، منهم العبد الصالح عمرو بن عميس بن مسعود، و هو ابن أخ عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله.
و لمّا علم الإمام صعد المنبر، و قال: يا أهل الكوفة اخرجوا فقاتلوا عدوّكم، و امنعوا حريمكم إن كنتم فاعلين. فردّوا عليه ردّاً خفيفاً، و رأى منهم فشلًا، ثمّ دعا حجر بن عديّ الكنديّ، فعقد له على أربعة آلاف، فخرج يتعقّب الضحّاك، حتى لقيه بناحية تدمر، فاقتتلوا ساعةً، فقُتل من أصحاب الضحّاك تسعة عشر رجلًا، و من أصحاب حجر رجلان، فحجز الليل بينهم، فهرب الضحّاك إلى الشام لا يلوي على شيء.
و كانت عصابات معاوية تُغير على أطراف الإمام، و تمعن في التخريب و التدمير، و تنقضّ على الآمنين تقتل و تنهب و تحرق، و تنشر الرعب، حيث يخلو لها الجوّ، فإذا داهمها عسكر الإمام أسرعت في الفرار.
غارات معاوية بتنفيذ النعمان بن بشير
النعمان بن بشير
النعمان و أبوه بشير بن سعد الأنصاريّ أوّل من بايع أبا بكر من الأنصار يوم السقيفة. ثمّ توالت بعده الأنصار على المبايعة. و كان النعمان عثمانيّاً مقرّباً عند معاوية و ولده يزيد، و بقي حيّاً إلى خلافة مروان بن الحكم، و لمّا بويع لمروان بالخلافة كان النعمان والياً على حمص، فدعا أهل حمص إلى مبايعة ابن الزبير فثاروا عليه و قتلوه، و ذلك سنة ٦٥. و من
أخلاقه أنّه لمّا قتل عثمان أخذ قميصه و أصابع زوجته نائلة، و باعها إلى معاوية، و كان معاوية يعلّق القميص و فيه الأصابع يستثير بهما أهل الشام، فكانوا إذا رأوا القميص و الأصابع يزدادون غيظاً، ثمّ ترك النعمان معاوية، و ذهب إلى عليّ، و لكن لم يطب له المقام في بيئة التقوى و الصلاح، فهرب إلى الشام حيث الضلالة و الفساد، و هكذا تموت الخنافس من رائحة الزهور و العطور و تحيا في المزابل و المراحيض.
و ندب معاوية النعمان، و جهّزه بألفي رجل، و أمره بالغارة على عين التمر في العراق، و أوصاه أن يقوم بالمناوشات و الغارات المفاجئة، و يعجّل الحرب، كما تفعل اللصوص و العصابات. و أقبل النعمان على عين التمر و بها مالك بن كعب من قبل الإمام و ليس معه سوى مائة رجل، فصمدوا للألفين، و قال مالك لأصحابه: قاتلوهم داخل القرية، و اجعلوا الجُدُر إلى ظهوركم، و اعلموا أنّ الله ينصر العشرة على المائة، و المائة على الألف، و القليل على الكثير، و أنجدهم قوم بالقرب منهم من شيعة أمير المؤمنين فانهزم النعمان و من معه و ولّوا هاربين إلى أرض الشام.
و بعد مقتل الإمام عيّن معاوية النعمان بن بشير أميراً على الكوفة، و كان أميراً عليها من قبل يزيد، فعزله، و عيّن مكانه عبيد الله بن زياد حين قدم إليها مسلم بن عقيل، و ربّما أتينا على ذكر النعمان في الصفحات الآتية.
غارات معاوية بتنفيذ بسر بن أرطاة
بُسْرُ بن أرْطاة
في يومٍ من أيّام صفِّين صعد الإمام إلى التلّ، و نادى بأعلى صوته: يا معاوية!
فأجابه. فقال الإمام: علامَ يقتتل الناس؟! ابرز إلى، ودع الناس
فيكون الأمر لمن غلب. فقال ابن العاص لمعاوية: أنصفك الرجل. فضحك معاوية و قال: طمعت فيها يا عمرو، أي: في الخلافة.۱ فقال عمرو: ما يجمل بك إلّا أن تبارزه. فقال معاوية: نلقاه بجمعنا. فقال ابن العاص: و الله لُابارزن عليّاً، و لو متّ ألف موتةٍ، ثمّ برز للإمام، و كان من أمر عورته ما يُغني عن ذكرها.٢
و كان في جيش معاوية فارس يُدعى أبا داود، فقال: إذا كره معاوية مبارزة أبي الحسن عليّ فأنا أبرز له. ثمّ خرج من بين الصَّفَّين، و قال: أنا أبو داود ابرز إلى يا أبا الحسن. فتقدّم عليّ، فناداه الناس ارجع يا أمير المؤمنين عن هذا الكلب، فليس لك بخطر. فقال: دعوني، ثمّ حمل عليه، و ضربه ضربة قطعته قطعتين سقطت إحداهما يمنةً، و الاخرى يسرى. فارتجّ العسكران لهول الضربة. و كان لأبي داود ابن عمّ في عسكر معاوية، فصاح: وا سوآه: قبّح الله البقاء بعدك يا أبا داود، و برز للإمام، فألحقه بابن عمّه.
كلّ هذا و معاوية على التلّ يُبصر و يشاهد، فقال: تبّاً لهؤلاء الرجال أما فيهم من يقتل عليّاً مبارزةً، أو غيلةً، أو في اختلاط الفيلق، و ثوران الفقع. فقال له الوليد: ابرز إليه أنت، فإنّك أولى الناس بمبارزته. فقال معاوية: و الله لقد دعاني للبراز حتى استحييت من قريش، ثمّ التفت معاوية إلى بسر بن أرطاة، و قال له: أتقوم أنت لمبارزته؟ فقال له بسر: ما
أحد أحقّ بها منك، و مع ذلك فأنا له. و كان عند بسر ابن عمّ له قدم من الحجاز يخطب ابنته، فقال له: إيّاك أن تبارز عليّاً و ما الذي يدعوك إلى ذلك؟! قال صدر منّي وعد، و أستحي أن أرجع عنه، فضحك ابن عمّه منه، و قال أبياتاً، منها:
كَأنَّكَ يَا بُسْرَ بْنَ أرْطَاةَ جَاهِلٌ | *** | بِآثَارِهِ في الحَرْبِ أوْ مُتَجَاهِلُ |
متى تَلْقَهُ فَالْمَوْتُ في رَأسِ رُمْحِهِ | *** | وَ في سَيْفِهِ شُغْلٌ لِنَفْسِكَ شَاغِلُ |
فقال بسر: هل هو إلّا الموت؟! و برز بسر مقنّعاً بالحديد، و نادى: ابرز إلى أبا الحسن. فمشى الإمام إليه غير مكترث به، حتى إذا قاربه طعنه، فسقط على الأرض، فكشف عورته، كما فعل ابن العاص من قبله، فانصرف عنه مدبراً، فقال الأشتر: هذا بسر أ تتركه، و هو عدوّ الله و عدوّك؟ فقال: دَعْهُ لَعْنَهُ اللهُ، أ بَعْدَ أنْ فَعَلَهَا! و قال الشاعر في عمرو و ابن أرطاة أبياتاً ذكرها ابن أبي الحديد في ج ٢، ص ٣۰۱، منها:
أ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَارِسٌ تَنْدُبُونَهُ | *** | لَهُ عَوْرَةٌ تَحْتَ العَجَاجَةِ بَادِيَه |
يَكُفُّ بِهَا عَنْهَا عَلِيّ سِنَانَهُ | *** | وَ يَضْحَكُ مِنْهَا في الخَلاءِ مُعَاوِيَه |
قال ابن أبي الحديد في «شرح النهج» ج ۱، ص ۱۱۷ و ما بعدها: كان بسر بن أرطاة قاسي القلب فظّاً سفّاكاً للدماء، لا رأفة عنده و لا رحمة. و قد جهّزه معاوية في ثلاثة آلاف، و قال له:
سر حتى تمرّ بالمدينة فاطرد الناس، و أخِفْ من مررت به، و انهب أموال كلّ من أحصيت له مالًا، ممّن لم يكن دخل في طاعتنا، فإذا دخلت
المدينة فأرهم أنّك تريد أنفسهم، و أخبرهم أنّه لا براءة لهم عندك و لا عذر.
بهذه النصائح كان معاوية يزوّد عصابات الإرهاب، قال لسفيان بن عوف - كما أسلفناه: اقتل من لقيته، و أخرِبْ كلّ ما مررت به، و انهب الأموال! و قال لبسر: اطرد الناس، و أخف و انهب، و بمثل ذلك أمر الضحّاك و غير الضحّاك؛ و مضى هؤلاء اللصوص ينفّذون أمر سيّدهم و يُضيفون إليه من لؤمهم و حقدهم على الإنسانيّة الكثير من الفتك و السفك.
و وصل بسر إلى المدينة المنوّرة، فشتم أهلها و تهدّدهم و توعّدهم، و أحرق دوراً كثيرة، منها دار زرارة بن حرون، و دار عمرو بن عوف، و دار رفاعة ابن رافع الرزقيّ، و دار أبي أيّوب الأنصاريّ صاحب منزل رسول الله صلّى الله عليه و آله (ابن أبي الحديد: ج ۱).
قال المسعوديّ (ج ٣، ص ٣۱، طبعة ۱٩٤۸ م): قتل بسر بالمدينة و بين المسجدين خلقاً كثيراً من خُزاعة و غيرها، و كذلك بالجرف قتل خلقاً كثيراً من رجال همدان، و قتل بصنعاء خلقاً كثيراً. و قال المسعوديّ: و لمّا بلغ الخبر عليّاً أنفذ جارية بن قدامة في ألفين، و وهب بن مسعود في ألفين و حين علم بُسر بخبر جارية فرّ هارباً.
اتّخذ معاوية خطّة الغارات المفاجئة و الهجوم الخاطف، ثمّ الفرار و المواراة عن الأنظار، و اتّخذ الإمام خطّة الدفاع، و لكنّه دفاع بطيء بطء المواصلات يومذاك.
و قبل أن يغادر بسر مدينة الرسول استخلف على أهلها أبا هريرة، و أوصاهم بطاعته، و أبو هريرة هذا الذي نصّ عليه بُسر «بالخلافة» من بعده رأي و شاهد البدع و الأحداث التي أحدثها بسر في مدينة الرسول الأعظم، و هو بالذات الذي وثّقه أصحاب الصحاح، و رووا عنه الكثير.
و قد يكون السبب لتوثيقه و تصحيح حديثه روايته عن نبيّ الرحمة: إن لِكُلِّ نَبِيّ حَرَماً، وَ إن حَرَمِي بِالمَدِينَةِ، فَمَنْ أحْدَثَ فِيهَا حَدَثاً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَ المَلَائِكَةِ وَ النَّاسِ أجْمَعِينَ. وَ أشْهَدُ أنَّ عَلِيَّاً أحْدَثَ فِيهَا!
و تأريخ رواية هذا الافتراء متأخّر عن غزوة بسر للمدينة و استخلافه أبا هريرة بعده. عليّ الذي قال عنه الرسول: لَا يُحِبُّهُ إلَّا مُؤْمِنٌ، وَ لَا يُبْغِضُهُ إلَّا مُنَافِقٌ.
عليّ في منطق أبي هريرة قد أحدث في المدينة. أمّا معاوية الذي مات على غير سنّة محمّد - بشهادة عبد الله بن عمر - معاوية هذا صان مدينة الرسول، و منع عنها البدع و الأحداث بشهادة بسر و خليفته أبي هريرة!
ترك بسر المدينة و توجّه إلى مكّة، و قتل في طريقه بين حرم الله و حرم الرسول رجالًا، و نهب أموالهم، و لمّا بلغ خبره أهل مكّة هرب أكثرهم خوفاً من جوره و طغيانه و مرّ بنجران فقتل جماعةً، و قام خطيباً في أهلها. و قال: يا أهل نجران، يا معشر النصارى، و إخوان القرود، أما و الله إن بلغني عنكم ما أكره لأعودنّ عليكم بالتي تقطع النسل، و تُهلك الحرث، و تخرب الديار، و قتل و هو ذاهب إلى صنعاء أبا كرب، و كان من رؤوس الشيعة، و سيّد من كان في البادية مِن حمدان، و حين دخل صنعاء أعمل في أهلها القتل و السلب، و أتاه وفد من مأرب يستعطفه و يسترضيه، فقتل رجاله، و ذبح طفلين صغيرين لعبيد الله بن العبّاس، و كانت امّهما تدور مذهولةً ناشرة شعرها، و تقول:
هَا مَنْ أحَسَّ بِابْنَيّ اللَّذَيْنِ هُمَا | *** | كَالدُّرَّتَيْنِ تَشظَى عَنْهُمَا الصَّدَفُ |
هَا مَنْ أحَسَّ بِابْنَيّ اللَّذَينِ هُمَا | *** | سَمْعِي وَ قَلْبِي فَقَلْبِي اليَوْمَ مُخْتَطَفُ |
هَا مَنْ أحَسَّ بِابْنَيّ اللَّذَينِ هُمَا | *** | مُخُّ العِظَامِ فَمُخِّي اليَوْمَ مُزْدَهِفُ |
نُبِّئْتُ بُسْراً وَ مَا صَدَّقْتُ مَا زَعَمُوا | *** | مِنْ قَتْلِهِمْ وَ مِنَ الإفْكِ الذي اقْتَرَفُوا |
أنْحَى على وَدَجَي ابْنَيّ مُرْهَفَةً | *** | مَشْحُوذَةً وَ كَذَا الآثَامُ تُقْتَرَفُ |
مَنْ دَلَّ وَالِهَةً حَرَّي مُسَلَّبَةً | *** | على صَبِيَّيْنِ ضَلَّا إذْ مَضَى السَّلَفُ |
و كتب المغيرة بن شعبة إلى بسر كتاباً يشكره على ما فعل،۱ و يقول
صلّى الإلَهُ على جسم تضمّنه | *** | قبرٌ فأصبح فيه العزّ مدفونا |
قد حالفَ الحقّ لا يبغى به بدلا | *** | فَصَارَ بالحقّ و الإيمان مقرونا |
فيه:
جَعَلَنَا اللهُ وَ إيَّاكَ مِنَ الآمِرِينَ بِالمَعْرُوفِ، وَ القَاصِدِينَ إلى الحَقِّ وَ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً.
آمنتُ باللهِ!۱ حتى الذين يعصون أوامره يتكلّمون باسم الله. و ما أقوى وجوه الشبه في الطباع و الخداع بين بسر و المغيرة، و بين الكثير ممّن نعرف اليوم من الذين يتكلّمون باسم الله جلّ و علا علوّاً كبيراً. و صدق الذي قال:
منطق معاوية و يزيد في ارتكاب الجرائم
مَا اختَلَفَ النَّاسُ وَ لَكِنِ اطَّرَدَ القِيَاسُ.
أشرنا إلى أنّ الإمام أنفذ جارية بن قدامة إلى بسر، و أخذ جارية يسأل عنه، و يتعقّبه، و بسر يفرّ بين يديه من جهة إلى جهة، حتى أخرجه
من أعمال عليّ كلّها، و لكن بعد أن قطع النسل، و أهلك الحرث و خرّب الديار، و حين رجع بُسر إلى الشام. قال لمعاوية: أنّي سرتُ في هذا الجيش أقتل عدوّكَ ذاهباً جائياً. فقال له معاوية: اللهُ فَعَلَ ذَلِكَ لَا أنْتَ.
قال ولده يزيد للإمام زين العابدين: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي قَتَلَ أبَاكَ. فقال له زين العابدين: لَعَنَ اللهُ مَنْ قَتَلَ أبي.
و نقول نحن: لَعَنَ اللهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَ أمَرَ بِهِ.
قال ابن أبي الحديد (ج ۱، ص ۱٢۱): و كان الذي قتل بسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفاً، و حرق قوماً بالنار ... و كان مسلم بن عقبة ليزيد و ما عمل بالمدينة في وقعة الحرّة، كما كان بسر لمعاوية و ما عمل في الحجاز و اليمن، وَ مَن يُشَابِهْ أبَهُ فَمَا ظَلَمْ.
و سأل الإمام ربّه تعالى أن ينتقم من بسر في الدنيا بالجنون، فقال: اللهُمَّ لَا تُمِتْهُ حتى تَسْلُبَهُ عَقْلَهُ! فلم يلبث إلّا يسيراً حتى ذهب عقله، فكان الصبيان يتبعونه، و يعبثون به.
بهذه البدع و الأحداث، بانتهاك حرم الله و حرم الرسول، بقتل الرجال و ذبح الأطفال، بسلب النساء أقراطها و خلاخلها، بهذه و ما إليها قال المتقوّلون: مُعَاوِيَةُ أعْرَفُ مِنْ عَلِيّ بِالسِّيَاسَةِ.
أجل، لا عليّ و لا غير عليّ أعرف من معاوية بالشرّ و ضراوته فيه و الإقدام عليه. و من هنا كان سياسيّاً عظيماً عند أشكاله و أمثاله!۱
تعنيف معاوية لقتله حجراً
هذه هي جرائم معاوية في عهد الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فهلمّ و انظر جرائمه بعد استشهاد الإمام من نقض العهود التي أبرمها مع الإمام الحسن عليه السلام، و دسّ السمّ إليه، و سبّ الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بعد خطبة الجمعة في جميع أرجاء العالم، و تسليط المغيرة بن شعبة على الكوفة، و الأمر بالتضييق على الشيعة، و نصب زياد بن سُمَيَّة على الكوفة و البصرة بعد المغيرة، و الأمر بإلقاء القبض على الرجل البريء العابد الزاهد الناسك حجر بن عديّ الكنديّ و أصحابه و إشخاصهم إلى الشام و قتلهم في مَرْج عَذْراء على بعد أربعة فراسخ عن دمشق،۱ و قتل عمرو
ابن الحمق؛ و كان حُجر، و عمراً من صحابة رسول الله و أمير المومنين و الحسنين عليهم السلام.
و لحق أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين بأخيه خاتم المرسلين، و انعزل الإمام الحسن عليه السلام في بيته، و جرى حكم معاوية في الأقطار الإسلاميّة جميعها بلا أمر من الله تعالى، و بدون أن يكون للُامّة الخيرة من أمرها. و كان حكماً إمبراطوريّاً فرديّاً بلا منازع.
أ لم يجدر به أن يتغاضى عن مناوئيه في تلك الفترة، و يعفو عنهم، و يريحهم في حياتهم، و كذلك يعامل بالإحسان كافّة الموالين لأهل البيت الذين كانوا يرون أنفسهم خاضعين لسلطانه القاهر، و يرونها كالطير المهيض الجناح الملازم لقفصه قانعين بالحَبّ و الماء، و يتصرّف كما هو شأن الساسة الكبار في العالم؟ بَيدَ أنّه لم يَعْفُ، و زعم أنّه صاحب المقام، و اتّهم جميع الموالين الذين سعوا من أجل عظمة الإسلام بالتخريب و منافاة اصول حكومته، و امتصّ دماءهم حتى آخر قطرة لانتفاضاتهم ضدّ حكومته الجائرة الظالمة، و لم يرتومنها.
لقد صفح أمير المؤمنين ابن أبي طالب عن عائشة، و مروان بن الحكم في معركة الجمل و عفا عنهما، و صفح عن عمرو بن العاص، و بُسر ابن أرطاة في معركة صفّين و أطلقهما، و سقى معاوية و جنده الماء لأنّه كريماً ابن كريم. إنّه ابن أبي طالب الذي قال بكلّ اقتدار حين آذته قريش لحمايته النبيّ:
قَابَلْتُ جَهْلَهُمُ حِلْماً وَ مَغْفِرَةً | *** | وَ العَفْوُ عَنْ قُدْرَةٍ مِنْ أفْضَلِ الكَرَمِ |
و كانت عائشة من المعارضين لقتل حُجر، و عاتبت معاوية على ذلك، لكنّها استسلمت بعد ذلك و كفّت عن احتجاجها عليه بسبب سياسته الماكرة و عطاياه و كلماته الخادعة.۱
و تشفّع مالك بن هُبيرة السكونيّ إلى معاوية في حجر، فلم يقبل، و غضب على معاوية، و جاء إلى مَرْج عَذْراء مع جماعة من كِنْدَة و سَكون ليخلّصوا السجناء بقوّة و شدّة، لكنّهم و صلوا في وقت كانوا قد قُتلوا فيه. و أرسل معاوية إليه مائة ألف درهم، و أعلمه أنّ قتل حجر فتح له الطريق إلى العراق مرّة اخرى بعد الجملتين السابقتين فهدأ مالك بن هُبيرة و سكت غضبه.
شعر ابنة أبي الأسود في هديّة معاوية لأبيها
أمّا تحفه و هداياه و حلواه إلى أبي الأسود الدؤليّ صاحب مولى الموحّدين علي بن أبي طالب فقد رُفضت. نقل السيّد حسن الصدر عن القاضي نور الله المرعشيّ في «مجالس المؤمنين» أنّ معاوية بعث لأبي الأسود هدايا فيها حلوى، فنظرت إليها ابنة أبي الأسود، فقالت لأبيها: من أين هذه الهديّة؟ فقال: بعث بها معاوية يخدعنا عن ديننا، فقالت البنت على البديهة:
أ بِالشَّهْدِ المُزَعْفَرِ يَا بْنَ حَرْبٍ | *** | نَبِيعُ عَلَيْكَ أحْسَاباً وَ دِينَا |
مَعَاذَ اللهِ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا | *** | وَ مَوْلَانَا أمِيرُ المُؤْمِنِينَا |
قال ابن خلّكان في «الوفيّات» بعد ترجمته لأبي الأسود: و له ديوان شعر. و من شعره:
صَبَغَتْ امَيَّةُ بِالدِّمَاءِ أكُفَّنَا | *** | وَ طَوَتْ امَيَّةُ دُونَنَا دُنْيَانَا |
و أسند الشيخ منتجب الدين في كتاب «الأربعين» عن عليّ بن محمّد قال: رأت ابنة أبي الأسود الدؤليّ بين يدي أبيها خبيصاً (حلوى مخلوطة معروفة) فقالت: يا أبه! أطعمني. فقال: افتحي فاك، ففتحت، فوضع فيه مثل اللوزة، ثمّ قال لها: عليكِ بالتمر فإنّه أنفع و أشبع. فقالت: هذا أنفع و أنجح، فقال: هذا طعام بعثه إلينا معاوية يخدعنا عن علي بن أبي طالب، فقالت:
قَبَّحَهُ اللهُ يَخْدَعُنَا عَنِ السَّيِّدِ المُطَهَّرِ بِالشَّهْدِ المُزَعْفَرِ؟ تَبَّاً لِمُرْسِلِهِ وَ آكِلِهِ!
ثمّ عالجت نفسها و قاءت ما أكلته منه، و أنشأت تقول البيتَين المتقدِّم ذكرهما. قال آية الله الصدر: و إنّما ذكرنا هذا الطريق لأنّه من رواية الشيخ منتجب الدين بن بابويه.۱
شعر أبي الأسود الدؤليّ في رثاء أمير المؤمنين عليه السلام
قال الملّا جلال الدين السيوطيّ: أنشد أبو الأسود الدؤليّ في رثاء عليّ رضي الله عنه:
ألَا يَا عَيْنُ وَيْحَكِ أسْعِدِينَا | *** | ألَا تَبْكِي٢ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ |
وَ تَبْكِي امُّ كُلْثُومٍ عَلَيْهِ | *** | بِعَبْرَتِهَا وَ قَدْ رَأتِ اليَقِينَا |
ألَا قُلْ لِلْخَوَارِجِ حَيْثُ كَانُوا | *** | فَلَا قَرَّتْ عُيُونُ الحَاسِدِينَا |
أ فِي الشَّهْرِ الصِّيَامِ فَجَعْتُمُونَا | *** | بِخَيْرِ النَّاسِ طُرَّاً أجْمَعِينَا |
قَتَلْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا | *** | وَ ذَلَّلَهَا وَ مَنْ رَكِبَ السَّفِينَا |
وَ مَنْ لَبِسَ النِّعَالَ وَ مَنْ حَذَاهَا | *** | وَ مَنْ قَرَأ المَثَانِي وَ المُبِينَا۱ |
وَ كُلُّ مَنَاقِبِ الخَيْرَاتِ فِيهِ | *** | وَ حُبُّ رَسُولِ رَبِّ العَالَمِينَا |
لَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ حَيْثُ كَانَتْ | *** | بِأنَّكَ خَيْرُهُمْ حَسَباً وَ دِينَا |
إذَا اسْتَقْبَلْتُ وَجْهَ أبي حُسَيْنٍ | *** | رَأيْتُ البَدْرَ فَوْقَ النَّاظِرِينَا |
وَ كُنَّا قَبْلَ مَقْتَلِهِ بِخَيْرٍ | *** | نرى مَوْلَى رَسُولِ اللهِ فِينَا٢ |
يُقِيمُ الحَقَّ لَا يَرْتَابُ فِيهِ | *** | وَ يَعْدِلُ في العِدَى وَ الأقْرَبِينَا |
وَ لَيْسَ بِكَاتِمِ عِلْماً لَدَيْهِ | *** | وَ لَمْ يُخْلَقْ مِنَ المُتَكَبِّرِينَا |
أنَّ النَّاسَ إذْ فَقَدُوا عَلِيَّاً | *** | نَعَامٌ حَارَ في بَلَدٍ سِنِينَا |
فَلَا تَشْمَتْ مُعَاوِيَةُ بْنُ صَخْرٍ | *** | فَإنَّ بَقِيَّةَ الخُلَفَاءِ فِينَا٣ |
التوسّل بآل محمّد و دعاء العهد لإمام الزمان عليه السلام
أجل، إلى هنا تمّ الجزء الثامن عشر من كتاب «معرفة الإمام» الذي يؤلّف القسم الثاني من دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة، و بهذا الجزء تنتهي دورة «معرفة الإمام».۱
للّه الحمد و له المنّة إذ وفّقني لإنجاز هذه الدورة التي بدأت في مدينة طهران سنة ألف و ثلاثمائة و إحدى و تسعين هجريّة، و ختمت في مدينة مشهد المقدّسة جوار المولى الإمام الهمام عليّ بن موسى الرضا عليه و على آبائه و أبنائه الكرام أفضل الصلوات و التحيّات من الملك الحيّ القيّوم العلّام - يوم الجمعة الثامن عشر من شهر ذي القعدة الحرام، سنة ألف و أربعمائة و أربع عشرة هجريّة، و هذا من فضله و إنعامه إنّه ذو الفضل العظيم.
و قد حاولت في هذه الدورة أن أقصر الحديث على أصل ولاية مولى الموحّدين و المسائل العامّة المرتبطة باصول الإمامة. و سيق الكلام فيها عرضاً عن سائر الأئمّة المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين. و مع أنّي لم أدّخر وسعاً و لم آل جهداً في إعداد المطالب المنقّحة الثابتة، و كنتُ أحسب أنّي أستطيع، بهذه الموضوعات الفلسفيّة العقليّة القرآنيّة النقليّة و الأدلّة التأريخيّة و غيرها من المسائل الاجتماعيّة، أن اميط اللثام
عن وجهه (وجه أمير المؤمنين عليه السلام) المتألّق و اعرّفه حقّ معرفته بَيدَ أنّي أجد أنّ ما أتيتُ به قطرةٌ من بحر و حصاةٌ من برّ، و ذرّة من شعاع شمس ساطعة. و الآن إذ تصرّم العمر و أوشكت شمس الحياة أن تأفل أشعر أنّنا لم نعرف عليّاً حقّاً و حقيقةً و لم نخبر سرّه، و لم نكتسب من منهجه و منهاجه علماً، و لم، و لم، و لم!
دور از حريم كوي تو شرمنده ماندهام | *** | شرمنده ماندهام كه چرا زنده ماندهام۱ |
صلّى الله عليك يا أبا الحسن، صلّى الله على روحك و بدنك، صلّى الله عليك و على زوجك و ذرّيّتك، صلّى الله على شيعتك و اللازمي مشيتك و منهجك!
و مع أنّنا متمرّغون في النعم الإلهيّة من أوّل العمر إلى آخره، بَيدَ أنّ جوهرتها الباقية لنا، و بها مسرورون مبتهجون مغتبطون هي حبّ هذا السيّد العظيم.
مَنَايحُ اللهِ قَدْ جَاوَزَتْ أمَلِي | *** | فَلَيْسَ يُدْرِكُهَا شُكْرِي وَ لَا عَمَلِي |
لَكِنَّ أفْضَلَهَا عِنْدِي وَ أكْمَلَهَا | *** | مَحَبَّتِي لأمِيرِ المُؤْمِنِين عَلِي٢ |
بِمُحَمَّدٍ وَ وَصِيِّهِ وَ ابْنَيْهِمَا | *** | الطَّاهِرِينَ وَ سَيِّدِ العُبَّادِ |
وَ مُحَمَّدٍ وَ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ | *** | وَ سَمِيّ مَبْعُوثٍ بِشَاطِي الوَادِي |
وَ عَلِيّ الطُّوسِيّ ثُمَّ مُحَمَّدٍ | *** | وَ عَلِيّ المَسْمُومِ ثُمَّ الهَادِي |
حَسَنٍ وَ أتْبَعُ بَعْدَهُ بِإمَامَةٍ | *** | لِلْقَائِمِ المَبْعُوثِ بِالمِرْصَادِ۱ |
اللَهُمَّ بَلِّغْ مَوْلَايَ صَاحِبَ الزَّمَانِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ عَنْ جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ وَ المُؤْمِنَاتِ في مَشَارِقِ الأرْضِ وَ مَغَارِبِهَا وَ بَرِّهَا وَ بَحْرِهَا وَ سَهْلِهَا وَ جَبَلِهَا، حَيِّهِمْ وَ مَيِّتِهِمْ وَ عَنْ وَالِدَيّ وَ وُلْدِي وَ عَنِّي مِنَ الصَّلَوَاتِ وَ التَّحِيَّاتِ زِنَةَ عَرْشِ اللهِ وَ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ وَ مُنْتَهَى رِضَاهُ وَ عَدَدَ مَا أحْصَاهُ كِتَابُهُ وَ أحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ.
اللهُمَّ أنّي اجَدِّدُ لَهُ في هَذَا اليَوْمِ وَ في كُلِّ يَوْمٍ عَهْداً وَ عَقْداً وَ بَيْعَةً في رَقْبَتِي. اللهُمَّ كَمَا شَرَّفْتَنِي بِهَذَا التَّشْرِيفِ وَ فَضَّلْتَنِي بِهَذِهِ الفَضِيلَةِ وَ خَصَصْتَنِي بِهَذِهِ النِّعْمَةِ فَصَلِّ على مَوْلَايَ وَ سَيِّدي صَاحِبِ الزَّمَانِ، وَ اجْعَلْنِي مِنْ أنْصَارِهِ وَ أشْيَاعِهِ وَ الذَّابِّينَ عَنْهُ، وَ اجْعَلْنِي مِنَ المُسْتَشْهَدِينَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ في الصَّفِّ الذي نَعَتَّ أهْلَهُ في كِتَابِكَ فَقُلْتَ: «صَفًّا كَأنَّهُم بُنْيَانٌ مرْصُوصٌ»٢ على طَاعَتِكَ وَ طَاعَةِ رَسُولِكَ وَ آلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. اللهُمَّ هَذِهِ بَيْعَةٌ لَهُ فِي عُنُقِي إلى يَوْمِ القِيَامَةِ.٣
كتبه بيمناه الداثرة عبده الراجي غُفرانه و رضوانه
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ