المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
مجموعة من البحوث التفسيريّة، والفلسفيّة، والروائيّة، والتأريخيّة والاجتماعيّة في الإمامة والولاية بشكل عامّ، وفي إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين بشكل خاصّ ؛ وذلك في هيئة دروس استدلاليّة علميّة متّخذة من القرآن الكريم والروايات الواردة عن الخاصّة والعامّة، وأبحاث حليّة ونقديّة عن الولاية .
وتضمّ هذه المجموعة 270 درساً في ثمانية عشر مجلداً. وقد جري فيها مناقشة وبحث مطالب من قبيل: العصمة، الولاية التكوينيّة، لزوم الإمام الحيّ، لزوم متابعة الأعلم، ضرورة وجود الإمام للمجتمع، معنى الولاية، شرح حجّة الوداع، شرح واقعة غدير خمّ، حديث الولاية، حديث المنزلة، شرائط القيادة، علم الغيب و...
الدَّرْسُ الحَادِي عَشَر بَعْدَ المِائَتَيْنِ إلى الدَّرْسِ الخَامِسِ وَ العِشْرِينَ بَعْدَ المِائَتَيْنِ الشِّيعَةُ هُمْ رُوَّادُ التَّصْنِيفِ وَ التَّدْوِينِ في النَّهْضَةِ الإسْلأمِيَّةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ و آلِهِ الطَّاهِرِينَ
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدِّينِ
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ ، ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ، وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ، وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ.۱
تحدّثنا بإيجاز عن هذه الآيات المباركة في الجزء الرابع عشر من كتابنا هذا، الدرس ٢۰۱، نقلًا عن تفسير «الميزان» لُاستاذنا الكبير الفقيد العلّامة الطباطبائيّ تغمّده الله في رضوانه فلا حاجة بنا هنا إلى الشرح و التفصيل فيها.
الروايات و الآثار الواردة في فضيلة الكتابة
و نورد فيما يأتي عدداً من الأحاديث و الروايات في فضيلة الكتابة و أهمّيّتها و عظمتها استهداءً بكتاب «معادن الجواهر و نزهة الخواطر» للمرحوم آية الله السيّد محسن الأمين العامليّ. يقول المرحوم الأمين:
و قد ورد في الحثّ على الكتابة و الوعد بالثواب الجزيل على فعلها كثير من الآثار. فمنه عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال: قَيِّدُوا
العِلْمَ بِالكِتَابِ.۱ و روى أنّ رجلًا من الأنصار كان يجلس إلى النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله: اسْتَعِنْ بِيَمِينِكَ! وَ أوْمَى بِيَدِهِ، أي: خُطَّ!
و في الحديث: لَا تُفَارِقِ المِحْبَرَةَ! فَإنَّ الخَيْرَ فِيهَا وَ في أهْلِهَا إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ. مَنْ مَاتَ وَ مِيرَاثُهُ المَحَابِرُ وَ الأقْلَامُ دَخَلَ الجَنَّةَ.
و عن الحسن بن عليّ عليهما السلام أنّه دعا بنيه و بني أخيه فقال: إنَّكُمْ صِغَارُ قَوْمٍ وَ يُوشِكُ أنْ تَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ آخَرِينَ، فَتَعَلَّمُوا العِلْمَ! فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ أنْ يَحْفَظَهُ فَلْيَكْتُبْهُ وَ لْيَضَعْهُ في بَيْتِهِ.
و قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: اكْتُبُوا! فإنَّكُمْ لَا تَحْفَظُونَ
حَتَّى تَكْتُبُوا. و قال عليه السلام: القَلْبُ يَتَّكِلُ عَلَى الكِتَابَةِ.
و قال عليه السلام: احْفَظُوا كُتُبَكُمْ فَإنَّكُمْ سَتَحْتَاجُونَ إلَيْهَا.
و قال عليه السلام للمفضَّل بن عمر: اكْتُبْ وَ بُثَّ عِلْمَكَ في إخْوَانِكَ، فَانْ مُتَّ فَأوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ، فَإنَّهُ يَأتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ هَرْجٌ لَا يَأنَسُونَ فِيهِ إلَّا بِكُتُبِهِمْ!
و ذكر المرحوم الأمين هنا معنى الهرج، فقال: الهرج بسكون الراء، مصدر. يقال: هَرَجَ النَّاسُ (من باب ضرب) هَرْجاً: إذا وقعوا في فتنة و اختلاط و قتل. و أصل الهرج الكثرة في الشيء و الاتّساع. و الهرج: الفتنة في آخر الزمان. و قال ابن قيس الرُّقَيَّات في فتنة ابن الزبير:
لَيْتَ شِعْرِي أ أوَّلُ الهَرْجِ هَذَا | *** | أمْ زَمَانٌ مِنْ فِتْنَةٍ غَيْرِ هَرْجِ؟! |
و المراد بالكتب في الحديثين الآخرين، الأحاديث المرويّة عنهم عليهم السلام. و قوله عليه السلام: سَتَحْتَاجُونَ إلَيْهَا، أي: لفقد من تسألونه من الأئمّة عليهم السلام من جهة شدّة التقيّة أو حصول الغيبة فينحصر أخذكم للأحكام من الكتب.
و كذا قوله عليه السلام: يأتي على الناس زمانٌ هرجٌ ... إلى آخره، أي: زمان فتنة و قتل و خوف، فلا يكون لهم مفزع في أخذ الأحكام إلّا كتبهم. و ربّما يُسْتَدَلُّ بذلك على حُجّيّة أخبار الثقات.
و قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: إنَّ المُؤْمِنَ إذَا مَاتَ وَ تَرَكَ وَرَقَةً وَاحِدَةً عَلَيْهَا عِلْمٌ كَانَتِ الوَرَقَةُ سِتْرَاً فِيمَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ النَّارِ؛۱ وَ أعْطَاهُ اللهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مدينةً أوْسَعَ مِنَ الدُّنْيَا وَ مَا فِيهَا.
وَ مَنْ جَلَسَ عِنْدَ العَالِمِ نَادَاهُ المَلِكُ: جَلَسْتَ إلَى عَبْدِي، وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي لُاسْكِنَنَّكَ الجَنَّةَ مَعَهُ وَ لَا ابَالِي.
و كفاك في هذا قول الصادق عليه السلام:
إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ جَمَعَ اللهُ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَ وُضِعَتِ المَوَازِينُ، فَيُوزَنُ دِمَاءُ الشُّهَداءِ مَعَ مِدَادِ العُلَمَاءِ، فَيُرَجَّحُ مِدَادُ العُلَمَاءِ عَلَى دِمَاءِ الشُّهَدَاءِ.۱
قال شيخنا الشهيد الثاني رضوان الله عليه: و ذلك لأنّ مداد العلماء يُنتَفَع به بعد موتهم و دماء الشهداء لا يُنتَفَع بها بعد موتهم.
و أقول: دماء الشهداء بما هي دماء لا نفع لها في حياتهم و لا بعد موتهم. و إنّما فضلها باعتبار ما يترتّب على الجهاد من نصرة الدين و إظهار الحقّ. و هذا يبقى أثره بعد الشهادة غالباً. فالوجه: أنّ ما يترتّب على كتابة العلماء لعلوم الدين من المنافع في حياتهم و بعد موتهم أعظم ممّا يترتّب على الجهاد و القتل في سبيل الله.
و عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم: إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَة، أوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ.
المراد بالصدقة الوقف في سبيل الله و بالعلم كتب العلم أو ما يشملها. و يشمل العلم الذي تعلّمه غيره منه و انتفع به الناس بعده كما يدلّ عليه بعض الأخبار الآتية.
و من كلمات الحكماء و علماء الكتابة، قالوا:
لَوْ أنَّ في الصِّنَاعَاتِ صِنَاعَةً مَعْبُودَةً لَكَانَتِ الكِتَابَةُ رَبّاً لِكُلِّ صِنَاعَةٍ.
قَيِّدُوا العِلْمَ بِالكِتَابِ.
العِلْمُ صَيْدٌ وَ الكِتَابَةُ قَيْدُهُ.
الخَطُّ لِسَانُ اليدِ.
تَسْوِيدٌ بِخَطِّ الكَاتِبِ أمْلَحُ مِنْ تَوْرِيدٍ بِخَدِّ الكَاعِبِ.
كَمْ مِنْ مَآثِرَ أثْبَتَتْهَا الأقْلَامُ فَلَمْ تَطْمَعْ في دُرُوسِهَا الأيَّامُ.
مَنْ خَدَمَ المَحَابِرَ خَدَمَتْهُ المَنَابِرُ.
و قال الشاعر:
مِدَادٌ مِثْلُ خَافِيَةِ الغُرَابِ | *** | وَ أقْلَامٌ كَمُرْهَفَةِ الحِرَابِ |
وَ قِرْطَاسٌ كَرَقْرَاقِ السَّرَابِ | *** | وَ ألْفَاظٌ كَأيَّامِ الشَّبَابِ۱ |
و روى الخطيب البغداديّ بسنده المتّصل عن الحارث، عن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: قَيِّدُوا العِلْمَ، قَيِّدُوا العِلْمَ - مَرَّتَيْن!
و كذلك روى بسنده المتّصل الآخر عن حبيب بن جرى قال: قال عليّ عليه السلام: قَيِّدُوا العِلْمَ بِالكِتَاب.
و روى أيضا بسنده الآخر عن المنذر بن ثعلبة، عن عليّ عليه السلام قال: مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي عِلْماً بِدِرْهَمٍ؟! قال أبو خيثمة: يقول: يَشْتَرِي صَحِيفةً بِدِرْهَمٍ يَكْتُبُ فِيهَا العِلْمَ.
روى بسنده الآخر أيضاً عن داود بن عبد الجبّار، عن أبي إسحاق الهمدانيّ، عن الحارث، عن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: مَنْ
يَشْتَري مِنِّي عِلْماً بِدِرْهَمٍ؟! قالَ: فَذَهَبْتُ فَاشْتَريْتُ صُحُفاً بِدِرْهَمٍ۱ ثُمَّ جِئْتُ بِهَا.٢
قال المستشار عبد الحليم الجنديّ: و في حياة النبيّ أو حياة عليّ، اقتدت بعليّ شيعته في التدوين. أو قُل: هُدِيَتْ لتنفيذ أمر الرسول.
أسماء الشيعة من التابعين الذين دوّنوا كتاباً
يقول ابن شهرآشوب: أوّل من صنّف في الإسلام عليّ بن أبي طالب. ثمّ سلمان الفارسيّ، ثمّ أبو ذرّ. و الاثنان شيعة عليّ.٣
و السيوطيّ يروي أنّ عليّاً، و الحسن بن عليّ ممّن أبا حوا كتابة العلم بين الصحابة و فعلوها.
و ألّف أبو رافع مولى الرسول، و صاحب بيت مال عليّ بالكوفة كتاب «السُّنن و الأحكام و القضايا». يقول موسى بن عبد الله بن الحسن: سأل أبي رجل عن التشهّد، فقال أبي: هات كتاب أبي رافع. فأخرجه فأملاه علينا.
أمّا عليّ بن أبي رافع فكتب كتاباً في فنون الفقه على مذهب أهل البيت - أي: آراء عليّ بن أبي طالب - و كانوا يعظّمون شأن هذا الكتاب و يحملون شيعتهم عليه.
و من الشيعة زيد الجهضميّ. حارب مع عليّ و ألّف كتاباً يحوي خطبه. و منهم: ربيعة بن سُمَيع له كتاب في زكاة النعم. و منهم عبد الله بن الحرّ الفارسيّ، له لمعة في الحديث جمعها في عهد رسول الله. و منهم الأصبغ بن نُباتة صاحب عليّ. روى عنه عهده إلى الأشتر النخعيّ، و وصيّته إلى ابنه محمّد ابن الحنفيّة.
و منهم: سُليم بن قيس الهلاليّ صاحب أمير المؤمنين، له كتاب في الإمامة، و له مكانة عُليا في المذهب من حيث الاصول. إلى أن قال: و من قبل الإمام الباقر وجدت عند الإمام زين العابدين الصحيفة المسمّاة «الصحيفة الكاملة». و عن زين العابدين آلت إلى الشيعة رسائل عدّة منها «رسالة الحقوق»، و رسالة إلى ابن شهاب الزهريّ.۱
و كذلك ألّف عمرو بن أبي المقدام جامعاً في الفقه يرويه عن الإمام زين العابدين. فلمّا صارت الإمامة للصادق، حضّ على تدوين العلم أيّاً كان موضوعه، دينيّاً أو دنيويّاً، فقه عبادات أو معاملات أو علوماً تطبيقيّة. و كان يقول: القَلْبُ يَتَّكِلُ عَلَى الكِتَابَةِ.
و كان يملي على تلاميذه. و يجيئهم بالدواة و القرطاس. و يقول: اكْتُبُوا فَإنَّكُمْ لَا تَحْفَظُونَ حتى تَكْتُبُوا.
و يلتمس سفيان الثوريّ إليه أن يحدّثه بحديث خطبة الرسول بمسجد الخيف. و يرجوه ليأمر له بقرطاس و دواة ليثبته، فيأمر له، ثمّ يمليه: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. خُطْبَةُ رَسُولِ اللهِ في مَسْجِدِ الخَيْفِ. نَضَّرَ اللهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا. وَ بَلَّغَهَا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ!
يَا أيُّهَا النَّاسُ! لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ. وَ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أفْقَهُ مِنْهُ.
و كتب عبد الله الحلبيّ كتاباً عرضه على الصادق فصحّحه و استحسنه. و سنرى حفيده الإمام العسكريّ يعرض عليه يونس بن عبد الرحمن كتاب «يوم و ليلة» فيصحّحه و يأمر بالعمل به.
و لمّا غاب المهديّ في النصف الثاني من القرن الثالث أحوجت الغيبة إلى الرجوع للمدوّنات التي تزخر بها خزائن الشيعة، إذ لم يكن لديهم إمامٌ ظاهر يسألونه. و كثرت الكتابة عندهم في القرن الرابع.۱
قال المرحوم آية الله السيّد حسن الصدر في كتاب «الشيعة و فنون
الإسلام»: الصَّحِيفَةُ الثَّالِثَةُ: في أوَّلِ مِنْ صَنَّفَ الآثَارَ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ مِنَ الشِّيعَةِ.
صنّف هؤلاء في عصر واحد. لا ندري أيّهم السابق في ذلك. و هم:
عَلِيّ بْنُ أبِي رَافِعٍ
صاحب أمير المؤمنين عليه السلام، و خازن بيت ماله، و كاتبه.
قال النجاشيّ في كتابه في أسماء الطبقة الأولى من المصنّفين من أصحابنا عند ذكره: تابعي من خيار الشيعة. كانت له صحبة من أمير المؤمنين، و كان كاتباً له، و حفظ كثيراً، و جمع كتاباً في فنون من الفقه: الوضوء، و الصلاة، و سائر الأبواب. ثمّ أوصل إسناده إلى روايته.۱ و لأخيه:
عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أبِي رَافِعٍ
كاتب أمير المؤمنين عليه السلام، [له] كتاب «قضايا أمير المؤمنين عليه السلام»، وَ كِتَابُ «تَسْمِيَةُ مَنْ شَهِدَ مَعَ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الجَمَلَ وَ صِفِّينَ وَ النَّهْرَوَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ» كما في فهرست الشيخ أبي جعفر الطوسيّ قدّس سرّه.
و في تقريب ابن حجر كان كاتب عليّ، و هو ثقة من الثالثة.٢
أصْبَغُ بْنُ نُبَاتَةَ المُجَاشِعِيُ
من خاصّة أمير المؤمنين عليه السلام، و عَمَّرَ بعده. روى عنه عهده للأشتر. قال النجاشيّ: و هو كتاب معروف. و وصيّته إلى ابنه محمّد ابن الحنفيّة. و زاد الشيخ أبو جعفر الطوسيّ في «الفهرست»: إنّ له كتاب مقتل الحسين بن عليّ عليهما السلام، رواه عنه الدَّوْرِيّ.۱
سُلَيْمُ بْنُ قَيْسٍ الهِلَالِيُ
أبو صادق، صاحب أمير المؤمنين عليه السلام، له كتاب جليل عظيم. روى فيه عن عليّ، و سلمان الفارسيّ، و أبي ذرّ الغفاريّ، و المقداد، و عمّار بن ياسر، و جماعة من كبار الصحابة.
قال الشيخ الإمام أبو عبد الله النعمانيّ المتقدّم ذكره في أئمّة التفسير، في كتابه في الغيبة، بعد نقل حديث من «كتاب سُليم بن قيس»، ما نصّه: و ليس بين جميع الشيعة ممّن حمل العلم و رواه عن الأئمّة خلاف في أنّ «كتاب سُليم بن قيس الهلاليّ» أصل من كتب الاصول التي رواها أهل العلم و حملة حديث أهل البيت و أقدمها ... إلى أن قال: و هو من الاصول التي ترجع الشيعة إليها، و تعوّل عليها - انتهى.
و مات سُليم بن قيس في أوّل إمارة الحجّاج بن يوسف بالكوفة.
مِيثَمُ بْنُ يحيى أبُو صَالِحِ التَّمَّار
من خواصّ أمير المؤمنين عليه السلام، و صاحب سرّه. له كتاب في
الحديث جليل. أكثر النقل عنه الشيخ أبو جعفر الطوسيّ، و الشيخ أبو عمرو الكشّيّ، و الطبريّ في «بشارة المصطفي». مات ميثم بالكوفة. قتله عبيد الله بن زياد على التشيّع.۱
مُحَمَّدُ بْنُ قَيْسٍ البَجَلِيُ
له كتاب يرويه عن أمير المؤمنين عليه السلام. ذكره الشيوخ في التابعين من الشيعة، و رووا كتابه. و أسند الشيخ أبو جعفر الطوسيّ في «الفهرست» عن عبيد بن محمّد بن قيس، قال: عرضنا هذا الكتاب على أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عليه السلام فقال: هذا قول عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و أوّل الكتاب: كَانَ يَقُولُ: إذَا صلى قَالَ في أوَّلِ الصَّلَاةِ - إلى آخر الكتاب.٢
يَعْلَى بْنُ مُرَّةِ
له نسخة يرويها عن أمير المؤمنين عليه السلام. و النجاشيّ في «الفهرست» أوصل إسناده إلى رواية النسخة عنه.٣
عُبَيْدُ اللهِ بْنُ الحُرِّ الجُعْفِيّ الكُوفِيّ
التابعيّ، الشاعر، الفارس، الفاتك. له نسخة يرويها عن أمير
المؤمنين عليه السلام. و مات أيّام المختار. ذكره النجاشيّ في الطبقة الأولى من المصنّفين في الشيعة.۱
رَبِيعَةُ بْنُ سُمَيْعٍ
له كتاب في زكاة النعم. ذكره النجاشيّ في الطبقة الأولى من الشيعة المصنِّفين، و أنّه من كبار التابعين.٢
الحَارِثُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الأعْوَر الهَمْدَانِيُ
أبو زهير، صاحب أمير المؤمنين عليه السلام، له كتاب يروي فيه المسائل التي أخبر بها أميرُ المؤمنين عليه السلام اليهوديّ. يرويها عمرو ابن أبي المقدام، عن أبي إسحاق السبيعيّ، عن الحارث الهمدانيّ، عن أمير المؤمنين عليه السلام، كما في فهرست الشيخ أبي جعفر الطوسيّ. مات في خلافة ابن الزبير هذا.٣
و ذكر المرحوم السيّد حسن الصدر هذه الموضوعات في كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» بنحو أكثر تفصيلًا، كما أشرنا في
الهوامش.۱
و من الجدير ذكره أنّ لعليّ بن أبي رافع مقاماً و منزلة عظيمة في تدوين الفقه عند الشيعة حتى أنّهم كانوا يعملون بكتابه. و بإيجاز كانوا يحترمونه كرسالة عمليّة من رسائل الفقهاء.
و كان آية الله السيّد حسن الصدر يذكره في مواضع كثيرة كما رأينا. و أورد في الفصل الثالث الخاص بتقدّم الشيعة في علم الفقه، من كتابه الجليل المشار إليه سلفاً أنّ الصحيفة الأولى المتعلّقة بأوّل مصنِّف و مدوِّن و مرتِّب للفقه على أبوابه هي لعليّ بن أبي رافع دون غيره.
و قال بعد ترجمته: و جمع كتاباً في فنون الفقه الوضوء و الصلاة و سائر الأبواب. تفقّه على أمير المؤمنين عليه السلام، و جمعه في أيّامه. أوّله (باب الوضوء»: إذَا تَوَضَّأ أحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأ بِاليَمِينِ قَبْلَ الشِّمَالِ مِنْ جَسَدِهِ.
قال النجاشيّ: و كانوا [الشيعة] يعظّمون هذا الكتاب. فهو أوّل من صنّف فيه من الشيعة.
و ذكر جلال الدين السيوطيّ أنّ أوّل من صنّف - يعني من أهل السنّة - في الفقه الإمام أبو حنيفة. لأنّ تصنيف عليّ بن أبي رافع في ذلك أيّام أمير المؤمنين عليه السلام قبل تولّد الإمام أبي حنيفة بزمان طويل. بل صنّف في الفقه قبل أبي حنيفة جماعة من فقهاء الشيعة كالقاسم بن محمّد ابن أبي بكر التابعيّ، و سعيد بن المُسَيِّب الفقيه القرشيّ المدنيّ أحد الفقهاء الستّة المتوفّى سنة ٩٤ هـ، و كانت ولادته أيّام خلافة عمر بن الخطّاب. و القاسم بن محمّد بن أبي بكر مات سنة ستّ و مائة على الصحيح.
قرابة الإمام الصادق عليه السلام من القاسم بن محمّد بن أبي بكر
و كان جدّ
مولانا الصادق عليه السلام لُامّة أمّ فروة ابنة القاسم. و كان تزوّج ابنة الإمام زين العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام. ۱
...۱
وَ حُزْنَا عَتِيقاً وَ هُوَ غَايَةُ فَخْرِكُم | *** | بِمَوْلِدِ بِنْتِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ |
(أقوال العلاء فيه) | *** | (ما قاله علماء الشيعة) |
و ذكر عبد الله الحميريّ في كتابه «قرب الإسناد» ما لفظه: ذُكر عند الرضا عليه السلام القاسم بن محمّد بن أبي بكر، و سعيد بن المسيِّب، فقال: كَانَا عَلَى هَذَا الأمْرِ - يعني التشيّع.
و حكى الكلينيّ في «الكافي» في باب مولد أبي عبد الله الصادق عن يحيى بن جرير قال: قال أبو عبد الله الصادق: كان سعيد بن المسيِّب، و القاسم بن محمّد بن أبي بكر، و أبو خالد الكابليّ من ثقات عليّ بن الحسين. و في حديث: إنّهما من حواري عليّ بن الحسين عليه السلام.۱
و قال المرحوم الصدر في «تأسيس الشيعة ...» أيضاً بعد شرح يدور حول أوّل تصنيف فقهيّ لعليّ بن أبي رافع في الإسلام: ... و حينئذٍ فقد وهم الجلال السيوطيّ في قوله في كتاب «الأوائل»: «إنّ أوّل من صنّف في الفقه الإمام أبو حنيفة»، فانّ تولّده كان سنة مائة من الهجرة، و مات سنة خمسين و مائة، فكيف يكون أوّل من صنّف فيه؟ اللهمّ إلّا أن يريد أوّل من صنّف فيه من علماء أهل السنّة كما هو الظاهر، فلا ينافي حينئذٍ ما ذكرناه من تقدّم الشيعة في ذلك.٢
«الصحيفة السجّاديّة الكاملة» إنجيل أهل البيت، زبور آل محمّد
قال ابن شهرآشوب في «معالم العلماء» في ترجمة يحيى بن عليّ بن محمّد الحسينيّ الرقّيّ: يروي عن الصادق عليه السلام الدعاء المعروف بـ «إنجيل أهل البيت عليهم السلام».٣ و قال: دعاء الصحيفة و يُلقّب بـ «زبور
آل محمّد عليهم السلام».۱ و وصفها بالكاملة لكمالها فيما الّفت له، أو لكمال مؤلّفها على حدّ:
كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الجَمِيلِ جَمِيلُ
(٥٦) رَبِّ صَلِّ عَلَى أطَايِبِ أهْلِ بَيْتِهِ الَّذِينَ اخْتَرْتَهُمْ لأمْرِكَ، وَ جَعَلْتَهُمْ خَزَنَةَ عِلْمِكَ، وَ حَفَظَةَ دِينِكَ، وَ خُلَفَاءَكَ في أرْضِكَ، وَ حُجَجَكَ عَلَى عِبَادِكَ، وَ طَهَّرْتَهُمْ مِنَ الرِّجْسِ وَ الدَّنَسِ تَطْهِيراً بِإرادَتِك، وَ جَعَلْتَهُمُ الوَسِيلَةَ إلَيْكَ، وَ المَسْلَكَ إلَى جَنَّتِكَ.
(٥۷) رَبِّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ صَلَاةً تُجْزِلُ لَهُمْ بِهَا مِنْ نِحَلِكَ وَ كَرَامَتِكَ، وَ تُكْمِلُ لَهُمُ الأشْيَاءَ مِنْ عَطَايَاكَ وَ نَوَافِلِكَ، وَ تُوَفِّرُ عَلَيْهِمُ الحَظَّ مِنْ عَوَائِدِكَ وَ فَوَائِدِكَ.
(٥۸) رَبِّ صَلِّ عَلَيْهِ وَ عَلَيْهِمْ صَلَاةً لَا أمَدَ في أوَّلِهَا، وَ لَا غَايَةَ لأمَدِهَا، وَ لَا نِهَايَةَ لآخِرِهَا.
(٥٩) رَبِّ صَلِّ عَلَيْهِمْ زِنَةَ عَرْشِكَ وَ مَا دُونَهُ، وَ مِلء سَمَاوَاتِكَ وَ مَا
«فَوْقَهُنَّ، وَ عَدَدَ أرَضِيكَ وَ مَا تَحْتَهُنَّ وَ مَا بَيْنَهُنَّ، صَلَاةً تُقَرِّبُهُمْ مِنْكَ زُلْفَى، وَ تَكُونُ لَكَ وَ لَهُمْ رِضى، وَ مُتَّصِلَةً بِنَظَائِرِهِنَّ أبَداً.
(٦۰) اللَهُمَّ إنَّكَ أيَّدْتَ دِينَكَ في كُلِّ أوَانٍ بِإمَامٍ أقَمْتَهُ عَلَماً لِعِبَادِكَ، وَ مَنَاراً في بِلَادِكَ بَعْدَ أنْ وَصَلْتَ حَبْلَهُ بِحَبْلِكَ، وَ جَعَلْتَهُ الذَّرِيعَةَ إلَى رِضوَانِكَ، وَ افْتَرَضْتَ طَاعَتَهُ، وَ حَذَّرْتَ مَعْصِيَتَهُ، وَ أمَرْتَ بِامْتِثَالِ أوَامِرِهِ، وَ الانْتِهَاءِ عِنْدَ نَهْيِهِ، وَ ألَّا يَتَقَدَّمَهُ مُتَقَدِّمٌ، وَ لَا يَتَأخَّرَ عَنْهُ مُتَأخِّرٌ. فَهُوَ عِصْمَةُ اللَّائِذِينَ، وَ كَهْفُ المُؤْمِنِينَ، وَ عُرْوَةُ المُتَمَسِّكِينَ، وَ بَهَاءُ العَالَمِينَ.
(٦۱) اللَهُمَّ فَأوْزِعْ لِوَلِيِّكَ شُكْرَ مَا أنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْهِ، وَ أوْزِعْنَا مِثْلَهُ فِيهِ، وَ آتِهِ مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً، وَ افْتَحْ لَهُ فَتْحاً يَسِيراً، وَ أعِنْهُ بِرُكْنِكَ الأعَزِّ، وَ اشْدُدْ أزْرَهُ، وَ قَوِّ عَضُدَهُ، وَ رَاعِهِ بِعَيْنِكَ، وَ احْمِهِ بِحِفْظِكَ، وَ انْصُرْهُ بِمَلَائِكَتِكَ، وَ امْدُدْهُ بِجُنْدِكَ الأغْلَبِ.
(٦٢) وَ أقِمْ بِهِ كِتَابَكَ وَ حُدُودَكَ وَ شَرَائِعَكَ وَ سُنَنَ رَسُولِكَ صَلَوَاتُكَ اللَهُمَّ عَلَيْهِ وَ عَلَى آلِهِ، وَ أحْي بِهِ مَا أمَاتَهُ الظَّالِمُونَ مِنْ مَعَالِمِ دِينِكَ، وَ اجْلُ بِهِ صَدَاءَ الجَوْرِ عَنْ طَرِيقَتِكَ، وَ ابْنِ بِهِ الضَّرَّاءَ مِنْ سَبِيلِكَ، وَ أزِلْ بِهِ النَّاكِبِينَ عَنْ صِرَاطِكَ، وَ امْحَقْ بِهِ بُغَاةَ قَصْدِكَ عِوَجاً.
(٦٣) وَ ألِنْ جَانِبَهُ لأوْلِيَائِكَ، وَ ابْسُطْ يَدَهُ عَلَى أعْدَائِكَ، وَ هَبْ لَنَا رَأفَتَهُ وَ رَحْمَتَهُ وَ تَعَطُّفَهُ وَ تَحَنُّنَهُ، وَ اجْعَلْنَا لَهُ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، وَ في رِضَاهُ سَاعِينَ، وَ إلَى نُصْرَتِهِ وَ المُدَافَعَةِ عَنْهُ مُكْنِفِينَ، وَ إلَيكَ وَ إلَى رَسُولِكَ صَلَوَاتُكَ اللَهُمَّ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِذَلِكَ مُتَقَرِّبِينَ.
(٦٤) اللَهُمَّ وَ صَلِّ عَلَى أوْلِيَائِهِمُ المُعْتَرِفِينَ بِمَقَامِهِمْ، المُتَّبِعِينَ مَنْهَجَهُمْ، المُقْتَفِينَ آثَارَهُمْ، المُسْتَمْسِكِينَ بِعُروَتِهِمْ، المُتَمَسِّكِينَ بِوِلَايَتِهِمْ، المُؤتَمِّين بِإمَامَتِهِمْ، المُسَلِّمِينَ لأمْرهِمْ، المُجْتَهِدِينَ في طَاعَتِهِمْ، المُنْتَظِرِينَ أيَّامَهُمْ، المَادِّينَ إلَيْهِمْ أعْيُنَهُمْ، صَّلَوَاتِ المُبَارِكَاتِ
الزَّاكِيَاتِ النَّامِيَاتِ الغَادِيَاتِ الرَّائِحَات.
(٦٥) وَ سَلِّمْ عَلَيْهِمْ وَ عَلَى أرْوَاحِهِمْ، وَ اجْمَعْ عَلَى التَّقْوَى أمْرَهُمْ، وَ أصْلِحْ لَهُمْ شُئونَهُمْ، وَ تُبْ عَلَيْهِمْ إنَّكَ أنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَ خَيْرُ الغَافِرِينَ، وَ اجْعَلْنَا مَعَهُمْ في دَارِ السَّلَامِ بِرَحْمَتِكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.۱
أجل، لمّا كان كلامنا في هذه العُجالة يدور حول «الصحيفة السجّاديّة الإلهيّة الكاملة» التي أنشأها و أملاها إمامنا الهُمام سيّد العابدين و زين الساجدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم أفضل الصلاة و أتمّ التحيّة و الإكرام.٢ فلم أجد كلاماً يأخذ بالأعناق و يملك القلوب
وَ إنَّ غُلاماً بَيْنَ كِسْرَى وَ هَاشِمٍ | *** | لأكْرَمُ مَنْ نِيطَتْ عَلَيْهِ التَّمائِمُ |
نبذة من سيرة الإمام السجّاد عليه السلام
أفضل من الكلام الوارد في هذه الفقرات الدعائيّة التي أنشأها الإمام عليه
السلام يوم عرفة مبتهلًا بها إلى الله تعالى. و لم أجد ما قاله العلماء و الادباء و الشعراء و المؤرّخون و المفسّرون و الحكماء الأجلّاء و العرفاء ذوي العزّة و الاعتبار منذ عصر الإمام حتى الآن كهذا الكلام الذي يناسب كثيراً كتابنا الحالى الدائر حول الإمامة و الإمام، و الخلافة و الخليفة، و الولاية و الوليّ.
و على الرغم من أنّ البحث في «معرفة الإمام» و تعريف حقيقته و ولايته التي ترشّحت من أعماقه على شكل عبائر دعائيّة لا تنحصر بهذا الدعاء و فقراته،۱ بيد أنّا إذا لاحظنا هذا المقدار المذكور يستبين لنا كيف أماط الإمام عليه السلام اللثام عن حقيقة الإمامة و الخلافة، و كيف بيّن مكانتها، و واجب الامّة حيالها، و لزوم وجود الإمام في كلّ عصر و زمان! و يتسنّى لنا أن نستنتج و نستخرج و نستنبط جميع مضامين الأدعية و الزيارات التي ذكرها الأئمّة عليهم السلام، و أبواب التوحيد و الولاية المذكورة في هذه الأخبار مفصّلًا من هذه الفقرات القصيرة المختصرة. و نجعلها في الحقيقة مصدراً و ينبوعاً رائقاً سلسالًا نتمثّله في كلمات الإمام الباقر، و الإمام الصادق، و الإمام الرضا، و سائر الأئمّة عليهم السلام. و نأخذ
منها الاحتجاجات و الاستشهادات و الشروح المفصّلة الدائرة حول مقام الوحدة الإلهيّة، و النبوّة المصطفويّة و الولاية المرتضويّة حتى الإمام الحجّة ابن الحسن العسكريّ أرواحنا فداه.
و يواصل الإمام عليه السلام حديثه أيضاً في هذا الدعاء المنيف، إلى أن يقول:
وَ إنِّي وَ إنْ لَمْ اقَدِّمْ مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ فَقَدْ قَدَّمْتُ تُوحِيدَكَ وَ نَفْيَ الأضْدادِ وَ الأندادِ وَ الأشْباهِ عَنْكَ، وَ أتَيْتُكَ مِنَ الأبْوَابِ التي أمَرْتَ أنْ يُؤْتَى مِنْهَا، و تَقَرَّبْتُ إلَيْكَ بِمَا لَا يَقْرُبُ أحَدٌ مِنْكَ إلَّا بِالتَّقَرُّبِ بِهِ.
ثُمَّ أتْبَعْتُ ذَلِكَ بِالإنَابَةِ إلَيْكَ، وَ التَّذَلُّلِ وَ الاسْتِكَانَةِ لَكَ، وَ حُسْنَ الظَّنِّ بِكَ، وَ الثَّقَةِ بِمَا عِنْدَكَ، وَ شَفَعْتُهُ بِرَجَائِكَ الذي قَلَّ مَا يَخِيبُ عَلَيْهِ رَاجِيكَ.۱
و يستمرّ الإمام عليه السلام في دعائه على هذا المنوال، إلى أن يقول:
بِحَقِّ مَنِ انْتَجَبْتَ مِنْ خَلْقِكَ، وَ بِمَنِ اصْطَفَيْتَهُ لِنَفْسِكَ!
بِحَقِّ مَنِ اخْتَرْتَ مِنْ بَرِيَّتِكَ وَ مَنِ اجْتَبيتَ لِشَأنِكَ!
بِحَقِّ مَنْ وَصَلْتَ طَاعَتَهُ بِطَاعَتِكَ، وَ مَنْ جَعَلْتَ مَعْصِيَتَهُ كَمَعْصِيَتِكَ!
بِحَقِّ مَنْ قَرَنْتَ مُوالاتَهُ بِمُوالاتِكَ، وَ مَنْ نُطْتَ مُعَادَاتَهُ بِمَعَادَاتِكَ؛ تَغَمَّدْنِي في يَوْمِي هَذَا بِمَا تَتَغَمَّدُ بِهِ مَنْ جَأرَ إلَيْكَ مُتَنَصِّلًا، وَ عَاذَ بِاسْتِغْفَارِكَ تَائِباً!٢
أهمّيّة الصحيفة السجّاديّة
هذا نموذج من «الصحيفة السجّاديّة الكاملة» التي تدهش أولى الألباب، و تدفع النابهين إلى التأمّل و التفكير، و تستتبع الحكماء العلماء،
و ترغم العلماء ذوي الدراية على قبولها، و ترغم العارفين من أصحاب الفكر الوقّاد على أن يخضعوا و يخشعوا أمام هذه التعاليم العظيمة.
حتّى نجد أنّ ذلك الرجل الجليل الحكيم المتألّه الفقيه الخبير الشاعر المفلق الأديب الضليع الجامع للكمالات الحسنة كلّها، آية الله المرحوم السيّد على خان المدنيّ الشيرازيّ الكبير تغمّده الله برضوانه قد كتب عليها شرحاً عظيماً برهن فيه على حاجة أولى الفضل و العلم إليها، و كأنّ حقّها لم يُوَفَّ بدونه، و كأنّها لم تظهر لأرباب الأدب و العرفان بغيره. و كان لعلماء باحثين آخرين جهود مشكورة في رحابها كالملّا محمّد محسن المعروف بالفيض الكاشانيّ، إذ كتب تعليقة عليها، و الشيخ بهاء الدين العامليّ، و السيّد محمّد باقر الداماد المعروف بالميرداماد، إذ لهما شروح ممتعة مفيدة عليها. هذا ما عدا الشروح الاخرى التي نهض بأعبائها بعض الأعلام أخيراً كآية الله المدرّسيّ الجهاردهيّ، و آية الله الميرزا أبي الحسن الشعرانيّ الذي كتب تعليقة عليها.
كلام الجوهريّ الطنطاويّ حول «الصحيفة»
قال آية الله أبو المعالى السيّد شهاب الدين المرعشيّ النجفيّ رضوان الله عليه: و إنّي في سنة ۱٣٥٣ بعثت نسخة من الصحيفة الشريفة إلى العلّامة المعاصر الشيخ الجوهريّ الطنطاويّ - صاحب التفسير المعروف مفتي الإسكندريّة - ليطالعها. فكتب إليّ من القاهرة وصول الصحيفة، و شكرني على هذه الهديّة السنيّة؛ و أطرى في مدحها و الثناء عليها، إلى أن قال:
وَ مِنَ الشَّقَاءِ أنَّا إلى الآن لَمْ نَقِفْ عَلَى هَذَا الأثَرِ القَيِّمِ الخَالِدِ مِنْ مَوَارِيثِ النُّبُوَّةِ وَ أهْلِ البَيْتِ.
و إنّي كلّما تأمَّلتها رأيتها فَوْقَ كَلَامِ المَخْلُوقِ وَ دُونَ كَلَامِ الخَالِقِ-
إلى آخر ما قال.۱
كلام السيّد على خان المدنيّ الكبير حول «الصحيفة»
قال المحقّق العليم و الحكيم الخبير السيّد على خان الكبير.۱ قدّس
سَفَرَتْ امَيْمَةُ لَيْلَةَ النَّفْر | *** | كَالبَدْرِ أوْ أبْهَى مِنَ البَدْرِ |
أمير المؤمنين فدتك نفسي | *** | لنا من شأنك العجب العجاب |
يا صاحِ هذا المشهد الأقدس | *** | قرّتْ به الأعينُ و الأنفسُ |
سرّه في «رياض السالكين»، في التعريف بـ «الصحيفة السجّاديّة الكاملة»:
وَ اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الصَّحِيفَةَ الشَّرِيفَةَ عَلَيْهَا مَسْحَةٌ مِنَ العِلْمِ الإلَهِيّ، وَ فِيهَا عَبْقَةٌ مِنَ الكَلَامِ النَّبَوِيّ. كَيْفَ لَا، وَ هي قَبَسٌ مِنْ نُورِ مِشْكَاةِ الرِّسَالَةِ، وَ نَفْحَةٌ مِنْ شَمِيمِ رِيَاضِ الإمَامَةِ، حتى قَالَ بَعْضُ العَارِفِينَ: إنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى التَّنْزِيلَاتِ السَّمَاوِيَّةِ، وَ تَسِيرُ مَسِيرَ الصُّحُفِ اللَّوْحِيَّةِ وَ العَرْشِيَّةِ، لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ أنْوَارِ حَقَائِقِ المَعْرِفَةِ وَ ثِمَارِ حَدَائِقِ الحِكْمَةِ. وَ كَانَ أخْيَارُ العُلَمَاءِ وَ جَهَابِذُ القُدَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ يُلَقِّبُونَهَا بِزَبُورِ آلِ مُحَمَّدٍ وَ إنْجِيلِ أهْلِ البَيْتِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
قَالَ الشَّيْخُ الجَلِيلُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ شهرآشُوب في «مَعَالِمِ العُلَمَاءِ» في تَرْجَمَةِ المُتَوَكِّلِ بْنِ عُمَيْرٍ: روى عَنْ يحيى بْنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ «دُعَاءَ الصَّحِيفَةِ» وَ تَلَقَّبَ بِزَبُورِ آلِ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ - انتهى.
وَ أمَّا بَلَاغَةُ بَيَانِهَا وَ بَرَاعَةُ تِبْيَانِهَا فَعِنْدَهَا تَسْجُدُ سَحَرَةُ الكَلَامِ، وَ تَذْعَنُ بِالعَجْزِ عَنْهَا مَدَارَةُ۱ الأعْلَامِ، وَ تَعْتَرِفُ بِأنَّ النُّبُوَّةَ غَيْرُ الكِهَانَةِ وَ لَا يَسْتَوِي الحَقُّ وَ البَاطِلُ في المَكَانَةِ؛ وَ مَنْ حَامَ حَوْلَ سَمَائِهَا بِغَاسِقِ فِكْرِهِ الوَاقِبِ رُميَ مِنْ رُجُومِ الخِذْلانِ بِشِهَابٍ ثَاقِبٍ.
حَكَى ابْنُ شهرآشُوب في «مَنَاقِبِ آلِ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ» أنَّ بَعْضَ البُلَغَاءِ بِالبَصْرَةِ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ «الصَّحِيفَةُ الكَامِلَةُ»، فَقَالَ: خُذُوا عَنِّي حتى امْلِي عَلَيْكُمْ مِثْلَهَا، فَأخَذَ القَلَمَ وَ أطْرَقَ رَأسَهُ فَمَا رَفَعَهُ حتى مَاتَ. وَ لَعَمْرِي لَقَدْ رَامَ شَطَطاً فَنَالَ سَخَطاً.٢
و نقل المحدّث القمّيّ رحمه الله أنّ «الصحيفة» لُقِّبت بـ «إنجيل أهل البيت» و «زبور آل محمّد عليهم السلام». و تُدعى «أخت القرآن». و ذكر قصّة العالم البصريّ و موته عند عجزه عن الإتيان بمثلها. ثمّ قال: قال السيّد محمّد بن عليّ بن حيدر الموسويّ في كتاب «تنبيه وَسَنِ العين» في حقّ «الصحيفة الكاملة»: هي المشهورة الكثيرة الوجود بأيدي الناس وَ فِيهَا مِنَ البَلَاغَةِ وَ الإخْبَاتِ۱ مَا يَقَعُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ بِمَا يُقَارِبُهُ إلياسُ.
و ترويها الزيديّة و الإماميّة عن رِجالهم. و قد ذكر ابن حمدون النديم في تذكرته العظيمة الشهيرة بين العلماء و الادباء من أهل السُّنّة و غيرهم بعض أدعيتها.
نقل ابن النديم، و عبد الرحمن المرشديّ بعض أدعية «الصحيفة»
و نقل منها دعاء رؤية الهلال الشيخ عبد الرحمن المرشديّ في مصنّفه الذي سمّاه «براعة الاستهلال» - انتهى كلام صاحب «تنبيه وسَنِ العين».
قال المحدّث القمّيّ هنا: ابن حمدون النديم هو محمّد بن الحسن البغداديّ الكاتب المتوفّى سنة ٥٦٣ أو ٦۰۸. و عبد الرحمن المرشديّ هو ابن عيسى الحنفيّ المفتي بمكّة المقتول سنة ٢. ۰٣۷٢
قال ابن شهرآشوب: قال الغزاليّ: أوّل كتاب صنّف في الإسلام كتاب ابن جُرَيح في الآثار، و «حروف التفاسير» عن مجاهد، و عطاء بمكّة، ثمّ كتاب معمر بن راشد الصنعانيّ باليمن، ثمّ كتاب «المُوَطَّأ» بالمدينة لمالك بن أنس، ثمّ جامع سفيان الثوريّ.
بل الصحيح أنّ أوّل من صنّف فيه أمير المؤمنين عليه السلام، جمع
كتاب الله جلّ جلاله، ثمّ سلمان الفارسيّ رضي الله عنه، ثمّ أبو ذرّ الغفاريّ رحمه الله، ثمّ الأصبغ بن نُباتة، ثمّ عبيد الله بن أبي رافع، ثمّ «الصحيفة الكاملة» عن زين العابدين عليه السلام.
و قال الشيخ المفيد أبو عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان البغداديّ رضي الله عنه و قدّس روحه: صنّف الإماميّة من عهد أمير المؤمنين عليّ عليه السلام إلى عهد أبي محمّد العسكريّ صلوات الله عليه أربعمائة كتاب تسمّى «الاصول [الأربعمائة]» و هذا معنى قولهم: أصل.۱
و قال السيّد حسن الصدر: الطبقة الثانية من المصنّفين:
الإمامُ السَّجَّادُ عَلِيّ بْنُ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ
أوّلهم إمامهم السجّاد عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، زين العابدين. له «الصحيفة الكاملة» الموصوفة بـ «زبور آل محمّد»، يرويها عنه الإمام أبو جعفر الباقر، و زيد الشهيد.
و نقل المرحوم الصدر هنا صدر الموضوع الذي أوردناه عن ابن شهرآشوب.٢ ثمّ قال: و هي من المتواترات مثل القرآن عند كلّ فرق الإسلام، و بها يفتخرون. و كانت وفاته سنة خمس و تسعين.٣
أجل، كانت قراءة الأدعية الكاملة لـ «الصحيفة السجّاديّة» و تلاوتها و ممارستها و مزاولتها اموراً معلومة معروفة بين العلماء الأعلام و السابقين الذين قرنوا العلم بالعمل و التخشّع و الابتهال و اجتناب هوى النفس الأمّارة.
و كانت تُعدّ ضروريّة لازمة عند الحكماء و الفلاسفة الأجلّة و عرفاء الإسلام العظام، بحيث إنّهم كانوا يرون ملازمة «الصحيفة» كملازمة القرآن العظيم، و حفظ أدعيتها كحفظ سوره و آياته، و يعدّون ذلك من فرائضهم و واجباتهم. و لم يكتفوا بقراءة الأدعية قراءة سطحيّة يوميّة رتيبة. و جعلوا أدعية سيّدنا و مولانا أمير المؤمنين عليه السلام ذات الصبغة الخاصّة من التوحيد و العظمة و الابّهة شعارهم و دثارهم كما يتبيّن ذلك من «صحيفة السماهيجيّ»، و «صحيفة النوري الثانويّة». و ثابروا على قراءة «الصحيفة السجّاديّة» فنفذ التضرّع و الابتهال إلى أعماقهم، و أنسوا بمناجاة ربّهم الودود و مسارّته بما عندهم؛ و جلوا بها صدأ النفوس الأمّارة الخبيثة المنقطعة إلى عالم الكثرة و التعيّنات الاعتباريّة، فخرجوا اناساً متوقّدة ضمائرهم، صافية قلوبهم، طاهرة أعماقهم، بعيدين عن هوى النفس، بل مجرّدين منه. و هؤلاء العلماء بالله و الحكماء و العرفاء الزهّاد الأتقياء الممدوحون الخارجون من سلطان الهوى المنقطعون إلى الله لم ينوّروا أنفسهم فحسب، بل هدوا حشداً غفيراً من الناس و أخذوا بأيديهم نحو عالم الفضيلة و النزاهة و القداسة و الطهارة.
رؤيا المجلسيّ الأوّل رحمه الله في «الصحيفة»
و بدا لي هنا أن أنقل حكاية عن جدّي الأعلى من جهة امّ والدي المحدِّث العظيم، و السالك التقيّ، و الأخلاقيّ الكبير المرحوم المجلسيّ الأوّل رضوان الله عليه ليتعطّر بها الناس، و ليفكّروا بأنفسهم من خلال التدبّر و التفكّر في صحيفة إمام الساجدين قبل أن ينزلوا في قبورهم، و ليتلمّسوا علاجاً و حيلة لهم! و إلّا فانّهم و أيم الله و مقام عزّته و جلاله لا يتقدّمون و لا يستمتعون هم و غيرهم بهذه الدروس الحوزويّة المتعارفة المتداولة ما لم يحاسبوا أنفسهم و يطووا طريق و منهاج الأولياء الصالحين
الذين جعلوا «الصحيفة السجّاديّة» نصب أعينهم، و صقلوا بها أرواحهم.۱
أمّا الحكاية فننقلها فيما يأتي حسب ما ذكرها المرحوم آية الله آغا ميرزا محمّد عليّ المدرّسيّ الجهاردهيّ الرشتيّ في مقدّمة شرحه على «الصحيفة». بدأ شرحه الفارسيّ على «الصحيفة» بما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربّ العالمين و صلى الله على سيّدنا محمّد و آله الطاهرين
و بعد، قال المنقطع عن نيلآباديّ محمّد على بن نصير الجيلانيّ: في شهر رمضان المبارك سنة ۱٣۰٤ هـ، كان السيّد الأجلّ الأكرم الزاهد العابد الصفيّ المخلص التقيّ السيّد الميرزا الأصفهانيّ الذي يتشرّف الآن بالسكن في المدينة المنوّرة، يقرأ علَيّ كتاب المشيخة للمرحوم الملّا محمّد تقي المجلسيّ رحمه الله في الحرم المرتضويّ الشريف (حرم أمير المؤمنين عليّ عليه السلام) عند غروب الشمس. و ذكر من شيوخه المرحوم الشيخ البهائيّ. و نقل خلال ذلك حكاية رأيتها بعينها في ذلك الكتاب بخطّه الشريف في شرح «الصحيفة».
و ملخّصها: قال المرحوم المجلسيّ: كنت في عنفوان شبابي راغباً في أن اصلّي صلاة الليل، لكنّي احتطتُ لقضاء كان في ذمّتي. فأخبرتُ الشيخ البهائيّ رحمه الله بذلك، فقال: صلّ ثلاث عشرة ركعة قضاءً وقت السحر. بَيدَ أنّ نفسي كانت تحدّثني بأنّ لنافلة الليل مزيّة معيّنة. و أنّ الفريضة شيء آخر.
و كنت ذات ليلة على سطح داري و أنا بين النوم و اليقظة، فرأيتُ قبلة البَرِيَّة إمام المسلمين حجّة الله على العالمين عجّل الله فرجه و سهّل مخرجه في سوق البطّيخ بجنب المسجد الجامع بأصفهان.
فتشرّفت بالمثول أمامه عليه الصلاة و السلام بشوق بالغ، فسألته عن
مسائل منها أداء صلاة الليل، فقال: صلّ!
ثمّ قلت له: يا ابن رسول الله! لا سبيل لي إليك دائماً! فأعطني كتاباً أعمل به!
قال: اذهب و خذ كتاب آغا محمّد تاجا! و كأنّي كنتُ أعرفه.
ذهبتُ و أخذتُ منه الكتاب. فقرأته و أنا أبكي. فاستيقظت من نومي و رأيتُ نفسي على سطح داري. فحزنت لذلك حزناً عظيماً. و انقدح في ذهني أنّ محمّد تاجا هو الشيخ البهائيّ نفسه. و إنّما ذُكرت كلمة «التاج» بسبب رئاسته للشريعة.
و لمّا أصبحتُ توضّأتُ و صلّيتُ صلاة الفجر. ثمّ توجّهتُ إليه. فرأيته في مِدْرَسِه مشغولًا بمقابلة «الصحيفة» مع السيّد ذو الفقار عليّ الجُرْفادقانيّ (الكلبايكانيّ).
و بعد فراغه من المقابلة، سألته عن أحواله. فقال لي: ستدرك ما تريد إن شاء الله.
فلم يرقني كلامه لاتّهامه إيّاي ببعض الأشياء.۱
ثمّ إنّي رأيتُ الموضع الذي رأيتُ فيه الإمام عليه الصلاة و السلام في المنام. فأوصلت نفسي إليه مشتاقاً؛ فالتقيتُ بحسن تاجا الذي كنتُ أعرفه. و ما إن رآني، حتى قال: يا محمّد تقي! ضقتُ ذرعاً بالطلّاب (يقصد طلّاب العلوم الدينيّة)، يستعيرون منّي كتاباً و لا يعيدونه. هلمّ إليّ لنذهب إلى البيت كي أعطيك بعض الكتب التي وقفها المرحوم آغا قدير!
و أخذني إلى باب الحجرة، و فتح الباب، و قال لي: خذ ما تشاء من
الكتب! فمددتُ يدي و أخذتُ كتاباً. و نظرتُ فيه فرأيته نفس الكتاب الذي كان الإمام الحجّة روحي فداه قد أعطانيه في المنام. و إذا هو «الصحيفة السجّاديّة». فطفقتُ أبكي، ثمّ قمتُ من مكاني.
فقال لي: خذ كتاباً آخر! قلتُ: حسبي هذا الكتاب.
ثمّ شرعتُ في تصحيحه و مقابلته و تعليمه للناس. و هكذا أصبح معظم أهالى إصفهان ممّن يستجاب دعاؤهم ببركته.۱ قال المرحوم المغفور المجلسيّ الثاني: و لقد انهمك ببثّ «الصحيفة» طوال أربعين سنة. فانتشرت بواسطته، فانّه شذّ بيت لا تكون «الصحيفة» فيه.
و حَدَثني هذه الحكاية على أن أشرح «الصحيفة» بالفارسيّة لينتفع بها
العوامّ، بل الخواصّ أيضاً.۱
تواتر «الصحيفة الكاملة السجّاديّة»
إن «الصحيفة الكاملة السجّاديّة» من المتواترات. و إنّ نسبتها إلى الإمام سيّد الساجدين و زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم أفضل الصلاة و أكمل التحيّة و السلام كنسبة كتاب «الكافي» إلى الكلينيّ، و كتاب «التهذيب» إلى الشيخ الطوسيّ. و ذلك من المتواترات التي لا شكّ فيها.
و رواها علماؤنا الأعلام و محدّثونا العظام منذ عصر الإمام الباقر عليه السلام إلى يومنا هذا يداً بيد و لساناً عن لسان و كتاباً عن كتاب. و كان لها تواترها في كلّ زمان. و لا يضيرها - كما سنرى - ما نُسب إلى بعض رواتها من الجهل أو الضعف ممّا ورد في مفتتح نسخها المطبوعة المتداولة هذا اليوم. ذلك أنّ سندها كضمّ الحَجَر على جنب الإنسان، إذ لا يضيف وجوده إلى كمال إنسانيّته و لا ينقص عدمه من إنسانيّته شيئاً. و إذا كانت أدعية هذه «الصحيفة» قد بلغت حدّ التواتر المتّصل المنسجم منذ عصر المعصوم إلى يومنا هذا، فَلْتَخْلُ من السند على فرض عدم وجوده.
ملحقات «الصحيفة السجّاديّة»
أمّا عدد الأدعية على ما روى جعفر بن محمّد الحسينيّ - و هو المذكور في «الصحيفة» نفسها - فخمسة و سبعون دعاءً. قال راويها المتوكّل بن هارون: سقط عنّي منها أحد عشر باباً، و حفظتُ منها نيّفاً و ستّين باباً (أربعة و ستّين). و لكن جاء في رواية محمّد بن أحمد بن مسلم المطهّريّ، الذي ذكر عدد الأدعية و أسماءها، أربعة و خمسون دعاءً فقط، و هو ما نراه في «الصحيفة» المتداولة هذا اليوم. و في ضوء ذلك فقد سقط من أصل
«الصحيفة» واحد و عشرون دعاءً.
و حاول أساطين العلم و الحديث أن يعثروا على تلك الأدعية و يلحقوها بـ «الصحيفة» - بوصفها ملحقات لا بوصفها إقحاماً بين الأدعية نفسها - لئلّا يحدث تغيير في الأدعية ذاتها.
و رأيت مخطوطة من «الصحيفة الكاملة» مع حواشيها بإمضاء الملّا محسن الفيض الكاشانيّ، و ورثتها من أبي، و تأريخ الفراغ من كتابتها هو سنة ۱۰٩۱ هـ.۱ و أورد فيها الملّا تقي الصوفيّ الزياباديّ القزوينيّ - الذي ذكر أنّه من تلاميذ الشيخ البهائيّ - أربعة عشر دعاءً بعد ختم الأدعية، بوصفها ممّا يلحق به. و قد جمعها من الكتب المعتبرة.٢
و نحن نعلم أنّ المرحوم الشيخ البهائيّ توفّي سنة ۱۰٣۰ هـ. لذلك فانّ جمع هذه الملحقات من قِبَل تلميذه قد سبق تدوين «الصحيفة الثانويّة» للشيخ الحرّ العامليّ، و «الصحيفة الثالثة» للميرزا عبد الله الأفندي.
و في ضوء ذلك يلزم أن تكون هذه «الصحيفة» أوّل صحيفة دوّنت
بعد «الصحيفة الكاملة». و نسمّيها «الصحيفة الثانية السجّاديّة». و نعدّ صحيفة الشيخ الحرّ من الصحف التاليه لها. لكن لمّا كانت صحيفة المرحوم الشيخ
الحرّ متداولة على الألسن و في الكتب باسم «الصحيفة الثانية»، لذلك نذكرها فيما يأتي بهذا اللقب:
«الصحيفة السجّاديّة الثانية» تدوين صاحب «الوسائل» الشيخ محمّد بن حسن الحرّ العامليّ المتوفّى في سنة ۱۱۰٤ هـ
قال الشيخ العالم الفقيه المتتبّع المحقّق السيّاح الميرزا عبد الله الأفندي الأصفهانيّ في مقدّمة صحيفته الثالثة: إنّ شيخنا العالم الفاضل الجليل و الكامل المحدِّث النبيل الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ المعاصر المحفوف بصنوف مراحم الربّ الملك الغافر قد بذل غاية كدّه بقدر وسعه و جدّه و مقدار سعيه و كدّه في أصل جمع ما خرج عن نسخة «الصحيفة الكاملة السجّاديّة» المتداولة من أدعيته صلوات الله عليه، و كذا في تأليفه صحيفة جديدة مشتملة على سائر الأدعية المرويّة عنه عليه السلام ممّا قد عثر عليها في مطاوي كتب الأدعية و الأعمال المشهورة المتداولة بين متأخّري الأصحاب رضوان الله عليهم. و كان من جملة ما جمعه فيها تلك الأدعية المعروفة المذكورة في ملحقات «الصحيفة الكاملة» المشهورة السجّاديّة، و قد سمّى ما ألّفه بـ «الصحيفة الثانية»، و هي أيضاً قد صارت في زماننا هذا صحيفة على حدة اخرى برأسها شايعة بين الناس مثل اختها و لا سيّما في بلاد خراسان و ما والاها.
و قد حسب رضي الله عنه أنّه لم يسبقه إلى ذلك أحد من العلماء، و ظنّ رحمة الله عليه أنّه ما أبقى دعاءً من سائر أدعيته عليه السلام حتى من تلك الأدعية الساقطة من «الصحيفة الكاملة السجّاديّة» المشهورة إلّا و قد أورده في هذه الصحيفة الشريفة الجديدة له. و لكن في الحقيقة ليس الحال كما ظنّه قدّس سرّه. أمّا أوّلًا فلأنّه قد سبقه إلى ذلك بعض علمائنا المتأخّرين
كما أوردنا ترجمته في كتاب رجالنا «رياض العلماء» فلاحظه.
و أمّا ثانياً فلأنّا قد وجدنا أدعية كثيرة من جملة أدعيته صلوات الله عليه في أماكن متفرّقة و مواطن متبدّدة ممّا هي غير مذكورة في «الصحيفة الاولي» المشهورة المتداولة، و لا في «الصحيفة الثانية» المعروفة التي قد جمعها هذا الشيخ المعاصر رحمه الله.
و نظير ذلك من الظنّ و الحسبان ما قد حسبه هو أيضاً في كتابه الموسوم بـ «الجواهر السنيّة في جمع الأحاديث القدسيّة» التي هي اخت القرآن حيث اعتقد أنّه قد أحاط فيه بجميع الأحاديث القدسيّة، و أنّ أحداً لم يسبقه أيضاً إليه. و لكن كلاهما مجرّد وهم و خيال، و ذلك، لأنّه قد صنّف بعض الأصحاب قبله مثل ما ألّفه و زاد عليه بكثير. و مع ذلك لم يحط هو، و لا هذا الشيخ المعاصر أيضاً بجميع ما ورد من الأحاديث القدسيّة كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَتَبَّعَ وَ تَأمَّلَ وَ أعَادَ وَ أنْعَمَ النَّظَرَ وَ أجَادَ.۱
و قال العلّامة الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ قدّس سرّه بعد التعريف بهذه «الصحيفة»: حكى لي بعض أفاضل المعاصرين أنّه أطّلع على صحيفة ثانية سجّاديّة من جمع الشيخ محمّد بن عليّ الحرفوشيّ المعاصر للشيخ الحرّ و المتوفّى قبله بأزيد من أربعين سنة.
و على هذا فصحيفة المحدّث الحرّ ثالثة و ما بعدها رابعة و هكذا.٢ لعلّ هذا مراد صاحب «الرياض» في «الصحيفة الثالثة» حيث ردّ على المحدِّث
الحرّ في قوله: إنّه لم يسبقه أحد.
و قال المحدِّث الجزائريّ في أوّل شرح ملحقات الصحيفة: إنّ الشيخ الحرّ لمّا جمع من أدعية السجّاد عليه السلام ما يقرب من «الصحيفة»، سمّاه: «اخت الصحيفة». كما أنّه لمّا جمع الأحاديث القدسيّة، سمّاها: «أخ القرآن» - انتهى.
و قد استخرجها المحدِّث الحرّ من الاصول المعتمدة عنده التي ذكرها في هامش النسخة. و فرغ من جمعها في شهر رمضان ۱۰٥٣ هـ ... .۱
«الصحيفة الثالثة السجّاديّة» تدوين الميرزا عبد الله الأفندي صاحب «رياض العلماء»، من أخصّ تلاميذ العلّامة المجلسيّ
الفاضل المتبحّر الميرزا عبد الله بن الميرزا عيسى بن محمّد صالح التبريزيّ الأصفهانيّ المعروف بالأفندي من أعلام القرن الثاني عشر. ردّ في صحيفته على الشيخ المحدِّث الحرّ في دعواه استقصاء أدعية الإمام السجّاد عليه السلام. و قد طبعت في طهران، و طُبع جميع ما فيها من أدعية ضمن «الصحيفة الخامسة». و مرّت بعنوان «الدرر المنظومة المأثورة». و قد طبعت سنة ۱٣٦٤ هـ.٢
قال المرحوم الأفندي في صحيفته بعد خطبته و بيانه الخاصّ حول أدعية الإمام سيّد الساجدين عليه السلام: و بالجملة فقد حداني ذلك (نقصان «الصحيفة الثانية») إلى جمع صحيفة ثالثة كافلة بجميع ما شذّ عن تينك الصحيفتين المذكورتين إن شاء الله تعالى ممّا قد وصلت إلينا من جملة أدعيته صلوات الله عليه اللهمّ إلّا ما ندر عنها أو لم يصل إلينا منها. فانّ أكثر كتب الأدعية و الأعمال، و خاصّة من روايات قد ماء أصحابنا قد تلفت في
البَين و ضاعت و ما وصل إلينا منها أثر و لا عين. فكيف ندّعي الحصر و الإحصاء الكامل التامّ في أمثال ذلك المقام؟!
إلّا أنّي قد بذلتُ نهاية مقدرتي و جهدي و صرفت فيه غاية وَكْدي و كَدّى على حسب الوسع و الطاقة و الحسبان و بقدر القدرة و الإمكان، و على الله التكلان فجاء بحمد الله تعالى كما قصدت و برز إلى الوجود كما عمدت.
ثمّ إنّي عند ذكري لكلّ دعاء قد أشرتُ في المتن بعون الله غالباً و في الهامش أحياناً أيضاً إلى الكتاب الذي قد أخذتُ منه أو إلى المكان الذي قد عثرتُ عليه. و بذلك أيضاً قد فاقت صحيفتنا هذه «الصحيفة الثانية» المشار إليها لشيخنا المعاصر. فانّه قدّس سرّه لم يتعرّض في تلك الصحيفة المذكورة له لذكر مأخذ الأدعية التي قد نقلها. و لذلك قد خرجت أدعيتها من حدّ المسانيد إلى درجة المراسيل.
بل أكثر من ذلك، و باعتقاد أهل عصرنا حيث إنّهم لم يعتمدوا على مراسيل أمثالنا إلّا و قد بليت عظامنا و طال زمان رفاتنا عن مرتبة الاعتماد و الكمال إلى منزلة التزلزل و الاحتمال، و إن كان هو قدّس الله روحه في نفسه ثقة أميناً مأموناً ناقداً بصيراً مسكوناً إليه في الرواية، و في الحقيقة عدلًا صدقاً في النقل و الدراية.
ثمّ لا يخفى أنّ عمدة السبب الفائق و الغرض الأعلى اللائق بشأنه من تأليفه لتلك الصحيفة الجديدة له، أوّلًا إنّما هو جمع الأحد و العشرين دعاء التي قد سقط من نسخة «الصحيفة الكاملة» المشهورة كما سنشير إليه مفصّلًا، ثمّ ختم باقي أدعيته عليه السلام إليها.
و لكنّ شيخنا المعاصر قدّس سرّه هذا قد نقل عن أصلها رأساً أو تغافل عنه عمداً، حيث إنّه لم يتعرّض هو لذكر شيء منها أصلًا في طيّ
«الصحيفة الثانية» هذه بل لعلّه قدّس سرّه لم يعثر نفسه على شيء من ذلك مطلقاً.
و أمّا نحن فقد عثرنا بحمد الله تعالى و عونه و منّه على جلّها بل كلّها في مدّة سياحتنا في الأمصار، في الخراب و العمران و أثناء طول جولاتنا و سفرنا في البحار و القفار و البلدان.
إلى أن يقول: ثمّ إنّه قد كان بين أكثرها و بين النسخة المتداولة المشهورة من هذه «الصحيفة الكاملة السجّاديّة» اختلافات كثيرة في الديباجة، و في عدد الأدعية و في ألفاظها و عباراتها، و في كثير من فقراتها أيضاً بالزيادة و النقصان، و في التقديم و التأخير.
و كذلك قد وجدنا في بعض مطاوي كتب أصحابنا كثيراً من الأدعية المنقولة عن «الصحيفة السجّاديّة» المشهورة، و لكن مع أنواع من التفاوت و الاختلافات في العبارات و الفقرات، بل في تعداد الأدعية أيضاً، و نحن قد أعرضنا عن التعرّض لشرح تحقيق ذلك، و عن إيراد وجوه الاختلافات هنا على جهة التفصيل، حيث إنّ ذكر هذه كلّها يُفضي إلى مزيد التطويل. على أنّ استقصاء الكلام في ذلك المرام لا شكّ أنّه قد يوجب الملال و الملام، و يورث الخروج في هذا المقام عمّا هو مقصودنا الأهمّ و منظورنا الأتمّ في أصل الإقدام على مثل هذا الشأن. وَ اللهُ المُسْتَعَانُ وَ عَلَيْهِ التُّكلَانُ.
بل نحن اقتصرنا في هذه الصحيفة الشريفة الثالثة على مجرّد إيراد جميع تلك الأدعية الشريفة الساقطة من أصل «الصحيفة السجّاديّة» المشهورة أوّلًا. ثمّ ذكر بعض الأدعية المنسوبة إلى عليّ بن الحسين عليهما السلام الخارجة عن تينك الصحيفتين الشريفتين ثانياً و ضمّها إليها حسب الإمكان وَ اللهُ المُسْتَعَانُ.
و أمّا التعرّض لتلك الاختلافات فقد وكّلناه إلى ما علّقناه على هوامش
«الصحيفة الثانية» المذكورة إن شاء الله تعالى. وَ اللهُ المُوَفَّقُ.
و اعلم أنّ عدد أدعية «الصحيفة السجّاديّة» المباركة المتداولة على ما هو الموجود الآن فيها برواية محمّد بن أحمد بن مسلم المطهّريّ، المعروفة برواية المطهّريّ (سوى ما يوجد في أكثر نسخ ملحقات «الصحيفة الكاملة السجّاديّة») إنّما هي بقدر أربعة و خمسين دعاء. مع أنّ المذكورة أوّلًا في ديباجة نسخ هذه «الصحيفة السجّاديّة» المتداولة من عدد أدعيتها مجملًا هي خمسة و سبعون دعاء.
ثمّ إنّ بعد ذلك قال المتوكِّل بن هارون الراوي لـ «الصحيفة السجّاديّة» المشهورة ثانياً - كما هو مذكور في أوّلها - أنّه قد سقط منّي بعد عشرة أدعية، و حفظتُ منها نيّفاً و ستّين دعاء. و على هذا فقد سقط من تلك الأدعية الباقية المذكورة عشرة اخرى أيضاً.
و هذا عجيب. لكن قد يُظَنُّ أنّ هذه الأدعية المعروفة المذكورة في مطاوي ملحقات نسخ «الصحيفة الكاملة» الشائعة من جملة تلك الأدعية الساقطة عن أصل «الصحيفة» المتداولة المشهورة. وَ اللهُ يَعْلَمُ.
و نحن قد وسمنا هذه «الصحيفة الكاملة» بـ «الصحيفة الثالثة». و إن شئت فسمّها: «الدُّرر المنظومة المأثورة في جمع لئالى الأدعية السجّاديّة المشهورة»!
إلى أن يقول: و لنذكر أوّلًا بعون الله سبحانه في أوّل الأدعية الأحد و العشرين الساقطة من «الصحيفة الكاملة» المشهورة. ثمّ نورد بعدها سائر الأدعية السجّاديّة إن شاء الله سبحانه.۱
«الصحيفة الرابعة السجّاديّة»، تدوين الحاجّ الميرزا حسين بن محمّد تقي النوريّ المتوفّى سنة ۱٣٢۰ هـ
توفّي عشيّة الأربعاء ٢۷ جمادى الآخرة ۱٣٢۰ هـ. و قد جمع ۷۷ دعاء له غير المذكورة في سائر الصحائف السابقة.۱
قال المرحوم المحدِّث النوريّ في صحيفته بعد حمد الله و الثناء عليه و الصلوات على الرسول المختار:
يقول العبد المذنب المسيء حسين بن محمّد تقي النوريّ الطبرسيّ: هذه مجموعة رائقة لطيفة و صحيفة رابعة شريفة جمعت فيها من الأدعية المباركة السجّاديّة على منشئها آلاف سلام و تحيّة ما ليس في الصحيفة المنعوتة بين علماء الإسلام تارة بـ «اخت القرآن»، و اخرى بـ «زبور آل محمّد عليهم السلام»، و لا في «الصحيفة الثانية» التي جمعها العالم الجليل المحدِّث الحرّ العامليّ، و لا في «الصحيفة الثالثة» التي جمعها الفاضل الماهر الخبير الميرزا عبد الله الأصفهانيّ رحمهما الله ممّا لم يكن موجوداً في الصحيفتين، و قد طُعِن على شيخنا الحرّ رحمه الله بأنّه ادّعى الاستقصاء، و قد سقط من يده أدعية لا تحصى؛ فجمع ما عثر عليه من الساقط و خفي عليه كما خفي عليه ما يلتقطه اللاقط. و أنا و إن لم أكن من فرسان هذا الميدان إلَّا أنَّ السُّهَى التي اسْتَصْغَرَتْهُ العُيُونُ تَتَحَرَّكُ كُلَّمَا سَارَ الفَرْقَدَانِ.٢
ثمّ ذكر عدداً من الأدعية نقلًا عن مصادر مختلفة، و بعضها أدعية شعريّة نُسبت إلى الإمام عليه السلام و هي ضعيفة لغويّاً و أدبيّاً.۱ و قال في آخر كتابه:
هذا آخر ما أردناه من جمع الأدعية السجّاديّة عَلَى مُنْشِيَها ألْفُ سَلَامٍ وَ تَحِيَّةٍ الساقطة عن الصحيفتين الكريمتين المتمّمتين لـ «الصحيفة المباركة» المعروفة. و قد أشرنا إلى مأخذها، و ذكرنا أسانيد ما وقفنا على طرقه. و جلّها بل كلّها إلّا ما شذّ منها مأخوذة من الكتب المعتبرة المعوّل عليها. فلا يرد علينا ما أورده صاحب «الثالثة» على «الثانية» من عدم ذكر المأخذ، و خروج ما أورده عن حدّ المسانيد. و غرضه الطعن على بعض الأدعية التي ذكرها و ليس لها في كتب الأصحاب عين و لا أثر كالمناجاة الخمس عشرة، و إلّا فأغلب ما أورده من الأدعية المعروفة موجودة فيها.
و لا يخفى أنّه لو لا المثل السائر: كَمْ تَرَكَ الأوَّلَ لِلآخِرِ لما بقي بعد جهد هذين العالمين المتبحّرين، و ما كان لهما من الكتب و الأعوان ما يلتقطه مثلي القاصر الفاقد المبتلى بشرّ الأزمان في شرّ البلدان من مساكن
أهل الإيمان.
نسأل الله تعالى العصمة و التوفيق، و مرافقة الأبرار! و ثبت هذه الصحيفة الشريفة في ديوان الحسنات يوم يميز الأخيار من الأشرار.۱
«الصحيفة الخامسة»، تدوين السيّد محسن الأمين الحسينيّ العامليّ المتوفّى سنة ۱٣۷۱ هـ
للسيّد المعاصر محسن بن عبد الكريم بن عليّ بن محمّد الأمين الحسينيّ العامليّ نزيل دمشق. طبعت سنة ۱٣٣۰. و هي محتوية على «الصحيفة الثالثة» و «الرابعة» و زيادة. و فرغ منها سنة ۱٣٢٣، و مجموع أدعيتها ۱۸٢ دعاء انفرد منها باثنين خمسين دعاء، و البواقي موجودة في إحدى الصحيفتين.٢
قال المرحوم الأمين في مقدّمة صحيفته بعد الحمد و الصلوات: لمّا اضطرّني القدر إلى ترك الوطن و الإقامة بدمشق الشام، اقتضى الحال في سنة ثلاث و عشرين بعد الثلاثمائة و ألف أن أنظر في صحّة نسخة من «الصحيفة الثانية السجّاديّة» و اعلِّق عليها حواشي تتضمّن شرح غريبها و تفسير غامضها و غير ذلك من الفوائد إجابة لا لتماس بعض الإخوان. و هي الصحيفة التي جمعها الثقة الجليل المحدِّث الشيخ محمّد بن الحسن بن عليّ بن الحسين الحرّ العامليّ المشغريّ، صاحب «الوسائل» قدّس سرّه من أدعية مولانا زين العابدين و سيّد الساجدين و إمام العارفين و أبي الأئمّة الميامين الإمام عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب صلوات الله و سلامه
عليهم أجمعين.
و قال: إنّه جمع فيها ما وصل إليه ممّا نقله العلماء الأعلام من أدعيته عليه السلام ممّا ليس في «الصحيفة الكاملة» المشهورة. و لم يكن عندي يومئذٍ من نسخها ما أعتمد على صحّته، فرجعت إلى الكتب المتضمّنة لتلك الأدعية، و في أثناء ذلك عثرتُ على بعض الأدعية المرويّة عنه عليه السلام ممّا ليس في الأولى و لا في الثانية. فعزمتُ على أن ألحقها بالثانية، لظنّي أنّها يسيرة. فلمّا استقصيتُ التتبّع وجدتُ من الأدعية المودعة في الكتب المعتبرة التي خلت عنها الصحيفتان شيئاً كثيراً بحيث لو جُمع لكان صحيفة كبيرة، هذا مع تبحّر جامع «الصحيفة الثانية» و تصدّيه لجمع كلّ ما فات «الصحيفة الكاملة».
فعزمت بعد الاتّكال عليه تعالى على جمع تلك الأدعية في صحيفة ثالثة، فجمعت منها نيّفاً و سبعين دعاء قد خلت عنها الصحيفتان الأولى و الثانية. ثمّ علمت أنّ هناك صحيفة ثالثة، فاجتهدتُ في تحصيلها حتى عثرتُ عليها بتوفيقه تعالى بعد بحث طويل و طلب في الآفاق شديد. و هي التي جمعها الفاضل المتبحّر المتتبِّع الميرزا عبد الله بن عيسى بن محمّد صالح الأصفهانيّ قدّس سرّه المعروف بالأفندي صاحب «رياض العلماء»،۱
و تلميذ العلّامة المجلسيّ و المعاصر لصاحب «الوسائل» و أورد فيها ما خلت عنه صحيفة معاصره المذكور و لسان حاله يقول: كَمْ تَرَكَ المُعَاصِرُ لِلْمُعَاصِرِ.
عثرتُ أيضاً على صحيفة رابعة جمعها الفاضل المعاصر المتبحّر المتتبّع المطّلع الميرزا حسين بن محمّد تقي الطبرسيّ النوريّ المجاور بسامرّاء، ثمّ بالمشهد المقدّس الغرويّ حيّاً و ميّتاً صاحب «مستدرك الوسائل» قدّس سرّه، و أورد فيها ما خلت منه «الصحيفة الثانية» و «الثالثة» متمثّلًا بالمثل السائر كَمْ تَرَكَ الأوَّلُ لِلآخِرِ. و بعد استقراء جميع أدعية الصحيفتين المذكورتين الثالثة و الرابعة وجدتهما خالتين من أدعية كثيرة قد اشتملت عليها الصحيفة التي جمعتها، فقلتُ: كَمْ تَرَكَ الأوَّلُ لِلآخِرِ وَ المُعَاصِرُ لِلْمُعَاصِرِ. كما وجدتها خلية من جملة من الأدعية التي اشتملتا
عليها. فَعَنَّ لي أن افرد ما انفردت به صحيفتي عنهما و أجعله صحيفة خامسة. ثمّ عدلتُ عن ذلك.
أوّلًا: لئلّا يذهب ما عانيتُه في جمع باقي الأدعية و ترتيبها و ما ذكرته معها من بعض الفوائد ضياعاً.
و ثانياً: ليعلم الناظر أنّي لم آل جهداً في التفتيش و التنقيب. و أنّني وصلت بحمد الله تعالى و توفيقه إلى أكثر ما وصلوا إليه، و كثير ممّا لم يصلوا إليه، فيكون ذلك سبباً لدعائه لي بالمغفرة و باعثاً لي على مجانبة الجبن و الكسل، و موجباً للعلم بأنّ كلّ مَنْ سَارَ عَلَى الدَّرْبِ وَصَلَ. فعوّلتُ على أن اضيف إلى صحيفتي ما فاتها من صحيفتيهما، و اسمّيها بـ «الصحيفة الخامسة» و إن تضمّنت الثالثة و الرابعة. لكن لاشتمالها على ما ليس فيهما فارقتهما، و استحقّت أن تكون خامسة لرابعتهما.
فبلغ مجموع ذلك مائة و اثنين و ثمانين دعاء و ندبة. منها اثنان و خمسون دعاء انفردنا بنقلها، و خلت منها كلّ من الصحائف الأربع، و واحد و سبعون دعاء وجدناها في مجموع الصحيفتين المذكورتين و في غيرهما، و اثنان و ثلاثون دعاء نقلناها من «الصحيفة الثالثة» خاصّة، و سبعة و عشرون دعاء نقلناها من «الصحيفة الرابعة» خاصّة.
و من ذلك يعلم أنّا لو لم نطّلع على صحيفتيهما لبلغ ما جمعناه مائة و ثلاثة و عشرين دعاء مجتمعةً ممّا انفردنا بنقله، و هو اثنان و خمسون دعاء، و ما وجدناه في مجموع الصحيفتين و في غيرهما، و هو أحد و سبعون دعاء. و هو يزيد كثيراً عمّا في كلّ واحدة من الصحائف الثلاثة بانفرادها.
و بذلك يُعْلَم فَضْلُ صحيفتي عليها، اللهمّ إلّا «الصحيفة الثالثة» التي لم يعلم مقدار ما وصل إليه تتبّع جامعها لنقصان نسختها كما ستعرف. و لم نأل جهداً في التنقيب و التفتيش في مظانّ ذلك، و في الجمع بين النسخ
المختلفة بحسب الوسع و الطاقة. كما لم نأل جهداً في ترتيب الأدعية بالتقديم و التأخير، و وضع كلّ دعاء مع مناسبه، و قد أهملا ذلك في صحيفتيهما.
و لم يكن يدور في خلدي أو يخطر ببالى أن يتيسّر لأحد الاستدراك على هؤلاء الفضلاء الثلاثة الذين امتازوا عن أهل عصرهم بالتتبّع و التبحّر و الاطّلاع، بل لم يكن لهم شغل طول عمرهم سوى ذلك.
و من العجيب أنّني وجدتُ كثيراً من الأدعية في الكتب المشهورة المتداولة التي كانت عندهم نسخها يقيناً، و نقلوا عنها.
و حسبك بصاحب «الصحيفة الثالثة» الذي كان قليل النظير في الحفظ و التتبّع و معرفة التصانيف و المصنّفين. و كانت تُعرض عليه الأوراق من الكتب المجهولة التي ذهب أوّلها و آخرها فيميّزها و يعرف أنّها من أيّ كتاب، و قد قضى نحواً من نصف عمره في السياحة و دخل أكثر البلاد و هو في كلّ ذلك يتصفّح الكتب و يتتبّعها.
بل و صاحب «الصحيفة الرابعة» الذي عاصرناه و شاهدناه و لم نر و لم نسمع بنظيره في عصره في التتبّع و التصفّح و جمع الكتب العزيزة الوجود و البحث و التنقيب عن آثار أهل البيت عليهم السلام طول عمره، بحيث لم يكن له شغل سوى ذلك حتى بلغ سنّ الشيخوخة.
و قد تعاقبوا على مقصد واحد، و اجتهد كلّ لاحق في أن يصل إلى ما لم يصل إليه السابق حتى مَنّ الله علَيّ بأفضل ممّا أدركوا و سهّل لي الوصول إلى أصعب ممّا إليه و صلوا. فانّ جمع مقدار من هذه الأدعية قبل أن تمدّ إلى ذلك يد أهون من الزيادة عليها، و الزيادة عليها قبل تتابع الأفكار و تعاقب الأنظار أهون منها بعد ذلك كما لا يخفى، و لكن ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.۱
فأنا أشكره على فضله و كرمه، و أقول ما قلتُ تحدّثاً بنعمه، على أنّي لستُ من فرسان هذا المجال، و لكنّ الله تعالى أمر سفينة نوح عليه السلام فاستوت على أصغر الجبال.
و قد قال صاحب «الصحيفة الرابعة»: لو لا المَثَل السائر كَمْ تَرَكَ الأوَّلُ لِلآخِرِ، لما بقي بعد جهد هذين العالمين المتبحّرين، يعني الحرّ العامليّ، و الفاضل الأصفهانيّ قدّس سرّهما، و ما كان لهما من الكتب و الأعوان ما يلتقطه مثلي القاصر الفاقد للأعوان المبتلى بشرّ الأزمان في شرّ البلدان من مساكن أهل الإيمان - انتهى.
فاذا كان هذا قوله رحمه الله و شكواه من فقد الأعوان و من البلد و الزمان مع ما كان عليه من سعة الحال، فما الذي يقوله مثلي يا ترى؟!
هذا و لست أدّعي الإحاطة بجميع الأدعية المأثورة عنه عليه السلام، بل ربّما يكون ما فات منّي أكثر ممّا وصل إليّ. و قد يتيسّر لمن يأتي بعدي أن يزيد على ما جمعته كما تيسّر لي أن أزيد على جمع من تقدّمني. فانَّ علوم آل محمّد عليهم الصلاة و السلام لا تحصى، و مآثرهم لا تُستقصى. كيف و هي مأخوذة من مدينة العلم النبويّ و مستمدّة من منبع الفيض الإلهيّ؟
و لعلّ ما خفي منها عنّا أكثر ممّا وصل إلينا. و عبادة زين العابدين عليه السلام و دعواته و مناجاته يعجز القلم عن إحصائها. و قد قال صاحب «الصحيفة الثالثة»: إنّ أكثر كتب الأدعية و الأعمال، و خاصّة من روايات قد ماء أصحابنا قد تلف، و ما وصل إلينا منها أثر و لا عين. فكيف ندّعي
الحصر و الإحصاء؟ ثمّ قال: إلّا أنّي قد بذلت نهاية مقدرتي و جهدي ... إلى آخره - انتهى.۱
و ذكر المرحوم الأمين قدّس سرّه هنا تسعة تنبيهات. ثمّ أورد الأدعية. و قال في التنبيه الرابع: اعلم أنّي حين جمعي لهذه الأدعية، لم أكن أتعرّض أوّلًا لأسانيدها و للكتب المأخوذة منها غالباً، مع أنّي وجدتُ كثيراً منها متكرّراً في الكتب طلباً للاختصار كما فعل صاحب «الصحيفة الثانية». مع عدم فائدة مهمّة في ذلك لسهولة الأمر في المستحبّات، و لا سيّما الدعوات٢ مع أنّ إرسالها في كتاب المتأخّر لا يقصر عن إرسالها
في كتاب المتقدّم. و لنعم ما قال صاحب «الصحيفة الثالثة» في اثناء كلام له
في خطبتها: إنَّ أهْلَ عَصْرِنَا لَمْ يَعْتَمِدُوا عَلَى مَرَاسِيلِ أمْثَالِنَا إلَّا وَ قَدْ بَلِيَتْ عِظَامُنَا وَ طَالَ زَمَانُ وَفَاتِنَا.
و فيه إشارةٌ إلى أنّ ما يرسله المعاصر لا يقصر عمّا يرسله المتقدّم مع تساويهما في الوثاقة، إلّا أنّ أهل كلّ عصر قد طبعوا على استحقار معاصريهم، و لا يظهر فضل الرجل غالباً إلّا بعد موته، بل تقادم العهد لوفاته، و لكنّه مع ذلك قد نقم على صاحب «الصحيفة الثانية» عدم ذكره لمأخذ الأدعية التي نقلها الموجب لخروجها عن حدّ المسانيد و دخولها في المراسيل. و لذلك فقد أشار هو عند ذكر كلّ دعاء إلى الكتاب الذي أخذه منه لكنّه كثيراً ما يهمل ذكر الأسانيد. و لعل بعضها لم يكن مُسنداً في الكتب التي نقل عنها.
و لمّا عثرتُ على كلامه هذا عزمتُ على ذكر الأسانيد و أسماء الكتب التي نقلتُ عنها هرباً عن مثل هذا الاعتراض، و لعدم خلوّ ذلك من فائدة-۱ إلى آخر كلامه.
كلام الأمين في نحل المناجاة المنظومة المنسوبة إلى الإمام السجّاد
و قال في التنبيه التاسع: اعلم أنّ أكثر ما جمعناه في هذه الصحيفة الشريفة نقلناه من كتب معتبرة معتمدة. و مع ذلك فانّ له منه عليه شواهد. فانّ بلاغة ألفاظه و علوّ مضامينه أقوى شاهد على صحّة نسبته. و بعضه ليس بهذه المثابة، و بعضه في النفس منه شيء كما يظهر للناقد البصير، لكنّا حيث لم نقطع بعدم صحّة نسبته، لم يكن لنا عذر في تركه. فأثبتناه جاعلين عهدته على ناقله مع سهولة الأمر لعدم ترتّب حكم شرعيّ، و رجاء حصول الثواب للداعي به.۱
و لكنّا قد عثرنا على غير واحدة من المناجاة المنظومة ممّا قطعنا بفساد نسبتها إليه عليه السلام لركاكة ألفاظها بحيث لا يرضى من له أقلّ تمييز بنسبتها إلى نفسه، فكيف يحتمل صدورها من منبع الفصاحة و البلاغة؟ و مع ذلك ففي بعضها «لحن و إيطاء»، و في بعضها إيطاء. فمن ذلك المناجاة التي أوردها صاحب «الصحيفة الرابعة» نقلًا عن خطّ بعض العلماء، و أوّلها:
أ لَمْ تَسْمَعْ بِفَضْلِكَ يَا مُنَائِي | *** | دُعَاءً مِنْ ضَعِيفٍ مُبْتَلَاءِ |
إلى تمام تسعة أبيات كلّها من هذا القبيل. و رَوِيّ بيتين منها لفظ الخطاء بالمدّ التي جمعت بين الخطأ و الإيطاء. و رَوِيّ بيتين لفظة رجائي.
و منه المناجاة التي أوردها هو نقلًا عن خطّ بعض العلماء أيضاً، و أوّلها:
إلَيْكَ يَا رَبِّ قَدْ وَجَّهْتُ حَاجَاتِي | *** | وَ جِئْتُ بَابَكَ يَا رَبِّ بِحَاجَاتِي |
إلى تمام أحد عشر بيتاً كلّها متساوية في الركاكة. و رَوِيّ البيت الثالث أيضاً لفظ حاجاتي. و بعض شطورها هكذا: أنْتَ العَلِيمُ بِمَا يَحْوِى
الضَّمِيرُ بِهِ. و بعضها هكذا: وَ ارْحَمْ ذُنُوبِي بِمَا أخْطَأتُ وَ ارْحَمْنِي. و عذر صاحب «الصحيفة الرابعة» في إيرادهما عدم كمال معرفته باللسان العربيّ.
و منه المناجاة التي وجدناها في كتاب محمّد الطبيب، و لم يذكرها أحد من أهل الصحائف، و أوّلها:
أجِلُّكَ عَنْ تَعْذِيبِ مِثْلِي عَلَى ذَنْبٍ | *** | وَ لَا نَاصِرٌ لي غَيْرُ نَصْرِكَ يَا رَبِ |
إلى تمام خمسة عشر بيتاً يستحيي من له أقلّ معرفة من نسبتها إليه لصدورها ممّن لا يحسن علم العربيّة، و لا يعرف معنى الفصاحة و البلاغة. و فيها: وَ أنَا عَبْدُكَ المَحْقُورُ في عِظَمِ شَأنِكُمْ. و فيها:
وَ تَقْلِبُنِي مِنْ ظَهورِ آدَمَ نُطْفَةً | *** | احَدَّرُ في قَعْرٍ صَرِيحٍ مِنَ الصُّلْبِ |
فَأخْرَجْتَنِي مِنْ ضِيقِ قَعْرٍ بِمَنِّكُمْ | *** | ... |
و فيها:
فَحَاشَاكَ في تَعْظِيمِ شَأنِكَ وَ العُلَى | *** | تُعَذِّبُ مَحْقُوراً بِاحْسَانِكُمْ رَبِّي |
لأنَّا رَأيْنَا في الأنَامِ مُعَظَّماً | *** | تَجَلَّى عَنِ المَحْقُورِ في الحَبْسِ وَ الضَّربِ |
إلى غير ذلك من أمثال هذه الهذيانات.۱
ثمّ يبدأ مصنّف «الصحيفة الخامسة» بذكر مائة و ثلاثة و ثمانين دعاء و مناجاة للإمام عليه السلام بالترتيب. و بخاصّة الأدعية الأحد و العشرين
الساقطة من «الصحيفة الكاملة»، فانّه يذكر كلّ دعاء في موضعه المناسب، و ينبّه على أنّه من الأدعية الساقطة. و يحدّد كلّ دعاء من أدعية «الصحيفة الثالثة» للأفندي، و «الصحيفة الرابعة» للنوريّ، التي تفرّدا بنقلها. و يعيّن كلّ دعاء من أدعيته التي تفرّد هو نفسه بنقلها. و يشير إلى كلّ دعاء وُجِدَ في سائر المجاميع مع ذكر كتبه و مصادره. و تشغل هذه الأدعية ٤٩٤ صفحة من صحيفته. و الحقّ أنّه بذل جهوداً مضنية في تدوينها بهذا النحو و تعب كثيراً في هذا السبيل. و نظّم و جمع أدعية كثيرة من الأدعية التي تتمتّع بشأن يذكر، كما عرض تفصيل ذلك نفسه.
جَزاهُ اللهُ عَنِ الإسْلَامِ وَ الإيمَانِ وَ العِرْفَانِ وَ الشُّهودِ، وَ عَنْ مُنْشِئِ الصَّحِيفَةِ سَيِّدِ السَّاجِدِينَ وَ زَيْنِ العَابِدِينَ عَلَيْهِ أفْضَلُ التَّحِيَّةُ وَ السَّلَامُ أحْسَنَ الجَزَاءِ و الثَّوَابِ وَ الإكْرَامِ.
«الصحيفة السادسة السجّاديّة» تدوين الشيخ
محمّد صالح بن الميرزا فضل الله المازندرانيّ الحائريّ
المولود سنة ۱٢٩۷ هـ
ذكرها في فهرس تصانيفه۱
لم يذكر آية الله المرعشيّ النجفيّ هذه الصحيفة في الاستدراك الذي كتبه على مقدّمة السيّد محمّد مشكاة، الوارد في الشرح الفارسيّ لصحيفة السيّد صدر الدين البلاغيّ. بَيدَ أنّه ذكر صحائف ثلاث اخرى بأرقام و مصنّفين مستقلّين، فقال: و «السادسة» لشيخنا الفقيه المحدِّث الحاجّ الشيخ محمّد باقر بن محمّد حسن البيرجنديّ القائنيّ.
و «السابعة» لشيخنا في الرواية العلّامة الشيخ هادي بن العبّاس آل كاشف الغطاء النجفيّ صاحب كتاب «مستدرك نهج البلاغة» و غيره.
و «الثامنة» لشيخنا العلّامة الحاج ميرزا عليّ الحسينيّ المرعشيّ الشهرستانيّ الحائريّ.۱
و إذا ضممنا صحيفة الحائريّ السادسة المذكورة في «الذريعة» إلى هذه الصحائف الثلاثة الأخيرة، و الصحيفة التي حملت عنوان الملحقات للملّا محمّد تقي الصوفيّ الزرآباديّ القزوينيّ، فانّ عدد الصحائف المذكورة يبلغ عشراً. و لكن ينبغي أن ننظر هل زادت هذه الصحائف الأربع الأخيرة شيئاً على «الصحيفة الخامسة» للمرحوم السيّد محسن الأمين، أو أنّ هؤلاء الأعلام لمّا كانوا يعيشون في عصر واحد، فكلٌّ منهم جمع لنفسه مستدركات معيّنة، و لمّا لم تطبع، و لم يطّلع أحدهم على مصنّفات الآخر، فلعلّ تداخلًا قد حصل في أدعيتهم المرويّة، و من حيث المجموع لم يضيفوا شيئاً إلى الأدعية المجموعة في «الصحيفة الخامسة» للسيّد الأمين؟!
«الصحيفة السجّاديّة الجامعة» تدوين موضوعيّ
انتشرت أخيراً مجموعة تحت عنوان «الصحيفة السجّاديّة الجامعة». قام بتدوينها أحد الباحثين الكبار في حوزة قم المقدّسة. و الحقّ أنّها بلغت درجة الكمال فيما يأتي:
(۱) جمع كافّة الأدعية المنسوبة إلى الإمام السجّاد عليه السلام،
و جمع أدعية «الصحيفة الكاملة»، و الثانية، و الثالثة، و الرابعة، و الخامسة، و مصادر اخرى غيرها.
(٢) الذوق الرفيع الملحوظ في التصحيح، و الورق، و التجليد، و الطبع، و سائر المزايا. بخاصّة أنّها تميّزت بأربعة عشر فهرساً متنوّعاً في آخر الكتاب، و ببحث مفصّل يدور حول تواتر سند «الصحيفة الكاملة» و القطع به. كما تزيّنت بتنظيم تصميم و رسم بعض الأسناد الثابتة حتى من فضيلة المدوِّن نفسه معنعناً حتى الإمام زين العابدين عليه السلام.
(٣) التبويب، و ترتيب الأدعية موضوعيّاً حسب الاسلوب القديم.
(٤) سهولة الرجوع إلى كلّ دعاء مطلوب يختلف حسب الموضوعات و الحالات المتباينة للداعي.
و هذه الصحيفة ذات قطع وزيريّ، و حجم ملحوظ. و هي رائعة مهمّة في دلالتها على شخصيّة الإمام عليه السلام من جهة الحالات و الأدعية و المناجاة.
الردّ على كيفيّة جمع «الصحيفة السجّاديّة الجامعة»
بَيدَ أنّي سجّلتُ إشكالًا مهمّاً خطيراً انقدح في ذهني - و الله العالِم - و يتلخّص هذا الإشكال في أنّ أدعية «الصحيفة الكاملة» قد اختلطت بأدعية سائر الصحف و المصادر. فصار يتعذّر تمييزها إلّا بالرجوع إلى الدليل الموجود في آخر الكتاب (الفهرس).
و لمّا كانت الأدعية قد قُسِّمت موضوعيّاً، و لم يُشَرْ في عنوان كلّ دعاء إلى مصدره، هل هو «الصحيفة الكاملة» أو غيرها، فانّ كلّ من أراد أن يقرأ دعاء «الصحيفة الكاملة»، لا سبيل له إلى تعيينه إلّا الرجوع إلى فهرس تخريجاته و اتّحاداته. علماً أنّ هذا الفهرس يدلّ فقط على أنّ الدعاء المرقّم كذا هو من الكاملة أو من غيرها. و لا يرشد القارئ إلى دعاء من «الصحيفة الكاملة» يريد أن يقرأه حسب ما يستدعيه حاله فيقول مثلًا:
راجع الدعاء الفلانيّ!
كثرة طرق «الصحيفة السجّاديّة»
و من الواضح أنّ أدعية «الصحيفة الكاملة» بخصوصها ذات مزيّة من حيث المتن و المضمون، و البلاغة و الفصاحة، و السند و المصدر ممّا يجعلها لا تقبل القياس بأدعية سائر الصحائف أبداً.
و تتمتّع «الصحيفة الكاملة» بسند متواتر قطعيّ و قد حافظت على تواترها منذ عصر الإمام عليه السلام حتى الآن. و كان الأعلام من العلماء و المحدِّثين يذكرون في إجازاتهم - بخاصّة - «نهج البلاغة» و تلك الصحيفة. و لم يوردوها مجرّدة و إنّما مشفوعة بسند واحد، بل بأسناد كثيرة و متنوّعة في كلّ عصر.
و رواها المجلسيّ رضوان الله عليه في كتاب الإجازات من «بحار الأنوار» بطرق عديدة، منها عن والده العلّامة محمّد تقي المجلسيّ الأوّل، إذ أخذها مباشرة من الإمام المهديّ قائم آل محمّد عليه السلام في عالم المنام مناولةً و رواها.۱
ثمّ رواها برواية والده محمّد تقي عن بعض مشايخه معنعناً. و قال العلّامة المجلسيّ الأوّل في خاتمتها: إلى غير ذلك من الطرق الكثيرة التي
تزيد على الآلاف و الالوف، و إن كان ما ذكرته مع و جازته يرتقي إلى ستمائة طريق عالية.۱
و قال بعد أن ذكر رواية «الصحيفة» عن والده محمّد تقي، عن طريق الشهيد الثاني: ما كان مكتوباً بعد هذه الإجازة الشهيديّة الثانويّة بخطّ الوالد العلّامة: أجزتُ للولد الأعزّ أن يروي عنّي «الصحيفة» بهذه الأسناد عن إمام الساجدين و زين العابدين و العارفين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب مع الإسناد الذي بلا واسطة عن صاحب الزمان و خليفة الرحمن صلوات الله و سلامه عليه الذي وقع في الرؤيا مع سائر الأسانيد التي تزيد على ألف ألف سند (مليون).٢
و نلحظ أنّه بعد أن نقل رواية «الصحيفة» بأسناد كثيرة مختلفة عبر ذكر الحيلولات بين السند عن والده محمّد تقي، عن الشيخ بهاء الدين العامليّ و سائر أساتذة إجازته و أعلامها، أورد في خاتمتها لفظ أبيه، و هو: و يرتقي الأسانيد المذكورة هنا إلى ستّة و خمسين ألف إسناد و مائة إسناد.٣
و كذلك عند ما نقل في إجازة اخرى رواية «الصحيفة» عن والده: العلّامة محمّد تقي عن طريق صاحب الزمان عليه السلام، و عن خطّ الشّيخ شمس الدين محمّد صاحب الكرامات: جدّ الحسين بن عبد الصمد والد الشيخ البهائيّ العامليّ أعلى الله تعالى مقامهم، و أيضاً صرّح المرحوم
المجلسيّ الأوّل بكثرة الطرق من خلال ذكر الحيلولات، قال في آخرها: و الحاصل أنّه لا شكّ في أنّ «الصحيفة الكاملة» عن مولانا سيّد الساجدين بذاتها و فصاحتها و بلاغتها، و اشتمالها على العلوم الإلهيّة التي لا يمكن لغير المعصوم الإتيان بها. و الحمد للّه ربّ العالمين على هذه النعمة الجليلة العظيمة التي اختصّت بنا معشر الشيعة، و الصلاة على مدينة العلوم الربّانيّة، سيّد المرسلين و عترته أبواب العلوم و الحكم القدّوسيّة و السلام عليهم و رحمة الله و بركاته.
نمّقه محمّد تقي بن مجلسيّ في غرّة شهر الله الأعظم رمضان لسنة أربع و ستّين بعد الألف و الأسانيد المذكورة هنا خمسة آلاف و ستمائة و ستّة عشر إسناداً.۱
و نلحظ بين إجازات المجلسيّ الأوّل كلمة لَا يُحْصَى كثيراً، أي: إنّ الأسناد من الكثرة بحيث يتعذّر حصرها و إحصاؤها، مثلًا قال في إحدى حيلولات إجازة «الصحيفة» عن الشيخ البهائيّ:
و بالأسانيد السابقة و غيرها ممّا لَا يُحْصَى بواسطة الشهيد و بغيرها عن السيّد تاج الدين، عن جمّ غفير من علمائنا الذين كانوا في عصره.٢
و قال أيضاً وسط إجازته عن والد الشيخ البهائيّ ضمن حيلولة: و الذي رأيتُ من أسانيد «الصحيفة» بغير هذه الأسانيد فَهِيَ أكْثَرُ مِنْ أنْ تُحْصَى.٣
أجل، إذا كانت «الصحيفة الكاملة» على هذه الدرجة من الإتقان،
فكيف يمكن خلط أدعيتها بسائر الأدعية التي لا تبلغ مستواها، أو التي تعرف بضعف سندها أحياناً، أو التي يبدو التشويش على متنها و ألفاظها؟!
و من وحي ذلك الإتقان و الرصانة و الإحكام كان العلماء الأعلام في كلّ زمان يكتبونها بخطّهم، و يقابلونها، و يبذلون قصارى جهودهم في المحافظة على عباراتها و كلماتها نفسها، و يذكرون تلك الأدعية عينها في إجازاتهم، و يوصون تلاميذهم و الأشخاص المجازين من قبلهم بالاحتياط. أي: أنّهم كانوا يتشدّدون كثيراً في إجازة روايتها للآخرين، و في نقلها و حكايتها لئلّا تتغيّر فيها كلمة أو حرف، أو ينالها تحريف و تبديل، لا سمح الله.
و هذا هو معنى الاحتياط المألوف الذي يوصي به مشايخ الإجازة في إجازاتهم لمن يجيزونهم!
و حينئذٍ هل يتسنّى لنا أن نساوي صحيفة هي كالقرآن في تواتر سندها، و حملت عنوان «إنجيل أهل البيت»، و «زبور آل محمّد»۱ - و هما مشهوران متداولان في الكتب - مع أدعية غير فصيحة لا ترقى إلى مستوى عالٍ من المعارف الإلهيّة؟ أو أنّها فصيحة بَيدَ أنّ معارفها قاصرة عن بلوغ
ذلك المستوى الرفيع من المعارف؟ و هل يمكننا أن نجعلها في سِلك واحد؟!
و هل يعني هذا العمل غير جعل العالم مع الجاهل، و اللؤلؤ البرّاق مع الخزف، و الفيروزج مع الخرز، و نظمها جميعها في عقد واحد؟
و عند ما يقرّ المؤلّف المحترم في موضع من صحيفته أنّ الدعاء ٢۰۱ المروي في الصحيفة ٥/ ٢٢۸، الدعاء ٦۷ عن كتاب «أنيس العابدين» و «بحار الأنوار» و في «الصحيفة الرابعة»، قد قال فيه صاحب «الصحيفة الخامسة» أعني: آية الله السيّد محسن الأمين العامليّ ما نصّه: وَ لَكِنْ في عِبَارَاتِهِ مَا يُوهِنُ الجَزْمَ بِكَوْنِهِ مِنَ الإمَامِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ يَقْوَى كَوْنُهُ مِنْ تَألِيفِ مَنْ لَا يُحْسِنُ العَرَبِيَّةَ،۱ فكيف ذكره بطوله و مضامينه الباردة، و جعله في عداد أدعية «الصحيفة الكاملة»؟!
و أورد المرحوم المحدِّث النوريّ في آخر صحيفته الرابعة مناجاتين منظومتين منسوبتين إلى الإمام وجدهما بخطّ بعض العلماء، و مطلع أوّلهما:
* أ لَمْ تَسْمَعْ بِفَضْلِكَ يَا مُنَائِي*؟
و مطلع الاخرى:
* إلَيْكَ يَا رَبِّ قَدْ وَجَّهْتُ حَاجَاتِي*
و الأولى تسعة أبيات، و الثانية أحد عشر بيتاً.٢ و سبق لنا أن نقلناهما عن آية الله الأمين الذي لم يذكرهما في صحيفته الخامسة - مع أنّه نقل كافّة أدعية «الصحيفة الثالثة» و «الصحيفة الرابعة» - و عدّهما في التنبيه التاسع الوارد في مقدّمة صحيفته موضوعتين، ركيكتين، قد صدرتا من شخصٍ
لا يحسن العربيّة.
و لكنّ مدوّن «الصحيفة السجّاديّة الجامعة» قد ذكرهما معاً. و العجيب أنّه قال: وَ نَحْنُ نُورِدُهُمَا كَذلِكَ مَعَ اعْتِقَادِنَا بِعَدَمِ صِحَّةِ نِسْبَتِهِمَا إلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِمَا فِيهِمَا مِنْ ضَعْفٍ في نَظْمِهِمَا وَ لَفْظِهِمَا، وَ هُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَيْنُ الفَصَاحَةِ وَ مَنْبَعُ البَلَاغَةِ. وَ قَدْ قَطَعَ السَّيِّدُ الأمِينُ بِفَسَادِ نِسْبَتِهِمَا إلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ في مُقَدِّمَةِ الصَّحِيفَةِ «٥» وَ قَالَ: عُذْرُ صَاحِبِ الصَّحِيفَةِ «٤» في إيرادِهِمَا عَدَمُ كَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِاللِّسَانِ العَرَبِيّ.۱
لو فرضنا أنّ الإمام السجّاد عليه السلام عاتب المحدِّث النوريّ و آخذه قائلًا له: لِمَ ذكرت هذه الأدعية الركيكة الخالية من السند في عِداد أدعيتي و نَسَبْتَها إليّ؟! و أنّ المرحوم الأمين نهض للدفاع عنه مطايبةً و قال: عذره عدم كمال معرفته باللسان العربيّ. فما ذا يقول المؤلّف المحترم للإمام عليه السلام إذا عاتبه بقوله: إذا كنتَ تعترف بفساد نسبتهما إليّ، فَلِمَ ذكرتَهما في صحيفتك الجامعة و نسبتهما إليّ، و من ثمّ جعلتهما في عداد أدعية «الصحيفة الكاملة»؟!
و هل يملك جواباً غير قوله: أردتُ أن تكون صحيفتك يا مولاي أكبر و أضخم؟!
بَيدَ أنّ أصل الإشكال هنا و هو: لما ذا لا نبيّن و لا نكتب و لا نقرأ الأدعية كما وردت؟! و لما ذا لا نطبع «الصحيفة الكاملة» على حِدة؟! و لما ذا لا نقدّم «الصحيفة الثانية» و «الثالثة»، و «الرابعة»، و «الخامسة» إلى الناس كما هي عليه بلا أدنى تصرّف فيها، لكي نحذر من التلاعب في كلام الإمام، و في كلام أصحاب الصحائف؟ و لما ذا لا نفرز الصحيح من السقيم؟ و لما ذا
نخلط الصواب و الخطأ، و المتيقّن منه و المشكوك فيه؟!
و الصحيح هو أن نجعل كتاب الدعاء كما ورد، بخاصّة إذا كان دعاء من أدعية «الصحيفة الكاملة السجّاديّة» و نضعه على النَّسَق المأثور عن الإمام عليه السلام. أ فلا يعني إقحامه في غيره تمثيلًا به؟!
و لقد أصبح مألوفاً اليوم في طبع كتب الأعلام أن يتصرّف محقّقها أو مصحّحها أو المعلِّق عليها في عبارات مصنّفيها تصرّفات لا تُسَوَّغُ بحالٍ، و ذلك من خلال عبارة مَزِيدَةٌ مُنَقَّحةٌ. و هذا ذنب كبير.
و يبلغ الأمر حدّاً أنّنا لا نلاحظ اهتماماً بنفس الكتاب أبداً، لأنّنا لا ندري كم بذل المصحّح من جهودٍ عليه؟ و إلى أيّ درجة تتطابق مطالب الكتاب مع كلام المؤلّف؟
و لهذا نجد في الطبعة الأخيرة لكتاب «الوافي بالوفيات» قد كتب على ظهر الأجزاء الأولى منه عبارة: الطَّبْعَةُ الثَّانِيَةُ غَيْرُ المُنَقَّحَةِ.۱ أي: ليعلم الناس أنّ محتويات الكتاب سلمت من تلاعب المتصدّين لطبعه و نشره.
لقد جمع المؤلّف المحترم الأدعية برمّتها، و بوّبها حسب الموضوعات، و جعل كلّ موضوع في باب مستقلّ. فقد ذكر - مثلًا - في بداية الكتاب ثمانية أدعية في موضوع التحميد و التوحيد و التسبيح و التمجيد على النحو الآتي:
الأوّل: إذَا ابْتَدَأ بِالدُّعَاءِ بَدَأ بالتَّحْمِيدِ للهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ: الحَمْدُ للهِ الأوَّلِ بِلَا أوَّلٍ كَانَ قَبْلَهُ، وَ الآخِرِ بِلَا آخِرٍ يَكُونُ بَعْدَهُ ... إلى آخره.
الثاني: في التَّحْمِيدِ للهِ عَزَّ وَ جَلَّ:
الحَمْدُ للهِ الذي تَجَلَّى لِلْقُلُوبِ بِالعَظَمَةِ، وَ احْتَجَبَ عَنِ الأبْصَارِ بِالعِزَّةِ ... إلى آخره.
الثالث: في التَّوحِيدِ:
إلَهِي بَدَتْ قُدْرَتُكَ وَ لَمْ تَبْدُ هَيْئَةُ جَلَالِكَ، فَجَهِلُوكَ وَ قَدَّرُوكَ بِالتَّقدِيرِ عَلَى غَيْرِ مَا أنْتَ بِهِ شَبَّهُوكَ ... إلى آخره.
الرابع: في التَّسْبِيحِ:
سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَ حَنَانَيْكَ، سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَ تَعَالَيْتَ ... إلى آخره.
الخامس: في تَسْبِيحِ اللهِ تَعَالَى وَ تَنْزِيهِهِ:
سُبْحَانَ مَنْ أشْرَقَ نُورُهُ كُلَّ ظُلْمَةٍ، سُبْحَانَ مَنْ قَدَّرَ بِقُدْرَتِهِ كُلَّ قُدْرَةٍ ... إلى آخره.
السادس: إذَا تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: «وَ إن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا»: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ في أحَدٍ مِنْ مَعْرِفَةِ نِعَمِهِ إلَّا المَعْرِفَةِ بِالتَّقْصِيرِ عَنْ مَعْرِفَتِهَا كَمَا لَمْ يَجْعَلْ في أحَدٍ مِنْ مَعْرِفَةِ إدْرَاكِهِ أكْثَرَ مِنَ العِلْمِ بِأنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ ... إلى آخره.
السابع: في التَّمْجِيدِ:
الحَمْدُ للهِ الذي تَجَلَّى لِلْقُلوبِ بِالعَظَمَةِ، وَ احْتَجَبَ عَنِ الأبْصَارِ بِالعِزَّةِ ... إلى آخره.
الثامن: إذَا مَجَّدَ اللهَ وَ اسْتَقْصَى في الثَّنَاءِ عَلَيْهِ:
اللهُمَّ إنَّ أحَداً لَا يَبْلُغُ مِنْ شُكْرِكَ غَايَةً وَ إنْ أبْعَدَ إلَّا حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ إحْسَانِكَ مَا يُلْزِمُهُ شُكْرَكَ ... إلى آخره.
و يختم الموضوع هنا، ثمّ يدخل في موضوع الصلوات، و هو الدعاء
التاسع.۱
و لا يلاحظ في هذه الأدعية ما يميّزها بعضها عن بعض، فيُعرف المتيقّن صدوره عن الإمام من غيره، إلى أن يصل إلى خاتمة الكتاب في الفهرس الثالث عشر الذي يشتمل على تخريجات «الصحيفة الجامعة» و اتّحاداتها، و يحدّد هناك أنّ الدعاء الأوّل من «الصحيفة الاولي».
و أنّ الدعاء الثاني في «الصحيفة الثالثة»، و في «الصحيفة الثانية» حسب نقل «الصحيفة الثالثة»، و هو موجود في «الصحيفة الخامسة».
و الدعاء الثالث في «إرشاد الشيخ المفيد»، و نُقِلَ من «مطالب السئول».
و الدعاء الرابع في «ملحقات الصحيفة الاولي»، و في «الصحيفة الثانية»، و ذكره الكفعميّ في مصباحه.
و الدعاء الخامس في «دعوات الراونديّ»، و «الصحيفة ٣»، و «الصحيفة ٥».
و الدعاء السادس في «تحف العقول»، و «الصحيفة ٤»، و «الصحيفة ٥».
و الدعاء السابع في «ملحقات الصحيفة الأولي»، و في «الصحيفة ٢».
و الدعاء الثامن في «الصحيفة ٣». و هو أحد الأدعية الإحدى و العشرين الساقطة. حكاه صاحب «الصحيفة الخامسة».٢
نقد على التبويب الموضوعيّ للصحيفة السجّاديّة
و إذا قيل: إنّنا نريد أن نبوّب الأدعية كلّها حسب موضوعاتها! فانّنا
نقول في الجواب: لِمَ تريدون أن تجمعوا الأدعية المسلّمة و المتيقّنة مع الأدعية المشكوكة و الواهية من حيث المتن و السند؟! و مَن الذي ألزمنا بهذا العمل؟ و ما هي فوائد التبويب حسب الموضوع أساساً؟! و لو كان هذا الأمر صحيحاً، فَلِمَ لَمْ يُبَوِّب الإمام السجّاد عليه السلام نفسه أدعيته في «الصحيفة الكاملة»؟! و لِمَ لَمْ تُبَوَّبِ السور و الآياتُ القرآنيّة؟!
إن القرآن الكريم كتاب تلاوة و عمل، و مصدر لكسب المعنويّات. و تُلاحَظُ في كلّ سورة آيات متنوّعة تشتمل على مطالب عرفانيّة و معارف إلهيّة، و وحدة الحقّ الأقدس تعالى بصور و أشكال متباينة. و ينبغي أن يكون هكذا. لأنّ قاري القرآن في كلّ يوم و ليلة، و في كلّ حالة متفاوتة يحتاج إلى جميع ضروب النصائح و المواعظ و الحِكَم. و عليه أن يتوجّه إلى التوحيد في كلّ لحظة، و ينبغي أن تدور آيات الأحكام في وسطها دائماً. فليس للقرآن أوّل و لا آخر. و كلّه سواء.
و هذا هو كتاب الوحي السماويّ، و ورقة العمل لظهور الأحوال المعنويّة و الحياة الخالدة الزاخرة بالنعم السرمديّة الباقية، دنيويّة كانت أم اخرويّة. و لهذا نجد سوره و آياته كالطبيعة النقيّة صافيةً بلا تدخّل و لا تصرّف، ليلها و نهارها متفاوتان، جبالها مختلفة، سهولها و صحاراها غير متناسبة، شمسها و قمرها مرّة في أوجهما، و اخرى في حضيضهما. لفصولها الأربعة في كلّ نقطة من العالم حكم خاصّ. و لكلٍّ من أنهارها و بحارها و محيطاتها حجم وسعة و حكم مخصوص، و مياه مختلفة.
و هذا الاختلاف الطبعيّ و الطبيعيّ هو الذي يقيم العالم. و إذا قُدّر أن تكون الأشياء كلّها متساويةً ذات شكلٍ واحد و لون واحد و حجم واحد و حرارة واحدة، فلن يستقيم أمر العالم لحظة واحدة، و لتجرّع بكلتا يديه كأس المنون، و كان مصيره إلى الفناء و العدم و الهلاك.
و هكذا دأب القرآن، و كتاب الدعاء، و كلّ كتاب إلهيّ، لأنّه اخذ من فهم النفوس و الأرواح التي تعيش في هذا العالم المليء بالاختلاف، و تحت سمائه الزرقاء.
و لو أردتَ مثلًا أن تبوّب القرآن الكريم على شكل مباحث موضوعيّة و مطالب مصنّفة! فانّك ستجمع آيات الأحكام المتعلّقة بالإرث و النكاح و الطلاق في مكان، و آيات العبادات المرتبطة بالحجّ و الصلاة و الصيام في مكان، و آيات البيع و الدَّين و الرهن في مكان، و الآيات التوحيديّة و المعارف الإلهيّة في مكان، و حينئذٍ لا يعود القرآن قرآناً. و لا يكون قرآناً كريماً و مجيداً، و لا يتّصف بصفة المجد و الكرم، و لا يصدق عليه عنوان لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ.۱
و سيصبح كتاباً عاديّاً كسائر الكتب. و لن يحمل عنوان المعجزة، و الخلود، و الأبديّة. و لن يهب الإنسان الباحث عن الله روحاً. و لن يكون مربّياً للأرواح.
لقد كان محمّد على فروغي عالماً. و يظهر من كتاب «سير حكمت» في اوروبّا، و من تصحيحه بعض الكتب و التعليق عليها أنّه رجل مثقّف مطّلع. بَيدَ أنّه كان في عصر رضا خان بهلوي عَلَماً من أعلام الاستعمار الإنجليزيّ في إيران. و بلغ تعاونه مع رضا خان و الانجليز درجة بحيث يجب أن يؤلَّف كتاب بل كتباً في هذا المجال حقّاً. و في زمانه الغيت تلاوة القرآن في المدارس و حلّ محلّها بعض الآيات المنتخبة.
و كان عازماً على تلخيص القرآن، و حذف الآيات المتكرّرة، بَيدَ أنّ يد الغيب الأحديّة صفعته على رأسه، إذ لمّا دخل الجيشان الروسيّ
و الإنجليزيّ إيران، فانّه فزع إلى أسياده فأمروه بالاستقالة، و لاذ بالفرار و للهِ الحَمْدُ وَ لَهُ المِنَّة إذ انكسر الدنّ و اريق ما في الصواع. (أي: انتهى كلّ شيء و انتفى أصل الموضوع).
إن لكلّ عبارة و كلمة في القرآن الكريم، و «نهج البلاغة»، و «الصحيفة الكاملة السجّاديّة» موضوعيّة، و ينبغي أن لا ينالها تغيير و تبديل و تحريف، و أن لا تتفرّق و تُلْحَق بسائر الكتب، و أن لا تُلْحَق بها كتب اخرى.
و إذا أراد شخص أن يؤلّف مستدركاً على «نهج البلاغة» فالطريق أمامه مفتوح، بَيدَ أنّه لا حقّ له أن يُقحمه في «نهج البلاغة»، و يخلطه بخطبه حسب الموضوعات.
إن «نهج البلاغة» مِن البَدْوِ إلَى الخَتْمِ هو من اختيار الشريف الرضيّ لخطب أمير المؤمنين عليه السلام و كُتُبه و حِكَمه. و له اسلوب خاصّ و معانٍ مخصوصة لَهَا مِنْهَا عَلَيْهَا شَوَاهِدُ. فاذا زعم أحد أنّه يجمع بقيّة الخُطَب، فهنيئاً له، و لكن كما كتبوا و يكتبون، فعليه أن يكتب و ينظّم مستدركاً مستقلًا خاصّاً لها، و يفرده في كتابٍ على حِدَة، و لا يجعله مع أصل «نهج البلاغة» في مجلّد واحد، و ذلك لكي يُحفَظ شأن و مقام كلّ خطبة و كتاب في موضعهما.
هل يمكننا أن نجعل القرآن الكريم مع التوراة و الإنجيل و نبوّيه معهما بشكل مباحث موضوعيّة و مطالب علميّة، و نجمعه معهما في مجموعة واحدة بحيث لا تتميّز آياته عمّا ورد فيهما، و بحيث نحتاج إلى فهرس لتمييزها، حتى لو فرضنا أنّ ذينك الكتابين هما الكتابان الأصليّان اللذان لم يُحرَّفا؟ و هل يتسنّى لنا مثلًا أن نجعل في رأس كلّ صفحة علامة لتمييز الآيات القرآنيّة و تمييز نصوص التوراة و الإنجيل؟ و هذا المثال المذكور هنا هو أبرز الأمثلة المتصوَّرة و أبينها. و من الواضح أنّ هذا العمل
غير سديد أبداً. فللقرآن الكريم - عقلًا و شرعاً و شهوداً - خصائص و مزايا و آثار و قيود معيّنة، فينبغي أن لا يُخلط بسائر الكتب و إن كانت أحاديث قدسيّة و ألواح سماويّة.
قصّة الشَّرَق، لا الخمر و لا العَرَق
أجل، إنّ خلط مثل هذه الأدعية، و الإرجاع إلى فهرس الكتاب من أجل تعيينها، و أخيراً التنصّل عن المسئوليّة و التخلّص من المؤاخذة بهذا الطريق تماماً كما يخاف شارب الخمر من عقوبة الشرطة فيقول: شربتُ شَرَقاً و ما شربتُ شراباً و لا عرقاً.
و توضيح ذلك أنّ ابن عمّتي سماحة آية الله السيّد مهدي الروحانيّ۱ دامت بركاته نجل المرحوم آية الله السيّد أبو الحسن الروحانيّ القمّيّ تحرّك من قم يوم الثلاثاء في الثامن من ربيع الآخر ۱٤۱٣ هـ قاصداً مشهد
المقدّسة لزيارة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام و تفضّل بالمجيء إلى بيتي من أجل عيادتي. و جرى أثناء كلامنا حديث حول قائد الثورة الفقيد آية الله الخمينيّ رضوان الله عليه، و آية الله المنتظريّ دامت معاليه.
و ذكر أنّ الشيخ المنتظريّ تباحث ذات يوم مع السيّد الخمينيّ حول موضوع معيّن. و ما يتذكّره منه هو أنّ آية الله الخمينيّ كان يقول يجتمع هذا الحكم مع ذلك الحكم و لا إشكال في اجتماعهما، و إن كان كلّ منهما ممتنعاً في نفسه عند عدم الاجتماع.
فهبّ تلميذه معارضاً، و احتدم النقاش بينهما كما هو شأن طلّاب العلوم الدينيّة، و أصرّ السيّد الخمينيّ على رأيه، و لم يتنازل الشيخ المنتظريّ عن رأيه أيضاً، بَيدَ أنّه كان يحاول أن يثبت مطلبه، فلم يفلح، إذ كان استاذه يحول دون ذلك.
و أخيراً قال الشيخ بلهجته الأصفهانيّة: أتعلم ما هو الموضوع؟! إنّ استدلالك على الحليَّة و جواز حكم ذينك الموضوعين معاً كحلِّيَّة شُرب الشَّرَقِ تماماً!
و سأله الحاضرون بما فيهم استاذه السيّد الخمينيّ: ما ذا تريد من حلِّيَّة شُرب الشَّرَق؟
قال: كان أحد الماجنين دائم السُّكْر، و أصبح الإدمان على الشراب أمراً مألوفاً عنده، و ما عاد يستطعم الخمر وحده فكان يخلطه بالعَرَق و يشربه.
و قُبض عليه يوماً و هو سكران فأتى به إلى الشرطة ليقرّ و يقام عليه الحدّ.
و كلّما أراد منه القاضي أن يقرّ، لم يفعل و كان يقسم أيماناً مغلّظة
على ذلك. علماً أنّ حالته كانت واضحة للناس و القاضي، فلم يَسَعْهم أن يتركوه. و سأله القاضي: هل شربتَ شراباً؟!
قال: لم أشرب قطرة واحدة!
قال: شربتَ عَرَقاً؟!
قال: لم أشرب قطرة واحدة!
قال: فما بالك تتمايل في مشيتك؟!
قال: شربتُ شَرَقاً و لم أشرب خمراً و لا عَرَقاً.
قال: ما ذا تريد؟!
قال: أنا دائماً أخلط الشراب بالعَرَق و أشربه! و الشَّرَق حلال يا عمّي! و الشراب حرام. و العَرَق حرام.
قال آية الله الروحانيّ: كانت الغلبة في هذا البحث للشيخ المنتظريّ، و كنتُ سابقاً قد سمعتُ مثل هذا النقاش مختصراً من آية الله السيّد موسى الشبيريّ الزنجانيّ دامت بركاته.
شرعيّة حقّ التأليف و حقّ الترجمة
و يرى بعض المجتهدين المعاصرين أنّ حقّ التأليف و الترجمة مشروع لصاحبه، بينما لا يرى البعض الآخر منهم ذلك.۱ مثلًا إذا ألّف شخص كتاباً، فهل يحقّ له أن يستأثر بطبعه في فترات مختلفة و درجات متباينة، أو لا يحقّ له ذلك مكتفياً بالطبعة الأولى، إذ يتسنّى لكلّ أحد أن يطبع الكتاب على النسخة التي اشتراها لنفسه، و يعرضه في السوق؟!
أو إذا اخترع شخص شيئاً، فصنع مصباحاً أو سيّارةً، أو رسم لوحةً، فهل يحقّ للآخرين أن يصنعوا مثل ما صنع، أو يرسموا مثل لوحته؟ أو أن
يستنسخوا على ذلك، و يهيّئوا عدداً كبيراً منه و يعرضوه في السوق، أو لا يحقّ لهم؟
كان استاذنا سماحة العلّامة آية الله السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ التبريزيّ أعلى الله درجته السامية يرى أنّ التأليف، و الترجمة، و التلخيص، و التبويب الموضوعيّ للمباحث من حقّ المتصدّي لذلك، و كلّ تصرّف بدون إذنه تصرّف في الحقّ المشروع للآخرين. و كان يفتي بحرمة ذلك شرعاً و عقلًا. أمّا الذين يقولون: هذا الحقّ غير شرعيّ، و لا يخصّ صاحب الكتاب و الصناعة، فعليهم أن يأتوا بأدلّتهم.
و أن يقولوا مثلًا: إنّ هذا الحقّ و إن كان شائعاً بين الناس هذا اليوم، بَيدَ أنّه لا يستلزم ثبوت الحقّ في الشرع الأنور، و ما لم نستطع أن نثبت الحقّ الشرعيّ، لا نقدر أن نجعل ذلك لمؤلّف الكتاب أو صاحب الصناعة. و الحقّ الشرعيّ هو الحقّ الذي يثبت في عصر الشارع، و هو رسول الله و خلفاؤه بالحقّ و هم الأئمّة الطاهرون صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين و الحقّ اليوم في عُرف الناس لا يكشف عن ثبوت الحقّ عند الشارع أبداً.۱
إذ يمكن أن يكون هذا الحقّ في عصر الشارع غير معروف عند الناس، أو هو معروف، لكنّ الشارع لا يُمضه، و لا يتمّ الموضوع ما لم نكشف الإمضاء الشرعيّ لثبوت الحقّ العُرفيّ ذلك اليوم. و إذا قال شخص: يمكن أن يكون ثبوت الحقّ العُرفيّ هذا اليوم دليلًا على ثبوت الحقّ الشرعيّ ذلك اليوم، أي: أنّ ثبوت الحقّ العُرفيّ هذا اليوم دليل على ثبوت الحق العُرفيّ ذلك اليوم، و لمّا لم يصل ردع و منع من الشارع، قلنا أن نكشف عن الإمضاء الشرعيّ؛ فكلامه لا يتمّ لأنّ ثبوت الحقّ العُرفيّ هذا
اليوم لا يُثبت الحقّ العُرفيّ السابق إلّا بالاستصحاب القهقرائيّ المُجْمَع على عدم حُجّيّته. و لمّا كنّا لا نملك طريق الإثبات على الحقّ العرفيّ في زمن الشارع، فانّ الكشف عن الإمضاء الشرعيّ سيُصبح في غير سَدَد.
أو يقولوا مثلًا: النَّاسُ مُسَلَّطُونَ عَلَى أمْوَالِهِمْ وَ أنْفُسِهِمْ دليل على تسلّط غير صاحب الكتاب على نسخته المأخوذة و المملوكة. فله أن ينسخ على تلك النسخة عدداً كبيراً منها.
و لا يتمّ هذا الدليل أيضاً إذ يُحتمل هنا حقّ الغير، و جملة الناس مسلّطون مقيّدة بعدم تضييع حقّ الغير، كما أنّ التمسّك بهذه الرواية لإثبات حقّ التأليف لصاحبه غير سديد، لأنّ هذا التسلّط فرع على ثبوت المال أو الحقّ الذي هو في حكم المال. و الإشكال في أصل ثبوت الحقّ. و الحكم لا يثبت موضوعه، و عدم صحّة التمسّك بدليل حكم، على فرض عدم تماميّة الموضوع، من البديهيّات.
أو يقولوا مثلًا: إنّ ثبوت حقّ التأليف لصاحبه لا يوجب عدم انتفاع العامّة من ذلك التأليف، و لا معنى لأن يُوجِد الشارع مثل هذا التقييد فيوجب عدم انتفاع العامّة.
و في هذا الدليل إشكال طَرْداً و عَكْساً مضافاً إلى ضعف أصل الدليل.
و أمّا أولئك الذين يرون أنّ حقّ التأليف ثابت، فلعلّ بعضهم يتمسّك بالقاعدة القائلة: لَا ضَرَرَ وَ لَا ضِرَارَ في الإسلَامِ. و في هذا التشبّث ما لا يخفى من الإشكال أيضاً.
إذ إنّ الدليل أخصّ من المُدَّعي، ذلك أنّه ربّما لا يوجب الضرر. مضافاً إلى أنّنا ينبغي أن نعدّه مقتصراً على موارد الضرر، و غالباً ما يكون عدم حقّ التأليف غير موجب للضرر، بل موجب لعدم النفع الكثير. و دليل لا ضرر يشمل حالة خصوص الضرر، لا حالة عدم الانتفاع.
و في رأى الحقير أنّ حقّ التأليف حقّ ثابت و مشروع، لأنّ العرف يعدّه معروفاً، و يرى أنّ تضييعه و التصرّف فيه بدون إذن المؤلّف منكر. و في ضوء ذلك تشمله الآية الكريمة: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ.۱
و العُرف هو العمل الحسن المحمود المعروف بين الناس، و قد أنسوا به، و أمضوه، و ألفوه، و ساروا في سلوكهم على منواله.
و المنكر هو العمل القبيح المذموم غير المعروف، الذي يرفضه الطبع و لا يستصوبه، و يراه شاذّاً.
و كذلك الآية الكريمة: وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ،٢ و الآية الكريمة: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ،٣ و سائر الآيات الواردة على هذا النسق، كلّها تشمل هذه الحالة، و تُثبت حقّ التأليف.
و لا يعني العُرف العادة و الاسلوب، بل يعني الاسلوب المحمود و المطلوب. و المنكر هو القبيح. و في ضوء ذلك، فانّ كلّ ما عُرِف عند عامّة الناس عُرفاً و معروفاً، فانّ الآيتين وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ تشملانه، إذ لا يلزم شيء آخر لشمول الحكم لموضوعه إلّا تحقّق نفس الموضوع.
و لمّا كنّا نعلم أنّ سواد الناس في محاوراتهم و اجتماعاتهم يرون حقّ
التأليف معروفاً، و تضييعه منكراً، لهذا فانّ الآيات الآمرة بالعُرف
و المعروف، و الآيات الناهية عن المنكر تشملهما.
و نذكر فيما يأتي معنى العُرف و المعروف، و النكر و المنكر نقلًا عن بعض كتب اللغة المعتبرة لتستبين حقيقة هذا البحث.
قال في «أقرب الموارد»: العُرف بالضمّ: المعروف و الجود، و اسم ما تبذله و تعطيه. و موج البحر. و ضدّ النكر.
و هو كلّ ما تعرفه النفس من الخير و تطمئنّ إليه. تقول: أوْلَاهُ عُرْفاً، أي: معروفاً.
عُرف اللسان: ما يُفهَم من اللفظ بحسب وضعه اللغويّ؛ و عرف الشرع: ما فهم منه حملة الشرع و جعلوه مبني الأحكام.
و العُرف: هو ما استقرّ في النفوس من جهة شهادات العقول و تلقّته الطباع السليمة بالقبول. و العادة ما استمرّ الناس عليه عند حكم العقول و عادوا له مرّة بعد اخرى. و منه قول الفقهاء: العَادَةُ مُحَكَّمَةٌ۱ وَ العُرْفُ قَاضٍ.
و قال في كلمة المَعْرُوف: المعروف اسم مفعول، و المعروف المشهور، و ضدّ المنكر. و هو كلّ ما يحسن في الشرع. و قيل: هو كلّ ما سكنت إليه النفس و استحسنته. و المعروف: الخير. و الرزق. و الإحسان. و منه قولهم: مَنْ كَانَ آمِراً بِالمَعْرُوفِ فَلْيَأمُرْ بِالمَعْرُوفِ.
و قال في «مجمع البحرين»: قوله: إلَّا مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ؛٢
المعروف اسم جامع لكلّ ما عُرف من طاعة الله، و التقرّب إليه، و الإحسان إلى الناس، و كلّ ما يندب إليه الشرع من المحسّنات، و ينهى عنه من المقبّحات.
و إن شئت قلتَ: المعروف اسم لكلّ فعل يُعرف حُسنه بالشرع و العقل من غير أن ينازع فيه الشرع.
قوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ،۱ أي: بحسن عِشرة و إنفاق مناسب. أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ٢ بأن تتركوهنّ حتى يخرجن من العدّة فتبين منكم، لا بغير معروف بأن يراجعها، ثمّ يطلّقها تطويلًا للعدّة و قصداً للمضارّة.
قوله: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً.٣ قيل: هو التعرّض بالخِطبة.
قوله: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ،٤ أي: ما يسدّ حاجته و في المعروف: القوت. و إنّما عني الوصيّ و القيّم في أموالهم بما يصلحهم.
قوله: وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً،٥ أي: بالمعروف! و المعروف ما عُرِف من طاعة الله، و المنكر ما اخرج منها.
و قال ابن الأثير في «النهاية»، مادّة عَرَفَ: قد تكرّر ذكر المعروف في الحديث، و هو اسمٌ جامع لكلّ ما عرف من طاعة الله و التقرّب إليه و الإحسان إلى الناس؛ و كلّ ما ندب إليه الشرع و نهى عنه من المحسِّنات و المقبّحات. و هو من الصفات الغالبة، أي: أمرٌ معروفٌ بين الناس إذا
رأوه لا ينكرونه.
و المعروف: النَّصَفَة و حُسن الصُّحبة مع الأهل و غيرهم من الناس. و المنكر ضدّ ذلك جميعه.
و قال الجوهريّ في «صحاح اللغة»: و المعروف ضدّ المنكر. و العُرف ضدّ النكر. يُقال: أوْلَاهُ عُرْفاً، أي: معروفاً.
و قال الزبيديّ في «تاج العروس»: المعروف ضدّ المنكر. قال تعالى: وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ.۱ و في الحديث: صَنَايِعُ المَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ.
و قال الراغب: و المعروف اسم لكلّ فعلٍ يُعرَف بالعقل أو الشرع حُسنُه؛ و المنكر ما يُنكَر بهما. قال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.٢ و قال: وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً.٣ و لهذا قيل للاقتصاد في الجود معروف، لمّا كان ذلك مستحسناً في العقول و بالشرع نحو: وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ.٤ و نحو: وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ،٥ أي: بالاقتصاد و الإحسان. و قوله: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً،٦ أي: رَدٌّ بِالجَمِيلِ وَ دُعَاءٌ خَيْرٌ مِن صَدَقَةٍ هَكَذَا.
و قال ابن منظور في «لسان العرب»: و المعروف ضدّ المنكر، و العُرف ضدّ النُّكر. يقال: أوْلَاهُ عُرْفاً أي: مَعْرُوفاً. و المعروف و العارفة:
خلاف النُّكر. و العرف و المعروف: الجود ....
و المعروف كالعرف و قوله تعالى: وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً،۱ أي: مصاحَباً معروفاً. قال الزجّاج: المعروف هنا ما يُسْتَحْسَنُ من الأفعال. و قوله تعالى: وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ،٢ قيل في التفسير: المعروف الكُسوة و الدِّثار، و ألّا يُقَصِّر الرجل في نفقة المرأة التي تُرضِعُ ولده إذا كانت والدته، لأنّ الوالدة أرأف بولدها من غيرها. و حقّ كلّ واحدٍ منهما أن يأتمر في الولد بمعروفٍ.
أجل، إنّ ما نبغيه من هذه الاستشهادات اللغويّة هو أنّ يُعْلَمَ أنّ لفظ العُرف و المعروف في اللغة الشيء الحَسَن المرضيّ. و لمّا كان العُرف العامّ يرى حقّ التأليف و الترجمة عُرفاً و معروفاً، فيمكن الاستدلال على مشروعيّة حقّ التأليف و الترجمة و الصناعة و الحِرفة في ضوء الآية: وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ و الآية: وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ.
و إن قال امرئٌ بأنّ هذه العرفيّة و المعروفيّة لا تكفي اليومَ لمصداقيّة عُرفيّة زمن الشارع، ما لم تثبت العرفيّة في ذلك الزمن، فانّ الاستدلال بهذه الآيات مشكل.
فجوابه: أنّ الموضوعات العُرفيّة لا تؤخذ من العُرف، و لا صلة لها بالشرع. مثلًا ما ذا تقولون في الآية: أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ٣؟!
أ لستم تقولون: متى تحقّق موضوع يصدق عليه عنوان البيع في كلّ زمان و مكان، فإنّ حكم أحَلَّ اللهُ يشمله؟ و هكذا الأمر في موضوع
العرف و المعروف. فأنّي ظهر شيء بين الناس في كلّ زمان و مكان و استحسنوه و رأوه معروفاً، و استقبحوا خلافه و عدّوه منكراً، فيجب مراعاته و عدّه لازماً حسناً بحكم القرآن الكريم، و ينبغي الاحتراز من مخالفته.
إلّا إذا ورد نصّ من الشارع على خلافه. مثلًا لو شاع بين الناس عدم غسل أيديهم قبل الطعام، و أنّ هذا الغسل منكر؛ أو شاع بينهم حلِّيَّة مصافحة المرأة الأجنبيّة، و أنّ خلاف ذلك قبيح منكر، فحينئذٍ لا يلزم اتّباع الأمر العُرفي لورود النصّ الشرعيّ على حرمة ذلك أو كراهته. و هذا نصّ في الحكم و دليل مخصِّص و مقيِّد للعمومات و المطلقات.
و نظير هذه المسألة كثير.
و أمّا إذا لم يكن هناك دليل مخصِّص و مقيِّد، و لم يُنْظَر إلى ذلك الأمر على أنّه مكروه أو محرّم، و عدّه العُرف حَسَناً محترماً في ضوء التوجّه الفطريّ و الغريزيّ، أو على أساس التعاليم المكتَسَبة، فمراعاته لازمة.
أقدم نسخة من «الصحيفة الكاملة» المخطوطة ظهرت أخيراً و فيها أربعون دعاء، و تنقص عن الصحيفة الأصليّة خمس و ثلاثين دعاء.
تمّ العثور على ثلاثة أشياء كانت دفينة في وسط عمود من أعمدة الحرم الرضويّ الشريف، و ذلك عند ما أرادوا توسيع الحرم في عصر الطاغوت المقبور محمّد رضا البهلوي. و كان نائب متولّي الآستانة الرضويّة المقدّسة و محافظ خراسان يومئذٍ داود بيرنيا، و مسؤول تعمير الحرم المهندس الأنصاريّ. و هذه الأشياء كانت قد وضعت في وسط العمود لنفاستها، و بُغية صيانتها من الناهبين.
و لا يُعلم متى كان ذلك، و من هو الحاكم المتسلّط على الآستانة آنذاك. و لكن يتبيّن من تأريخ الكتابة أنّها كانت بعد السابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة ٤٢٩ هـ.
و الأشياء المذكورة هي:
۱ - قَرابة ألف و ستمائة و خمسين قسماً من القرآن الكريم.
٢ - أربع مخطوطات تضمّ إحداها مجموعة تتألّف من خمس مخطوطات و هي ذات غلاف كارتونيّ، و لون خمريّ بسطور مختلفة، و خطّ نسخيّ، و حجم الصفحة ۱۱/٥× ۱۷/٥. و هذه المخطوطات الخمس هي: قَوَارِعُ القُرْآنِ، كرّاسة فيها آيات الرُّقْيَة و الحِرْز، «الصحيفة السجّاديّة»، كتاب «المذكّر و المؤنّث»، «رِسَالَةٌ في شَهْرِ رَجَب».
و هذه المجموعة من بين المخطوطات المذكورة في غاية النفاسة، أمّا الثلاث الاخرى فليست من الأهمّيّة في شيء.۱
٣ - مجوهرات ثمينة جدّاً سرقها داود بيرنيا و المهندس الأنصاريّ.
و أودعت صورة الكتب المشار إليها مع الكتب نفسها عند الدكتور أحمد على الرجائيّ عميد كلّيّة الآداب بمشهد، و هو نجل حارس مقبرة الفردوسيّ. ثمّ تمّ تسليمها رجلًا يُعرف بمهدي الولائيّ، إذ كان أخصّائيّاً في المخطوطات القديمة، و زاول عمله في الآستانة الرضويّة المقدّسة سنين طويلة. و مع أنّه كان متقاعداً يومئذٍ، فقد حوِّلت إليه، لأنّه كان فريداً في هذا الفنّ.
و قام الشخص المذكور بدراسة تلك المجموعة و سائر الكتب. ثمّ نظّم لها فهرساً في مجموعة فهرس المخطوطات. و كان تأريخ تحويلها إليه
- على ما نقل هو نفسه - ٢٤ مُرداد ۱٣٤٩ شمسي.۱
و لمّا كانت «الصحيفة السجّاديّة» من الكتب الخمسة المجموعة في مجلّد واحد، و كان أحدها في علامات معرفة المذكّر و المؤنّث، و الباقي في الدعاء و الكلام، لهذا ضُبط الأوّل في قسم كتب التفسير و الحكمة و الكلام، الذي يشغل الجزء الحادي عشر من فهرس مخطوطات المكتبة الرضويّة الكبرى، و ضُبط الثاني في قسم كتب الصرف و النحو و الأدب، الذي يشكّل الجزء الثاني عشر من الفهرس المذكور.٢
و يتحصّل من الفهرسين أنّ مؤلّفي هذه المجموعة كانوا من فقهاء
الحنفيّة و الشافعيّة في أوائل القرن الخامس الهجريّ، و من علماء نيسابور و مدرّسيها و زهّادها المقيمين في مدرستها.۱
«الصحيفة السجّاديّة» هي الكتاب الثالث من هذه المجموعة، و جاء في الصفحة الأولى منها ما نصّه
«كِتَابُ الدَّعَوَاتِ» مِنْ قِيلِ عَلِيّ بْنِ الحُسَيْنِ جَدِّ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ وَ يُسَمَّى «كِتَابَ الكَامِلِ» لِحُسْنِ مَا فِيهِ مِنَ الدَّعَواتِ. وَ الأصْلُ لأبِي عَلِيّ الحَسَنِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الزَّامِيّ الهَيْصَمِيّ أسْعَدَهُ اللهُ. و الحسن بن إبراهيم الزاميّ هذا هو كاتب «الصحيفة». و ذكر تأريخ ختمها بما نصّه:
انْتَهَى المَأثُورُ مِنَ «الدَّعَواتِ» عَنْ زَيْنِ العَابِدِينَ وَ حَافِدِ سَيِّد الخَلائِقِ أجْمَعِينَ عَلِيّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ خَاتَمِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، و الصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ الطَّيِّبِينَ، وَ كَتَبَهُ الحَسَنُ بْنُ إبْرَاهِيمَ ابْنِ مُحَمَّدٍ الزَّامِيّ۱ في شَوَّالِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ وَ أرْبَعمِائَةٍ. غَفَرَ اللهُ لَهُ وَ لِوَالِدَيْهِ وَ لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ وَ المُؤْمِنِاتِ.
و جاء في آخر الكتاب: سَبَّلَهُ٢ صَاحِبُهُ الخَادِمُ الجَلِيلُ أبُو الحَسنِ
عَلِيّ بْنُ إبْرَاهِيمَ البُوزَ جَانِيّ عَلَى الاسْتَادِ الإمَامِ الزَّاهِدِ أبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ و عَلَى أوْلَادِهِ وَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ أكْرَمَهُمُ اللهُ بِمَرْضَاتِهِ لِيَقْرَؤُوا عَلَى رَأسِ العَوَامِ في النِّصْفِ مِنْ رَجَبٍ يَوْمِ الاسْتِفْتَاحِ مَا دَامَ هَذَا الجُزْءِ بَاقِياً، رَجَا دَعْوَةً صَالِحَةً مِنْهُمْ، يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ عَمَلَهُ وَ حَقَّقَ رَجَاهُ وَ أمَلَهُ، وَ أصْلَحَ آخِرَهُ وَ أوَّلَهُ.
و من هنا يتبيّن أنّ هذه النسخة موقوفة، و أنّ ما قاله أصحاب الفهارس حول الواقف إنّه لم يُعرف،۱ و إنّه مجهول،٢ صحيح.
و من الجدير ذكره أنّ كاتب الصحيفة أورد بعد خاتمتها مناجاةً تشتمل على أشعار، رواها عن سفيان بن عُيَيْنَة، عن محمّد بن شهاب الزهريّ، عن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام، و فيها مخاطبة لنفسه و حديث مع ربّه، و أوّلها: يَا نَفْسُ حَتَّامَ إلَى الحَيَاةِ سُكُونُكِ٣ بطولها. ثمّ
ذكر دعاءً حسناً بمقدار صفحتين و أوّله: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ الذي
خَلَقْتَهُ مِنْ شَجَرَةٍ أصْلُهَا إبْرَاهِيمُ الخَلِيلُ، وَ فَرْعُهَا الذَّبِيحُ إسْمَاعِيلُ وَ عَلَى آلِهِ الغُرِّ البَهَالِيلِ.
ثمّ أورد بعد ذلك دعاءً لختم القرآن في أربعة سطور، بهذا النحو: اللَهُمَّ أنْتَ عَلَّمْتَنَاهُ قَبْلَ رَغْبَتِنَا في تَعَلُّمِهِ - إلى آخره.
ثمّ قال: مقابل من أوّل الكتاب إلى هاهنا بالأصل بقراءة أخي إسماعيل بن محمّد القفّال، أيّده الله بارك الله لمن نظر فيه مستفيداً.
و كتب إجازة روايته بالطريق الآتي: أجاز لي أخي أبو القاسم عبد الله بن محمّد بن سلمة الفرهاذجِردِيّ سلّمه الله أن أروي «الصحيفة» بتمامها عنه، عن أبي بكر الكرمانيّ رحمه الله بروايته عن رجاله، كما كتبناه، صحّ.
ثمّ ذكر في الورقة الآتية سلسلة رجال الرواية بالنحو الآتي: بِسم الله الرحمن الرحيم. قال الاستاذ أبو بكر محمّد بن عليّ الكرمانيّ رضي الله عنه: أخبرنا بندار بن يحيى البزوزن قال: أخبرني أبو الحسن محمّد بن يحيى بن سهل الدُّهْنيّ (و يُدعى الرَّهْنيّ أيضاً) قال: حدّثنا أبو عليّ محمّد ابن هُمام بن سُهَيْل الإسكافيّ، قال: حدّثنا عليّ بن مالك، قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله، قال حدّثنا محمّد بن صالح عن عُمير بن المتوكّل بن هارون، قال: حدّثني أبي المتوكّل، قال: لقيت يحيى بن زيد بن عليّ بن الحسين رضي الله عنه بعد قتل أبيه، و هو متوجّه إلى خراسان فسلّمتُ عليه.
و يبيّن الراوي هنا تفصيل اللقاء و الحوار الذي دار بينه و بين يحيى ابن زيد، إلى أن يقول: قام محمّد و إبراهيم من عند الإمام الصادق عليه
السلام و هما يقولان: لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ. و دعا المتوكّل بالدفتر، و «الصحيفة» هي بتمامها بحمد الله و منّه و فضله.
هذه آخر عبارة من شرح مقدّمة سند «الصحيفة». و نقول: أوّلًا: ذكر السند في آخرها على خلاف الصحيفة المشهورة المتداولة، و خلاف سائر الكتب التي يُذكَر في أوّلها. ثانياً: سقطت تتمة الحديث كلّه، و فيه أنّ الإمام عليه السلام أخبر المتوكّل بن هارون برؤيا رسول الله صلى الله عليه و آله، و حكومة بني اميّة، و تفسير الآية المباركة: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ. إلى آخره.
أدعية «الصحيفة» التي عُثِرَ عليها أربعون
يقل عدد أدعية هذه «الصحيفة» عن عدد أدعية «الصحيفة الكاملة» المشهورة خمسة عشر دعاءً. و لهذا فهي ناقصة بالنسبه إليها، إذ نلحظ من الأدعية المشهورة (٣٩) دعاء فحسب، و لمّا كان الدعاء المعنون: وَ مِنْ دُعَائِه في الشَّكْوَى، مضافاً إلى «الصحيفة» المشهورة، فعددها يبلغ إذن أربعين دعاء. و يعود السبب في ذكر (٣۸) دعاء في الفهرس إلى إيراد دعاءين مستقلَّين تحت عنوان خاصّ في موضعين من «الصحيفة» المشهورة، و هما في «الصحيفة» التي عُثر عليها متمّمان للدعاء السابق:
الأوّل: في ص ٣٩ من النسخة التي عثر عليها وضعت ثلاث نقاط بعد عبارة بِسُيُوفِ أعْدَائِهِ. ثمّ كتب ما نصّه: وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي مَنَّ عَلَيْنَا ... و جاء هذا القسم في نسخ «الصحيفة» المشهورة تحت عنوان: الصَّلَاةُ على مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ.
الثاني: في ص ٤۱ منها جاء بعد عبارة: وَ لَا يُخَافُ إغْفَالُكَ ثَوَابَ مَنْ أرْضَاكَ، قوله: يَا مَن لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُ عَظَمَتِهِ ... مباشرةً. و ورد هذا
القسم في نسخ الصحيفة المشهورة تحت عنوان دُعَاؤُهُ لِنَفْسِهِ وَ خَاصَّتِهِ.
و لمّا كنّا نعلم أنّ عدد أدعية الصحيفة المشهورة التي في أيدينا (٥٤) دعاء، فأدعية الصحيفة التي عثر عليها تقلّ عن أدعيتها (۱٥) دعاء، و من مجموع عدد الأدعية (۱٤) دعاء. و لهذا قلنا: هذه النسخة بمنزلة النسخة الناقصة من الصحيفة التي عُثِرَ عَلَيها.
من الجدير ذكره أنّنا اعتمدنا في عملنا على عين النسخة التي عُثِرَ عليها، و مجموع أوراقها (۱۰۱) - و استوعبت الصحيفة منها ورق (٤۰) حتى ورق (۸٣) - و لم نعتمد على نسختها المصوَّرة.
هذا من جهة المتن، أمّا من جهة السند فقد رأينا أنّ رواتها جميعهم كانوا من أهل السنّة و لا حُجّيّة في كلامهم و نقلهم. و يمكن أن تدعم هذه الصحيفة - بما هي عليه من النقصان و السند المذكور - «الصحيفة الكاملة» المشهورة بسبب قدمها حيث يعود تأريخها إلى سنة ٤۱٦ هـ.
الأصل هو «الصحيفة» المشهورة، و هذه الصحيفة تدعمها، و ينبغي أن تطبع على انفراد، و لا تخلط أدعيتها و عباراتها و سندها و تأريخ مقدّمتها بالصحيفة المشهورة.
طبع «الصحيفة» المكتشفة مع مقدّمة آية الله الفهريّ بالشام
زارني في هذا الصيف صديقي الكريم فضيلة العلّامة الباحث المتخصّص في الشؤون الشيعيّة آية الله السيّد عبد العزيز الطباطبائيّ۱
لعيادتي متفضّلًا. و لمّا دار الحديث حول هذه الصحيفة قال: طبعها سماحة سيّد العلماء الكرام صديقي الجليل القديم آية الله السيّد أحمد الفهريّ الزنجانيّ بالشام. و من الضروريّ أن تصلكم نسخة منها. فاتّصلتُ على الفور بالحاجّ أبي موسى جعفر محيي مدير مكتب التبرّعات و الاستلامات في الصحن الشريف للسيّدة زينب عليها السلام كي يبعث إليّ نسخة منها .. و بعد قرابة عشرين يوماً وصلتني النسخة بطبع أنيق و خطّ جميل و ذوق رفيع، و عليها مقدّمة بقلم آية الله الفهريّ نفسه.۱
و في هذه الفترة وصلني الجزء الأوّل من نسخة فارسيّة بعنوان «شرح و ترجمة صحيفة سجّاديّة» (= شرح الصحيفة السجّاديّة و ترجمتها) و هي من
إعداده أيضاً و كانت قد طبعت بطهران.۱ و الحمد لله و المنّة إذ غمرتنا الأنوار القدسيّة للإمام السجّاد عليه السلام بواسطته و ببركات قلمه، و هو ما لا يأتي عليه الوصف.
نقد المزايا المذكورة لـ «الصحيفة» المكتشفة
أمّا الذي يتبيّن لنا من حديثه حول مواضع الاختلاف بين النسخة المشهورة و النسخة التي عُثِرَ عليها، فهو أنّ عدد الفروق بلغ ثمانية، خمسة منها تعدّ من مزايا النسخة التي عُثِرَ عليها. و عندي أنّ القول بالمزايا غير سديد و لهذا رأيتُ لزاماً على نفسي أن أتحدّث عن الصحيفة هنا، حيث أحسب أنّ هذه الفرصة هي أفضل فرصة للتعريف بـ «الصحيفة السجّاديّة».
المزيّة الأولى: قِدَمُ النسخة، إذ إنّ تأريخ كتابتها هو سنة ٤۱٦ هـ، مع أنّ تأريخ كتابة أقدم النسخ الموجودة من «الصحيفة» في العالم هو ٦٩٤، و ٦٩٥، و ٦٩۷. ناهيك عن وجود نسخة منها بخطّ الشهيد الأوّل المولود سنة ۷٢٤ هـ و المُستشهد سنة ۷۸٤ هـ.
الجواب: أنّ قِدَمَ النسخة نفسه لا يدلّ على مزيّة ما لم نستند إلى الأصل الصحيح و الرواة الثقات، و نعوّل عليهم. و عند ما يعترف هو ذاته بتواتر سند «الصحيفة»، و أنّ هذه الصحيفة الحاليّة المشهورة قد حافظت على تواترها في أعلى درجات الإتقان منذ عصر الإمام عليه السلام و في كلّ عصر و مصر، فما هي الحاجة إلى لزوم قدم النسخة في حدّ نفسها .. ذلك أنّ تواتر النسخة المشهورة يعود قِدَمه إلى سنة ٤۱٦ هـ، سواء وجدت مخطوطة منها في تلك السنة، و بعدها أم لم توجد.
بعبارة اخرى: فإنّ معنى تواترها هو أنّها مقطوع بها بما تضمّه من الأدعية نفسها، و عددها، و ألفاظها منذ عصر الإمام زين العابدين عليه
السلام حتى عصرنا هذا. أي: أنّها كانت موجودة سنة ٤۱٦ هـ، و عبّرت عن وجودها، و أثبتت يقينيّتها - و إن لم يُعثر على نسخة منها يومئذٍ في مقابل تلك الصحيفة التي تحمل مثالب مختلفة من حيث نقصان عدد أدعيتها، و من حيث شرح المقدّمة، و رواتها السُّنّة المجهولين الذين لم يثبت وثوقهم عندنا - و تفوّقت على تلك الصحيفة، و تباهت أمام مواضع اختلافها.
مثلًا، لنفرض أنّ مخطوطة من القرآن الكريم لم يعثر عليها في العالم، ثمّ تمّ اكتشاف مخطوطة نفيسة جدّاً تعود إلى عصر هارون الرشيد، و تخلو من بعض السور، أو يُلاحَظ فيها ألفاظ تختلف عن ألفاظ بعض الآيات الموجودة، فما ذا عسانا أن نقول في مثل هذه الحالة و هذا الفرض؟ هل نقول إنّ هذه النسخة مقدّمة على المصاحف الموجودة المألوفة لأنّها عريقة و نفيسة جدّاً؟! أم أنّنا سوف لن نعتني بها في مقابل القرآن؟! و نتركها بسبب تواتر القرآن، و لا نرجع إليها إلّا بوصفها شاهداً على السور و الآيات القرآنيّة؟!
و عند ما تخلو تلك النسخة القديمة المكتوبة سنة ٤۱٦ هـ من الاعتبار اللازم سنداً، و يُلحَظ فيها نقص، و حذف لرؤيا رسول الله صلى الله عليه و آله و تعبيرها بحكومة بني اميّة، و تفسير آية القدر وفقاً لآراء السُّنّة و رواتهم، فحينئذٍ كيف يتسنّى للقِدَم أن يُضفي عليها قيمة علميّة و تأريخيّة؟!
في ضوء ذلك لا يتّسم قِدَم كلّ كتاب بقيمة علميّة و تحقيقيّة إلّا إذا كان مبتنياً على الاصول العلميّة لذلك الكتاب أو ذلك الفنّ، لا مخالفاً لها.
و بلُغةٍ علميّة: فإنّ قيمة اكتشاف الأثريّات تتّصل اتّصالًا مباشراً بنحو الآلية و المرآتيّة على تحقّق و تثبيت الفرضيّة العلميّة التي تمثّلها، لا على
نحو الموضوعيّة.
و نلحظ إذن أنّ كشف صفحة من كلام أفلاطون الثابت انتسابه إليه، هو أكثر قيمة من كشف كتاب ضخم مشكوك الانتساب إليه، و إن كان تأريخ كتابته قد سبق تأريخ الصفحة المذكورة بألف سنة.
المزيّة الثانية: البلاغة الباهرة الملحوظة في معظم مواضع الاختلاف مع النسخة المعروفة.
و الجواب هو أنّ ما تحرّيناه و ما قابلناه من ألفاظ الصحيفة المشهورة و كلماتها مع ألفاظ الصحيفة المعثور عليها و كلماتها، لا يدلّ على بلاغة باهرة، و لا غير باهرة، مضافة على الصحيفة المشهورة. بل هما على درجة واحدة من البلاغة بعد الجرح و التعديل. و نذكر فيما يأتي شرحاً موجزاً يرتبط بدعاء يَا مَنْ تُحَلُّ بِهِ عُقَدُ المَكَارِهِ، و نقايس فيه بين الجمل و الكلمات التي تختلف فيما بينها، و أخيراً نجمعها معاً ليستبين أن لا مزيّة في بلاغة الصحيفة المكتشفة على الصحيفة المشهورة.
عنوان هذا الدعاء في الصحيفة المشهورة: دُعَاؤُهُ في المُهِمَّاتِ، و في الصحيفة المكتشفة: و من دعائه إذا نَزَلَتْ بِه مُهِمَّةٌ.۱
و في المشهورة: وَ يَا مَنْ يُفْثَا بِهِ حَدُّ الشَّدَائِدِ.
و في المكتشفة: وَ يَا مَن يُفْثَا بِهِ حَمْيُ الشَّدَائِدِ.
حدّ الشدائد - حدّ الشراب: سَوْرَتَه. حدّ السيف: مَقْطعه. من الإنسان: بأسه و ما يعتريه من الغَضَب. من كلّ شيء: شباته و حِدَّتُه.
حَمْيُ الشَّدَائِدِ. و الصّحيح حَمْيُ الشَّدَائد لا حَمَى الشَّدَائِد، لأنّ
الحَمْي هو الحرارة. حَمِى يَحْمَي حَمْياً وَ حُمْياً وَ حُمُوّاً النَّارُ: اشتدَّ حَرُّهَا.
فَثَأ يَفْثَأ فَثَأً وَ فُثُوءاً القِدْرَ: سَكَّنَ غَلَيَانَها، الغَضبَ: سَكَّنَ حِدَّتَهُ.
فكلتا الكلمتين حَسَنَةٌ، إذ إنّ فَثَأ حَدَّهُ بمعنى سكّن شدّته و حدّته. و فَثَأ حَمْيَهُ بمعنى سكّن حرارته.
و في المشهورة: وَ يَا مَنْ يُلْتَمَسُ مِنْهُ المَخْرَجُ إلَى رَوْحِ الفَرَجِ.
و في المكتشفة: وَ يَا مَنْ يُلْتَمَسُ بِهِ المَخْرَجُ إلَى مَحَلِّ الفَرَجِ.
لا فرق بين مِنْهُ و بِهِ. و أمّا رَوح الفَرَج في المشهورة، فهي أبلغ من مَحَلِّ الفَرَج في المكتشفة، لأنّ الرَّوح هو الراحة، و النسيم، و العدالة التي تُريح المتألّم الشاكي، و النصرة، و الفرح، و الرحمة. و من الطبيعيّ أنّها أبلغ من محلّ الفرج، لأنّنا لا نحصل منها على اللطائف الموجودة في رَوح الفرَج.
و في المشهورة: ذَلَّتْ لِقُدْرَتِكَ الصِّعَابُ.
و في المكتشفة: ذَلَّتْ بِقُدْرَتِكَ الصِّعابُ.
اللام للتعدية، و الباء للتسبيب، و لا فرق بينهما.
و في المشهورة: وَ تَسَبَّبَتْ بِلُطْفِكَ الأسْبَابُ.
و في المكتشفة: وَ تَشَبَّكَتْ بِلُطْفِكَ الأسْبَابُ.
تَسَبُّب الأسباب جعلها وسيلة لتنفيذ أمرك! و تَشَبُّك الأسباب اختلاطها. اشتبك و تشبّك، يعني اختلط و امتزج. تداخل بعضه في بعض و كلاهما رفيع فصيح.
و في المشهورة: وَ جرى بِقُدْرَتِكَ القَضَاءُ.
و في المكتشفة: وَ جرى بِطَاعَتِكَ القَضَاءُ.
جريان الامور و القضاء وفقاً لقدرتك، أو طاعتك، و كلاهما صحيح.
و في المشهورة: وَ مَضَتْ عَلَى إرَادَتِكَ الأشْيَاءُ.
و في المكتشفة: وَ مَضَتْ عَلَى ذِكْرِكَ الأشْيَاءُ.
الذِّكر هو التسبيح و التمجيد و الصِيت. و إرادته بمعنى جريان الأشياء حسب إرادة الله تعالى. و من الطبيعيّ، فإنّ هذه أبلغ من جريانها حسب تسبيحه و ذِكره.
و في المشهورة: وَ قَدْ نَزَلَ بِي.
و في المكتشفة: قَدْ نَزَلَ بِي.
و هي بالواو أحلى و أكثر ملاحةً.
في المشهورة: مَا قَدْ تَكَأدَنِي ثِقْلُهُ.
و في المكتشفة: مَا قَدْ تَكَاأدَنِى ثِقْلُهُ.
كِلا الفعلَين من باب كَأدَ. تَكَادَّ وَ تَكَاءَدَ الأمرُ فلاناً: شَقَّ عليه، من باب تفعّل و تفاعل. و معناهما واحد لا يختلف.
في المشهورة: وَ ألَمَّ بِي مَا قَدْ بَهَظَنِي حَمْلُهُ.
و في المكتشفة: وَ ألَمَّ بِي مَا قَدْ بَهَظَنِي حِمْلُهُ.
بَهَظَهُ يَبْهَظُهُ بَهْظاً. أبْهَظَهُ الحمل أو الأمرُ: أثْقَلَهُ وَ سَبَّبَ له مَشَقَّةً.
الحمل مصدر بمعنى الرفع، و الحِمل اسم مصدر بمعنى ما يُحْمَل. و كلاهما جيّد بلا تفاوت.
في المشهورة: وَ لَا فَاتِحَ لِمَا أغْلَقْتَ وَ لَا مُغْلِقَ لِمَا فَتَحْتَ وَ لَا مُيَسِّرَ لِمَا عَسَّرْتَ وَ لَا نَاصِرَ لِمَنْ خَذَلْتَ، فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ افْتَحْ لي يَا رَبِّ بَابَ الفَرَجِ بِطَولِكَ!
و في المكتشفة: وَ لَا فَاتِحَ لِمَا أغْلَقْتَ فَافْتَحْ لي يَا إلَهي أبْوَابَ الفَرَجِ بِطَولِكَ!
من الواضح أنّ ما جاء في المشهورة أفصح و أبلغ. فإنّ ذِكر المغلق في مقابل الفاتح، و جملَتَي: لا ميسِّرَ لما عَسَّرْتَ، وَ لَا ناصِرَ لِمَنْ خَذَلْتَ بما
تحمله من معانٍ رفيعة، و ذكر الصلوات على محمّد و آله، كلّ اولئك أبلغ في إيصال المعنى المتمثِّل بانحصار أمر التدبير بالله تعالى. و يمكن القول هنا حقّاً: إنّ الصحيفة المكتشفة ناقصة في هذه الفقرات.
في المشهورة: وَ أنِلْنِي حُسْنَ النَّظَر فِيمَا شَكَوْتُ!
و في المكتشفة: وَ أنِلْنِي حُسْنَ النَّظَر فِيمَا شَكَوْتُ إلَيْكَ!
لا فرق بينهما، لجواز حذف ما يعلم.
في المشهورة: وَ أذِقْنِي حَلَاوَةَ الصُّنْعِ فِيمَا سَألْتُ!
و في المكتشفة: وَ أذِقْنِي حَلَاوَةَ الصُّنْعِ فِيمَا سَألْتُكَ!
و هذا بعينه كالسابق أيضاً.
في المشهورة: وَ هَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ فَرَجاً هَنِيئاً!
و في المكتشفة: وَ هَبْ لي إلَهي مِنْ لَدُنْكَ فَرَجاً هَنِيّاً!
هَنِئ و هَنِيّ كلاهما من باب واحد و صيغة واحدة. و فيهما إعلالان. و المعنى طاب من غير مشقّةٍ و لا عناء من مادّة هَنَأ مهموز اللام، و يجوز إبدال همزته ياءً، و إدغام إلياءين ليُصبح الفعل هنّي، و بلا اختلاف. و جاء في الكاملة لفظ «رحمة»، و هو ساقط من المكتشفة الناقصة. و الأصل عدم الزيادة، لا عدم النقيصة. و عطف الفرج على الرحمة مُستحسَنٌ.
في المشهورة: وَ لَا تَشْغَلْنِي بِالاهْتِمَامِ عَنْ تَعَاهُدِ فُرُوضِكَ!
و في المكتشفة: وَ لَا تَشْغَلْنِي بالاهْتِمَامِ عَنْ تَعَهُّدِ فُرُوضِكَ!
تَعَاهَدَ وَ تَعَهَّدَ وَ اعْتَهَدَ الشَّيْءَ: تَحَفَّظَ بِهِ وَ تَفَقَّدَهُ. جَدَّدَ العَهْدَ بِهِ. فلا فرق بينهما، لأنّهما ذَوَا معنى واحدٍ مِن بَابَيْن.
في المشهورة: وَ اسْتِعْمَالِ سُنَّتِكَ!
و في المكتشفة: وَ اسْتِعْمَالِ سُنَنِكَ!
لمّا كانت سُنَن جمع سُنّة فهي أبلغ في مقابل فروض جمع فرض.
في المشهورة: فَقَدْ ضِقْتُ لِمَا نَزَلَ بِي يَا رَبِّ ذَرْعاً!
في المكتشفة: فَقَدْ ضِقْتُ بِمَا نَزَلَ بِي يَا رَبِّ ذَرْعاً!
لا فرق بينهما، مثل ذلّت لقدرتك، و ذلّت بقدرتك المارّ ذكرهما.
في المشهورة: فَافْعَلْ بِي ذَلِكَ وَ إنْ لَمْ أسْتَوجِبْهُ مِنْكَ.
في المكتشفة: فَافْعَلْ ذَلِكَ بِي إلهي وَ إنْ لَمْ أسْتَوْجِبْهُ مِنْكَ! بلا اختلاف.
في المشهورة: يَا ذَا العَرْشِ العَظِيمِ!
في المكتشفة: يَا ذَا العَرْشِ العَظِيمِ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ أزْكَى صَلَاةٍ وَ أتَمَّهَا وَ أنْمَاهَا وَ أكْمَلَهَا يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
جاءت الصلوات هنا، مضافاً إلى ما ورد في وسط الدعاء من الصلوات أيضاً في المشهورة و المكتشفة. و ما سنجده في بحث صلوات «الصحيفة»، فإنّ إنكاره الصلوات من «الصحيفة» المشهورة بنحو مطلق من أغرب الغرائب.
الفرق الثالث: في ترتيب ذِكر الأدعية، إذ حصل تقديم و تأخير في بعضها.
صحيح أنّ هناك فرقاً بين الصحيفتَين في ترتيب الأدعية، بَيدَ أنّه لا يدلّ على مزيّة للصحيفة المكتشفة، كما أنّه نفسه لم يزعم وجود مزيّة هنا.
الفرق الرابع: في عدد الأدعية، إذ أنّ لبعضها عنواناً مستقلّا في النسخة المعروفة. أمّا في النسخة القديمة فقد وردت متمّمة للأدعية التي تسبقها. كما أنّ الدعاء الأوّل و الثاني في الصحيفة المشهورة و ردا دعاء واحداً فحسب في الصحيفة القديمة.
و جاء عنوان تتميم الدعاء في الصحيفة المكتشفة في موضعين فقط،
و قد بيّناهما بصراحة. و من هنا رفعنا عدد أدعيتها من (٣۸) إلى (٤۰).
بَيدَ أنّ الموضوع المهمّ الذي أشار إليه في المقدّمة أيضاً هو النقص في عدد الأدعية المتحصّلة، إذ تقلّ عن الأدعية المعروفة البالغ عددها (٥٤) دعاء، خمسة عشر دعاء. و بانضمام دعاء الشكوى إليها يصبح العدد (۱٤) .. و هذا نقص فاحش فيها، إذ يُقدَّر بـ ٥٤/ ۱٤ من الصحيفة، و هو عدد يؤبه به، حيث يتراوح بين ثلث الصحيفة إلى ربعها.
و قد سقط منها في الحقيقة بين ثلث أدعية الصحيفة المشهورة إلى ربعها.
و هذا النقص في العدد لا يُعدّ مزيّة علميّة صحيحة للصحيفة المشهورة فحسب، بل ينبغي أن نطلق عنوان «الصحيفة الناقصة» على الصحيفة المكتشفة في مقابل «الكاملة». و نحن نشكره، إذ لم يُضْفِ صفة المزيّة على هذا النقص في الأدعية.
الفرق الخامس: في عناوين أدعية النسختين، إذ إنّ بعض عناوين النسخة المعروفة غير موجود في النسخة القديمة بتاتاً، كالدعاء الخامس المُعَنْوَن في الصحيفة المشهورة: دُعاؤُهُ لِنَفْسِهِ وَ خاصَّتِهِ، في حين هو بلا عنوان في النسخة القديمة.
صحيح أنّ اختلافاً يسيراً ملحوظاً في عبارات بعض العناوين و كلماتها في الصحيفتين. و ليس له أهمّيّة تُذكر، بَيدَ أنّ الإشكال يتمثّل في خلوّ النسخة المكتشفة من بعض العناوين، إذ كيف تخلو هذه الأدعية منها، مع أنّ لكلّ دعاء عنواناً مستقلّا به؟!
هل يمكن أن نجد مسوّغاً لهذا الأمر غير السقوط؟! و حينئذٍ يتّخذ خلوّها من العناوين طابع المثلبة فلا يُعَدّ مزيّةً، بل يعدّ وهناً و قلّة اعتبار.
إشكالات الصحيفة المكتشفة في موضوع الصلوات
الفرق السادس: في ذكر الصلاة على النبيّ و آله، إذ هي جِدُّ قليلةٍ في
النسخة القديمة، على عكس النسخة المعروفة حيث تُذكَر الصلاة على محمّد و آل محمّد غالباً في كثير من أدعيتها في رأس كلّ فصل من فصول الأدعية.
بَيدَ أنّ دعاءً واحداً فقط من أدعية الصحيفة المعروفة يخلو من الصلاة، في حين هو مذكور في النسخة القديمة. هذا الدعاء هو الذي يبدأ بقوله: يَا مَنْ تُحَلُّ بِهِ عُقَدُ المَكَارِهِ، إذ ذُكرت الصلاة على محمّد و آله في آخره، في النسخة القديمة بينما لم تَرِدْ في النسخة المشهورة. و كذلك وردت صلاة مفصَّلة على محمّد صلى الله عليه و آله في آخر النسخة القديمة، و قد خلت النسخة المعروفة منها.
و هذان الموضعان يدلّان على أنّ خلوّها من الصلاة في مواطن اخرى لا ينطلق من وحي التعصّب، و لا من وحي التقيّة، و نحتمل أنّ الإكثار من الصلاة كان من باب التيمّن و التبرّك، و هو موجب لاستجابة الدعاء كما جاء في الروايات المأثورة ... إلى أن قال: و كذلك إضافة (آل محمّد) إلى الصلاة على محمّد عملًا بالأحاديث النبويّة المأثورة عن طريق العامّة، و فيها: لَا تُصَلُّوا عَلَيّ صَلَاةً بَتْرى. و فُسِّرت البترى بعدم ذكر آل محمّد في الصلاة على محمّد صلى الله عليه و عليهم أجمعين.
لذا نجد في بعض المواضع أنّ متعلّقات الفعل تناسب الصلاة على محمّد صلى الله عليه و آله وحده [دون آله] كالفقرة الواردة في دعائه عند الصباح و المساء: اللهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ أكْثَرَ مَا صَلَّيْتُ عَلَى أحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، وَ آتِهِ عَنَّا أفْضَلَ مَا آتَيْتَ أحَداً مِنْ عِبَادِكَ، وَ اجْزِهِ عَنَّا أفْضَلَ وَ أكْرَمَ مَا جَزَيْتَ أحَداً مِنْ أنْبِيائِكَ عَنْ امَّتِهِ. فلو كانت كلمة و آله جزءاً من الصلاة، لكان مناسباً أن تأتي الضمائر بصورة الجمع و لكانت الجملة الأخيرة: أحَداً مِنْ أنْبِيَائِكَ عَنْ امَّتِهِ، ستبدو غير مناسبة.
و يُشاهَد هذا النوع المذكور في مواضع كثيرة من الصحيفة.
و محصّل هذا الاختلاف الذي عُدَّ امتيازاً مهمّاً بحمل الشائع الصناعيّ. و إن لم يُصَرَّح بلفظ الامتياز بحمل الأوّليّ الذاتيّ، يُلحَظ سقوط الصلاة على محمّد و آل و محمّد في جميع مواضع الصحيفة المكتشفة إلّا في موضعين: الأوّل: آخر دعاء يا مَن تُحَلُّ، و الثاني: آخر الصحيفة نفسها.
ذلك أنّ الصلاة تبدو غير مناسبة في كثير من مواضع الصحيفة المشهورة، لأنّ اسم محمّد قد ذُكر وحده، و لا مناسبة لإضافة كلمة الآل إليه.
و لكن لمّا نهى الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله عن الصلاة البتراء، فيمكن أن يكون ذِكر هذه الصلوات في الصحيفة المشهورة من باب التيمّن و التبرّك، أي أنّه ذُكرت زائدة على أصل الدعاء لهذا السبب.
و يدعم هذه الحقيقة عدم تعصّب كاتب الصحيفة و عدم تقيّته، لأنّه في مثل تلك الحالة ينبغي ألّا يذكرها في الموضعين المشار إليهما.
و يعود الجواب عن هذا الكلام إلى عدّة جهات:
الجهة الأولى: أنّ دعاء يَا مَنْ تُحَلُّ يخلو من الصلاة في الصحيفة المشهورة.
الجواب: وردت الصلاة في جميع نسخ الصحيفة المشهورة بما فيها صحيفته المطبوعة نفسها في ص ۱٦٣: وَ لَا نَاصِرَ لِمَنْ خَذَلْتَ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ وَ افْتَحْ لي يَا رَبِّ بَابَ الفَرَجِ بِطَوْلِكَ.
بحث علميّ في نقصان الصلوات في «الصحيفة» المكتشفة
الجَهة الثانية: ذُكرت الصلاة على محمّد و آل محمّد مرّتين لا غيرهما، في الصحيفة المكتشفة (القديمة).
الجواب: نظراً إلى أنّ الصلاة على محمّد و آل محمّد وردت (۱٤٤)
مرّة في أدعية الصحيفة المشهورة، التي نقلتها الصحيفة المكتشفة،۱ فإنّ و رودها في موضعين من الصحيفة المكتشفة لا يكفي لرفع تهمة التعصّب و فَرْض ذوق الكاتب، و يبقى هذا الاحتمال على حاله، و هو أنّه ذكرها فيهما لتحظى صحيفته المستنسخة بالقبول النسبيّ، لأنّه لو حذفها من جميع المواضع لَبَانَ للجميع تعصّبه المذهبيّ و فَرْض رأيه الخاصّ. و من هذا المنطلق فقد حذف (۱٢۸) موضعاً بصورة تامّة - و هذه ضربة قاصمة للصحيفة - و ذكرها بتراء في (۱٤) موضعاً.٢ و لم يذكرها كاملةً إلّا في
موضعين. فالإشكال المهمّ هو أنّه أوّلًا: لما ذا حذف القسم الأعظم من صلوات الصحيفة في النسخة المكتشفة بنحوٍ تامٍّ؟ ثانياً: لما ذا ذكر الصلاة البتراء في (۱٤) موضعاً؟ و ما الذي دعاه إلى عدم عطف كلمة آل على الرسول، في حين أنّ الصلاة بلا شكّ هي الصلاة على محمّد و آل محمّد؟ هي واردة في الأحاديث المأثورة الكثيرة التي نقلها أهل السنّة في كيفيّة ذِكر الصلاة، و أوردوها في صحاحهم المعتبرة. و فيها أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله أجاب سؤال من سأله عن كيفيّة الصلاة ما مضمونه أن تُلْحق الصلاة على آل محمّد بالصلاة عليه.
روايات العامّة حول لزوم ذكر «الآل» في الصلاة على النبيّ
روى البخاريّ عن سعيد بن يحيى، عن أبيه، عن مِسْعَر، عن الحكم، عن ابن أبي ليلى، عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه قال: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ. فَكَيْفَ الصَّلَاةُ؟
قَالَ: قُولُوا: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبراهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ! اللَهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ!
و ذكر أيضاً حديثين آخرين بسندين آخرين، و مضمونهما قريب منه.۱
و رواه مُسلم في صحيحه، و الترمذيّ، و أبو داود، و الدارميّ،
و النسائيّ في سننه، و أحمد بن حنبل في مسنده، و مالك في موطّئه، في مواضع عديدة.۱
و رواه المولى جلال الدين السيوطيّ في تفسير «الدرّ المنثور» بأسناد كثيرة، منها:
۱ - قال: أخرج سعيد بن منصور، و عبد بن حميد، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه عن كعب بن عُجْرَة قال: لَمَّا نَزَلَتْ «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً»٢ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا السَّلَامُ عَلَيْكَ! فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟!
قَالَ: قُولُوا: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ! وَ بَارِك عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلى إبراهِيمَ وَ آلِ إبرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.٣
٢ - و قال أيضاً: أخرج ابن جرير عن يونس بن خَبَّاب قال: خطبنا بفارس، فقال: إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ (الآية). قال: أنبأني من سمع ابنَ عبّاس يقول: هكذا انزل، فقالوا:
يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا السَّلَامُ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟!
فَقَالَ النبيّ: قولوا: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آل مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَ ارْحَمْ مُحَمَّداً وَ آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا رَحِمْتَ آلَ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ على آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ على إبْرَاهِيمَ وَ عَلى آلِ إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ
مَجِيدٌ.۱
٣ - و قال أيضا: أخرج ابن جرير، عن إبراهيم في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ (الآية)، قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا السَّلَامُ قَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟!
فقال: قولوا: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ وَ آلِ بَيْتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ! وَ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ بَيْتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آل إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ!٢
٤ - و قال أيضاً: و أخرج عبد الرزّاق، و ابن أبي شيبة، و أحمد، و عبد بن حميد، و البخاريّ، و مسلم، و أبو داود، و الترمذيّ، و النسائيّ، و ابن ماجة، و ابن مردويه عن كعب بن عُجْرَة قال: قال رجل: يَا رَسُولَ اللهِ! أمَّا السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَلِمْنَاهُ فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟!
قال: قل: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ! اللَهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ!٣
٥ - و قال أيضاً: و أخرج ابن أبي شيبة، و عبد بن حميد، و النسائيّ، و ابن أبي عاصم، و الهيثم بن كليب الشاشيّ، و ابن مردويه، عن طلحة بن عبيد الله قال: قلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟!
قال: قُل: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.٤
٦ - و قال أيضاً: أخرج ابن جرير، عن طلحة بن عبيد الله قال: أتي
رجل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم فقال: سمعتُ الله يقول: إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ، فكيف الصلاة عليك؟!
قال: قل: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ! وَ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ!۱
۸ - و قال أيضاً: و أخرج ابن جرير، عن كعب بن عُجْرَة قال: لمّا نزلت: إنَّ اللهَ وَ مَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ (الآية)، قمتُ إليه فقلتُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟!
قال: قُل: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ! وَ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ!٢
۸ - و قال أيضاً: و أخرج ابن أبي شَيبة، و أحمد، و عبد بن حميد، و البخاريّ، و النسائيّ، و ابن ماجة، و ابن مردويه عن أبي سعيد الخُدريّ قال: قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ! هَذَا السَّلَامُ عَلَيْكَ قَدْ عَلِمْنَاهُ! فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟
قال: قولوا: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، وَ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ!٣
٩ - و قال أيضاً: و أخرج عبد بن حميد، و النسائيّ، و ابن مردويه، عن أبي هريرة أنّهم سألوا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم: كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟!
قال: قولوا: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ وَ بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ آلِ إبْرَاهِيمَ في العَالَمِينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ! وَ السَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ!۱
۱۰ - و قال أيضاً: و أخرج مالك، و عبد الرزّاق، و ابن أبي شيبة، و عبد بن حميد، و أبو داود، و الترمذيّ، و النسائيّ، و ابن مردويه عن أبي مسعود الأنصاريّ أنّ بشير بن سعد قال: يَا رَسُولَ اللهِ! أمَرَنَا اللهُ أن نُصَلِّي عَلَيْكَ! فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟!
فسكت حتى تمنّينا أنّا لم نسأله. ثمّ قال: قولوا: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ! وَ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ في العَالَمِينَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ! وَ السَّلَامُ كَمَا قَدْ عَلِمْتُمْ!٢
۱۱ - و قال أيضاً: و أخرج ابن مردويه عن عليّ عليه السلام قال: قلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟!
قال: قولوا: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ، إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ!٣
۱٢ - و قال أيضاً: و أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ السَّلَامُ عَلَيْكَ! فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟!
قال: قولوا: اللَهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَ بَرَكَاتِكَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا جَعَلْتَهَا عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.٤
۱٣ - و قال أيضاً: و أخرج ابن خزيمة، و الحاكم و صحّحه، و البيهقيّ في سننه عن أبي مسعود عقبة بن عمرو أنّ رجلًا قال: يَا رَسُولَ اللهِ! أمَّا
السَّلَامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ إذَا نَحْنُ صَلَّيْنَا عَلَيْكَ في صَلَاتِنَا؟! فَصَمَتَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ (وَ آلِهِ) وَ سَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ:
إذَا أنْتُمْ صَلَّيْتُمْ عَلَيّ فَقُولُوا: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيّ الامِّيّ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ! وَ بَارِكْ على مُحَمَّدٍ النَّبِيّ الامِّيّ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ!۱
۱٤ - و قال السيوطيّ أيضاً: و أخرج البخاريّ في «الأدب المفرد» عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم قال: مَنْ قَالَ: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ آلِ إبْرَاهِيمَ! وَ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ آلِ إبْرَاهِيمَ! وَ تَرَحَّمْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا تَرَحَّمْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ آلِ إبْرَاهِيمَ، شَهِدْتُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ بِالشَّهَادَةِ وَ شَفَعْتُ لَهُ.٢
۱٥ - و قال السيوطيّ أيضاً: و أخرج ابن سعد، و أحمد، و النسائيّ، و ابن مردويه عن زيد بن أبي خارجة قال: قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ السَّلَامُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟!
فقال: صَلُّوا عَلَيّ وَ اجتَهِدُوا. ثمّ قولوا: اللَهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ آلِ إبْرَاهِيم إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ!٣
۱٦ - و قال السيوطيّ أيضاً: و أخرج أحمد، و عبد بن حميد، و ابن مردويه عن بُريدة، قال: قلنا: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَلِمْنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ عَلَيْكَ فَكَيْفَ نُصَلِّي عَلَيْكَ؟!
قال: قولوا: اللَهُمَّ اجْعَلْ صَلَواتِكَ وَ رَحْمَتِكَ وَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا جَعَلْتَهَا عَلَى إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.۱
أجل، كلّنا نعلم أنّ السيوطيّ من أعاظم أهل السنّة، و أنّ تفسيره «الدرّ المنثور» في غاية الشأن و الاعتبار عندهم. و قد نقلنا منه تلك الأحاديث عن صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم كأمير المؤمنين عليه السلام، و كعب بن عُجرة، و ابن عبّاس، و طلحة بن عبيد الله، و بشير بن سعد، و أبي هريرة، و أبي مسعود الأنصاريّ: عقبة بن عمرو، و زيد بن أبي خارجة، و بُريدة، ليستبين أنّ هؤلاء الرواة موثّقون عند العامّة، و كلامهم حجّة. و تدلّ هذه الأحاديث كلّها بصراحة على أنّ للفظ آل محمد مدخليّة في تحقّقها. و أنّ الصلاة على محمّدٍ صلى الله عليه و آله بدون عطف آل محمّد عليه ساقطة من درجة الاعتبار.٢
نقلنا عن السيوطيّ في هذا المقام ستّة عشر حديثاً بأسناد متنوّعة و رواة متعدّدين ليتعيّن اعتبارها و استفاضتها و ثبوتها عند أهل السنّة، و إن كان متن بعضها متباين اللفظ إجمالًا، لكنّ مفادها واحد.
أمّا من أحاديث الخاصّة، فقد فتح العلّامة المجلسيّ رضوان الله عليه في كتاب الذِّكر و الدعاء من «بحار الأنوار» باباً في فضل الصلاة على النبيّ
و آله، و هو زاخرٌ بأحاديث صحيحة و موثّقة و حسنة كثيرة.۱
منها عن كتاب «عيون أخبار الرضا عليه السلام» فيما احتجّ الإمام الرضا عليه السلام على علماء المخالفين بمحضر المأمون في تفضيل العترة الطاهرة قال عليه السلام: و أمّا الآية السابعة فقول الله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً».٢ وَ قَدْ عَلِمَ المُعَانِدُونَ مِنْهُمْ أنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! قَدْ عَرَفْنَا التَّسْلِيمَ عَلَيْكَ، فَكَيْفَ الصَّلَاةُ عَلَيْكَ؟!
فَقَالَ: تَقُولُونَ: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ وَ عَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ!
فَهَلْ بَيْنَكُمْ مَعَاشِرَ النَّاسِ في هَذَا خِلَافٌ؟! قَالُوا: لَا!
قَالَ المَأمُونُ: هَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهَ أصْلًا، وَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الامَّةِ. فَهَلْ عِنْدَكَ في الآلِ شَيءٌ أوْضَحُ مِنْ هَذَا في القُرْآنِ؟! إلى آخر الحديث.
اتّحاد نفوس الأئمّة مع رسول الله مقتضى ذِكر الآل
يكمن في هذه الآية المباركة سرٌّ في غاية العجب، لأنّ الله تعالى أمر فيها بالصلاة على نبيّه، لا عليه و على آله، في حين وردت الأحاديث الكثيرة و هي تذكر أنّ الصلاة على النبيّ هي الصلاة عليه و آله.
أي: أنّ النبيّ هو النبيّ و آله. و يعود هذا المعنى إلى شدّة اتّصال نفوسهم القدسيّة به، بحيث لا تُلحظ بين نفسه و نفوسهم بينونة و مسافة أبداً، و قد ارتقوا في مراتب التوحيد و المعرفة و تبوّؤا المقام الذي تبوّأه صلى الله عليه و آله، و لم يتخلّفوا لحظة واحدة عن هذا المعراج المعنويّ و الروحيّ و وجدوا نفسه المقدّسة هو الهُويَّة.
هذا هو الوصول إلى مقام الفناء في ذات الله تعالى، و حقيقة الواحديّة و الوحدانيّة هي مفاد الولاية الإلهيّة الكلّيّة المطلقة و معناها، و يستحيل تعدّدها و تجزّؤها، و أنّها محض التجرّد و النور الخالص و البساطة الكاملة.
فالصلاة على النبيّ هي الصلاة على آله، و الصلاة عليهم هي الصلاة عليه. ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.۱
و هناك يكون عنوان محمّد عين عنوان عليّ، و نفس عنوان فاطمة، و حقيقة عنوان الحسن و الحسين. و واقعيّة عنوان عليّ و محمّد و جعفر و موسى و عليّ و محمّد و عليّ و الحسن و محمّد، أي: لا عنوان.
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً.٢
و نحن نعلم أنّ الولاية منحصرة بالله سبحانه وحده.
فهذه الولايات جميعها على نحو هُو الهُوِيَّة الواقعيّة، و هي ليست أكثر من ولاية واحدة، لأنّ هناك واقعيّة واحدة و اسماً أعظمَ وجوديّاً واحداً لا أكثر، و لا معنى لأكثر من وجود أصيل بحت صِرف واحد.
فاذا قلتم: لما ذا نجد في تفسير هذه الآية التي تُشعِر بهذا المعنى البسيط المجرّد و الذات الوحدانيّة، و فيها خطاب الله تعالى للمؤمنين أن يصلّوا على النبيّ وحده، أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله فصل الآل، و عطفها عليه؟!
و كان ينبغي أن يقول أيضاً: قُولُوا: اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إبْرَاهِيمَ!
و الجواب هو: هذا المعنى الدقيق لا يدركه إلّا اولو الولاية و طلّابُ
هذه المدرسة الماهرون. و أمّا سائر الناس فلا خلاق لهم منه. فلهذا أمر النبيّ أن تُلحق الصلاة على آله بالصلاة عليه لئلّا يُنسى أصل الصلاة على آله و يودَع في ملفّ الجهل و الغفلة و الإهمال، و إلّا فالصلاة عليه دون آله ليست في الحقيقة حقيقة الصلاة عليه و لُبّها، و نكشف إنّاً أنّنا لم نُصَلِّ على نفسه الواقعيّة صلى الله عليه و آله، بل صلّينا على رسولٍ مفصول عن آله. من هنا لا بدّ لنا أن نعطف آل محمّد بعينها على محمّد لتتّخذ الصلاة عليه موقعها الحقيقيّ.
و هذا هو السرّ في النطق بالصلاة على محمّد و آل محمّد مباشرة حيثما ذُكر اسم النبيّ صلى الله عليه و آله.
نقول في الصلاة: وَ أشْهَدُ أنَّ محَمَّداً عبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، و بعدها مباشرة اللَهُمَّ صَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ. ثمّ ندعو للنبيّ فنقول: وَ تَقَبَّلَ شَفَاعَتَهُ وَ ارْفَعْ دَرَجَتَهُ وَ قَرِّبْ وَسِيلَتَهُ وَ أدْخِلْنَا في زُمْرَتِهِ.
جاء في أمالى الصدوق أنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: بالشَّهَادَتَيْنِ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ، وَ بِالصَّلَاةِ تَنَالُونَ الرَّحْمَةَ، فَأكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّكُمْ وَ آلِهِ «إنَّ اللهَ وَ مَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يَا أيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيمًا».۱
نجد هنا أنّ الإمام عليه السلام استدلّ بهذه الآية المباركة التي ذُكِرَ فيها النبيّ وحده للاستشهاد بها على الصلاة على آله.
و نجد أنّ الإمام السجّاد عليه السلام يصلّي على النبيّ و آله بعد ذِكر اسم النبيّ كما جاء في «الصحيفة الكاملة السجّاديّة»، قال عليه السلام: وَ الحَمْدُ للهِ الذي مَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ دُونَ الامَمِ المَاضِيَةِ
وَ القُرُونِ السَّالِفَةِ.۱
و قال أيضاً: اللَهُمَّ صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ كَمَا شَرَّفْتَنَا بِهِ، وَ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ كَمَا أوْجَبْتَ لَنَا الحَقَّ عَلَى الخَلْقِ بِسَبَبِهِ.٢
و من هنا نستطيع أن ندخل في جواب إشكاله من الجهة الثالثة، إذ كان قد قال: في دعاء الصباح و المساء الواردة فيه الصلاة على محمّد و آله:
اللَهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ أكْثَرَ مَا صَلَّيْتَ عَلَى أحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ، وَ آتِهِ عَنَّا أفْضَلَ مَا آتَيْتَ أحَداً مِنْ عِبَادِكَ، وَ اجْزِهِ عَنَّا أفْضَلَ وَ أكْرَمَ مَا جَزَيْتَ أحَداً مِنْ أنْبِيَائِكَ عَنْ امَّتِهِ!
و نلحظ هنا أنّ كلمة آله لو كانت جزءاً من الأصل، لكان مناسباً أن تأتي الضمائر بصورة الجمع، أي: آتِهِمْ، وَ اجْزِهِمْ عَنَّا، و تبدو الجملة الأخيرة غير مناسبة، و هي قوله: أحَداً مِنْ أنْبِيَائِكَ عَنْ امَّتِهِ، فكان مناسباً أن تكون كالآتي: أحَداً مِنْ أنْبِيَائِكَ وَ آلِهِ عَنْ امَّتِهِمْ.
الجواب: لو كانت الصلاة على محمّد و آل محمّد جملة ابتدائيّة استئنافيّة بدون عطفها على الجملة التي سبقتها، لكان مناسباً أن تأتي الضمائر بصورة الجمع. و لكنّ الطريف هنا هو أنّ اسم محمّد صلى الله عليه و آله ذُكر وحده في الجملة السابقة، و هذه الضمائر تعود إليه بعد ذكر الصلاة على محمّد و آله. فأنْعِم النظر!
وَ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَ رَسُولُكَ وَ خِيَرَتُكَ مِنْ خَلْقِكَ حَمَّلْتَهُ رِسَالتَكَ فَأدَّاهَا وَ أمَرْتَهُ بِالنُّصْحِ لُامَّتِهِ فَنَصحَ لَهَا، اللَهُمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ ... إلى
آخره.
و نلحظ هنا أنّه قال في الدعاء للنبيّ بعد النطق بالصلاة عليه: اللهمّ آته عنّا أفضل ما آتيت أحداً من عبادك!
و حينئذٍ تكون العبارة في غاية الانسجام و البلاغة، و أنّى لأحد أن ينتقدها؟!
الجهة الرابعة: من الإشكال الوارد على موضوع صلواتها، فنقول له: نجد - على أيّ تقدير و بأيّ توجيه و تأويل - أنّ مواضع كثيرة من الصلاة الموجودة في «الصحيفة الكاملة» المشهورة غير موجودة في «الصحيفة» المكتشفة.
أو ينبغي أن نقول: إنّ الأصل هو الصحيفة المكتشفة التي تخلو من الصلاة، و إنّ هذه الصلاة قد زيدت في الصحيفة المشهورة، و إن لم تَعُدَّها جزءاً من الدعاء، بل حسبتها للتيمّن و التبرّك، فالإشكال يظلّ قائماً، و علامة الاستفهام تظلّ مُثارة: مَنِ الذي أدخل هذه الإضافات في الصحيفة الأصليّة للتيمّن و التبرّك؟!
هل فعل الأئمّة المتأخّرون ذلك من عند أنفسهم؟ أم فعله علماء الشيعة في وقت متأخّر؟! متى اضيف إليها؟! و مَن الذي أضافه؟!
إن الإضافة إلى عبارة أحدٍ مهما كانت النيّة تعدّ دسّاً و تدليساً عند علماء الدراية، و هي حرام عقلًا و شرعاً.
و لمّا كنّا لا نستطيع أن نجمع بين صحّة حديث الصلاة، و صحّة عدمه، أي نقول: الصحيفة المشهورة صحيحة السند، و الصحيفة المكتشفة كذلك، إذ نجمع بين المتناقضين، فلا بدّ أن نقول: إمّا حدث دسّ و تدليس في الصحيفة المشهورة فاضيفت إليها الصلاة؟! أو سقطت الصلاة من الصحيفة المكتشفة فاعتراها نقص؟! و يُجمِع علماء الدراية على أرجحيّة
القول بعدم الزيادة، و تقديم أصل عدم الزيادة على أصل عدم النقيصة عند التعارض و لزوم الالتزام بأحدهما لا محالة.
فاستبان في ضوء هذا البيان أنّ خلوّ الصحيفة المكتشفة من الصلاة لا يمكن أن يعدّ امتيازاً لها، بل هو نقص في مقابل الصحيفة الكاملة، فلا اعتبار لها حينئذٍ.
الجهة الخامسة: من الإشكالات الواردة على شارح الصحيفة المكتشفة و ناشرها في موضوع الصلاة هو أنّه قال: لمّا ذُكرت الصلاة في موضعين من تلك الصحيفة، لهذا لا يمكن أن يكون خلوّها من بقيّة الصلوات على سبيل التقيّة أو التعصّب. و لذا ينبغي أن نَعدّ تلك الزيادات على سبيل التيمّن و التبرّك.
ممارسة أهل السنّة للتعصّب و تحريفهم الروايات
الجواب هو: لما ذا لا يمكن أن يكون الإسقاط و الحذف من وحي التعصّب؟ و لا فرق عند أهل السُّنّة بين ذكر موضعين من الصلاة، و بين ممارسة التعصّب و حذف جميع الصلوات، و إسقاط تتمّة رواية المقدّمة، و رؤيا رسول الله صلى الله عليه و آله، و تفسيرها بملك الأمويّين.
كان رواة الصحيفة المكتشفة - كما رأينا - من الشافعيّة و الحنفيّة، و هم مجهولون عندنا من حيث الوثوق. و نحن و إن قبلنا رواية السُّنّيّ العادل في مذهبه، و وثقنا بكلامه، لكنّ و ثاقته تظلّ مجهولة عندنا. ما هو الدليل العقليّ و الحجّة الشرعيّة لقبول قولهم و روايتهم في الصحيفة المكتشفة، مع عدم إحراز و ثاقتهم؟!
إن تعصّب علماء العامّة في التدخّل في الروايات، و انتهاك المسلَّمات، و تحريف الأسناد و المتون ملحوظ إلى درجة يندهش معها كلّ رجل متتبّع في الجملة.
قال العالم المتتبّع و الباحث المعظّم سماحة السيّد عبد العزيز
الطباطبائيّ أعلى الله مقامه: وجدتُ في المكتبة الظاهريّة بدمشق نسخة من كتاب «تنزيه الأنبياء و الأئمّة» للشريف المرتضى علم الهدى رضوان الله تعالى عليه، كان آخرها ناقصاً؛ إذ حُذف منها تنزيه الأئمّة. و كُتب في هامشها: لمّا كان هذا القسم باطلًا فقد مزّقته و ألقيته في البحر.
كتب ذلك سنّيّ متعصّب كان قد قرأ الكتاب.
ارتكاب بعض السنّة المذابح الجماعيّة ضدّ الشيعة و حرق مكتباتهم
هل تعلم كم احرق من مكتبات الشيعة على مرّ التأريخ؟ هل تعلم أنّ آلاف الكتب النفيسة المؤلَّفة من قبل العلماء الباحثين صارت طعمةً للنار؟!
ما ذا يعني هذا غير العناد و معاداة العلم و الحقيقة؟! هلمّوا طالعوا هذه الكتب، فاذا عثرتم على شيء غير صحيح فيها برأيكم، فردّوه ردّاً مطعّماً بالدليل و البرهان، و انشروه في كتبكم و مكتباتكم! عَلامَ تدمّرون الكتب البريئة أو تدفنونها أو تحرقونها أو تلقونها في البحر؟!
إن السنّة المتعصّبين الذين لا طاقة لهم على البحث العلميّ و لا قدرة لديهم على تحمّل الحقّ يقتلون و يَصلبون و يحرِقون. و قد قُتل من الشيعة على مرّ التأريخ ما لا يُحصى، لا لذنبٍ إلّا التشيّع و الولاء لأمير المؤمنين عليه السلام الفذّ الفريد الذي كان يتحرّى الحقّ وحده، و قد عرج و سما حتى رأى السماء تحته! و دُمّر و احرق من كتب الشيعة ما يدعونا أن نقول: إنّ كتبهم الموجودة الآن، لا شيء بالنسبة إلى كتبهم الضائعة.
قيل: احرقت مكتبة الريّ التي كانت تضمّ أربعمائة ألف كتاب بسبب تشيّع أهلها. و كان مؤسّسها على ما يبدو هو الصاحب بن عبّاد الذي شيّد المدارس و المساجد و أسّس تلك المكتبة الفريدة التي كانت تلبّي حاجات علماء الريّ و طلّابها يومئذٍ. و كان سكّان المدينة يعدّون بالملايين آنذاك.۱
أمّا الذي ارتكب تلك الجريمة المروّعة فهو السلطان محمود الغزنويّ الذي عُرِفَ عنه تعصّبه و تكبّره و تعجرفه و استبداده. و قد سيّر جيشاً جرّاراً إلى المدينة لتشيّع أهلها و انتشار العلم في ربوعها، و رواج المذهب الشيعيّ في أرجائها. و اقترف مذبحة جماعيّة بحقّ الأهالى، و أمر بإخراج الكتب من المكتبات، و فرز الشيعيّة منها و وضعها جانباً، فصارت كالتلّ العظيم، ثمّ أحرقها جميعاً.
و أحرقت مكتبة حلب، و مكتبة طرابلس أيضاً.۱
و غدت مكتبة سابور ببغداد طعمة للحريق و كانت أعظم مكتبات الشيعة يومئذٍ.
قال ياقوت الحمويّ تحت عنوان «بين السُّورَين»: تثنية سور المدينة: اسم لمحلّة كبيرة كانت بكرخ بغداد، و كانت من أحسن محالّها و أعمرها، و بها كانت خزانة الكتب التي وقفها الوزير أبو نصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة. و لم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها. كانت كلّها بخطوط الأئمّة المعتبرة و اصولهم المحرّرة. و احترقت فيما احرق من محالّ الكرخ عند ورود طُغرل بك أوّل ملوك السلجوقيّة إلى بغداد سنة ٤٤۷. و ينسب إلى هذه المحلّة أبو بكر أحمد بن محمّد بن عيسى بن خالد السوريّ المعروف بالمكّيّ، حدَّث عن أبي العيناء و غيره، روى عنه أبو عمر بن حَيَّويه الخزّاز، و الدار قطنيّ، و مات سنة ۱.۱
و احرقت مكتبة الشيخ الطوسيّ و كرسيّ درسه و بيته، ففرّ إلى النجف الأشرف بنفسه، و ألقى رحله هناك متوطّناً، ثمّ بدأ التدريس فيها.
أورد ابن الأثير في تأريخه، عند ذكر الحوادث الواقعة سنة ٤٤۱ هـ: و فيها مُنع أهل الكرخ (و كلّهم كانوا من الشيعة) من النوح، و فعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء فلم يقبلوا و فعلوا ذلك. فجرى بينهم و بين السُّنّة فتنة عظيمة قُتل فيها و جُرح كثير من الناس، و لم ينفصل الشرّ بينهم حتى عبر الأتراك و ضربوا خيامهم عندهم، فكفّوا حينئذٍ.
ثمّ شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ. فلمّا رآهم السُّنّة من القلّائين و من يجري مجراهم شرعوا في بناء سور على سوق القلّائين. و أخرج الطائفتان في العمارة مالًا جليلًا. و جرت بينهما فتن كثيرة، و بطلت الأسواق، و زاد الشرّ، حتى انتقل كثير من الجانب الغربيّ إلى الجانب الشرقيّ فأقاموا به.
و تقدّم الخليفة العبّاسيّ إلى أبي محمّد بن النَّسَويّ بالعبور و إصلاح الحال و كفّ الشرّ. فسمع أهل الجانب الغربيّ ذلك، فاجتمع السُّنّة و الشيعة على المنع منه،۱ و أذّنوا في القلّائين و غيرها ب-: حَيّ عَلَى خَيْرِ العَمَلِ، و أذّنوا في الكرخ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّومِ، و أظهروا الترحّم على الصحابة، فبطل عبوره.
قال ابن الأثير في حوادث سنة ٤٤٣:
في هذه السنة، في صفر، تجدّدت الفتنة ببغداد بين السُّنّة و الشيعة، و عظمت أضعاف ما كانت قديماً، فكان الاتّفاق الذي ذكرناه في السنة الماضية غير مأمون الانتقاض، لما في الصدور من الإحَن.٢
و كان سبب هذه الفتنة أنّ أهل الكرخ شرعوا في عمل باب السمّاكين، و أهل القلّائين في عمل ما بقي من باب مسعود. ففرغ أهل الكرخ، و عملوا أبراجاً كتبوا عليها بالذهب: مُحَمَّدٌ وَ عَلِيّ خَيْرُ البَشرِ.
و أنكر السُّنّة ذلك و ادّعوا أنّ المكتوب: مُحَمَّدٌ وَ عَلِيّ خَيْرُ البَشَرِ، فَمَن رَضِيَ فَقَدْ شَكَرَ، وَ مَنْ أبِى فَقَدْ كَفَرَ. و أنكر أهل الكرخ الزيادة و قالوا: ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا فيما نكتبه على مساجدنا. فأرسل
الخليفة القائم بأمر الله أبا تمّام، نقيب العبّاسيّين، و نقيب العلويّين، و هو عدنان۱ ابن الرضيّ لكشف الحال و إنهائه، فكتبا بتصديق قول الكرخيّين. فأمر حينئذٍ الخليفة و نوّاب الرحيم بكفّ القتال، فلم يقبلوا.
و انتدب ابن المذهب القاضي، و الزهيريّ، و غيرهما من الحنابلة أصحاب عبد الصمد أن يحمل العامّة على الإغراق في الفتنة. فأمسك نوّاب الملك الرحيم عن كفّهم غيظاً من رئيس الرؤساء لميله إلى الحنابلة. و منع هؤلاء السنّة من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ. و كان نهر عيسى قد انفتح بثقه، فعظم الأمر عليهم، و انتدب جماعة منهم و قصدوا دجلة و حملوا الماء و جعلوه في الظروف، و صبّوا عليه ماء الورد، و نادوا: المَاءُ لِلسَّبِيلِ (أي: أنّ الماء الذي حرمتمونا منه ها نحن نهيّئه بيُسر، و قد مزجنا به ماء الورد، و نوزّعه في سبيل الله مجّاناً في كلّ سكّة و زقاق!) فأغروا بهم السُّنّة.
و تشدّد رئيس الرؤساء٢ على الشيعة، فمحوا خَيْرُ البَشَرِ، و كتبوا عَلَيهمَا السَّلَامُ، أي: على مُحَمَّدٍ وَ عَلِيّ صلى الله عليهما و آلهما.
فقالت السنّة: لا نرضى إلّا أن يقلع الآجر الذي عليه: مُحَمَّدٌ وَ عَلِيّ،
و أن لا يُؤذَّن: حَيّ عَلَى خَيْرِ العَمَلِ. و امتنع الشيعة من ذلك. و دام القتال إلى ثالث ربيع الأوّل. و قُتل فيه رجل هاشميّ من السُّنّة، فحمله أهله على نعش، و طافوا به في الحربيّة، و باب البصرة، و سائر محالّ السُّنّة. و استنفروا الناسَ للأخذ بثأره، ثمّ دفنوه عند أحمد بن حنبل، و قد اجتمع معهم خلقٌ كثير أضعاف ما تقدّم.
حرق مرقد الإمامين موسى الكاظم و محمّد الجواد من قبل الحنابلة
فلمّا رجعوا من دفنه قصدوا مَشْهَدَ بابُ التِّبْنِ (مشهد الكاظمين عليهما السلام) فاغلق بابه، فنقبوا في سوره و تهدّدوا البوّاب، فخافهم و فتح الباب، فدخلوا و نهبوا ما في المشهد من قناديل و محاريب۱ ذهب و فضّة و ستور و غير ذلك، و نهبوا ما في الترب و الدور، و أدركهم الليل فعادوا.
فلمّا كان الغد كثر الجمع، فقصدوا المشهد، و أحرقوا جميع الترب و الآزاج، و احترق ضريح موسى بن جعفر، و ضريح ابن ابنه محمّد بن عليّ، و الجوار، و القبّتان الساج اللتان عليهما. و احترق ما يقابلهما و يجاورهما من قبور ملوك بني بُويَه: معزّ الدولة، و جلال الدولة. و من قبور الوزراء و الرؤساء، و قبر جعفر بن أبي جعفر المنصور، و قبر الأمير محمّد بن الرشيد، و قبر امّه زبيدة.
و جرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله.
فلمّا كان الغد خامس الشهر عادوا و حفروا قبر موسى بن جعفر و محمّد بن عليّ [عليهما السلام] لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل، فحال الهدم بينهم و بين معرفة القبر، فجاء الحفر إلى جانبه. و سمع أبو تمّام نقيب العبّاسيّين و غيره من الهاشميّين السُّنّة الخبر، فجاؤوا و منعوا عن ذلك.
و قصد أهل الكرخ إلى خان الفقهاء الحنفيّين فنهبوه، و قتلوا مدرّس الحنفيّة أبا سعد السَّرَخْسيّ، و أحرقوا الخان و دور الفقهاء. و تعدّت الفتنة إلى الجانب الشرقيّ، فاقتتل أهل باب الطاق و سوق بجّ، و الأساكفة، و غيرهم.
و لمّا انتهى خبر إحراق المشهد إلى نور الدولة دُبَيْس بن مَزيد، عظم عليه و اشتدّ و بلغ منه كلّ مبلغ لأنّه، و أهل بيته، و سائر أعماله من النيل، و تلك الولاية كلّهم شيعة. فقُطعت في أعماله خطبة القائم بأمر الله، فَرُوسِلَ في ذلك و عُوتِبَ، فاعتذر بأنّ أهل ولايته شيعة، و اتّفقوا على ذلك، فلم يمكنه أن يشقّ عليهم، كما أنّ الخليفة لم يمكنه كفّ السفهاء الذين فعلوا بالمشهد ما فعلوا. و أعاد الخطبة إلى حالها.۱
قال العلّامة الأمينيّ بعد بيان ما نقلناه آنفاً عن تاريخ ابن الأثير:
و زاد ابن الجوزيّ في «المنتظَم» ج ۸، ص ۱٥۰: ظهر عيّار الطقطقيّ من أهل درزيجان و حضر الديوان و استتيب و جرى منه في معاملة أهل الكرخ و تتبّعهم في المحالّ و قتلهم على الاتّصال ما عظمت فيه البلوى.
و اجتمع أهل الكرخ وقت الظهيرة فهدمت حائط باب القلّائين و رموا العذرة على حائطه. و قطع الطقطقيّ رجلين و صلبهما على هذا الباب بعد أن قتل ثلاثة من قبل و قطع رؤوسهم و رمى بها إلى أهل الكرخ و قال: تغدّوا برءوس! و مضى إلى درب الزعفرانيّ فطالب أهله بمائة ألف دينار و توعّدهم إن لم يفعلوا بالإحراق فلاطفوه فانصرف، و وافاهم من الغد فقاتلوه فقُتل منهم رجل هاشميّ، فحمل إلى مقابر قريش.
و استنفر البلد و نقب مشهد باب التِّبن و نُهب ما فيه، و اخرج جماعة من القبور، فأحرقوا مثل العونيّ، و الناشي، و الجذوعيّ (من شعراء أهل البيت عليهم السلام المعروفين).
و نقل من المكان جماعة موتى فدُفنوا في مقابر شتّى و طرح النار في الترب القديمة و الحديثة، و احترق الضريحان و القبّتان الساج، و حفروا أحد الضريحين ليخرجوا مَن فيه و يدفنونه بقبر أحمد بن حنبل، فبادر النقيب و الناس فمنعوهم ... إلى آخره.
و ذكر القصّة على الاختصار ابن العماد في «شذرات الذهب» ج ٣، ص ٢۷۰، و ابن كثير في تاريخه: ج ۱٢، ص ٦٢۱
سبب هجرة الشيخ الطوسيّ من بغداد إلى النجف الأشرف
و من الجدير ذكره أنّ الشيخ أبا جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ شيخ الطائفة الحقّة المُحِقَّة هاجر إلى النجف الأشرف في تلك السنة نفسها، إذ كان في بادئ أمره مقيماً بكرخ بغداد كاستاذه الشريف المرتضى، ثمّ نزح عنها بعد قتل أبي عبد الله بن الجلّاب أحد وجوه الشيعة من قبل الخبيث السقيم الفطرة رئيس الرؤساء وزير القائم بالله. و كان هذا الوزير يريد قتل الشيخ الطوسيّ أيضاً، ففرّ من بغداد تلقاء النجف، و نُهبت داره، و احرقت مكتبته.
و لم تكن النجف يومئذٍ مدينة رسميّة. و لكن عند ما هاجر إليها الشيخ سنة ٤٤٣، أصبحت مركزاً للتعليم و التدريس. ثمّ تقاطر عليها العلماء و الطلّاب، و نبغ منها و من الحلّة علماء عظام طوال السنوات الألف الماضية و إلى يومنا هذا.
و يبدو أنّ دعاء الشريف المرتضى في شعره، إذ يقول:
وَ لَوْ استَطَعْتُ جَعَلْتُ دَارَ إقَامَتِي | *** | تِلْكَ القُبُورَ الزُّهْرَ حتى أقْبَرَا۱ |
قد اجيب في تلميذه. و توطّن الشيخ الطوسيّ النجف الأشرف و دفن في داره التي كانت واقعة في الضلع الشماليّ خارج الصحن المطهّر.
و كانت ولادة الشيخ في سنة ٣۸٥ هـ، و وفاته في سنة ٤٦۰ هـ.
ذكرنا هذه القصّة ليقف القرّاء على المدى الذي وصلت إليه ظلامة الشيعة على مرّ التأريخ بسبب قول الحقّ. إنّ فقرة حَيّ عَلَى خَيْرِ العَمَلِ جزء من الأذان، و يقرّ السُّنّة أنفسهم أنّ عمر بن الخطّاب هو الذي حذفها و وضع مكانها عبارة: الصَّلَاةُ خَيرٌ مِنَ النَّومِ.
و هذا الإسقاط و تلك الإضافة كلاهما غير صحيح.
إن القول عَلِيّ خَيْرُ البَشَرِ مَنْ أبى فَقَدْ كَفَرَ كلام رسول الله صلى الله عليه و آله، و رواه أهل السنّة أيضاً، و نحن نقلناه في الجزء الأوّل من كتابنا هذا، ص ٢٤٣ بخمسة ألفاظ مختلفة و متّحدة المعنى عن طرق العامّة.
أجل! أجل! إنّ هذه الممارسات و الأعمال كلّها ناتجة من الجهل الذي يغلي في صدر الجاهل.
تقييد دوا ز جرح مطلق كردن | *** | هم جَذْرِ أصَمّ به فكر مُنْطِقْ كردن |
جمع شب و روز در زمان واحد | *** | بتوان، نتوان علاج أحمق كردن٢ |
مقتل السيّد تاج الدين الزيديّ بسبب تشيّعة
جاء في كتاب «الفصول الفخريّة»: في هذه السنة - ۷۱۱ هـ - قُتل السيّد تاج الدين: أبو الفضل محمّد بن مجد الدين الحسين بن عليّ بن زيد، الذي
كان من نسل زيد بن الداعي، و ولداه: شمس الدين حسين، و شرف الدين عليّ على ضفاف شطّ بغداد. و قَطَّع بعض الأجلاف من عوامّ بغداد جسم السيّد إرباً إرباً و أكلوا لحمه، و تبايعوا كلّ شعرة منه بدينار.
و كان سبب عدائهم له هو أنّه كان تلميذ الشيخ جمال الدين الحسن ابن يوسف بن المُطهَّر المعروف بالعلّامة الحلّيّ الذي ناظر علماء المذاهب السنّيّة عند السلطان محمّد خدابنده فتحوّل السلطان إلى المذهب الشيعيّ. (كان السيّد تاج الدين نقيب النقباء في جميع أمصار السلطان محمّد خدا بنده).۱
و أقول: وُلِدَ السلطان محمّد خدا بنده الجايتو سنة ٦۸۰ هـ و توفّي سنة ۷۱٦ هـ. فكان مقتل السيّد تاج الدين و ولدَيه في عصره.
أجل، نقلنا هذه الموضوعات هنا ليستبين أنّ أهل السُّنّة يعارضون الحقّ في غير سدد، و يحرقون مكتبات الشيعة الزاخرة بكتبهم العلميّة و الكلاميّة بلا سبب يُذكَر، و يبدون وقاحتهم و شناعة أفعالهم لفرض السكوت أمام الظلم، و كمّ الأفواه في مقابل خيانات كبارهم و جرائمهم فحسب، و يمضون في صلافتهم إلى الحدّ الذي لا يرون فيه مانعاً من حذف الصلاة على النبيّ و آله من «الصحيفة السجّاديّة»، بل يعدّونه تقرّباً إلى الله.
حول الصلاة البتراء
الجهة السادسة: من الإشكالات في مجال الصلاة هي أنّه قال: و كذلك فإنّ إضافة آلِ مُحَمَّدٍ إلى الصلاة على النبيّ جاءت حسب روايات نقلها العامّة عن رسول الله صلى الله عليه و آله. و فيها: لَا تُصَلُّوا عَلَيّ صَلَاةً بَتْرَى. و فُسِّرت الصلاة البتراء بالصلاة على النبيّ وحده دون آله.
الجواب: يُسْتَشَفُّ من هذه الفقرة أنّ عين هذه الكلمات هي ألفاظ
الرواية، و هي تبدو غير صحيحة من جهتين:
الاولى: مؤنّث أبتر بتراء بالمدّ، ذلك لأنه وصف، و كلّ وصف على وزن أفْعَلْ مؤنّثه فَعْلاء بالمدّ كأبْيَض بَيْضَاءِ، و أسْمَر سَمْرَاء، و أعْوَر عَوْرَاء، إلّا إذا كان أفعل التفضيل، فمؤنّثه على وزن فُعلى،: مثل أكْرَم كُرْمَى، وَ أصْغَرْ صُغْرَى، وَ أعْظَم عُظْمَى، إذ لا مدّ فيه، و فاء الفعل مضمومة.
أو كان نعتاً على وزن فَعْلَان، فمؤنّثه على وزن فَعْلَى، نحو: عَطْشَان عَطْشَى، وَ سَكْرَان سَكْرَى، و ظَمْآن ظَمْأى. و على هذا فمؤنّث أبتر الوصفيّ بَتْراء دائماً لا بَتْرى.
الثانية: القول: لَا تُصَلُّوا عَلَيّ صَلَاةً بَتْرَاءَ، ليس متنَ حديث، إذ لم يروه الشيعة و لا العامّة. فلم يروه العلّامة المجلسيّ في «بحار الأنوار»، و لا الشيخ الحرّ العامليّ في «وسائل الشيعة»، و لا الفيض الكاشانيّ في «الوافي»، كما لم يروه العامّة في صحاحهم و سننهم و مسانيدهم.۱ و لم يذكره السيوطيّ في «الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير»، و لا عبد الرءوف المناويّ في «كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق» و هما مختصّان بألفاظ الرسول الأكرم و أخباره. و ذكره فقط ابن حجر الهيتميّ المالكيّ في «الصواعق المحرقة» ص ۸۷، مرسلًا بلفظ: لَا تُصَلُّوا عَلَيّ الصَّلَاةَ البَتْرَاء، مع تعريف كلمة الصلاة، و كلمة البتراء و نقله عنه العلّامة
الأمينيّ رحمه الله في «الغدير» ج ٢، ص ٣۰٣ بهذا اللفظ نفسه.
أجل، وردت أحاديث حسب مفاد الحديث المتقدّم و مضمونه كالحديث الذي نقله العلّامة المجلسيّ رحمه الله في «بحار الأنوار» ج ٥، ص ٢۰٩، عن «تفسير النعمانيّ»، عن أمير المؤمنين عليه السلام، و فيه: هَذَا مَعَ عِلْمِهِمْ بِمَا قَالَهُ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ هُوَ قَوْلُهُ: لَا تُصَلُّوا عَلَيّ صَلَاةً مَبْتُورَةً إذَا صَلَّيْتُمْ عَلَيّ، بَلْ صَلُّوا عَلَى أهْلِ بَيْتِي وَ لَا تَقْطَعُوهُمْ مِنِّي، فَإنَّ كُلَّ سَبَبٍ وَ نَسَبٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ القِيَامَةِ إلَّا سَبَبِي وَ نَسَبِي إلى آخره. و أورد العلّامة المجلسيّ عين هذا الحديث أيضاً في «بحار الأنوار» ج ٩٣، ص ۱٤. و كالأحاديث المستفيضة التي نقلناها أخيراً في كيفيّة الصلاة عن رسول الله صلى الله عليه و آله. و كحديث الصدوق بسنده المتّصل عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله:
مَنْ قَالَ: صلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِهِ، قَالَ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ: صلى اللهُ عَلَيْكَ! فَلْيُكْثِرْ مِنْ ذَلِكَ! وَ مَنْ قَالَ: صلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَ لَمْ يُصَلِّ عَلَى آلِهِ لَمْ يَجِدْ رِيحَ الجَنَّةِ، وَ رِيحُهَا تُوْجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ خَمْسمِائَةِ عَامٍ.۱
و روى الشيخ الصدوق أيضاً بسنده المتّصل عن الإمام الباقر عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: مَنْ صلى عَلَيّ وَ لَمْ يُصَلِّ عَلَى إلى لَمْ يَجِدْ رِيحَ الجَنَّةِ، وَ إنَّ رِيحَهَا لَتُوْجَدُ مِنْ مَسيرَةِ خَمْسِمِائةِ عَامٍ.٢
و المزيّة السابعة للصحيفة المكتشفة القديمة هي: سلامة صحّة سندها. و ننقل فيما يأتي لفظه نفسه ليتبيّن بُعد هذه المزيّة تماماً عنده، ثمّ نجيب عنها و نشير إلى مواضع إشكالها و خطئها:
قال: المزيّة السابعة للصحيفة القديمة - و يمكن أن نقول: أهم مزيّة - سلامة سندها. و توضيح ذلك:
يبدأ سند الصحيفة المعروفة بهذه الجملة: حَدَّثَنَا السَّيِّدُ الأجَلُّ بَهَاءُ الشَّرَفِ، إلى آخرها. لذا يُطرَح سؤال، هو: من القائل: حَدَّثَنَا؟! للعلماء تحقيقات في هذا الموضوع.
قال المحقّق الداماد قدّس الله سرّه: الراوي الأوّل، أي: القائل حَدَّثَنا هو: عَمِيدُ الرُّؤَسَاءِ هِبَةُ اللهِ بنُ حَامِد بْن أيُّوبَ بْنِ عَلِيّ بْنِ أيُّوب اللغويّ المشهور.
و قال الشيخ البهائيّ قدّس الله نفسه: هو الشيخ أبو الحسن عليّ بن محمّد بن محمّد بن عليّ بن محمّد بن محمّد بن السَّكون الحِلِّي النحويّ الذي تُوفّي في حدود سنة ٦۰٦ على ما نقل السيوطيّ في «بغية الوعاة»، و عبد الله الأفندي التبريزيّ في «رياض العلماء». و لمّا كان عميد الرؤساء معاصراً لابن السكون، كما روى عنهما السيّد فخار بن مَعْد الموسويّ، و كانا في طبقة واحدة، لذا يحتمل أن لا ترجيح لعميد الرؤساء على رواية ابن السكون.
و كانت عند الشيخ عليّ بن أحمد المعروف بالسديديّ نسخة من الصحيفة مدوّنة بخطّ ابن السكون.
إن ما قيل، و ما نُقل من أقوال اخرى ليس أكثر من احتمال كما يُلاحَظ.
إن ما يضفي على الصحيفة المكشوفة في حرم الإمام الرضا عليه
السلام من قيمة لا نظير لها هو أنّ سند رواية الصحيفة مذكور فيها. و هو أنّ كاتب هذه الصحيفة يسمّى الحسن بن إبراهيم بن محمّد الزاميّ۱ كتب هذه النسخة في سنة ٤۱٦.
ينقل عن أبي القاسم عبد الله بن محمّد بن سَلِمَة الفرهاذجرديّ أنّه أجاز كاتب الصحيفة الحسن بن إبراهيم أن يرويها عن استاذه أبي بكر الكرمانيّ. و أبو بكر الكرمانيّ أوّل راوٍ للسند في هذه الصحيفة التي لها سند مذكور في آخرها، و هو غير السند الوارد في الصحيفة المشهورة المذكور سندها في أوّلها - انتهى كلامه.
و يعود جواب هذا الكلام إلى جهات متنوّعة لا بدّ من مناقشتها كلّ على حدة بالتفصيل:
سند الصحيفة المكتشفة مقدوح فيه
الجهة الأولى: لمّا كان احتمال رواية عميد الرؤساء مساوياً لاحتمال رواية ابن السَّكون، و لا ترجيح بينهما، لهذا فإنّ هذا الاحتمال و ما ذُكر من أقوال اخرى في سند «الصحيفة» ليس أكثر من احتمال فحسب. و في ضوء ذلك يسقط سند الصحيفة من الوثوق و اليقين إلى الاحتمال و الشكّ، فيفقد قيمته في مقابل سند «الصحيفة» المكتشفة المعلوم كاتبها و راويها.
رواية الصحيفة من قبل عميد الرؤساء و ابن السكون
الجواب، أوّلًا: لا تفاوت في إتقان سند «الصحيفة» سواء كان المحدِّث عميد الرؤساء أم ابنَ السَّكون. ذلك أنّ الاثنين كانا شيعيّين موثّقين، و كانا من أعاظم العلماء و فحولهم.٢
و للعلم الإجماليّ حجّيّة في سند الرواية كما للعلم التفصيليّ في سندها، إذ لا فرق بين أن تعلم يقيناً أنّ القائل (حدّثنا) هو عميد الرؤساء، أو تعرف قطعاً أنّه ابن السكون، أو هو أحدهما حتماً و لا يخرج عنهما، في حين أنّك تشكّ في تحديده و تعيينه!
أ لم يثبت تنجيز العلم الإجماليّ في المباحث الاصوليّة كالعلم التفصيليّ؟! أ لم تعمل بالروايات التي يصل سندها إلى (أحدهما) عليهما السلام، و أنت تعلم أنّ القائل هو إمّا الباقر عليه السلام، أو الصادق عليه السلام، لكنّك تشكّ في تعيين أحدهما على نحو اليقين؟! أ لم تعمل بها؟ هل تُعرض عنها جانباً و تعدّها من المحتملات، أم تعمل بها كرواية صدرت من أحدهما على التعيين؟!
هل هناك تفاوت بين القائل: (حدّثنا)، و بين انحصار الشبهة بين أحدهما، أو بين الراوي عن أحدهما عليهما السلام و بين انحصار الشبهة بين أحد الإمامَين؟!
ثانياً: قال بعض الأعلام كالمدرِّس الجهاردهيّ رحمه الله: عميد الرؤساء، و ابن السكون متساويان،۱ و يمكن أن يكونا شخصين. و قال البعض: القائل «حَدَّثنا» كلاهما كما قال الأفندي في كتابه: الحقّ عندي أنّ
القائل به كلاهما، لأنّهما في درجة واحدة، و لأنّ كليهما من تلامذة ابن العصّار اللغويّ.۱
و كما قال المحدِّث الجزائريّ في شرحه: و كلاهما حَسَنٌ لما يظهر من كتب الإجازات من أنّهما يرويان «الصحيفة» الشريفة عن السيِّد الأجلّ.٢
قال الشيخ بهاء الدين العامليّ: إنّه الشيخ ابن السَّكون، و أصرّ على ذلك، و أنكر كونه من مقول السيّد عميد الرؤساء غاية الإنكار.٣
و يرى السيّد محمّد باقر الاسترآباديّ المشهور بالميرداماد أنّ القائل هو عميد الرؤساء. قال في شرحه على «الصحيفة»: و لفظة «حدّثنا» في هذا الطريق لعميد الدين٤ و عمود المذهب عميد الرؤساء، من أئمّة علماء
الأدب، و من أفاخم أصحابنا رضي الله تعالى عنهم. فهو الذي روى الصحيفة الكريمة عن السيِّد الأجلّ بهاء الشرف.
(دليلنا و شاهدنا): هذه صورة خطّ شيخنا المحقّق الشهيد (قدّس الله تعالى لطيفه) على نسخته التي عورضت بنسخة ابن السكون. و عليها - أي: على النسخة التي بخطّ ابن السكون - خطّ عميد الدين عميد الرؤساء رحمه الله: قراءة قرأها عَلَيّ السيّد الأجلّ، النقيب الأوحد، العالم جلال الدين عماد الإسلام أبو جعفر القاسم بن الحسن بن محمّد بن الحسن بن مُعيَّة أدام الله تعالى علوّه قراءة صحيفة مهذّبة.
و رويتها له عن السيّد بهاء الشرف أبي الحسن محمّد بن الحسن بن أحمد، عن رجاله المسمِّين في باطن هذه الورقة. و أبحته روايتها عنّي حسبما وقفته عليه و حدّدته له.
و كتب (هذا المطلب) هبة الله بن حامد بن أحمد بن أيّوب بن عليّ ابن أيّوب في شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث و ستمائة.
و الحمد للّه الرحمن الرحيم، و صلاته و تسليمه على رسوله سيّدنا محمّد المصطفي و تسليمه على آله الغرّ اللهاميم.۱
إلى هنا حكاية خطّ الشهيد رحمه الله تعالى.٢
و نلحظ في هذه العبارات أنّ إجازة هبة [الله] بن حامد بن أحمد (عميد الرؤساء) موجودة على ظهر «الصحيفة» كما يشهد الميرداماد اعتماداً على خطّ الشهيد الذي عرض نسخته على نسخة ابن السكون. و قد أجاز ابن
معيّة «الصحيفة» عن طريق السيّد الأجلّ بنفس الرواة المعروفين. فلا جرم أنّ عميد الرؤساء رواها عن السيّد الأجلّ.
و سار العالم العظيم المرحوم السيّد على خان المدنيّ الشيرازيّ في شرحه على هذا المنوال أيضاً. و كان يذهب إلى أنّ القائل (حدّثنا) هو عميد الرؤساء استناداً إلى خطّ الشهيد. ذلك أنّه قال: وَ هُوَ الصَّحِيح كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ مَا وُجِدَ بِخَطِّ المُحَقِّقِ الشَّهِيدِ قُدِّسَ سِرُّهُ.۱
و قال الميرداماد بعد إسناد النسخة إلى عميد الرؤساء، كما رأينا: فأمّا النسخة التي بخطّ عليّ بن السكون رحمه الله فطريق الإسناد فيها على هذه الصورة:
أخبرنا أبو عليّ الحسن بن محمّد بن إسماعيل بن أشناس البزّاز، قراءة عليه فأقرّ به، قال: أخبرنا أبو المفضّل محمّد بن عبد الله بن المطّلب الشيبانيّ، إلى آخر ما في الكتاب.
و هناك نسخة اخرى طريقها على هذه الصورة: حدّثنا الشيخ الأجلّ السيّد الإمام السعيد أبو عليّ الحسن بن محمّد بن الحسن الطوسيّ - إلى ساقة الإسناد المكتوب في هذه النسخة على الهامش.٢
و قال المحدِّث الجزائريّ في توضيح هذه العبارة: و أمّا النسخة التي في الهامش المصدّرة بقوله: حَدَّثنا الشيخ الأجلّ، فهي النسخة التي نقلها الفاضل السديديّ من نسخة ابن إدريس لبيان الاختلاف في السند بينها و بين نسخة ابن السكون. و قد وجدناها مكتوبة في الأصل في كثير من
النسخ، و المتكلّم بـ حدّثنا هو ابن إدريس.۱
و بناءً على هذا فإنّ عدد النسخ التي يقدّمها لنا الميرداماد ثلاث، و هي:
۱ - نسخة عميد الرؤساء برواية السيّد الأجلّ.
٢ - نسخة ابن السكون برواية ابن أشناس البزّاز.
٣ - نسخة السديديّ بالرواية عن ابن إدريس، عن أبي عليّ الحسن ابن محمّد الطوسيّ (ابن الشيخ الطوسيّ).
و إذا أنعمنا النظر فيما ذكرنا، تبيّن لنا أنّنا لا يمكن أن نعدّ نُسَخَ الصحيفة المصدَّرة بكلمة (حدّثنا) لعميد الرؤساء وحده للأسباب الآتية:
۱ - رواية عميد الرؤساء عن السيّد الأجلّ ثابتة، و لكن روايته هي غير كلمة (حدّثنا)، و ما يدرينا لعلّ عينَ لفظ (حدّثنا) ليس لعليّ بن السكون؟!
٢ - أنّ طريق رواية ابن السكون عن ابن أشناس البزّاز - و هو طريق آخر لا محالة - لا ينفي روايته بسند آخر عن السيّد الأجلّ. ما ضرّ لو أنّ عليّ بن السكون روى الصحيفة بطريقَين: الأوّل: طريق ابن أشناس. و الثاني: طريق السيّد الأجلّ.
بل يتسنّى لنا القول: يمكن أن يكون القائل (حدّثنا) عميد الرؤساء، و يمكن أن يكون ابن السكون للأدلّة الآتية:
أوّلًا: كلام الميرزا عبد الله الأفندي و هو الخِرِّيت في فنّ الرجال و الدراية. قال: الحَقُّ عِنْدِي أنَّ القَائِلَ بِهِ كِلَاهُمَا.٢
ثانياً: كلام المحدِّث الجزائريّ و هو من مفاخر علمائنا المتتبّعين. قال: وَ كِلَاهُمَا حَسَنٌ لِمَا يَظْهَرُ مِن كُتُبِ الإجَازَاتِ مِنْ أنَّهُمَا يَرْوِيَانِ الصَّحِيفَةَ الشَّرِيفَةَ عَنِ السَّيِّد الأجَلِّ.۱
ثالثاً: شهادة الملّا محمّد تقي المجلسيّ الأوّل ضمن بعض إجازاته. قال: و رواه عليّ بنُ سَكون عن السَّيِّد الأجلِّ.٢
عند ما يقول هؤلاء: ورد في كتب إجازاتنا أنّ عليّ بن السكون، و عميد الرؤساء كليهما روى الصحيفة عن السيِّد الأجلّ، فحينئذٍ لا مسوّغ لنا أن نحصر القائل (حَدَّثنا) بأحدهما دون الآخر.
فالقائل (حدّثنا) إذن - و هو راوي «الصحيفة» - كلاهما، لا شخص واحد مجهول.
رواة «الصحيفة» غير ابن السكون و عميد الرؤساء
٣ - روى كثير من أعلام الشيعة و أعاظمهم «الصحيفة الكاملة» عن السيِّد الأجلّ بلا واسطة. فلا تنحصر روايتها عن السيِّد الأجلّ عندئذٍ بعميد الرؤساء و ابن السكون.
و نلحظ هذا الموضوع إذا دقّقنا في مشيخة و إجازات كتاب «بحار الأنوار» الحاوي مطالب نفيسة حقّاً. و نشير فيما يأتي إلى بعضها:
ذكر المجلسيّ رحمه الله مطالب كثيرة عن والده في رواية هذه الصحيفة المباركة.
منها: أنّ المرحوم والده الملّا محمّد تقي أعلى الله درجته قال في سياق بيان سنده في هذه الصحيفة: أرويها عن الشيخ عليّ، عن الشيخ عليّ بن هلال، عن الشيخ جمال الدين أحمد بن فهد، عن الشيخ عليّ بن
الخازن، عن الشهيد، عن الشيخ فخر الدين ... و هكذا يعدّ أعلام سنده مسلسلًا، إلى أن يقول: عن العلّامة محمّد بن جعفر بن نِما، و السيّد شمس الدين فخّار بن معدّ الموسويّ، و السيّد عبد الله بن زهرة، عن ابن إدريس، و عميد الرؤساء هبة الله بن أحمد بن أيّوب، و عليّ بن السكون، عن السيّد الأجلّ، إلى آخر سند «الصحيفة الكاملة».۱
نرى هنا أنّ ابن إدريس هو أحد رواة الصحيفة مباشرةً، مضافاً إلى ذينك العَلَمين.
و أيضاً عن والده ضمن إجازة اخرى في بيان سند الصحيفة، عن الشيخ عليّ، عن الشيخ أحمد بن داود مُسَلْسلًا حتى يصل إلى السيّدين الجليلَين عليّ بن طاووس و أحمد بن طاووس، و غيرهم من الفضلاء، عن السيّد، عن عبد الله بن زهرة الحلبيّ، و محمّد بن جعفر بن نما، و السيّد شمس الدين فخّار، عن محمّد بن إدريس الحلّيّ بإسناده إلى آخره.
و عن عميد الرؤساء هبة الله بن أحمد بن أيّوب، و عليّ بن السكون، عن السيّد الأجلّ ... إلى آخره.٢
نلحظ هنا أيضاً أنّ ابن إدريس يُلْحَقُ بإسناد الرواية بسند آخر.
و أيضاً عن والده، ضمن بيان الإجازة، عن الشهيد، عن المزيديّ، إلى أن يقول: ابن محمّد بن إدريس الحلّيّ، و عن عميد الرؤساء، عن السيّد الأجلّ، و ابن إدريس، عن أبي عليّ، عن أبيه شيخ الطائفة محمّد بن الحسن الطوسيّ، و عن الشيخ نجيب الدين بن نما، عن الشيخ محمّد بن جعفر، عن
السيّد الأجلّ.۱
و أيضاً عن العلّامة بسند متّصل، عن الشيخ سديد الدين شاذان بن جبرئيل، و ابن إدريس، و ابن شهرآشوب، عن عربيّ بن مسافر، عن السيّد الأجلّ. و كذلك يرويها ضمن حيلولات بثلاثة أسناد اخرى، عن عربيّ بن مسافر، عن السيّد الأجلّ، إلى أن يقول: إلى غير ذلك ممّا لا يُحصى.
يبيّن هنا رواية محمّد بن جعفر المشهديّ عن السيّد الأجلّ مضافاً إلى رواية ابن إدريس عن الشيخ الطوسيّ.
و يذكر أيضاً عن والده بخطّه رواية بعض الأفاضل الذين نقلوا «الصحيفة» و رووها بما نصّه:
قال المجلسيّ الأوّل: و أروي «الصحيفة» عن العلّامة الشهيد محمّد ابن مكّيّ، عن السيّد شمس الدين محمّد بن أبي المعالى، عن الشيخ كمال الدين عليّ بن حمّاد الواسطيّ، عن الشيخ نجيب الدين يحيى بن سعيد و الشيخ نجم الدين جعفر بن نما، عن والده الشيخ نجيب الدين محمّد بن نما و السيّد فخّار، عن الشيخ محمّد بن جعفر المشهديّ، عن الشيخ الأجلّ (الشيخ الطوسيّ) سماعه بقراءة الشريف الأجلّ نظام الشرف.
و قال محمّد بن جعفر: قرأته أيضاً على والدي جعفر بن عليّ المشهديّ، و على الشيخ الفقيه هبة الله بن نما، و الشيخ المقري: جعفر بن أبي الفضل بن شقرة، و الشريف أبي الفتح بن الجعفريّة، و الشريف أبي القاسم بن الزكيّ العلويّ، و الشيخ سالم بن قُبارَوَيْه جميعاً عن السيّد
بهاء الشرف.
و بالإسناد عن المحقّق، عن ابن نما محمّد، عن الشيخ أبي الحسن عليّ بن الخيّاط، عن الشيخ عربيّ بن مسافر۱ عن السيّد بهاء الشرف.
و عن السيّد فخّار، عن الشيخ عليّ بن يحيى الخيّاط، عن حمزة بن شهريار، عن السيّد بهاء الشرف.٢
نرى في خطّ المجلسيّ الأوّل أنّ أفراداً كثيرين - مضافاً إلى محمّد بن جعفر المشهديّ - قد رووا «الصحيفة» عن شيخ الطائفة - و لها سند آخر - عن السيّد الأجلّ خاصّة كجعفر بن عليّ المشهديّ، و هبة الله بن نما، و جعفر بن أبي الفضل بن شقرة، و أبي الفتح بن الجَعْفَريّة، و أبي القاسم بن الزكيّ العلويّ، و سالم بن قُبارَوَيْه، و عربيّ بن مسافر، و حمزة بن مسافر.
و رأينا في صورة الإجازة السابقة أنّ محمّد بن جعفر نفسه قد رواها عن السيّد الأجلّ أيضاً. فهذا الأب جعفر بن عليّ المشهديّ، و ابنه محمّد ابن جعفر كلاهما روى «الصحيفة» عن السيّد الأجلّ.
يضاف إلى هذين العَلَمين، أنّ الأعلام و الأساطين الذين ورد ذكرهم هنا رواةً للصحيفة عن السيّد الأجلّ بلغوا سبعة، فيصبح مجموعهم تسعة. و إذا أضفنا إليهم ابن إدريس، و عميد الرؤساء، و ابن السكون، صاروا اثني عشر من جهابذة علم الشيعة، كلّهم رووا «الصحيفة» عن السيّد الأجلّ.
من الجدير ذكره أنّ الشهيد الأوّل محمّد بن مكّيّ سبق المجلسيّ
الأوّل الذي بلغ سند رواياته عن «الصحيفة الكاملة» بواسطة هؤلاء الأعلام إلى السيّد الأجلّ، و ذلك على أساس خطّه الذي حصلنا عليه، إذ يُنقل عن الشيخ نجم الدين جعفر بن نما أنّه يروي «الصحيفة» عن أبيه، عن ثمانية من الأساطين و العلماء الذين ذكرناهم هنا.
خطّ الشهيد هنا من جملة ثلاث إجازات كانت بخطّه و وصلت إلى صاحب «المعالم» رضوان الله عليه. و ذكرها صاحب المعالم في إجازته الكبيرة التي أعطاها السيّد نجم الدين بن السيّد محمّد الحسينيّ، و لها صيت ذائع بين المحدِّثين و العلماء.
و قد نقل المرحوم المجلسيّ في «بحار الأنوار» هذه الإجازة المباركة الحاوية مطالب نفيسة و ثمينة حقّاً برمّتها. و ينقل صاحب «المعالم» الشيخ حسن بن الشهيد الثاني هذا الموضوع، إلى أن يقول: و عندي بخطّ شيخنا الشهيد إجازة السيّد غياث الدين۱ لهذا الرجل٢ و كذا إجازتا الشيخ نجيب الدين يحيى بن سعيد، و الشيخ نجم الدين جعفر بن نما له. و هاتان الإجازتان فيهما استيفاء زائد لطرق الرواية و سننقل منهما المهمّ في مواضعه.٣
إلى أن قال: و قد مرّ أنّ شيخنا الشهيد الأوّل يروي عن السيّد شمس الدين محمّد بن أبي المعالى الموسويّ، عن الشيخ كمال الدين المذكور، و عندنا بخطّ الشهيد رحمه الله إجازة الشيخ كمال الدين للسيّد
المذكور مشيراً فيها إلى الإجازات الثلاث المذكورة.۱
و قال: وَ مِنْهَا (من بعض الأشياء عن الشيخ الطوسيّ حول بعض كتبه): ما ذكره والدي رحمه الله من أنّ الشهيد يروي «الصحيفة الكاملة» عن السيّد السعيد تاج الدين بن معيّة، عن والده أبي جعفر القاسم، عن خاله تاج الدين أبي عبد الله جعفر بن محمّد بن مُعَيَّة، عن والده السيّد مجد الدين محمّد بن الحسن بن معيّة، عن الشيخ أبي جعفر محمّد بن شهرآشوب المازندرانيّ، عن السيّد أبي الصمصام ذي الفقار بن معبد الحسنيّ، عن الشيخ أبي جعفر الطوسيّ بسنده المذكور في أوّلها.
و عن السيّد تاج الدين محمّد بن مُعَيَّة أيضاً، عن السيّد كمال الدين الرضيّ محمّد بن محمّد بن السيّد رضي الدين الآوي الحسينيّ،٢ عن الإمام الوزير نصير الدين محمّد بن الحسن الطوسيّ، عن والده، عن السيّد أبي الرضا فضل الله الحسينيّ، عن السيّد أبي الصمصام، عن الشيخ أبي جعفر الطوسيّ.٣
و قال: وَ مِنْ ذَلِكَ (من بعض الأشياء حول بعض الكتب بخطّ الشهيد في الإجازات) ما ذكره الشيخ نجم الدين جعفر بن نما من أنّه يروي «الصحيفة الكاملة» بالإجازة عن والده، عن ۱ - الشيخ محمّد بن جعفر
المشهديّ بسماعه بقراءة الشريف الأجلّ نظام الشرف۱ أبي الحسن بن العريضيّ العلويّ الحسينيّ في شوّال سنة ستّ و خمسين و خمسمائة. و قرأته أيضاً عن والده: ٢ - جعفر بن عليّ المشهديّ، و على الشيخ الفقيه. ٣ - هبة الله بن نما، و الشيخ المقري. ٤ - جعفر بن أبي الفضل بن شعرة،٢ و ٥ - الشريف أبي القاسم بن الزكيّ العلويّ، و ٦ - الشريف أبي الفتح بن الجعفريّة، و ۷ - الشيخ سالم بن قُبارويه جميعاً عن السيّد بهاء الشرف بسنده المذكور هناك.
و يرويها أيضاً نجم الدين بالإجازة، عن والده، عن الشيخ أبي الحسن عليّ بن الخيّاط، عن الشيخ عربيّ بن مسافر، عن السيّد بهاء الشرف بإسناده المعلوم.٣
كلام الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ حول القائل: «حدّثنا»
و لقد كنت اكثر من التردّد على سماحة العلّامة الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ أعلى الله تعالى مقامه الشريف أيّام إقامتي في النجف الأشرف من أجل الدراسة، بخاصّة في أيّام الخميس و الجمعة، لأنّه كان استاذي في علم الدراية و الرجال و الحديث. يضاف إلى ذلك أنّه كان يتلطّف عَلَيّ و يودّني كثيراً بسبب انحدارنا من مدينة واحدة، و نتيجة لعلاقات قديمة كانت تربطه بجدّي و أبي و خال أبي. و بلغ حبّه إيّاي أنّي إذا أردتُ منه كتاباً
اطالعه فإنّه كان يُعيرنيه من مكتبته مهما كان نوعه. و كنت آتي بالكتاب و أكتب منه. و لا يخفى أنّ هذه الكتب مخطوطة و لعلّ بعضها فريد من نوعه مثل كتاب «ضِيَاءُ المَفَازَاتِ في طُرُقِ المَشَايِخِ وَ الإجَازَاتِ»، و نظائر ذلك كاجازة المرحوم آية الله السيّد حسن الصدر له.
كنت عنده يوماً و دار الحديث حول سند «الصحيفة الكاملة السجّاديّة» فقال: لا شكّ أنّ القائل: «حدّثنا» هو أحد السبعة الذين ذكرهم المجلسيّ في مشيخة «بحار الأنوار» في إجازة صاحب «المعالم» عن خطّ الشهيد رحمه الله. و كلّ واحد منهم في غاية الوثوق و الإتقان. ثمّ قال: ذكرتُ أسماءهم في الورقة الملحقة في ظهر صحيفتي، و إذا رغبتَ فاكتب، خذها إلى البيت و اكتب! و أعطاني صحيفته المخطوطة، فكتبت صفحة منها طبق الأصل و ألحقتها بصحيفتي المخطوطة الموروثة. و أنقلها فيما يأتي نصّاً تيمّناً و تبرّكاً و تذكاراً للنجف مدينة العاشقين، و تخليداً للعالِم المتّقي المتحرّر من هوي النفس العلّامة الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ:
بسمه تعالى شأنه العزيز
رأيت بخطّ العلّامة النحرير فريد عصرنا الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ مدّ ظلّه في ظهر «الصحيفة السجّاديّة» ما هذا لفظه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لوليّه، و الصلاة على نبيّه و وصيّه، و بعد فاعلم أنّه روى «الصحيفة» عن بهاء الشرف المصدَّر بها اسمه الشريف جماعة منهم مَن ذكرهم الشيخ نجم الدين جعفر بن نجيب الدين محمّد بن جعفر بن هبة الله بن نما الحلّيّ في إجازته المسطورة في إجازة صاحب «المعالم» -و تاريخ بعض إجازاته سنة ٦٣۷ - في إجازات «البحار»، ص ۱۰۸: جعفر بن عليّ المشهديّ أبو البقاء هبة الله بن نما
الشيخ المُقْري جعفر بن أبي الفضل بن شعرة الشريف أبو القاسم بن الزكيّ العلويّ الشريف أبو الفتح بن الجعفريّة الشيخ سالم بن قبارويه الشيخ عربيّ بن مسافر و كلّهم أجلّاء مشاهير، و أبو الفتح المعروف بابن الجعفريّة هو السيّد الشريف ضياء الدين ابو الفتح محمّد بن محمّد العلويّ الحسينيّ الحائريّ، و قد قرأ عليه السيّد عزّ الدين أبو الحرث محمّد بن الحسن بن عليّ العلويّ الحسينيّ البغداديّ كتاب «معدن الجواهر للكراجكيّ في الحلّة السيفيّة» في ج ۱ سنة ٥۷٣، و ذكرت هذا التأريخ ليُعلم عصر غيره ممّن شاركه في رواية «الصحيفة» عن بهاء الشرف تقريباً و إجازة صاحب «المعالم» مدرجةٌ في المجلّد الأخير من «البحار» و ادرج هو في إجازته إجازات ثلاث وجدها بخطّ الشهيد الأوّل إحداها إجازة نجم الدين جعفر بن نما، كما ذكره في أوائل صفحة المائة من هذا المجلّد، ثمّ أدرجها متفرّقةً في إجازته منها الفقرة التي نقلناها، فقد ذكرها في وسط ص ۱۰۸ من مجلّد الإجازات.
حرّره مالك النسخة إرثاً الجاني محمّد محسن المدعو بآغا بزرك الطهرانيّ في ٥ رجب سنة ۱٣٤٥ - انتهى.
حرّره مالك هذه الصحيفة إرثاً محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ في ۱٩ رجب، سنة ۱٣۷٥.
و لا يخفى فإنّ المرحوم الاستاذ أعلى الله تعالى مقامه لم يذكر في هذه الورقة اسم محمّد بن جعفر المشهديّ الذي كان قد روى عن السيّد الأجلّ سماعاً، و اكتفى بذكر أبيه جعفر بن عليّ المشهديّ، في حين يعدّ من رواة «الصحيفة» و به يكون مجموع الرواة ثمانية.
و من الطرائف أنّنا رأينا أخيراً في ص ۱٦٤ من هذه المجموعة نقلًا عن صاحب «المعالم» أنّ الشهيد رحمه الله يروي «الصحيفة» بالسند
المذكور في أوّلها عن السيّد تاج الدين بن مُعَيَّة بسندين مختلفَين عن الشيخ الطوسيّ. و لمّا كانت رواية الشيخ عن السيّد الأجلّ متعذّرة لا محالة، لأنّ السيّد الأجلّ - كما تفيد قرائن زمن الرواة عنه - كان في النصف الثاني من القرن السادس، و الشيخ الطوسيّ توفّي في النصف الثاني من القرن الخامس (ولد سنة ٣۸٥ هـ، و توفّي سنة ٤٦۰ هـ) لهذا لا يمكن أن يروي الشيخ عن السيّد بهاء الشرف إلّا أن يكون المراد من عبارة السند المذكور في أوّل (الصحيفة» الأشخاص المتأخّرين الذين كانوا قبل السيّد الأجلّ. و هذا الاحتمال حسن.
إذ - مضافاً إلى أنّ عندنا طريقة الشيخ في رواية «الصحيفة» عن غير بهاء الشرف - إنّ هاتين الروايتَين عن تاج الدين بن مُعَيَّة تُشعران بروايته عن هذا الطريق أيضاً. و لهذا يبلغ مجموع الرواة عن السيّد الأجلّ لحدّ الآن، و عن الرواة السابقين عن طريقه ثلاثة عشر.
رابعاً: لا ينحصر سند «الصحيفة» بالسيّد الأجلّ بهاء الشرف. ذلك أنّها رويت عن طريقٍ غيره بأسناد لا تُحصى.
و قد أورد العلّامة محمّد تقي المجلسيّ الأوّل بخطّه شرحاً يدور حول رواية «الصحيفة الكاملة» عن مشايخه رضوان الله عليهم، و ذكره المجلسيّ الثاني في «بحار الأنوار».
قال المجلسيّ ضمن الصورة ٤۱: رواية اخرى للوالد العلّامة «الصحيفة الكاملة السجّاديّة» عن مشايخه رضوان الله عليهم و هي بخطّ الوالد العلّامة.
و يروى المجلسيّ الأوّل هنا روايات عديدة بسنده المتّصل بالشهيد، و العلّامة و ابن طاووس، و غيرهم. و بخاصّة يروي بسنده المتّصل تسع عشرة رواية حول «الصحيفة» يصل سندها إلى شيخ الطائفة محمّد بن
الحسن الطوسيّ، و الشيخ يرويها بجميع هذه الأسانيد عن الحسين بن عبيد الله الغضائريّ، عن أبي المفضّل الشيبانيّ، عن الشريف الحسنيّ، إلى آخر السند.
و لا ينحصر سند عربيّ بن مسافر أيضاً بالسيّد الأجلّ، بل يبلغ بسنده مع السيّد الأجلّ إلى الشيخ إذ يقول: وَ عَنْهُ (عن السيّد غياث الدين بن طاووس)، عن عليّ بن يحيى الخيّاط، عن عربيّ بن مسافر، عن السيّد بهاء الشرف، عن محمّد بن أبي القاسم، عن أبي عليّ، عن أبيه (شيخ الطائفة) إلى غير ذلك، ممّا لا يحصى.۱
طرق الشيخ الطوسيّ في رواية «الصحيفة»
قال العلّامة صدر الدين السيّد على خان المدنيّ الشيرازيّ الكبير في مقدّمة شرحه الفذّ الفريد على «الصحيفة الكاملة السجّاديّة» بعد بيان سلسلة سنده مرتّباً و معنعناً حتى شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسيّ:
و له (الشيخ الطوسيّ) قدّس سرّه في روايتها طريقان ذكرهما في «الفهرست»: أحدهما: عن جماعة، عن أبي محمّد هارون بن موسى بن التلعكبريّ، عن المعروف بابن أخي طاهر، و هو أبو محمّد الحسن بن محمّد بن يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام،٢ عن محمّد بن مطهّر، عن أبيه، عن عمير بن المتوكّل، عن أبيه، عن يحيى بن زيد.
و ثانيهما: عن أبي عبد الله أحمد بن عبد الواحد البزّاز المعروف بابن عبدون، عن أبي بكر الدوريّ، عن ابن أخي طاهر، عن محمّد بن مطهّر، عن أبيه، عن عمير بن المتوكّل، عن أبيه، عن يحيى بن زيد، عن أبيه زيد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم
السلام.
و يوجد له في هوامش نسخ «الصحيفة» طريق ثالث، و صورته: حدّثنا الشيخ الأجلّ السيّد الإمام السعيد أبو عليّ الحسن بن محمّد بن الحسن الطوسيّ أدام الله تأييده في جمادى الآخرة من سنة إحدى عشرة و خمسمائة، قال: أخبرنا الشيخ الجليل أبو جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ قال: أخبرنا الحسين بن عبيد الله الغضائريّ قال: حدّثنا أبو الفضل (أبو المفضّل - ظ) محمّد بن عبيد الله بن المطّلب الشيبانيّ في شهور سنة خمس و ثمانين و ثلاثمائة. قال: حدّثنا الشريف أبو عبد الله جعفر بن محمّد بن جعفر بن الحسن إلى آخر السند المذكور في المتن.۱
قال المحدِّث الجزائريّ: و أمّا النسخة التي في الهامش المصدَّرة بقوله: حدّثنا الشيخ الأجلّ، فهي النسخة التي نقلها الفاضل السديديّ من نسخة ابن إدريس لبيان الاختلاف في السند بينها و بين نسخة ابن السكون. و قد وجدناها مكتوبة في الأصل في كثير من النسخ، و المتكلّم بحدَّثنا هو ابن إدريس.٢
البحث في سند «الصحيفة» هو للتيمّن فحسب
خامساً: بعد ثبوت تواتر سند «الصحيفة» و قطعيّته شأنها في ذلك شأن القرآن الكريم و «نهج البلاغة»، فلا معنى للبحث في سندها و التشكيك فيه. افرضوا أنّ صدر «الصحيفة الكاملة» خلا من هذا السند، أو أنّ كتب الرجال ضعّفت و فسّقت جميع رواتها، بَيدَ أنّ ثبوت نسبتها إلى الإمام الهُمام المولى عليّ بن الحسين سيّد الساجدين و إمام العارفين كان محقّقاً،
لأنّها متواترة. و لا معنى للتواتر غير هذا.
انتساب «الصحيفة» إلى الإمام السجّاد عليه السلام قطعيّ
و أعرب كافّة الذين كتبوا شروحاً عليها أنّ البحث في سندها بعد ثبوت تواترها لا يمكن أن يكون إلّا للتيمّن و التبرّك، و لهذا لا نجد فائدة في البحث في سندها مع ضعف بعض رواتها أو الجهل بهم.
قال السيّد على خان الكبير: تَنْبِيهٌ: السيّد نجم الدين بهاء الشرف المذكور ليس له ذكر في كتب الرجال. و لمّا كانت نسبة «الصحيفة» الشريفة إلى صاحبها عليه السلام ثابتة بالاستفاضة - التي كادت تبلغ حدّ التواتر - لم يُقدَح في صحّتها الجهل بأحوال بعض رجال أسانيدها. و ذكرهم لهؤلاء المشايخ إنّما هو لأجل التيمّن بالاتّصال في الإسناد بالمعصوم عليه السلام.۱
و قال السيّد محمّد باقر الداماد: «الصحيفة الكريمة السجّاديّة» المسمّاة «إنجيل أهل البيت»، و «زبور آل الرسول عليهم السلام» متواترة، كما سائر الكتب في نسبتها إلى مصنّفيها، و ذكر الأسناد لبيان طريق حمل الرواية، و إجازة تحمل النقل، و ذلك سنن المشايخ في الإجازات.٢
و قال السيّد نعمة الله الجزائريّ: قَوْلُهُ: أبو الحسن محمّد بن الحسن، حاله مجهول. و في الرجال كحال الخازن، و الخطّاب، و البلخيّ، و هو غير ضائر لتواتر ما بين الفريقين حتى أنّ الغزّاليّ و غيره سمّوها «إنجيل أهل البيت» و «زبور آل محمّد صلى الله عليه و آله و سلّم».
و إنّما رتّبها أصحابنا على طريق التعنعن عنهم سلوكاً لمحجّة التيمّن و التبرّك باتّصال روايتها بالمعصوم عليه السلام مع أنّهم من أهل الإجازة،
لا من أهل الرواية.
و أيضاً إعجاز اسلوبها و غرابة أطوارها شاهدان عدلان على أنّ مثلها لا يصدر إلّا عن مثله.۱
و قال آية الله آغا ميرزا محمّد عليّ المدرّسيّ الجهاردهيّ: اعلم أنّ في سلسلة السند المذكور في الكتاب عدد لا نعلمهم، مثل محمّد بن الحسن و الخازن و الخطّاب و البلخيّ. و هذا لا يقدح في المقام بعد شهرة الكتاب عن الإمام عليه السلام، حتى قال الغزّاليّ و غيره: يقال لهذا الكتاب «إنجيل أهل البيت» و «زبور آل محمّد»، لكنّ الأصحاب الذين يذكرون السند معنعناً إنّما يفعلون ذلك للتيمّن و التبرّك، إذ يتّصل رواته بالمعصوم.٢
و تحدّث الملّا محمّد باقر المجلسيّ في «بحار الأنوار» حول «الصحيفة» مفصّلًا نقلًا عن خطّ والده الملّا محمّد تقي، إلى أن قال (المجلسيّ الأوّل): و بالأسانيد المتواترة عن هارون بن موسى التلعكبريّ، عن أحمد بن العبّاس الصيرفيّ المعروف بابن الطيالسيّ، يُكنّى أبا يعقوب، روى «الصحيفة الكاملة» سنة خمس و ثلاثين و ثلاثمائة بإسناده إلى يحيى بن زيد.
و الذي رأيتُ من أسانيد «الصحيفة» بغير هذه الأسانيد فهي أكثر من أن تُحصى، و لا شكّ لنا في أنّها من سيّد الساجدين.٣
اشتهار «الصحيفة» بين العلماء السابقين
و قال الاستاذ السيّد محمّد مِشكاة في مقدّمته على «الصحيفة»: فكان هذا [كتاب «الصحيفة السجّاديّة»] ثاني كتابَين [الكتاب الآخر هو «كتاب
سُليم»] لم يظهر قبلهما في عالم الإسلام سوى القرآن المجيد. مضى على هذا الكتاب ثلاثة عشر قرناً، و هو أنيسٌ لأكابر الزهّاد و الصالحين، و مرجع مشار إليه عند مشاهير العلماء و المصنّفين.
أومأ إليه فقيه الطائفة و شيخها الأقدم محمّد بن محمّد بن النعمان المفيد (٣٣۸ - ٤۱٣) في «الإرشاد» عند آخر ترجمة مولانا عليّ بن الحسين عليه السلام. و صرّح به معاصره الثقة الجليل الشهير عليّ بن محمّد الخزّاز القمّيّ تلميذ الصدوق ابن بابويه (م ٣۸۱)، و أحمد بن عيّاش (م ٤۰۱)، و أبو المفضّل الشيبانيّ، في آخر كتاب «كفاية الأثر» حيث روى عن عليّ بن الحسين عليهما السلام، قال:
حدّثنا عامر بن عيسى بن عامر السيرافيّ بمكّة في ذي الحجّة سنة إحدى و ثمانين و ثلاثمائة قال: حدّثني أبو محمّد الحسن بن محمّد بن يحيى [بن] الحسن بن جعفر بن عبيد الله بن الحسين بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام قال: حدّثنا محمّد بن مطهّر قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا عمير بن المتوكّل بن هارون البجليّ، عن أبيه متوكّل بن هارون.
قال: لقيتُ يحيى بن زيد بعد قتل أبيه و هو متوجّه إلى خراسان فما رأيتُ رجلًا في عقله و فضله مثله (و ساق الحديث إلى أن قال) ثمّ أخرج لي صحيفة كاملة فيها أدعية عليّ بن الحسين عليه السلام.
ثمّ يرى ذِكره في أقدم كتاب يختصّ بذكر مصنّفات الشيعة و رجالهم، أعني: «فهرست شيخ الطائفة» [المولود ٣۸٥، و المتوفّى ٤٦۰]، و «رجال النجاشيّ» (المولود ٣۷٢، و المتوفّى ٤٥۰) عند ترجمة متوكّل بن عمير، و في «رجال الشيخ» عند عليّ بن مالك، و غيرهما.
و أمّا سائر كتب الحديث و الرجال فقد تكرّر اسم «الصحيفة» و رجالها
في أكثرها، لا تسع هذه المقدّمة بوجازتها إحصاءها. و ناهيك في ذلك أنّ المولى محمّد تقي المجلسيّ أشار في بعض رواياته أنّ له إليها ألف ألف سند.
و إذ كانت روايات الكتاب متضافرة، و عليه عبقة من مِشكاة النبوّة، و نفحة من رياض الولاية، رأت المشايخ صدوره من الإمام المعصوم متيقّناً معلوماً، فلمّا تناولته أيدي الناس و لم يقابله أحدٌ بردّ و إنكار، طار صيته و امتدّ ضياؤه، فأكبّوا على استنساخه و مقابلته، و أخذ الإجازة على روايته.
فتداول الكتاب بينهم - و صار مسير الصبا - حتى اشتهر ب «زبور آل محمّد»، و «إنجيل أهل البيت عليهم السلام» و لمّا ينتصف القرن السادس للهجرة. فأقبل الناس على شرحه، ثمّ على نقله إلى الفارسيّة.
و يواصل المرحوم مِشكاة كلامه إلى أن يقول: و «الصحيفة» متواترة من طرق الزيديّة أيضاً ... و شاهدت أنا أيضاً بعض أجلّاء الزيديّة حينما اجتمعتُ بهم حيث كانوا يقابلون «الصحيفة» بكمال الخضوع و التعظيم و يحترمون شروحها خصوصاً شرح السيّد على خان الكبير.
إن أدعية الصحيفة بحسن بلاغتها و كمال فصاحتها احتوت على لُباب العلوم الإلهيّة و المعارف اليقينيّة التي ينقاد لديها العقول، و يخضع في مقابلها الفحول. و ذلك ظاهر لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد. فعباراته دالّة على أنّه فوق كلام المخلوق. فهي أرفع شأناً و أعلى مقاماً من أن تصل إليها يد أوهام الواضعين.
قال بعض العرفاء: إنّها تجري مجرى التنزيلات السماويّة و تسير مسير الصحف اللوحيّة و العرشيّة.
و نقل المرحوم مِشكاة هنا قصّة البصريّ الذي كان قد زعم أنّه يستطيع أن يأتي بأدعية كأدعية «الصحيفة»، و أخذ القلم و أطرق رأسه فما
رفعه حتى مات. و قد سبق أن ذكرناها في هذا الجزء، عن «رياض السالكين» و «مناقب ابن شهرآشوب». ثمّ قال: إنّه اعتمد عليه و نقل عنه أئمّة المصنّفين في مثل هذا الشأن بحيث لا يشذّ من كتب الأدعية المعتبرة واحد.
ثمّ ذكر شرحاً مفصّلًا لكتب الأدعية الزاخرة بأدعية الصحيفة ككتاب شيخ الطائفة، و القطب الراونديّ، و السيّد عليّ بن الحسين بن باقي، و السيّد عليّ بن طاووس، و رضيّ الدين أبي القاسم عليّ بن طاووس، و الشهيد محمّد بن مكّي، و إبراهيم الكفعميّ، ثمّ قال:
إن هذه «الصحيفة» المباركة إمامٌ للكتب الإسلاميّة، تالية للقرآن الكريم. و إنّ كلًّا من العقل و النقل مستقلّ بشهادة صدورها عن قائلها الإمام الرابع عليه السلام ... ليس يستطيع أن يقول المعادي فيها إلّا الذي يقول الموالى.
فكما أنّ منشئ هذا الكتاب الشريف يحتاج الجميع إلى شفاعته و التوسّل بذيل عنايته، و الاستضاءة من نور معرفته، و الاهتداء بهداه، و هو عليه السلام مستغنٍ عن غير الله تعالى من المخلوقين، كذلك كتابه هذا يستغني عمّا عملته أيدي الناس استغناء منشئه عليه السلام عنهم، و يد الكلّ باسطة إليه.
إذ قد رأيتُ أنّ جميع كتب الأدعية عياله يأخذ كلٌّ نصيبه منه حسب ما وضع له من الأغراض، لكن هو حقٌّ محض لا يشوبه باطل، مستغنٍ عن الجميع، ليس شيء من أدعيته مأخوذاً من كتاب آخر سابق عليه.
إذ لا يسبقه سابق، بل لا يلحقه لاحق. فكلّه ممّا أجرى الله تعالى على لسان قائله حينما كان يخلو به تعالى و بذكره.۱
المزيّة الثامنة التي عدّها المؤلّف المحترم مزيّة اخرى في ختام مقدّمته و أنهى بها موضوعه و أمضاه، هي: وجود فروق جزئيّة في الألفاظ و العبارات بين متن رواية هذه «الصحيفة» و متن رواية «الصحيفة» المعروفة مع الاشتراك في أصل النقل، و ذكرها ليس مهمّاً.
و المهمّ الجدير بالذكر هو تتمّة رواية «الصحيفة» المعروفة. فقد جاء فيها أنّه بعد خروج أولاد عبد الله بن الحسن من عند الإمام الصادق عليه السلام و هم يقولون: لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ، تحدّث الإمام عليه السلام مع المتوكّل راوي الحديث، و نقل في كلامه رؤيا رسول الله صلى الله عليه و آله، و وردت في بعضه فقرة يبدو أنّها أصبحت ذريعة للمعارضين تأسيسَ الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران (مع غضّ النظر عن توجيهها الصحيح).
و الفقرة هي: قال عليه السلام:
(ما خَرَجَ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ إلَى قِيَامِ قَائِمِنَا أحَدٌ لِيَدْفَعَ ظُلْمَاً أوْ يَنْعَشَ حَقَّاً إلَّا اصْطَلَمَتْهُ البَليَّةُ وَ كَانَ قِيَامُهُ زِيَادَةً في مَكْرُوهِنَا وَ شِيعَتِنَا) و هذه الفقرة من الرواية غير موجودة في «الصحيفة» القديمة أساساً.
و من الطريف أنّ في آخر رواية «الصحيفة» المعروفة سنداً آخر يبدأ من أبي المفضّل، و هو يحتوي على أبواب «الصحيفة».
و هذا السند كسابقه أيضاً، إذ إنّ القائل: «حدّثنا» غير معيّن، و مجمل السند السابق موجود في هذا السند نصّاً، إلّا أنّ مجرى الامور في هذا السند كالصحيفة القديمة يبلغ حتى أوّل رؤيا رسول الله صلى الله عليه و آله، و لم تُذكر تتمّة رواية الصحيفة المعروفة في هذا السند.
وَ اللهُ العَالِمُ بِحَقَائِقِ الامور | *** | العَبْدُ المُفْتَاقُ إلى رَحْمَةَ رَبِّهِ |
السَّيِّد أحْمَد الفَهْرِيّ۱
و نجيب عن هذه المزيّة بعدّة وجوه، ذلك أنّها هي نفسها مقدوح فيها من عدّة وجوه أيضاً. و لهذا ينبغي أن نتحدّث حديثاً مستقلّا عن كلّ جهة من هذه الجهات بالتفصيل ثمّ نجيب عنها. و قبل أن نبدأ، نذكر فيما يأتي مقدّمة «الصحيفة الكاملة» التي يدور البحث حولها، ثمّ ندخل في البحث. حدّثنا٢ السيّد الأجلّ نجم الدين بهاء الشرف ابو الحسن: محمد بن الحسن بن أحمد بن عليّ بن محمّد بن عمر بن يحيى العلويّ الحسينيّ رحمه الله.٣
...۱
...۱
...۱
قال: أخبرنا الشيخ السعيد أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن شهريار۱ الخازن لخزانة مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في شهر ربيع الأوّل من سنة ستّ عشرة و خمسمائة قراءة عليه و أنا أسمع.
قال:٢ سمعتها على الشيخ الصدوق أبي منصور محمّد بن محمّد بن أحمد بن عبد العزيز العكبريّ المعدّل رحمه الله٣ عن أبي المفضّل محمّد ابن عبد الله بن المطّلب الشيبانيّ.
قال: حدّثنا الشريف أبو عبد الله جعفر بن محمّد بن جعفر بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
قال: حدّثنا عبد الله بن عمر بن خطّاب الزيّات سنة خمس و ستّين و مائتين.
قال: حدّثني خالى عليّ بن النعمان الأعلم.
قال: حدّثني عمير بن متوكّل الثقفيّ البلخيّ عن أبيه متوكّل بن هارون.
تفصيل اللقاء بين المتوكّل بن هارون و يحيى بن زيد
قال: لقيتُ يحيى بن زيد بن عليّ عليه السلام بعد قتل أبيه و هو متوجّه إلى خراسان فسلّمت عليه. فقال لي: من أين أقبلتَ؟! قلتُ: من الحجّ. فسألني عن أهله و بني عمّه بالمدينة. و أحفى السؤال عن جعفر بن محمّد عليه السلام فأخبرته بخبره و خبرهم و حزنهم على أبيه زيد بن عليّ عليه السلام.
فقال لي: قد كان عمّي محمّد بن عليّ عليه السلام۱ أشار على أبي بترك الخروج و عرّفه إنّ هو خرج و فارق المدينة ما يكون إليه مصير أمره! فهل لقيت ابن عمّي جعفر بن محمّد عليه السلام؟!٢
قلتُ: نعم! قال: فهل سمعته يذكر شيئاً من أمري؟! قلتُ: نعم!
قال: بِمَ ذكرني؟ خبّرني!
قلتُ: جُعلتُ فداك! ما أحبّ أن أستقبلك بما سمعته منه!
فقال: أبا لموت تخوّفني؟! هات ما سمعته!
فقلتُ: سمعته يقول: إنّك تُقتَل و تُصلَب كما قُتِلَ أبوك و صُلب!
فتغيّر وجهه و قال: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.۱ يا متوكّل إنّ الله عزّ و جلّ أيّد هذا الأمر بنا و جعل لنا العلم و السيف فجُمعا لنا، و خصّ بنو عمّنا بالعلم وحده.
فقلتُ: جُعلتُ فداك! إنّي رأيتُ الناس إلى ابن عمّك جعفر عليه السلام أمْيَلَ منهم إليك و إلى أبيك.
فقال: إنّ عمّي محمّد بن عليّ و ابنه جعفراً عليهما السلام دَعَوا الناس إلى الحياة و نحن دعوناهم إلى الموت!
فقلتُ: يا ابن رسول الله! هم أعلم أم أنتم؟!
فأطرق إلى الأرض مليّاً ثمّ رفع رأسه و قال: كلّنا لنا علم غير أنّهم يعلمون كلّما نعلم و لا نعلم كلّ ما يعلمون.
ثمّ قال لي: أ كتبتَ من ابن عمّي شيئاً؟!
قلتُ: نعم! قال: أرِنِيهِ!
فأخرجتُ إليه وجوهاً من العلم، و أخرجتُ له دعاءً أملاهُ عَلَيّ ابو عبد الله عليه السلام و حدّثني أنّ أباه محمّد بن عليّ عليهما السلام أملاه عليه، و أخبره أنّه من دعاء أبيه عليّ بن الحسين عليهما السلام من دعاء «الصحيفة الكاملة». فنظر فيه يحيى حتى أتى على آخره و قال لي: أ تأذن في نسخه؟!
فقلت: يا ابن رسول الله! أ تستأذن فيما هو عنكم؟!
فقال: أ ما لأخرجنّ إليك صحيفة من الدعاء الكامل ممّا حفظه أبي عن أبيه، و إنّ أبي أوصاني بصونها و منعها غير أهلها.
قال عمير: قال أبي (متوكّل): فقمتُ إليه فقبّلت رأسه، و قلتُ له:
و الله يا ابن رسول الله إنّي لأدين الله بحبّكم و طاعتكم! و إنّي لأرجو أن يسعدني في حياتي و مماتي بولايتكم.
فرمى صحيفتي التي دفعتها إليه إلى غلامٍ كان معه، و قال: اكتب هذا الدعاء بخطٍّ بيِّنٍ حَسَنٍ! و اعرضه عَلَيّ! لعلّي أحفظه فإنّي كنتُ أطلبه من جعفر حفظه الله فيمنعنيه.
قال المتوكّل: فندمتُ على ما فعلتُ و لم أدرِ ما أصنع. و لم يكن أبو عبد الله عليه السلام تقدّم إليّ ألّا أدفعه إلى أحدٍ.
ثمّ دعا (يحيى) بعيبة فاستخرج منها صحيفة مقفّلة مختومة، فنظر إلى الخاتم و قبّله و بكى، ثمّ فضّه و فتح القفل، ثمّ نشر الصحيفة و وضعها على عينه و أمرّها على وجهه و قال: و الله يا متوكّل! لو لا ما ذكرتَ من قول ابن عمّي أنّني اقْتَلُ و اصْلَبُ لما دفعتها إليك و لكنتُ بها ضنيناً و لكنّي أعلم أنّ قوله حقّ أخذه عن آبائه، و أنّه سيصحّ. فخفتُ أن يقع مثل هذا العلم إلى بني اميّة فيكتموه و يدّخروه في خزائنهم لأنفسهم (و ينسبون إنشاءها إلى أنفسهم). فاقبضها و اكفنيها و تربّص بها! فاذا قضى الله من أمري و أمر هؤلاء القوم ما هو قاضٍ فهي أمانةٌ لي عندك حتى توصلها إلى ابنَي عمّي محمّد و إبراهيم ابنَي عبد الله بن الحسن بن الحسن بن عليّ عليهما السلام فإنّهما القائمان في هذا الأمر بعدي.
قال المتوكّل: فقبضتُ الصحيفة فلمّا قُتِل يحيى بن زيد، صرتُ إلى المدينة فلقيتُ أبا عبد الله عليه السلام فحدّثته الحديث عن يحيى فبكى و اشتدّ وَجْدُهُ به، و قال: رحم الله ابن عمّي و ألحقه بآبائه و أجداده!
و الله يا متوكّل! ما منعني من دفع الدعاء إليه إلّا الذي خافه على صحيفة أبيه! و أين الصحيفة؟! فقلتُ: ها هي. ففتحها و قال: هذا و الله
خطّ عمّي زيد و دعاء جدّي عليّ بن الحسين عليهما السلام. ثمّ قال لابنه: قم يا إسماعيل فائتني بالدعاء الذي أمرتك بحفظه و صونه! فقام إسماعيل فأخرج صحيفة كأنّها الصحيفة التي دفعها إليّ يحيى بن زيد فقبّلها أبو عبد الله و وضعها على عينه و قال: هذا خطّ أبي و إملاء جدّي عليهما السلام بمشهدٍ منّي. فقلتُ: يا بن رسول الله! إن رأيتَ أن أعرضها مع صحيفة زيد و يحيى فائذن لي في ذلك. و قال: قد رأيتُك لذلك أهلًا! فنظرتُ و إذا هما أمرٌ واحد. و لم أجد حرفاً منها يخالف ما في الصحيفة الاخرى. ثمّ استأذنتُ أبا عبد الله عليه السلام في دفع الصحيفة إلى ابنَي عبد الله بن الحسن. فقال: إنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إلَى أهْلِهَا.۱
نعم! فادفعها إليهما. فلمّا نهضتُ للقائهما، قال لي: مكانك.
إعطاء الإمام الصادق عليه السلام الصحيفة لمحمّد و إبراهيم
ثمّ وجّه إلى محمّد و إبراهيم فجاءا، فقال: هذا ميراث ابن عمّكما يحيى من أبيه قد خصّكما به دون إخوته. و نحن مشترطون عليكما فيه شرطاً!
فقالا: رحمك الله! قُل فقولك المقبول!
فقال: لا تخرجا بهذه الصحيفة من المدينة!
قالا: و لِمَ ذاك؟
قال: إنّ ابن عمّكما خاف عليها أمراً أخافه أنا عليكما!
قالا: إنّما خاف عليها حين علم أنّه يُقتَل.
فقال أبو عبد الله عليه السلام: و أنتما فلا تأمنا! فوالله إنّي لأعلم أنّكما ستخرجان كما خرج و تُقتلان كما قُتِل! فقاما و هما يقولان: لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ.
فلمّا خرجا، قال لي أبو عبد الله عليه السلام: يا متوكّل! كيف قال
لك يحيى إنّ عمّي محمّد بن عليّ و ابنه جعفراً دعوا الناس إلى الحياة و نحن دعوناهم إلى الموت؟!
قلتُ: نعم، أصلحكَ الله! قد قال لي ابن عمّك يحيى ذلك! فقال: يَرْحَمُ اللهُ يحيى!
رؤيا رسول الله صلى الله عليه و آله بني اميّة على منبره
إنّ أبي حدّثني عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السلام أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله أخذته نعسة و هو على منبره، فرأى في منامه رجالًا ينزون على منبره نزو القردة و يردّون الناس على أعقابهم القهقرى. فاستوى رسول الله جالساً و الحزن يُعرَف في وجهه، فأتاه جبرائيل عليه السلام بهذه الآية: وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً.۱ يعني بني اميّة. قال: يا جبرائيل! أعَلَى عهدي يكونون و في زمني؟!
قال: لا! و لكن تدور رحى الإسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشراً! ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة و ثلاثين من مهاجرك فتلبث بذلك خمساً. ثمّ لا بدّ من رحى ضلالة هي قائمة على قطبها. ثمّ ملك الفراعنة.
قال: و أنزل الله تعالى في ذلك: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.٢ يملكها بنو اميّة ليس فيها ليلة القدر.
قال: فأطلع الله نبيّه عليه السلام أنّ بني اميّة تملك سلطان هذه الامّة و ملكها طول هذه المدّة. فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتى يأذن الله تعالى بزوال ملكهم و هم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت و بغضنا.
أخبر الله نبيّه بما يلقى أهل بيت محمّد و أهل مودّتهم و شيعتهم منهم في أيّامهم و ملكهم.
قال: و أنزل الله تعالى فيهم:
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ.۱ و نعمة الله محمّد و أهل بيته، حبّهم إيمان يُدخِلُ الجنّة، و بغضهم كفر و نفاق يُدخِلُ النارَ. فأسرّ رسول الله صلى الله عليه و آله ذلك إلى عليّ و أهل بيته.
قال: ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام: ما خرج و لا يخرج منّا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلماً أو يُنعش حقّاً إلّا اصطلمته البليّة، و كان قيامه زيادة في مكروهنا و شيعتنا.
قال المتوكّل بن هارون: ثمّ أملى عليّ ابو عبد الله عليه السلام الأدعية و هي خمسة و سبعون باباً سقط عنّي منها أحد عشر باباً، و حفظت منها نيّفاً و ستّين باباً.
(قال أبو منصور محمّد بن محمّد بن أحمد بن عبد العزيز العُكبَريّ المعدّل:) و حدّثنا أبو المفضّل قال: و حدّثني محمّد بن الحسن بن روزبه أبو بكر المدائنيّ الكاتب نزيل الرحبة (الكوفة أو بغداد) في داره قال: حدّثني محمّد بن أحمد بن مسلم المطهّريّ، قال: حدّثني أبي عن عمير بن متوكّل البلخيّ، عن أبيه المتوكّل بن هارون، قال: لقيت يحيى بن زيد بن عليّ عليهما السلام - فذكر الحديث بتمامه إلى رؤيا النبيّ صلى الله عليه و آله التي ذكرها جعفر بن محمّد عن آبائه صلوات الله عليهم-.
و في رواية المطهّريّ ذكر الأبواب:
(سَرَدَ أبو المفضّل هنا أربعة و خمسين باباً من أدعية «الصحيفة الكاملة» مع عناوينها، ثمّ قال:) و باقي الأبواب بلفظ أبي عبد الله الحسنيّ رحمه الله.
(و قال أبو المفضّل حدّثنا أبو عبد الله جعفر بن محمّد الحسنيّ قال: حدّثنا عبد الله بن عمر بن خطّاب الزيّات قال: حدّثني خالى عليّ بن النعمان الأعلم قال: حدّثني عمير بن متوكّل الثقفيّ البلخيّ عن أبيه متوكّل ابن هارون قال: أملى عَلَيّ سيِّدي الصادق أبو عبد الله جعفر بن محمّد قال: أملى جدّي عليّ بن الحسين على أبي محمّد بن عليّ عليهم أجمعين السلام - هذه الأدعية بمشهدٍ منّي.۱
هذه هي مقدّمة «الصحيفة الكاملة». و آن الأوان الآن للالتفات إلى عبارات المؤلّف المحترم لشرح الصحيفة المكتشفة، و التحدُّث عن مواطن الإشكال فيها.
الجواب عن المزايا الوهميّة في «الصحيفة» المكتشفة
أوّلًا، قال: و من الطريف أنّه يذكر في آخر رواية الصحيفة المعروفة سنداً آخر أيضاً يبدأ من أبي المفضّل و يحتوي على أبواب «الصحيفة». و القائل: «حدّثنا» في هذا السند غير معيّن كالسند السابق. و مجمل السند الماضي موجود في هذا السند نصّاً.
و الجواب هو: أنّه يشيع بين رواة الحديث أنّهم إذا رووا في وسط سلسلة السند المشغولين بسرده بقيّة السند بطريق آخر، فإنّهم يقطعونه عند تلك النقطة، و يذكرون الرواية بطريق آخر من خلال قولهم: حدّثنا و أخبرنا و أمثالهما، ثمّ يرجعون مرّة ثانية، و يوردون بقيّة السند السابق من النقطة التي قُطع فيها و يختمون السند.
و هذا ما يسمّى بالحَيلُولَة، و غالباً ما يحدّدون نقطة السند الجديد بعلامة «ح» المخفّفة من (حيلولة).
و اصطلاح الحيلولة من موضوعات السابقين و ليس من اصطلاحات عصر العُكْبَريّ و أمثاله. يضاف إلى ذلك أنّ ذكر الحيلولة ليس ضروريّاً، و نلحظ في كثير من الروايات أنّهم يذكرون السند الذي يتغيّر بلا إشارةٍ إلى عنوان الحيلولة.
و نحن نعلم في رواية الحسنيّ لـ «الصحيفة الكاملة» أنّ الراوي عن أبي المفضّل الشيبانيّ هو الشيخ الصدوق أبو منصور محمّد بن محمّد بن أحمد ابن عبد العزيز العكبريّ المعدّل.
ينقل السيّد الأجلّ هذه الرواية عبر هذا الطريق إلى أن يصل إلى موضع بيان الرواية بسند آخر يُعرَف بسند المطهّريّ (في مقابل الحسنيّ).
و هناك ينقل رواية المطهّريّ بنفس السند، غاية الأمر أنّه لم يذكر الحيلولة. و من البيِّن أنّ القائل: وَ حَدَّثَنَا أبُو المُفَضَّل في آخر رواية المطهّريّ في آخر «الصحيفة» هو راويها في أوّل «الصحيفة» في رواية الحسنيّ. و هو أبو منصور محمّد بن محمّد بن أحمد بن عبد العزيز العكبريّ المعدّل الذي رواها هنا و هناك عن أبي المفضّل.
ثانياً، قال: الموضوع في هذا السند كالصحيفة القديمة حتى أوّل رؤيا رسول الله صلى الله عليه و آله و لم تُذكَر تتمّة رواية الصحيفة المعروفة في هذا السند.
الجواب: جاء في عبارة «الصحيفة الكاملة» ما نصّه: فَذَكَرَ الحَدِيثَ بِتَمامِهِ إلى رُؤيَا النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ.
قال المحقّق العليم استاذ العربيّة و آدابها السيّد على خان المدنيّ الكبير رضوان الله عليه في شرح قوله: إلى رُؤيا النَّبِيّ صلى الله عليه
و آله: ينبغي أن يكون ما بعد إلَى داخلًا في حكم ما قبلها فتكون الرؤيا داخلة في الحديث المذكور بقرينة قوله: فَذَكَرَ الحَدِيثَ بِتَمَامِهِ.
و قد قالوا: إذا دلّت قرينة على دخول ما بعد إلى نحو: قَرأتُ القُرآنَ مِن أوَّلِهِ إلى آخِرِهِ، أو على خروجه نحو: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ،۱ عمل بها و إلّا فلا يدخل، لأنّ الأكثر مع عدم القرينة عدم الدخول، فيجب الحمل عليه عند التردّد.
و قيل: يدخل بدون قرينة إن كان من الجنس.
و قيل: مطلقاً. و الأوّل هو الصحيح لما ذكرنا.٢
و جعل المرحوم السيّد على خان في هذا الحديث المبارك قرينة: ذَكَرَ الحَدِيثَ بِتَمَامِهِ لدخول الرؤيا، كما تقول: سمعتُ منبر فلان كلّه حتى آخر قراءته للعزاء. أو تقول: قرأتُ «نهج البلاغة» حتى آخره. و حينئذٍ يقال قطعاً إنّه قرأ باب حكمه و مواعظه أيضاً و لم يكتف بباب خطبه و رسائله.
إذن، يتساوى سندا الحسنيّ و المطهّريّ تماماً و لا تفاوت في دخول الرؤيا و عدم دخولها بين السندَين الموجودَين.
يستبين من هنا أن لا محمل للفظ «و من الطريف» في آخر رواية الصحيفة المعروفة إلّا طغيان القلم.
ثالثاً: - ظنّ أنّ خلوّ الصحيفة المكتشفة - التي سمّاها «الصحيفة العتيقة»، و نحن سمّيناها المكتشفة، لا العتيقة، إذ كما عرفنا أنّ «الصحيفة الكاملة» المعروفة أسبق منها و أقدم، و سندها أمتن و أرسخ، و هو مصحوب بالتواتر، فلا يجوز لنا أن نُضفي عنوان القِدَم على هذه الصحيفة المكتشفة
الجديدة في مقابل الصحيفة المعروفة - من ذكر تتمّتها الزاخرة بالحديث عن رؤيا رسول الله صلى الله عليه و آله و تأويل نزو القردة على المنبر ببني اميّة (إذ ظهر أوّل دوران قطب الضلالة في رحى الإسلام بعد خلافة أمير المؤمنين عليه السلام متمثّلًا بمعاوية و يزيد، ثمّ ملك الفراعنة، أي: حكومة بني مروان) و بعد ذلك تفسير الإمام الصادق عليه السلام ليلة القدر و آيات سورة القدر بولاية أهل البيت، كلّ ذلك زيادة ملحقة بلا معنى.
إذ عدّ خلوّها من ذلك كلّه مزيّةً، و قال: فروق جزئيّة في الألفاظ و العبارات، و ذكرها غير مهمّ. و المهمّ الجدير بالذكر هو تتمّة رواية الصحيفة المعروفة التي تشتمل على هذه القضيّة، و لا تشتمل عليه الصحيفة المكتشفة.
الجواب: ذكرنا مفصّلًا في انتقادنا لبحثه في باب الصلاة على النبيّ و آله أنّنا لا يمكن أن نحذف موضوعاً من كتاب، أو ننكر استناده إلى مصنّفه من وحي الذوق بلا دليلٍ و لا دعامة علميّة و لا مسوّغ من علم الدراية، فعند ما ترد الصلاة على محمّد و آل محمّد في الصحيفة المعروفة بسند متواتر، فإنّ عدم ورودها في الصحيفة المكتشفة التي لا شأن لسندها دليل على النقصان و الإسقاط و الحذف في تلك الصحيفة، لا دليلٍ على الإلحاق و الزيادة في الصحيفة المعروفة.
أجمع العلماء على أنّ أصالة عدم الزيادة مُقَدَّمة على أصالة عدم النقيصة عند دوران الأمر بينهما و الشكّ في طروّ الزيادة في جانب، و النقيصة في جانب آخر.
نقول هنا أيضاً: وردت قصّة رؤيا رسول الله و تعبيرها، عن الإمام الصادق عليه السلام للمتوكّل بن هارون في آخر مقدّمة الصحيفة المعروفة بمقدار ثلث حجم المقدّمة جميعها.
بأيّ استناد عقليّ، أو دليل شرعيّ، أو علم و كشف خارجيّ تستطيع أن تستدلّ على الإلحاق و الزيادة فيها؟! بل تدلّ الأدلّة القويّة كلّها على أنّ ذلك من أصل الكتاب، و لا يمكن أبداً أن يُقطَعَ من كتابٍ ما - أيّ كتاب كان - جزء منه على سبيل الذوق، و يُحال دون انتساب ذلك الجزء و استناده إلى مدوِّن الكتاب.
إن كلّ مَن نظر في آخر شرح سند الصحيفة الجديدة المكتشفة، أدرك جيّداً أنّه أبتر. جاءت العبارات الآتية في خاتمتها: فَأخَذَا الصَّحِيفَةَ وَ قَامَا وَ هُمَا يَقُولَانِ: لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ. وَ دَعَا المُتَوَكِّلُ بِالدَّفْتَرِ.
وَ الصَّحِيفَةُ هي بِتَمَامِهَا بِحَمْدِ اللهِ وَ مَنِّهِ وَ فَضْلِهِ.
أ لا تُشاهد هنا آثار الحذف و قطع البقيّة؟! على عكس الصحيفة المعروفة التي جاء فيها: فَقَامَا وَ هُمَا يَقُولَانِ: لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ. فَلَمَّا خَرَجَا، قَالَ لي أبُو عَبْد اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُتَوَكِّلُ! كَيْفَ قَالَ لَكَ يحيى: إنَّ عَمِّي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيّ وَ ابْنَهُ جَعْفَراً دَعَوا النَّاسَ إلَى الحَيَاةِ وَ دَعَونَاهُمْ إلَى المَوْتِ. إلى آخر كلامه عليه السلام: وَ كَانَ قِيَامُهُ زِيَادَةً في مَكْرُوهِنَا وَ شِيعَتِنَا.
توجيه الروايات الدالّة على عقم النهضة قبل قيام القائم عليه السلام
رابعاً: يبدو أنّ كلام الإمام الصادق عليه السلام: مَا خَرَجَ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَّا أهْلَ البَيْتِ إلَى قِيَامِ قَائِمِنَا أحَدٌ لِيَدْفَعَ ظُلْماً أوْ يَنْعَشَ حَقَّاً إلَّا اصْطَلَمتْهُ البَلِيَّةُ وَ كَانَ قِيَامُهُ زِيَادَةً في مَكْرُوهِنَا وَ شِيعَتِنَا أصبح ذريعةً بِيَدِ المعارِضين لتأسيس الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة (مع غضّ النظر عن توجيهها الصحيح) و لا وجود لهذه الفقرة من الرواية في الصحيفة القديمة أساساً. و من الطريف أنّ ....
الجواب: لا يقتصر كلام الإمام عليه السلام على هذا الموضع.
روى الكلينيّ في «الكافي» عن أحمد بن محمّد، عن الحسين بن
سعيد، عن حمّاد بن عيسى، عن الحسين بن مختار، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: كُلُّ رَايَةٍ تُرْفَعُ قَبْلَ قِيَامِ القَائِمِ فَصَاحِبُهَا طَاغُوتٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.۱
و روى العلّامة المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» في سيرة الإمام محمّد الباقر عليه السلام، عن «مناقب ابن شهرآشوب»: يُرْوَى أنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا عَزَمَ عَلَى البَيْعَةِ قَالَ لَهُ أبُو جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
يَا زَيْدُ! إنَّ مَثَلَ القَائِمِ مِنْ أهْلِ هَذَا البَيْتِ قَبْلَ قِيَامِ مَهْدِيِّهِمْ مَثَلُ فَرْخٍ نَهَضَ مِنْ عُشِّهِ مِنْ غَيْرِ أنْ يَسْتَوِي جَنَاحَاهُ!
فَاذَا فَعَلَ ذَلِكَ سَقَطَ، فَأخَذَهَ الصِّبْيَانُ يَتَلَاعَبُونَ بِهِ.
فَاتَّقِ اللهِ في نَفْسِكَ أنْ تَكُونَ المَصْلُوبَ غَداً بِالكُنَاسَةِ. فَكَانَ كَمَا قَالَ.٢
إذا عرفنا أنّ صدّ الظلم واجب، و أن الخضوع له حرام، و أنّ عدم الركون إلى الجائرين من أهمّ التكاليف الشرعيّة حسب مفاد الآيات و الروايات، و أنّ إقامة الحكومة الإسلاميّة من ألزم الفرائض، فحينئذٍ ينبغي أن نحمل مثل هذه الروايات على النهضة المستبدّة في عرض ولاية الإمام، لا في طولها.
و أنّ النهضة تنال دعم الإمام و تأييده، إذا كانت تابعة لتعاليمه و توجيهاته.
و قد تحدّثنا بحمد الله و منّه حديثاً وافياً حول هذا الموضوع في الجزء الرابع من كتاب «ولاية الفقيه في حكومة الإسلام» ضمن الدروس ٣۸ إلى ٤۱ من القسم السادس من دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة.
و يعلم الجميع أنّ بحوثنا التي تحوم حول هذه الموضوعات لا تمثّل انتقاداً شخصيّاً. و لكن لمّا كان هذا القسم من دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة المعنون «معرفة الإمام» يلتزم بالمحافظة على نواميس التشيّع شئنا أم أبينا، فلهذا رأيتُ لزاماً على نفسي أن أتحدَّث بصورة مركّزة حول «الصحيفة السجّاديّة الكاملة»، و هذه الصحيفة المكتشفة لتستبين هويّة كلّ واحدةٍ منهما بنحوٍ أفضل.
نتيجة البحث: ليس للصحيفة المكتشفة سند معتبر، و لا يمكن مقابلتها مع الصحيفة المعروفة عند أصحاب الاختصاص في ضوء القواعد العلميّة. و ينبغي الاحتراز من حشرها مع الصحيفة المعروفة. بَيدَ أنّها لو طُبعت بالكيفيّة التي عليها و بنفس سندها دون أدنى تغيير، و أصبحت في متناول أيدي الجميع، لكان هذا العمل مستحسناً، إذ يمكن أن تكون تلك الصحيفة مؤيِّدة للصحيفة المعروفة و كفي.
سبب تسمية «الصحيفة» بـ «الكاملة»
أجل، من الخليق بالذكر أنّ أحد الطرق المهمّة لرواية «الصحيفة السجّاديّة» هو طريق الزيديّة، لأنّ زيداً نفسه هو راوي أدعيتها، و إن كانت أدعيتها أقلّ من أدعية الصحيفة المألوفة. من هنا، قال البعض: يقال لهذه الصحيفة: «الصحيفة الكاملة»، إذ إنّ أدعيتها أكثر من أدعية «الصحيفة الزيديّة». و نسبة تلك الأدعية إلى أدعية الزيديّة نسبة الكامل إلى الناقص.
بَيدَ أنّ هذا الاحتمال لا يصحّ، ذلك أنّ صفة الكمال لا تُضفى على الصحيفة، و لا تُسمّى الصحيفة كاملة إلّا إذا لم تتّصف أدعية الصحيفة المرويّة عن الباقر، و زيد عليهما السلام بلفظ الأكثر و الأقلّ. لأنّنا نلحظ
هذا الوصف في لفظ أصل الصحيفة المرويّة حيث كان الإمام الصادق عليه السلام قد أطلقه على أدعيتها.
جاء في مقدّمة «الصحيفة» المعروفة أنّ المتوكّل بن هارون قال ليحيى: فَأخْرَجْتُ إلَيْهِ وُجُوهاً مِنَ العِلْمِ وَ أخْرَجْتُ لَهُ دَعَاءً أمْلَاهُ عَلَيّ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيه السَّلَامُ وَ حَدَّثَنِي أنَّ أبَاهُ مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أمْلَاهُ عَلَيْهِ وَ أخْبَرَهُ أنَّهُ مِنْ دُعَاءِ أبِيهِ عَلِيّ بْنِ الحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِنْ دُعَاءِ الصَّحِيفَةِ الكَامِلَةِ.
إلى أن قال له يحيى: أمَا أنِّي لُاخْرِجَنَّ إلَيْكَ صَحِيفَةً مِنَ الدُّعَاءِ الكَامِلِ.۱
و ورد في شرح سند الصحيفة المكتشفة: فَأخْرَجْتُ إلَيْهِ دُعَاءً أمْلَاهُ عَلِيّ أبُو عَبْدِ اللهِ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ رَحِمَهُ اللهُ قَالَ: إنَّ أبَاهُ مُحَمَّداً رَحِمَهُ اللهُ أمْلَاهُ عَلَيْهِ وَ كَانَ يَدْعُو بِهِ وَ يُسَمِّيهِ الكَامِلَ.
إلى أن قال له يحيى: لُاخْرِجَنَّ إلَيْكَ صَحِيفَةً كَانَ أبِي يُسَمِّيهَا الكَامِلَةَ مِمَّا حَفِظَهُ عَنْ أبِيهِ.٢
قال السيّد على خان الكبير في شرحه: وَ وَصْفُهَا بِالكَامِلَةِ لِكَمَالِهَا فِيمَا الِّفَتْ لَهُ أوْ لِكَمَالِ مُؤلِّفِهَا عَلَى حَدِّ: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الجَمِيلِ جَمِيلٌ.٣
مصنّفات زيد بن عليّ بن الحسين عليهما السلام
و هكذا لمّا رويت «الصحيفة» عن زيد، فقد عُدَّ من المصنّفين في عصر صدر الإسلام. قال آية الله السيّد حسن الصدر: من الطبقة الثانية من المصنّفين: زيد الشهيد.
زيد الشهيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام له كتاب قراءة أمير المؤمنين عليه السلام رواه عنه عمر بن موسى الوجيهيّ الزيديّ، و يروي زيد عن أبيه «الصحيفة الكاملة» أملاها عليه، و كتبها بخطّ يده. و كانت شهادته سنة اثنتين و عشرين و مائة.۱
كان زيد عالماً، زاهداً، عابداً، معرضاً عن زخارف الدنيا، شجاعاً، أبيّ النفس، سخيّاً، قارئاً للقرآن، من أولى البذل و الإيثار. ما كان مثله في بني هاشم و غيرهم - بعد أخيه الأكبر باقر العلوم عليه السلام - فضلًا و علماً و حكمةً و مجداً و كرامةً و سؤدداً و علوَّ مقام و منزلة.
و اعترف العدوّ و الصديق بفضله و علمه و أصالته و نبوغه، حتى أنّ أهل الخلاف و العامّة يذكرونه بالتكريم و التمجيد.
و قد خصّص العالم المصريّ المعاصر الكبير الشيخ محمّد أبو زُهْرَة أحد كتبه لزيد الشهيد، و ألّف كتاباً ضخماً تحت عنوان: «الإمام زيد» (حياته و عصره و آراؤه).
حيث نقل في أوّل مقدّمته على الكتاب - تمهيداً له - كلمتين عن زيد. ثمّ تحدّث مفصّلًا عن حياته و عصره و أفكاره و استشهاده.
۱ - لمّا خرج زيد بن عليّ للجهاد، خاطب أصحابه قائلًا: إنِّي أدْعُو إلى كتابِ اللهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّه و إحْيَاءِ السُّنَنِ وَ إمَاتَةِ البِدَعِ! فَإنْ تَسْمَعُوا يَكُنْ خَيْراً لَكُمْ وَ لِي، وَ إن تَأبَوا فَلَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ!٢
٢ - و قال لأحد أصحابه: أ مَا تَرَى هَذِهِ الثُّرَيَّا؟! أ تَرَى أحَداً يَنَالُهَا؟!
قَالَ صَاحِبُهُ: لَا!
قَالَ: وَ اللهِ لَوَدِدْتُ أنَّ يَدِي مُلَصَّقَةٌ بِهَا فَأقَعَ إلَى الأرْضِ أوْ حَيْثُ أقَعُ فَأنْقَطِعَ قِطْعَةً قِطْعَةً، وَ أنَّ اللهَ يَجْمَعُ بَيْنَ امَّةِ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ [و آله] وَ سَلَّم.۱
يعترف محمّد عجّاج الخطيب في سياق إحصاء الكتب المدوّنة في الإسلام و تقدّمها بأنّ كتاب مجموع زيد المشتمل على الحديث و الفقه من أقدم الكتب الموجودة للأوائل، و يرى أنّه سبق كتاب «الموطّأ» لمالك بن أنس بثلاثين سنة. قال:
ما دمنا في موضوع الشيعة و التدوين، فلا بدّ من أن نتناول بالبحث أصلًا من اصول الزيديّة يعود تدوينه إلى مطلع القرن الثاني، و هذا الأصل هو «مجموع الإمام زيد». و نتناول هذا الكتاب في ثلاث نقاط، و هي:
أوّلًا: التعريف بصاحب المجموع.
ثانياً: التعريف براويه.
ثالثاً: ثمّ «المجموع» ذاته.
۱ - الإمام زيد: هو زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً.
ولد الإمام زيد حوالى سنة ۸۰ هـ. و نشأ في اسرة معروفة بالعلم و الجهاد. فقد تلقّى العلم على أبيه، ثمّ أخذ عن أخيه محمّد الباقر الذي شهد له العلماء بالمنزلة العلميّة الرفيعة؛ كما سمع من كبار التابعين في المدينة، و كان يتنقّل بين الحجاز و العراق. و نضج الإمام زيد حتى شهد أهل العلم بفضله و علمه.
سُئل جعفر الصادق عن عمّه زيد، فقال: كَانَ وَ اللهِ أقْرَأنَا لِكِتَابِ
اللهِ، وَ أفْقَهَنَا في دِينِ اللهِ، وَ أوْصَلَنَا لِلرَّحِمِ! وَ اللهِ مَا تُرِكَ فِينَا لِدُنْياً وَ لَا لآخِرَةٍ مِثْلُهُ.۱
قال الشعبيّ: مَا وَلَدَتِ النِّسَاءُ أفْضَلَ مِنْ زَيْدِ بْنِ عَلِيّ وَ لَا أفْقَهَ وَ لَا أشْجَعَ وَ لَا أزْهَدَ.٢
و سُئل الباقر عن أخيه زيد، فقال: إنَّ زَيْداً اعْطِيَ مِنَ العِلْمِ بَسْطَةً.٣
و لزيد مع هشام بن عبد الملك و ولاته أخبار كثيرة تذكر إحراجهم له و اضطراره إلى الخروج على الخليفة. و من هذا ما ذكره ابن العماد الحنبليّ أنّه دخل يوماً على هشام بن عبد الملك، فقال له: أنت الذي تنازعك نفسك في الخلافة و أنت ابن أمَةٍ؟! فأجابه بقوله: إنّ الامّهات لا يقعدن بالرجال عن الغايات. و قد كانت امّ إسماعيل أمَةً لُامّ إسحاق صلى الله عليهما فلم يمنعه ذلك من أن ابتعثه الله نبيّاً، و جعله للعرب أباً، و أخرج من صلبه خير البشر محمّداً صلى الله عليه [و آله] و سلّم!
أ فتقول لي كذا و أنا ابن فاطمة و ابن عليّ؟!٤ و قام ينشد شعراً و خرج في الكوفة و بايعه من أهلها خمسة عشر ألف رجل، ثمّ تفرّقوا عنه ليلةَ خرج سوى ثلاثمائة رجل. و لمّا قُتل أرسل برأسه إلى الشام، ثمّ إلى المدينة. و كان ذلك سنة ۱٢٢ هـ.٥
و للإمام زيد المسند المسمّى «المجموع الفقهيّ»، و له «المجموع الحديثيّ»، و قد جمعهما عمرو بن خالد الواسطيّ.٦ و له أيضاً تفسير
«الغريب من القرآن»، و «تثبيت الإمامة» و «منسك الحجّ».۱
٢ - أمّا راوي «المجموع»، فهو أبو خالد عمرو بن خالد الواسطيّ الهاشميّ بالولاء الكوفيّ. روى مجموعَي الإمام زيد الحديثيّ و الفقهيّ، قال: صحبت الإمام زيداً، فما أخذت عنه الحديث إلّا و قد سمعتُه مرّةً، أو مرّتين، أو ثلاثاً، أو أربعاً، أو خمساً، أو أكثر من ذلك. و ما رأيت هاشميّاً مثل زيد بن عليّ، فلذلك اخترتُ صحبته على جميع الناس.٢ و توفّي بعد العشر الخامسة من المائة الثانية من الهجرة.
و قد اختُلف في أبي خالد، فقبل الزيديّة روايته. و في هذا يقول القاسم بن عبد العزيز: (و عمرو بن خالد الواسطيّ أبو خالد، حدّث عنه الثقات، و هو كثير الملازمة لزيد بن عليّ عليه السلام، و هو الذي أخذ عنه أكثر الزيديّة مذهب زيد بن عليّ عليهما السلام، و رجّحوا روايته على رواية غيره).٣
و جرّحه الإماميّة٤ و غيرهم. و قد فنّد شارح «المجموع» طعون الجارحين لعمرو، و بيَّن أقوال العلماء فيه، و انتهى إلى أنّ كلّ ما وُجِّه إليه لا يؤثّر في عدالته.٥
و كذلك فنّد فضيلة الاستاذ محمّد أبو زهرة الطعون و ناقشها، و وازن آراء العلماء، و انتهى إلى أنّ أوجه قبول رواية أبي خالد أرجح من أوجه
الطعن.۱
شرح حول كتاب «المجموع» لزيد بن عليّ
٣ - «المجموع». و اختُلِف في «المجموع» ذاته: هل وضعه الإمام زيد و رتّبه كما هو عليه الآن و أملاه على طلّابه، أم أنّ هذا عمل أبي خالد؟ فأبو خالد نفسه يجيب إبراهيم بن الزبرقان الذي سأله: كيف سمعتَ هذا الكتاب عن زيد بن عليّ؟ فيقول: (سمعتُه منه في كتاب معه قد و طّأه و جمعه، فما بقي من أصحاب زيد بن عليّ ممّن سمعه معي إلّا قتل غيري).٢
إلّا أنّ الإمام محمّد بن المطهّر في أوّل شرحه «المنهاج في المجموع» يقول: (و كان مذهبه - يعني زيد بن عليّ - عزيزاً لقلّة ضبطه في الكتاب الجامع إلّا ما عني بجمعه أبو خالد، فإنّه جمع مجموعين لطيفين، أحدهما في الأخبار، و الآخر في الفقه).٣
و يمكن الجمع بين الخبرَين بأنّ أبا خالد قد كتب عن الإمام زيد الحديث و الفقه و سمع منه، فرتّب ذلك في مجموعين. و لا نرى هذا بعيداً قطّ، لأنّ أبا خالد صحب زيداً بالمدينة قبل قدومه الكوفة خمس سنين، كان يقيم عنده في كلّ سنة أشهراً كلّما حجّ.٤ و كان عصر الإمام زيد عصر طلائع التصنيف.
و مع هذا لا يمكننا أن نقطع بأنّ «المجموع» كما هو عليه الآن جمعاً و ترتيباً من تصنيف الإمام زيد، لأنّ الدارس لمتن «المجموع» يرى كثيراً
من الحديث يرويه أبو خالد قائلًا: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ عَلِيّ. و في الفقه يقول: قَالَ زَيْدُ بْنُ عَلِيّ، ممّا يدلّ على أنّ أبا خالد تلقّى هذا مشافهةً عن الإمام زيد. و هذا لا يمنع أن يحمل الإمام بعض علمه في كتاب. سواء أملى على طلّابه أم لم يُمْلِ. و يرجح عندي أنّ أبا خالد كتب عن الإمام الحديث و الفقه. ثمّ رتّب ذلك في مجموعين. و كلّ هذا لا يؤثّر في صحّة نسبة «المجموع» إلى زيد بن عليّ.
و على هذا يكون «المجموع» من أهمّ الوثائق التأريخيّة التي تُثبت ابتداء التصنيف و التأليف في أوائل القرن الثاني الهجريّ، بعد أن استنتجنا هذا من خلال عرضنا لمصنّفات و مجاميع العلماء من غير أن نرى نموذجاً مادّيّاً يمثّل أولى تلك المصنّفات، اللهمّ إلّا موطّأ الإمام مالك الذي انتهى من تأليفه قبل منتصف القرن الهجريّ الثاني، فيكون «المجموع» قد صنّف قبله بنحو ثلاثين سنة.
من الواضح أنّ «المجموع» المطبوع جمع بين الفقه و الحديث، فهو يضمّ المجموعين الفقهيّ و الحديثيّ و لكنّهما ليسا منفصلين، فنرى أبا خالد يروي في الباب الواحد أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه [و آله] و سلّم، و آثاراً عن عليّ رضي الله عنه، و فقه الإمام زيد رحمه الله.
و قد ضمّ «المجموع» ٢۸۸ حديثاً مرفوعاً إلى النبيّ عليه [و آله] الصلاة و السلام، و من الأخبار العلويّة ٣٢۰ خبراً، و عن الحسين خبرين فقط.۱
و قد رُتّب «المجموع» ترتيباً فقهيّاً، ففيه كتاب الطهارة، و كتاب الصلاة، و كتاب الجنائز، و كتاب الزكاة، و كتاب الصيام، و كتاب الحجّ،
و كتاب البيوع ... و رتّب كلّ بابٍ على أبواب مختلفة، و يفتتح كلّ باب بحديث الباب بسنده المرفوع إلى الرسول الكريم عليه [و آله] الصلاة و السلام، أو الموقوف على الإمام عليّ رضي الله عنه. و سأعرض بعض النماذج لنقف على حقيقة «المجموع».
(أ) من باب ما ينبغي أن يجتنب في الصلاة:
قال: حدّثني زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السلام قال: أبصر رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم رجلًا يعبث بلحيته في الصلاة فقال:
أمَا هَذَا فَلَوْ خَشَعَ قَلْبُهُ لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ.
و قال زيد بن عليّ عليه السلام:
إذَا دَخَلْتَ في الصَّلَاةِ فَلَا تَلتَفِتْ يَمِيناً وَ لَا شِمَالًا، وَ لَا تَعْبَثْ بِالحَصَى، وَ لَا تَرْفَعْ أصَابِعَكَ وَ لَا تَنْقُضْ أنَامِلَكَ، وَ لَا تَمْسَحْ جَبْهَتَكَ حتى تَفْرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ.۱
(ب) من كتاب «البيوع»، باب الكسب من اليد:
قال: حدّثني زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السلام قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه [و آله] و سلّم، فقال: يا رسول الله، أيّ الكَسْب أفْضَلُ؟!
فقال صلى الله عليه [و آله] و سلّم: عَمَلَ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَ كُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ! فَإنَّ اللهَ يُحِبُّ المُؤْمِنَ المُحْتَرِفَ. وَ مَنْ كَدَّ عَلَى عِيَالِهِ كَانَ كَالمُجَاهِدِ في سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.
حدّثني زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السلام،
قال: مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا تَعَطُّفاً عَلَى وَالِدٍ أوْ وَلَدٍ أوْ زَوْجَةٍ، بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى وَ وَجْهُهُ عَلَى صُورَةِ القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ.۱
***
مكانة زيد بن عليّ عليه السلام و علمه و فضله و زهده
أجل هنا حيث ينتهي البحث حول «الصحيفة السجّاديّة» و راوٍ من رواتها - و هو زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام - من المناسب أن يكون لنا حديث لتستبين مكانة زيد و مدى علمه و فضله و تقواه. و كذلك لمّا ورد في مقدّمة «الصحيفة» اسم يحيى بن زيد، و اسم محمّد و إبراهيم ولدَي عبد الله المحض، لهذا ينبغي أن يحوم حولهم حديث مجمل. و أيضاً ينبغي أن يكون لنا حديث موجز جدّاً عن أشخاص من العلويّين ثاروا في عصر الأئمّة المعصومين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين كالحسين بن عليّ شهيد فَخّ، و عبد الله بن جعفر الصادق، و زيد بن موسى ابن جعفر المُسَمّى زيد النار، و يحيى بن عبد الله المحض الذي دعا الإمامَ الكاظم إلى بيعته و اتّباعه، فتتبيّن بذلك مكانة كلّ واحد منهم. ذلك أنّ لهذا البحث علاقة وطيدة بمعرفة الإمام، و بهذه المرحلة من كتابتنا التي تدور حول «معرفة الإمام».
و نذكر فيما يأتي مطالب مختارة عنهم بنحو متفرّق، ثمّ نظمّ بعضها إلى بعض في نهاية المطاف، فنبلغ النتيجة الغائيّة إن شاء الله تعالى:
نقل محمّد بن يعقوب الكلينيّ قدّس سرّه روايات كثيرة في كتاب «الكافي»، باب مَا يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ دَعْوَى المُحِقِّ وَ المُبْطِلِ في أمْرِ الإمَامَةِ، و محصّلها و خلاصتها: في عصر كلّ إمام من الأئمّة الطاهرين سلام الله
عليهم أجمعين كان عدد من العلويّين يدعون الناس و أئمّة الوقت إلى البيعة:
فقد دعا محمّدُ ابن الحنفيّة الإمام زين العابدين عليه السلام إلى إمامته.
و دعا زيدُ بن عليّ بن الحسين باقر العلوم عليه السلام إلى الخروج بالسيف.
و دعا عبد الله المحض و ابنه محمّد الإمام الصادق عليه السلام إلى اتِّباع محمّد و بيعته.
و كان عبد الله بن جعفر يرى الإمامة له.
و دعا يحيى بن عبد الله المحض الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام إلى نفسه.۱
قال العلّامة الأمينيّ: أمّا عبد الله المحض، فالأحاديث في مدحه و ذمّه و إن تضاربت غير أنّ غاية نظر الشيعة فيها ما اختاره سيّد الطائفة السيّد ابن طاووس في إقباله، ص ٥۱ من صلاحه و حسن عقيدته و قبوله إمامة الصادق عليه السلام.
و ذكر من أصل صحيح كتاباً للإمام الصادق عليه السلام وصف فيه عبد الله بالعبد الصالح، و دعا له و لبني عمّه بالأجر و السعادة.
ثمّ قال: و هذا يدلّ على أنّ الجماعة المحمولين [يعني عبد الله و أصحابه الحسنيّين] كانوا عند مولانا الصادق عليه السلام معذورين و ممدوحين و مظلومين و بحقّه عارفين. و قد يوجد في الكتب أنّهم كانوا للصادقين عليهما السلام مفارقين. و ذلك محتمل للتقيّة لئلّا يُنسَب
إظهارهم لإنكار المنكر إلى الأئمّة الطاهرين.
و ممّا يدلّك على أنّهم كانوا عارفين بالحقّ و به شاهدين ما رويناه (و قال بعد ذكر السند و إنهائه إلى الصادق عليه السلام): ثمّ بكى عليه السلام حتى علا صوته و بكينا، ثمّ قال: حدّثني أبي عن فاطمة ابنة الحسين، عن أبيها أنّه قال: يُقْتَلُ مِنْكِ - أوْ يُصَابُ - نَفَرٌ بِشَطِّ الفُرَاتِ مَا سَبَقَهُمُ الأوَّلُونَ وَ لَا يَعْدِلُهُمُ الآخِرُونَ. ثمّ قال:
أقول: و هذه شهادة صريحة من طرقٍ صحيحة بمدح المأخوذين من بني الحسن عليه و عليهم السلام؛ و أنّهم مضوا إلى الله جلّ جلاله بشرف المقام، و الظفر بالسعادة و الإكرام.
و أمّا محمّد بن عبد الله بن الحسن الملقَّب بالنفس الزكيّة فعدّهُ الشيخ أبو جعفر الطوسيّ في رجاله من أصحاب الصادق عليه السلام. و قال ابن المُهَنَّا في «عمدة الطالب» ص ٩۱: قُتِل بأحجار الزيت، و كان ذلك مصداق تلقيبه النَّفْس الزَّكِيَّة، لأنّه روى عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال: يُقْتَلُ بِأحْجَارِ الزَّيْتِ مِنْ وُلْدِي النَّفْسُ الزَّكِيَّة - إلى آخره.
و أمّا إبراهيم بن عبد الله قتيل باخمرى المكنّى بأبي الحسن، فعدّهُ شيخ الطائفة من رجال الصادق عليه السلام۱ إلى آخر الحديث.
و بعد أن تحدَّث العلّامة الأمينيّ مفصّلًا عن زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام، و ذكر أخباراً في مدحه و فضيلة شأنه، و نقل شعراً عن عدد من كبار الشعراء في رثائه، استنتج في آخر كلامه قائلًا: و الشيعة على بكرة أبيها لا تقول فيه إلّا بالقداسة. و ترى من واجبها تبرير كلّ عمل له من جهاد ناجع، و نهضة كريمة، و دعوة إلى الرضا من آل محمّد.
تشهد لذلك كلّه أحاديث أسندوها إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم و أئمّتهم عليهم السلام، و نصوص علمائهم، و مدائح شعرائهم و تأبينهم له، و إفراد مؤلّفيهم أخباره بالتدوين.
أمّا الأحاديث، فمنها قول رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم للحسين السبط:
يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: زَيْدٌ يَتَخطَّا هُوَ وَ أصْحَابُهُ رِقَابَ النَّاسِ، يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.۱
إلى أن قال: و يُعربُ عن رأى الشيعة جمعاء قول شيخهم بهاء الملّة و الدين العامليّ في رسالة إثبات وجود الإمام المنتظر: إنّا معشر الإماميّة لا نقول في زيد بن عليّ الّا خيراً، و الروايات عن أئمّتنا في هذا المعنى كثيرة.
الأشعار الرفيعة لشعراء أهل البيت في مدح زيد و رثائه
و قال العلّامة الكاظميّ في «التكملة»: اتّفق علماء الإسلام على جلالة زيد و ورعه و فضله. إلى أن قال: قال سديف بن ميمون في قصيدة له:
لَا تُقِيلَنَّ عَبْدَ شَمْسٍ عِثَاراً | *** | وَ اقْطَعُوا كُلَّ نَخْلَةٍ وَ غِرَاسِ |
وَ اذْكُرُوا مَصْرَعَ الحُسَيْنِ وَ زَيْدٍ | *** | وَ قَتِيلًا بِجَانِبِ المِهْرَاسِ٢ |
إلى أن قال: و الوزير الصاحب بن عبّاد بمقطوعةٍ أوّلها:
بَدَا مِنَ الشَّيْبِ في رَأسِي تَفَارِيقُ | *** | وَ حَانَ لِلَّهْوِ تَمْحِيقٌ وَ تَطْلِيقُ |
هَذَا فَلَا لَهْوَ مِنْ هَمٍّ يُعَوِّقُنِي | *** | بِيَوْمِ زَيْدٍ وَ بَعْضُ الهَمِّ تَعْوِيقُ |
و قال: و للشيخ ميرزا محمّد عليّ الأردوباديّ قصيدة في مدحه و رثائه، أوّلها:
أبَتْ عَلْيَاؤُهُ إلَّا الكَرَامَة | *** | فَلَمْ تُقْبَرْ لَهُ نَفْسٌ مُضَامَة |
و قال: ورثاه السيّد على النقيّ النقويّ اللكهنويّ بقصيدة استهلّها:
أبَى اللهُ لِلأشْرَافِ مِنْ آلِ هَاشِمِ | *** | سِوَى أنْ يَمُوتُوا في ظِلَالِ الصَّوَارِمِ |
و لمّا اتّهم ابن تيميّة في «منهاج السُّنّة»، و السيّد محمود الآلوسيّ في رسالته المطبوعة في كتاب «السُّنّة و الشيعة» ص ٥٢، و القصيميّ في كتاب «الصراع بين الإسلام و الوثنيّة» الشيعة بأنّهم رفضوا زيد بن عليّ، و شهدوا عليه بالكفر و الفسق، و ساحة الشيعة منزّهة عن وصمة هذه التهمة، بل الشيعة على الإطلاق ترى أنّ زيداً شهيد، رفيع المنزلة، مجاهد في سبيل الله، لهذا خاطبهم المرحوم الأمينيّ رحمه الله مؤاخِذاً إيّاهم بقوله:
و كأنّ هؤلاء المدافعين عن ساحة قدس زيد يحسبون القرّاء جهلاء بالتأريخ الإسلاميّ، و أنّهم لا يعرفون شيئاً منه، و تخفى عليهم حقيقة هذا القول المزوَّر.
ألا مِن مُسائِلٍ هؤلاء عن أنّ زيداً إن كان عندهم و عند قومهم في جانبٍ عظيم من العلم و الزهد، فبأيّ كتاب أم بأيّة سنّةٍ حاربه أسلافهم و قاتلوه و قتلوه و صلبوه و أحرقوه و داروا برأسه في البلاد؟!
أ ليس منهم و من قومهم أمير مناوئيه و قاتله يوسف بن عمر؟!
أو ليس منهم صاحب شرطته: العبّاس بن سعد؟!
أو ليس منهم قاطع رأسه الشريف: ابن الحكم بن الصلت؟
أو ليس منهم مبشِّر يوسف بن عمر بقتله: الحجّاج بن القاسم؟!
أو ليس منهم خراش بن حوشب الذي أخرج جسده من قبره؟!
أو ليس من خلفائهم الآمر بإحراقه: وليد أو هشام بن عبد الملك؟!
أو ليس منهم حامل رأسه إلى هشام: زهرة بن سليم؟!
أو ليس من خلفائهم هشام بن عبد الملك و قد بعث رأس زيد إلى مدينة الرسول فنصب عند قبر النبيّ يوماً و ليلة؟!
أو ليس هشام بن عبد الملك كتب إلى خالد القسريّ يقسم عليه أن يقطع لسان الكميت شاعر أهل البيت و يده بقصيدة رثى بها زيدَ بن عليّ و ابنَه و مدح بني هاشم؟!
أو ليس عامل خليفتهم بالمدينة: محمّد بن إبراهيم المخزوميّ، كان يعقد حفلات بها سبعة أيّام و يخرج إليها و يُحضر الخطباء فيها فيلعنون هناك عليّاً و زيداً و أشياعهم؟!
شعر لشعراء البلاط المروانيّ في ذمّ زيد
أو ليس من شعراء قومهم الحكيم الأعور؟! و هو القائل:
صَلَبْنَا لَكُمْ زَيْداً عَلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ | *** | و لَمْ نَرَ مَهْديَّاً عَلَى الجِذْعِ يُصْلَبُ |
وَ قِسْتُمْ بِعُثْمَانٍ عَلِيَّاً سَفَاهَةً | *** | وَ عُثْمَانُ خَيْرٌ مِنْ عَلِيّ وَ أطْيَبُ |
أو ليس سلمة بن الحرّ بن الحكم شاعرهم هو القائل في قتل زيد؟!
وَ أهْلَكْنَا جَحَاجِحَ۱ مِنْ قُرَيشٍ | *** | فَأمْسَى ذِكْرُهُمْ كَحَدِيثِ أمْسِ |
وَ كُنَّا اسَّ مُلْكِهِمُ قَدِيماً | *** | وَ مَا مُلْكٌ يَقُومُ بِغَيْرِ اسِ |
ضَمِنَّا مِنْهُمُ نَكْلًا وَ حُزْناً | *** | وَ لَكِن لَا مَحَالَةَ مِنْ تَأسِ |
أو ليس منهم من يقول بحيال رأس زيد و هو مصلوبٌ بالمدينة؟!
ألَا يَا نَاقِضَ المِيثَا | *** | قِ أبْشِرْ بِالَّذِي سَاكَا |
نَقَضْتَ العَهْدَ وَ المِيثَاقَ | *** | قِدْماً كَانَ قُدْمَاكَا |
لَقَدْ أخْلَفَ إبْلِيسُ | *** | الذي قَدْ كَانَ مَنَّاكَا۱ |
قال العلّامة الأمينيّ في يحيى بن زيد: و أمّا يحيى بن زيد، فقتله الوليد بن يزيد بن عبد الملك سنة ۱٢٥ هـ. و قاتله سلم بن أحوز الهلاليّ، و جهّز إليه الجيش نصر بن سيّار، و رماه عيسى مولى عيسى بن سليمان العنزيّ و سلبه. (سلب درعه و خاتمه و ثيابه و كلّ ما كان معه). («الطبريّ» ج ۸، «مروج الذهب» ج ٢، «تاريخ اليعقوبيّ» ج ٣).٢
و قال أيضاً: و في وسع الباحث أن يستنتج ولاء الشيعة ليحيى بن زيد ممّا أخرجه أبو الفرج في «مقاتل الطالبيّين» ص ٦٢، طبعة إيران.
قال: لمّا اطلق يحيى بن زيد و فُكَّ حديده، صار جماعة من مياسير الشيعة إلى الحدّاد الذي فكّ قيده من رِجله فسألوه أن يبيعهم إيّاه و تنافسوا فيه و تزايدوا حتى بلغ عشرين ألف درهم، فخاف أن يشيعَ خبره فيؤخذ منه المال، فقال لهم: اجمعوا ثمنه بينكم! فرضوا بذلك و أعطوه المال فقطعه قطعةً قطعةً و قسّمه بينهم فاتّخذوا منه فصوصاً للخواتيم يتبرّكون بها.٣
و قال أيضاً: و الحسن بن الحسن المُثَنَّى، كتب وليد بن عبد الملك إلى عامله عثمان بن حيّان المريّ: انظر إلى الحسن بن الحسن فاجلده مائة ضربة! وقِّفه للناس يوماً! و لا أراني إلّا قاتله!
فلمّا وصله الكتاب بعث إليه فجيء به و الخصوم بين يديه. فعلَّمهُ عليّ بن الحسين عليه السلام بكلمات الفرج ففرّج الله عنه و خلّوا سبيله.
فخاف الحسن سطوة بني اميّة فأخفى نفسه و بقي مختفياً إلى أن دسّ إليه السمّ سليمان بن عبد الملك و قتله سنة ٩۷ هـ.
قتل الطالبيّين على يد العبّاسيّين
و عبد الله المحض كان المنصور يسمّيه: عبد الله المُذِلَّة. قتله في حبسه بالهاشميّة سنة ۱٤٥ لمّا حبسه مع تسعة عشر من وُلد الحسن ثلاث سنين. و قد غيّرت السياط لون أحدهم و أسالت دمه، و أصاب سوطٌ إحدى عينيه فسالت، و كان يستسقي الماء فلا يُسقى، فردم عليهم الحبس فماتوا. و في «تاريخ اليعقوبيّ» ج ٣، ص ۱۰٦: إنّهم وُجدوا مسمَّرين في الحيطان.
و محمّد بن عبد الله النفس الزكيّة قتله حميد بن قحطبة سنة ۱٤٥، و جاء برأسه إلى عيسى بن موسى و حمله إلى أبي جعفر المنصور فنصبه بالكوفة و طاف به البلاد.
و أمّا إبراهيم بن عبد الله، فَنَدَب المنصور عيسى بن موسى من المدينة إلى قتاله، فقاتل بباخمرى حتى قُتلَ سنة ۱٤٥، و جيء برأسه إلى المنصور فوضعه بين يديه، و أمر به فنُصب في السوق، ثمّ قال للربيع: احمله إلى أبيه عبد الله في السجن، فحمله إليه. و قال النسّابة العمريّ في «المَجْدي»: ثمّ حمل ابن أبي الكرام الجعفريّ رأسه إلى مصر.
و يحيى بن عمر،۱ أمر به المتوكّل فضُرب دِرَراً ثمّ حبسه في دار الفتح بين خاقان. فمكث على ذلك، ثمّ اطلق فمضى إلى بغداد. فلم يزل
بها حتى خرج إلى الكوفة في أيّام المستعين فدعا إلى الرضا من آل محمّد. فوجّه المستعين رجلًا يقال له:
كلكاتكين، و وجّه محمّد بن عبد الله بن طاهر بالحسين بن إسماعيل فاقتتلوا حتى قُتِل سنة ٢٥۰. و حمل رأسه إلى محمّد بن عبد الله فوضع بين يديه في تُرس، و دخل الناس يهنّونه. ثمّ أمر بحمل رأسه إلى المستعين من غَدٍ.۱
و قال أيضاً: حاربه محمّد بن عبد الله بن طاهر فقُتِل و حُمِل رأسه إلى سامرّاء. و لمّا حُمل رأسه إلى محمّد بن عبد الله بن طاهر، جلس بالكوفة (كذا) للهنا. فدخل عليه أبو هاشم داود بن القاسم الجعفريّ و قال: إنّك لتهنأ بقتيل لو كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم حيّاً لعُزِّيّ فيه.٢ فخرج و هو يقول:
يَا بَنِي طَاهِرٍ كُلُوهُ مَرِيئاً | *** | إنَّ لَحْمَ النَّبِيّ غَيْرُ مُريّ |
إنَّ وَتْراً يَكُونُ طَالِبُهُ اللهُ | *** | لَوَتْرٌ بِالفَوتِ غَيْرُ حَرِيّ٣ |
و تحدّث العلّامة الأمينيّ عن الحِمّانيّ الأفْوَه أبي الحسين عليّ بن محمّد بن جعفر بن محمّد بن محمّد بن زيد الشهيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام، و عدّه من شعراء الغدير في القرن الثالث، و ذكر أنّه توفّي سنة ٣۰۱. و محصّلة كلامه بإيجاز:
حِمَّان (بكسر المهملة و تشديد الميم): محلّة بالكوفة.
و ذكر البيهقيّ في «المحاسن و المساوي» ج ۱، ص ۷٥، قوله:
عَصَيْتُ الهَوَى وَ هَجَرْتُ النِّسَاء | *** | وَ كُنْتُ دَوَاءً فَأصْبَحْتُ دَاءْ |
إلى أن قال:
بَلَغْنَا السَّمَاءَ بِأنْسَابِنَا | *** | وَ لَوْ لَا السَّمَاءُ لَجُزْنَا السَّمَاءْ |
فَحَسْبُكَ مِنْ سُؤْدَدٍ إنَّنَا | *** | بِحُسْنِ البَلَاءِ كَشَفْنَا البَلَاءْ |
يُطِيبُ الثَّنَاءُ لآبَائِنَا | *** | وَ ذِكْرُ عَلِيّ يَزِينُ الثَّنَاءْ |
إذَا ذُكِرَ النَّاسُ كُنَّا مُلُوكاً | *** | وَ كَانُوا عَبِيداً وَ كَانُوا إمَاءْ |
هَجَانِيَ قَومٌ وَ لَمْ أهْجُهُمْ | *** | أبَى اللهُ لي أنْ أقُولَ الهِجَاءْ۱ |
و ذكر له ابن شهرآشوب في «المناقب» ج ٤، ص ٣٩، طبعة الهند، قوله:
يَا بْنَ مَنْ بَيْنُهُ مِنَ الدِّينِ و الإسلَامِ | *** | بَيْنُ المَقَامِ وَ المِنْبَرَينِ |
لَكَ خَيْرُ البَنِيَّتَيْنِ مِنْ مَسْجِديْ جَدِّكَ | *** | وَ المَنْشَأيْنِ وَ المَسْكَنَيْنِ |
وَ المَسَاعِي مِنْ لَدُنْ جَدِّكَ إسْمَاعِيلَ | *** | حتى ادْرِجْتَ في الرَّبْطتَيْنِ |
يَوْمَ نِيطَتْ بِكَ التَّمائِمُ ذَاتُ الرِّيشِ | *** | مِنْ جَبْرَئِيلَ في المَنْكِبَيْنِ |
(يخاطب الحمّانيّ بهذه الأبيات سيّد الشهداء عليه السلام عند ما اعتلّ في طفولته و أتاه جبرائيل من السماء بعوذةٍ شُدّت على كتفيه).
و منها:
أنْتُمَا سَيِّدا شَبَابِ الجِنَانِ | *** | يَوْمَ الفَوْزَيْنِ وَ الرَّوْعَتَيْنِ |
يَا عَدِيلَ القُرآنِ مِنْ بَيْنِ | *** | ذَا الخَلْقِ وَ يَا وَاحِداً مِنَ الثَّقَلَيْنِ |
أنْتُمَا وَ القُرْآنُ في الأرْضِ مُذْ أزَلٍ | *** | مِثْلُ السَّمَاءِ وَ الفَرْقَدَيْنِ |
فَهُمَا مِنْ خِلَافَةِ اللهِ في الأرْضِ | *** | بِحَقٍّ مَقَامَ مُسْتَخْلَفَيْنِ |
قَالَهُ الصَّادِقُ الحَدِيثِ وَ لَنْ | *** | يَفْتَرِقَا دُونَ حَوْضِهِ وَارِدَيْنِ |
قال العلّامة الأمينيّ هنا: و لسيّدنا المترجَم له: الحِمّانيّ الذي هو من ذرّيّة محمّد بن زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام ذرّيّة كريمة، و أحفاد علماء أئمّة أعلام، فيهم مَن هو في الطليعة مِن الشعراء و الأدباء و الخطباء، و إليه ينتهي نسب الاسرة الشهيرة (القزوينيّة) العريقة في العلم و الفضل و الأدب النازلين في مدن العراق، كما أنّ له آباء أعلام نالوا سنام المجد و ذروة الشرف. فمن اولئك جدّه الأعلى زيد الشهيد.۱
توبيخ الإمام الرضا عليه السلام زيد بن موسى على خروجه
و قال في زيد بن موسى بن جعفر عليهما السلام: و أمّا ما رواه أبو نُعيم و الخطيب أنّ عليّاً الرضا عليه السلام وبّخ أخاه زيداً حين خرج على المأمون، و قال له:
مَا أنْتَ قَائِلٌ لِرَسُولِ الله؟! أغَرَّكَ قَوْلُهُ: إنَّ فَاطِمَةَ أحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَحَرَّمَهَا اللهُ وَ ذُرِّيَّتَهَا عَلَى النَّارِ؟!
إن هَذَا لِمَنْ خَرَجَ مِنْ بَطْنِهَا لا لي وَ لَا لَكَ! وَ اللهِ مَا نَالُوا ذَلِكَ إلّا بِطَاعَةِ اللهِ. فَإن أرَدْتَ أنْ تَنَالَ بِمَعْصِيَتِهِ مَا نَالُوهُ بِطَاعَتِهِ إنَّكَ إذَاً لأكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ! فهذا من باب التواضع و الحثّ على الطاعات و عدم الاغترار بالمناقب و إن كثرت، كما كان الصحابة المقطوع لهم بالجنّة على غاية من الخوف و المراقبة. و إلّا فلفظ «ذرّيّة» لا يخصّ بمن خرج من بطنها في لسان
العرب وَ مِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَ سُلَيْمَانَ (الآية).۱ و بينه و بينهم قرون كثيرة. فلا يريد بذلك مثل عليّ الرضا مع فصاحته و معرفته لغة العرب؟!٢
أبو العبّاس السفّاح هو عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس.
نقل الطبريّ أنّه بويع لثلاث عشرة مضت من شهر ربيع الآخر سنة ۱٣٢ و كان بالكوفة. و بايعه الكوفيّون في هذا التأريخ.
ذكر الطبريّ هذا القول نقلًا عن هشام بن محمّد، و لكنّه قال: قال الواقديّ: بويع لأبي العبّاس بالمدينة بالخلافة في جمادى الأولى سنة ٣. ٢٣
إخبار الإمام الصادق عليه السلام عن حكومة السفّاح و المنصور
قال المحدِّث القمّيّ: عند ما كانت الدولة الأمويّة على و شك الانهيار، اجتمع بالأبواء جماعة من بني العبّاس، منهم: أبو العبّاس السفّاح و أخواه أبو جعفر المنصور و إبراهيم، و عمّه صالح بن عليّ، و جماعة من الطالبيّين، منهم: عبد الله المحض، و والده محمّد و إبراهيم، و أخوه لُامِّه محمّد الديباج و غيرهم، و اتّفقوا على بيعة أحد أولاد عبد الله المحض، فبايع الجميع محمّداً، لأنّهم كانوا قد سمعوا من بيت الرسالة أنّ مهديّ آل محمّد
سَمى رسول الله.۱
ثمّ بعثوا وراء الإمام الصادق عليه السلام، و عبد الله بن محمّد بن عُمر بن عليّ عليه السلام ليأخذوا منهما البيعة. بَيدَ أنّ الإمام الصادق عليه السلام لم يبايع و قال: هذا ليس هو المهديّ. و غرّكم اسمه! و قال لعبد الله المحض: إذا كانت هذه البيعة من أجل الخروج و الأمر بالمعروف، فلم نبايع ابنك و لا نبايعك و أنت شيخ بني هاشم؟! و لكن عبد الله قال للإمام: كلامك هذا غير صحيح، و أنت لا تبايع حسداً!
فقام الإمام و وضع يده على ظهر السفّاح و قال: هذا هو الخليفة، و يليها من بعده إخوته و أولاده. و ضرب على منكب عبد الله المحض و قال: و الله ما هي إليك و لا إلى ابنيك، و لكنّها لهم و إنّ ابنيك لمقتولان. و قال لعبد العزيز: سيقتل صاحب الرداء الأصفر (المنصور) عبد الله، و ابنه محمداً.
و قد حجّ المنصور سنة ۱٤۰ هـ، ثمّ دخل المدينة و حبس عبد الله و بني الحسن و محمّد الديباج.٢
و ذكر الطبريّ أنّ أبا العبّاس السفّاح مات في ۱٣ ذي الحجّة سنة ۱٣٦ و كانت ولايته من لَدُن قُتِل مروان بن محمّد أربع سنين. توفّي و هو ابن ٣٣، أو ٣٦، أو ٢۸ سنة.
و في هذه السنة أوصى أبو العبّاس عبد الله بن محمّد إلى أخيه أبي
جعفر المنصور (عبد الله بن محمّد)۱ و عهد إليه بالخلافة بعده، و إذا مات فلأبي جعفر عيسى بن موسى بن محمّد بن عليّ، و دفع عهده إلى عيسى.
بويع المنصور يومئذ و سمّاه الناس خليفة.
و في سنة ۱٣۷ قتل المنصور أبا مسلم الخراسانيّ غيلةً. آمنه و دعاه، و حين دخل مجلسه فتك به. و نقل الطبريّ مقتله مفصّلًا.٢
و قال الطبريّ أيضاً: في سنة ۱٣٩ سار عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان إلى الأندلس. فملّكه أهلها أمرهم، فولده ولاتها إلى اليوم. و فيها وسّع أبو جعفر المسجد الحرام.٣
و في سنة ۱٤۰ خرج المنصور حاجّاً، و حين قدم المدينة، حبس عبد الله المحض.٤
جرائم المنصور الشنيعة ضدّ بني الحسن
و أمر رياحاً بأخذ بني حسن،٥ و وجّه في ذلك أبا الأزهر المهريّ.
و قد كان حبس عبد الله بن حسن فلم يزل محبوساً ثلاث سنين. فكان حسن بن حسن قد نصل خضابه تسلّياً على عبد الله. فكان أبو جعفر يقول: مَا فَعَلَتِ الحَادَّةُ؟
فأخذ رياح حسناً (المثلّث)، و إبراهيم (الغمر) ابنَي حسن بن حسن (الحسن المثنّى)، و حسن بن جعفر بن حسن بن حسن، و سليمان و عبد الله ابنَي داود بن حسن بن حسن، و محمّداً و إسماعيل و إسحاق بني إبراهيم بن حسن بن حسن (أولاد إبراهيم الغمر)، و عبّاس بن حسن (المثلّث) بن حسن (المثنّى) بن حسن بن عليّ بن أبي طالب، أخذوه على بابه، فقالت امّه عائشة ابنة طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر: دعوني أشمّه! قالوا: لا، و الله ما كنتِ حيّةً في الدنيا. و عليّ بن حسن بن حسن بن حسن العابد.
و حبس معهم أبو جعفر المنصور عبد الله بن حسن بن حسن أخا عليّ (أي: الابن الآخر للحسن المثلّث).۱
و حدّثني ابن زبالة قال: سمعتُ بعض علمائنا يقول: مَا سَارَّ عَبْدُ اللهِ ابْنُ حَسَنٍ أحَداً قَطُّ إلَّا فَتَلَهُ عَنْ رَأيِهِ.٢
حجّ أبو جعفر سنة أربع و أربعين و مائة، فتلقّاه رياح بالرَّبَذَة، فردّه إلى المدينة، و أمره بإشخاص بني حسن إليه، و بإشخاص محمّد بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان محمّد الديباج، و هو أخو بني حسن لُامِّهم. امّهم جميعاً فاطمة ابنة الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.
كان بنو الحسن في حبس المنصور بالمدينة ثلاث سنين ثمّ سيقوا
إلى سجن الكوفة.
و تحرّك المنصور من الربذة إلى الكوفة. و جلس في محمل و قيّد بني الحسن و محمّد الديباج بالأغلال، و أجلسهم في محامل بلا غطاء و لا وطاء و أخذهم معه إلى الكوفة، و حبسهم في محبس الهاشميّة قرب القنطرة.
و ضرب محمّد الديباج أربعمائة سوط حتى جُرح بدنه۱ و لصق ثوبه بجلده. و أمر بخلع ذلك الثوب اللاصق بالجلد، و إلقاء قميص غليظ عليه مكانه، و سوق مركبه أمام مركب عبد الله المحض أخيه لُامّه - و كان يحبّه كثيراً - ليراه عبد الله بذلك الوضع طول الطريق. فكان يراه أمامه على تلك الحالة.
و كان السجن ضيّقاً إلى درجة أنّهم كانوا لا يعرفون الليل من النهار، و نتيجة لرائحة السجن النتنة فقد و رمت أجسامهم و ماتوا جميعهم في السجن.٢
و لمّا حُمِل بنو الحسن إلى الكوفة، كان محمّد و إبراهيم يأتيان معتمّين كهيئة الأعراب، فيسايران أباهما و يسائلانه و يستأذنانه في الخروج، فيقول: لا تعجلا حتى يمكنكما ذلك، و يقول: إنْ مَنَعَكُمَا أبُو
جَعْفَرٍ أنْ تَعِيشَا كَرِيمَيْنِ، فَلَا يَمْنَعْكُمَا أنْ تَمُوتَا كَرِيمَيْنِ.۱
و كانت رقيّة ابنة محمّد بن عبد الله العثمانيّ زوجة إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن.
قال سليمان بن داود بن الحسن: ما رأيتُ عبد الله بن حسن جَزِع من شيء ممّا ناله إلّا يوماً واحداً، فإنّ بعير محمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان انبعث و هو غافل، لم يتأهّب له، و في رجليه سلسلة، و في عنقه زَمَّارة٢ فهوى، و علقت الزمّارة بالمحمل، فرأيته منوطاً بعنقه يضطرب. فرأيتُ عبد الله بن حسن قد بكى بكاءً شديداً.٣
و حدّثني محمّد بن أبي حرب قال: كان محمّد بن عبد الله بن عمرو (الديباج) محبوساً عند أبي جعفر و هو يعلم براءته، حتى كتب إليه أبو عون من خراسان: أخبر أميرَ المؤمنين أنّ أهل خراسان قد تقاعسوا عنّي، و طال عليهم أمر محمّد بن عبد الله. فأمر أبو جعفر عند ذلك بمحمّد بن عبد الله بن عمرو، فضُربت عنقه، و أرسل برأسه إلى خراسان، و أقسم لهم إنّه رأس محمّد بن عبد الله، و أنّ امّه فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم.
و قيل: أمر المنصور به (محمّد بن عبد الله الديباج) فضُرب حتى مات، ثمّ احتزّ رأسه فبعث به إلى خراسان، فلمّا بلغ ذلك عبد الله بن حسن
ترجمة عبد الله بن الحسن
قال:۱ إنَّا للهِ وَ إنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَ اللهِ إنْ كُنَّا لَنَأمَنُ بِهِ في سُلْطَانِهِمْ ثُمَّ قُتِلَ
بِيضٌ حرائرُ مَا هَممنَ برِيبةٍ | *** | كظِباء مكّة صَيْدِهنّ حرامُ |
يُحْسَبْنَ مِنْ لِينِ الكَلَامِ فَواسِقاً | *** | وَ يصدّهنّ عَنِ الخنا الإسلامُ |
بِنَا في سُلْطَانِنَا.۱
... و عن مسكين بن عمرو قال: لمّا ظهر محمّد بن عبد الله بن حسن أمر أبو جعفر بضرب عنق محمّد بن عبد الله بن عمرو، ثمّ بعث به إلى خراسان، و بعث معه الرجال يحلفون بالله إنّه لمحمّد بن عبد الله ابن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم. قال عمر: فسألت محمّد بن جعفر بن إبراهيم، في أيّ سبب قُتل محمّد بن عمرو؟ قال: احتيج إلى رأسه ....
بعث المنصور رأس الديباج إلى خراسان مكان رأس النفس الزكيّة
فلمّا قُتِل محمّد بن عبد الله بن حسن، وجّه أبو جعفر برأسه إلى خراسان، فلمّا قدم به ارتاب أهل خراسان، و قالوا: أ ليس قد قُتل مرّةً و أتينا برأسه؟! ثمّ تكشّف لهم الخبر حتى علموا حقيقته، فكانوا يقولون: لم يُطَّلَع من أبي جعفر على كذبةٍ غيرها.٢
نلحظ هنا أنّ المنصور قد مكر و احتال، و بعث رأس محمّد بن عبد الله بن عمرو (محمّد الديباج) - أخو عبد الله المحض لُامّه، و امّهما فاطمة ابنة الحسين - مكان رأس محمّد بن عبد الله بن الحسن، و قد ورّي
و التورية كذب.
أي: لمّا كانت امّ محمّد الديباج هي فاطمة ابنة الإمام الحسين ابن فاطمة ابنة رسول الله، فقد قال المنصور: هذا ابن فاطمة ابنة رسول الله.
و أمّا امّ محمّد بن عبد الله، فقد كان واضحاً أنّ عبد الله لمّا كان ابنَ الحسن بن الحسن، فهو ابن فاطمة ابنة رسول الله. و توضيح ذلك: لمّا كانت فاطمة ابنة الحسين زوجة الحسن المثنّى بن الإمام الحسن المجتبى، فهي امّ عبد الله، و ابنها هو محمّد بن فاطمة ابنة الحسين، و على هذا يصل نسب محمّد بن عبد الله بن الحسن إلى فاطمة الزهراء ابنة رسول الله من طرف الأب و الامّ معاً.
استغلّ المنصور هذا التشابه في الاسم، و بعث رأس محمّد الديباج مكان رأس محمّد بن عبد الله.
جدول ذكر البعض من الشجرة ممّن هو موضع الحاجة في التأريخ
قال الطبريّ أيضاً: حبس المنصور بني الحسن في سجن مظلم دامس حتى كانوا لا يعرفون أوقات الصلاة إلّا بأحزابٍ من القرآن كان يقرأها عليّ بن حسن (ابن الحسن المثلّث و كان يُسمّى العابد).
و قال: قال عمر: حدّثني ابن عائشة قال: سمعتُ مولى لبني دارم، قال: قلتُ لبشير الرحّال: ما يسرعك إلى الخروج على هذا الرجل؟!
قال: إنّه أرسل إليّ بعد أخذه عبد الله بن حسن فأتيته، فأمرني يوماً بدخول بيت فدخلته، فاذا بعبد الله بن حسن مقتولًا. فسقطتُ مغشيّاً عَلَيّ، فلمّا أفقتُ أعطيتُ الله عهداً ألّا يختلف في أمره سيفان إلّا كنتُ مع الذي عليه منهما. و قلتُ للرسول الذي معي من قبله: لا تخبره بما لقيتَ! فإنّه إن علم قتلني.
قال عمر: فحدّثتُ به هشام بن إبراهيم بن هشام بن راشد من أهل همذان، و هو العبّاسيّ أنّ أبا جعفر أمر بقتله. فحلف بالله ما فعل ذلك؛
محمّد الديباج هو نفس محمّد بن عبد الله العثمانيّ، أخو عبد الله المَحض و إبراهيم الغِمْر و الحسن المثلّث من جهة الامّ، لأنّ فاطمة ابنة الحسين قد تزوّجت بعد الحسن المثنّى بعبد الله بن عمرو بن عثمان (و هو حفيد عثمان) و أنجبت منه محمّداً، و زوّج محمّد ابنته رقيّة بإبراهيم قتيل باخمرَا، فتزوّج حفيد عثمان مع فاطمة، و بما أنّ زيد ابن عمرو بن عثمان قد زوّج في آخر الأمر من سُكَينَة ابنة الحسين عليه السّلام، فحفيدا عثمان - و هما أخوان - قد تزوّجا ابنتي الحسين عليه السّلام، فاطمة و سُكَينَة.
جاء في هذا الجدول ذكر البعض من الشجرة ممّن هو موضع الحاجة في التاريخ:
و لكنّه دسّ إليه مَن أخبره أنّ محمّداً قد ظهر فقتل، فانصدع قلبه، فمات.
قال: و حدّثني عيسى بن عبد الله، قال مَن بقي منهم: إنّهم كانوا يسقَوْن؛ فماتوا جميعاً إلّا سليمان و عبد الله ابْنَي داود بن حسن بن حسن، و إسحاق و إسماعيل ابنَي إبراهيم بن حسن بن حسن، و جعفر بن حسن، فكان مَن قُتِل منهم إنّما قُتِل بعد خروج محمّد.۱
لمّا اخذ المحبوسون من بني الحسن إلى المنصور في الربذة، بعث إلى محمّد الديباج، فلمّا ادخل عليه، قال: أخبرني عن الكذّابَينِ ما فعلا؟! و أين هما؟! قال: و الله يا أمير المؤمنين ما لي بهما علم. قال: لتخبرنّي، قال: قد قلتُ لك و إنّي و الله لصادق. و لقد كنت أعلم علمهما قبل اليوم! و أمّا اليوم فما لي و الله بهما علم!
قال: جرّدوه! فَجُرِّد، فضربه مائة سوط، و عليه جامعة حديد في يده إلى عنقه. فلمّا فرغ من ضربه اخرج فالبس قميصاً له قوهيّاً٢ على الضرب، و اتي به إلينا.٣ فو الله ما قدروا على نزع القميص من لصوقه بالدم، حتى حلبوا عليه شاةً، ثمّ انتُزع القميص ثمّ داووه.
فقال أبو جعفر: احدروا بهم إلى العراق، فقدم بنا إلى الهاشميّة، فحبسنا بها. فكان أوّل مَن مات في الحبس عبد الله بن حسن. فجاء السجّان فقال: ليخرج أقربكم به فليصلّ عليه. فخرج أخوه حسن بن حسن بن حسن بن عليّ عليهم السلام، فصلّى عليه.
ثمّ مات محمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، فأخذ رأسه، فبعث
به مع جماعة من الشيعة إلى خراسان، فطافوا في كور خراسان، و جعلوا يحلفون بالله أنّ هذا رأس محمّد بن عبد الله ابن فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه و آله يوهمون الناس أنّه رأس محمّد بن عبد الله بن حسن الذي كانوا يجدون خروجه على أبي جعفر في الرواية.۱
إن مالك بن أنس استُفتى في الخروج مع محمّد، و قيل له: إنّ في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنَّما بَايَعْتُمْ مُكْرَهِينَ، وَ لَيْسَ عَلَى كُلِّ مُكْرَهٍ يَمِينٍ. فأسرع الناس إلى محمّد، و لزم مالك بيته.
و حدّثني محمّد بن إسماعيل، قال: حدّثني ابن أبي مليكة مولى عبد الله بن جعفر، قال: أرسل محمّد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر - و قد كان بلغ عمراً - فدعاه محمّد حين خرج إلى البيعة، فقال: يا بن أخي! أنت و الله مقتول، فكيف ابايعك؟! فارتدع الناس عنه قليلًا.
و كان بنو معاوية٢ قد أسرعوا إلى محمّد. فأتته حمادة ابنة معاوية، فقالت: يا عمّ! إنّ إخوتي قد أسرعوا إلى ابن خالهم، و إنّك إن قلتَ هذه المقالة ثبّطتَ عنه الناس، فيُقتل ابن خالى و إخوتي.
قال: فأبى الشيخ إلّا النهي عنه، فيقال: إنّ حمّادة عدت عليه فقتلته، فأراد محمّد الصلاة عليه، فوثب عليه عبد الله بن إسماعيل، فقال: تأمر بقتل أبي، ثمّ تصلّي عليه؟! فنحّاه الحرس، و صلى عليه محمّد.٣
قال المحدِّث القمّيّ رحمه الله (ما تعريبه): خرج محمّد النفس الزكيّة في سنة ۱٤٥ هـ في شهر رجب بالمدينة، و قتل لأربع عشرة ليلة خلت
من رمضان عند أحجار الزيت. و كان مكثه منذ ظهر إلى أن قتل شهرين و سبعة عشر يوماً، و سنّه خمس و أربعون سنة.۱
و كان خروج إبراهيم (أخي محمّد) غرّة شوّال، و قيل: غرّة رمضان سنة ۱٤٥ بالبصرة، ثمّ سار إلى الكوفة بعد أن دعاه أهلها، و قتل في باخمرى على ستّة عشر فرسخاً من الكوفة من أرض الطفّ. و كان مقتله في نهار يوم الاثنين سنة ۱٤٥ من ذي الحجّة، و هو ابن ثماني و أربعين سنة. و أمر المنصور أن يُحمل رأسه إلى أبيه عبد الله في سجن الهاشميّة.٢
رواية «الكافي» في تعييب محمّد و إبراهيم
نقل محمّد بن يعقوب الكلينيّ في «الكافي»، في علامات ما يُفصل به بين دعوى المحقّ و المبطل في أمر الإمامة، رواية مفصّلة ذكر فيها قصّة بني الحسن بإسهاب. و هذه الرواية في غاية الروعة و تضمّ مطالب تأريخيّة و تنبّه على مقام إمامة الصادق عليه السلام، و تدلّ على عدم صحّة دعوى عبد الله المحض و ابنَيْه محمّد و إبراهيم، و من المطالب التي تنطوي عليها ما يأتي:
۱ - قالت خديجة ابنة عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام لعبد الله بن إبراهيم بن محمّد الجعفريّ: سمعتُ عمّي محمّد ابن عليّ صلوات الله عليه يقول: إنَّما تَحْتَاجُ المَرْأةُ في المَأتَمِ إلَى النَّوْحِ لِتَسِيلَ دَمْعَتُهَا، وَ لَا يَنْبَغِي لَهَا أنْ تَقُولَ هُجْراً. فَاذَا جَاءَ اللَّيْلُ فَلَا تُؤْذِي المَلَائِكَةَ بِالنَّوْحِ!
٢ - كان محمّد بن عبد الله المحض متوارياً عند اختفائه في جبلٍ في جُهَينة يُقال له: الأشقر، و هو على ليلتين من المدينة.
٣ - عند ما التقى عبد الله بالإمام الصادق عليه السلام و دعاه إلى بيعة
ابنه محمّد و أصرّ على ذلك، امتنع و قال له:
وَ اللهِ إنَّكَ لَتَعْلَمُ أنَّهُ الأحْوَلُ الأكْشَفُ الأخْضَرُ المَقْتُولُ بِسُدَّةِ أشْجَعَ عِنْدَ بَطْنِ مَسِيلِهَا.۱
ثمّ قال: ما أخوفني أن يكون هذا البيت يلحق صاحبنا: مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الخَلاءِ ضَلَالًا! فَوَ اللهِ إنِّي لأرَاهُ أشْأمَ سَلْحَةٍ٢ أخْرَجَتْهَا أصْلَابُ الرِّجَالِ إلَى أرْحَامِ النِّسَاءِ.
و قال عليه السلام لعبد الله: اخْبِرُكَ أنِّي سَمِعْتُ عَمَّكَ وَ هُوَ خَالُكَ يِذْكُرُ: أنَّكَ وَ بَنِي أبِيكَ سَتُقْتَلُونَ.٣
٤ - لمّا لم ينفع كلام الإمام عليه السلام، قال: أمَا وَ اللهِ إنْ كُنْتُ حَرِيصاً وَ لَكِنِّي غُلِبْتُ، وَ لَيْسَ لِلْقَضَاءِ مَدْفَعٌ. ثُمَّ قَامَ وَ أخَذَ إحدى نَعْلَيْهِ فَأدْخَلَهَا رِجْلَهُ وَ الاخْرَى في يَدِهِ وَ عَامَّةُ رِدَائِهِ يَجُرُّهُ في الأرْضِ، ثُمَّ دَخَلَ بَيْتَهُ فَحُمَّ عِشْرِينَ لَيْلَةً لَمْ يَزِلْ يَبْكِي فِيهِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارَ حتى خِفْنَا عَلَيْهِ.
٥ - قَتَل أبو جعفر الدوانيقيّ جميع بني الحسن الذين كانوا محبوسين إلّا حسن بن جعفر، و طباطبا، و عليّ بن إبراهيم، و سليمان بن داود، و داود ابن حسن، و عبد الله بن داود.
٦ - كان عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين من ثقات محمّد. قال له: اغلظ على جعفر بن محمّد لأخذ البيعة منه! لهذا استدعى الإمام، و أراد أن يأخذ منه البيعة بالعنف. فتحدّث الإمام قليلًا. فقال عيسى: لو تكلّمتَ لكسرتُ فمك!
فقال عليه السلام لمحمّد: أمَا وَ اللهِ! يَا أكْشَفُ، يَا أزْرَقُ! لَكَأنِّي بِكَ تَطْلُبُ لِنَفْسِكَ جُحْراً تَدْخُلُ فِيهِ! وَ مَا أنْتَ في المَذْكُورِينَ عِنْدَ اللِّقَاءِ!۱ وَ إنِّي لأظُنُّكَ إذَا صُفِّقَ٢ خَلْفَكَ، طِرْتَ مِثْلَ الهِيقِ النَّافِر.٣
قام إليه السراقيّ بن سلخ الحوت، فدفع في ظهره حتى ادخِل السجن.
۷ - اتي باسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ليبايع. و هو شيخ كبير ضعيف، قد ذهبت إحدى عينيه. فلم يبايع و قرأ عليهم رواية عجيبة في قتله على أيديهم. ثمّ اعيد إلى منزله. و ما أمسى المساء حتى دخل عليه بنو أخيه بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر الذين كانوا قد أسرعوا إلى بيعة محمّد فتوطّؤوه حتّى قتلوه. و بعث محمّد بن عبد الله إلى جعفر الصادق عليه السلام فخلّى سبيله.
۸ - قدم جيش المنصور بقيادة عيسى بن موسى و حاصر المدينة، و قَتَل مُحمّدٌ حميدَ بن قحطبة و انهزم أصحابه.٤
تحدّث الفقيه و الرجاليّ العظيم الشيخ عبد الله المامقانيّ عن محمّد
ابن عبد الله بن الحسن مفصّلًا في أربع صفحات رحليّة، و قال: و يبطل ما ذهب إليه بعض المتأخّرين من أصحابنا المحدّثين من أنّ خروج محمّد و سائر بني الحسن كان عن رضيً باطنيّ من الصادق عليه السلام كما رضي باطناً بخروج عمّه زيد و أظهر عدم الرضا للتقيّة. و أقول: هذا في زيدٍ حقٌّ دلّ عليه الإجماع من أصحابنا و الأخبار المستفيضة التي كادت تبلغ التواتر كما ذكرنا جملة منها في ترجمته.
و أمّا محمّد و سائر بني الحسن و أفعالهم الشنيعة فإنّها تدلّنا على خلاف ما ذهب و عدم رضا الصادق عليه السلام. (إلى أن قال):
دفاع ابن طاووس عن أعمال محمّد و إبراهيم ابنَي عبد الله المحض
و قد رام السيّد الجليل ابن طاووس في كتاب «الإقبال»۱ إصلاح حال بني الحسن و حمل ما يدلّ على مخالفتهم للأئمّة عليهم السلام على التقيّة لئلّا ينسب إظهارهم لإنكار المنكر إليهم عليهم السلام مستدلّا على ذلك بما رواه مسنداً عنه من أنّه بكى على بني عمّه المحمولين إلى العراق حتى علا صوته، و قال: حدّثني أبي عن فاطمة ابنة الحسين أنّها قالت: سمعتُ أبي صلوات الله عليه يقول:
يُقْتَلُ مِنْكِ - أوْ يُصَابُ مِنْكِ - نَفَرٌ بِشَطِّ الفُرَاتِ مَا سَبَقَهُمُ الأوَّلُونَ وَ لَا يُدْرِكُهُمْ الآخِرُونَ. وَ إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ وُلْدِهَا غَيْرُهُمْ.٢
قال السيّد ابن طاووس رحمه الله: بكاء الصادق عليه السلام و هذه الروايات تدلّ على حقّانيّتهم في خروجهم غير المستند إلى الإمام تقيّةً.
و لكن المامقانيّ يقول: إنّ رقّته (الإمام الصادق عليه السلام) عليهم
للرحم القريبة بينهم و بينه، و ليس فيها ما يدلّ على حقّانيّتهم.۱
رواية «الكافي» في رفض الإمام الباقر عليه السلام أخاه زيداً
نقل الكلينيّ في «الكافي» حوار الإمام الباقر عليه السلام مع أخيه زيد بالتفصيل، و كيف نصحه الإمام و دلّه على أنّ الوقت ليس وقت خروج، و أنّ الخروج ينبغي أن يكون بأمر الإمام، و في وقته المناسب. و هذه الرواية مفصّلة جدّاً. و قال الإمام عليه السلام في أوّلها:
إن الطَّاعةَ مَفْرُوضَةٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ، وَ سُنَّةٌ أمْضَاهَا في الأوَّلِينَ، وَ كَذَلِكَ يُجْرِيهَا في الآخِرِينَ. و الطَّاعَةُ لِوَاحِدٍ مِنَّا وَ المَوَدَّةٌ لِلجَمِيعِ. وَ أمْرُ اللهِ يَجْرِي لأوْلِيَائِهِ بِحُكْمٍ مَوْصُولٍ، وَ قَضَاءٍ مَفْصُولٍ، وَ حَتْمٍ مَقْضِيّ، وَ قَدَرٍ مَقْدُورٍ، وَ أجَلٍ مُسَمَّى لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ. «فَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ»،٢ «إنَّهُمْ لَن يُغْنُوا عَنكَ مِنَ اللهِ شَيْئا»،٣ فَلَا تَعْجَلْ! فَإنَّ اللهَ لَا يَعْجَلُ لِعَجَلَةِ العِبَادِ، وَ لَا تَسْبِقَنَّ اللهَ فَتُعْجِزَكَ البَلِيَّةُ، فَتَصْرَعَكَ!
قَالَ: فَغَضِبَ زَيْدٌ عِنْدَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: لَيْسَ الإمام مِنَّا مَنْ جَلَسَ بَيْتَهُ، وَ أرْخَى سَتْرَهُ، وَ ثَبَّطَ عَنِ الجِهَادِ، وَ لَكِنَّ الإمَامَ مِنَّا مَنْ مَنَعَ حَوْزَتَهُ، وَ جَاهَدَ في سَبِيلِ اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَ دَفَعَ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَ ذَبَّ عَنْ حَرِيمِهِ.
و بعد أن أجابه الإمام عليه السلام مفصّلًا، قال في آخر كلامه:
أعُوذُ بِاللهِ مِنْ إمَامٍ ضَلَّ عَنْ وَقْتِهِ، فَكَانَ التَّابِعُ فِيهِ أعْلَمَ مِنَ المَتْبُوعِ أ تُرِيدُ أخِي أنْ تُحْيِيَ مِلَّةَ قَوْمٍ قَدْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَ عَصَوْا رَسُولَهُ وَ اتَّبَعُوا أهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ هُدى مِنَ اللهِ، وَ ادَّعَوُا الخِلافَةَ بِلَا بُرْهانٍ مِنَ اللهِ، وَ لَا عَهْدٍ مِنْ رَسُولِهِ؟!
اعِيذُكَ بِاللهِ يَا أخِي أنْ تَكُونَ غَداً المَصْلُوبَ بِالكُنَاسَةِ، ثُمَّ ارْفَضَّتْ۱ عَيْنَاهُ وَ سَالَتْ دُمُوعُهُ. ثُمَّ قَالَ: اللهُ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ مَنْ هَتَكَ سِتْرَنَا وَ جَحَدَنَا حَقَّنَا، وَ أفْشَى سِرَّنَا، وَ نَسَبَنَا إلَى غَيْرِ جَدِّنَا، وَ قَالَ فِينَا مَا لَمْ نَقُلْهُ في أنْفُسِنَا!٢
و كذلك ذكر الكلينيّ رسالة يحيى بن عبد الله المحض - الذي شهد واقعة فخّ، ثمّ فرّ إلى الديلم، و أقام فيها حكومته، و آل أمره إلى الاستشهاد في حبس هارون الرشيد - إلى الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام:
أمَّا بَعْدُ! فَإنِّي اوصِي نَفْسي بتَقْوَى اللهِ وَ بِهَا اوصِيكَ! فَإنَّهَا وَصِيَّةُ اللهِ في الأوَّلِينَ وَ وَصيَّتُهُ في الآخِرِينَ.
خَبَّرَنِي مَنْ وَرَدَ عَلَيّ مِنْ أعْوَانِ اللهِ عَلَى دِينِهِ وَ نَشْرِ طَاعَتِهِ بِمَا كَانَ مِنْ تَحَنُّنِكَ مَعَ خِذْلَانِكَ! وَ قَدْ شَاوَرْتُ في الدَّعْوَةَ لِلرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمّد صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ قَدِ احْتَجَبْتَهَا وَ احْتَجَبَهَا أبُوكَ مِنْ قَبْلِكَ! وَ قَدِيماً ادَّعَيْتُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ، وَ بَسَطْتُمْ آمَالَكُمْ إلى مَا لَمْ يُعْطِكُمُ اللهُ فَاسْتَهْوَيْتُمْ
وَ أضْلَلْتُمْ، وَ أنَا مُحَذِّرُكَ مَا حَذَّرَكَ اللهُ مِنْ نَفْسِهِ!
فكتب إليه أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام جواباً وافياً، منه: وَ لَمْ يَدَعْ حِرْصُ الدُّنْيَا وَ مَطَالِبِهَا لأهْلِهَا مَطْلَباً لآخِرَتِهِمْ حتى يُفْسِدَ عَلَيْهِمْ مَطْلَبَ آخِرَتِهِمْ في دُنْيَاهُمْ.
أي: أضاعوا جميع الرغبات الاخرويّة و المعنويّة في طريق الوصول إلى الدنيا و بلوغ الآراء و الأفكار الوهميّة و الشيطانيّة. و رفعوا عَلَمَ الدِّين في سبيل الدِّين و باسم الدِّين، و لكنّ اهتمامهم كلّه مُنْصَبٌّ على الوصول إلى الدنيا و الرئاسة و الإمامة و الحكومة فيها.
أجل، كتب الإمام عليه السلام في آخر رسالته:
إنَّا قَدْ اوحِيَ إلَيْنَا أنَّ العَذَابَ على مَن كَذَّبَ وَ تَوَلَّى!۱
تحدّث المرحوم آية الله المامقانيّ عن زيد بن عليّ بن الحسين و ذكر مطالب منها أنّ الشهيد رحمه الله صرّح في قواعده في بحث الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بأنّ خروجه كان باذن الإمام عليه السلام. و من كلماته: إنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ قَوْمٌ قَطُّ حَرَّ السُّيُوفِ إلَّا ذَلُّوا. و لمّا بلغ هشام بن عبد الملك هذا الكلام قال: أ لَستُمْ تَزْعَمُونَ أنَّ أهْلَ هَذَا البَيْتِ قَدْ بَادُوا؟ لَعَمْرِي مَا انْقَرَضُوا مَنْ مِثْلُ هَذَا خَلَفُهُمْ.
عَن الكشّيّ بإسناده، عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: هَذَا سَيِّدُ أهْلِ بَيْتِي وَ الطَّالِبُ بِأوْتَارِهِمْ!
و عنه أيضاً في ترجمة الحِميريّ، عن فُضَيْل الرَّسّان قال: دَخَلْتُ عَلَى أبِي عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ مَا قُتِلَ زَيْدُ بْنُ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَادْخِلْتُ بَيْتاً جَوْفَ بَيْتٍ.
فَقَالَ لي: يَا فُضَيْلُ! قُتِلَ عَمِّي زَيْدٌ؟! قُلْتُ: نَعَمْ جُعِلْتُ فِدَاكَ!
قَالَ: رَحِمَهُ اللهُ، أمَا إنَّهُ كَانَ مُؤْمِناً وَ كَانَ عَارِفاً وَ كَانَ عَالِماً وَ كَانَ صَدوقاً. أمَا إنَّهُ لَوْ ظَهَرَ لَوَفَى. أمَا إنَّهُ لَوْ مَلَكَ لَعَرَفَ كَيْفَ يَضَعُهَا؟!
إدانة الإمام الرضا عليه السلام خروج أخيه زيد بن موسى
و عن الصدوق في «عيون الرضا»، عن محمّد بن بريد النحويّ، عن أبي عَبْدون، عن أبيه قال:
لمّا حُمِلَ زيد بن موسى بن جعفر عليهما السلام إلى المأمون، و كان قد خرج بالبصرة و أحرق دور ولد بني العبّاس، و وهب المأمون جُرمه لأخيه عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، و قال له: يَا أبَا الحَسَن! لئن خرج أخوك و فعل ما فعل، لقد خرج من قبله زيد بن عليّ عليه السلام فقُتل. و لو لا مكانك لقتلتُهُ، فليس ما أتاه بصغير!
فقال له الرضا عليه السلام: يا أمير المؤمنين! لا تَقِسْ أخي زيد إلى زيد بن عليّ! فإنّه كان من علماء آل محمّد، غضب للّه فجاهد أعداءَه حتى قُتِلَ في سبيله.
و لقد حدّثني أبو موسى بن جعفر عليه السلام أنّه سمع أباه جعفر بن محمّد عليه السلام يقول: رَحِمَ اللهُ عَمِّي زَيْداً، إنَّهُ دَعَا إلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ، وَ لَوْ ظَهَرَ لَوَفَى بِمَا دَعَا إلَيْهِ، وَ لَقَدِ اسْتَشَارَنِي في خُروجِهِ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ! إنْ رَضِيتَ أنْ تَكُونَ المَقْتُولَ المَصْلُوبَ بِالكُنَاسَةِ فَشَأنُكَ!
فَلَمَّا وَلَّى، قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَلَيهمَا السَّلَامُ: وَيلٌ لِمَنْ سَمِعَ وَاعِيَتَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ!
فقال المأمون: يَا أبَا الحَسَنِ! أ لَيْسَ قَدْ جَاءَ فِيمَنِ ادَّعَى الإمَامَةَ بِغَيْرِ حَقِّهَا مَا جَاءَ؟!
فقال الرضا عليه السلام: إنَّ زَيْدَ بْنَ عَلِيّ لَمْ يَدَّعِ مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ! وَ إنَّهُ كَانَ أتْقَى لِلَّهِ مِنْ ذَاكَ. إنَّهُ قَالَ: أدْعُوكُمْ إلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ. وَ إنَّمَا جَاءَ مَا جَاءَ فِيمَنْ يَدَّعِي: أنَّ اللهَ نَصَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَدْعُو إلَى غَيْرِ دِينِ اللهِ وَ يُضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَ كَانَ زَيْدُ بْنُ عَلِيّ وَ اللهِ مِمَّنْ خُوطِبَ بِهَذِهِ الآيةِ: «وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ».۱
و في «العيون» أيضاً: إنّ زيد بن عليّ قد خرج يوم الأربعاء غرّة صفر و مكث الأربعاء و الخميس، و قُتِلَ يوم الجمعة سنة ۱٢۱ هـ.
نهضة زيد بن عليّ و بكاء الإمام الصادق عليه السلام عليه
و روى فيه أيضاً بإسناده عن الفضيل بن يسار٢ قال: انتهيتُ إلى زيد ابن عليّ عليه السلام صبيحة يوم خرج بالكوفة فسمعته يقول: مَنْ يُعِينُنِي مِنْكُمْ عَلَى قِتَالِ أنْبَاطِ أهْلِ الشَّامِ؟! فَوَ الذي بَعَثَ مُحَمَّداً صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ بِالحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً لَا يُعِينُنِي عَلَى قِتَالِهِمْ مِنْكُمْ أحَدٌ إلَّا أخَذْتُ بِيَدِهِ
يَوْمَ القِيَامَةِ فَأدْخَلْتُهُ الجَنَّةَ بِاذْنِ اللهِ تَعَالَى.
فلمّا قُتِل، اكتريتُ راحلةً و توجّهتُ نحو المدينة فدخلتُ على أبي عبد الله الصادق عليه السلام، فقلتُ في نفسي: و الله لا أخبرته بقتل زيد بن عليّ فيجزع عليه. فلمّا دخلتُ عليه، قال: مَا فَعَلَ عَمِّي زَيْدٌ؟! فخنقتني العَبرة. فقال: قَتَلُوهُ؟! قلتُ: أي وَ اللهِ قَتَلُوهُ! قال: فَصَلَبُوهُ؟! قلتُ: أي وَ اللهِ صَلَبُوهُ! فَأقْبَلَ يَبْكِي وَ دُمُوعُهُ تَنْحَدِرُ عَلَى دِيبَاجَتَيْ۱ خَدِّهِ كَأنَّهَا الجُمَانُ.
ثمّ قال: يا فضيل! شَهِدْتَ مَعَ عَمِّي زَيْدٍ قِتَالَ أهْلِ الشَّامِ؟! قلتُ: نعم!
قال: كَمْ قَتَلْتَ مِنْهُمْ؟! قُلْتُ: سِتَّةً.
قال: فَلَعَلَّكَ شَاكٌّ في دِمَائِهِمْ؟!
قلتُ: لَوْ كُنْتُ شَاكّاً في دِمَائِهِمْ مَا قَتَلْتُهُمْ!
قال الفضيل: فسمعته يقول: أشْرَكَنِي اللهُ في تِلْكَ الدِّمَاءِ. مَضَى عَمِّي زَيْدٍ وَ أصْحَابُهُ شُهَدَاءَ مِثْلَ مَا مَضَى عَلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ أصْحَابُهُ.٢
ترجمة زيد بن عليّ
...۱
...۱
...۱
و منها ما في بعض المراسيل من أنّه لمّا أقبلت الشيعة إليه و بايعته، خرج سنة إحدى و عشرين و مائة. فلمّا صفّقت الراية على رأسه قال: الحَمْدُ للهِ الذي أكْمَلَ لي دِينَهُ. إنِّي كُنْتُ أسْتَحيِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أنْ أرِدَ عَلَيْهِ الحَوْضَ غَداً وَ لَمْ آمُرْ في امّتِهِ بِمَعْرُوفٍ وَ لَا أنْهَى عَنْ مُنْكَرٍ.
نهضة زيد بن عليّ لمقارعة الظلم، لا لدعوة الناس إلى إمامته
و في رواية عمير بن المتوكّل بن هارون البجليّ، عن أبيه المتوكّل بن هارون أنّه لقي يحيى بن زيد بعد قتل أبيه و هو متوجّه إلى خراسان، و قال له يحيى: سَمِعْتُ أبِي يُحَدِّثُ عَنْ أبِيهِ، عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، قَالَ: وَضَعَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَدَهُ عَلَى صُلْبِي فَقَالَ: يَا حُسَيْنُ! يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِكَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ زَيْدٌ يُقْتَلُ شَهِيداً، فَإذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ يَتَخَطى هُوَ وَ أصْحَابُهُ رِقَابِ النَّاسِ وَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ؛ فَأحْبَبْتُ أنْ أكُونَ كَمَا وَصَفَنِي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ.
قَالَ: رَحِمَ اللهُ أبِي زَيْداً، كَانَ وَ اللهِ أحَدَ المُتَعَبِّدينَ، قَائِمٌ لَيْلُهُ، صَائِمٌ نَهَارُهُ، مُجَاهِدٌ في سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ حَقَّ جِهَادِهِ.
فَقُلْتُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! هَكَذَا يَكُونَ الإمام بِهَذِهِ الصِّفَةِ؟!
فَقَالَ: يَا عَبْد اللهِ! إنَّ أبِي لَمْ يَكُنْ بِامَامٍ وَ لَكِنْ مِنَ السَّادَةِ الكِرَامِ وَ زُهَّادِهِمْ وَ كَانَ مِنَ المُجَاهِدِينَ في سَبِيلِ اللهِ.
قُلْتُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! إنَّ أبَاكَ قَدِ ادَّعَى الإمَامَةَ وَ خَرَجَ مُجَاهِداً وَ قَدْ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ فِيمَنْ ادَّعَى الإمَامَةَ كَاذِباً.
فَقَالَ: مَهْ يَا عَبْد اللهِ! إنَّ أبِي كَانَ أعْقَلَ مِنْ أنْ يَدَّعِي مَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ. وَ إنَّمَا قَالَ: أدْعُوكُمْ إلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ. عَنَى بِذَلِكَ عَمِّي جَعْفَراً.
قُلْتُ: فَهُوَ اليَوْمَ صَاحِبُ الأمْرِ؟!
قَالَ: نَعَمْ، هُوَ أفْقَهُ بَنِي هَاشِمٍ. ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْد اللهِ! إنِّي اخْبِرُكَ عَنْ أبِي - إلَى آخِرِ مَا نَقَلَهُ مِنْ زُهْدِ أبِيهِ وَ عِبَادَتِهِ!۱
ذكرنا إلى هنا مجملًا لبعض الروايات الواردة في «تنقيح المقال». و ذلك بحث حامَ حول زيد الشهيد.
و ننقل فيما يأتي مجملًا لبحث السيّد ابن طاووس في كتاب «الإقبال»، في أعمال محرّم الحرام، أعمال عاشوراء، حول بني الحسن. و فيه استنتج أنّهم جميعاً كانوا يعترفون بإمامة الصادق عليه السلام. ثمّ نتحدّث عن هذا الموضوع بإيجاز.
رسالة الإمام الصادق إلى عبد الله المحض عند تحرّكه إلى بغداد
تحدّث السيّد ابن طاووس في هذا المجال مفصّلًا. و أورد في بداية حديثه - بأسناد متعدّدة - رسالة الإمام الصادق عليه السلام التي كان قد كتبها إلى بني الحسن عند سوقهم من المدينة إلى الربذة و الكوفة. و فيها:
بِسمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. إلَى الخَلَفِ الصَّالِحِ وَ الذُّرِّيَّةِ الطَّيِّبَةِ مِنْ وَلْدِ أخِيهِ وَ ابْنِ عَمِّهِ.
أمَّا بَعْدُ؛ فَلَئِنْ كُنْتَ تَفَرَّدْتَ أنْتَ وَ أهْلَ بَيْتِكَ مِمَّنْ حُمِلَ مَعَكَ بِمَا أصَابَكُمْ، مَا انْفَرَدْتَ بِالحُزْنِ وَ الغِبْطَةِ وَ الكَآبَةِ وَ ألِيمِ وَجَعِ القَلْبِ دُونِي! فَلَقَدْ نَالَنِي مِنْ ذَلِكَ مِنَ الجَزَعِ وَ القَلَقِ وَ حَرِّ المُصِيبَةِ مِثْلُ مَا نَالَكَ، وَ لَكِنْ رَجَعْتُ إلَى مَا أمَرَ اللهُ جَلَّ جَلَالُهُ بِهِ المُتَّقِينَ مِنَ الصَّبْرِ وَ حُسْنِ العَزَاءِ حِينَ
يَقُولُ لِنَبِيِّهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإنَّكَ بِأعْيُنِنَا»!۱
و يذكر الإمام الصادق عليه السلام أربع عشرة آيةً قرآنيّة - مع هذه الآية - في فضيلة الصبر، و يأتي بشاهد و مثال، ثمّ يقول:
وَ اعْلَمْ أي عَمِّ وَ ابْنَ عَمِّ! أنَّ اللهَ جَلَّ جَلَالُهُ لَمْ يُبَالِ بِضُرِّ الدُّنْيَا لِوَلِيِّهِ سَاعَةً قَطُّ وَ لَا شَيْءَ أحَبُّ إلَيْهِ مِنَ الضُّرِّ وَ الجُهْدِ وَ الأذَاءِ مَعَ الصَّبْرِ. وَ أنَّهُ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى لَمْ يُبَالِ بِنَعِيمِ الدُّنْيَا لِعَدُوِّهِ سَاعَةً قَطُّ.
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ مَا كَانَ أعْدَاؤُهُ يَقْتُلُونَ أوْلِيَاءَهُ وَ يُخْيفُونَهُمْ،٢ وَ يَمْنَعُونَهُمْ وَ أعْدَاؤُهُ آمِنُونَ مُطمَئِنُّونَ عَالُونَ ظَاهِرُونَ.
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ مَا قُتِلَ زَكَرِيَّا وَ احْتُجِبَ يحيى ظُلْماً وَ عُدْوَاناً في بَغِيّ مِنَ البَغَايَا.
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ مَا قُتِلَ جَدُّكَ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَمَّا قَامَ بِأمْرِ اللهِ جَلَّ وَ عَزَّ ظُلْماً، وَ عَمُّكَ الحُسَيْنُ ابْنُ فَاطِمَةَ صلى اللهُ عَلَيْهِمَا اضْطِهَاداً وَ عُدْوَاناً.
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ مَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ في كِتَابِهِ: «وَ لَوْ لَا أن يَكُونَ النَّاسُ امَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِن فِضَّةٍ وَ مَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ».٣
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ في كِتَابِهِ: «أ يَحْسَبُونَ أنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مالٍ وَ بَنِينَ* نُسَارِعُ لَهُمْ في الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ».٤
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ لَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ: لَوْ لَا أنْ يَحْزَنَ المُؤْمِنُ لَجَعَلْتُ لِلكَافِرِ عِصَابَةً مِنْ حَدِيدٍ لَا يُصْدَعُ رَأسُهُ أبَداً.
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ لَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ: إنَّ الدُّنْيَا لَا تُسَاوِي عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ.
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ مَا سَقَى كَافِراً مِنْهَا شُرْبَةً مِنْ مَاءٍ.
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ لَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ: لَوْ أنَّ مُؤْمِناً عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ لَبَعَثَ اللهُ لَهُ كَافِراً أوْ مُنَافِقَاً يُؤْذِيهِ.
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ لَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ: إنَّهُ إذَا أحَبَّ اللهُ قَوْماً أوْ أحَبَّ عَبْداً صَبَّ عَلَيْهِ البَلَاءَ صَبّاً، فَلَا يَخْرُجُ مِنْ غَمٍّ إلَّا وَقَعَ في غَمٍّ.
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ لَمَا جَاءَ في الحَدِيثِ: مَا مِنْ جُرْعَتَيْنِ أحَبَّ إلَى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ أنْ يَجْرَعَهُمَا عَبْدُهُ المُؤْمِنُ في الدُّنْيَا مِنْ جُرْعَةِ كَظْمِ غَيْظٍ، وَ جُرْعَةِ حُزْنٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ صَبَرَ عَلَيْهَا بِحُسْنِ عَزَاءٍ وَ احْتِسَابٍ.
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ لَمَا كَانَ أصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَدْعُونَ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُمْ بِطُولِ العُمْرِ وَ صِحَةِ البَدَنِ وَ كَثْرَةِ المَالِ وَ الوَلَدِ.
وَ لَوْ لَا ذَلِكَ مَا بَلَغَنَا أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كَانَ إذَا خَصَّ رَجُلًا بِالتَّرحُّمِ عَلَيه وَ الاسْتِغْفَارِ اسْتُشْهِدَ. فَعَلَيْكُمْ يَا عَمِّ وَ ابْنَ عَمِّ وَ بَنِي عُمُومَتِي وَ إخْوَتِي بِالصَّبْرِ وَ الرِّضَا وَ التَّسْلِيمِ وَ التَّفْوِيضِ إلَى اللهِ جَلَّ وَ عَزَّ وَ الرِّضَا وَ الصَّبْرِ عَلَى قَضَائِهِ وَ التَّمَسُّكِ بِطَاعَتِهِ وَ النُّزُولِ عِنْدَ أمْرِهِ!
أفْرَغَ اللهُ عَلَيْنَا وَ عَلَيْكُمُ الصَّبْرَ، وَ خَتَمَ لَنَا وَ لَكُمْ بِالأجْرِ وَ السَّعَادَةِ، وَ أنْقَذَكُمْ وَ إيَّانَا مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ بِحَوْلِهِ وَ قَوَّتِهِ إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، وَ صلى اللهُ عَلَى صَفْوَتِهِ مِنْ خَلْفِهِ مُحَمَّدٍ النَّبِيّ وَ أهْلِ بَيْتِهِ.۱
استشهاد ابن طاووس برواية الصادق على حسن حال بني الحسن
ثمّ قال السيّد عليّ بن طاووس: و هذا آخر التعزية بلفظها من أصل صحيح بخطّ محمّد بن عليّ بن مَهْجَناب البزّاز. تأريخه في صفر سنة ثمان و أربعين و أربعمائة. و قد اشتملت هذه التعزية على وصف عبد الله بن الحسن بالعبد الصالح. و هذا يدلّ على أنّ هذه الجماعة المحمولين كانوا عند مولانا الصادق عليه السلام معذورين و ممدوحين و مظلومين و بحبّه عارفين.
ثمّ قال بعد ذلك: و قد يوجد في الكتب أنّهم كانوا للصادقين عليهما السلام مفارقين و ذلك محتملٌ للتقيّة لئلّا يُنسب إظهارهم لإنكار المنكر إلى الأئمّة الطاهرين.
و ذكر خبراً عن خلّاد بن عُمير الكنديّ (مولى آل حُجر بن عديّ) دليلًا على هذه الموضوع. قال خلّاد: دخلتُ على أبي عبد الله عليه السلام، فقال: هل لكم عِلمٌ بآل الحسن الذين خرج بهم ممّا قبلنا؟! و كان قد اتّصل بنا عنهم خبر، فلم نحبّ أن نبدأه به، فقلنا: نَرْجُوا أن يُعافِيهُمُ اللهُ: فقال: وَ أيْنَ هُمْ مِنَ العَافِيَةِ؟! (أي: كم هم بعيدون عن بلوغ العافية!).
ثُمّ بَكَى حتى عَلَا صَوْتُهُ وَ بَكِينَا.
ثمّ قال: حدّثني أبي عن فاطمة ابنة الحسين عليه السلام، قالت: حدّثني أبي صلوات الله عليه يقول: يُقْتَلُ مِنْكِ - أوْ يُصَابُ مِنْكِ - نَفَرٌ بِشَطِّ الفُرَاتِ مَا سَبَقَهُمُ الأوَّلُونَ، وَ لَا يُدْرِكُهُمُ الآخِرُونَ! وَ إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ وُلْدِهَا غَيْرُهُمْ.
و أيضاً ما رواه أبو الفرج الإصفهانيّ عن يحيى بن عبد الله بن الحسن الذي سلم من الذين تخلّفوا في الحبس من بني حَسَن، فقال: حدّثنا عبد الله ابن فاطمة، عن أبيها، عن جدّتها فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه و آله
قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه و آله: يُدْفَنُ مِنْ وُلْدِي سَبْعَةٌ بِشَطِّ الفُرَاتِ لَمْ يَسْبِقْهُمُ الأوَّلُونَ وَ لَمْ يُدْرِكْهُمُ الآخِرُونَ.
(يقول يحيى بن راوي الرواية عبد الله بن فاطمة، ابن حسن بن حسن - عبد الله المحض: لمّا قرأ عبد الله هذه الرواية) قلتُ له: نَحْنُ ثَمَانِيَةٌ.
قال: هَكَذَا سَمِعْتُ.
فلمّا فتحوا الباب، وجدوهم موتي. و أصابوني و بي رَمَقٌ، و سقوني ماءً، و أخرجوني، فعِشتُ.
ذكر ابن طاووس هنا عدداً من الروايات مفادها أنّ بني الحسن لم يقولوا بمهدويّة محمّد النفس الزكيّة، بل كانوا يرون أنّ خروجه من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.۱
نتيجة البحث حول الثائرين بالسيف من بني فاطمة عليها السلام
يقول الحقير: يتبلور البحث حول الخارجين بالسيف من العلويّين في خمسة أقسام:
الأوّل: سجناء بني الحسن الذين سجنهم المنصور، كعبد الله المحض، و إبراهيم الغمر، و الحسن المثلّث، و غيرهم.
الثاني: محمّد و إبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن.
الثالث: الحسين بن عليّ بن الحسن المثلّث: شهيد واقعة فَخّ.
الرابع: زيد بن موسى بن جعفر، أخو الإمام الرضا عليه السلام.
الخامس: زيد بن عليّ بن الحسين الشهيد المصلوب في الكوفة.
أمّا أولاد الحسن المثنّى: عبد الله، و إبراهيم، و الحسن المثلّث، و أولاد الحسن و سائر المحبوسين في سجن الدوانيقيّ، فلم تصلنا الأخبار
في ذمّهم، بل و صلتنا أخبار تمدحهم و تثني عليهم. و تسرد لنا شكوى الإمام الصادق عليه السلام من أنصار المدينة إذ بايعوا رسول الله صلى الله عليه و آله على أن ينصروا ولده، و يذبّوا بني الحسن. و هذا كلّه، مع بكاء الإمام عليه السلام و عزائه عليهم، يدلّ على ظُلامتهم.۱
إن اولئك لم يخرجوا بالسيف، و لم يفعلوا شيئاً بغير إذن الإمام. و لقد سجنهم المنصور لأنّهم لم يدلّوا على محمّد و إبراهيم، ثمّ قتلهم في آخر المطاف.
و من الطبيعيّ أنّهم - جملةً - لم يطيعوا الإمام الصادق عليه السلام و لم ينقادوا إليه، و لم يروه إماماً مفترض الطاعة، بَيدَ أنّ سجنهم كان من وحي الظلامة، و الدفاع عن المظلوم، و التغلّب على الظالم، و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر. إنّهم كانوا كفوئين متعبّدين متهجّدين قارئين للقرآن حافظين له مستقيمين صامدين، و كانوا يرون أنفسهم أولى دراية و فهم و إدراك بصورة مستقلّة، و يعتقدون أنّ لهم شأناً و مكانةً و منزلةً. و في الوقت نفسه كانوا يقرّون للإمام الصادق عليه السلام بالفضل و العلم
و البصيرة.۱
و أمّا محمّد الملقّب بالنفس الزكيّة، فالأخبار تنصّ على مخالفته للإمام الصادق عليه السلام كما يُستشفّ ذلك من طلبه البيعة، و سجنه الإمام بإشارة من عيسى بن زيد بن عليّ بن الحسين، و قتل إسماعيل بن عبد الله ابن جعفر بسبب عدم البيعة، و كلام الإمام الصادق عليه السلام فيه:
إنَّهُ الأحْوَلُ الأكْشَفُ الأخْضَرُ المَقْتُولُ بِسُدَّةِ أشْجَعَ عِنْدَ بَطْنِ مَسِيلِهَا.
و كلامه الآخر أيضاً: فَوَ اللهِ إنِّي لأرَاهُ أشأَمَ سَلْحَةٍ أخْرَجَتْهَا أصْلَابُ الرِّجَالِ إلَى أرْحَامِ النِّسَاءِ.
و خروجه العقيم الذي سبّب إراقة دماء المسلمين على أساس توهّم المهدويّة فيه. كلّ ذلك يدلّ على مثلبته.
و أمّا أخوه إبراهيم، فقد خرج أيضاً ثأراً لأخيه و صدّاً للظلم. و لم يرد قَدْحٌ فيه. و من الواضح أنّه لم يستطع أن يدّعي المهدويّة بعد قتل أخيه محمّد.
و أمّا ما قاله السيّد ابن طاووس: إنّ خروجهم كان بعلم الإمام، و إنّهم لم ينسبوه إليه تقيّةً، فلا ينسجم مع الأخبار الكثيرة و الشواهد التأريخيّة التي لا تُحصى. و لا يمكن قبوله أبداً. و يمكن أن نعدّ جرأة ذينك الأخوَين على الخروج ضدّ العبّاسيّين ناتجة من دعوة أبيهما عبد الله. ذلك أنّه كان مصرّاً على رأيه في هذا المجال.
و أمّا ما جاء في الحديث: لَمْ يَسْبِقْهُمُ الأوَّلُونَ وَ لَمْ يُدْرِكْهُمُ الآخِرُونَ، فهو يرتبط بالمقتولين في شطّ الفرات و سجن المنصور. أي: السجناء من بني الحسن، لا محمّد و إبراهيم، لأنّ هذين لم يُسْجَنَا، بل خرجا بالسيف
و قُتِلا.۱
ترجمة محمّد و إبراهيم ابنَي عبد الله المحض
و أمّا الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب: شهيد فخّ، فالأخبار الواردة تمدحه و تثنى عليه. و هو لم يخرج
من أجل أن يترأس أو يتحكّم، بل خرج من أجل أن يصدّ الظلم، إذ إنّ العُمَريّ (من أحفاد عمر بن الخطّاب) قد ضيّق الخناق على العلويّين في المدينة، حتى قال: إذا لم تأتوا بالعلويّ الفلانيّ الذي غاب و لم يعرّف نفسه كلّ يوم فسأقتلكم!
و حينئذٍ لم يجد العلويّون بُدّاً من الخروج بعد ما ضُيِّق عليهم. فتحرّكوا قاصدين مكّة، و لم يكن لهم شغل بأحد، فباغتهم جيش موسى الهاديّ (حفيد المنصور الدوانيقيّ) و أفناهم عن آخرهم. و حدثت هذه الواقعة في أرض فخّ بين التنعيم و مكّة، أي: على فرسخ من مكّة سنة ۱٦٩ هـ.
خروج زيد النار في المدينة
و أمّا زيد بن موسى بن جعفر عليهما السلام، فحسبنا ما ذكره الشيخ عبد الله المامقانيّ في «تنقيح المقال». قال: زيد بن موسى الكاظم عليه السلام: لم أقف فيه إلّا على رواية الكلينيّ رحمه الله في باب ما يفصل به بين الحقّ و الباطل من باب الإمامة من «الكافي» عن موسى بن محمّد بن إسماعيل بن عبد الله بن عبيد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: حدّثني جعفر بن زيد بن موسى عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام.
و زيد هذا هو المعروف بزيد النار، خرج بالمدينة، فأحرق و قتل، ثمّ مضى إلى البصرة سنة ۱٩٦. و قال أبو الفرج: لمّا مات محمّد بن إبراهيم ابن إسماعيل طباطبا بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن مع أبي السرايا بالكوفة. و كان محمّد هذا إمام الزيديّة و صاحب الدعوة. ولى الناس بعده محمّد بن زيد بن عليّ عليه السلام، و بايعه الزيديّة و فرّق في الآفاق عمّاله. فولي زيد بن موسى بن جعفر عليهما السلام الأهواز، فمرّ بالبصرة و عليها عليّ بن جعفر بن محمّد، فأحرق دور العبّاسيّين فلقّب بذلك و سمّي زيد
النار - انتهى.
و يظهر من بعض أهل السير ما ينافي ذلك، حيث قال: لمّا ظهر أمر أبي السرايا بالكوفة، قدم عليه فولّاه عليها. فلمّا كان من أمر أبي السرايا ما كان و تفرّق أصحابه، استتر زيد هذا فطلبه الحسن بن سهل، فدلّ عليه، فحبسه. فلم يزل في الحبس ببغداد حتى ظهر إبراهيم المهديّ المعروف بـ ابن شَكْلَة فجسّر أهل بغداد بالحسن فأخرجوا زيداً من حبسه. فمضى إلى المدينة فأحرق و قتل، و دعا لبيعة محمّد بن جعفر بن محمّد. فبعث إليه المأمون، فأسر و حمل إليه. فقال له: يا زيد! خرجتَ بالبصرة و تركت أن تبدأ بدور أعدائنا من اميّة و ثقيف و غني و باهلة و آل زياد، و قصدتَ دور بني عمّك؟!
فقال - و كان مزّاحاً-: أخطأت يا أمير المؤمنين من كلّ جهة، و إن عدتُ للخروج بدأتُ بأعدائنا! فضحك المأمون و بعثه إلى أخيه الرضا عليه السلام و قال: قد وهبتُ لك جرمه، فأحسن أدبه! فلمّا جاءوا به، عنّفه، و خلّى سبيله، و حلف أن لا يكلّمه أبداً ما عاش.
و قد أورد الصدوق رحمه الله في «العيون» أخباراً كثيرةً تدلّ على ذمّه و سوء حاله. لكنّ المفيد رحمه الله في «الإرشاد» لم يستثنه من قوله فيه: لكلّ واحد من ولد أبي الحسن عليه السلام فضل و منقبة مشهورة، و كان الرضا عليه السلام المقدّم عليهم في الفضل.
و عاش زيد هذا إلى آخر حكومة المتوكّل، و كان ينادم المنتصر، و كان في لسانه فضل. قال الصدوق رحمه الله في «العيون»: و كان زيد بن موسى هذا زيديّاً. و كان ينزل بغداد على نهر كَرْخَايَا.۱ و هو الذي خرج
بالكوفة أيّام أبي السرايا فولّوه عليها.
قال المامقانيّ: أشار بقوله: في لسانه فضل إلى كونه مزّاحاً بلسانه. و مراده من كونه زيديّاً أنّه يذهب مذهب الزيديّة في الخروج، لا أنّه يعتقد إمامة الخارج كما هو مذهبهم. و لكن كفى بخروجه و قتله و حرقه مسقطاً له، فضلًا عن منادمته للخلفاء و حضوره معهم في مجالسهم المشهورة، فلا اعتماد على خبره.
نعم، قد امرنا بعدم التعرّض لذرّيّتهم و عدم الانتقاص لأحدٍ منهم. و ورد عنهم عليهم السلام أنّهم قالوا: إنَّا أهْلُ بَيْتٍ لَا يَخْرُجُ أحَدُنَا مِنَ الدُّنْيَا حتى يُقِرَّ لِكُلِّ ذِي فَضْلٍ بِفَضْلِهِ.۱
كيفيّة خروج زيد بن عليّ عليه السلام
و أمّا زيد بن عليّ الشهيد،٢ فالأخبار الواردة في مدحه و الثناء عليه
صَلَبْنا لَكُمْ زَيْداً عَلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ | *** | وَ لَمْ أرَ مَهْدِيَّاً على الجِذْعِ يُصْلَبُ |
فاقت حدّ الاستفاضة. بل يمكن القول: هي في درجة التواتر. و كان زيد ذا شخصيّة عظيمة، و هو أفضل أولاد الإمام زين العابدين عليه السلام بعد الإمام الباقر عليه السلام. و كان يعتقد بعظمة و منزلة أخيه و ابن أخيه (الصادقين عليهما السلام) بَيْدَ أنّ نفسه ليست كنفس المعصوم في تحمّل الظلم و الجور. فقد نفد صبره و لجأ إلى السيف و ثار على حكومة هشام بن عبد الملك الذي شتمه و أساء إليه علناً في مجلسه. و كان خروجه من منطلق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
و إذا كان الإمام الصادق عليه السلام قد منعه من الخروج، فلم يمنعه
لأنّ الحكومة الجائرة لا تستحقّ أن يُطاح بها، بل منعه لشعوره بخسارة فقده و لم يُرِد أن يُقْتَلَ سدى و هو رجل ذو فضل و وقار. و كان يرى أنّ استشهاده لا يثمر كما أثمر استشهاد سيّد الشهداء عليه السلام. و كان الإمام الصادق عليه السلام طالما يوازن بين خروج زيد، و بين النتيجة الحاصلة منه. و يلحظ أنّ كفّة وجوده و حياته الغالية أرجح و أكثر قيمةً. فلهذا كان يأسى و يأسف على قتله، كما كان حزيناً متوجّعاً على صلبه.
كان زيد بن عليّ في درجة متأخّرة عن المعصوم
كان زيد من أولى الفضل و التقوى و العلم، و من علماء آل محمّد. و في الولاية و العصمة كان تالى تلو المعصوم. و مَثَلُه مَثَلُ إسماعيل بن جعفر عليهما السلام، و محمّد بن عليّ الهاديّ عليهما السلام في استحقاقهم الإمامة لو لا ما حصل من البداء. و كان ذا قابليّة ولائيّة و سعة وجوديّة، بَيدَ أنّه لم يحز درجة العصمة و الولاية المطلقة. و رأيه الخروج بالسيف لمقارعة الظلم. و ليس في هذا الرأي مثلبة لزيد، بل إنّ نسبة رأيه إلى رأى الإمام الصادق عليه السلام كنسبة التامّ إلى الأتمّ، و الكامل إلى الأكمل.
إن أئمّتنا سلام الله عليهم أجمعين مع ولايتهم و عصمتهم، و توحيدهم و طهارتهم كانت أساليبهم في العمل متباينة تبعاً للظروف المكانيّة و الزمانيّة و الطبعيّة و الطبيعيّة. و القاسم المشترك بينهم جميعاً هو الوصول إلى الولاية و التوحيد و الفناء المحض في الذات الأحديّة و التحقّق بحاقّ الحقيقة. و إذا كان زيد لم يبلغ هذه الدرجة من الولاية، فإنّه طوى مراحل عظيمة من العبوديّة، و كان جامعاً لكمالات جمّة من عوالم التجرّد. و لم يَحْتج إلّا إلى كشف حجاب واحد يجعله في درجة المعصوم.
و حينئذٍ لم يكن شيعيّا عاديّاً، بل كان في السنام الأعلى من العرفان و التوحيد و كان منغمراً في مقام العبوديّة. و لا يتسنّى لنا أبداً أن نقيس به كثيراً من الشيعة الذين يدلّ ظاهرهم على تسليمهم و طاعتهم المحضة
لإمامهم، و ليس لمقاماتهم العرفانيّة و كمالاتهم الولائيّة و التوحيديّة أهمّيّة تُذكر.۱
إن نهي الإمام الصادق عليه السلام زيداً عن الخروج لم يكن نهياً إلزاميّاً، بل كان نهياً إعفائيّاً و تنزيهيّاً، بل نهياً إرشاديّاً لا تُبعد مخالفتُه زيداً عن مقامه، بل - مع وجود غيرة زيد و عزّته و إبائه - تهبه درجة و مقاماً و منزلةً، و تُدخله في رَوْحٍ و ريحان و مقعد صدق، لكنّها لا تجعله في درجة المعصوم، و توقفه عند درجة أوطأ في مجال دقائق مراحل السلوك العرفانيّ و منازل التجرّد و لطائفها و ظرائفها.
هذه حقيقة ما عرفناه عن زيد الشهيد سلام الله عليه. و من هنا يتبيّن لنا خطأ التوجيه الذي ذهب إليه الكثيرون من أنّ خروجه كان بأمر الإمام الصادق عليه السلام، و أنّ ما ورد من النهي و الأخبار كان تقيّةً لئلّا يُنسب إليه عليه السلام. كتوجيه المامقانيّ و استنتاجه إذ ذهب إلى أنّ خروجه كان باذن الإمام عليه السلام. و قال بعد بحث مفصّل حول ترجمة زيد و سيرته:
وَ مُلَخَّصُ المَقَال: إنّي أعتبر زيداً ثقةً و أخباره صحاحاً اصطلاحاً بعد كون خروجه بإذن الصادق عليه السلام لمقصد عقلائيّ عظيم، و هو مطالبة حقّ الإمامة إتماماً للحجّة على الناس، و قطعاً لعذرهم بعدم مطالبٍ له.۱
أجل، زيد صحيح الرواية و معتبر القول، لكن ليس بسبب الدليل الذي أورده، بل بسبب ما ذكرناه من معلومات عنه، إذ بلغ مقاماً شامخاً و درجةً رفيعةً حتى كاد أن يكون معصوماً. فالحديث حول صدق كلامه و وثوقه يعدّ خروجاً عن حدّ راوٍ و محدِّثٍ و رجاليّ.
هنا إذ دار الكلام حول مقام زيد و درجته و مقايسة ذلك بمقام الإمام المعصوم و درجته، فمن المناسب أن نورد بحثاً مجملًا حول خصوصيّة صفات المعصوم و أعماله لكي تُرفع بعض الشبهات بحول الله تعالى و قوّته.
كلام الميرزا عبد الله الإصفهانيّ في التفاوت بين الأئمّة عليهم السلام
قال آية الله المحقّق العظيم و العالِم الضليع الميرزا عبد الله الأفندي الأصفهانيّ - الذي كان في الدرجة الأولى من تلاميذ العلّامة المجلسيّ - في مقدّمة «الصحيفة الثالثة السجّاديّة»:
أمّا بعد؛ فيقول العبد المفتقر الجاني عبد الله بن عيسى بن محمّد الصالح الأصفهانيّ أنّ وفور الأدعية المأثورة و كثرة المناجاة المأثورة البهيّة عن مولانا عليّ بن الحسين زين العابدين و غزارة الأوراد و الأذكار و الندب المنسوبة إليه صلوات الله عليه متن نظمها و نثرها، طويلها و قصيرها، و نضارتها فيما بين أدعية النبيّ و فاطمة و سائر الأئمّة، و طراوتها الغالبة و ظهور غاية الضراعة و الابتهال و المسكنة فيها، و نهاية تأثيرها و إجابة أدعيتها ممّا لا يرتاب فيها أحدٌ من عامّة العلماء فضلًا عن خاصّة الفضلاء، و ذلك لما قد خصّ الله كلّ واحدٍ منهم عليهم السلام بمزيّة و خصوصيّة لا توجد في غيره. كظهور آثار العلوم في الباقر و الصادق عليهما السلام في الأكثر. و بهور الشجاعة في أمير المؤمنين و الحسين عليهما السلام، كما أنّ الغالب هو الحرقة و الجذبة الشديدة في أدعية عليّ ابن الحسين عليه السلام. و الفصاحة و البلاغة و الهيبة في أدعية أمير المؤمنين
عليه السلام باهرة. إلّا أنّ غاية امتياز الأدعية المذكورة في مطاوي «الصحيفة الكاملة السجّاديّة» المعروفة بين أصحابنا الإماميّة تارةً بـ «زبور آل محمّد عليه السلام»، و تارةً بـ «إنجيل أهل البيت» صلوات الله عليهم أجمعين في تلك الصفات و الفضائل و الدرجات من بينها، و نهاية الاعتماد عليها ممّا لا يخفى على أولى النُّهَى.
لأنّ تواتر أدعيتها، و جزالة معانيها، و لطافة ألفاظها، و طرافة عباراتها، بل إعجازها و إفحامها ممّا قد أغنانا من مئونة إيراد الحجج في إثباتها أو تجشّم زحمة في ذكر أسانيدها و طرقها إلى مولانا السجّاد الذي هو قائلها.۱
و قد دحض آية الله المحقّق الخبير و المدقّق البصير الأمين العامليّ في مقدّمة «الصحيفة الخامسة السجّاديّة» هذا اللون من التفكير و نسبته إلى الأئمّة الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين. فقال بعد سرد ما نقلناه آنفاً عن آية الله الميرزا عبد الله الأفندي مُبْطِلًا إيّاه:
فتأمّل فيه! فإنّ منبع علومهم عليهم السلام واحد، و طينتهم واحدة، و كلّهم من نور واحد، و كلامهم متقارب، و حالهم متناسب، كما يعرف ذلك الممارس. بل هو مقتضى اصول أصحابنا من الاعتقاد بكونهم في أعلى درجات الكمال. و ظهور الشجاعة في أمير المؤمنين و ولده الحسين عليهما السلام لوجود مظهرها. و لعلّ هذا هو مراده. و ظهور علوم الصادقين عليهما السلام لخفّة التقيّة بسبب كونهم في آخر الدولة الأمويّة و أوّل الدولة العبّاسيّة، و غيره من الأسباب. فما يظنّه بعض الناس ممّا يُشبه ما قاله هذا
الفاضل ما أظنّه إلّا كلام قشريّ.۱
اختلاف النفوس و الأعمال عند الأئمّة الطاهرين حتميّ
و أمّا ما يتبادر إلى ذهني في هذا المجال فهو أنّ اختلاف الصفات و الغرائز و الأفعال عند أفراد النوع الإنسانيّ أمر مسلَّم به. و يعود هذا الاختلاف إلى دليل الحسّ و الشهود و الوجدان، و الدليل العلميّ من العلوم الطبيعيّة و من علم الحكمة المتعالية و الفلسفة الإلهيّة التكوينيّة، و دليل الآثار و الخصائص المرويّة و الأخبار الواردة و الروايات و التواريخ و التراجم و الأحوال اليقينيّة. و إذا أردنا هنا أن نتحدّث حديثاً وافياً شافياً في هذه الموضوعات، فسنحتاج إلى كتاب مستقلّ، و لكن نقول بنحو مجمل من أجل أن يتبيّن أساس الموضوع: إنّ جميع الأنبياء و المرسلين و الأئمّة الطاهرين و الأولياء المقرّبين و سائر أفراد البشر مختارون، و عليهم أن يطووا طريق الله و سلوك المعرفة بإرادة حديديّة، و قدم راسخ، و يؤثروا رضا المحبوب على هواهم كي ينالوا بغيتهم. فكلّ من سار على الدرب وصل، و كلّ من لم يسر لم يصل.
إن أفعال الأنبياء و الأئمّة ليست اضطراريّة و جبريّة بحيث إنّ الحسنة تصدر منهم بلا اختيار كتلألؤ ألماس، و إنّهم لا قدرة لهم على المعصية و لا يقدّمون رضا أنفسهم. و لو كانوا كذلك فلا ميزة لهم على سائر الخلق، إذ خلق الله أصل وجودهم نورانيّاً متلألئاً بغضّ النظر عن الإرادة و الاختيار، و هم كانوا يبثّون ذلك النور بلا إرادة تبعاً لخلقتهم. بل هم بشر لهم إرادتهم، و لا يعصون اختياراً، و يؤثرون رضا الله تعالى على أهوائهم حتى يبلغوا درجة تذوب فيها إرادتهم شيئاً فشيئاً، و تصبح إرادتهم و إرادة
الله المحبوب واحدة. فلا تعود إلّا إرادة واحدة و اختياراً واحداً، و ذلك للذات المقدّسة التي لا تزال و لم تزل، و قد تجلّت من نافذة و مرآة هذا الإنسان المتفاني المنكر لذاته و الملتحق بالله عزّ و جلّ.
تلك هي حقيقة وجودهم النورانيّ و مقام ولايتهم المطلقة بإجمال، فلا بينونة و لا اثنينيّة و لا افتراق. و هناك نور واحد، و فطرة واحدة، و عرفان واحد. و هذا لا ينافي إرادتهم و اختيارهم، بل إنّ اختيارهم و إرادتهم المترشّحة منهم تؤيّد و تسدّد و توطّد الوصول إلى أعلى درجات الكمال، و أرفع ذروة الإنسانيّة، و الظهور على قمّة التوحيد، و طيّ الأسفار العرفانيّة الأربعة، و بلوغ مقام البقاء بالله بعد الفناء في الله.
إن جميع ما ورد في الأخبار أنّهم كانوا نورانيّين في الأزل، و أنّهم خلقوا قبل آلاف السنين، و أنّ خلقهم يختلف عن خلق سائر الناس هو أمر صحيح لا غبار عليه. بَيدَ أنّ الأزل لا يعني التقدّم الزمانيّ العَرَضيّ. فأزل كلّ أحد و أبده معه، كما أنّ إله كلّ أحد معه. و كيف يمكن أن يكون إله الإنسان معه، أمّا أزله فمفترق عنه، و متقدّم عليه زمنيّاً على نحو الانفصال؟ أو أنّ أبده يباينه، و يتأخّر زمنيّاً على سبيل الانفصال؟ هذا الأزل و الأبد ليسا عرضيّين، كما أنّ إله الإنسان ليس له تقدّم عرضيّ. و لمّا كان تقدّم الله سبحانه تقدّم العلّة على المعلول، و كان انفصال المعلول عن العلّة محالًا، فإنّ جميع عوالم التجرّد من الأزل، و الأبد، و اللوح، و القلم، و الملكوت الأعلى، و الأسفل، و عالم القضاء و القدر و المشيئة هي مع الإنسان نفسه، و انفصالها عنه محال.
و إذا علمنا أنّ الله نفسه مع الإنسان، فهل نتصوّر أنّ هذه العوالم التي تمثّل واسطة فيضه، منفصلة، و لا تجد مكاناً بين الله و الإنسان؟! هذا المعنى غالط.
إن خلق الأنبياء و الأئمّة قبل آلاف السنين صحيح، بَيدَ أنّ هذه القبليّة قبليّة طوليّة، لا عرضيّة و زمانيّة. و هي قبليّة العلّيّة على المعلوليّة. و هي قبليّة رتْبيّة و تقدّم سببيّ. و غيريّة خلقتهم بالنسبة إلى سائر أفراد البشر تامّة أيضاً، لكنّ تلك الغيريّة كانت تحت مظلّة الاختيار، لا خارجها. و عليك - مِن هنا - أن تطوي طريقهم بإرادتك و اختيارك، و تخرج من هوى النفس، لكي تجري و تسري لك هذه الغيريّة أيضاً. و قد جعل الله الأنبياء و الأئمّة غير الآخرين، لأنّهم هم أنفسهم صاروا غير الآخرين بإرادتهم و اختيارهم.
و نلحظ في طريق الصعود و العروج إلى عالم التوحيد أنّ الغيريّة و الكثرة و الاثنينيّة في الأفعال و الصفات امور ضروريّة و حتميّة بين أفراد البشر جميعهم. و لا معنى لإمكان الكثرة و الاثنينيّة في عالم الوصول و الفناء في الذات الأحديّة أبداً. و ليس هناك إلّا الله وحده، و إلّا الولاية الكلّيّة فحسب. و مقولة: كلّنا محمَّد، أوَّلُنا محمَّد، آخرنا محمّد، مرتبطة بذلك المقام الذي يسطع فيه نور الذات الأحديّة بقوّة تزول معها الأسماء. و فيه ليس لمحمّد عنوان محمّد، و لا وجود لعليّ باسم عليّ، و فاطمة غير منفصلة عن الحسن و الحسين. و لا تمايز بين الأئمّة كلّهم حتى الإمام الحيّ الغائب عن الأنظار. جميعهم نورٌ بَحْت، و شعاع صِرف، و جميعهم سطوع للشمس في سماء التوحيد، كنور الشمس الواسع المبثوث، إذ كان متّصلًا بالشمس بلا جهةٍ و لا حدّ و لا مقدار، و لا يمكن أن نضع له اسماً غير لفظ النور المجرّد.
أجل، يتعدّد هذا النور من حيث الظروف الخارجيّة و الماهيّات الإمكانيّة. فالنور المشعّ على سفوح الجبال و الصحاري هو غير النور المشعّ على البحار و المحيطات. و نور القطب الشماليّ هو غير نور القطب الجنوبيّ
أو المناطق الاستوائيّة. ثمّ إنّهم، بعد مقام التوحيد و بلوغ الفناء و الاندكاك في ذات الحقّ تعالى، ينزلون إلى عالم الكثرات مرّة اخرى، و هم بالله مع جميع الموجودات، و يدورون وَ بِالحَقِّ في الخَلْقِ.
و هنا تظهر آثار الاختلاف ثانيةً، و يُشْهَد التفاوت بينها. علماً أنّ هذا الاختلاف هو غير الاختلاف السابق. فالاختلاف هناك بلا حقّ و فناء. أي: إنّ الاختلاف كان يظهر في الماهيّات بإرادة الله، بَيدَ أنّ السالك نفسه لم ينتبه إلى هذا الفعل و الأثر. لأنّ الوصول و الفناء و اللقاء التامّ امور لم تحصل. بل كان يخال أنّ جميع هذه الأشياء هي منه، و من ترشّحات نفسه و آثارها، و ها هو قد رجع من عند الله، و زار كعبة المقصود، و نال لقاء الله في حرم الأمن و التجرّد المطلق مع فنائه و اندكاك وجوده، و استمتع بأنوار الجمال و الجلال. لذا فهذا الرجوع هو رجوع مع المحبوب. و الله معه و هو مع الله في كلّ زمان من الأزمان الطويلة، و كلّ مكانٍ من الأماكن العريضة الواسعة. و كلّ فعلٍ من أفعال السالك هو فعل الله، إذ حلّت إرادة الله و اختياره مكان إرادته و اختياره.
و هو في الكثرات، في عين التوحيد، و في التوحيد، في عين انغماره في الكثرات، و هو مع الحقّ، و أعماله من الحقّ، و مرجعه إلى الحقّ. جَمِيعُ أفْعَالِهِ وَ سَكَنَاتِهِ يَكُونُ مِنَ اللهِ وَ يُرْجَعُ جَمِيعُهَا إلَى اللهِ.
و يستبين ممّا ذكرنا جيّداً ما يأتي: أوّلًا: أنّ الأئمّة الطاهرين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين، و هم أكمل المخلوقات و أفضلها في عالم التكوين و التشريع، قد طووا الأسفار العرفانيّة الأربعة حتماً، لأنّه إذا لم يُطْوَ أحدها، فهذا يعني أنّ السالك الذي طواها كلّها سيكون الأعلم بالنسبة إليهم، و هذا محال بسبب ما يتّصفون به من حقّ الاستاذيّة و التعليم و تفوّقهم على جميع الخلائق.
و ثانياً: إنّ الروايات الواردة في وحدة نورهم و تجرّدهم و خلقتهم ترتبط بعالم اللقاء و الفناء و عرفان الله. و عدم تصوّر التعدّد في ذلك المكان العالى و الرفيع يعتبر من بديهيّات العلم.
و ثالثاً: رجوعهم إلى عالم الخلقة و كثرات الماهيّات أمر ضروريّ لتربية البشر. لأنّه ما لم يُطْوَ السفر الرابع المتمثّل في السير في الخلق بالحقّ، الذي هو من متمّمات مقام العرفان و الكمال، فلا يمكن تفويض التدبير في الامور التكوينيّة و التشريعيّة إليهم، إذ إنّ فعلهم في الخلق حينئذٍ لن يكون فعل الله، و لن يتسنّى لهم أن يتعاملوا مع الخلائق تعاملًا إلهيّاً.
و رابعاً: شرط الرجوع إلى الكثرة هو التعيّن بالماهيّات الإمكانيّة و تعدّد العوارض الوجوديّة و الجوهريّة. أي: كما خُلِقَ الأئمّة عليهم السلام في أزمنة مختلفة، و عاشوا في أماكن متفاوتة، فإنّ بقيّة عوارضهم الجوهريّة ستتباين حتماً حتماً. و ستتفاوت الصفات و الأفعال أيضاً، و في الوقت نفسه، فإنّهم كلّهم أبرار و في أعلى درجات البرّ و الحُسن، بل لا يمكن أن نتصوّر حُسناً أسمى من ذلك، لأنّ الفعل هو فعل الحقّ، و لا يمكن أن نتصوّر في فعل الحقّ إلّا الحُسن.
إن الأئمّة عليهم السلام كما خلقوا من آباء و امّهات شتّى، و تغذّوا من امّهات مختلفة عند ما كانوا أجنّةً في بطونهنّ، و تباينوا فيما بينهم جسميّاً و طبعيّاً و طبيعيّاً، مع آلاف الظروف و مواضع الاختلاف الاخرى، فإنّهم - كذلك - يتفاوتون فيما بينهم في الأفكار النفسانيّة و الملكوتيّة.
كان أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات الله و سلامه رَبْعاً، مع ميل إلى القصر، بطيناً، أسمر اللون، أدعج العين، أصلع، رفيع الساقين. فهذا ضرب من الخلقة الإلهيّة. أمّا الحسن و الحسين عليهما السلام فكانا يشبهان رسول الله صلى الله عليه و آله. فالحسن عليه السلام يشبهه في رأسه
و وجهه حتى ظهره، و الحسين عليه السلام يشبهه من ظهره حتى الأسفل. و كان بعض الأئمّة بيض الوجوه كالإمام جعفر الصادق عليه السلام، و بعضهم سمرها مع ميل إلى السواد كالإمام محمّد الجواد عليه السلام، لأنّ والدته كانت أمة سوداء من أهالى النَّوبة (إحدى مناطق إفريقية).۱
و كذلك كانوا متفاوتين في القدّ و القامة، و في الوزن و البدانة. فالسجّاد عليه السلام كان نحيفاً حتى كانت الريح تحرّكه عند ما يُغمى عليه في أوقات العبادة. أمّا الباقر عليه السلام فقد كان بديناً إلى درجة أنّه عند ما كان يذهب للزراعة في بعض أوقات الحرّ، يتوكّأ على غلامين. و كذلك الأمر في سائر جهات الاختلاف الطبعيّ و الطبيعيّ، التي لا تُحصى.
ما ذا تقولون هنا؟! هل تقولون: إنّ المعيار هو بياض الجسم كرسول الله؟ فلا نتّبع أمير المؤمنين الذي كان أسمر، و لا سائر الأئمّة السُّمر، و لا نعدّهم أئمّة لأنّهم لم يكونوا بيضاً! هل البدانة هي المعيار؟ فنعزل الإمام السجّاد منهم. أم النحافة، فنعزل الباقر منهم؟ أم التوسّط بينهما، كالإمام الرضا عليه السلام، فنعزل السجاد و الباقر عليهما السلام؟!
و أمثال هذه الأسئلة التي تطول.
أم تقولون: كلّ ذلك كان صائباً و صحيحاً و حسناً و في درجة الكمال. فصلعُ مولى الموالى كمال له، و شعر النبيّ و تمشيطه كمال له. و كلّ خاصّيّة من هذه الخصائص مع فرض اختلافها كمال لأهلها.
و كذلك الصفات النفسيّة و الأفعال البدنيّة مع تفاوتها كمال لأصحابها.
و من الطبيعيّ أنّ شرط الكمال إحراز العلم المجرّد، و كان الأئمّة عليهم السلام جميعاً أولى علمٍ تجرّديّ. مع ذلك فقد عُدّ أمير المؤمنين عليه السلام أعلمهم و أفضلهم باستثناء الحجّة بن الحسن العسكريّ أرواحنا فداه. و بروز الشجاعة عند أمير المؤمنين و الحسين عليهما السلام كان تبعاً لما تتطلّبه الظروف، و ليس في هذا إلغاء لشجاعة غيرهما.
لا جَرَمَ أنّ الحِلْمَ الحَسَنِيّ وَ الشَّجَاعَةَ الحُسَيْنِيَّة، كانا وفقاً لبروزهما و ظهورهما، و إلّا فما أكثر مواطن الحلم التي تدهش العقل عند سيّد الشهداء عليه السلام! و ما أروع تلك الشجاعة التي أبداها الإمام الممتحن الحسن المجتبى عليه السلام في حرب الجمل و صفّين حتى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام عند ما رآه يتشرّع للحرب، منعه. و عزّ عليه أن يُقْتَلَ ابنُ فاطمة! و كان همّ معاوية كلّه أن يُخلي الأرض من نسل فاطمة.
و أمّا تفكير الإمام الحسن و الإمام الحسين عليهما السلام و موقفهما من معاوية في الحرب و الصلح فنقول فيه: إنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يُبايع معاوية بعد صلح الإمام الحسن عليه السلام معه. و قال الحسن لمعاوية: لا تدعه إلى البيعة، فإنّه لن يبايع حتى لو قُتل هو و أهل بيته جميعاً. و كان قيس بن سعد بن عُبادة هو الآخر لم يبايع أيضاً، و كذلك سليمان بن صُرَد الخُزاعيّ. بَيدَ أنّ الإمام الحسن عليه السلام رأى نفسه في ظروف أرغمته على تجرّع مرارة الصلح حقناً لدماء المسلمين، و تفنيداً لسياسة معاوية الماكرة. و استجابة لرغبة أهل الكوفة الذين خارت نفوسهم و ضعفت و كانوا على و شك تسليمه لمعاوية حيّاً، ليمنّ عليه معاوية و يطلقه، فيُدعى: طليق معاوية، و يتخلّص معاوية من عار الطلقاء الذي لحق به يوم قال رسول الله له و لأبيه أبي سفيان و سائر بني اميّة في فتح
مكّة: أنْتُمُ الطُّلَقَاءُ. فعُرِفوا بطلقاء رسول الله. و أراد معاوية أيضاً أن يأسر الإمام الحسن عليه السلام ثمّ يطلقه جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فيكون طليق معاوية، و يبقى ذلك في تأريخ الإسلام و العرب؛ و لهذا كله صالح الإمام عليه السلام معاوية.
و لم يكن سيّد الشهداء هو الإمام يومئذٍ، بل كان يتّبع إمام زمانه و هو المجتبى الذي كان أكبر منه بسنة واحدة. فاختار السكوت المحض، و جهد في المحافظة على إمامة أخيه، و لم يدّخر وسعاً لتوطيدها و تعزيزها. حتى إذا مضت عشر سنين، دسّ معاوية السمّ إلى الإمام بواسطة زوجته ابنة الأشعث بن قيس، فلقي الإمام ربّه شهيداً. و زالت ظروف الصلح، و كان بمقدور الإمام الحسين عليه السلام أن يحارب معاوية على أساس إمامته و رأيه في الحرب، بَيدَ أنّ الظروف لم تسمح له بذلك. فصبر عشر سنين اخرى حتى هلك معاوية و دخل الهاوية، و غصب يزيد الخلافة على خلاف موادّ الصلح، فثار عليه السلام عندئذٍ. و كانت واقعة عاشوراء في الحقيقة تتمّة لواقعة صفّين، فأدار معاوية تلك، و أدار يزيد هذه على أساس حكومة أبيه.
يقول البعض: كانت الظروف بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام و مُضيّ ستّة أشهر على نحو ارغم معه الإمام الحسن عليه السلام على الصلح. و لو كان سيّد الشهداء عليه السلام إماماً لصالح أيضاً.
و الآن لو سألتم: أيّ الموقفين كان صحيحاً في الواقع؟ بيعة الإمام الحسن أم رفض الإمام الحسين عليهما السلام. و الجواب هو أنّ كليهما كان صحيحاً. فتفكير سيّد الشهداء عليه السلام كان صحيحاً، و تفكير الإمام المجتبى عليه السلام كان كذلك. غاية الأمر أنّ ما تحقّق خارجاً حسب إمامة وصيّ أمير المؤمنين و وصيّ رسول ربّ العالمين كان صلحاً و كان
صحيحاً. و أمّا إمامة سيّد الشهداء عليه السلام أيضاً، فبدايتها صلح و سكوت، و نهايتها حرب و ثورة، و كلتاهما كانت صحيحة.
فعل وليّ الله عين الحقّ
و ملخّص الكلام: أنّ جميع أعمال الإمام و أفعاله بلا استثناء هي أعمال الله و أفعاله، و ذلك بسبب عبور الإمام من المراحل النفسانيّة، و استناد الأفعال إلى نفسه. و من هنا فإنّ فعله فعل حقّ و صحيح و هو عين الصواب، سواء أدركنا صوابه أم لم ندركه. مثلًا، كيف ينبغي أن نقول في الأفعال الخارجيّة كنزول المطر و الرحمة، أو الزلزلة و الغضب؟ إننا نقول حتماً: إنّهما فعل حقّ من مَظْهَرَي الجمال و الجلال و إن قصر فكرنا عن بلوغ مصدره، و لم يدرك تفكيرنا القاصر حقيقة حكمة هذا و ذاك. فكذلك أفعال أولياء الله كفعل الخِضْر مع موسى على نبيّنا و آله و عليهما السلام الوارد بيانه في القرآن الكريم.
إن فعل وليّ الله حقّ، و الحقّ ليس إلّا هو لا غيره. لا أنّ الحقّ شيء نطبّق عليه فعل وليّ الله. و ليست المصلحة و الحكمة شيئاً غير فعل الله، و فعل الإمام، ليجعل الله فعله وفقاً للمصلحة، و يأمر الإمام أن ينطبق فعله عليها.
إن فعل الله نفسه مصلحة. و فعل وليّه مصلحة أيضاً، بل مجلبة للمصلحة. و ينبغي أن نتحرّى المصلحة و الحقّ في فعل الإمام و وليّ الله، لا أن نظنّ المصلحة و الحقّ في فكرنا القاصر، و عندئذٍ ننظر هل هذا هو فعل الإمام أم ذاك؟! و هذا الموضوع من دقائق عالم التوحيد و رموزه.
لقد دعا رسول الله صلى الله عليه و آله ربّه تعالى لأمير المؤمنين عليه السلام فقال: اللَهُمَّ أدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ! و قال: اللَهُمَّ أدِرْ عَلِيَّاً مَعَ الحَقِّ حَيْثُ دَارَ!
و على هذا ففعل الإمام عين الحقّ، و في غاية الصحّة و الصواب
و السداد سواء فهمنا أم لم نفهم.
علينا أن نواكب حياة الإمام من أجل التعرّف عليه، و على خصائص مراحل سيره و سلوكه، و نقيس حقيقته و عقيدته و صفاته النفسيّة و أفعاله الخارجيّة بتحسّس عميق، و نتّخذه كَمَا كَانَ وَ حَيْثُ مَا كَانَ اسوةً لنا في جميع شئوننا، لا أن نصنع لنا إماماً في أذهاننا، ثمّ نفرضه على الإمام الموجود في الخارج. فهذا الإمام ليس خارجيّاً و لا واقعيّاً، بل هو إمام و هميّ خياليّ. و إذا ما اتّبعناه، فإنّنا لم نتّبع الإمام الحقيقيّ، بل اتّبعنا الإمام الوهميّ، أو اتّبعنا أنفسنا في الحقيقة. و لعلّنا نكون قد أمضينا عمراً باسم الإمامة و الولاية، في حين أنّنا لم نتجاوز أنفسنا، و لم نتّبع غيرها. و حينئذٍ سنكون قد قضينا العمر في عبادة النفس، لا في عبادة الله دون أن نتّبع الإمام الذي اصطفاه الله لإرشادنا و هدايتنا.
الخلقة المجرّدة و النورانيّة للأئمّة مقارنة للاختيار
إن الذين يرون الإمام ذاتاً و جِبِلَّةً بلا إرادة و لا اختيار، و أنّه موجود ملكوتيّ و نورانيّ، و يفرّقون بينه و بين غيره من الناس، و يخالون أنّ سعادته قد قُدِّرت منذ الأزل طوعاً أم كرهاً بلا تدخّل للاختيار و الإرادة و الاختبار في دار الدنيا، هم على خطأ كبير. و ليس هذا إلّا الغُلوّ الذي كان يفرّ منه السابقون. الإمام إنسان مكلّف مختار، و له سيره و سلوكه، و هو يدرك الحسن و الرديء، و يفهم الجمال و القُبح، و يميّز طريق الجنّة من طريق النار؛ غاية الأمر، أنّه يبلغ مقام محبّة الله نتيجة مجاهدته للنفس الأمّارة، و إيثاره لرضا الله المحبوب، و يرتقي في القوس الصعوديّ أعلى من غيره، و لا يبقى حجاب بينه و بين الله. فهذا هو أزل الإمام و أبده، و هذا هو اصطفاؤه و اجتباؤه. و هذا هو الذي جعل محمّداً مصطفى، و جعل عليّاً مرتضى صلوات الله عليهما و على آلهما الميامين.
مَن تصوّر الإمام كائناً بلا إدراك لمراحل العبوديّة و التضرّع
و الاستكانة للّه تعالى، فلا بدّ أن يحمل أدعيته و أنّاته المؤلمة الممضّة على أنّها كانت من أجل تعليم الناس و تمرينهم، و يفسّرها أخيراً بالامور الاستهزائيّة التهكّميّة! و يترتّب على هذا التفكير عدد من الأضرار الموبقة:
أوّلًا: سيكون قد أعمى بصيرته التي يرى بها الحقّ، فيكون قد رأى الباطل حقّاً، و الحقّ باطلًا. و لم يَرَ الواقع كما هو أهله، بل رآه شيئاً آخر.
ثانياً: سيكون قد قطع علاقته بالإمام، لأنّه لا يتَّبع الإمام الحقيقيّ.
ثالثاً: و سيكون قد أسقط نفسه من مرحلة العمل و المجاهدة و التنقيب، لأنّه إذا لم يجرِ على لسانه شيء ينطق به، فإنّه يقول في باطنه حتماً: إنّ ما نُقل عن الأئمّة من العبادات و الإيثار و العلوم و الإدراكات، و الصفاء و طُهر الفطرة، و الدخول في جنّات تجري من تحتها الأنهار هو لهم لا لنا، و ما يعنينا؟! نحن أهل عالم الطبيعة، و أسرى الحواسّ الطبيعيّة و صرعى الغرائز النفسانيّة، و عفريت الجهل و جموح النفس، فشتّان ما بيننا و بينهم! و لمّا خلق الله - منذ الأزل - وجودهم نورانيّاً مجرّداً لطيفاً، و وجودنا ظلمانيّاً مادّيّاً ملوّثاً، و جعلهم سعداء و جعلنا أشقياء، فإنّنا مهما سعينا فلن نبلغ درجتهم! فلنقرّ عيناً - إذاً - و لنخلد إلى الراحة، و لنعصِ الله، فهو الذي خلقنا هكذا و خلقهم كذلك!
رابعاً: سيكون الإمام هو المقتدى و القائد و الرائد، و المأموم هو التابع و المقتصّ الأثر و المقود، فإذا قُدِّر لنا أنّنا لا نستطيع أن نسير وراء الإمام، و إن كان ذلك في حالة واحدة فحسب، فحينئذٍ لا يبقى معنى للإمام و المأموم، و تنقطع العلاقة، و تتبدّد سلسلة الولاية، لما ذا؟! لأنّ الإمام لم يستطع هناك أن يأخذنا معه متّبعين إيّاه. و عجز أن يكون قائدنا. و لمّا كانت الإمامة ثابتة له في جميع الامور، فإنّه يقتادنا معه إلى المكان الذي يمّمه، أي: مقام التوحيد و العرفان الذاتيّ و الاندكاك في الأنوار الإلهيّة
الجمالية و الجلاليّة.
و هناك حيث لا بون بين الإمام و المأموم من حيث درجات العلوم و المعرفة و الإدراك، و لا فرق بينهما، و لا يمكن أن يكون بينهما فرق. و لا يبقى للإمام إلّا عنوان الإمامة و الاقتداء إذ إنّه هو القائد الذي اقتاد ضالّته فأوصلها إلى حيث وصل من الأمن و الأمان.
على هذا، فالمعصومون الأربعة عشر اعتباراً من النبيّ الأكرم و مروراً بفاطمة الزهراء و عليّ المرتضى، و انتهاءً بالأئمّة الأحد عشر من أولادهما الذين لهم عنوان الولاية و السبق و التقدّم في القيادة لن ينفصلوا عن هذا العنوان و الوسام و المنصب و الامتياز. و لكنّهم في كلّ لحظة يوصلون الآلاف من النفوس التي لم تسلك الطريق إلى منزلها. و يبلغون بهم المكان الذي ذهبوا إليه و قرّوا فيه. و يقودون الجميع إلى الله وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى.۱
في ضوء ما تقدّم، لا تبقى شبهة و لا شكّ في أنّ جميع الأنبياء المرسلين و الأئمّة الطاهرين كانوا مختلفين بلا أدنى تأمّل. و قد جاء ذكر كلّ نبيّ في القرآن الكريم بنحو خاصّ و صفة مخصوصة. و صنّف الشيخ العارف الجليل محيي الدين بن عربي كتاب «فصوص الحكم» على أساس هذا الاختلاف. و دوّن كلّ فصّ من فصوصه بذكر نبيّ خاصّ يتّصف بسجيّة خاصّة.
و قد خرجت الحوزة العلميّة في قم من جمودها نوعاً ما فصارت في عصرنا هذا لا تكتفي بالعقائد السطحيّة في المعارف الدينيّة ببركة جهود استاذنا الأعظم العلّامة آية الله السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ التبريزيّ
أعلى الله مقامه و بفضل تدريس الحكمة و الفلسفة الإلهيّة. بَيدَ أنّ حوزة خراسان تعاني من تسرّب العقائد الشيخيّة و الميرزائيّة إليها في قالب ولاية أهل البيت إلى درجة أنّ باب العرفان الإلهيّ قد اغلق تماماً سواء من جهة الشهود أم من جهة البرهان. و اندفع جملة أهل العلم متعلّقين بظواهر الأخبار التي تُشبه مذاهب الحشويّة و الظاهريّة كثيراً بدون مراجعة أسانيدها و التأمّل و الإمعان في محتواها، و ساقوا معهم جماعة إلى جحيم الضلالة.
و لو توفّرنا على إدراك الحقيقة نوعاً ما، و عرفنا الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين كما كانوا، لما مُنيت معارفنا الدينيّة بهذا الجمود و الركود.
انتقاد رأى المحدِّث القمّيّ في عدم ذكر بعض الحقائق التأريخيّة
نقل لي المرحوم صديقي البارّ الكريم سماحة آية الله السيّد صدر الدين الجزائريّ أعلى الله مقامه أنّه كان ذات يومٍ في بيت المرحوم آية الله السيّد محسن الأمين العامليّ رحمه الله بالشام، و اتّفق حضور المرحوم ثقة المحدِّثين الشيخ عبّاس القمّيّ رحمه الله هناك. فجرى حوار بين المرحومين القمّيّ و الأمين. فقال المرحوم القمّيّ مخاطباً المرحوم الأمين: لِمَ ذكرتَ في كتاب «أعيان الشيعة» بيعة الإمام زين العابدين عليه السلام ليزيد بن معاوية عليه و على أبيه اللعنة و الهاوية؟!
فقال: إنّ «أعيان الشيعة» كتاب تأريخ و سيرة. و لمّا ثبت بالأدلّة القاطعة أنّ مسلم بن عقبة حين هاجم المدينة بجيشه الجرّار، و قتل و نهب و أباح الدماء و النفوس و الفروج و الأموال ثلاثة أيّام بأمر يزيد، و ارتكب من الجرائم ما يعجز القلم عن وصفها، فقد بايع الإمام السجّاد عليه السلام، من وحي المصالح الضروريّة اللازمة، و التقيّة حفظاً لنفسه و نفوس أهل بيته من بني هاشم، فكيف لا أكتب ذلك و لا أذكره في التأريخ؟! و مثل هذه البيعة كبيعة أمير المؤمنين عليه السلام أبا بكر بعد ستّة أشهر من وفاة
الرسول الأكرم و استشهاد الصدِّيقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله عليهما.
قال المرحوم القمّيّ: لا يصلح ذكر هذه الامور و إن كانت ثابتة، لأنّها تؤدّي إلى ضعف عقائد الناس. و ينبغي دائماً أن تُذكر الوقائع التي لا تتنافى مع عقيدة الناس.
قال المرحوم الأمين: أنا لا أدري أيّ الوقائع فيها مصلحة، و أيّها ليس فيها مصلحة. عليك أن تذكّرني بالامور التي ليس فيها مصلحة، فلا أكتبها!
و من الطبيعيّ أنّ رأى المرحوم القمّيّ هذا غير سديد. ذلك أنّه ظنّ الإمام السجّاد اسوةً للناس بدون بيعة يزيد، و زعم أنّ الناس لو علموا بأنّه بايع، لرجعوا عن الإيمان و الاعتقاد بالتشيّع، أو ضعف إيمانهم و اعتقادهم. و بالنتيجة فإنّ الإمام هو الذي لا ينبغي له أن يبايع يزيد.
إن مفاسد هذا اللون من التفكير بيّنة. أوّلًا: لأنّ الإمام الحقيقيّ هو الذي يبايع، و يدرك مصالح البيعة، و عمله صحيح، و خلافه، أي: عدم البيعة، غير صحيح.
ثانيا: لو ابتُلينا هذا اليوم بحاكم جائر كيزيد، و قال لنا: بايعوا و إلّا ... و إذا اعتبرنا البيعة - حتى مع هذا الفرض - حراماً و خطأً، فقد أهدرنا دمنا و دماء أهلينا و ناس آخرين سدى. و أمّا إذا علمنا أنّ أئمّتنا و قدوتنا قد بايعوا في مثل تلك الظروف، فإنّنا سنبايع فوراً بدون أن نفكّر بالنتيجة السقيمة و ما تستتبعه البيعة من محذورات. أ فليست التقيّة من اصول الشيعة الثابتة؟! لِمَ نُظْهِرُ للناس خلاف ذلك فنورط اولئك المساكين في عُسرٍ و حرجٍ للحفاظ على شرفهم و كرامتهم و وجدانهم؟ حتى إذا بايع أحد في مثل هذه الحالة، فإنّه يعدّ نفسه آثماً خجولًا، و يرى تلك البيعة مخالفة لسُنّة
إمامه و نهجه. و إذا لم يبايع فإنّه يعرّض نفسه و أتباعه لسيف زنجيّ ثمل جائر سفّاك، و يفقد حياته جنوناً و حماقةً.
بيان الحقيقة هو بيان الحقيقة نفسها، لا بيان حقيقة خياليّة، و إلّا فإنّ جميع المفاسد تقع على عاتق من كتم الحقيقة.
كانت في المرحوم المحدِّث القمّيّ - مع جميع ما اتّصف به من الجهاد العلميّ و العناء و حبّ أهل البيت عليهم السلام - مثلبة تتمثّل في بتره للأخبار، إذ يذكر مثلًا شيئاً من الخبر كمثال، و يتغاضى عن الباقي الذي ربّما تكون فيه قرائن مفيدة لحدود هذا المعنى المستفاد.
و هذا غير صائب، إذ لعلّ صدر الخبر قرينة على ذيله، و ذيله قرينة على صدره. فما على المؤلِّف إلّا أن ينقل الخبر بحذافيره، ثمّ يعلّق عليه في الهامش أو الشرح إن أشكل عليه في بعض المواضع!
و نلحظ في كتاب «منتهى الآمال» أنّ المحدِّث القمّيّ ذكر مقتل محمّد بن عبد الله بن الحسن المسمّى بالنفس الزكيّة، و مقتل إبراهيم بن عبد الله بن الحسن المسمّى بقتيل باخمرى، و تحدَّث عن سيرتهما التي أوردناها في صفحات متقدّمة من هذا الكتاب، دون أن يشير إلى مثالبهما، و اكتفى بالحميد من ترجمتهما.۱
و هكذا فعل العلّامة الأمينيّ في «الغدير» عند ذكر عبد الله المحض و ولديه: محمّد و إبراهيم، فقد تحيّز في كلامه عنهم نوعاً ما، و رغب عن بيان طبيعة الواقعة.٢
أجل، التفاوت واضح بين أدعية الإمام السجّاد عليه السلام بخاصّة
أدعية «الصحيفة الكاملة»، و أدعية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في النبرة و المضمون. فأدعية «الصحيفة» نبعت من قلبٍ متحرّق ذائب، و روح عاشقة مجذوبة و مدهوشة. و أدعية «الصحيفة العلويّة» التي أعدّها الميرزا عبد الله بن صالح السماهيجيّ، و «الصحيفة الثانويّة» التي أعدّها المحدِّث القريب من عصرنا الميرزا حسين النوريّ، تمتاز بمضامين جليلة عظيمة تبعث على الهيبة. و هذا لا يعني أنّ الإمام السجّاد عليه السلام كان عاجزاً عن الإتيان بمثلها، بل إنّ وضعه كان يتطلّب مثل تلك الأدعية، لا مثل هذه الأدعية التي تطلّبها وضع أمير المؤمنين عليه السلام.
و لعلّه صلوات الله عليه قد أنشأ نظير تلك الأدعية في المدينة أيّام رسول الله و فاطمة الزهراء سلام الله عليهما عند ما كان في حائط بني النجّار (بستان بني النجّار)، و لكن لم ينقلها لنا أحد.
و لا تنحصر أدعيته العجيبة بدعاء كُميل، و دعاء الصباح، بل إنّ جميع أدعيته تكشف عن مقام جلال الحقّ تعالى و عظمته و انتشار رحمته الواسعة، و عن إشراق نور التوحيد على عوالم الإمكان بأسرها.
زواج عمر بامّ كلثوم ابنة أمير المؤمنين عليه السلام
إن زواج عمر بن الخطّاب بامّ كلثوم بنت الصدِّيقة الكبرى سلام الله عليها من الحوادث التأريخيّة المسلَّم بها. فلما ذا يريد بعض الشيعة أن ينكر ذلك في بعض الكتب؟! في حين نحن إذا ذكرنا شفاعة هذا الزواج مع مقدّماته التأريخيّة في كتبنا، فإنّ ظلامة أمير المؤمنين و أهل البيت تستبين لنا أكثر فأكثر. و لو أوردنا هذه القصّة مع مقدّماتها التأريخيّة، فإنّ ذلك يمثّل وثيقةً تدين عمر بن الخطّاب، إذ غصب تلك المخدَّرة بمكر، و أولدها زيداً و رقيّة.۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
إن زواج سُكينة ابنة الحسين من مصعب بن الزبير من المسلّمات التأريخيّة، فلما ذا نرفضه بسبب انحراف مصعب؟ في حين أنّ وضع مصعب ربّما لم يكن سيّئاً يومئذٍ حسب قرائن تأريخيّة، و لعلّ هناك قضايا جانبيّة لا نستطيع أن نحلّلها الآن بنحو صائب.
قال أبو الفرج الإصفهانيّ: تزوّجت سكينة ابنة الحسين عليهما السلام غير زوج. أوّلهم عبد الله بن الحسن بن عليّ، و هو ابن عمّها و أبو عذرتها. و مصعب بن الزبير، و عبد الله بن عثمان الحزاميّ، و زيد بن عمرو بن عثمان، و الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان و لم يدخل بها، و إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف و لم يدخل بها.۱
قالت الدكتورة بنت الشاطئ: نقل السيّد توفيق الفكيكيّ عن السيّد عبد الرزّاق الموسويّ في كتاب له عن السيّدة سُكينة ما نصّه:
و هناك من المؤرّخين من يحكي تزويج السيّدة سكينة من ابن عمّها عبد الله الأكبر ابن الإمام الحسن المقتول في الطفّ مبارزةً. و أمّا غيره من الأزواج، فعلى ذمّة التأريخ.
و أضاف السيّد توفيق: و هناك من الأدلّة التأريخيّة المجمع على صحّتها ما يؤيّد أنّ سكينة تزوّجت بعد ابن عمّها عبد الله بن الحسن بن عليّ بمصعب بن الزبير، زوّجه إيّاها أخوها الإمام عليّ بن الحسين السجّاد.٢
خِطبة معاوية ابنة عبد الله بن جعفر و زينب عليها السلام
و ذكر ابن إسحاق في سيرته المطبوعة بتحقيق الدكتور سُهيل زكّار، ص ٢٥۱ و ٢٥٢، خِطبة معاوية ابنة السيّدة زينب عليها السلام، ثمّ زواج عبد الملك بن مروان منها، و طلاقها، و زواج عليّ بن عبد الله بن عبّاس منها. قال: كانت زينب ابنة عليّ بن أبي طالب تحت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فولدت له عليّ بن عبد الله بن جعفر، و امّ أبيها، فتزوّج امِّ أبيها عبد الملك بن مروان و طلّقها فتزوّجها عليّ بن عبد الله بن عبّاس.
روى يونس عن ثابت بن دينار، عن أبي جعفر قال: خطب معاوية ابن أبي سفيان إلى عبد الله بن جعفر ابنته من زينب ابنة عليّ و أمّها فاطمة؛ و قال له معاوية: أقضي عنك دينَك، فوعده. فقال عبد الله: إنّ عَلَيّ اميراً لستُ أستطيع أن أزوّجها حتى أستأمره. فقال له معاوية: فاستأمره! و أتي حسين بن عليّ و قال: إنّ معاوية خطب إليّ ابنتي و وعدني قضاء دَيني. و إنّما أنت والد، أنت خالها فما ترى؟ قال له: أحبّ أن تجعل أمرها بيدي. قال: هو بيدك! فدخل حسين بن عليّ على الجارية، فقال: إنّ أباكِ قد جعل أمركِ بيدي فاجعلى أمركِ بيدي. فقالت: هو بيدك! فخرج حسين، فقال: اللهمّ أقدر لها خير من تعلم! فلقي شابّاً منهم، فقال: يا فلان اجعل أمرك بيدي! فقال: هو بيدك.
و كتب معاوية إلى مروان بن الحكم، و هو أمير المدينة: إنّني خطبت إلى أبي جعفر ابنته فاشترط رضا حسين، فأدعه إليك حتى يسلّم! فجمع مروان الناس و جاء بالدفّ و السُّكَّر، و دعا حسيناً فقال: إنّ أمير المؤمنين كتب إليّ أنّه خطب إلى عبد الله بن جعفر، و اشترط رضاك، فسلّم له! فحمد الله حسين و أثنى عليه، ثمّ قال: أشهدكم أنّي قد زوّجتها فلاناً - يعني الشابّ الذي لقيه - فقال مروان: أبيتم يا بني هاشم إلّا غدراً. فقال له حسين: نشدتك بالله هل تعلم أنّ الحسن بن عليّ خطب ابنة عثمان بن
عفّان، فاجتمع الناس مثل اجتماعهم الآن، و حضر الحسن لذلك، فجئت أنتَ فخطبت ثمّ زوّجتها غيره؟! فقال: نعم! قال الحسين: فمن الغادر نحن أم أنتم؟ ثمّ أعطى حسين عبد الله بن جعفر أرضاً له يقال لها البُغَيْبغة. فباعها من معاوية بألفي ألف، و أعطى الشابَّ الذي زُوِّج أرضاً له اخرى قوّمت ألفي ألف. و أعطى من صلب ماله قيمة أربعة آلاف ألف.
المشاعر و العواطف البشريّة عند الأئمّة عليهم السلام
كان الأئمّة عليهم السلام يريدون أمراً أحياناً، و يقدّر الله غيره. سئل أمير المؤمنين عليه السلام: بِمَا ذَا عَرَفْتَ رَبَّكَ؟!
فَقَالَ: بِفَسْخ العَزَائِمِ وَ نَقْضِ الهِمَمِ. لَمَّا هَمَمْتُ فَحِيلَ بَيْنِي وَ بَيْنَ هَمِّي. وَ عَزَمْتُ فَخَالَفَ القَضَاءُ وَ القَدَرُ عَزْمِي. عَلِمْتُ أنَّ المُدَبِّرَ غَيْرِي!
و روى في «نهج البلاغة»: عَرَفْتُ اللهَ سُبْحَانَهُ بِفَسْخِ العَزَائِمِ وَ حَلِّ العُقُودِ.۱
وَ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُسَلِّمُ عَلَى النِّسَاءِ وَ يَكْرَهُ السَّلَامَ عَلَى الشَّابَّةِ مِنْهُنَّ، فَقِيلَ لَهُ في ذَلِكَ. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أ تَخَوَّفُ أنْ يُعْجِبَنِي صَوْتُهَا فَيَدْخُلَ عَلَيّ أكْثَرُ مِمَّا طَلَبْتُ مِنَ الأجْرِ.٢
قال الشيخ المفيد: روى عبد الله بن ميمون القدّاح عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنّه قال: اصْطَرَعَ الحَسَنُ وَ الحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إيهاً۱ حَسَنُ! خُذْ حُسَيْناً!
فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أ تَسْتَنْهِضُ الكَبِيرَ عَلَى الصَّغِيرِ؟!
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: هَذَا جَبْرَئِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ لِلحُسَيْنِ: إيهاً حُسَيْنُ خُذِ الحَسَنَ.٢
و كان سيّد الشهداء عليه السلام شديد الحبِّ لسُكينة و امّها الرباب. و كانت الرباب ابنة امرئ القيس. و تتضمّن قصّة زواجها منه شرحاً لطيفاً.٣
قال أبو الفرج: حدّثني عوف بن خارجة المُرّيّ قال: و الله إنّي لعند عمر بن الخطّاب في خلافته إذ أقبل رجل أفحج أجلح أمعر۱ يتخطّى رقابَ الناس حتى قام بين يدي عمر فحيّاه بتحيّة الخلافة. فقال له عمر: فمن أنتَ؟ قال: أنا امرؤ نصرانيّ، أنا امرؤ القيس بن عديّ الكلبيّ!٢ قال: فعرفه عمر.
فقال له رجل من القوم: هذا صاحب بكر بن وائل الذي أغار عليهم في الجاهليّة يوم فلج.
قال عمر: فما تريد؟! قال: أريد الإسلام. فعرضه عليه عمر فقبله. ثمّ دعا له برمح فعقد له على من أسلم بالشام من قضاعة. فأدبر الشيخ و اللواء يهتزّ على رأسه.
قال عوف: فو الله ما رأيت رجلًا لم يُصلّ للّهِ جلّ و عزّ ركعة قطّ امِّر على جماعة من المسلمين قبله.
و نهض عليّ بن أبي طالب عليه السلام من المجلس و معه ابناه الحسن و الحسين عليهما السلام حتى أدركه. فأخذ بثيابه، فقال له: يا عَمِّ! أنَا عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ وَ صِهْرُهُ، وَ هَذَانِ ابْنَايَ الحَسَنُ وَ الحُسَيْنُ مِن ابْنَتِهِ وَ قَدْ رَغِبْنَا في صِهْرِكَ فَأنْكِحْنَا!
فَقَالَ: قَدْ أنْكَحْتُكَ يَا عَلِيّ المَحْيَاةَ: ابْنَةَ امْرِئ القَيْسِ! وَ أنْكَحْتُكَ
يَا حَسَنُ سَلْمَي: ابْنَةَ امْرِئ القَيْسِ! وَ أنْكَحْتُكَ يَا حُسَيْنُ الرَّبَابَ: ابْنَةَ امْرِئ القَيْسِ!۱
مشاعر سيّد الشهداء عليه السلام و عواطفه يوم عاشوراء
نرى من الضروريّ هنا أن نذكّر أنّ بعض السفهاء يظنّون أنّ وقائع عاشوراء كانت هيّنةً عاديّة على سيّد الشهداء عليه السلام. و أنّ المعاناة و المشقّة و العطش و الجرح و القتل و الأسر كلّها امور سهلة يسيرة، إذ إنّ الإمام عليه السلام ذا الروح الملكوتيّة لا يؤثّر عليه العطش و الجوع و الجرح و الشمس و السيف البتّار. فهو يواجه هذه الأشياء كلّها بوجوده النورانيّ و التجرّديّ و كأنّها حلواء لذيذة الطعم. ثمّ يتعجّبون من عليّ الأكبر كيف قال لأبيه: العطش قتلني، و ثقل الحديد أجهدني؟!
و يجيبون أنّ أباه روّاه بوضع لسانه أو خاتمه في فيه. و المراد من ثقل الحديد ليس ثقل الدرع، بل هو كناية عن عظمة الجيش المتدرّع بالحديد الحامل للسيوف إذ يحول دون حملته.٢
و هذا فهم غير سديد. فقد كان سيّد الشهداء عليه السلام بشراً له جسم طبيعيّ. و كان يُدرك العطش جيّداً، و يشعر بالجرح جيّداً، و يحسّ بعويل النساء و صيحات الأطفال: العطش العطش. بل كان أكثر منّا في ذلك بكثير لأنّه كان إنساناً كاملًا. و يستلزم الكمال في الإنسانيّة ظهور المحبّة و المودّة للمخلوقات الإلهيّة، و إدراك اللوازم البدنيّة و الطبيعيّة التي تعدّ شرطاً لمقام جمع الجمع بنحو أعمق في نفسه.
أجل، إنّ عشقه للّه، و تفانيه في القرآن و السنّة النبويّة، و منهاج
الولاية العلويّة، و بصيرته و عمق و عيه لانحراف التأريخ و التفسير و الحديث و غصب الحكّام الغرباء عن الدين و معارفه، الذين وصل بهم الدور إلى يزيد الفاسق الفاجر، كلّ ذلك قد ضيّق عليه الدنيا فلم يجد دواءً مفيداً لتنبيه الناس إلّا الشهادة و الجراح و الأسر. و لذا سنّ هذا المنهاج بعشق، و تحرّك للقضاء على الحكومة الأمويّة المتفرعنة، تلك الحركة التي لا تتوقّف و لا رجعة فيها، و إن كانت واقعة الطفّ قد حدثت في منتصف الطريق فَسَلَامٌ عَلَيْهِ ثُمَّ سَلَامٌ عَلَيْهِ ثُمَّ سَلَامٌ عَلَيْهِ. وَ اللَّعْنُ عَلَى عَدُوِّهِ، ثُمَّ اللَّعْنُ عَلَى عَدُوِّهِ، ثُمَّ اللَّعْنُ عَلَى عَدُوِّهِ.
أ رأيتم كيف أثّر عليه استشهاد فِلْذَتَي كَبدهِ: عليّ الأكبر و طفله الرضيع، فسوّد الدنيا في عينيه؟ بَيدَ أنّه تلقّى ذلك بعشق لأنّه كان للهِ وَ في سَبِيلِ اللهِ وَ إلى اللهِ.
استشهاد الطفل الرضيع يوم الطفّ
الطفل الرضيع امّه الرباب۱ ابنة امرئ القيس بن عديّ، و امّها هند الهنود. قال السيّد ابن طاووس رحمه الله: و لمّا رأى الحسين عليه السلام مصارع فتيانه و أحبّته، عزم على لقاء القوم بمهجته و نادى: هَلْ مِنْ ذَابٍّ يَذُبُّ عَنْ حَرَمِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؟! هَلْ مِنْ مُوَحِّدٍ يَخَافُ اللهُ فِينَا؟! هَلْ مِنْ مُغِيثٍ يَرْجُو اللهَ بِإغاثَتِنَا؟! هَلْ مِنْ مُعينٍ يَرْجُو مَا عِنْدَ اللهِ في إعانَتِنَا؟!
فارتفعت أصوات النساء بالعويل. فتقدّم إلى باب الخيمة و قال لزينب: نَاوِلِينِي وَلَدِيَ الصَّغِيرَ حتى اوَدِّعَهُ. فَأخَذَهُ وَ أوْمَأ إلَيْهِ لِيُقَبِّلَهُ، فَرَمَاهُ حَرْمَلَةُ بْنُ كَاهِلِ الأسَدِيّ لَعَنَهُ اللهُ بِسَهْمٍ فَوَقَعَ في نَحْرِهِ فَذَبَحَهُ.
در كمان بنهاد تيرى حرمله | *** | او فتاد اندر ملايك غلغله |
رست چون تير از كمان شوم او | *** | پر زنان بنشست بر حلقوم او |
چون دريد آن حلق، تير جانگداز | *** | سر ز باروى يد الله كرد باز |
تا كمان زه خورده چرخ پير را | *** | كس نديده دو نشان يك تير را |
شه كشيد آن تير و گفت أي داورم | *** | داورى خواه از گروه كافرم |
نيست اين نوباوه پيغمبرت | *** | از فصيل ناقهاى كم در برت۱ |
و ما أجمل قول الشاعر و هو يصوّر هذا المنظر!
وَ مُنْعَطِفٍ أهْوَى لِتَقْبيلِ طِفْلِهِ | *** | فَقَبَّلَ مِنْهُ قَبْلَهُ السَّهْمُ مَنْحَرا |
فقال عليه السلام لزينب: خُذِيهِ، ثُمَّ تَلَقَّى الدَّمَ بِكَفَّيْهِ فَلَمَّا امْتَلأتَا رَمَى بِالدَّمِ نَحْوَ السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: هَوَّنَ عَلَيّ مَا نَزَلَ بِي أنَّهُ بِعَيْنِ اللهِ!
و في «الاحتجاج»: أنّه لمّا بقي فرداً ليس معه أحد إلّا ابنه عليّ بن الحسين، و ابن آخر في الرضاع اسمه عبد الله، أخذ الطفل ليودّعه، فاذا بسهم قد أقبل حتى وقع في لبة الصبيّ فقتله. فنزل عن فرسه و حفر للصبيّ بجفن سيفه و رمّله بدمه و دفنه.٢
هذا الطفل الرضيع الذبيح و سكينة من امّ واحدة، و هي الرباب ابنة امرئ القيس، المارّ ذكرها. و كان سيّد الشهداء عليه السلام شديد الحبّ لسكينة و الرباب، و هما أيضاً كانتا تحبّانه إلى درجة أنّ ابن الأثير ذكر في أحوال الرباب زوجة الحسين عليه السلام أنّها بقيت بعده سنة لم يظلّها سقف بيت حتى بليت و ماتت كَمَداً. و قيل: إنّها أقامت على قبره سنةً و عادت إلى المدينة فماتت أسفاً عليه.
أمّا حبّ الحسين عليه السلام لسكينة فقد بلغ مبلغاً أنّه خاطبها بقوله: لا تحرقي قلبي بدمعك حسرةً!
لاحظوا مدى مقام مودّته في عالم الكثرات على أساس محبّة عالم الوحدة كم كان رفيعاً عالياً صحيحاً، إذ إنّ قطرات من دموع ابنته العزيزة تحرق قلبه حسرةً. هذه كلّها نكات و حِكَم.
ذكر المرحوم المحدِّث القمّيّ و المرحوم آية الله الشعرانيّ أنّه روى في بعض المقاتل أنّ الحسين عليه السلام لمّا نظر إلى اثنين و سبعين رجلًا من أهل بيته صرعى التفت إلى الخيمة و نادى: يَا سُكَيْنَةُ! يَا فَاطِمَةُ! يَا زَيْنَبُ! يَا امَّ كُلْثُومَ! عَلَيْكُنَّ مِنِّي السَّلَامُ۱! فنادته سكينةُ: يَا أبَه! استَسْلَمْتَ لِلمَوْتِ؟! فَقَالَ: كَيْفَ لَا يَسْتَسْلِمُ لِلمَوْتِ مَن لَا نَاصِرَ لَهُ وَ لَا مُعِينَ؟!
... فَأقْبَلَتْ سُكَيْنَةُ وَ هي صَارِخَةٌ وَ كَانَ يُحِبُّهَا حُبَّاً شَدِيداً. فَضَمَّها إلى صدره و مسح دموعها و قال:
سَيَطُولُ بَعْدِي يَا سُكَيْنَةُ فَاعْلَمِي | *** | مِنْكِ البُكَاءُ إذَا الحِمَامُ دَهَانِي |
لَا تُحْرِقِي قَلْبِي بِدَمْعِكِ حَسْرَةً | *** | مَا دَامَ مِنِّي الرُّوحُ في جُثْمَانِي |
فَاذَا قُتِلْتُ فَأنْتِ أولى بِالَّذِي | *** | تَبْكِينَهُ يَا خَيْرَةَ النِّسْوَانِ٢ |
أجل، لم أجد في المقاتل أنّ اسم الطفل الرضيع، الذي استُشهد و امّه الرباب، عليّ أو عليّ الأصغر. و ذكر البعض أنّ اسمه عبد الله. بَيدَ أنّ الثابت عندي هو أنّ هذا الطفل اختار الشهادة بإرادته و اختياره و لبّى نداء أبيه. و هذا سرّ من أسرار عالم الخلقة، إذ تمليك الأطفال إدراكاً و اختياراً و قوّة معنويّة للجذب و التنفير. فلهذا ضحّى هذا الطفل الرضيع بنفسه على منهاج أبيه.
وَ السَّلَامُ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ صَارَ عَطْشَاناً وَ يَوْمَ ذُبِحَ في يَدَيْ أبِيهِ قَبْلَ أنْ يُقَبِّلَهُ وَ يُوَدِّعَهُ.
فضائل عليّ الأكبر عليه السلام و استشهاده
وَ أمَّا استشهاد عليّ الأكبر روح سيّد الشهداء عليهما السلام، فالثابت أنّه كان أكبر ولد الإمام عليه السلام، و كان له من العمر خمس و عشرون سنةً و له زوجة و ولد.۱ و كان أشبه الناس بجدّه الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله و سلّم خَلقاً و خُلُقاً و منطقاً.
في «إرشاد» المفيد: امّه ليلى ابنة أبي مُرَّة بن عُروة بن مسعود الثقفيّ
من بني ثقيف. جدّه عروة بن مسعود هو أحد السادة الأربعة في الإسلام، و أحد رجلين عظيمين في قوله تعالى حكاية عن كفّار قريش: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ.۱
و هو الذي أرسلته قريش إلى النبيّ صلى الله عليه و آله يوم الحديبيّة فعقد معه الصُّلح و هو كافر. ثمّ أسلم سنة تسع من الهجرة بعد رجوع المصطفى من الطائف، و استأذن النبيّ صلى الله عليه و آله في الرجوع لأهله. فرجع و دعا قومه إلى الإسلام. فرماه واحد منهم بسهمٍ و هو يؤذّن للصلاة فمات. فقال رسول الله صلى الله عليه و آله لمّا بلغه ذلك: مثل عروة مثل صاحب يس دعا قومه إلى الله فقتلوه.
(كذا في «شرح الشمائل المحمّديّة» في شرح قوله صلى الله عليه و آله: و رأيتُ عيسى ابن مريم عليه السلام فاذا أقرب من رأيتُ به شبهاً عروة بن مسعود).
روى الجَزَريّ في «اسد الغابة» عن ابن عبّاس أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: أربعة سادة في الإسلام: بِشر بن هلال العبديّ، و عديّ بن حاتم الطائيّ، و سُراقة بن مالك المُدلَجيّ، و عُروة بن مسعود الثقفيّ.
و قال في «الملهوف»: مِنْ أصْبَحِ النَّاسِ وَجْهاً وَ أحْسَنِهِمْ خُلْقاً، فَاسْتَأذَنَ أبَاهُ في القِتَالِ، فَأذِنَ لَهُ، ثُمَّ نَظَرَ إلَيْهِ نَظَرَ آيِسٍ مِنْهُ وَ أرْخَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَيْنَهُ وَ بَكَى.
و روى محمّد بن أبي طالب في مقتله إنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَفَعَ شَيْبَتَهُ نَحْوَ السَّمَاءِ وَ قَالَ: اللَهُمَّ اشْهَدْ عَلَى هَؤلَاءِ القَوْمِ فَقَدْ بَرَزَ إلَيْهِمْ غُلَامٌ أشْبَهُ
النَّاسِ خَلْقاً وَ خُلْقاً وَ مَنْطِقاً بِرَسُولِكَ. كُنَّا إذَا اشْتَقْنَا إلَى نَبِيِّكَ نَظَرْنَا إلَى وَجْهِهِ.
اللَهُمَّ امْنَعْهُمْ بَرَكَاتِ الأرْضِ، وَ فَرِّقْهُمْ تَفْرِيقاً، وَ مَزِّقْهُمْ تَمْزِيقاً، وَ اجْعَلْهُمْ طَرَائِقَ قِدَداً، وَ لَا تُرْضِ الوُلَاةَ عَنْهُمْ أبَداً! فَإنَّهُمْ دَعَوْنَا لِيَنْصُرُونَا ثُمَّ عَدَوْا عَلَيْنَا يُقَاتِلُونَنَا.
ثمّ صاح بعمر بن سعد: مَا لَكَ؟ قَطَعَ اللهُ رَحِمَكَ،۱ وَ لَا بَارَكَ اللهُ لَكَ في أمْرِكَ، وَ سَلَّطَ عَلَيْكَ مَنْ يَذْبَحُكَ بَعْدِي عَلَى فِرَاشِكَ كَمَا قَطَعْتَ رَحِمِي وَ لَمْ تَحْفَظْ قَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ. ثُمَّ رَفَعَ صَوْتَهُ وَ تَلَا: «إنَّ اللهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَ نُوحًا وَ ءَالَ إبْرَاهِيمَ وَ ءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ* ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَ اللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.٢
و عن «أمالى» الصدوق، و «روضة الواعظين» لابن فتّال: و برز من بعده (أي: بعد عبد الله بن مسلم بن عقيل) عليّ بن الحسين عليه السلام. فلمّا برز إليهم دمعت عين الحسين عليه السلام فقال: اللَهُمَّ كُنْ أنْتَ الشَّهِيدَ عَلَيْهِمْ فَقَد بَرَزَ إلَيْهِمْ ابْنُ رَسُولِكَ وَ أشْبَهُ النَّاسِ وَجْهاً وَ سَمْتاً بِهِ!
و قال محمّد بن أبي طالب: رفع الحسين عليه السلام سبّابته نحو السماء (و في نسخة: قبض على لحيته) كما قال الشاعر:
شه عشّاق، خلّاق محاسن | *** | به كف بگرفت آن نيكو محاسن |
به آه و ناله گفت: أي داور من | *** | سوى ميدان كين شد أكبر من |
به خَلق و خُلق آن رفتار و كردار | *** | بُد اين نو رسته همچون شاه مختار۱ |
و أخذ عليّ الأكبر عليه السلام يرتجز و يقول:
أنَا عَلِيّ بْنُ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِي | *** | نَحْنُ وَ بَيْتِ اللهِ أولى بِالنَّبِي |
مِنْ شَبَثٍ وَ شَمِرٍ٢ ذَاكَ الدَّنِي | *** | أضْرِبُكُمْ بِالسَّيْفِ حتى يَنْثَنِي |
ضَرْبَ غُلَامٍ هَاشِميّ عَلَوِي | *** | وَ لَا أزَالُ اليَوْمَ أحْمِي عَنْ أبِي |
تَاللهِ لَا يَحْكُمُ فِينَا ابْنُ الدَّعِي | *** | ... |
و شدّ على الناس مراراً - و قال في «روضة الصفا»: - اثنتي عشرة مرّة - و قتل منهم جمعاً كثيراً حتى ضجّ الناس من كثرة مَن قُتِلَ منهم. و روى أنّه قتل على عطشه مائة و عشرين رجلًا. و في «المناقب»: أنّه قتل سبعين مبارزاً. ثمّ رجع إلى أبيه و قد أصابته جراحات كثيرة فقال:
يَا أبَة! العَطَشُ قَدْ قَتَلَنِي وَ ثِقْلُ الحَدِيدِ أجْهَدَنِي، فَهَلْ إلَى شَرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ سَبِيل أتَقَوَّى بِهَا على الأعْدَاءِ؟٣
فَبَكَى الحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ قَالَ: وا غَوْثَاهُ! يَا بُنَيّ قَاتِلْ قَلِيلًا! فَمَا أسْرَعَ مَا تَلْقَى جَدَّكَ مُحَمَّداً صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَيَسْقِيكَ بِكَأسِهِ الأوْفَى شَرْبَةً لَا تَظْمَأ بَعْدَهَا أبَداً!۱ فرجع إلى القتال و هو يقول:
الحَرْبُ قَدْ بَانَتْ لَهَا الحَقَائِقُ | *** | وَ ظَهَرَتْ مِنْ بَعْدِهَا مَصَادِقُ |
وَ اللهِ رَبِّ العَرْشِ لَا نُفَارِقُ | *** | جُمُوعَكُمْ أوْ تُغْمَدَ البَوَارِقُ |
فلم يزل يقاتل حتى قتل إتمام المائتين، و كان أهل الكوفة يتّقون قتله. فبصر به مُرّة بن مُنقِذ بن النُّعمان العَبْديّ الليْثيّ فقال: عَلَيّ آثام العرب إن مرّ بي يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أثكله أباه! فمرّ يشدّ على الناس بسيفه فاعترضه مُرّة بن منقذ فطعنه فصُرع.
في «الإرشاد»، و «تاريخ الطبريّ»: اعترضه مُرّة، و طعنه، فصرعه. و احتواه الناس فَقَطَّعُوهُ بِأسْيَافِهِمْ إرباً إرباً.
و قال أبو الفرج: و جعل يكرّ كرّة بعد كرّة حتى رُميَ بسهمٍ فوقع في
حلقه فخرقه. و أقبل ينقلب في دمه، ثمّ نادى: يَا أبَتَاهُ عَلَيْكَ السَّلَامُ! هذا جدّي رسول الله صلى الله عليه و آله يقرئك السلام و يقول: عَجّل القدومَ إلينا. وَ شَهِقَ شَهْقَةً فَارَقَ الدُّنْيَا.
و في بعض المقاتل: ثمّ ضربه منقذ بن مُرّة العبديّ لعنه الله على مفرق رأسه ضربةً صرعته و ضربه الناس بأسيافهم.
ثمّ اعتنق فرسه فاحتمله الفرس إلى عسكر الأعداء فَقَطَّعُوهُ بِسِيُوفِهِمْ إرْباً إرْباً. فَلَمَّا بَلَغَتِ الرُّوحُ التَّرَاقِي قَالَ رَافِعاً صَوْتَهُ: يَا أبَتَاهُ! هَذَا جَدِّي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَدْ سَقَانِي بِكَأسِهِ الأوْفَى شَرْبَةً لَا أظْمَأ بَعْدَهَا أبَداً وَ هُوَ يَقُولُ: العَجَلَ! فَإنَّ لَكَ كَأساً مَذْخُورَةً حتى تَشْرَبَهَا السَّاعَةَ!
سوى لشكر گه دشمن شدى تفت | *** | ندانم كه كرا برد و كجا رفت |
همى دانم كه جسم جان جانان | *** | مقطَّع گشت چون آيات قرآن |
چو رفت از دست شاه عشق دلبند | *** | دوان شد از پى گم گشته فرزند |
صف دشمن دريدى از چپ و راست | *** | نواى الحذر از نينوا خاست۱ |
عُقابى ديد ناگه پر شكسته | *** | على افتاده زين از هم گسسته |
سرى بى افسر و فرقى دريده | *** | به جانان بسته جان، از خود بريده |
فرود آمد ز زين آن با جلالت | *** | چو پيغمبر ز معراج رسالت |
بگفت با آن چكيده جان عشقش | *** | پس از تو خاك بر دنيا و عيشش۱ |
قال حميد بن مسلم: سماع اذنى يومئذٍ من الحسين عليه السلام يقول: قَتَلَ اللهُ قَوْماً قَتَلُوكَ يَا بُنَيّ! مَا أجْرَأهُم عَلَى الرَّحْمَنِ وَ عَلَى انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الرَّسُولِ. وَ انْهَمَلَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ ثُمَّ قَالَ: عَلَى الدُّنْيَا بَعْدَكَ العَفَا!٢
چو رفت از دست شاه عشق پيوند | *** | روان شد از پى گم گشته فرزند |
توانائى شدش از تن، ز سر هوش | *** | گرفت آن پيكر خونين در آغوش٣ |
چو آوردند تمثال پيمبر | *** | برون از خيمه آمد دخت حيدر |
روان شد سوى نعش برگزيده | *** | به دنبالش زنان داغديده |
چنان زد صيحه ليلاي۱ جگر خون | *** | كه عقل ما سِوى گرديد مجنون٢ |
***
سر نهادش بر سر زانوى ناز | *** | گفت كاى باليده سرو سر فراز |
أي درخشان اختر برج شرف | *** | چون شدى سهم حوادث را هدف |
أي به طرف ديده خالى جاى تو | *** | خيز تا بينم قد رعناى تو٣ |
بيش از اين بابا دلم را خون مكن | *** | زادة ليلى مرا مجنون مكن |
أي نگارين آهوى مشگين من | *** | با تو روشن چشم عالم بين من |
رفتى و بردى ز چشم باب تاب | *** | أكبرا بى تو جهان بادا خراب |
تو سفر كردى و آسودى ز غم | *** | من در اين وادى گرفتار الم۱ |
***
يَا كَوْكَباً مَا كَانَ أقْصَرَ عُمْرَهُ | *** | وَ كَذَا تَكُونُ كَوَاكِبُ الأسْحَارِ |
عَجِلَ الخُسُوفُ إلَيْهِ قَبْلَ أوَانِه | *** | فَغَشَاهُ قَبْلَ مَظَنَّةِ الإبْدَارِ٢ |
إنَّ الكَوَاكِبَ في مَحَلِّ عُلُوِّهَا | *** | لَتُرَى صِغَاراً وَ هي غَيْرُ صِغَارِ |
أبْكِيهِ ثُمَّ أقُولُ مُعْتَذِراً لَهُ | *** | رَفَقْتَ حِينَ تَرَكْتَ ألأمَ دَارِ |
فَاذَا نَطَقْتُ فَأنْتَ أوَّلُ مَنْطِقِي | *** | وَ إذَا سَكَتُّ فَأنْتَ في مِزْمَارِي٣ |
حُكْمُ المَنِيَّةِ في البَرِيَّةِ جَارِي | *** | مَا هَذِهِ الدُّنْيَا بِدَارِ قَرَارِ |
وَ مُكَلِّفُ الأيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا | *** | مُتَطَلِّبٌ في المَاءِ جَذْوَةَ نَارِ |
طُبِعَتْ عَلَى كَدَرٍ وَ أنْتَ تُرِيدُهَا | *** | صَفْواً مِنَ الأقْذَارِ وَ الأكْدَارِ |
وَ إذَا رَجَوْتَ المُسْتَحِيلَ فَإنَّمَا | *** | تَبْنِي الرَّجَاءَ عَلَى شَفِيرٍ هَارِ |
إنِّي لأرْحَمُ حَاسِدِيّ لِحَرِّ ما | *** | ضَمِنَتْ صُدُورُهُمْ مِنَ الأوْغَارِ |
نَظَرُوا صَنِيعَ اللهِ بِي فَعُيُونُهُمْ | *** | في جَنَّةٍ وَ قُلُوبُهُمْ في نَارِ |
يَا كَوْكَباً مَا كَانَ أقْصَرَ عُمْرَهُ | *** | وَ كَذَاكَ عُمْرُ كَوَاكِبِ الأسْحَار |
جَاوَرْتُ أعْدَائِي وَ جَاوَرَ رَبَّهُ | *** | شَتَّانَ بَيْنَ جِوَارِهِ وَ جِوَارِي |
وَ تَلَهُّبُ الأحْشَاءِ شَيَّبَ مَفْرَقِي | *** | هَذَا الشُّوَاظُ دُخَانُ تِلْكَ النَّارِ |
قال المحدِّث القمّيّ نقلًا عن الطبريّ، و أبي الفرج، و ابن طاووس، عن الشيخ المفيد رحمه الله:
وَ خَرَجَتْ زَيْنَبُ اخْتُ الحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُسْرِعَةٌ تُنَادِي: يَا اخَيَّاهْ وَ ابْنَ اخَيَّاهْ! وَ جَاءَتْ حتى أكَبَّتْ عَلَيْهِ. فَأخَذَ الحُسَيْنُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِرَأسِهَا فَرَدَّهَا إلَى الفُسْطَاطِ وَ أمَرَ فِتْيَانَهُ فَقَالَ: احْمِلُوا أخَاكُمْ (و في ط و ح) فَحَمَلُوهُ مِنْ مَصْرَعِهِ حتى وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَي الفُسْطَاطِ الذي كَانُوا يُقَاتِلُونَ أمَامَهُ.
أنشد جدّ آية الله الشعرانيّ رحمهما الله في ذلك قائلًا:
چو آفتاب بر آمد ز خيمه خورشيدى | *** | كه آفتاب نميديد هيچگه رويش |
ز داغ سرو قدى مو كَنان و مويهكُنان | *** | بسان فاخته هر سو خروش كو كويش۱ |
قال الطريحيّ: روى أنّه لمّا قُتل عليّ بن الحسين عليه السلام في طفّ كربلاء، أقبل عليه الحسين عليه السلام و عليه جبّة دكناء و عمامة مورّدة و قد أرخى لها غرزتين، فقال مخاطباً له:
أمَّا أنْتَ يَا بُنَيّ فَقَدِ اسْتَرَحْتَ مِنْ كَرْبِ الدُّنْيَا وَ غَمِّهَا وَ مَا أسْرَعَ اللُّحُوقَ بِكَ!
و قال المرحوم المحدِّث القمّيّ رحمه الله بعد بحثٍ دار حول عليّ الأكبر عليه السلام في أنّه أوّل شهيد من أهل بيت سيّد الشهداء عليه السلام ذاكراً الدليل ممّا اختاره الطبريّ، و الجزريّ، و الأصفهانيّ، و الدينوريّ، و الشيخ المفيد، و السيّد ابن طاووس، و غيرهم: و يؤيّد ذلك الزيارة المشتملة على أسامي الشهداء:
السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أوَّلَ قَتِيلٍ مِنْ نَسْلٍ خَيْرِ سَلِيلٍ.۱
و قال أيضاً: و اختلفوا أيضاً في سنّه الشريف اختلافاً عظيماً ... فيكون هو الأكبر، و هذا هو الأصحّ و الأشهر.
قال فحل الفقهاء الشيخ الأجلّ محمّد بن إدريس الحلّيّ في «السرائر» في خاتمة كتاب الحجّ: فإذا كانت الزيارة لأبي عبد الله الحسين عليه السلام يزار ولده عليّ الأكبر، و امّه ليلى ابنة أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفيّ، و هو أوّل قتيل في الوقعة يوم الطفّ من آل أبي طالب عليه السلام.
و ولد عليّ بن الحسين هذا في إمارة عثمان. و قد روى عن جدّه عليّ ابن أبي طالب عليه السلام. و قد مدحه الشعراء. و روى عن أبي عبيدة و خلف الأحمر أنّ هذه الأبيات قيلت في عليّ بن الحسين الأكبر المقتول بكربلاء قدّس الله روحه:
لَمْ تَرَ عَيْنٌ نَظَرَتْ مِثْلَهُ | *** | مِنْ مُحْتَفٍ يَمْشِي وَ لَا نَاعِلِ |
يُغْلِي بِنَيّ٢ اللَّحْمِ حتى إذَا | *** | انْضِجَ لَمْ يَغْلِ عَلَى الآكِلِ |
كَانَ إذَا شَبَّتْ لَهُ نَارُهُ | *** | يُوقِدُهَا بِالشَّرَفِ الكَامِلِ |
كَيْمَا يَرَاهَا بَائِسٌ مُرْمِلٌ | *** | أوْ فَرْدُ حَيّ لَيْسَ بِالآهِلِ |
أعْنِي ابْنَ لَيْلَى ذَا السَّدَى وَ النَّدَى | *** | أعْنِي ابْنَ بِنْتِ الحَسَبِ الفَاضِلِ |
لَا يُؤْثِرُ الدُّنْيَا عَلَى دِينِهِ | *** | وَ لَا يَبِيعُ الحَقَّ بِالبَاطِلِ |
عليّ الأكبر عليه السلام من منظار معاوية
إلى أن قال المحدِّث القمّيّ:
و يؤيّد ذلك مضمون الأبيات الواردة في مدحه عليه السلام، و ما رواه
أبو الفرج عن المغيرة قال: قال معاوية: مَنْ أحَقُّ النَّاسِ بِهَذَا الأمْرِ؟
قَالُوا: أنْتَ!
قَالَ: لَا! أولى النَّاسِ بِهَذَا الأمْرِ عَلِيّ بْنُ الحُسَيْنِ بْنُ عَلِيّ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، جَدُّهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، وَ فِيهِ شَجَاعَةُ بَنِي هَاشِمٍ، وَ سَخَاءُ بَنِي امَيَّةَ، وَ زَهْوَ ثَقِيفٍ.
هذا الكلام، و تلك الأبيات المذكورة في علوّ الصفات، و قول معاوية الجدير بالثناء: إنّه أولى الناس بخلافة رسول الله، كلّ ذلك يدلّ على أنّه لم يكن ابن ثماني عشرة سنةً، لأنّ صبيّاً مثله لا يقال فيه هذا الكلام.
ذكر أبو جعفر الطبريّ في منتخب «ذيل المُذَيَّل» في تأريخ الصحابة و التابعين:
أنّ امّ عليّ هي آمنة ابنة أبي مُرَّة بن عروة بن مسعود، و امّها ابنة أبي سفيان.
و قال حسّان بن ثابت في مدح عليّ الأكبر:
طَافَتْ بِنَا شَمْسُ النَّهَارِ وَ مَنْ رأى | *** | مِنَ النَّاسِ شَمْساً بِالعِشَاءِ تَطُوفُ؟ |
أبُو امِّهَا أوْفَى قُرَيْشٍ بِذِمَّةٍ | *** | وَ أعْمَامُهَا إمَّا سَألْتَ ثَقِيفُ |
و منهم من ينسب هذين البيتين إلى عمر بن أبي ربيعة، و يروي «شمس العشاء» مكان «شمس النهار».۱
من هنا كان معاوية يراه أهلًا للخلافة لانتسابه الثلاثيّ. أمّا سخاء بني اميّة الذي عدّه من فضائلهم فهو كذب محض. فالسخاء كلّه سخاء بني هاشم. و الأموال التي كان يبذّرها معاوية من بيت مال المسلمين بلا حساب من أجل حكومته و إمارته الشيطانيّة، لا ينبغي أن نحسبها سخاءً.
و جملة القول: استبان ممّا جاء في هذا البحث أنّ عليّ الأكبر عليه السلام لم يكن ذلك القويّ الذي لا تؤثّر فيه ضربات الأسلحة من سيف و رمح و غيرهما. كما لم يكن مضطرّاً في تحرّكه و استشهاده، فيأخذ سيفه و يقتل به الكفّار تلقائيّاً. و هو نفسه قال: أبَه! العطش قتلني و ثقل الحديد أجهدني. و لم يكن عند أبيه ماء فيُعطيه. و لم يرد أن يعمل خلاف سنّة الجهاد، و القتل في سبيل الله، و التضحية في سبيل الدين، فيقوم بمعجزة أو كرامة، و إلّا فانّه كان قادراً على ذلك بسهولة، و حينئذٍ لم تكن كربلاء بهذا
الشكل الذي نعهده.
عند ما قال رسول الله للحسين عليهما الصلاة و السلام: وَ إنَّ لَكَ في الجِنَانِ لَدَرَجَاتٍ لَنْ تَنَالَهَا إلَّا بِالشَّهَادَةِ!۱ فهذا يعني أنّ عليك أن تذهب في سفرك خطوة خطوة بإرادتك و اختيارك متحمّلًا المشاقّ و المصائب، و صابراً في سبيل الله، و مضحّياً بنفسك و بابنك عليّ الأكبر، بتلك الكيفيّة المعهودة، حتى تبلغ مقصودك!
و هذا السيّد الأمير الحرّ الذي هو مثال النبيّ يجب أن يكون رفيقك في هذا الطريق بنحوٍ يتحقّق فيه هُو الهُويَّة الحقيقيّة من نفسيكما الروحانيّتين لجميع أهل العالم، و تُروى جذور شجرة الإسلام التي يبست، و تنقرض حكومة بني اميّة: معاوية و يزيد و بني مروان، و لا يبقى لهم أثر. و يتّضح لكافّة أهل هذا العالم و ذلك العالم الملكوتيّ أنّ الحقّ غير الباطل.
كان عليّ الأكبر أمل قلب أبيه. فرع من شجرة، و وشيجة من ساق. و هو كأبيه في اسلوب تفكيره و مرامه و مقصده. و ينطبق عليه ما قيل: كَأنَّهُ هُوَ، بَلْ إنَّهُ هُوَ.
لذا عاد إلى ميدان القتال، و قاتل بجسمه الجريح و لَبانه الذاوي و فمه الجافّ و كبده الحرّان في شدّة حرارة الصيف، إذ كان يوم عاشوراء الخامس و العشرين من السرطان على أساس المحاسبة النجوميّة. أجل، قاتل قتالًا أدهش الصديق و العدوّ، و هو يقول: أحْمِي عَنْ أبِي. لهذا له في يوم القيامة مقام لا يناله الشهداء و الصدِّيقون.
حوار عليّ الأكبر مع الإمام الحسين عليهما السلام حول الشهادة
نقل المحدِّث القمّيّ عن كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد فقال: و لمّا كان في آخر الليل أمر الحسين عليه السلام بالاستقاء من الماء. ثمّ أمر بالرحيل، فارتحل من قصر بني مقاتل. فقال عقبة بن سمعان: سرنا معه ساعة، فخفق عليه السلام و هو على ظهر فرسه خفقة، ثمّ انتبه و هو يقول: إنَّا للهِ وَ إنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ وَ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. ففعل ذلك مرّتين أو ثلاثاً. فأقبل إليه ابنه عليّ بن الحسين عليه السلام على فرس فقال: لِمَ حَمِدتَ الله و استرجعتَ؟! فقال: يَا بُنَيّ! إنِّي خَفَقْتُ خَفْقَةً فَعَنَّ - أي: ظَهَرَ - لي فَارِسٌ عَلَى فَرَسٍ وَ هُوَ يَقُولُ: القَوْمُ يَسْيرُونَ وَ المَنَايَا تَسِيرُ إلَيْهِمْ، فَعَلِمْتُ أنَّهَا أنْفُسُنَا نُعِيَتْ إلَيْنَا!
فقال له ابنه: يَا أبَه! لَا أرَاكَ اللهُ سُوءاً! أ لَسْنَا عَلَى الحَقِّ؟!
قال: بلى وَ الذي إلَيْهِ مَرْجِعُ العِبَادِ!
قال: فَإنَّنَا إذاً لَا نُبَالِي أنْ نَمُوتَ مُحِقِّينَ!
فقال له الحسين عليه السلام: جَزَاكَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ خَيْرَ مَا جَزَى وَلَداً عَنْ وَالِدِهِ!۱
عند ما نلحظ بالشهود و الوجدان، و الفكر و البرهان، و الرواية و الدراية أنّ كلّا من الأئمّة عليهم السلام قد اختار طريقه و طواه بإرادته المحضة، و أنّ بين ذراريهم عدداً من المنحرفين كعبد الله بن جعفر، و جعفر بن حسن الكذّاب، و موسى بن محمّد المبرقع و أمثالهم، فَلِمَ نَغضّ الطرف و نقول: إنّ أولاد النبيّ و بني فاطمة جميعهم في الجنّة بلا استثناء، و إنّ بني اميّة كلّهم في جهنّم بلا استثناء؟ ألا يعني هذا نسبة الظلم إلى الله تعالى؟
نماذج نادرة من الأمويّين كانوا من الموالين للإمام عليّ عليه السلام
و حينما نجد أنّ أفراداً من بني اميّة كانوا أقوياء في ولائهم لمولى الموالى أمير المؤمنين عليه السلام، و مخالفتهم للغاصبين: أبي بكر، و عمر، و عثمان، و معاوية و نظائرهم، و أنّهم لم يبايعوا قطّ، بل تحمّلوا السجن، و التعذيب، و المعاناة، و القتل في سبيل ذلك الولاء، فلما ذا نقول: هم في جهنّم لأنّهم من عِرقٍ امويّ؟ هلمّوا فانظروا و لاحظوا!
الأوّل: خالد بن سعيد بن العاص بن اميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصَيّ القرشيّ الأمويّ، عُرف بنجيب بني اميّة. كان من صحابة النبيّ صلى الله عليه و آله، و من السابقين الأوّلين، و أحد المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين عليه السلام. هاجر إلى الحبشة مع جعفر، و عاد معه.
حضر غزوة الطائف، و فتح مكّة، و غزوة حنين. و ولّاه رسول الله صلى الله عليه و آله على جميع صدقات اليمن. و هو الذي عقد لُامّ حبيبة ابنة أبي سفيان للنبيّ صلى الله عليه و آله في الحبشة وكالةً. و لمّا توفّي النبيّ لم يبايع أبا بكر حتى بايع عليّ عليه السلام بالإكراه فبايع هو أيضاً كرهاً. و هو من الاثني عشر الذين اعترضوا على أبي بكر و أنكروا عليه خلافته يوم الجمعة حينما كان على المنبر. و هذه القصّة موجودة في كتابَي «الاحتجاج» و «الخصال».۱
الثاني: محمّد بن أبي حُذَيفة بن عُتْبَة بن رَبيعة بن عبد شمس، ابن خال معاوية بن أبي سفيان، إلّا أنّه من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام و انصاره و شيعته. و قد حبسه معاوية مدّة من الزمن. و حواره معه بعد
خروجه من السجن مشهور. و ذكره المحدِّث القمّيّ. و في آخره قال لمعاوية: وَ وَ اللهِ لَا أزَالُ احِبُّ عَلِيَّاً للهِ وَ لِرَسُولِهِ، وَ ابْغِضُكَ في اللهِ وَ في رَسُولِ اللهِ أبَداً مَا بَقِيتُ!
قال ابن أبي الحديد: إنّ محمّد بن أبي حُذيفة اصيب لمّا فتح عمرو ابن العاص مصر، فبعث به إلى معاوية، فحبسه معاوية في سجن له. فمكث فيه كثيراً، فهرب فذهب في طلبه رجل من خثعم يقال له: عبيد الله ابن عمرو بن ظلام، و كان عثمانيّاً فوجده في غار، فأخذه و ضرب عنقه.۱
الثالث: محمّد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان. كان يقال له: محمّد الديباج. و هو أخو عبد الله المحض، و إبراهيم الغمر، و الحسن المثلَّث لُامّهم. ذلك أنّ الحسن المثنّى عند ما مات فإنّ زوجته فاطمة ابنة الحسين عليه السلام أقامت العزاء على قبره سنة كاملة تحت خيمة قائمة ليلها صائمة نهارها. و طلب عبد الله بن عمرو بن عثمان يدها و ألحّ على ذلك فرفضت رفضاً شديداً. ثمّ استجابت فتزوّجته، و أولدها محمّداً. و هذا الزواج مذكور في كتب التأريخ مفصّلًا.
و لم يكن محمّد الديباج من الموالين لأهل البيت عليهم السلام فحسب، بل تحمّل في سبيلهم صنوف العذاب و الضرب بالسياط و السجن إلى أن فاضت روحه إلى بارئها على هذا الطريق.
و كان شديد الحبّ لأخيه من امّه عبد الله حتى كان عبد الله يقول: ليس في الدنيا أبغض إليّ من والد محمّد: عبد الله بن عمرو، و ليس فيها أحبّ إليّ من ولده محمّد.
هذه الأمثلة و النماذج الثلاثة تكفي هنا. و في التأريخ شواهد كثيرة غيرها يطول الكلام بذكرها. و إذا قال أحد: جاء في زيارة عاشوراء المعروفة: اللَهُمَّ الْعَنْ بَنِي اميَّةَ قَاطِبَةً! فجوابه: أنّ هذا الدعاء مسوق للغلبة. أي: أغلب بني اميّة من شيعة معاوية و يزيد و مروان هم هكذا. و تجري هنا القاعدة المعروفة: مَا مِنْ عَامٍّ إلَّا وَ قَدْ خُصَّ.۱
جعل الإمام عليّ عليه السلام محمّدَ ابن الحنفيّة درعاً للحسنين
أجل و نحن نريد أن نختم هذا المبحث، نرى من المناسب أن ننقل روايةً ذكرها المرحوم المحدِّث القمّيّ في كتاب «نفثة المصدور». و تستبين فيها شدّة مشكلات الحرب و تحمّل العطش و حديد الدرع الحارّ في الشمس المحرقة على جراح الجسم، و مقايسة محمّد ابن الحنفيّة بالحسنين عليهم السلام، و تحمّله بالنسبة إلى عليّ الأكبر. و أورد المحدِّث هذه الرواية تحت عنوان: فصلٌ، فقال: في «بحار الأنوار»: روى في بعض مؤلّفات الأصحاب عن ابن عبّاس قال: لمّا كنّا في حرب صفّين دعا عليّ عليه السلام ابنه محمّد ابن الحنفيّة و قال له:
يا بُنَيّ! شدّ على عسكر معاوية! فحمل على الميمنة حتى كشفهم. ثمّ رجع إلى أبيه مجروحاً فقال: يَا أبَتَاه! العَطَش! العَطَش! فسقاه جرعةً من
الماء، ثمّ صبّ الباقي بين درعه و جلده. قال ابن عبّاس: فوالله لقد رأيتُ علق الدم يخرج من حلق درعه. فأمهله ساعةً، ثمّ قال له: يا بُنَيّ! شدّ على الميسرة! فحمل على ميسرة عسكر معاوية، فكشفهم. ثمّ رجع و به جراحات، و هو يقول: الماءَ! الماءَ! يَا أبَاهْ.
فسقاه جرعةً من الماء فصبّ باقيه بين درعه و جلده، ثمّ قال: يا بُنيّ! شدَّ على القلب! فحمل عليهم و قتل منهم فرساناً. ثمّ رجع إلى أبيه و هو يبكي و قد أثقلته الجراح. فقام إليه أبوه و قبّل ما بين عينيه، و قال له: فداك أبوك! فقد سررتني و اللهِ يا بُنيّ بجهادك هذا بين يديّ! فما يبكيك؟! أ فرحاً أم جزعاً؟!
فقال: يا أبه! كيف لا أبكي و قد عرضتني للموت ثلاث مرّات فسلّمني الله؟! و ها أنا مجروح كما ترى! و كلّما رجعتُ إليك لتُمهلني عن الحرب ساعةً، ما أمهلتني! و هذان أخواي الحسن و الحسين ما تأمرهما بشيءٍ من الحرب. فقام إليه أمير المؤمنين عليه السلام و قبّل وجهه، و قال له: يا بُنيّ! أنتَ ابني، و هذان ابنا رسول الله صلى الله عليه و آله، أ فلا أصونهما عن القتل؟! فقال: بلى يا أبتاه! جعلني الله فداك و فداهما من كلّ سوء - انتهى.
قال المرحوم المحدِّث القمّيّ: إذا كان الحسين عليه السلام حاضراً في صفّين و شاهداً ما فعل أمير المؤمنين عليه السلام بابنه محمّد لمّا رجع من قتال الأعداء قائلًا: العَطَش العَطَش، من سقيه الماء و صبّ باقيه بين درعه و جلده ليسكن عنه حرارة الجراحات من الحديد المحمي، فكيف يكون حاله عليه السلام يوم عاشوراء إذا شهد ابنه عليّ بن الحسين راجعاً من قتال الأعداء و قد أصابته جراحات كثيرة و هو يقول: يَا أبَهْ العَطَشُ قَدْ قَتَلَنِي وَ ثِقْلُ الحَدِيدِ أجْهَدَنِي، و شكا إلى أبيه العطش و شدّة وقع الحديد
المحمي من درعه على جراحاته، و لم يكن لأبيه عليه السلام ماء يبرّد كبده و يسكّن حرارة جراحاته؟!
فبكى عليه السلام و قال: وا غَوْثَاهُ! يَا بُنَيّ قَاتِلْ قَلِيلًا فَمَا أسْرَعَ مَا تَلْقَى جَدَّكَ مُحَمَّداً صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَيَسْقِيكَ بِكَأسِهِ الأوْفَى شَرْبَةً لَا تَظْمَا بَعْدَهَا أبَداً!
عليّ الأكبر عليه السلام تلميذ مدرسة الحسنين عليهما السلام
إلى أن قال المحدِّث: و كان قد رُبّي في حجر عمّه الحسن و أبيه الحسين عليهما السلام، و ادِّب بأدبهما كما يشهد لذلك ما في الزيارة المعتبرة المنقولة في «الكافي» و «التهذيب»، و «مَن لا يحضره الفقيه» في السلام عليه: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا بْنَ الحَسَنِ وَ الحُسَيْنِ.
إلى أن قال: كما في بعض المقاتل المعتبرة أنّه عليه السلام رفع شيبته نحو السماء و كان لسان حاله: أصابتني مصيبة فجيعة و داهية عظيمة، فانّما أشكو بثّي و حزني إلى الله؛ لأنّ الأخذ باللحية من علامة هجوم الحزن و كثرة الاغتمام، كما أشار بذلك شيخنا رئيس المحدِّثين أبو جعفر بن بابويه القمّيّ!۱
أجل، يستشفّ من كلام المرحوم المحدِّث أنّ عليّ الأكبر قد تربّى في حِجر ذينك الإمامين العظيمين و تأدّب بآدابهما، فلهذا هو بمنزلة الابن لهما معاً. و الدليل هو السلام عليه بابن الحَسَنِ و الحُسَيْنِ.
نقول هنا: لو كانت تربية الإمامين و آدابهما واحدةً تماماً بلا تفاوت، فلا معنى لهذا الشرح و التفصيل! و إذا كان الحزن عديم الأثر في الإمام، و هو أمر صوريّ، فما ذا يعني رفع الشيبة و اللجوء إلى الله تعالى و الاشتكاء إليه من قوم معاندين؟! لا! لا! ليس كذلك، و كم نبتعد عن الحقيقة و الواقع
إذا نظرنا إلى الإمام على أنّه قويّ الجسم، و أنّه مَلَكٌ ليست له جوارح بشريّة، و أنّ الحرب، و الجرح، و الأسر، و النهب امورٌ شبيهة بدمي الأطفال و لعبة خيال الظلّ! إنّ سيّد الشهداء عليه السلام - مع جميع الإمكانات و التعيّنات البشريّة، و كافّة القوى و الجوارح المدركة للملذّات المادّيّة و الطبيعيّة، و مع وجود النفس الواسعة المحبّة للرئاسة الغريزيّة بعيدة عن رضا الحقّ - قد عبر هذه المنازل و المراحل كلّها، و أودعها في ملفّ النسيان، و ضحّى بها جميعاً فداءً للمحبوب، و ضرب عن العالَم صفحاً بسبب عشقه الإلهيّ، و تحرّك فارس الميدان وحده عجلًا إلى الله سبحانه، و طلّق كلّ شيء في الحياة، و أنزل حاجته في مقام العزّة الربوبيّة بلباس بالٍ ممزّق، و جسمٍ قد أثخنته الجراح، صلى الله عليك يا أبا عبد الله!
كم نراه مناسباً هنا، و نحن ننوي إنهاء هذا الجزء من «معرفة الإمام»، أن ننقل كلاماً لآية الله الكبير الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء من كتابه «جنّة المأوى». قال:
التَّضحِيَةُ في ضَاحِيَةِ الطَّفِ
إن التضحية و الفداء اللذين تسامى و تعالى بهما إمام الشهداء و أبو الأئمّة يوم الطفّ من أيّة ناحيةٍ نظرتَ إليهما، و من كلّ وجهةٍ اتّجهتَ لهما متأمّلًا فيهما، أعطياك دروساً و عِبراً، و أسراراً و حكماً تخضع لها الألباب و تسجد في محراب عظمتها العقول. واقعة الطفّ و شهادة سيّد الشهداء و أصحابه في تلك العرصات كتاب مشحون بالآيات الباهرات و العظات البليغة فهي:
كَالبَدْرِ مِنْ حَيْثُ التَفَتَّ وَجَدْتَهُ | *** | يُهْدِي إلَى عَيْنَيْكَ نُوراً ثَاقِباً |
أو:
كَالشَّمْسِ في كَبِدِ السَّمَاءِ وَ نُورُهَا | *** | يَغْشَي البِلَادَ مَشَارِقاً وَ مَغَارِبَا |
أو:
كَالبَحْرِ يَمْنَحُ لِلْقَرِيبِ جَوَاهِراً | *** | غُرَراً وَ يَبْعَثُ لِلْبَعِيدِ سَحَائِبَا |
هذه الدنيا و شهواتها و لذائذها و زينتها و زخارفها التي يتكالب عليها البشر، و يتهاوى على مذبحها كلّ يوم ضحايا الأنام، هذه الدنيا التي اتّخذها كلّ واحدٍ من الناس ربّاً و صار عبداً لها و لمن في يده شيء منها، فلعبت بهم و لعبوا بها، هذه الدنيا و شهواتها التي أشار جلّت عظمته إلى جمهرتها بقوله تعالى:
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ.۱ كانت كلّ هذه النفائس الدنيويّة قد تَوفَّرَ للحسين عليه السلام أكملها و أجملها من المال، و البنين و النساء، و الخيل المسوّمة، مضافاً إلى ما كان له من العزّ و الكرامة و كلّ مؤهّلات الشرف و التقدير التي استحقّها بحسبه و نسبه و بيته و مواهبه. و قد كان في ذلك العصر لا يوازيه و لا يدانيه أحد في دنيا المفاخر و المآثر. الكلّ يعترف و يعرف ما له من عظيم القدر و رفيع المنزلة. فسلّم المجد و الصعود إلى السماء بيمينه، و مفاتيح خزائن الدنيا في قبضة شماله. و مع ذلك كلّه فحين جدّ الجدّ و حقّت الحقيقة بذل كلّ ذلك و ضحّى به في ضاحية يوم الطفّ، و في سبيل المبدأ كان أهون شيء عليه تلك النفائس، و ما اكتفى حتى بذل نفسه و جسده و رأسه و أوصاله و أولاده و كلّ حبيب له و عزيز عليه في سبيل حبيبه الأعلى و معشوقه الأوّل. أ فليس هو الجدير و الحريّ بأن يقول:
وَ بِمَا شِئْتَ في هَوَاكَ اخْتَبِرْنِي | *** | فَاخْتِيَارِي مَا كَانَ فِيهِ رضَاكَا |
يُحْشَرُ العَاشِقُونَ تَحْتَ لِوَائِي | *** | وَ جَمِيعُ المِلَاحِ تَحْتَ لِوَاكَا |
وَ اقْتِبَاسُ الأنْوَارِ مِنْ ظَاهِرِي غَيْ | *** | رُ عَجِيبٍ وَ بَاطِنِي مَأوَاكَا۱ |
قصّة إنشاد الفرزدق قصيدته في الإمام السجّاد عليه السلام
و جملة القول أنّنا نريد أن نُنهي هذا الجزء الذي يدور حول «الصحيفة الكاملة» لسيّد العابدين و إمام الساجدين عليّ بن الحسين عليه أفضل الصلوات و التحيّات، و قد استعرضها و ضمائمها. فمن المناسب أن نذكر القصيدة العصماء التي أنشدها الشاعر الكبير أبو فراس همّام بن غالب المعروف بالفرزدق بحضور هشام بن عبد الملك بن مروان في مدح ذلك الإمام العظيم بضعة رسول الله لنرتوي بحمد الله و منّه من منهل عشق ذلك السيّد العزيز و مودّته و ولايته بنحو أكمل و أتمّ:
روى العلّامة المجلسيّ رضوان الله تعالى عليه في «بحار الأنوار» عن «مناقب ابن شهرآشوب» الذي روى عن «الحلية»، و «الأغاني»، و غيرهما:٢
حجّ هشام بن عبد الملك فلم يقدر على الاستلام من الزحام. فنُصب له منبر فجلس عليه و أطاف به أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل عليّ بن الحسين عليه السلام و عليه إزار و رداء، من أحسن الناس وجهاً و أطيبهم رائحةً، بين عينيه سجّادة كأنّها رُكبة عنز. فجعل يطوف، فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحّى الناس حتى يستلمه هيبةً له. فقال شاميّ: مَنْ هَذَا يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ؟!
فقال: لَا أعْرِفُهُ، لئلّا يرغب فيه أهل الشام.
فقال الفرزدق (و كان من شعراء بني اميّة و مادحيهم) و كان حاضراً: لكنّي أنا أعرفه. فقال الشاميّ: مَن هو يا أبا فراس؟! فأنشأ قصيدة ذكر بعضها في «الأغاني»، و «الحلية» و «الحماسة»، و القصيدة بتمامها هذه:
قصيدة الفرزدق في الإمام السجّاد عليه السلام
يَا سَائِلِي: أيْنَ حَلَّ الجُودُ وَ الكَرَمُ | *** | عِنْدِي بَيَانٌ إذَا طُلَّابُهُ قَدِمُوا |
هَذَا الذي تَعْرِفُ البَطْحَاءُ وَطْأتَهُ | *** | وَ البَيْتُ يَعْرِفُهُ وَ الحِلُّ وَ الحَرَمُ |
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمُ | *** | هَذَا التَّقِيّ النَّقِيّ الطَّاهِرُ العَلَمُ |
هَذَا الذي أحْمَدُ المُخْتَارُ وَالِدُهُ | *** | صلى عَلَيْهِ إلَهِي مَا جرى القَلَمُ |
لَوْ يَعْلَمُ الرُّكْنُ مَنْ قَدْ جَاءَ يَلْثِمُهُ | *** | لَخَرَّ يَلْثِمُ مِنْهُ مَا وَطَي القَدَمُ |
هَذَا عَلِيّ رَسُولُ اللهِ وَالِدُهُ | *** | أمْسَتْ بِنُورِ هُدَاهُ تَهْتَدِي الامَمُ |
هَذَا الذي عَمُّهُ الطَّيَّارُ جَعْفَرٌ | *** | وَ المَقْتُولُ حَمْزَةُ لَيْثٌ حُبُّهُ قَسَمُ |
هَذَا ابْنُ سَيِّدَةِ النِّسْوَانِ فَاطِمَة | *** | وَ ابْنُ الوَصِيّ الذي في سَيْفِهِ نِقَمُ |
إذَا رَأتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا | *** | إلى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الكَرَمُ |
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ | *** | رُكْنُ الحَطِيمِ إذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ |
وَ لَيْسَ قُولُكَ: مَنْ هَذَا؟ بِضَائِرِهِ | *** | العُرْبُ تَعْرِفُ مَنْ أنْكَرْتَ وَ العَجَمُ |
يُنْمَى إلى ذَرْوَةِ العِزِّ التي قَصُرَتْ | *** | عَنْ نَيْلِهَا عَرَبُ الإسْلَامِ وَ العَجَمُ |
يُغْضِي حَيَاءً وَ يُغْضَي مِنْ مَهَابَتِهِ | *** | فَمَا يُكَلَّمُ إلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ |
يَنْجَابُ نُورُ الدُّجَى عَنْ نُورِ غُرَّتِهِ | *** | كَالشَّمْسِ يَنْجَابُ عَنْ إشْرَاقِهَا الظُّلَمُ |
بِكَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبِقٌ | *** | مِنْ كَفِّ أرْوَعَ في عِرْنِينِهِ شَمَمُ |
مَا قَالَ: لَا، قَطُّ إلَّا في تَشَهُّدِهِ | *** | لَوْ لَا التَّشَهُّدُ كَانَتْ لَاؤهُ نَعَمُ۱ |
مُشتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ نَبْعَتُهُ | *** | طَابَتْ عَنَاصِرُهُ وَ الخِيمُ وَ الشِّيَمُ |
حَمَّالُ أثْقَالِ أقْوَامٍ إذَا فُدِحُوا | *** | حُلْوُ الشَّمَائِلِ تَحْلُو عِنْدَهُ نَعَمُ |
إنْ قَالَ قَالَ بمِا يَهْوَي جَمِيعُهُمُ | *** | وَ إنْ تَكَلَّمَ يَوْماً زَانَهُ الكَلِمُ |
هَذَا ابْنُ فَاطِمَة إنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ | *** | بِجَدِّهِ أنبِيَاءُ اللهِ قَدْ خُتِمُوا |
اللهُ فَضَّلَهُ قِدْماً وَ شَرَّفَهُ | *** | جرى بِذَاكَ لَهُ في لَوْحِهِ القَلَمُ |
مَنْ جَدُّهُ دَانَ فَضْلُ الأنْبِيَاءِ لَهُ | *** | وَ فَضْلُ امَّتِهِ دَانَتْ لَهَا الامَمُ |
عَمَّ البَرِيَّةَ بِالإحْسَانِ وَ انْقَشَعَتْ | *** | عَنْهَا العِمَايَةُ وَ الإمْلَاقُ وَ الظُّلَمُ |
كِلْتَا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفْعُهُمَا | *** | يُسْتَوْكَفَانِ وَ لَا يَعْرُوهُمَا عَدَمُ |
سَهْلُ الخَلِيقَةِ لَا تُخْشَى بَوَادِرُهُ | *** | يَزِينُهُ خَصْلَتَانِ: الحِلْمُ وَ الكَرَمُ |
لَا يُخْلِفُ الوَعْدَ مَيْمُوناً نَقِيبَتُهُ | *** | رَحْبُ الفِنَاءِ أرِيبٌ حِينَ يُعْتَرَمُ |
مِنْ مَعْشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ وَ بُغْضُهُمُ | *** | كُفْرٌ وَ قُرْبُهُمُ مَنْجيً وَ مُعْتَصَمُ |
يُسْتَدْفَعُ السُّوءُ وَ البَلْوَى بِحُبِّهِمُ | *** | وَ يُسْتَزَادُ بِهِ الإحْسَانُ وَ النِّعَمُ |
مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ اللهِ ذِكْرُهُمْ | *** | في كُلِّ فَرْضٍ وَ مَخْتُومٌ بِهِ الكَلِمُ |
إنْ عُدَّ أهْلُ التُّقَى كَانُوا أئمَّتَهُمْ | *** | أوْ قِيلَ: مَنْ خَيْرُ أهْلِ الأرْضِ قِيلَ: هُمُ |
لَا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ غَايَتِهِمْ | *** | وَ لَا يُدَانِيهِمُ قَوْمٌ وَ إنْ كَرُمُوا |
هُمُ الغُيُوثُ إذَا مَا أزْمَةٌ أزَمَتْ | *** | وَ الأسْدُ اسْدُ الشَّرَى وَ البَأسُ مُحْتَدِمُ |
يَأبَي لَهُمْ أنْ يَحِلَّ الذَّمُّ سَاحَتَهُمْ | *** | خِيمٌ كَرِيمٌ وَ أيْدٍ بِالنَّدَى هُضُمُ |
لَا يَقْبِضُ العُسْرُ بَسْطاً مِنْ أكُفِّهِمُ | *** | سِيَّانِ ذَلِكَ إنْ أثْرَوْا وَ إنْ عَدِمُوا |
أيّ القَبَائِلِ لَيْسَتْ في رَقَابِهِمُ | *** | لأوَّلِيَّةِ هَذَا أوْ لَهُ نِعَمُ |
مَنْ يَعْرِفِ اللهَ يَعْرِفْ أوَّلِيَّةَ ذَا | *** | فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الامَمُ |
بُيُوتُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ يُسْتَضَاءُ بِهَا | *** | في النَّائِبَاتِ وَ عِنْدَ الحُكْمِ إنْ حَكَمُوا |
فَجَدُّهُ مِنْ قُرَيْشٍ في ارُومَتِهَا | *** | مُحَمَّدٌ وَ عَلِيّ بَعْدَهُ عَلَمُ |
بَدرٌ له شَاهِدٌ وَ الشِّعْبُ مِنْ احُدٍ | *** | و الخَنْدَقَانِ وَ يَومُ الفَتْحِ قَدْ عَلِمُوا |
وَ خَيْبَرٌ وَ حُنَيْنٌ يَشْهَدَانِ لَهُ | *** | وَ في قُرَيْضَةَ يَوْمٌ صَيْلَمٌ قَتَمُ |
مَوَاطِنٌ قَدْ عَلَتْ في كُلِّ نائِبَةٍ | *** | عَلى الصَّحَابَةِ لَمْ أكْتُمْ كَمَا كَتَمُو۱ |
...۱
فغضب هشام و منع جائزته و قال: ألَا قُلْتَ فِينَا مِثْلَهَا؟!
قال: هَاتِ جَدَّاً كَجَدِّهِ، وَ أبَا كَأبِيهِ، وَ امَّا كَامِّهِ حتى أقُولَ فِيكُمْ مِثْلَهَا!
تقدير الإمام السجّاد عليه السلام للفرزدق
فحبسوه بعُسفَان بين مكّة و المدينة: فبلغ ذلك عليّ بن الحسين عليه السلام، فبعث إليه باثني عشر ألف درهم، و قال: أعْذِرْنَا يَا أبَا فِرَاسٍ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَنَا أكْثَرُ مِنْ هَذَا لَوَصَلْنَاكَ بِهِ!
فردّها و قال: يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! مَا قُلْتُ الذي قُلْتُ إلَّا غَضَباً للهِ وَ لِرَسُولِهِ! وَ مَا كُنْتُ لأرْزَأ عَلَيْهِ شَيْئاً.
فردّها إليه و قال: بِحَقِّي عَلَيْكَ لَمَّا قَبِلْتَهَا فَقَدْ رأى اللهُ مَكَانَكَ وَ عَلِمَ نِيَّتَكَ! فقبلها. فجعل الفرزدق يهجو هشاماً و هو في الحبس، فكان ممّا هجاه به قوله:
أ يَحْبِسُنِي بَيْنَ المَدِينَةِ وَ التي | *** | إلَيْهَا قُلُوبُ النَّاسِ يَهْوِى مُنِيبُهَا |
يُقَلِّبُ رَأساً لَمْ يَكُنْ رَأسَ سَيِّدٍ | *** | وَ عَيْنَاً لَهُ حَوْلَاءَ بَادٍ عُيُوبُهَا۱ |
فاخبر هشام بذلك فأطلقه. و في رواية أبي بكر العلّاف أنّه أخرجه إلى البصرة.٢
بعض الذين نقلوا هذه القصيدة
و روى الكشّيّ بسنده عن عبيد الله بن محمّد بن عائشة، عن أبيه
مثله.۱
ثمّ روى العلّامة المجلسيّ مثله عن «الاختصاص» للشيخ المفيد بسنده بعد شرح بعض المفردات الغريبة التي ذكرنا بعضها في هامش متقدّم.٢
و روى عنه أيضاً بسند آخر عن فرعان، و كان من رواة الفرزدق، قال: حججتُ سنةً مع عبد الملك بن مروان، فنظر إلى عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، فأراد أن يصغّر منه، فقال: مَن هُوَ؟ فقال الفرزدق: فقلتُ على البديهة القصيدة المعروفة:
هَذَا ابنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمُ | *** | هَذَا التَّقِيّ النَّقِيّ الطَّاهِرُ العَلَمُ |
حتّى أتمّها، و كان عبد الملك يصله في كلّ سنة بألف دينار. فحرمه تلك السنة. فشكا ذلك إلى عليّ بن الحسين عليهما السلام، و سأله أن يكلّمه.
فقال: أنَا أصِلُكَ مِنْ مَالِي بِمِثْلِ الذي كَانَ يَصِلُكَ بِهِ عَبْدُ المَلكِ وَ صَنَّ عَنْ كَلَامِهِ.
فقال: وَ اللهِ يَا بْنَ رَسُولِ اللهِ! لَا رَزَأتُكَ شَيْئاً، وَ ثَوَابُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ في الآجِلِ أحَبُّ إلَيّ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا في العَاجِلِ!
و كذلك اتّصل بمعاوية بن عبد الله بن جعفر الطيّار، و كان أحد سمحاء بني هاشم لفضل عنصره و أحد ادبائها و ظرفائها، فقال له: يا أبا فراس! كم تقدّر الذي بقي من عمرك؟! قال: قدر عشرين سنةً. قال: فَهَذِهِ عِشْرُونَ
ألْفَ دِينَارٍ أعْطِيتُكَهَا مِنْ مَالِي، وَ اعْفُ أبَا مُحَمَّدٍ! أعَزَّهُ اللهُ عَنِ المَسْألَةِ في أمْرِكَ.
فقال: لَقَدْ لَقِيتُ أبَا مُحَمَّدٍ وَ بَذَلَ مَا لَهُ فَأعْلَمْتُهُ أنِّي أخَّرْتُ ثَوَابَ ذَلِكَ لأجْرِ الآخِرَةِ.۱
و ذكر كَرَم البستانيّ في «ديوان الفرزدق» المطبوع، سبعة و عشرين بيتاً من هذه القصيدة، مع تفصيلٍ حول حجّ هشام في أيّام أبيه عبد الملك ابن مروان.٢
و نقل الميرزا عبّاس قُلي خان سِبِهر في «ناسخ التواريخ» هذه القصّة و شعر الفرزدق عن كتاب «الفصول المهمّة»، و «وفيّات الأعيان» لأحمد بن خلّكان، و «مرآة الجنان» لأبي محمّد عبد الله بن أسعد اليافعيّ. و ذكر تسعةً و عشرين بيتاً، ثمّ قال: يرى أبو الفرج الإصفهانيّ أنّ بيتين من هذه القصيدة لا يمكن أن يكونا في مدح الإمام عليّ بن الحسين، و هما قوله:
فِي كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبِقٌ | *** | مِنْ كَفِّ أرْوَعَ في عِرنِينِهِ شَمَمُ |
و قوله:
يُغْضِي حَيَاءً وَ يُغْضَي مِنْ مَهَابَتِهِ | *** | فَمَا يُكَلَّمُ إلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ |
لأنّهما ليسا من الشعر الذي يمكن أن يُمدَح بهما مثل عليّ بن الحسين عليهما السلام مع فضله الذي لا يدانيه فيه أحد. ثمّ قال: أمّا أبو الفرج، فقد ذكر البيت الثاني في الأشعار التي نقلها في الجزء التاسع عشر من «الأغاني» ذيل ترجمة الفرزدق. على أيّة حال، البيت الأوّل لا يناسب شأن الإمام عليه السلام أبداً. و لعلّه للشاعر حزين في وصف عبد الله بن عبد الملك. و الثاني أيضاً له في وصفه. و أوردهما الفرزدق على سبيل التضمين، و لعلّه لم يذكرهما، و ذكرهما الرواة و الناقلون حين وجدوا وزنهما كوزن قصيدته، فألحقوهما بها سهواً، و الله أعلم.
أجل، قال المرحوم سبهر ضمن ترجمة الفرزدق و شرح قصيدته: ذكرها المرحوم المجلسيّ في «بحار الأنوار»، و المرحوم القاضي نور الله في «مجالس المؤمنين»، و المرحوم عليّ بن عيسى الإربليّ في «كشف الغمّة»، و أبو الفرج الأصفهانيّ في الجزءين الرابع عشر و التاسع عشر من «الأغاني»، و سبط ابن الجوزيّ في «تذكرة خواصّ الامّة»، و السيّد هاشم البحرانيّ في «مدينة المعاجز»، و ذكرها أيضاً الراونديّ في كتاب «الخرائج و الجرائح» باختلاف يسير. و في «فصل الخطاب» لشيخ الحرمين أبي عبد الله القرطبيّ معلومات حول الفرزدق و إنشائه.
ثمّ قال: لا شكّ و لا شبهة عند أهل التأريخ في إنشاء الفرزدق هذه القصيدة في مدح عليّ بن الحسين عليهما السلام بمحضر هشام بن عبد الملك۱ انتهى ملخّصاً.
و قد ذكر المرحوم المجلسيّ - كما نقلنا عنه قريباً - واحداً و أربعين بيتاً.۱
و أورد ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» ج ۱۰، ص ٢۰، مطالب حول الفرزدق. كما ذكر المحدِّث القمّيّ ترجمته و ميميّته في «الكنى و الألقاب» ج ٣، ص ۱۷ فما بعدها، و في «هديّة الأحباب» ص ٢۱۱. و سرد المامقانيّ في «تنقيح المقال» ج ٢، ص ٤، باب الكنى، اسم الفرزدق، ترجمته، و ذكر أنّ اسمه همّام بن غالب بن صعصعة و كنيته أبو فراس.
و ذكرتُ في «نور ملكوت القرآن» ج ٣، موضوعاً عن أمير المؤمنين عليه السلام يدور حوله.
و ساق آية الله السيّد حسن الصدر الحديث عنه و عن قصيدته في كتاب «تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام» ص ۱۸٦ و ۱۸۷.
و نقل المستشار عبد الحليم الجنديّ في هامش ص ۱٣٩، من كتاب «الإمام جعفر الصادق» حجّ هشام، و أورد أحد عشر بيتاً من هذه القصيدة، ثمّ ذكر غضب هشام، و أمره بحبس الفرزدق، و عطاء الإمام إيّاه.
و في كتاب «العيون و المحاسن» الذي أنشأه الشيخ المفيد، و حرّره الشريف المرتضى، ج ۱، ص ۱۸ و ۱٩، طبعة النجف الأشرف، ستّة عشر بيتاً من هذه القصيدة.
للّه الحمد و له المنّة إذ تمّ هذا الجزء، و هو الجزء الخامس عشر من كتاب «معرفة الإمام» من دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة ضُحى يوم الثلاثاء التاسع و العشرين من شهر رمضان المبارك سنة ثلاث عشرة و أربعمائة و ألف من هجرة سيّد المرسلين من مكّة المكرّمة إلى أرض يثرب في مدينة مشهد المقدّسة على شاهدها أفضل الصلاة و السلام في ظلّ العنايات الخاصّة و التوجّهات الكاملة لإمام العصر الحجّة بن الحسن العسكريّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف و جعل أرواحنا لتراب مقدمه الفداء و قد بقيت للظهر ساعتان.
و الحمد للّه ربّ العالمين، و آخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.
كتبه بيمناه الداثرة الراجي غفران ربّه الغنيّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ غفر الله له و لذويه، و جعل مستقبل أمره خيراً من ماضيه.