المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
مجموعة من البحوث التفسيريّة، والفلسفيّة، والروائيّة، والتأريخيّة والاجتماعيّة في الإمامة والولاية بشكل عامّ، وفي إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين بشكل خاصّ ؛ وذلك في هيئة دروس استدلاليّة علميّة متّخذة من القرآن الكريم والروايات الواردة عن الخاصّة والعامّة، وأبحاث حليّة ونقديّة عن الولاية .
وتضمّ هذه المجموعة 270 درساً في ثمانية عشر مجلداً. وقد جري فيها مناقشة وبحث مطالب من قبيل: العصمة، الولاية التكوينيّة، لزوم الإمام الحيّ، لزوم متابعة الأعلم، ضرورة وجود الإمام للمجتمع، معنى الولاية، شرح حجّة الوداع، شرح واقعة غدير خمّ، حديث الولاية، حديث المنزلة، شرائط القيادة، علم الغيب و...
بسم الله الرحمن الرحيم
الدَّرْسَانِ الحَادِي وَالْخَمْسوُنَ بَعْدَ المِائَةِ وَ الثَّانِي وَ الْخَمْسوُنَ بَعْدَ المِائَةِ: الْعِلْمُ بِالله وَ مَعْرِفَتُهُ هُوَ الشَّرْطُ الوَحِيدُ لِلْقَائِدِ مِنْ أَجْلِ الْقِيَادَةِ
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
العلم و العرفان الإلهيّ من الشروط الاولى للقيادة
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.۱
نجد أنّ هذه الآية المباركة قد عدّت الموجود الوحيد القائم بالقسط و العدل الذي شهد على وحدانيّة ذاته المقدّسة هو الله تعالى. و يحقّ للملائكة و اولي العلم وحدهم دون غيرهم أن يشهدوا على وحدانيّته أيضاً. و على هذا لا يستطيع أحد من مخلوقات العالم السفليّ من جماد، و نبات، و حيوان، و جنّ، و كذلك جميع أفراد البشر أن يشهدوا على وحدانيّته. و ليس لأحد قدرة على ذلك ما عدا ذاته المقدّسة، و الملائكة الذين هم من العالم العلويّ. و لم يعرفه حقّ معرفته إلّا اولو العلم و المتلمّسون سبل السلام و البالغون درجات التوحيد و المعرفة.
إن اولي العلم هم الذين هُدوا إلى معرفته، و ظفروا بمنهل عرفانه العذب الهانئ الحلو بلا شائبة كدورة و مرارة و قلق. و هم الذين يستطعيون أن
يقودوا العالم الإنسانيّ تلقاء ذلك المكان المطمئن و المحلّ الآمن المستقرّ، و يكونوا حملة للواء القافلة البشريّة، و يحذّروا من أخطار الطريق، و يعلّموه شروط السفر و معدّاته و لوازمه، و يرغّبوه في ذلك، و ينقذوه من النزغات و الوساوس، و يرشدوه إلى الحرم الإلهيّ حيث الهدوء المطلق و السكون المفعم بالبهجة و السرور.
إن الدين عبارة عن مجموعة الأحكام و القوانين و التعاليم التي تدعو الإنسان إلى هذا الهدف. و من الواضح أنّ حملة راية النهضة الإلهيّة ينبغي أن يكونوا من اولي البصيرة و العلم و المعرفة بالهدف و المقصود، و من الملمّين بالمقدّمات و طرق السلوك، و أن يكونوا أنفسهم قد طووا هذا الطريق حتى يتسنّى لهم إيصال هذه القافلة إلى بغيتها في الصراط المستقيم سليمة من أدنى خطأ و انحراف.
و لا بدّ للحكومة الدينيّة أي الحكومة الدنيويّة و الاخرويّة، أي الحكومة الإلهيّة أن ترتكز على أساس العلم و المعرفة، و إلّا تصبح كحكومة الغاب، و تُمضي الحياة في عالم التوحّش و البهيميّة و السبعيّة، و تقوم على قاعدة القدرة الماليّة، و الاعتباريّة، و القوّة الطبيعيّة، و المُخَطَّطَات المفتعلة، و واضح أنّها ستسوق القافلة إلى جهنّم، لا إلى الجنّة.
إن سبب تأسيس الحكومة في المجتمع البشري هو لتنظيم و هداية الأشخاص إلى المسير المستقيم و الخطّ الصحيح القويم فيستمتعوا جميعهم بالمواهب الإلهيّة في أحسن شكل و أتمّ صورة. و ينعموا بالثروات الموجودة في طريق الكمال. و يطبّقوا عمليّاً ما عندهم من استعدادات و قابليّات بأفضل وجه.
يستطيع القائد و المرشد بما يتمتّع به من قدرة و إمكانيّات تامّة أن
يحرّك هذه الجماعة. و لا بدّ له -حتى يتمكّن من قطع دابر المخالفين و قطّاع الطرق و قيادة حركة الجماعة بهدوء و سكينة- أن يكون عالماً بالامور القياديّة و متمكّناً من إيجاد سبل النجاة، و عارفاً بالأسباب و اللوازم، و خبيراً بالمقامات المعنويّة و السير الروحانيّ. و إن لم يكن عالماً و عارفاً، فإنّه لا يستطيع أن يصبح قائداً، حيث سيأخذ بيد الناس إلى طريق الخلاف و الفساد، بل و يصبح من المناوئين و قطّاع الطرق، و بالنتيجة سيقف أمام التقدّم و التكامل، شاء أم أبى؛ لأنّه سيقود المجتمع وفقاً لهواه و رغبته، و بذلك سيدمّر الاستعدادات الكامنة عند أشخاص معيّنين، و يسلّمهم إلى الحرمان و الإفلاس.
و مَثَل هؤلاء الحكّام كالصخرة التي تقف حائلًا أمام مجرى الماء في النهر، فلاهي تشرب الماء، و لا تدعه يصل إلى الأراضي الزراعيّة، لتعطي محصولها، و تُقطَف أثمارها المفيدة من بساتينها.
أو مثلهم كالمريض الموبوء الذي يجعل من نفسه طبيباً، فلا هو يعالج نفسه، و لا الناس يسلمون منه، إذ سيسري مرضه و يصيب كلّ مَن يتّصل به.
عند ما تتّكي القيادة و الحكومة على القوّة و السلاح، أو عند ما تقوم على الانتخاب الذي يتحقّق وفقاً لمجموع أصوات المنتخِبين من العوامّ، فلا يفضي ذلك إلى المدينة الفاضلة.
كانت الحكومة في جميع الأديان السماويّة بيد الأنبياء الماسكين بدفّة إدارة شئون الرعيّة، فيرتّبون امورها، و ينظّمون معاشها و يهيّئون ما ينفعها في المعاد على أساس علمهم و معرفتهم. و هم القائمون بالقسط و العدل.
تكليف الأنبياء بتأسيس الحكومة، لكونهم أعلم العلماء الربّانيّين
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ.۱
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.٢
نلاحظ في هذه الآية أنّ الله تعالى جعل سبب إرسال الأنبياء بالمعجزات و الأدلّة الواضحة، و إنزال الكتاب و الميزان معهم، هو قيام الناس بالقسط، و الحياة على أساس العدالة الماديّة و الروحيّة، و تأسيس المدينة الإلهيّة الفاضلة. فلا بدّ لحامل لواء هذه النهضة أن يكون نبيّاً عالماً بالله، عارفاً به و بأمره، بصيراً و خبيراً بالمنجيات و المهلكات و بكيفيّة تقديم الإعانات و المساعدات الشخصيّة و القيام بالنهضات العامّة.
فينبغي للنبيّ أن يحمل السيف بيده، و يجاهد في طليعة الامّة، ليطهّر الأرض من العناصر المعاندة و المنتهكة، و يمهّد الطريق لعبوديّة الله و معرفته، و الوصول للحياة المفعمة بالقسط و العدل.
هذه هي ثمار الحديد القاطع و الحادّ و معطياته، الذي ينبغي أن يتسلّح به حماة الرسل و ناصروهم، و المميّز للعاشقين الإلهيّين التوّاقين إلى لقاء الله و زيارته في عرصات الامتحان.
وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ، فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ
الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.۱
نجد في هذه الآيات أنّ الأنبياء مع حواريّيهم و المخلِصين المتربّين في نهج الله ينهضون للجهاد في سبيل الله لتطهير الأرض من العناصر الفاسدة و المُفْسِدة. و ليميّزون العُصاة المتمرّدين و المعتدين، الذين هم كالغدّة السرطانيّة و الجمرة و الآكلة، و يفرزونهم عن مجتمع التوحيد الطاهر، و يعدّون الأرضيّة لتربية و تكامل سائر الأشخاص المؤهّلين للصلاح.
و تشير هذه الآيات بوضوح على أنّ الجهاد في سبيل الله لم يقتصر على الإسلام فقط، بل كان الأنبياء السابقون مكلّفين بهذه المهمّة أيضاً، و قد اختلفت أساليب جهادهم، حيث قام كلٌّ منهم بدوره حسب مقتضيات زمانه و الظروف التي كانت سائدة آنذاك.
و لا يمكن تصوّر دعوة النبيّ من دون تأسيس الحكومة و مركز السلطة و اتّخاذ القرار، كما لا يمكن إيصال دعوة الأنبياء و ترسيخها بدون الجهاد و القتال في سبيل الله، لأنّ المعارضين من أصحاب المصالح الشخصيّة موجودون في كلّ زمان و مكان و سيقفون بقوّة أمام دعوة الأنبياء.
غاية الأمر، يجب أن يكون قائد و رئيس هؤلاء المقاتلين نبيّاً، و هذا النبيّ هو العالم الربّانيّ في الامّة. و لا بدّ أن يكون المحور الأساسيّ لهذا الأمر، و قطب الرحى في هذه النهضة، و إذا كان لا بدّ للجيش من قائد، فيجب تعيينه من قِبَل النبيّ، كما نقرأ ذلك في الآيات القرآنيّة التي تتحدّث عن طالوت و النبيّ الذي اختاره أميراً على الجيش؛ قال تعالى:
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ تَوَلَّواْ إِلَّا قَلِيلا مِّنهُم وَٱللَّهُ عَلِيمُ بِٱلظَّـٰلِمِينَ ، وَقَالَ لَهُم نَبِيُّهُم إِنَّ ٱللَّهَ قَد بَعَثَ لَكُم طَالُوتَ مَلِكا قَالُوٓاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلمُلكُ عَلَينَا وَنَحنُ أَحَقُّ بِٱلمُلكِ مِنهُ وَلَم يُؤتَ سَعَة مِّنَ ٱلمَالِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصطَفَىٰهُ عَلَيكُم وَزَادَهُۥ بَسطَة فِي ٱلعِلمِ وَٱلجِسمِ وَٱللَّهُ يُؤتِي مُلكَهُۥ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيم.۱
نرى في هاتين الآيتين ما يأتي:
أوّلًا: أنّ تلك الشريحة من بني إسرائيل لم تختر لها حاكماً و سلطاناً، بل راجعت نبيّها، و طلبت منه أن يولّي عليهم حاكماً ليقاتلوا تحت قيادته و في ظلّ تدبيره.
ثانياً: اختار لهم نبيُّهم طالوتَ، فاعترضوا عليه بأنّه رجل ليس له جاه و شأن و خَدَم و حَشَم و مال كثير، و ينبغي للحاكم أن تكون له هذه الأشياء. و قالوا: إنّهم أجدر منه لحكومة الناس، لما يتمتّعون به من هذه المواصفات و الميزات الخارجيّة. فلم يهتمّ النبيّ بكلامهم و لم يُقم لمنطقهم وزناً من منطلق مدرسة العلم و الوحي و الحقائق.
ثالثاً: ذكر القرآن الكريم أنّ من أهمّ ميزات طالوت هي بسطته في العلم و الجسم، أي كثير العلم، و قويّ الجسم. فما هو ضروريّ للحكومة يكمن في القابليّة الفكريّة، و الفكر النقيّ، و العلم الكثير، و القدرة الطبعيّة و الطبيعيّة؛ و ما على الحكومة إلّا أن تسخّر ذلك العلم لترى الطريق الصحيح
و المستقيم، و تستثمر تلك القدرة من أجل المصلحة العامّة.
فما أضيق و أسخف رأي القائلين: إنّ النبوّة و الحكومة لا تجتمعان! فالنبوّة و العلم الإلهيّ و الفقاهة في أمر الدين و البصيرة و المعرفة بالله و نظامه من الشرائط الأوّليّة و المستلزمات العضويّة للحكومة، و الفقاهة المذكورة هنا ليست باصطلاح اليوم التي قد يخالف صاحبها العلم و العرفان الإلهيّ، و قد يرى طريق المعرفة موصداً، و قد لا تراه يتقدّم خطوة على طريق تهذيب النفس و تكامل الروح و الوصول إلى ذروة المعراج الإلهيّ.
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً.۱
و على هذا الأساس، لمّا عاد بُرَيْدَةَ من سفره بعد وفاة رسول الله و رأى أبا بكر يسمّي نفسه خليفة، و يدعو الناس إلى بيعته، و طلب منه البيعة أيضاً، فامتنع، و قال: لِمَ لَم تبايعوا علياً وصيّ رسول الله؟ و أجابه عمر: لا يجتمع النبوّة و الملك في بيت واحد. فقال بريدة: خنتم، و غدرتم و مكرتم! أ لم يرد في القرآن الكريم قوله: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً.٢
و روى الشريف المرتضى علم الهدى عن إبراهيم الثقفيّ بسنده المتّصل عن سفيان بن فروه، عن أبيه، قال: جَاءَ بُرَيْدَةُ حتى رَكَزَ رَايَتَهُ في وَسَطِ (أسْلَمَ) (و هو أيضاً كان من تلك القبيلة أسلميّاً) ثُمَّ قَالَ: لَا ابَايِعُ حتى
يُبَايِعَ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ. فَقَالَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ: يَا بُرَيْدَةُ! ادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النّاسُ، فَإنّ اجْتَمَاعَهُمْ أحَبُّ إلى مِنْ اخْتِلَافِهِمْ اليَوْمَ.۱
و كذلك روى عن إبراهيم الثقفيّ بسنده المتّصل عن موسى بن عبد الله بن الحسين،٢ قال:
إنّ عَلِيَّاً عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُمْ: بَايِعُوا فَإنّ هَؤلَاءِ خَيَّرُونِي: أن يَأخُذُوا مَا لَيْسَ لَهُمْ، أوْ اقَاتِلَهُمْ و افَرّقَ أمْرَ المُسْلِمِينَ.٣
و روى أيضاً عن إبراهيم الثقفيّ بسنده المتّصل عن موسى بن عبد الله بن الحسن قال:
أبَتْ أسْلَمُ أن تُبَايِعَ؛ فَقَالُوا: مَا كُنّا نُبَايِعُ حتى يُبَايِعَ بُرَيْدَةُ لِقَوْلِ النّبِيّ (صلى الله عليه و آله و سلّم) لِبُرَيْدَةَ: عَلِيّ وَلِيُّكُمْ مِنْ بَعْدِي. قَالَ: فَقَالَ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنّ هَؤلَاءِ خَيَّرُونِي أنْ يَظْلِمُونِي حَقِّي وَ ابَايِعَهُمْ، وَ ارْتَدَّ النّاسُ حتى بَلَغَتِ الرّدَّةُ أحَداً فَاخْتَرْتُ أنْ اظْلَمَ حَقِّي وَ إنْ فَعَلُوا مَا فَعَلُوا.٤ (إذ إنّ بقاء الدين و عدم تشتّت المسلمين في صبري).
في الإسلام، شرط القيادة: الأعلميّة
أجل، فالمراد هنا أنّ الدين الإسلاميّ قد رجّح العلم على كلّ شيء تماشياً مع الفطرة، و تبعاً لحكم العقل المستقلّ. و لذلك قد اشترط رجحان علم القائد على جميع الامّة. و لأنّ العلم كالنور في مقابل الظلام؛ فهل يمكن المقارنة بينهما؟ و أيّهما يقود الناس أفضل من غيره: القائد البصير الذي يمسك زمام النهضة أو الأعمى الذي يحتاج إلى من يوجّهه؟ و ما أكثر
الآيات الجميلة و اللطيفة التي تحمل مضامين متنوّعة عن العلم!
و في ضوء ما ذكره معظم المفسّرين، فإنّ الآيات الاولى التي نزلت على النبيّ الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلّم) هي آيات سورة العلق التي جرى فيها الحديث عن أكرميّة الله جلّ شأنه، و أثنت عليه بصفة التعليم بالقلم، و تعليم الإنسان ما لم يعلم:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.۱ (العلق هو الدم المنعقد أو الخليّة الشبيهة بالدودة و هي النطفة).
نلاحظ هنا أنّ الله ذكر صفة أكرميّته على جميع الكائنات، ثمّ ذكر صفة تعليمه بوصفها أفضل نموذج على عظمته.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً.٢
ترى هذه الآية أنّ ظهور السماوات و الأرضين و تنزّل الأمر بينهنّ من عالم الملكوت هو من أجل أن يعلم الإنسان قدرة الله الكاملة و إحاطته العلميّة الشاملة.
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً.٣
يأمر الله نبيّه في هذه الآية المباركة أن يدعوه بزيادة العلم. فما أعظم
مقام العلم و ما أثمنه، يأمر الله ثمرة عالم الإمكان الوحيدة: رسوله المكرّم، أن يطلب منه زيادة علمه!
و بعد أن استبان أنّ العلم هو أعلى رصيد في الوجود، و أنّ الفطرة و العقل و الشرع تشهد على أهمّيّته، فإنّنا نتساءل: هل من المعقول أن يرحل النبيّ الأعظم عن الدنيا، و لا ينصب أعلم امّته حاكماً عليها؟ و يترك هذا الأمر إلى اختيار الامّة، فيحكم غير الأعلم مع وجود الأعلم، و يفعل ما يفعل؟
إنّ هذا لا ينسجم مع منطق الإسلام و فلسفته. و يغاير الأساس الأصيل الذي ارتكزت عليه مدرسة الإسلام العظيمة.
تعيين الأعلم للحكم، مهمّة رسول الله
هل يمكن لهذا الإسلام الذي قوامه الدعوة إلى التوحيد و عرفان الحقّ تعالى، و سُلّمه العِلمَ وصولًا إلى هذا المقام الرفيع، و رؤيته في أنّ المعرفة بالكتاب و السنّة هي السبيل العمليّ الوحيد لبلوغ هذا الهدف، و هو الذي يصف النبيّ بالتعليم و التزكية، و معرفة الكتاب و الحكمة، و يبيّن مئات الآيات القرآنيّة في الدعوة إلى العلم و الثناء على هذه الثمرة في عالم الوجود، هل يمكن أن يدوس على جميع هذه المبادئ الثابتة بغتةً؟ و يقلب هذا الأساس؟ و يترك اختيار الامّة بعد النبيّ العالم و العارف بذات الحقّ المقدّسة و بالعوالم العلويّة، بل و حتى العالم السفليّ، إلى غير الأعلم و الجاهل النسبيّ؟ أو يفوّض إلى الامّة اختيار خليفته عليها، مع علمنا أنّ من الامّة البسطاء و الجهلاء الذين هم أسرى الهوى و التمنّي و ما إلى ذلك؟!
إنّ كلّ من امتلك معرفة إجمالية بروح الإسلام و فلسفته الكلّيّة، يعلم أنّ هذا النهج يخالف أصل الدعوة النبويّة تماماً.
كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بإجماع جميع الشيعة و السنّة، بل و حتى الخوارج و النواصب و غير المسلمين كاليهود
و النصارى و المجوس، أعلم الامّة و أعرف بمقام التوحيد و الأسماء و الصفات بعد النبيّ، و كذا بالقرآن الكريم و السنّة النبويّة، و بأحكام الإسلام و قوانينه، و بالحكم و الحكومة، و القضاء و فصل الخصومة، و الاتّصال بعالم الملكوت و العلوم الغيبيّة الإلهيّة.
أ ليس سلب هذا المقام منه نوعاً من السرقة المكشوفة؟ و هذه السرقة هي سرقة في المعنى.
كلام أمير المؤمنين و الإمام الحسن حول وجوب حكومة الأعلم
جاء جماعة من حواريّيّ أمير المؤمنين عليه السلام إلى المسجد بعد وفاة رسول الله، و خطب كلٌّ منهم خطبة غرّاء أمام الحكومة الغاصبة؛ قال سلمان الفارسيّ:
يَا أبَا بَكْرٍ! إلَى مَنْ تُسْنِدُ أمْرَكَ إذَا نَزَلَ بِكَ القَضَاءُ؟ وَ إلَى مَنْ تَفَزَعُ إذَا سُئِلْتَ عَمَّا لَا تَعْلَمُ [وَ مَا عُذْرُكَ في التَّقَدُّمِ] (على عليّ بن أبي طالب و سبقه) وَ في القَوْمِ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ الخطبة۱!
و قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له قبل واقعة صفّين:
العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ مِنْ جُهَّالِ هَذِهِ الامَّةِ وَ ضُلَّالِهَا وَ قَادَتِهَا وَ سَاقَتِهَا إلَى النّارِ! إنّهُمْ قَدْ سَمِعُوا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه و آله و سلّم) يَقُولُ عَوْدَاً وَ بَدءاً: مَا وَلَّتْ امَّةٌ رَجُلًا قَطُّ أمْرَهَا وَ فِيهِمْ أعْلَمُ مِنْهُ إلَّا لَمْ يَزَلْ أمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالًا حتى يَرْجِعُوا إلَى مَا تَرَكُوا.
فَوَلُّوْا أمْرَهُمْ قَبْلِي ثَلَاثَةَ رَهْطٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ وَ لَا يَدَّعِي أنّ لَهُ عِلْماً بِكِتَابِ اللهِ وَ لَا سُنّةَ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه و آله و سلّم) وَ قَدْ عَلِمُوا
أنّي أعْلَمُهُم بِكِتَابِ اللهِ وَ سُنّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه و آله و سلّم) وَ أفْقَهُهُمْ وَ أقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ وَ أقْضَاهُمْ بِحُكْمِ اللهِ.۱ ... إلى آخره.
و كذلك رأينا الإمام الحسن المجتبى عليه السلام يقول في تلك الخطبة المفصّلة الغرّاء التي ألقاها و معاوية جالس:
وَ اقْسِمُ بِاللهِ لَوْ أنّ النّاسَ بَايَعُوا أبِي حِينَ فَارَقَهُمْ رَسُولُ (صلى الله عليه و آله و سلّم) لأعْطَتْهُمُ السَّمَاءُ قَطْرَهَا وَ الأرْضُ بَرَكَتَهَا؛ وَ مَا طَمِعْتَ فِيهَا يَا مُعَاوِيَةُ!
فَلَمَّا خَرَجَتْ مِنْ مَعْدِنِهَا تَنَازَعَهَا قُرَيْشٌ بَيْنَهَا فَطَمِعَتْ فِيهَا الطُّلَقَاءُ وَ أبْنَاءُ الطُّلَقَاءِ أنْتَ وَ أصْحَابُكَ؛ وَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه و آله و سلّم): مَا وَلَّتْ امَّةٌ أمْرَهَا رَجُلًا وَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْهُ إلَّا لَمْ يَزَلْ أمْرُهُمْ يَذْهَبُ سَفَالًا حتى يَرْجِعُوا إلى مَا تَرَكُوا. فَقَدْ تَرَكَتْ بَنُوا إسْرَائِيلَ هَارُونَ وَ هُم يَعْلَمُونَ أنّه خَلِيفَةُ موسى فِيهِمْ وَ اتَّبَعُوا السَّامِرِيّ وَ قَدْ تَرَكَتْ هَذِهِ الامَّةُ أبِي وَ بَايَعُوا غَيْرَهُ وَ قَدْ سَمِعُوا رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه و آله و سلّم) يَقُولُ: أنْتَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا النّبُوَّةَ الخطبة.٢
و ذكر المجلسيّ رضوان الله عليه موعظة من مواعظ الإمام الصادق عليه السلام، قال فيها:
قَالَ: مَنْ دَعَا النّاسَ إلى نَفْسِهِ وَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ أعْلَمُ مِنْهُ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ.٣
قصّة سفرنا إلى الحجّ، و الحوار الذي حدث مع سائق السيّارة
أتذكّر أنّي سافرت إلى حجّ بيت الله الحرام سنة ۱٣٩٤ ه للمرّة الثالثة. و كان منزلنا في (كُدا - مَسْفَلة)۱ أي في الجانب السفليّ جنوب
مكّة. ذهبنا ذات يوم مع أحد عشر شخصاً من الأصدقاء الذين التقيناهم في سفرنا إلى مقبرة المَعلى شمال المسجد الحرام لزيارة قبور أجداد رسول الله و أبي طالب و خديجة عليهم السلام. و لمّا فرغنا من الزيارة و أردنا الرجوع، لم نحصل على سيّارة ركّاب صغيرة بسبب الازدحام، فاضطررنا أن نركب سيّارة حمل صغيرة، و جلستُ إلى جانب السائق، و جلس سائر الأصدقاء خلفنا. و سارت السيّارة ببطء، بسبب تراكم المارّة، ثمّ وصلنا إلى منزلنا بعد نصف ساعة تقريباً. و جرى الحديث بيننا و بين السائق في الطريق. و عرفنا أنّ السائق هو صاحب السيّارة، و كان سنّيّاً.
عند ما ركبت في سيّارته، سلّمت عليه فردّ عَلَيّ السلام مرحِّباً بي. و سألته عن أحواله، ثمّ قلت له: نحن شيعة جعفريّة اثنا عشريّة من إيران!
قال: لا نجد فيكم عيباً سوى سبّكم صحابة رسول الله!
قلت له: معاذ الله! كيف نسبّ اولئك الصحابة العظام؟ و هم الذين نصروا رسول الله في حروبه، و منهم من استشهد، و منهم من لم يُستشهد. و كانوا راسخين في إيمانهم. اعلم أنّنا نحبّ صحابة رسول الله، و نقرأ تأريخهم، و نعرفهم و نعرف الآيات القرآنيّة التي نزلت في مدحهم و الثناء عليهم، كآية:
مُّحَمَّد رَّسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ إلى آخر الآية.۱
و بعد أن قرأت له عدداً من الآيات في فضيلة الصحابة، قلت له: نحن نقرأ في أدعيتنا دائماً هذه الآية التي تشمل أصحاب رسول الله أيضاً:
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.۱
و نحن ندعو لأصحاب رسول الله؛ و ننظر إليهم كما ننظر إلى آبائنا و امّهاتنا، بل أكثر من ذلك!
ثمّ طفق يتلو عدداً من الآيات في مناقب الصحابة؛ فعرفنا أنّه كان شخصاً مطّلعاً خبيراً، و ملمّاً بالآيات القرآنيّة و بموضع الاستشهاد بها تماماً.
قال: لما ذا لا تقرّون بالخلفاء بعد رسول الله؟!
قلت: لأنّ على بن أبي طالب كان أفضل منهم و أعلم؛ و كلّ ذي لبّ يقول: على الإنسان أن يرجع إلى الأعلم و الأفضل في شئونه؛ و خاصّة في الشؤون الخطيرة و العظيمة. و أي أمر من الامور الدينيّة أعلى و أهم من الحكم، إذ ترتبط به سعادة الإنسان و شقاؤه؟ أقول لك: لو عطبت سيّارتك فأين تذهب؟ هل تذهب إلى الأحذق الأمهر و الأعرف بفنّ ميكانيك السيّارات؟ أو تذهب إلى أي شخص يقول: أنا أعرف، و إن لاحظتَ منه عدداً من الأخطاء؟! و لو مرض ابنك، و احتاج إلى عمليّة جراحيّة، فأيّ طبيب تراجع؟ هل تراجع الطبيب الأحذق؟ أو تراجع أي طبيب كان حتى لو لم يكن على درجة عالية من الحذق؟ هذا مع التسليم بأنّك تتمكّن من الوصول إليهما معاً، و أنّ مراجعة كلّ منهما متيسّرة لك.
قال: من الواضح أنّا نراجع الشخص الأعرف و الطبيب الأمهر.
قلتُ: فالإماميّة، أي: الشيعة يعتقدون بخلافة عليّ بن أبي طالب عليه السلام بلا فصل، و يتّبعونه على هذا الأساس و هذه القاعدة، و يأخذون أحكام دينهم منه بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم).
قال: إنّ للخلفاء الآخرين فضلًا، و لهم سابقة الجهاد و الهجرة. و كان لهم علم و اطّلاع بكتاب الله.
قلت: نحن لا نبغي نفي الفضل و سابقة الجهاد، و الهجرة و العلم بكتاب الله، و أنا أردّ عليك في كلامي هذا ما ذكرتَه! نحن نقول: عَلِيّ أفْضَل، وَ أعْلَم. و على الإنسان أن يرجع إلى الأعْلَم، و يتّبعه. و اتّبعت الشيعة عليّاً على هذا الأساس منذ اليوم الأوّل، بلا إنكار لفضل و شرف الصحابة المؤمنين و المجاهدين و المضحّين في سبيل رسول الله.
و لما ورد في الصحاح و الكتب الموثوقة، و ثبت عند الجميع أنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) قال: عَلِيّ أقْضَاكُمْ؛ عَلِيّ أفْقَهُكُمْ؛ وَ أعْلَمُ امَّتِي بِكِتَابِ اللهِ؛۱ وَ عَلِيّ مَعَ الحَقِّ وَ الحَقُّ مَعَ عَلِيّ حَيثُمَا دَارَ، وَ أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا.
و في هذه الحالة، فلنا حجّتنا العقليّة و الشرعيّة في اتّباع عليّ. و إذا آخذنا الله تعالى يوم القيامة في موقف الحساب و عرصات القيامة لعدم اتّباعنا الخلفاء، فإنّا نحتجّ بهذه الأحاديث المستفيضة و المتواترة التي لا شكّ و لا تردّد في صدورها عن رسول الله، و نقول: إنّا باتّباعنا علياً، اتّبعنا رسول الله في الحقيقة، وفقاً لهذه الأحاديث و الوصايا النبويّة.
و أمّا إذا لم نتّبع عليّاً، و اتّبعنا شخصاً آخر؛ و آخذنا الله على ذلك يوم القيامة و سألنا: لما ذا اتّبعتم غير عليّ؟ و لما ذا تركتم سنّته و منهاجه و سرتم في طريق غيره؟ و إذا قرأ لنا هذه الأحاديث واحداً واحداً، فما ذا نقول في جواب الحقّ تعالى؟
لم يجبني ذلك الرجل السنّيّ، و لزم جانب الصمت، و غرق في التفكير لخمس دقائق تقريباً، حتى وصلنا إلى منزلنا، فوقفت السيّارة، و ودّعته، و نزلت. نزل الرجل أيضاً من الباب الاخرى للسيّارة، و ألقى نظرة على محلّ إقامتنا، إذ كان في الطابق الثاني من العمارة الحديثة البناء، و في الطابق الأرضيّ محلّ كبير لبيع الخبز و صنع الحلويّات. و التفت الرجل إلى رفقائنا الذين نزلوا من السيّارة و قال لهم: هَذَا عَالِمٌ جَلِيلٌ لا تَتْرُكُوهُ.
و قال لي: سوف آتيكم هنا إن شاء الله؛ بَيدَ أنّا لم نره خلال اليومين اللذين مكثنا فيهما هناك؛ ثمّ قدمنا إلى جدّة من أجل العودة. و الحَمْدُ لِلَّهِ.۱
و دار في خلدي أنّه لو جاء إلينا، لنقلت له رواية كنت قد قرأتها في «المحاسن و المساوئ» للبيهقييّ، و في خاطري شيء منها مجملًا. و أنقل
للقرّاء الكرام فيما يأتي تفصيلها بعد مراجعتي الكتابَ المذكور.
روى البيهقيّ عن أبي حيّان التيميّ۱ أنّه قال: حدّثني رجل حضر مجلس القاسم بن المُجَمِّع و هو والى الأهواز، قال: حضر مجلسه رجل من بني هاشم، فقال: أصلح الله الأمير! أ لا احدّثك بفضيلة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه؟! قال: نعم، إن شئت!
قال: حدّثني أبي، قال: حضرت مجلس محمّد ابن عائشة بالبصرة، إذ قام إليه رجل من وسط الحلقة، فقال: يا أبا عبد الرحمن! من أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم؟!
قال: أبُو بَكْرٍ، و عُمَرُ، و عُثْمَانُ، و طَلْحَةُ، و الزُّبَيْرُ، و سَعْدُ، و سَعِيدُ، و عَبْدُ الرّحْمَنِ، و أبُو عُبَيْدَةُ بْنُ الجَرّاحِ.
فقال له: فَأيْنَ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ؟!
قال مُحَمَّدُ ابْنُ عَائِشَة: يا هذا! تستفتي عن أصحابه، أم عن نفسه؟
قال: بل عن أصحابه!
قال ابن عائشة: إنّ الله تبارك و تعالى يقول: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ.٢
«عليّ نفس رسول الله». فَكَيْفَ يَكُونُ أصْحَابُهُ مِثْلَ نَفْسِهِ.۱
و روى عن ابن عبّاس أنّه قال: كَانَ لِعَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خِصَالٌ ضَوَارِسُ قَوَاطِعُ: سِطَةٌ في العَشِيرَةِ، وَ صِهْرٌ بِالرّسُولِ، وَ عِلْمٌ بِالتَّنْزِيلِ، وَ فِقْهٌ في التَّأوْيلِ، وَ صَبْرٌ عِنْدَ النّزَالِ، وَ مُقَاوَمَةُ الأبْطَالِ، وَ كَانَ ألَدَّ إذَا أعْضَلَ، ذَا رَأيٍ إذَا أشْكَلَ.٢
قصيدة الحكيم السنائيّ في أفضليّة أمير المؤمنين عليه السلام
و أنشد الشاعر الفارسيّ المعروف الحكيم السنائيّ، و هو شاعر ضليع عاش في القرنين الخامس و السادس الهجريّين، أنشد في باب مدينة علم النبيّ، و لزوم اتّباع الباب قائلًا:
شو مدينه علم را در جوى و پس در وى خرام | *** | تا كى آخر خويشتن چون حلقه بر در داشتن |
چون همى دانى كه شهر علم را حَيْدر دَر است | *** | خوب نبود جز كه حيدر مير و مهتر داشتن٣ |
و هذان البيتان من قصيدة له تضمّ ستّة و أربعين بيتاً، أنشدها كلّها في جواب السلطان سنجر السلجوقيّ و إرشاده و دعوته إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام؛ و ننقل فيما يأتي بعض أبياتها:
كار عاقل نيست در دل مُهر٤ دل برداشتن | *** | جان نگين مُهر مِهر شاخ بى برداشتن |
تا دلِ عيسى مريم باشد أندر بند تو | *** | كِى روا باشد دل اندر سُمِّ هر خر داشتن |
يوسف مصرى نشسته با تو اندر انجمن | *** | زشت باشد چشم را در نقش آذر داشتن |
أحمد مرسل نشسته كِى روا دارد خرد | *** | دل أسير سيرت بو جهل كافر داشتن |
بَحر پُر كشتى است ليكن جمله در گرداب خوف | *** | بى سفينه نوح نتوان چشم مَعْبَر داشتن |
گر نجات دين و دل خواهى همى تا چند ازين | *** | خويشتن چون دايره، بى پا و بىسر داشتن |
من سلامت خانة نوح نبيّ بنمايمت | *** | تا توانى خويشتن را ايمن از شرّ داشتن۱ |
شو مدينه علم را در جوى و پس در وى خرام | *** | تا كى آخر خويشتن چون حلقه بر در داشتن |
چون همىدانى كه شهر علم را حيدر دَرَسْت | *** | خوب نبود جز كه حيدر مير و مهتر داشتن |
كِى روا باشد به ناموس و حيل در راه دين | *** | ديو را بر مسند قاضيّ أكبر داشتن |
از تو خود چون مىپسندد عقل نابيناى تو | *** | پارگين را قابل تسنيم و كوثر داشتن |
مر مرا بارى نكو نايد ز روى اعتقاد | *** | حقِّ زهرا بردن و دين پيمبر داشتن |
آنكه او را بر سر حيدر همى خوانى أمير | *** | كافرم گر مىتواند كفش قنبر داشتن۱ |
تا سليمانوار باشد حَيْدر اندر صدرِ مُلك | *** | زشت باشد ديو را بر تارك أفسر داشتن |
خِضْر فَرّخ پى دليلى را ميان بسته چو كلك | *** | جاهلى باشد ستور لنگ رهبر داشتن |
گر همىخواهى كه چون مهرت بود مهرت قبول | *** | مهر حيدر بايدت با جان برابر داشتن |
چون درخت دين به باغ شرع حيدر در نشاند | *** | باغبانى زشت باشد جز كه حيدر داشتن |
جز كتاب الله و عترت ز احمد مرسل نماند | *** | يادگارى كان توان تا روز محشر داشتن |
از گذشت مصطفاى مجتبى، جز مرتضى | *** | عالَم دين را نيارد كس مُعَمَّر داشتن۱ |
از پس سلطان دين پس چون روا دارى همى | *** | جز عليّ و عترتش محراب و منبر داشتن |
هشت بستان را كجا هرگز توانى يافتن | *** | جز بحبّ حيدر و شُبَّير و شَبَّر داشتن |
گر همى مؤمن شمارى خويشتن را بايدت | *** | مهر زرّ جعفرى، بر دين جعفر داشتن |
أي سنائى وارهان خود را كه نازبيا بود | *** | دايه را بر شيرخواره، مِهر مادر داشتن |
بندگى كن آل ياسين را به جان تا روز حشر | *** | همچو بىدينان نبايد روى اصفر داشتن |
زيور ديوان خود ساز اين مناقب را از آنك | *** | چاره نبود نو عروسان را ز زيور داشتن۱ |
اى سنائى به قوّت ايمان | *** | مدح حيدر بگو پس از عثمان |
با مديحش مدائح مطلق | *** | زهق الباطل است و جاء الحق |
عطّار روح بود و سنائى دو چشم او | *** | ما از پى سنائى و عطّار آمديم |
لم يكن أحد في الامّة عالماً بكتاب الله كأمير المؤمنين عليه السلام
و ذكر ابن شهرآشوب في مناقبه، عن سفيان، عن ابن جريح، عن عطاء، عن ابن عبّاس في قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.۱ يقول هؤلاء ذلك للمجرمين الذين يقسمون يوم القيامة إنّهم ما لبثوا غير ساعة.
قال: قد يكون الإنسان مؤمناً، و لا يكون عالماً، فو الله لقد جُمع
لعليّ كلاهما العلم و الإيمان.۱ و قائل هذا الكلام للمجرمين يوم القيامة عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
و روى محمّد بن مسلم، و أبو حمزة الثمالى، و جابر بن يزيد عن الباقر عليه السلام، و عليّ بن فضّال، و الفضيل بن يسار، و أبو بصير عن الصادق عليه السلام، و أحمد بن محمّد الحلبيّ، و محمّد بن الفضيل عن الرضا عليه السلام، و كذلك روى عن موسى بن جعفر عليه السلام، و زيد بن عليّ، و محمّد ابن الحنفيّة، و سلمان الفارسيّ، و أبي سعيد الخُدريّ، و إسماعيل السدّيّ في تفسير الآية الكريمة: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ.٢ قالوا: هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
و روى عن ابن عبّاس أنّه قال: لا وَ اللهِ مَا هُوَ إلَّا عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ لَقَدْ كَانَ عَالِماً بِالتَّفْسِيرِ وَ التَّأوِيلِ وَ النّاسِخِ وَ المَنسُوخِ وَ الحَلَالِ وَ الحَرَامِ.٣
و روى عن ابن الحنفيّة قوله: عليّ بن أبي طالب عليه السلام عنده علم الكتاب الأوّل و الآخر.٤ و رواه النطنزيّ في «الخصائص».
و من المحال أنّ يستشهد الله تعالى بيهوديّ (عبد الله بن سلّام) و يجعله ثاني نفسه.
و قوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ٥
موافق في عدد الحروف الأبجديّة لقول ابن عبّاس: كَلَّا، انزِلَ في أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيّ، إذ إنّ عدد حروف كلّ واحد منهما ثمانمائة و سبعة عشر.
و قال العونيّ:
وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتَابِ وَ عِلْمُ مَا | *** | يَكُونُ وَ مَا قَدْ كَانَ عِلْماً مُكْتَمَا |
و قال أبو مُقاتل بن الداعي العلويّ:
وَ إنّ عِنْدَكَ عِلْمَ الكَوْنِ أجْمَعَهُ | *** | مَا كَانَ في سَالِفٍ مِنْهُ وَ مُؤتَنَفِ |
و قال نصر بن المنتصر:
وَ مَنْ حَوَى عِلْمَ الكِتَابِ كُلَّهُ | *** | عِلْمَ الذي يَأتِي وَ عِلْمَ مَا مَضَي |
و قد ظهر علمه (عليّ) على سائر الصحابة حتى اعترفوا بعلمه، و بايعوه.۱
قال الجاحظ: اجتمعت الامّة على أنّ الصحابة كانوا يأخذون العلم من أربعة: عَلِيّ، وَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ. و قالت طائفة: عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ. ثمّ أجمعوا على أنّ الأربعة كانوا أقرأ لكتاب الله من عمر.
و لمّا قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): يَؤُمُّ بِالنّاسِ أقْرَؤُهُمْ، فسقط عُمَرِ (من بينهم).
ثمّ أجمعوا على أنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلّم) قال: الأئمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ، فسقط ابْنُ مَسْعُودٍ، وَ زَيْدٌ، و بقي عَلِيّ وَ ابْنُ عَبَّاسٍ، و لمّا كان (الاثنان) عالمينِ فقيهينِ قرشيّينِ، فأكثرهما سنّاً و أقدمهما هجرة عَلِيّ،
فسقط ابْنُ عَبَّاسٍ و بقي عَلِيّ أحقّ بالإمامة بالإجماع.۱
و كانوا (أي و كان الصحابة كلّهم) يسألونه، و لم يسأل هو أحداً. و قال رسول الله: إذَا اخْتَلَفْتُمْ في شَيءٍ فَكُونُوا مَعَ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ.
قال عبادة بن الصامت: قَالَ عُمَرُ: امِرْنَا إذَا اخْتَلَفْنَا في شَيءٍ أن نُحَكِّمَ عَلِيَّاً. و لهذا تابعه المذكورون بالعلم من الصحابة نحو: سَلْمَان، و عَمَّار، و حذَيْفَة، و أبِي ذَرّ، و ابَيّ بْنِ كَعْبٍ، و جَابِرٍ الأنْصَارِيّ، وَ ابْنِ عَبَّاسٍ، و ابْنِ مَسْعُودِ، و زَيْدِ بْنِ صَوحَان. و لم يتأخّر إلّا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، و أبُو موسى، و مَعَاذُ، و عُثْمَانُ؛ و كلّهم معترفون له بالعلم، مقرّون له بالفضل.٢
قال النقّاش في تفسيره: قال ابن عبّاس: عليّ علم علماً علّمه رسول الله؛ و رسول الله علّمه الله؛ فَعِلم النبيّ علم الله؛ و علم عليّ من علم النبيّ؛ و عِلمي من علم عليّ؛ و ما علمي و علم جميع أصحاب محمّد في علم عليّ إلّا كقطرة في سبعة أبحر.٣
قال الضحّاك: عن ابن عبّاس قال: اعطي عليّ تسعة أعشار العلم؛ و إنّه لأعلمهم بالعشر الباقي.٤
و جاء في «الأمالي» للطوسيّ: مرّ أمير المؤمنين عليه السلام بملأ فيهم سلمان. فقال لهم سلمان: قوموا! فخذوا بحجزة هذا! فوالله لا يخبركم بسرّ نبيّكم صلى الله عليه و آله غيره!٥
و ورد في «الأمالي» لابن بابويه: قال محمّد بن المنذر: سمعت أبا أمامة يقول: كان عليّ إذا قال شيئاً، لم يشكّ فيه؛ و ذلك أنّا سمعنا
رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: خَازِنُ سِرّي بَعْدِي عَلِيّ.۱
و قال الحِميَريّ:
وَ عَلِيّ خَازِنُ الوَحْي الذي | *** | كَانَ مُسْتَودَعَ آياتِ السُّوَرْ٢ |
و روى عن يَحْيَي بْنِ مُعِين بإسناده عن عطاء بن أبي رباح أنّه سئل: هل تعلم أحداً بعد رسول الله أعلم من عليّ؟! قال: لا و الله ما أعلمه.٣
و أمّا قول عمر بن الخطّاب في ذلك فكثير، رواه الخطيب (البغداديّ) في (كتابه) «الأربعين». قال عمر: العلم ستّة أسداس لعلى من ذلك خمسة أسداس، و للناس سدس. و لقد شاركنا في السدس، حتى لهو أعلم به منّا.
و روى عِكْرَمَةُ عن ابن عبّاس أنّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ قال لأمير المؤمنين عليه السلام: يا أبا الحسن! إنّك لتعجّل في الحكم و الفصل للشيء إذا سئلت عنه!
فأبرز عليّ كفّه و قال له: كم هذا؟ فقال عمر: خمسة!
فقال (أمير المؤمنين): عجّلت يا أبا حفص!
قال (عمر): لم يَخْفَ عَلَيّ؛ فقال عَليّ: أنا أسرع فيما لا يخفى عَلَيّ.٤
وَ اسْتَعْجَمَ عَلَيْهِ شَيءٌ (على عمر) وَ نَازَعَ عَبْدَ الرّحْمَنِ فَكَتَبَا إلَيْهِ أن يَتَجَشَّمَ بِالحُضُورِ. فَكَتَبَ إلَيْهِمَا: العِلْمُ يُؤْتَى وَ لَا يَأتِي. فَقَالَ عُمَرُ: شَيْخٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَ أثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ يُؤْتَى إلَيْهِ وَ لَا يَأتِي، فَصَارَ إلَيْهِ فَوَجَدَهُ مُتَّكِئَاً عَلَى مِسْحَاةٍ (كان مشغولًا في مزرعة له خارج المدينة) فَسَألَهُ عَمَّا أرَادَهُ فَأعْطَاهُ الجَوَابَ.
فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ عَدَلَ عَنْكَ قَوْمُكَ وَ إنّكَ لأحَقُّ بِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلامُ: إنّ يَوْمَ الفَصْلِ كَانَ مِيقَاتَاً.۱
و روى يونس عن عُبَيْد، قال: قال الحسن: إنّ عمر بن الخطّاب قال: اللَهُمَّ إنّي أعُوذُ بِكَ مِنْ عَضِيهَةٍ٢ لَيْسَ لَهَا عَلِيّ عِنْدِي حَاضِرَاً.٣
و ورد في «الإبَانَة» لابْنِ بَطَّة أنّ عمر كان يقول في (مسألة تُعصى عليه) و يسأل عنها علياً، (فيجيبه) و يفرّج عنه: لَا أبْقَانِيَ اللهُ بَعْدَكَ!٤
و في تاريخ البلاذريّ: لَا أبْقَانِيَ اللهُ لِمُعْضَلَةٍ لَيْسَ لَهَا أبُو الحَسَنِ.٥
و جاء في «الإبانة» و «الفائق»: أعُوذُ بِاللهِ مِنْ مُعْضَلَةٍ لَيْسَ لَهَا أبُو حَسَنٍ.٦
و قد ظهر رجوعه إلى عليّ عليه السلام في ثلاث و عشرين مسألة حتى قال: لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ.۷
علم أمير المؤمنين عليه السلام كعلم الخِضر بالحقائق و الأسرار
روى البيهقيّ عن أبي عثمان قاضي الري، عن الأعمش، عن سعيد ابن جبير، قال: كان عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ بمكّة يحدّث على شَفِيرِ زَمْزَم و نحن عنده. فلمّا قضى حديثه، قام إليه رجل، فقال:
يا بن عبّاس! إنّي امرؤ من أهل الشام من أهل حِمْص؛ إنّهم يتبّرأون من عليّ بن أبي طالب رضوان الله عليه، و يلعنونه. فقال [ابن عبّاس]: بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ في الدُّنْيَا وَ الاخِرَةِ وَ أعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً!
أ لِبُعْدِ قَرَابَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَليهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ؟ وَ أنّهُ لَمْ يَكُنْ أوَّلَ ذُكْرَانِ العَالَمِينَ إيمَاناً بِاللهِ وَ رَسُولِهِ؟ وَ أوَّلَ مَنْ صلى وَ رَكَعَ وَ عَمِلَ بِأعْمَالِ البِرّ؟
قال الشاميّ: إنّهم و الله ما ينكرون قرابته و سابقته؛ غير أنّهم يزعمون أنّه قتل الناس!
فقال ابن عبّاس: ثَكَلَتْهُم امَّهَاتُهُمْ! إنّ عليّاً أعرف بالله عزّ و جلّ و برسوله و بحكمهما منهم، فلم يقتل إلّا من استحقّ القتل.
قال [الشاميّ]: يا بن عبّاس! إنّ قومي جمعوا لي نفقة؛ و أنا رسولهم إليك، و أمينهم و لا يسعك أن تردّني بغير حاجتي! فإنّ القوم هالكون في أمره؛ ففرّج عنهم فَرّج الله عنك!
فقال ابن عبّاس: يا أخا أهل الشام! إنّما مثل عليّ في هذه الامّة في فضله و علمه كمثل العَبْدِ الصَّالِحِ (الخِضْر) الذي لقيه موسى عليه السلام لمّا انتهى إلى ساحل البحر، فقال له: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً.۱
قال [ذلك] العالم (الخِضر): إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ، وَ كَيْفَ
تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً.۱
قال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً.٢
قال له العالم: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ، فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها.٣
و كان خرقها للّه جلّ و عزّ رضيً، و لأهلها صلاحاً. و كان عند موسى عليه السلام سخطاً و فساداً؛ فلم يصبر موسى عليه السلام و ترك ما ضمن له فقال:
أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً.٤
قال له العالم: أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.٥
قال موسى: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً.٦
فكفّ عنه العالم، فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ.
و كان قتله للّه عزّ و جلّ رضیً؛ و لأبویه صلاحاً. [و لكن] كان عند موسى عليه السلام ذنباً عظيماً. قال موسى: و لم يصبر [و ضاق ذرعاً فقال:]
أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً۷ بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً.۸
قال [له] العالم: أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.۱
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً ، فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ.٢
و كان إقامته للّه عزّ و جلّ رضيً و للعالمين صلاحاً، فقال [له موسى]: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ، قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ.٣
و كان [ذلك] العالم أعلم بما يأتي به من موسى عليه السلام، و [لكن] كبر على موسى الحقّ و عظم إذ لم يكن يعرف هذا، و هو نبيّ مرسل من اولي العزم ممّن قد أخذ الله جلّ و عزّ ميثاقه على النبوّة.
فكيف أنت يا أخا أهل الشام و أصحابك؟ [و في أي حال؟ و ما ذا يحسبون؟] إنّ عليّاً عليه السلام لم يقتل إلّا من كان يُستحلّ قتله.
و إنّي اخبرك أنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) كان عند امِّ سَلَمة بنت أبِي امَيَّة.٤ إذ أقبل عليّ عليه السلام يريد الدخول على النبيّ
(صلى الله عليه و آله و سلّم)، فنقر نقراً خفيّاً، فعرف رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) نقره، فقال: يا امّ سلمة! قومى فافتحي الباب!
فقالت [امّ سلمة]: يَا رَسُولَ اللهِ! مَنْ هَذَا الذي يَبْلُغُ خَطَرُهُ أنْ أسْتَقْبِلَهُ بِمَحَاسِنِي وَ مَعاصِمِي؟!
فقال [النبيّ]: يَا امَّ سَلَمَةَ! إنّ طَاعَتِي طَاعَةُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ. قَالَ: وَ مَنْ يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللهَ. قُومِي يَا امَّ سَلَمَةَ فَإنّ بِالبَابِ رَجُلًا لَيْسَ بِالخَرقِ وَ لَا بالنّزِقِ وَ لَا بِالعَجِلِ في أمْرِهِ، يُحِبُّ اللهَ وَ رَسُولَهُ؛ وَ يُحِبُّهُ اللهُ وَ رَسُولُهُ. يَا امَّ سَلَمَةَ! إنّهُ إنْ تَفْتَحِي البَابَ لَهُ فَلَنْ يَدْخُلَ حتى يَخْفَى عَلَيْهِ الوَطْءُ.
[فتحت امّ سلمة الباب]، فلم يدخل حتى غابت عنه، و خفي عليه الوطء. فلمّا لم يحسّ لها حركة، دفع الباب، و دخل، فسلّم على النبيّ [الأكرم] (صلى الله عليه و آله و سلّم)، فردّ عليه السلام، و قال: يا امّ سلمة! هل تعرفين هذا؟ قالت [امّ سلمة]: نعم! هَذَا عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ!
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه و آله و سلّم): نَعَمْ هَذَا عَلِيّ سِيطَ لَحْمُهُ بِلَحْمِي، وَ دَمُهُ بِدَمِي؛ وَ هُوَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
يَا امّ سَلمَةَ! هَذَا عَلِيّ سَيِّدٌ مُبَجَلٌ، مُؤَمَّلُ المُسْلِمِينَ؛ وَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ، وَ مَوْضِعُ سِرّي وَ عِلْمِي، وَ بَابِيَ الذي آوِى إلَيْهِ؛ وَ هُوَ الوَصِيّ عَلَى أهْلِ بَيْتِي وَ عَلِى الأخْيَارِ مِنْ امَّتِي؛ وَ هُوَ أخِي في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ، وَ هُوَ مَعِي في
السَّنَاءِ الأعْلَى. اشْهَدِي يَا امَّ سَلَمَةَ: أنّ عَلَيَّاً يُقَاتِلُ النّاكِثِينَ وَ القَاسِطِينَ وَ المَارِقِينَ!
قال ابن عبّاس: و قتلهم للّه رضيً و للُامّة صلاح، و لأهل الضلالة سخط.
قال الشاميّ: يا بن عبّاس! من الناكثون؟
قال [ابن عبّاس]: الذين بايعوا عليّاً بالمدينة، ثمّ نكثوا، فقاتلهم بالبصرة. [اولئك] أصحاب الجمل. و القاسطون معاوية و أصحابه. و المارقون أهل النهروان و من معهم.
فقال الشاميّ: يَا بْنَ عَبَّاسٍ! مَلأتَ صَدْري نُوراً وَ حِكْمَةً؛ وَ فَرّجْتَ عَنّي فَرّجَ اللهُ عَنْكَ! أشْهَدُ أنّ عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَوْلَايَ وَ مَوْلَي كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ.۱
و قال العارف الشهير الشاعر الشيخ فريد الدّين العطّار النيسابوريّ رضوان الله عليه:
زِ مشرق تا به مغرب گر امام است | *** | على و آل او ما را تمام است |
گرفته اين جهان وصف سِنانش | *** | گذشته ز آن جهان وصف سه نانش |
چه در سِرّ عَطا إخلاص او راست | *** | سه نان را هفده آيه خاص او راست٢ |
اگر علمش شدي بحر مُصَوَّر | *** | در او يك قطره بودى بحر أخْضَر |
چه هيچش طاقت منّت نبودى | *** | ز همّت گشت مزدور يهودى |
كسى گفتش چرا كردى؟ برآشفت | *** | زبان بگشاد چون شمع و چنين گفت۱ |
لَنَقْلُ الصَّخْر مِنْ قُلَلِ الجِبَالِ | *** | أحَبُّ إليّ مِنْ مِنَنِ الرّجَالِ |
يَقُولُ النّاسُ لِي في الكَسْبِ عَارٌ | *** | فَإنّ العَارَ في ذُلِّ السُّؤَالِ |
و نقرأ فيما يأتي بيتين للشافعيّ يدلّان عليه جيّداً:
لو شُقَّ قلبي لَيُرى في وَسْطِه | *** | خَطَّانِ قَدْ خُطَّا بِلَا كَاتِبٍ |
الشَّرْعُ وَ التَّوْحِيدُ في جَانِبٍ | *** | وَ حُبُّ أهْلِ البَيْتِ في جَانِبِ |
و هنا تفوق درجات حبّ أمير المؤمنين عليه السلام و مودّته التعقّل و التفكير، و تبلغ حدّ التحيّر و الوَلَه و التَّيْم، كما عبّر هو نفسه عن هذا المعنى بقوله: وَ اجْعَلْ قَلْبِي بِحُبِّكَ مُتَيَّماً. و يقصر في جنبه حقّاً لفظ الشوق و الاشتياق و العشق. و إذا ما تصوّرنا معشوقاً حقيقيّاً في الممكنات، فمن ذا يكون غير نفسه المقدّسة؟
إى به حُسن تو صنم چشم فلك ناديده | *** | وى ز مثل تو وَلَد مادر أيّام عقيم٢ |
عشق بازى نه طريق حكما بود ولى | *** | چشم بيمار تو دل مىبرد از دست حكيم۱ |
صلّى الله عليك يا أمير المؤمنين! و يا خليفة رسول ربّ العالمين؛ و يا قائد الغرّ المحجَّلين؛ و يا إمام البَرَرة و المؤمنين.
اى برتر از قياس و خيال و گمان و وهم | *** | وز هر چه ديدهايم و شنيديم و خواندهايم |
مجلس تمام گشت و به آخر رسيد عمر | *** | ما همچنان در اوّل وصف تو ماندهايم٢ |
روحي و أرواح العالمين لك الفداء.
فِيكَ يَا اعْجُوبَةَ الكَوْنِ غَدَا الفِكرُ كَلِيلَا | *** | أنتَ حَيَّرْتَ ذَوِى اللُّبِّ و بَلْبَلْتَ العُقُولَا |
كُلَّما قَدِمَ فِكْرِي فِيكَ شِبْراً فَرّ مِيلَا | *** | نَاكِصاً يَخْبطُ في عَمْيا وَ لَا يَهْدِي سَبِيلَا٣ |
هزار دشمنم ار مىكنند قصد هلاك | *** | گرم تو دوستى از دشمنان ندارم باك٤ |
*** |
مرا اميد وصال تو زنده مىدارد | *** | وگرنه هر دمم از هجر تُست بيم هلاك |
رود به خواب دو چشم از خيال تو هيهات | *** | بود صبور دل اندر فراق تو حاشاك |
اگر تو زخم زنى به كه ديگران مرهم | *** | و گر تو زهر دهى به كه ديگران ترياك |
نفس نفس اگر از باد بشنوم بويت | *** | زمان زمان چو گل از غم كنم گريبان چاك |
بضرب سيفك قتلي حياتنا أبداً | *** | بأنّ روحي قد طاب أن يكون فداك |
عنان مپيچ كه گر مىزنى به شمشيرم | *** | سپر كنم سر و دستت ندارم از فتراك |
ترا چنانكه توئى هر نظر كجا بيند؟ | *** | به قدر دانش خود هر كسى كند ادراك۱ |
به چشم خلق عزيز آن زمان شود حافظ | *** | كه بر در تو نهد روى مسكنت بر خاك۱ [٢٣] |
الدَّرْسُ الثَّالِثُ وَ الْخَمْسُونَ بَعْدَ المِائَةِ إلَى السَّادِسِ وَ الْخَمْسِينَ بَعْدَ المِائَة: حول الحديث المأثور: أنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.۱
قال صاحب «مجمع البيان» في تفسيره: و في قوله: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وجوه:
الوجه الأوّل: أنّه كان المحرمون (للحجّ في الجاهليّة) لا يدخلون بيوتهم من أبوابها، و لكنّهم كانوا ينقبون نقباً في ظهر بيوتهم أي: في موخّرها يدخلون و يخرجون منه، فنهوا عن التديّن بذلك (في الإسلام)، (و هذا الوجه) عن ابن عبّاس، و قتادة، و عطاء؛ و رواه أبو الجارود عن الإمام الباقر عليه السلام.
و قيل: إنّ الحُمْس،٢ و هم قريش، و كَنَانَة، و خُزَاعَة، و ثَقِيف،
و جشم، و بنو عامر بن صَعْصَعَة كانوا لا يفعلون ذلك. و إنّما سُمّوا حُمْساً لتشدّدهم في دينهم، و الحماسة الشدّة. و قيل (أيضاً): بل كانت الحمس تفعل ذلك؛ و إنّما فعلوا ذلك حتى لا يحول بينهم و بين السماء شيء.
الوجه الثاني: أنّ معناه: ليس البرّ أن تأتوا البيوت من غير جهاتها، و ينبغي أن تأتوا الامور من جهاتها، أي الامور كان. و هو المرويّ عن جابر، عن [أبي جعفر] عليه السلام.
الوجه الثالث: أنّ معناه: ليس البرّ طلب المعروف من غير أهله؛ و إنّما البرّ طلب المعروف من أهله.
و قال في ذيل قوله: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها: قال أبو جعفر [الإمام الباقر] عليه السلام: آلُ مُحَمَّدٍ أبْوَابُ اللهِ وَ وَسيلَتُهُ وَ الدُّعَاةُ إلَى الجَنّةِ وَ القَادَةُ إليْهَا وَ الأدِلَّاءُ عَلَيْهَا إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
و قال النبيّ صلى الله عليه و آله: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا وَ لَا تُؤْتَى المَدِينَةُ إلَّا مِنْ بَابِهَا. وَ يُرْوَي: أنَا مَدِينَةُ الحِكْمَةِ.۱
و قال العلّامة الطباطبائيّ في تفسير «الميزان» بعد أن تحدّث حديثاً وافياً عن أنّ النقل قد أثبت أنّه كان المتعصّبون في دينهم و أفكارهم أيّام الجاهليّة إذا أحرموا للحجّ، يتردّدون من الجُدُر المنقوبة. و بعد أن نقل رواية في هذا المجال عن تفسير «الدرّ المنثور»، قال: و في «محاسن البرقيّ» عن [الإمام] الباقر عليه السلام في قوله تعالى: «وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها» يَعْنِي أنْ يَأتِيَ الأمْرَ مِنْ وَجْهِهِ، أي الامُورِ كَانَ.
و في «الكافي» عن [الإمام] الصادق عليه السلام: الأوْصِيَاءُ هُمْ أبْوَابُ اللهِ التي مِنْهَا يُؤْتَي؛ وَ لَوْ لا همْ مَا عُرِفَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ وَ بِهِمُ احْتَجَّ اللهُ تَبَاركَ
وَ تَعَالى عَلَى خَلْقِهِ.۱
أي: هم حجج الله الذين يُقتدى بأخلاقهم و عقائدهم و أعمالهم كلّها. و بهم يسأل الله عباده و يجيبهم.
كلام الملّا عبد الرزّاق و صاحب تفسير «بيان السعادة» في هذه الآية
و قال صاحب تفسير «بيان السعادة»: و أبواب الامور وجهة الأشياء كلّها هي الولاية و نسب إلى [الإمام] الباقر عليه السلام أنّه قال: يَعْنِي أنْ يَأتِيَ الأمْرَ مِنْ وَجْهِهِ، أي الامُورِ كَانَ. و لذلك فإنّ مفاد هذه الآية المباركة هو: قوموا بالامور الدنيويّة و الاخرويّة جميعاً من وجوهها، مثل أن يأتي (أنواع) الحِرَف و الصناعات من وجوهها التي هي أخذ علمها من عالمها؛ و تحصيل الاقتدار على عملها بالممارسة و التكرار عند عاملها.
و مثل أن يأتي الصناعات العلميّة من وجوهها التي هي الأخذ من عالمها و المدارسة عنده.
و مثل أن يأتي العلوم و الأعمال الإلهيّة من وجوهها التي هي الأخذ من عالم إلهيّ، و المدارسة و الممارسة عنده و بإذنه و تعليمه. فالعمدة في طلب الامور طلب الوجوه المذكورة. و العمدة في طلب الآخرة و العلوم الإلهيّة طلب عالِم إلهيّ منصوب مجاز من الله بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط؛ و بعد معرفته، التسليم و الانقياد له (لتعليمه و تربيته)، لا الأخذ من الآباء و الأقران و المشاهدات و العمل بالرسوم و العادات. فقد ورد في الأخبار و الآيات ذمّ من قال: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ.٢
(و لذلك) فمن لم يتأمّل في علمه و عمله فيمن أخذهما منه، و لم يميّز العالِم الإلهيّ بأدنى مراتب التمييز، و هو كون فعله موافقاً لقوله، كان مذموماً مطروداً مبغوضاً، سواء عدّ عالماً مفتياً مقتديا (به)، أم جاهلًا معدوداً من السواقط.۱
و جاء في تفسير الملّا عبد الرزّاق الكاشانيّ: ليس البرّ بأن تأتوا بيوت قلوبكم من ظهورها؛ أي من طرق حواسّكم، و معلوماتكم المأخوذة من مشاعركم البدنيّة؛ فإنّ ظهر القلب هو الجهة التي تلي البدن. و لكنّ البرّ برّ مَن اتّقى شواغل الحواسّ و هواجس الخيال (و الوهم)، و وساوس النفس! و أتوا البيوت من أبوابها الباطنيّة التي تلي الروح، و الحقُّ! فإنّ باب القلب هو الطريق الذي انفتح منه إلى الحقّ؛ و «اتّقوا الله» في الاشتغال بما يشغلكم عنه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ!٢
و منها ما ذكره عن العيّاشيّ، عن سعد، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن هذه الآية: «لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَ
الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها»؛ فَقَالَ: آلُ مُحَمَّدٍ أبْوَابُ اللهِ وَ سَبِيلُهُ، وَ الدُّعَاةُ إلَى الجَنّةِ وَ القَادَةُ إليْهَا وَ الأدِلَّاءُ عَلَيْهَا إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.
و هذا هو الوجه الثالث الذي ذكرناه سابقاً نقلًا عن تفسير «مجمع البيان». و قال العيّاشيّ بعد بيان الرواية التي أوردها صاحب «المجمع» في الوجه الثاني: و أخرج سعيد بن منخل في حديث مرفوعاً قَالَ: البُيُوتُ الأئِمَّةُ وَ الأبْوَابُ أبْوَابُهَا.
و بعد أن نقل الروايتين اللتين نقلناهما عن «مجمع البيان» في الوجه الأوّل و الثاني، و ذكرهما أيضاً عن الشيخ أبي عليّ الطبرسيّ، نقلًا عن تفسير عليّ بن إبراهيم أنّه قال: نزلت هذه الآية في أمير المؤمنين عليه السلام لقول رسول الله صلى الله عليه و آله: أنَا مَدِيَنةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا وَ لَا تَأتُوا المَدِينَةَ إلَّا مِنْ بَابِهَا.
و منها ما رواه عن سعد بن عبد الله بإسناده عن الإمام الباقر عليه السلام، قَالَ:
مَنْ أتَى آلَ مُحَمَّدٍ أتَى عَيْناً صَافِيَةً تَجْرِي بِعِلْمِ اللهِ لَيْسَ لَهَا نَفَادٌ وَ لَا انْقِطَاعٌ ذَلِكَ بِأنّ اللهَ لَوْ شَاءَ لَرَآهُمْ۱ شَخْصَهُ حتى يَأتُونَهُ مِنْ بَابِهِ وَ لَكِنْ جَعَلَ آلَ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أبْوَابَهُ التي يُؤْتَى مِنْهَا وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَ جَلَّ: «لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها.»٢
ما يستفاد من مجموع هذه الروايات، على ما يلاحظ من اختلاف في تفسيرها و بيانها، هو أنّها تقدّم لنا معنى واحداً فحسب، و لا خلاف فيه.
و ما هذه الموارد المذكورة إلّا مصاديق لذلك المعنى الواحد، لا نفس مفاد الآية. و هذا المعنى العامّ المستفاد هو لزوم الدخول في كلّ شيء عبر الطريق المعيّن الذي حدّدته الفطرة و العقل و الشرع، إذ بغير ذلك لا يصل الإنسان إلى بغيته، و لا يخلّف وراءه إلّا الأضرار. و يجب الدخول من باب البيت عند الإحرام. و من الخطأ نقب الجدار الكائن خلف البيت بحجّة أنّنا نريد أن لا يحول بيننا و بين السماء شيء. و ينبغي تعلّم جميع العلوم من أهلها، فمثلًا العلوم الطبيعيّة، كالطبّ و الرياضيّات و الهيئة و النجوم و الفيزياء و الكيمياء و التعدين و الزراعة و تربية المواشي و البناء و الصيدلة و علم النبات و المكننة و التقنية و الكهرباء و غيرها. فينبغي التوجّه إلى أساتذتها بعد توفّر الشروط اللازمة، و ممارستها تحت إشرافهم وصولًا للنتائج المطلوبة.
هيچ كس از پيش خود چيزى نشد | *** | هيچ آهن خنجر تيزى نشد |
هيچ حلوائى نشد استاد كار | *** | تا كه شاگرد شكر ريزى نشد۱ |
و كذلك الأمر في العلوم الاصطلاحيّة كالفقه، و الاصول، و الحديث، و الدراية، و الرجال، و الصرف، و النحو، أي علوم العربيّة البالغة اثني عشر علماً،٢ و التفسير، و القراءة، و الحكمة و الفلسفة، و العرفان النظريّ
و غيرها. فينبغي تعلّمها عند أساتذتها، لأنّهم أبواب تلك البيوت التي يتعسّر الوصول إليها بغيرهم.
و كذا الحال في علوم الأخلاق، و التهذيب و التزكية، و التعليم و التربية النفسانيّة، و الحكمة العمليّة، و العرفان الإلهيّ، فيجب التوجّه إلى أساتذة هذه الفنون من العلماء الربّانيّين، العلماء بالله و أمره. لتعلّم طريقة تهذيب النفس منهم، و تطبيق ذلك عمليّاً. و بدون سلوك هذا الطريق فليس سوى الضلال و التيه.
طيّ اين مرحله بى همرهى خضر مكن | *** | ظلماتست بترس از خطر گمراهى |
گل مراد تو آنگه نقاب بگشايد | *** | كه خدمتش چو نسيم سحر توانى كرد |
شبان وادى ايمن گهى رسد به مراد | *** | كه چند سال به جان خدمت شعيب كند۱ |
و ينبغي الرجوع في العقائد، و الملكات الحسنة، و الأحكام و الوظائف إلى النبيّ صلى الله عليه و آله لكي نتعلّم منه التوحيد الكامل، و معرفة
المبدأ و المعاد، و المنازل و المراحل، و وسائط الفيض و الملائكة، أي العلوم الغيبيّة الإلهيّة. فالنبيّ صلى الله عليه و آله هو باب الله، و طريق لقاء الله، و الوصول إلى ذروة عرفان الذات الأحديّة.
و في حقل بيان الأحكام الجزئيّة، و معنى القرآن الكريم و تأويله، و في فصل الخصومة في المسائل الاعتقاديّة الخلافيّة، و حفظ النفوس، و الولاية على الشؤون الفرديّة و الاجتماعيّة، و تأمين الامور الدنيويّة و الاخرويّة، و المعاش و المعاد، و تنمية القوى الفطريّة و العقليّة و الشرعيّة و تكاملها، و الانضواء تحت لواء وليّ الأمر الذي بلغ مقام اللقاء و الفناء في الذات الأحديّة و البقاء بعد الفناء، و سير الأسفار الأربعة، فيجب الرجوع إلى أوصياء رسول الله الذين يمثّلون الحماة التكوينيّين و التشريعيّين لعالم الوجود، و وسائط الفيض الربّانيّ، و المربّين الظاهريّين و الباطنيّين للبشريّة في جميع امور الدين و الدنيا. لأنّهم أبواب الله و رسوله. فطوبى لنا إذا ما دخلنا البيوت من أبوابها، و إلّا، فعاقبتنا الخسران و الحسرة و الندامة.
الأئمّة هم إذْن الدخول في بيت رسول الله
و إذا قارنّا الآية مثار البحث بالآية الثالثة و الخمسين من السورة الثالثة و الثلاثين: الأحزاب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ، فسنحصل على أنّ الأئمّة الطاهرين هم نفس الإذن و إجازة الدخول إلى بيت رسول الله، بحيث لو لا وجود الأئمّة لتعذّرت طرق الدخول إلى بيت رسول الله، فعَين وجودهم و الاتّصال بهم هو إذن الدخول في بيوت النبيّ. و على هذا لا طريق أبداً إلى بيت النبيّ الذي كلّه عظمة، و أخلاق رفيعة، و اتّصال بالمبادئ العالية، و عالم الغيب، و كان قاب قوسين منه أو أدنى، و مقام التوحيد المحض و العرفان الخالص، و مقام الشفاعة الكبرى، و مجموعة النَّشْأتَيْن، و علوم ما كان و ما هو كائن و ما يكون إلى يوم القيامة إلّا من الباب الذي هو إذن الدخول، و تلك النفس المطهّرة هي
باب العلم و باب النبيّ. و من خال أنّه وجد الطريق بغير اولئك العظماء فإنّه على و هم ليس إلّا.
راز بگشا أي على مرتضى | *** | أي پس از سوء القضا حُسن القضا |
چون تو بابى آن مدينة علم را | *** | چون شعاعى آفتاب حِلم را |
باز باش أي باب بر جوياى باب | *** | تا رسند از تو قشور اندر لباب |
باز باش أي باب رحمت تا أبد | *** | بارگاه ما له كفواً أحد۱ |
و قال الإصفهانيّ:٢
وَ لَهُ يَقُولُ مُحَمَّدٌ أقْضَاكُمُ | *** | هَذَا وَ أعْلَمُ يَا ذَوى الأذْهَانِ |
إنّى مَدِينَةُ عِلْمِكُمْ وَ أخِى لَهُ | *** | بَابٌ وثِيق الرّكْنِ مِصْرَاعَانِ |
فَأتُوا بُيُوتَ العِلْمِ مِنْ أبْوَابِهَا | *** | فَالْبَيْتُ لَا يُؤْتَى مِنَ الحِيطَانِ٣ |
مَا بَالُ عَينك ثرّة الأجفانِ | *** | عبري اللحاظ سقيمة الإنسان |
صلّي الإله علي ابن عمّ محمّدٍ | *** | منه صلاة تغمّد بحنانِ |
و له إذا ذكر الغدير فضيلةٌ | *** | لم ننسها ما دامت الملوانِ |
قام النبيّ بشرح ولايةٍ | *** | نزل الكتاب بها من الديّانِ |
استدلال ابن شهرآشوب بحديث مدينة العلم على العصمة و الإمامة
و أجمعت الامّة على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ.
و رواه أحمد بن حنبل من ثمانية طرق، و إبراهيم الثقفيّ من سبعة، و ابن بَطَّة من ستّة، و القاضي الجعابيّ من خمسة، و ابن شاهين من أربعة، و الخطيب البغداديّ من ثلاثة، و يَحيَي بن مُعِين من طريقين. و رواه السَّمْعَانيّ، و القاضي الماورديّ، و أبو منصور السكريّ، و أبو الصَّلْت الهَرَويّ، و عبد الرزّاق، و شريك عن ابن عبّاس و مُجاهِد و جابر. و يتطلّب هذا الخبر رجوع الامّة كلّها إلى أمير المؤمنين عليه السلام، ذلك أنّ النبيّ الكريم صلى الله عليه و آله كنّى عن نفسه بالمدينة، و أخبر أنّ الوصول إلى علمه لا يتسنّى إلّا من طريق عليّ فحسب، إذ جعله باب المدينة التي لا يمكن الدخول فيها بدونه. ثمّ أوجب أمر الدخول في هذه المدينة بقوله:
فَلْيَأتِ البَابَ.
و يدلّ هذا الحديث أيضاً على عصمة الإمام، لأنّ الاقتداء بغير المعصوم يعني الاقتداء بمن يصحّ وقوع القبيح منه، و هو يعني أنّ رسول الله قد أمر بالقبيح، و هذا محال.
كما يدلّ الحديث أيضاً على أنّ الإمام أعلم الامّة؛ و يؤيّد ذلك ما قد علمناه من اختلاف الامة، و رجوع بعضها إلى بعض، و استغناء عليّ بن أبي طالب عليه السلام عن الرجوع إلى أحد منها، و عدم حاجته إلى أي منها في مسألة من المسائل. و أبان رسول الله صلى الله عليه و آله هذا الكلام و أكّد ولاية عليّ عليه السلام و إمامته. إذ لا يصحّ أخذ العلم و الحكمة في حياة رسول الله و بعد وفاته من أحد سوى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب. و قد ساوى لفظ علي بن أبي طالِبٍ في حساب الجمّل لفظ باب
مدِينَة الحِكْمَةِ، إذ كلّ منهما مائتين و ثمانية عشر.۱
أشعار فحول العلماء في باب مدينة العلم: أمير المؤمنين عليه السلام
و قال البشنويّ:٢
فَمدِينَةُ العِلْمِ التي هُوَ بَابُهَا | *** | أضْحَى قَسِيمَ النّارِ يَوْمَ مَآبِهِ |
فَعَدُوُّهُ أشْقَى البَرِيَّةِ في لَظَي | *** | وَ وَلِيُّهُ المَحْبُوبُ يَوْمَ حِسَابِهِ٣ |
و قال أيضاً:
يَا مُصْرِفَ النّصِّ جَهْلًا عَنْ أبِي حَسَنٍ | *** | بَابُ المَدِينَةِ عَنْ ذِي الجَهْلِ مَقْفُولُ |
مَدِينَةُ العِلْمِ مَا عَنْ بَابُهَا عِوَضٌ | *** | لِطَالِبِ العِلْمِ إذْ ذُو العِلْمِ مَسؤُولُ |
مَوْلَى الأنَامِ عَلِيّ وَ الوَلِيّ مَعاً | *** | كَما تَفَوَّهَ عِنْ ذِي العَرْشِ جِبْرِيلُ٤ |
و قد شهدوا عيد الغدير و أسمعوا | *** | مقال رسول الله من غير كتمانِ |
أ لست بكم أولي من الناس كلّهم | *** | فقالوا: بلى يا أفضل الإنس و الجان |
و شال بعضديه و قال و قد صغى | *** | إلى القول أقصى القوم تالله و الدانِ |
عليّ أخي لا فرق بيني و بينه | *** | كهارون من موسى الكليم ابن عمرانِ |
و وارث علمي و الخليفة في غدٍ | *** | على امّتي بعدي إذا زرت جثماني |
و قال الصاحب بن عبّاد:
كَانَ النّبِيّ مَدِينَةً هُوَ بَابُهَا | *** | لَوْ أثْبَتَ النّصَّابُ ذَاتَ المُرْسَلِ۱ |
و قال أيضاً:
قَالَتْ فَمَنْ ذَا غَدَا بَابَ المَدِينَةِ قُلْ؟ | *** | فَقُلْتُ: مَنْ سَألُوهُ وَ هُوَ لَمْ يَسَلِ٢ |
و له كذلك:
بَابُ المدِينَةِ لَا تَبْغُوا سِوَاهُ لَهَا | *** | لِتَدْخُلُوهَا فَخَلُّوا جَانِبَ التِّيهِ٣ |
«عليّ باب مدينة علم النبيّ. فلا تبحثوا عن غيره لدخول تلك المدينة. فادخلوها بواسطته (فلا يمكنكم أن تدخلوا من طريق آخر، لأنّ هذه المدينة لا باب لها سواه). و لذلك اجتنبوا من الذهاب في الفيافي القاحلة (إذ لو اتّبعتم غير عليّ، لساقكم إلى وادي بَرَهوت و الجهل، و عرّضكم للضلال و الهلاك. فهلمّوا إلى مدينة العلم و ادخلوا من بابها لتمتلئوا نشوة من العلم و الحكمة!)
و قال السيّد إسماعيل الحِمْيَريّ:
مَن كَانَ بَابَ مَدِينَةِ العِلْمِ الذي | *** | ذَكَرَ النّزُولَ وَ أسَرّ الأنْبَاء٤ |
(أسرّ النبيّ الأنباء و لم يذكرها إلّا لباب مدينته الذي كان مطّلعاً على جميع علومه سواء الظاهريّة أم الباطنيّة، و التفسيريّة أم التأويليّة).
و قال ابن حمّاد:
بَابُ الإلَهِ تَعَالى لَمْ يَصِلْ أحَدٌ | *** | إلَيْهِ إلَّا الذي مِنْ بَابِهِ يَلِجُ۱ |
و له كذلك:
هَذَا الإمامُ لَكُمْ بَعْدِي يُسَدِّدُكُمْ | *** | رُشْداً وَ يُوسِعُكُمْ عِلْماً وَ آدابَا |
إنّي مَدِينَةُ عِلْمِ اللهِ وَ هُوَ لَهَاب | *** | َابٌ فَمَنْ رَامَهَا فَلْيَقْصُدِ البَابَا٢ |
و قال الخطيب المنيح:
أنَا دَارُ الهُدَى وَ العِلْمِ فِيكُمْ | *** | وَ هَذَا بَابُهَا لِلدَّاخِلينا |
أطِيعُونِي بِطَاعَتِهِ وَ كُونُوا | *** | بِحَبْلِ وَلَائِهِ مُسْتَمْسِكِينَا٣ |
و قال خطيب خوارزم:
إنّ النّبِيّ مَدِينَةٌ لِعُلُومِهِ | *** | وَ عَلِيّ الهَادِي لَهَا كَالْبَابِ٤ |
روايات العامّة و الخاصّة في حديث: أنا مدينة العلم و عليّ بابها
أجل، روى كبار أعلام العامّة و الشيعة حديث: «أنا مدينة العلم» في كتبهم بأسانيد متعدّدة عن رسول الله صلى الله عليه و آله؛ منهم: السيّد هاشم البحرانيّ، و الشيخ الصدوق، و الشيخ المفيد، و الشيخ الطوسيّ، و ابن عساكر، و ابن المغازليّ، و الحمّوئيّ، و الخوارزميّ و غيرهم. و نقل البحرانيّ
ستّة عشر حديثاً من طريق العامّة، و سبعة أحاديث من طريق الخاصّة،
و فيما يأتي بعضاً منها:
روى عن «المناقب» للفقيه الشافعيّ ابن المغازليّ بقراءته على أبي الحسن أحمد بن مظفّر بن أحمد العطّار الفقيه الشافعيّ، و إقرار أبي الحسن على هذه القراءة سنة ٤٣٤ ه، روى بسنده المتّصل عن عبد الرحمن بن نَهْبان، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، قال:
أخَذَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ بِعَضُدِ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ وَ قَالَ: هَذَا أمِيرُ البَرَرَةِ، وَ قَاتِلُ الكَفَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ، ثُمَّ مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ، فَقَالَ: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ.۱
و روى عن «المناقب» لابن المغازليّ بسنده المتّصل عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّه كان يقول:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَوْمَ الحُدَيْبِيَّة وَ هُوَ آخِذٌ بِضَبْعِ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السَّلَامُ يَقُولُ: هَذَا أمِيرُ البَرَرَةِ، وَ قَاتِلُ الفَجَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ، ثُمَّ مَدَّ بِصَوْتِهِ، فَقَالَ: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ.٢
و روى عن «المناقب» لابن المغازليّ بسنده المتّصل عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّه كان يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَوْمَ الحُدَيْبِيَّة وَ هُوَ آخذٌ بِضَبْعِ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السَّلَامُ يَقُولُ: هَذَا أمِيرُ البَرَرَةِ، وَ قَاتِلُ الفَجَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ. ثُمَّ مَدَّ
بِصَوْتِهِ، فَقَالَ: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ.۱
و قد عبّر رسول الله صلى الله عليه و آله عن أمير المؤمنين عليه السلام في الروايتين المذكورتين بأمير البررة؛ كما قال ابن شهرآشوب في مناقبه: ذكر الخطيب في ثلاثة مواضع من كتابه «تاريخ بغداد» أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال يوم الحديبيّة و هو آخِذٌ بِيَدِ عَلِيٍّ: هَذَا أمِيرُ البَرَرَةِ، وَ قَاتِلُ الكَفَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، وَ مَخْذُولٌ مَنْ خَذلَهُ يَمُدٌّ بِهَا صَوْتَهُ.٢
بَيدَ أنّ السيوطيّ، و ابن عساكر، و الأمير السيّد عليّ الهمدانيّ، و ابن حجر الهيتميّ، و الملّا عليّ المتّقي الهنديّ رووه بعبارة: هَذَا إمَامُ البَرَرَةِ. أمّا السيوطيّ فقد روى عن الحاكم في مستدركه، عن جابر أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): علِيّ إمَامُ البَرَرَةِ، وَ قَاتِلُ الفَجَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ.٣
و أمّا ابن عساكر فقد ذكر في «تاريخ دمشق» عن جابر أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): عَلِيّ إمَامُ البَرَرَةِ، وَ قَاتِلُ الفَجَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ.٤
و أمّا السيّد مير عليّ الهمدانيّ فقد أورد في كتاب «مودّة القربي»، في
المودّة الخامسة، عن جابر أنّه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) يقول يوم الحديبيّة وَ هُوَ آخِذٌ بِيَدِ عَلِيٍّ: هَذَا إمَامُ البَرَرَةِ، وَ قَاتِلُ الكَفَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ، يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ.۱
و روى ابن المغازليّ بثلاثة أسناد، و الخوارزميّ، و الحمّوئيّ كلّ منهما بسنده المتّصل عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس أنّه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ و عَلِيّ بَابُهَا، فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ.٢
و روى ابن المغازليّ بسنده المتّصل عن عليّ بن عمر، عن أبيه، عن حذيفة، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا، وَ لَا تُؤْتَى البُيُوتُ إلَّا مِنْ أبْوَابِهَا.٣
و روي ابن المغازليّ بسنده المتّصل عن محمّد بن عبد الله بن عمر بن مسلم اللاحقيّ الصفّار بالبصرة سنة ٢٤٤ ه أنّه قال: حدّثني أبُو الحَسَنِ عَلِيّ بْنُ موسى الرّضَا عليهما السلام، قال: حَدَّثني أبي، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم):
يَا عليّ! أنَا مَدِينَةُ العِلمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا وَ أنْتَ البَابُ، كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أنّه يَصِلُ إلَى المَدِينَةَ إلَّا مِنَ البَابِ.۱
و ذكر في كتاب «الفردوس» الجزء الأوّل منه، في باب الألف عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم):
أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ.٢
و روى في كتاب «المناقب الفاخرة في العترة الطاهرة» عن مبارك بن سرور بسنده المتّصل عن دِعبل بن عليّ بن سعيد بن الحجّاج، عن ابن عبّاس أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم):
أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ. ثُمَّ قَالَ: يَا عَلِيّ أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ أنْتَ البَابُ؛ كَذَبَ الذي زَعَمَ أنْ يَصِلَ إلَى المَدِينَةِ إلَّا مِنَ البَابِ.٣
و أخرج ابن شاذان عن طريق العامّة بحذف الإسناد، عن سعيد بن جُنَادة، أنّه كان يذكر أنّه سمع رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) يقول:
عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ سَيِّدُ العَرَبِ فَقَالَ: أنَا سَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ وَ عَلِيّ سَيِّدُ العَرَبِ. مَنْ أحَبَّهُ وَ تَوَلَّاهُ أحَبَّهُ اللهُ وَ هَدَاهُ، وَ مَنْ أبْغَضَهُ وَ عَادَاهُ، أصَمَّهُ اللهُ وَ أعْمَاهُ. عَلِيّ حَقُّهُ كَحَقِّي، وَ طَاعَتُهُ كَطَاعَتِي غَيْرَ أنّه لَا نَبِيّ بَعْدِي. مَنْ
فَارَقَهُ فَقَدْ فَارَقَنِي، وَ مَنْ فَارَقَنِي فَارَقَ اللهَ تعالى. أنَا مَدِينَةُ الحِكْمَةِ وَ هِيَ الجَنّةُ وَ عَلِيّ بَابُهَا فَكَيْفَ يَهْتَدِي المُهْتَدِي إلَى الجَنّةِ إلَّا مِنْ بَابِهَا؟ عَلِيّ خَيْرُ البَشَرِ، مَنْ أبَى فَقَدْ كَفَرَ.۱
و روى الشيخ الصدوق: محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّيّ في أماليه بسنده المتّصل عن سعد بن طَرِيف الكنانيّ، عن الأصبغ بن نُباتة أنّه قال: قال عليّ بن أبي طالب للحسن عليهما السلام: يا حسن! قم فاصعد المنبر، فتكلّم بكلام لا تجهلك قريش بعدي، فيقولون: إنّ الحسن لا يحسن شيئاً!
قال الحسن عليه السلام: يا أبه! كيف أصعد و أتكلّم، و أنت في الناس تسمع و ترى؟ قال له (أمير المؤمنين عليه السلام): بأبي و امّي، اواري نفسي عنك و أسمع و أرى، و لا تراني!
فصعد (الإمام الحسن عليه السلام) المنبر، فحمد الله بمحامد بليغة شريفة، و صلى على النبيّ و آله صلاة موجزة، ثمّ قال: أيُّهَا النّاسُ! سَمِعْتُ جَدِّي رَسُولَ اللهِ (صلى الله عليه و آله و سلّم) يَقُولُ: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا، وَ هَلْ تُدْخَلُ المَدِينَةُ إلَّا مِنْ بَابِهَا؟!
ثمّ نزل (من المنبر). فوثب إليه عليّ عليه السلام (من مخبأه)، فرفعه، و ضمّه إلى صدره، ثمّ قال للحسين عليه السلام: يا بُنَيّ! قم فَاصْعَد، و تكلّم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون: إنّ الحسين بن عليّ لا يفقه شيئاً، و لا يُحسن أمراً! و ليكن كلامك تبعاً لكلام أخيك!
فصعد (الإمام الحسين عليه السلام) المنبر، فحمد الله و أثنى عليه، و صلى على نبيّه (و آله) صلاة واحدة موجزة، ثمّ قال: مَعَاشِرَ النّاسِ!
سَمِعْتُ جَدِّي رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ يَقُولُ: إنّ عَلِيّاً مَدِينَةُ هُدَى، فَمَنْ دَخَلَهَا نَجَى وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ.
فوثب إليه عليّ عليه السلام، و ضمّه إلى صدره، و قبّله، ثمّ قال: مَعَاشِرَ النّاسِ! اشْهَدُوا أنّهمَا فَرْخَا رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ وَدِيعَتُهُ التي اسْتَوْدَعَنِيهَا وَ أنَا أسْتَوْدِعُكُمُوهَا؛ مَعَاشِرَ النّاسِ! وَ رَسُولُ اللهِ سَائِلُكُمْ عَنْهُمَا.۱
و روى الشيخ الصدوق، و الشيخ المفيد بإسنادهما عن الحسن بن راشد، عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليهم السلام، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه و آله و سلّم): يَا عَلِيّ! أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ أنْتَ بَابُهَا! وَ هَلْ تُؤْتَى المَدِينَةُ إلَّا مِنْ بَابِهَا.٢
و روى الشيخ الطوسيّ في أماليه بسنده المتّصل عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن الإمام الباقر، عن الإمام السجّاد، عن الإمام الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ هِيَ الجَنّةُ وَ أنْتَ يَا عَلِيّ بَابُهَا، فَكَيْفَ يُهْتَدَى إلَى الجَنّةِ؟ وَ لَا يُهْتَدَى إليْهَا إلَّا مِنْ بَابِهَا.٣
و روى الشيخ المفيد في أماليه بسنده المتّصل عن عمرو بن شمر، عن جابر الجُعْفيّ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهما السلام، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) في
حديث طويل في مناقب أمير المؤمنين عليه السلام و محامده و محاسنه، إلى أن بلغ قول رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): وَ فَضَّلَنِي بِالرّسَالَةِ، وَ فَضَّلَهُ بِالتَّبْلِيغِ عَنّي؛ وَ جَعَلَنِي مَدِينَةَ العِلْمِ وَ جَعَلَهُ البَابَ؛ وَ جَعَلَنِي خَازنَ العِلْمِ وَ جَعَلَهُ المُقْتَبِسَ مِنْهُ الأحْكَامُ وَ خَصَّهُ بِالوَصِيَّةِ -الحديث.۱
و ذكر الشيخ الطوسيّ في أماليه، قال: أخبرنا جماعة عن أبي المفضّل بسنده المتّصل عن عمرو بن ميمون الأوْدِيّ قال: لمّا ذُكر عليّ بن أبي طالب عنده، فقال: إنّ قوماً ينالون منه، اولئك هم وقود النار.
و لقد سمعت عدّة من أصحاب محمّد (صلى الله عليه و آله و سلّم) منهم حذيفة بن اليمان، و كعب بن عُجْرة، يقول كلّ رجل منهم:
لَقَدْ اعْطِيَ عَلِيّ مَا لَمْ يُعْطَهُ بَشَرٌ: هُوَ زَوْجُ فَاطِمَةَ سَيِّدَةِ نِسَاءِ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ. فَمَنْ رَأى مِثْلَهَا، أوْ سَمِعَ أنّهُ تَزَوَّجَ بِمِثْلِهَا أحَدٌ في الأوَّلِينَ وَ الآخرِينَ؟!
وَ هُوَ أبُو الحَسَنِ وَ الحُسَيْنِ سَيِّدَيْ شَبَابِ أهْلِ الجَنّةِ مِنَ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ فَمَنْ أيُّهَا النّاسُ مِثْلُهُمَا؟
وَ رَسُولُ اللهِ حَمُوهُ، وَ هُوَ وَصِيّ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ في أهْلِهِ وَ أزْوَاجِهِ.
وَ سُدَّتِ الأبْوَابُ التي في المَسْجِدِ كُلُّهَا غَيْرُ بَابِهِ، وَ هُوَ صَاحِبُ خَيْبَرَ، وَ صَاحِبُ الرّايَةِ يَوْمَ خَيْبَرَ، وَ تَفَلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ في عَيْنِهِ، وَ هُوَ أرْمَدُ فَمَا اشْتَكَاهُمَا مِنْ بَعْدُ وَ لَا وجَدَ حَرّاً وَ لَا قَرّاً بَعْدَ ذَلِكَ.
وَ هُوَ صَاحِبُ يَوْمِ غَدِيرِ خُمٍّ، إذْ نَوَّهَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ بِاسْمِهِ وَ ألزَمَ امَّتَهُ وَلَايَتَهُ، وَ عَرّفَهَمْ بِخَطَرِهِ، وَ بَيَّنَ لَهُمْ مَكَانَهُ؛ فَقَالَ: أيُّهَا
النّاسُ! مَنْ أوْلَى بِكُمْ مِنْكُمْ بِأنْفُسِكُمْ؟! قَالُوا: اللهُ وَ رَسُولُهُ. قَالَ: فَمَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيّ مَوْلَاهُ. وَ هُوَ صَاحِبُ العَبَا وَ مَنْ أذْهَبَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَنْهُ الرّجْسَ وَ طَهَّرَهُ تَطْهِيراً.
وَ صَاحِبُ طَائِرٍ حِينَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: اللَهُمَّ إيْتنِي بِأحَبِّ خَلْقِكَ إليكَ وَ إلَيّ! فَجَاءَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلامُ فَأكَلَ مَعَهُ. وَ هُوَ صَاحِبُ سُورَةَ بَرَاءَةٍ حِينَ نَزَلَ بِهَا جَبْرَئِيلُ عَلَيهِ السَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ قَدْ سَارَ أبُو بَكْرٍ بِالسُّورَةِ فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ! إنّهُ لَا يُبَلِّغُهَا إلَّا أنْتَ أوْ عَلِيّ! إنّهُ مِنْكَ وَ أنْتَ مِنْهُ. فَكَانَ رَسُولُ اللهِ مِنْهُ في حَيَاتِهِ وَ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَ هُوَ عِلْمٌ رَسُولِ اللهِ؛ وَ مَنْ قَالَ لَهُ النّبِيّ صَلَواتُ اللهِ عَلَيْهِ: أنا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا؛ فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ المَدِينَةَ مِنْ بَابِهَا كَمَا أمَرَ اللهُ فَقَالَ: «وَ أتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أبْوَابِهَا»؛ وَ هُوَ مُفَرّجُ الكَرْبِ عَنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه و آله و سلّم) في الحُرُوبِ. وَ هُوَ أوَّلُ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللهِ وَ صَدَّقَهُ وَ اتَّبَعَهُ، وَ هُوَ أوَّلُ مَنْ صلى.
فَمَنْ أعْظَمُ فِرْيَةً عَلَى اللهِ وَ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّنْ قَاسَ بِهِ أحَداً أوْ شَبَّهَ بِهِ بَشَراً.۱
و ذكر الشيخ الصدوق بسنده المتّصل عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عبّاس أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) لعليّ بن أبي طالب:
يَا علِيّ! أنَا مَدِينَةُ الحِكْمَةِ وَ أنْتَ بَابُهَا وَ لَنْ تُؤْتَى المَدِينَةُ إلَّا مِنْ قِبَلِ
البَابِ. وَ كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أنّه يُحْبُّنِي وَ يُبْغِضُكَ! لأنّكَ مِنّي وَ أنَا مِنْكَ! لَحْمُكَ مِنْ لَحْمِي، وَ دَمُكَ مِنْ دَمِي، وَ رُوحُكَ مِنْ رُوحِي، وَ سَرِيرَتُكَ مِنْ سَرِيرَتِي، وَ عَلَانِيَتُكَ مِنْ عَلَانِيَتي؛ وَ أنْتَ إمَامُ امَّتِي؛ وَ خَلِيفَتِي عَلَيْهَا بَعْدِي! سَعِدَ مَنْ أطَاعَكَ، وَ شَقِيَ مَنْ عَصَاكَ وَ رَبِحَ مَنْ تَوَلَّاكَ، وَ خَسِرَ مَنْ عَادَاكَ، وَ فَازَ مَنْ لَزِمَكَ، وَ هَلَكَ مَنْ فَارَقَكَ؛ مَثَلُكَ وَ مَثَلُ الأئِمَّةِ مِنْ وُلْدِكَ بَعْدِي مَثَلُ سَفِينَةِ نُوحٍ؛ مَنْ رَكِبَهَا نَجَى وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ؛ وَ مَثَلُكُمْ مَثَلُ النّجُومِ كُلَّمَا غَابَ نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.۱
و روى الحاكم الحَسَكانِيّ بسنده المتّصل عن الحارث في تفسير آية: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.٢ قال: سألت عَلِيَّاً عن الآية: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ، فقال: وَ اللهِ إنّا لَنَحْنُ أهْلُ الذِّكْرِ، نَحْنُ أهْلُ العِلْمِ؛ وَ نَحْنُ مَعْدِنُ التَّأوِيلِ وَ التَّنْزِيلِ؛ وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِهِ مِنْ بَابِهِ.٣
و كذلك روى بسنده المتّصل عن محمّد بن عبد الرحمن الشاميّ و أبي الصَّلْت الهَرَويّ رحمة الله عليه و أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس في تفسير الآية: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها،٤ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا فَمَنْ أرَادَ
العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ.۱
ثمّ قال: رواه جماعة عن أبي الصَّلْت عبد السلام بن صالح الهَرَويّ. و أبُو الصَّلْت ثقة، أثنى عليه يحيى بن معين و قال: هو صدوق.
و قد روى هذا الحديث أيضاً جماعة سواه عن أبي معاوية، و هو محمّد بن خَازِم الضرير الثقة، منهم أبو عبيد القاسم بن سلّام، و محمّد بن الطفيل، و أحمد بن خالد بن موسى، و أحمد بن عبد الله بن الحكيم، و عمر بن إسماعيل، و هارون بن حاتم، و محمّد بن جعفر الفيديّ و غيرهم.
و رواه عن سليمان بن مهران الأعمش جماعة كرواية أبي معاوية عنه منهم: يَعْلى بن عبيد، و عيسى بن يونس، و سعيد بن عقبة. و روى
في هذا الباب عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً.
ثمّ روى بأسناد ثلاثة متّصلة عن شريك، عن سَلمَة بن كهيل، عن الصنابجيّ، و في اثنين منها روى الصنابجيّ عن أمير المؤمنين عليه السلام، و في واحد روى بلا واسطة عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) أنّه قال: أنَا دَارُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِهَا مِنْ بَابِهَا.۱
و قال الصنابجيّ: وَ كُنْتُ أسْمَعُ عَلِيَّاً كَثِيراً مَا يَقُولُ: إنّ مَا بَيْنَ أضْلَاعِي هَذِهِ لِعِلْمٌ كَثيرٌ.٢ و هذا لفظ ابن فارس. و رواه جماعة عن شريك، و هو رواه عن عبد الله بن مسعود، و عبد الله بن عمر، و عقبة بن عامر الجهنيّ، و أبي ذرّ الغفاريّ، و أنس، و سلمان، و غيرهم.٣
و كذلك روى الحاكم الحسكانيّ بسنده المتّصل عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام في تفسير الآية: وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ٤ قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): إنّ اللهَ أمَرَنِي أنْ ادْنِيَكَ وَ لَا اقْصِيَكَ؛ وَ اعَلِّمكَ لَتَعِيَ! وَ انْزِلَتْ عَلَيّ هَذِهِ الآيَةُ: «وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ». فَأنْتَ [الاذُنُ] الوَاعِيَةُ لِعِلْمِي يَا عَلِيّ! وَ أنَا المَدِينَةُ وَ أنْتَ البَابُ وَ لَا يُوْتَى المَدِينَةُ إلَّا مِنْ بَابِهَا.٥
روايات الخاصّة و العامّة حول مدينة الحكمة
و ينبغي أن نعلم أنّ ما ذكرناه حتى الآن أحاديث سمّي النبيّ الأكرم
نفسه فيها مدينة العلم، و سمّى علياً بابها؛ و كذلك وردت أحاديث عن العامّة و الخاصّة دعا فيها الرسول الأعظم نفسه مدينة الجنّة، و دعا عليّاً بابها. و كذلك جاءت أحاديث عن العامّة فيها: أنَا دَارُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. و عن الخاصّة: أنَا مَدِينَةُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا أو أنا دَارُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ مِفْتَاحُهَا.
و جاءت هذه الأحاديث في كتب الأعلام أيضاً؛ و ننقلها فيما يأتي عن «غاية المرام»:
ذكر في «غاية المرام» حديثاً عن العامّة، و حديثين عن الخاصّة حول الحديث المأثور: أنَا مَدِينَةُ الجَنّةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. أمّا عن العامّة، فقد روى عن «المناقب» لابن المغازليّ الشافعيّ بسنده المتّصل عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عبّاس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا مَدِينَةُ الجَنّةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا فَمَنْ أرَادَ الجَنّةَ فَلْيَأتِهَا مِنْ بَابِهَا.۱
و أمّا عن الخاصّة، فالأوّل عن الشيخ الطوسيّ في أماليه بسنده المتّصل عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، روى هذا المضمون من الحديث بعينه.٢
و الثاني عن الشيخ أيضاً في أماليه بسنده المتّصل عن الأصبغ بن نُباتَة، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا مَدِينَةُ الجَنّةِ وَ أنْتَ بَابُهَا!
يَا عَلِيّ! كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أنّه يَدْخُلُهَا مِنْ غَيْرِ بَابِهَا.٣
و روى أربعة أحاديث عن طريق العامّة، و خمسة أحاديث عن طريق الخاصّة حول الحديث القائل:
أنَا مَدِينَةُ الحِكْمَةِ وَ دَارُ الحِكْمَةِ.
أمّا عن طريق العامّة، فقد روى الأوّل عن ابن المغازليّ بسنده المتّصل عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم):
أنَا دَارُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فَمَنْ أرَادَ الحِكْمَةَ فَلْيَأتِ البَابَ.۱
و روى الثاني عن كتاب «مناقب الصحابة» للسَّمْعانِيّ، و فيه قال عليّ عليه السلام: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم):
أنَا دَارُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا.٢
و روى الثالث عن إبراهيم بن محمّد الحمّوئيّ بسنده المتّصل عن شريك، عن سلمة بن كميل الصناعيّ۱ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا دَارُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا.٢
و روى الرابع عن ابن المغازليّ بسنده المتّصل، عن شريك، عن سَلَمَة بن كهيل الصالحيّ٣، عن أمير المؤمنين عليه السلام، عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) قال: أنَا دَارُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا فَمَنْ أرَادَ الحِكْمَةَ فَلْيَأتِهَا مِنْ بَابِهَا.٤
و أمّا عن طريق الخاصّة، فقد روى عن ابن بابويه بسنده المتّصل عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) لعليّ عليه السلام: يَا عَلِيّ! أنَا مَدِينَةُ الحِكْمَةِ وَ أنْتَ بَابُهَا وَ لَنْ تُؤْتَى المَدِينَةُ إلَّا مِنْ قِبَلِ البَابِ.٥
و روى الآخر عن ابن بابويه أيضاً بسنده المتّصل عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن الإمام أبي جعفر الباقر، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا مَدِينَةُ الحِكْمَةِ وَ هِيَ الجَنّةُ وَ أنْتَ يَا عَلِيّ بَابُهَا، فَكَيْفَ يَهْتَدِي
المُهْتَدِي إلَى الجَنّةِ وَ لَا يَهْتَدِي إلَيْهَا إلَّا مِنْ بَابِهَا.۱
و روى الآخر عن ابن بابويه أيضاً بسنده المتّصل عن عبد الله بن فضل الهاشميّ، عن الإمام الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام أنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) قال:
يَوْمُ غَدِيرِ خُمٍّ أفْضَلُ أعْيَادِ امَّتِي؛ وَ هُوَ اليَوْمُ الذي أمَرَنِي اللهُ تعالى ذِكْرُهُ فِيهِ بِنَصْبِ أخِي عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ عَلَماً لُامَّتِي؛ يَهْتَدُونَ بِهِ مِنْ بَعْدِي؛ وَ هُوَ اليَوْمُ الذي أكْمَلَ فِيهِ الدِّينَ وَ أتَمَّ عَلَى امَّتِي فِيهِ النّعْمَةَ؛ وَ رَضِيَ لَهُمُ الإسلَامَ دِيناً.
ثُمَّ قَالَ (صلى الله عليه و آله و سلّم): مَعَاشِرَ النّاسِ! أنَا مِنْ عَلِيّ وَ عَلِيّ مِنّي؛ خُلِقَ مِنْ طِينَتِي؛ وَ هُوَ إمَامُ الخَلْقِ بَعْدِي؛ يُبَيِّنُ لَهُمْ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ سُنّتِي؛ وَ هُوَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ؛ وَ قَائِدُ الغُرّ المُحَجَّلِينَ، وَ يَعْسُوبُ المُؤْمِنِينَ؛ وَ خَيْرُ الوَصِيِّينَ، وَ زَوْجُ سَيِّدةِ نِسَاءِ العَالَمِينَ؛ وَ أبُو الأئِمَّةِ المَهْدِيِّينَ.
مَعَاشِرَ النّاسِ! مَنْ أحَبَّ عَلِيَّاً أحْبَبْتُهُ؛ وَ مَنْ أبْغَضَ عَلِيَّاً أبْغَضْتُهُ؛ وَ مَنْ وَصَلَ عَلِيَّاً وَصَلْتُهُ؛ وَ مَنْ قَطَعَ عَلِيَّاً قَطَعْتُهُ؛ وَ مَنْ جَفَى عَلِيَّاً جَفُوْتُهُ؛ وَ مَنْ وَالَى عَلِيَّاً وَالَيْتُهُ؛ وَ مَنْ عَادَى عَلِيَّاً عَادَيْتُهُ!
مَعَاشِرَ النّاسِ! أنَا مَدِينَةُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ بَابُهَا، وَ لَنْ تُؤْتَى المَدِينَةُ إلَّا مِنْ قِبَلِ البَابِ! وَ كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أنّه يُحِبُّنِي وَ يُبْغِضُ عَلِيَّاً!
مَعَاشِرَ النّاسِ! وَ الذي بَعَثَنِي بِالنّبُوَّةِ، وَ اصطَفَانِي عَلَى جَمِيعِ البَرِيَّةِ مَا نَصَبْتُ عَلِيَّاً عَلَماً لأمَّتِي في الأرْضِ حتى نَوَّهَ بِاسْمِهِ في سَمَاوَاتِهِ، وَ أوْجَبَ وَلَايَتَهُ عَلَى جَمِيعِ مَلَائِكَتِهِ.۱
و روى الآخر عن ابن بابويه أيضاً بسنده المتّصل عن زياد بن المنذر، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: سمعت جابر بن عبد الله الأنصاريّ يقول: كان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) ذات يوم في منزل امِّ إبراهيم، و عنده نفر من أصحابه، إذا أقبل عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فلمّا بصر به النبيّ، قال:
يَا مَعَاشِرَ النّاسِ! أقْبَلَ إلَيْكُمْ خَيْرُ النّاسِ بَعْدِي! وَ هُوَ مَوْلَاكُمْ؛ طَاعَتُهُ مَفْرُوضَةٌ كَطَاعَتِي؛ وَ مَعْصِيَتُهُ مُحَرّمَةٌ كَمَعْصِيَتِي.
مَعَاشِرَ النّاسِ! أنَا دَارُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ مِفْتَاحُهَا وَ لَنْ يُوصَلَ إلَى الدَّارِ إلَا بِالْمِفْتَاحِ؛ وَ كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أنّهُ يُحِبُّنِي وَ يُبْغِضُ عَلِيَّاً.٢
و الآخر رواه الشيخ الطوسيّ في «الأمالى» بسنده المتّصل عن عبد الرحمن بن نهمان، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّه قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) آخِذاً بِيَدِ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السَّلَامُ وَ هُوَ يَقُولُ: هَذَا أمِيرُ البَرَرَةِ، وَ قَاتِلُ الفَجَرَةِ؛ مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ. ثُمَّ رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ، وَ قَالَ: أنَا مَدِينَةُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ
بُابُهَا، فَمَنْ أرَادَ الحِكْمَةَ فَلْيَأتِ البَابَ.۱
الروايات الواردة حول مدينة الفقه
و الآخر، من التعابير التي رويت عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم)، قوله: أنَا مَدِينَةُ الفِقْهِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. و قال سبط ابن الجوزيّ بعد أن روى حديث: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا عن أحمد بن حنبل في كتاب «الفضائل»: و ورد في حديث: أنَا دَارُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا.٢ و في حديث آخر: أنَا مَدِينَةُ الفِقْهِ وَ عَلِيّ بَابُهَا، فَمَن أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ. و ذكر عبد الرزّاق ذيل هذا الحديث بقوله: فَمَنْ أرَادَ الحِكَمَ فَلْيَأتِ البَابَ.٣
و قال السيوطيّ: و بالسند المتقدّم حتى ابن بطّة، حدّثنا محمّد بن قاسم النحويّ، عن عبد الله بن ناجية، عن أبي منصور بن شجاع، عن عبد الحميد بن بحر البصريّ، عن شريك، عن سَلَمة بن كهيل، عن الصنابجيّ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا مَدِينَةُ الفِقْهِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. و جاء عن الحسن بن عليّ، عن أبيه مرفوعاً: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا، فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ. و رواه ابن مَرْدَوَيه.٤
و قال السيوطيّ: قال الدَّيْلَميّ: أخبرني أبي عن المَيْدانيّ، عن أبي
محمّد الحلّاج، عن أبي الفضل محمّد بن عبد الله، عن أحمد بن عبيد الثقفيّ، عن محمّد بن عليّ بن خلف العطّار، عن موسى بن جعفر بن
إبراهيم بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عن عبد المهين بن عبّاس، عن أبيه، عن جدّه: سَهْل بن سعد، عن أبي ذرّ أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم):
عَلِيّ بَابُ عِلْمِي وَ مُبَيِّنٌ لُامَّتِي مَا ارْسِلْتُ بِهِ مِنْ بَعْدِي، حُبُّهُ إيمانٌ وَ بُغْضُهُ نِفَاقٌ وَ النّظَرُ إلَيْهِ رَأفَةٌ.۱
أجل، لا شكّ و لا تردّد عند علماء الشيعة و كتبهم في هذا الحديث المأثور: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا، فقد رووه في كتبهم و مجاميعهم الموثّقة عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم)، و عدّوه من الأحاديث المستفيضة، و نسبوه إلى رسول الله و أرسلوه إرسال المسلّمات بلا أدنى شبهة.
و أمّا من طرق العامّة، فإنّ نسبة هذا الحديث إلى رسول الله قد بلغت حدّاً جعل العلّامة آية الله الأكبر، فخر الشيعة، و سليل آل الرسول، الصمصام القاطع على الملحدين و المنكرين في العصر القريب من عصرنا: المرحوم السيّد مير حامد حسين الموسويّ النيسابوريّ اللكْهَنُويّ الهنديّ المتوفّى سنة ۱٣۰٦ ه يخصّص الجزء الخامس من كتابه الشريف «عبقات الأنوار» في البحث حول هذا الحديث المبارك، و الحديث عن طرق روايته و بيان مشايخ أهل السنّة و أعاظمهم الذين رووه، و اعترفوا و أقرّوا بصحّته: فَشَكَرَ اللهُ مَسَاعِيَهُ الجَمِيلَةَ وَ جَزَاهُ اللهُ عَنِ الإسْلَام وَ أهْلِهِ خَيْرَ الجَزاءِ وَ جَعَلَنَا مِنَ المُقْتَبِسينَ مِنْ آثَارِهِ، وَ رَشَحَاتَ قَلَمِهِ، وَ خَالِصِ وَلَائِهِ وَ النّهْجِ
عَلِى مَنْهِجِهِ القَوِيمِ.
و كذلك ألّف السيّد أحمد بن محمّد الحسنيّ في الفترة القريبة من عصرنا كتاباً مستقلّا في هذا الباب، سمّاه «فَتْحُ المَلِكِ العَلِيِّ» و تحدّث المرحوم العلّامة الشيخ عبد الحسين الأمينيّ عن هذا الحديث في ثلاثة مواضع من كتاب «الغدير».۱ و على الرغم من أنّ الذي ذكره هذان العلمان العظيمان في هذا المجال مبثوث في تضاعيف مباحث «عبقات الأنوار» و أنّ سعيهما مشكور، و خدمتها للشرع و الشريعة و الولاء و الإمامة من خلال تدوين كتابيهما باللغة العربيّة، و باسلوب بديع لطيف محمودة من قبل صاحب الشريعة، و هي موضع ثنائه و شكره.
و تحدّث العلّامة الأمينيّ في كتاب «الغدير» حديثاً وافياً في سياق بحثه حول القصيدة الغديريّة لشمس الدين المالكيّ،٢ و قارن بين علم الإمام أمير المؤمنين و علم عمر في موضوع عنوانه نَوادِرُ الأثَر في عِلْمِ عُمَرَ، و أبان أنّ مولى الموحّدين و أمير المؤمنين هو حامل لواء العلم، و البقيّة من عاليهم إلى دانيهم يعترفون بجهلهم، و بحاجتهم إليه في المعارف و الأحكام و التفسير و الحديث و التأريخ و غيرها.
مشايخ العامّة الذين رووا الحديث المأثور: أنا مدينة العلم و عليّ بابُها
و يقول شمس الدين المالكيّ في قصيدته، بخصوص الحديث الشريف المذكور:
وَ قَالَ رَسُولُ اللهِ: إنّي مَدِينَةٌ | *** | مِنَ العِلْمِ وَ هُوَ البَابُ وَ البَابَ فَاقْصِدِ |
وَ مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ عَلِيّ وَلِيُّهُ | *** | وَ مَوْلَاكَ فَاقْصِدْ حُبَّ مَوْلَاكَ تَرْشُدِ |
وَ إنّكَ مِنّي خَالِياً مِنْ نُبُوَّةٍ | *** | كَهَارُونَ مِنْ موسى وَ حَسْبُكَ فَاحْمَدِ۱ |
ثمّ قال: صحّح هذا الحديث عدد من أعلام العامّة، منهم الطَّبَريّ، و ابْنُ مُعِين، و الحَاكِمُ، و الخَطِيبُ، و السُّيُوطِيّ. ثمّ أحصى أسماء مائة و ثلاثة و أربعين شخصاً من أعلام العامّة و شيوخهم الذين ذكروا هذا الحديث في كتبهم، و رووه لتلامذتهم في الحديث.
و نقتصر فيما يأتي على ذكر بعضهم:
منهم: الحافظ أبو بكر عبد الرزّاق بن هَمّام الصنعانيّ المتوفّى سنة ٢۱۱ ه، حكاه عنه الحاكم في «المستدرك» ج ٣، ص ۱٢۷.
و منهم: الحافظ يحيى بن مُعين المتوفّى سنة ٢٣٣ ه، كما في «المستدرك» و «تاريخ بغداد» للخطيب البغداديّ.
و منهم: أبو عبد الله (أبو جعفر) محمّد بن جعفر الفيديّ المتوفّى سنة ٢٣٦ ه. رواه عنه يحيى بن معين.
و منهم: أبو محمّد سُوَيد بن سعيد الهَرَويّ المتوفّى سنة ٢٤۰ ه. و هو أحد مشايخ مسلم و ابن ماجه؛ نقله عنه ابن كثير في تاريخه ج ۷، ص ٣٥۸.
و منهم: إمام الحنابلة، أحمد بن حَنْبل المتوفّى سنة ٢٤۱ ه. أخرجه
في «المناقب».
و منهم: عبّاد بن يعقوب الرّوَاجِنيّ الأسديّ، أحد مشايخ البخاريّ و الترمذيّ و ابن ماجه، يروي عنه الحافظ الكنجيّ الشافعيّ في كتاب «كِفاية الطالب» من طريق الخطيب البغداديّ.
و منهم: أبو عيسى محمّد التِّرمذيّ المتوفّى سنة ٢۷٩ ه في «الجامع الصحيح».
و منهم: صاحب «المسند الكبير» الحافظ أبو بكر أحمد بن عمر البَصْريّ المتوفّى سنة ٢٩٢ ه.
و منهم: الحافظ أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ المتوفّى في ٣۱۰ ه في «تهذيب الآثار»؛ رواه عنه كثير من الأعلام.
و منهم: أبو بكر محمّد بن عمر بن محمّد التميميّ البغداديّ ابن الجعابيّ المتوفّى في سنة ٣٥٥ ه؛ أخرجه بخمسة طرق كما في «المناقب» لابن شهرآشوب، ج ۱، ص ٢٦۱.
و منهم: أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبرانيّ المتوفّى سنة ٣٦۰ ه؛ أخرجه في «المعجم الكبير» و «المعجم الأوسط».
و منهم: الحافظ أبو عبد الله بن محمّد بن عبد الله الحاكم النيسابوريّ المتوفّى سنة ٤۰٥ ه؛ أخرجه في «المستدرك».
و منهم: الحافظ أبو عبد الله عُبَيْد الله بن محمّد الشهير بابن بَطّة العُكْبَريّ المتوفّى سنة ٣۸۷ ه؛ أخرجه من ستّة طرق.
و منهم: الحافظ أبو بكر أحمد بن عليّ الخطيب البغداديّ المتوفّى سنة ٤٦٣ ه؛ أخرجه في كتابه «المُتَّفِقُ و المُفْتَرِقُ»، و كتابه «تاريخ بغداد» ج ٤، ص ٣٤۸؛ و ج ٢، ص ٣۷۷؛ و ج ۷، ص ۱۷٣؛ و ج ۱۱، ص ٢۰٤.
و منهم: الحافظ أبو عمر و يوسف بن عبد الله بن عبد البرّ المتوفّى
سنة ٤٦٣ ه في «الاستيعاب» ج ٢، ص ٤٦۱.
و منهم: الفقيه أبو الحسن عليّ بن محمّد بن الطيّب الجلّابيّ ابن المغازليّ المتوفّى سنة ٤۸٣ ه، أخرجه في مناقبه بسبعة طرق.
و منهم: الحافظ أبو محمّد الحسن بن أحمد السمرقنديّ المتوفّى سنة ٤٩۱ ه؛ أخرجه في كتابه «بحر الأسانيد في صحيح الأسانيد». و الحديث صحيح عنده كما في «التذكرة» للذهبيّ، ج ٤، ص ٢۸.
و منهم: أبو القاسم الزمخشريّ المتوفّى سنة ٥٣۸ ه، سمّي في «الفائق» ج ۱، ص ٢۸ بَابُ مَدِينَةِ العِلْمِ.
و منهم: أبو سعيد عبد الكريم بن محمّد بن منصور التميميّ السمعانيّ المتوفّى سنة ٥٦٢ ه. قال في «الأنساب» في «الشهيد»: اشتهر بهذا الاسم جماعة من العلماء المعروفين قتلوا فعرفوا بالشهيد. أوّلهم: باب مدينة العلم عليّ بن أبي طالب عليه السلام ... إلى آخر كلامه. و ينمّ كلامه هذا عن كون الحديث من المتَسالَم عليه عند حفّاظ الحديث.
و منهم: الحافظ أخطب خوارزم أبو المؤيّد موفّق بن أحمد المكّيّ الحنفيّ المتوفّى سنة ٥٦۸ ه؛ أخرجه في مناقبه، ص ٤٩، و في «مقتل الإمام السِّبط» ج ۱، ص ٤٣.
و منهم: الحافظ أبو القاسم عليّ بن حسن الشهير ب ابن عساكر الدمشقيّ المتوفّى سنة ٥۷۱ ه؛ أخرجه بعدّة طرق.
و منهم: أبو السعادات مبارك بن محمّد بن الأثير الجَزَريّ الشافعيّ المتوفّى سنة ٦۰٦ ه، ذكره في «جامع الاصول» نقلًا عن التِّرمذيّ.
و منهم: الحافظ أبو الحسن عليّ بن محمّد ابن الأثير الجَزَريّ المتوفّى سنة ٦٣۰ ه في «اسد الغابة» ج ٤، ص ٢٢.
و منهم: محيي الدين محمّد بن عليّ ابن العَرَبيّ الطائيّ الأندلسيّ
المتوفّى سنة ٦٣۸ ه في «الدرّ المكنون و الجوهر المصون» كما في «ينابيع المودّة» ص ٤۱٩.
و منهم: الحافظ محبّ الدين محمّد بن محمود بن النجّار البغداديّ المتوفّى سنة ٦٤٣ ه. أخرجه في ذيل «تاريخ بغداد» مسنداً.
و منهم: أبو سالم محمّد بن طلحة الشافعيّ المتوفّى سنة ٦٢٥ ه في كتاب «مطالب السؤول» ص ٢٢، و «الدرّ المنظّم»، كما نقل صاحب «ينابيع المودّة» ص ٦٥.
و منهم: شمس الدين أبو المظفّر يوسف بن قزاوغليّ سبط ابن الجوزيّ الحنفيّ المتوفّى سنة ٦٥٤ ه في كتاب «تذكرة الخواصّ» ص ٢٩.
و منهم: الحافظ أبو عبد الله محمّد بن يوسف الكنجيّ الشافعيّ المتوفّى سنة ٦٥۸ ه؛ أخرجه في كتاب «الكفاية» ص ٩۸ إلى ۱۰٢. و قال بعد إخراجه بعدّة طرق: هذا حديث حسن عال. و قال بعد أن ذكر مطالب في هذا المجال: و مع هذا الحديث، فقد قال العلماء من الصحابة و التابعين، و أهل بيت رسول الله بتفضيل عليّ عليه السلام، و زيادة علمه و غزارته، و حدّة فهمه، و وفور حكمته، و حسن قضاياه، و صحّة فتواه.
و قد كان أبو بكر، و عمر، و عثمان، و غيرهم من علماء الصحابة يشاورونه في الأحكام؛ و يأخذون بقوله في النقض و الإبرام اعترافاً منهم بعلمه و وفور فضله و رجاحة عقله و صحّة حكمه و رأيه، و لذلك كانوا يرجعون إليه.
و ليس هذا الحديث: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا في حقّه بكثير، لأنّ رتبته و درجته عند الله و عند رسوله و عند المؤمنين من عباده أجلّ و أعلى من ذلك.
و منهم: الحافظ محبّ الدين أحمد بن عبد الله الطبريّ الشافعيّ
المكّيّ المتوفّى سنة ٦٩٤ ه، رواه في «الرياض النضرة» ج ۱، ص ۱٩٢، و «ذخائر العقبي» ص ۷۷.
و منهم: سعيد الدين محمّد بن أحمد الفَرْغَانيّ المتوفّى سنة ٦٩٩ ه، ذكره في الشرح العربي ل «تائيّة ابن الفارض»۱ في شرح قوله:
كَرَاماتُهُمْ مِنْ بَعْضِ مَا خَصَّهُمْ بِهِ | *** | بِمَا خَصَّهُمْ مِنْ إرْثِ كُلِّ فَضْيلَةِ |
و كذلك ذكر الحديث: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا في شرحه الفارسيّ على هذه القصيدة عند قول ابن الفارض فيها:
وَ أوْضَحَ بِالتَّأويلِ مَا كَانَ مُشْكِلًا | *** | عَلِيّ بِعِلْمٍ نَالَهُ بِالوصِيَّةِ |
و منهم: شيخ الإسلام إبراهيم بن محمّد الحَمّوئيّ الجوينيّ المتوفّى سنة ۷٢٢ ه. ذكره في «فرائد السمطين في فضائل المرتضى و البتول و السبطين».
و منهم: الحافظ شمس الدين محمّد بن أحمد الذهبيّ الشافعيّ
المتوفّى سنة ۷٤۷ ه، ذكره في «تذكرة الحفّاظ» ج ٤، ص ٢۸ عن صحيح الحافظ السمرقنديّ؛ و قال: هذا الحديث صحيح.
و منهم: الحافظ جمال الدين محمّد بن يوسف الزرنديّ الأنصاريّ المتوفّى سنة سبعمائة و بضع و خمسين: ذكره في «نظم دُرر السِّمطين في فضائل المصطفى و المرتضى و البتول و السِّبطين».
و منهم: الحافظ صلاح الدين أبو سعيد خليل العلائيّ الدمشقيّ الشافعيّ المتوفّى سنة ۷٦۱ ه. حكاه عنه كثير من أعلام العامّة. و صحّحه من طريق ابن معين، ثمّ قال:
و أي استحالة في أن يقول النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلّم) مثل هذا في حقّ عليّ رضي الله عنه؟ و لم يأت كلّ من تكلّم في هذا الحديث و جزم بوضعه بجواب عن هذا الروايات الصحيحة، عن ابن معين. و مع ذلك فله شاهد رواه الترمذيّ في جامعه ... إلى آخره.
و منهم: السيّد عليّ بن شهاب الدين الهمدانيّ. ذكره في «مودّة القُربي» من طريق جابر بن عبد الله الأنصاريّ، ثمّ قال: و عن ابن مسعود، و أنس بن مالك مثل هذا الحديث.
و منهم: مجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزآباديّ المتوفّى سنة ۸۱٦ أو ۷۱٦، في كتابه «النقد الصحيح». و قال في كلام له طويل حول الحديث بعد روايته من طريق ابن معين: و لم يأت من تكلّم على حديث أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ بجواب عن هذه الروايات الثابتة عن يحيى بن معين؛ و الحكم بالوضع عليه باطل قطعاً.
إلى أن قال: و الحاصل أنّ الحديث ينتهي بمجموع طريقي أبي معاوية و شريك إلى درجة الحسن المحتجّ به، و لا يكون ضعيفاً فضلًا عن أن يكون موضوعاً.
و منهم: شمس الدين محمّد بن محمّد الجَزَريّ المتوفّى سنة ۸٣٣ ه. أخرجه في «أسنى المطالب في مناقب عليّ بن أبي طالب» ص ۱٤ من طريق الحاكم، و ذكر تصحيحه. و قد اشترط في أوّل كتابه أن يذكر فيه ما تواتر و صحّ و حسن من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام.
و منهم: شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن على الشهير بابن حجر العَسْقَلانيّ المتوفّى سنة ۸٥٢ ه. ذكره في «تهذيب التهذيب» ج ۷، ص ٣٣۷. قال في «لسان الميزان»: هذا الحديث له طرق كثيرة في «مستدرك الحاكم» أقلّ أحوالها أن يكون للحديث أصل؛ فلا ينبغي أن يطلق القول عليه بالوضع.
و منهم: نور الدين عليّ بن محمّد بن الصبّاغ المالكيّ المكّيّ المتوفّى سنة ۸٥٥ ه. ذكره في كتاب «الفصول المهمّة» ص ۱۸.
و منهم: شمس الدين محمّد بن يحيى الجيلانيّ اللاهيجيّ نور بخش، ذكره في «مفاتيح الإعجاز» شرح كتاب «گلشن راز» المؤلَّف سنة ۸۷۷ ه.
و منهم: الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن كمال الدين السيوطيّ المتوفّى سنة ٩۱۱ ه، ذكره في «الجامع الصغير» ج ۱، ص ٣۷٤، و في غير واحد من تآليفه؛ و حسّنه في كثير منها، ثمّ حكم بصحّته في «جمع الجوامع» كما في ترتيبه ج ٦، ص ٤۰۱، فقال هناك: كنت احسّن هذا الحديث و أعدّه حسناً. و كنت اجيب بحسن الحديث دهراً، إلى أن وقفت على تصحيح ابن جرير لحديث عليّ، مع تصحيح الحاكم لحديث ابن عبّاس. فاستخرت الله و جزمت بارتقاء الحديث من مرتبة الحسن إلى مرتبة الصحّة؛ و الله أعلم.
و منهم: فضل بن روزبهان، ذكره في الردّ على «نهج الحقّ» للعلّامة
الحلّيّ متسالماً عليه بلا أي غمز في سنده.
و قال في ردّ احتجاج العلّامة بأعلميّة أمير المؤمنين بحديثَي: أقْضَاكُمْ عَلِيّ، و أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ من طريق الترمذيّ، و أمّا ما ذكره المصنّف من علم أمير المؤمنين؛ فلا شكّ في أنّه من علماء الامّة و الناس محتاجون إليه فيه، و كيف لا؟ و هو وصيّ النبيّ صلى الله عليه و آله في إبلاغ العلم و ودائع حقائق المعارف. فلا نزاع لأحد فيه. و أمّا ما ذكره من صحيح الترمذيّ، فصحيح.
و منهم: الحافظ شهاب الدين أحمد بن محمّد القَسْطَلانيّ المصريّ الشافعيّ المتوفّى سنة ٩٢٣ ه. عدّ في «المواهب اللدنّيَّة» في أسماء النبيّ الأعظم (صلى الله عليه و آله و سلّم): مَدِينَةَ العِلْمِ أخذاً بالحديث كما قاله الزرقانيّ في شرحه، ج ٣، ص ۱٤٣.
و منهم: شهاب الدين أحمد بن محمّد بن حَجَر الهَيْتَميّ المَكّيّ المتوفّى سنة ٩۷٤ ه، ذكره في «الصواعق المحرقة» ص ۷٣، و في شرح «همزيّة البوصيري»۱ عند شرح قوله:
كَمْ أبَانَتْ آيَاتُهُ مِنْ عُلُومٍ | *** | عَنْ حُرُوفٍ أبَانَ عَنْها الهِجَاءُ |
و في شرح قوله:
وَ وَزِيرُ ابْنِ عَمِّهِ في المَعَالِي | *** | وَ مِنَ الأهْلِ تَسْعَدُ الوُزَرَاءُ |
أ مِنْ تَذَكُّرِ جِيرانٍ بِذِي سَلَمٍ | *** | مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَي مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ |
أمْ هَبَّت الرّيحُ تَلقاءِ كَاظِمَةٍ | *** | وَ أوْمَضَ البَرْقُ في الظَّلْمَاءِ مِنْ إضَمِ |
و في شرح قوله:
لَمْ يَزِدْهُ كَشْفُ الغِطَاءِ يَقِيناً | *** | بَلْ هُوَ الشَّمْسُ مَا عَلَيْهِ غِشَاءُ |
و ذكر ابن حجر هذا الحديث في شرح أبيات البوصيريّ و حسّنه. و أخرجه في كتاب «تطهير الجنان» المطبوع في حاشية «الصواعق» ص ۷٤ و عدّه حسناً. و كذلك رواه في كتاب «الفتاوى الحديثة» ص ۱٢۸ على هذا المنوال. و قال في ص ۱٩۷: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، بل قال الحاكم: حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
و منهم: الحافظ الشيخ عبد الرءوف بن تاج العارفين المناويّ الشافعيّ المتوفّى سنة ۱۰٣۱ ه. ذكره في «فيض القدير» شرح «الجامع الصغير» ج ٣، ص ٤٦، و في «التيسير» شرح «الجامع الصغير»؛ و قال في الأوّل: إنّ المصطفى (صلى الله عليه و آله و سلّم) المدينة الجامعة لمعاني الديانات كلّها؛ و لا بدّ للمدينة من باب، فأخبر أنّ بابها عليّ كرّم الله وجهه؛ فمن أخذ طريقه، دخل المدينة؛ و من أخطأه، أخطأ طريق الهدى.
و قد شهد بأعلميّة عليّ الموافق و المخالف، و المعادي و المحالف.
و خرّج الكَلَابَاذِيّ في الحديث أنّ رجلًا سأل معاوية عن مسألة فقال: سل عليّاً! هو أعلم منّي! فقال الرجل: اريد جوابك!
قال معاوية: وَيْحَكَ! كَرِهْتَ رَجُلًا كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه و آله و سلّم) يَغُرّهُ بِالعِلْمِ غَرّاً.
و كان كبار الصحابة يعترفون له بذلك، و كان عمر يسأله عمّا أشكل عليه؛ جاءه رجل فسأله، فقال: هاهنا عليّ فاسأله!
قال الرجل: اريد أن أسمع منك يا أمير المؤمنين! قال عمر: قم!
لا أقام الله رجليك! و محي اسمه من الديوان.
و صحّ عن عمر من طرق عديدة، أنّه كان يتعوّذ من قوم ليس هو فيهم عليّاً حتى أمسكه عنده، و لم يجد عند المشكلات حلًّا إلّا بعد مشاورته.
و أخرج الحافظ عبد الملك بن سليمان قال: ذُكر لعطاء: أ كان أحد من صحابة رسول الله أفقه من عليّ؟ قال: لا و الله!
قال الحراليّ: قد علم الأوّلون و الآخرون أنّ فهم كتاب الله منحصر في علم عليّ؛ و من جهل ذلك، فقد ضلّ عن الباب الذي هو أمامه. يرفع الله عن القلوب الحجاب حتى يتحقّق اليقين الذي لا يتغيّر بكشف الغطاء ... إلى آخر كلامه.
و منهم: الشيخ محمود بن محمّد بن عليّ الشيخانيّ القادريّ، ذكره في تأليفه: «الصراط السويّ في مناقب آل النبيّ» نقلًا عن أحمد، و الترمذيّ بصورة إرسال المسلّم، ثمّ قال: و لهذا كان ابن عبّاس يقول: مَنْ أتَى العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ، وَ هُوَ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
و منهم: عبد الحقّ الدهلويّ المتوفّى سنة ۱۰٥٢، ذكره في «اللَّمَعات في شرح المِشْكَاة»؛ و حكى كلمات كثير من الحفّاظ حول الحديث نفياً و إثباتاً. و اختار أخيراً ما ذهب إليه جمع من متأخّري الحفّاظ من القول بثبوته و حُسْنِه. و عدّ أيضاً في «مدارج النبوّة» من أسماء رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): مَدِينَة العِلْمِ، أخذاً بالحديث.
و منهم: الأمير محمّد بن إسماعيل بن صلاح اليمنيّ الصنعانيّ المتوفّى سنة ۱۱۸٢ ه. ذكره في «الروضة النديّة في شرح التحفة العلويّة»؛ و حكم بصحّة الحديث تبعاً للحاكم، و ابن جرير، و السيوطيّ. و قال بعد نقل تصحيح المصحّحين و تحسين مَن حسّنه:
فظهر لك بطلان دعوى الوضع و صحّة القول بالصحّة، كما اختاره السيوطيّ. و هو قول الحاكم، و ابن جرير.
و منهم: عمر بن أحمد الخربوتيّ الحنفيّ في كتاب «عصيدة الشَّهدة في شرح قصيدة البردة». قال في شرح قوله:
فاقَ النّبيِّينَ في خَلْقٍ وَ في خُلُقٍ | *** | وَ لَمْ يُدَانُوهُ في عِلْمٍ وَ لا كَرَمِ |
اعلم أنّ بيان علمه ثابت بقوله تعالى: وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ.۱ و بقوله (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا الحديث، و غير ذلك. و منهم: شهاب الدين السيّد محمود عبد الله الآلوسيّ البغداديّ المتوفّى سنة ۱٢٩٣ ه في تفسيره «روح المعاني» يسمّي عليّاً عليه السلام بِبَابِ مَدِينَةِ العِلْمِ عند البحث عن رؤية اللوح في ج ٢۷، ص ٣، الطبعة المنيريّة.
و منهم: الشيخ سليمان بن إبراهيم الحسينيّ البلخيّ القندوزيّ المتوفّى سنة ۱٢٩٣ ه ذكره بطرق كثيرة في «ينابيع المودّة» ص ٦٥ و ۷٢ و ۷٣ و ٤۰۰ و ٤۱٩ نقلًا عن جمع من الحفّاظ و الأعلام تنتهي أسنادهم إلى أمير المؤمنين عليه السلام، و ابن عبّاس، و جابر بن عبد الله، و حذيفة بن اليمان، و الحسن بن عليّ، و ابن مسعود، و أنس بن مالك، و عبد الله بن عمر.
و منهم: المولوي حَسَن الزمان، ذكره في «القول المستحسن في
فخر الحسن». و عدّ هذا الحديث من الأحاديث المشهورة و الصحيحة، و قال: صحّحه جماعة من أئمّة الحديث، كابن معين، و الخطيب، و ابن
جرير، و الحاكم، و الفيروزآباديّ في «النقد الصحيح». ثمّ قال: و اقتصر على تحسينه العلائيّ، و الزركشيّ، و ابن حجر، و أقوام اخر، ردّاً على ابن الجوزيّ.۱
ثمّ ذكر المرحوم العلّامة الأمينيّ بعد هذا البحث أسماء عشرة من أعلام العامّة الذين نصّوا على صحّة الحديث، ذكرهم بإيجاز، و هم: يحيي ابن معين و محمّد بن جرير الطبريّ و الحاكم النيسابوريّ و الخطيب البغداديّ و الحسن السمرقنديّ و مجد الدين الفيروزآباديّ و جلال الدين السيوطيّ و السيّد محمّد البخاريّ و الأمير محمّد الصنعانيّ و حَسَن الزمان.
ثمّ ذكر عشرة آخرين يظهر من كلامهم اختيار صحّته، و هم: محمّد ابن طلحة القُرَشيّ و يوسف بن قُزْاوغلي و صلاح الدين العلائيّ و محمّد الجَزَريّ و محمّد السخاويّ و روزبهان الشيرازيّ و المتّقي الهنديّ و الميرزا محمّد البدخشانيّ و الميرزا محمّد صدر العالم و ثناء الله باني بتي الهنديّ.
أحاديث تشابه مضمون الحديث: أنا مدينة العلم و عليّ بابها
و بعد ذلك بيّن الألفاظ المختلفة التي ورد فيها الحديث بأحد عشر شكلًا كما يأتي:
۱ - عن الحارث و عاصم، عن عليّ عليه السلام مرفوعاً: إنّ اللهَ خَلَقَنِي وَ عَلِيَّاً مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ؛ أنَا أصْلُهَا، وَ عَلِيّ فَرْعُهَا، وَ الحَسَنُ وَ الحُسَيْنُ ثَمَرَتُهَا، وَ الشِّيعَةُ وَرَقُهَا، فَهَلْ يَخْرُجُ مِنَ الطَّيِّبِ إلَّا الطيِّبُ؟ أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا، فَمَنْ أرَادَ المَدِينَةُ فَلْيَأتِهَا مِنْ بَابِهَا.
و في لفظ آخر عن حذيفة عن عليّ عليه السلام: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ
وَ عَلِيّ بَابُهَا: وَ لَا تُؤْتَي البُيُوتُ إلَّا مِنْ أبْوَابِهَا.
و جاء في لفظ آخر: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ أنْتَ بَابُهَا! كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أنّهُ يَصِلُ إلَى المَدِينَةِ إلَّا مِنْ قِبَلِ البَابِ.
و ورد في لفظ آخر: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ أنْتَ بَابُهَا! كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أنّهُ يَدْخُلُ المَدِينَةَ بِغَيْرِ البَابِ. قَالَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ: «وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها»!
٢ - عن ابن عبّاس: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا، فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ بَابَهُ «البَابَ».
و في لفظٍ عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس: يَا عَلِيّ! أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ أنْتَ بَابُهَا! وَ لَنْ تُؤْتَى المَدِينَةُ إلَّا مِنْ قِبَلِ البَابِ.
٣ - و روى عن جابر بن عبد الله أنّه قال: سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) يوم الحُدَيْبِيَّةِ، و هو آخذ بِيد عليّ، يقول: هَذَا أميرُ البَرَرَةِ، وَ قَاتِلُ الفَجَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ. ثمّ مدّ بها صوته فقال: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا، فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ.
و في لفظ آخر: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا؛ فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ.
و في كتب الأحاديث أحاديث اخرى أخرجها الأعلام في تأليفاتهم القيّمة تعاضد صحّة هذا الحديث، منها:
۱ - أنَا دَارُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا.۱
٢ - أنَا دَارُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا.۱
٣ - أنَا مِيزَانُ العِلْمِ وَ عَلِيّ كَفَّتَاهُ.٢
٤ - أنَا مِيزَانُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ لِسَانُهُ.٣
٥ - أنَا المَدِينَةُ وَ أنْتَ البَابُ، وَ لَا يُؤْتَى المَدِينَةُ إلَّا مِنْ بَابِهَا.٤
٦ - و جاء في حديث: فَهُوَ بَابُ «مَدِينَةِ» عِلْمِي.٥
۷ - عَلِيّ أخِي وَ مِنّي، وَ أنَا مِنْ عَلِيّ فَهُوَ بَابُ عِلْمِي وَ وَصِيِّي.
۸ - عَلِيّ بَابُ عِلْمِي وَ مُبَيِّنٌ لأمَّتِي مَا ارْسِلْتُ بِهِ مِنْ بَعْدِي.٦
٩ - أنتَ بَابُ عِلْمِي. قاله رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) لعليّ عليه السلام في حديث أخرجه الخركوشيّ و أبو نعيم و الديلميّ و الخوارزميّ و أبو العلاء الهمدانيّ، و أبو حامد الصالحات و أبو عبد الله الكنجيّ و السيّد شهاب الدين صاحب «توضيح الدلائل»، و القندوزيّ.
۱۰ - يَا امَّ سَلَمَةَ اشْهَدِي وَ اسْمَعِي! هَذَا عَلِيّ أمير المؤمنين، وَ سَيِّدُ المُسْلِمِينَ، وَ عَيْبَةُ عِلْمِي «وِعَاءُ عِلْمِي» وَ بَابِيَ الذي اوتَى مِنْهُ.
أخرجه أبو نعيم، و الخوارزميّ في «المناقب»، و الرافعيّ في «التدوين»، و الكنجيّ في «المناقب»، و الحمّوئيّ في «فرائد السِّمطين»، و حسام الدين المحلّي، و شهاب الدين في «توضيح الدلائل»، و الشيخ محمّد الحنفيّ في شرح «الجامع الصغير». و قال في حاشية «شرح العزيزيّ» ج ٢، ص ٤۱۷: حديث العَيْبَة، أي: وعاء علمي الحافظ له، فإنّ النبيّ مدينة العلم، و لذا كانت الصحابة تحتاج إلى عليّ بن أبي طالب في تلك المشكلات. و لذا كان يسأله معاوية في زمن الواقعة عن المشكلات، فيجيبه. فيقول له أصحابه: مَا لَكَ تُجِيبُ عَدُوّنَا؟ فَيَقُولُ: أ مَا يَكْفِيكُمْ أنّهُ يَحْتَاجُ إلينَا؟
و لم يكن غير عليّ لحلّ مشكلات عمر، حتى قال: مَا أبْقَانِيَ اللهُ إلَى أنْ ادْرِكَ قَوْماً لَيْسَ فِيهِمْ أبُو الحَسَنِ.
أو كما قال في حاشية «شرح العزيزيّ» أيضاً: كان عمر يطلب أن لا يعيش بعده؛ ثمّ ذكر قضايا منها: حديث اللطم،۱ و حديث أمر عمر
برجم زانية؛۱ و قال عمر في ذلك كلّه: لَو لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ.
و قال المناويّ في «فيض القدير» ج ٤، ص ٣٥٦: عَلِيّ عَيْبةُ عِلْمِي. أي: مظنّة استفصاحي و خاصّتي، و موضع سرّي، و معدن نفائسي، إذ إنّ العيبة ما يحرز الرجل فيه نفائسه. قال ابن دريد: و هذا من كلام رسول الله الموجز الذي لم يسبق ضرب المثل به في إرادة اختصاص عليّ باموره الباطنة التي لا يطّلع عليه أحد غيره. و ذلك غاية في مدح عليّ.
و قد كانت ضمائر أعدائه منطوية على اعتقاد تعظيمه، و في شرح «الهمزيّة»: إنّ معاوية كان يرسل من يسأل عليّاً من المشكلات فيجيبه. فقال أحد بنيه: تجيب عدوّك؟ قال: أ مَا يَكْفِينَا أنِ احْتَاجَنَا وَ سَألَنَا؟
۱۱ - أنَا مَدِينَةُ الفِقْهِ وَ عَلِيّ بَابُهَا.
ذكره أبو المظفّر سبط ابن الجوزيّ في «التذكرة» ص ٢٩. و أخرجه ابن بطّة العكبريّ بإسناده عن سَلَمة بن كهيل، عن عبد الرحمن، عن عليّ، و أخرجه أيضاً أبو الحسن عليّ بن محمّد الشهير بابن عِرَاق في «تنزيه الشريعة».٢
إصرار الحاكم في «المستدرك» على صحّة الحديث المذكور
أجل، و من الذين أصرّوا على صحّة هذا الحديث: الحاكم في «المستدرك». و ننقل فيما يأتي كلامه نصّاً لئلّا تبقى شبهة عالقة في أذهان القرّاء؛ قال الحاكم:
حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب،۱ قال: حدّثنا محمّد بن عبد الرحيم بالرملة، قال: حدّثنا أبو الصَّلْت عبد السلام بن صالح، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله:
أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فَمَنْ أرَادَ المَدِينَةَ فَلْيَأتِ البَابَ.
هذا حديث صحيح الإسناد؛ و لم يخرجه الشيخان: البخاريّ و مسلم.
أبو الصلت الهرويّ من كبار المشايخ الثقات
و أبو الصّلت ثقة مأمون؛ فإنّي سمعت أبا العبّاس محمّد بن يعقوب (راوي الحديث) في ذلك التأريخ يقول: سمعت العبّاس بن محمّد الدَّوْريّ يقول: سألت يحيي بن مُعِين عن أبي الصلت الهرويّ فقال: ثقة.
فقلت له: أ ليس قد حدّث عن أبي معاوية، عن الأعمش حديث أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ؟
قال: قد حدّث به محمّد بن جعفر الفيديّ، و هو ثقة مأمون.
و سمعت أبا نصر أحمد بن سهل الفقيه القبّانيّ فقيه عصره ببخاري يقول: سمعت صالح بن محمّد بن حبيب الحافظ يقول، و قد سئل عن أبي الصلت: دخل يحيى بن معين و نحن معه على أبي الصلت، فسلّم عليه. فلمّا خرج، تبعته فقلت له: ما تقول رحمك الله في أبي الصلت؟ فقال: هُوَ صَدُوقٌ.
أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِهَا مِنْ بَابِهَا.
قال: قد روى هذا الفيديّ أيضاً عن أبي معاوية، عن الأعمش، كما رواه أبو الصَّلْت. ثمّ ذكر الحاكم حديثاً آخر بسند آخر فقال: حدّثنا بصحّة ما ذكره الإمام أبو زكريّا، فقال: حدّثنا يحيي بن معين، قال: حدّثنا أبو الحسين محمّد بن أحمد بن تميم القنطريّ، قال حدّثنا الحسين بن فهم، قال: حدّثنا محمّد بن يحيى بن الضريس، قال: حدّثنا محمّد بن جعفر الفيديّ، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم):
أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فَمَنْ أرَادَ المَدِينَةَ فَلْيَأتِ البَابَ.
قال الحسين بن فهم: هذا الحديث حدّثناه أبو الصلت الهرويّ، عن أبي معاوية.
قال الحاكم: ليعلم المستفيد لهذا العلم أنّ الحسين بن فهم بن عبد الرحمن ثقة مأمون حافظ.
ثمّ قال: و لهذا الحديث شاهد من حديث سفيان الثوريّ بإسناد صحيح: حدّثني أبو بكر محمّد بن عليّ الفقيه الإمام الشاشيّ القفّال ببخارى عند ما سألته، قال: حدّثني النعمان بن هارون البَلَديّ ببلد من أصل كتابه، قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يزيد الحرّانيّ، قال: حدّثنا عبد الرزّاق، قال: حدّثنا سفيان الثوريّ عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن عبد الرحمن بن عثمان التيميّ، قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) يقول:
أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا؛ فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ.۱
و ذكر الخطيب البغداديّ في «تاريخ بغداد» مطالب في ترجمة عبد السلام بن صالح بن سليمان: أبي الصلت الهرويّ، ننقل فيما يأتي موجزاً منها ممّا يرتبط بموضوعنا هذا:
روى عن أحمد بن سيّار بن أيّوب يقول: أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهرويّ ذكر لنا أنّه من موالى٢ عبد الرحمن بن سمرة. و قد لقي الناس و جالسهم، و رحل في الحديث.
و كان صاحب قشافة [معيشته في ضيق، و لباسه مندرس، و وضعه مشوَّش] و هو من آحاد المعدودين في الزهد. قدم مرو أيّام المأمون، يريد
التوجّه إلى الغزو.
فادخل على المأمون؛ فلمّا سمع كلامه، جعله من الخاصّة من إخوانه، و حبسه عنده إلى أن خرج معه إلى الغزو. فلم يزل عنده مكرّماً إلى أن أراد إظهار كلام جَهْم و القول بخلق القرآن. و جمع بينه و بين بِشْر المَرِيسيّ، و سأله أن يكلّمه. و كان أبو الصلت يردّ على أهل الأهواء من المُرْجِئَة، و الجَهْمِيَّة، و الزنادقة، و القَدَرَيَّة. و كلّم بشر المريسيّ غير مرّة بين يدي المأمون مع غيره من أهل الكلام؛ كلّ ذلك كان الظفر له؛ و كان يعرف بكلام الشيعة.
و كان يروي أحاديث في مثالب بعض الصحابة و الطعن عليهم. و سألت إسحاق بن إبراهيم عن تلك الأحاديث، و هي أحاديث مرويّة نحو ما جاء في أبي موسى، و ما روى في معاوية، فقال: هذه أحاديث قد رويت.
قلتُ: فتكره كتابتها و روايتها، و الرواية عمّن يرويها؟! فقال: أمّا من يرويها على طريق المعرفة، فلا أكره ذلك. و أمّا من يرويها ديانة و يريد عيب القوم، فإنّي لا أروي الرواية عنه.
أخبرنا محمّد بن القاسم النّرسِيّ، أخبرنا محمّد بن عبد الله الشافعيّ، حَدّثنا إسحاق بن الحسن بن ميمون الحربيّ، حدّثنا عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهرويّ حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا.
و روى عن أبي بكر أحمد بن محمّد بن الحجّاج المروزيّ أنّ أبا عبد الله سئل عن أبي الصلت، فقال: رَوَى أحَادِيثَ مَنَاكِيرَ.
ذنب أبي الصلت عند مشايخ العامّة تشيّعه
و عن عمر بن الحسن بن عليّ بن مالك أنّه سمع أباه يقول: سألت
يحيى بن معين عن أبي الصلت الهرويّ، فقال: ثِقَةٌ صَدُوقٌ إلَّا أنّه يَتَشَيَّعُ.
و عن عبد الله بن الجنيد، قال: سألت يحيى بن معين عن أبي الصلت الهرويّ، فقال: قَدْ سَمِعَ وَ مَا أعْرَفُهُ بِالكِذْبِ.
و قال مرّة اخرى: سمعت يحيى بن مُعين و ذكر أبا الصلت الهرويّ فقال: لَمْ يَكُنْ أبُو الصَّلْتِ عِنْدَنَا مِنْ أهْلِ الكِذْبِ؛ وَ هَذِهِ الأحَادِيثُ التي يَروِيها مَا نَعْرِفَهَا.
و روى عن القاسم بن عبد الرحمن الأنباريّ أنّه قال: حدّثنا أبو الصلت الهرويّ، حدّثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم):
أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا، فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ بَابَهُ، قال القاسم: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث فقال: هو صحيح.
و هنا قال الخطيب: أقول: أراد أنّه صحيح من حديث أبي معاوية، و ليس بباطل، إذ رواه غير واحد عنه.
و قال محمّد بن عليّ المُقرئ: أخبرنا محمّد بن عبد الله النيسابوريّ، قال: سمعت أبا العبّاس محمّد بن يعقوب الأصمّ يقول: سمعت العبّاس بن محمّد الدوريّ يقول: سمعت يحيى بن معين يوثق أبا الصلت الهرويّ عبد السلام بن صالح.
فقلت -أو قيل له- إنّه حدّث عن أبي معاوية، عن الأعمش حديث: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا!
فقال: ما تريدون من هذا المسكين؟! أ ليس قد حدّث به محمّد بن جعفر الفيديّ عن أبي معاوية هذا، أو نحوه؟!
و جاء عن محمّد بن القاسم بن محرز أنّه سأل يحيى بن مُعين عن أبي الصَّلْت عبد السلام بن صالح الهرويّ. فقال: لَيْسَ مِمَّنْ يَكْذِبُ.
فقيل له في حديث أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فقال: هو من حديث أبي معاوية. أخبرني ابن نمير قال: حدّث به أبو معاوية قديماً، ثمّ كفّ عنه. و كان أبو الصلت رجلًا موسراً؛ يكرّم المشايخ، و يطلب هذه الأحاديث، و كانوا يحدّثونه بها.
و عن عبد المؤمن بن خلف النّسَفِيّ قال: سألت أبا عليّ صالح بن محمّد عن أبي الصلت الهرويّ، فقال: رأيتُ يحيى بن معين يحسن القول فيه. و رأيت يحيى بن معين عند أبي الصلت و سئل عن هذا الحديث الذي روى عن أبي معاوية في عليّ: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا، فقال: رواه أيضاً الفيديّ! قلت: ما اسمه؟ قال: محمّد بن جعفر!
و هنا قال الخطيب أيضاً: أقول: و قد ضعّف جماعة من أئمّة الحديث (العامّة و أهل السنّة) أبا الصلت، و تكلمّوا فيه بغير هذا الحديث. و عن إبراهيم بن يعقوب الجوز جانيّ قال: كَانَ أبُو الصَّلْتِ الهَرَويّ زَائِغاً عَنِ الحَقِّ، مَائلًا عَنِ القَصْدِ، سَمِعْتُ مَنْ حَدَّثَنِي عَنْ بَعْضِ الأئِمَّةِ أنّهُ قَالَ فِيهِ: هُوَ أكْذَبُ مِنْ رَوْثِ حِمَارِ الدَّجَّالِ وَ كَانَ قَدِيماً مُتَلَوِّثاً بِالأقْذَارِ.
و عن زكريّا بن يحيى الساجيّ قال: أبو الصلت الهرويّ يحدّث بمناكير، و هو عند مشايخ السنّة ضعيف.
و أخبرني البرقانيّ قال: ذُكر أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهرويّ عند أبي الحسن الدار قطنيّ. فقال أبو الحسن و أنا أسمع كَانَ خَبيثاً رَافِضِيَّاً.
و قال لي دعلج: إنّه سمع أبا سعد الزاهد الهرويّ، و قيل له: ما تقول في عبد السلام بن صالح؟ فقال: نعيم بن الهيصم ثقة. فقيل له: إنّما سألناك عن عبد السلام بن صالح! فقال: نعيم ثقة؛ لم يزد على هذا.
و حكى لنا أبو الحسن أنّه سمعه يقول: كَلْبٌ لِلعَلَويَّةِ خَيْرٌ مِنْ جَمِيعِ بَنِي امَيَّةَ؛ فقِيلَ: فِيهِمْ عُثْمَانُ؟ فَقَالَ: فِيهِمْ عُثْمَانُ!
و مات عبد السلام أبو الصلت يوم الأربعاء [يوم الرابع و العشرين] من شوّال سنة ٢٣٦ ه.۱
و نقل السيوطيّ عن خطّ الحافظ صلاح الدين العلائيّ في جواب الأحاديث التي تعقّبها سراج الدين القزوينيّ على «مصابيح البغويّ»، و ادّعى أنّها موضوعة و أنّ منها حديث: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا و قد ذكره أبو الفرج بن الجوزيّ في الموضوعات من طرق عدّة، و جزم ببطلان الكلّ. و كذلك تبعه بعده جماعة منهم الذهبيّ في «ميزان الاعتدال» و غيره.٢
ردّ ابن حجر و الحافظ العلائيّ على كلام أبي الفرج ابن الجوزيّ
قال الحافظ العلائيّ في جواب ابن الجوزيّ و من تبعه، و في ردّه على السراج القزوينيّ:
و المشهور به رواية أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهرويّ عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس مرفوعاً. و عبد السلام هذا تكلّموا فيه كثيراً. قال النسائيّ: ليس بثقة. و قال الدار قطنيّ و ابن عدي: متّهم [بالتشيّع]. و زاد الدار قطنيّ [أنّه] رافضيّ. و قال أبو حاتم: لم يكن عندي بصدوق. و صوّب أبو زرعة على حديثه؛ و مع ذلك فقد قال حدّثنا الأصمّ، حدّثنا عبّاس يعني الدوريّ، سأل يحيى بن معين عن أبي الصلت فقال: ثقة. و قال بعد أن ذكر حديثاً عن الحاكم:
قال العلائيّ: فقد برئ أبو الصلت عبد السلام من عهدة هذا الحديث [إذ رواه غيره]. و أبو معاوية ثقة مأمون من كبار الشيوخ و حفّاظهم المتّفق عليهم و قد تفرّد به عن الأعمش.
[يضاف إلى ذلك] قال العلائيّ: ما ذا؟ و أي استحالة في أن يقول رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) مثل هذا في حقّ عليّ رضي الله عنه؟!
و لم يأت كلّ من تكلّم في هذا الحديث و جزم وضعه بجواب عن هذه الروايات الصحيحة عن ابن معين؛ و مع ذلك فله شاهد رواه الترمذيّ في جامعه عن إسماعيل بن موسى الفزاريّ، عن محمّد بن عمر بن الروميّ، عن شريك بن عبد الله، عن سلمة بن كهيل، عن سويد بن غفلة، عن أبي عبد الله الصَّنَابِجيّ، عن عليّ مرفوعاً:
أنَا دَارُ الحِكْمَةِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. و رواه أبو مسلم الكجيّ و غيره عن محمّد بن عمر بن الروميّ؛ و هو ممّن روى عنه البخاريّ في غير الصحيح. و قد وثّقه ابن حبّان؛ و ضعّفه أبو داود.
و قد روى بعضهم هذا الحديث عن شريك و لم يذكر فيه الصنابجيّ؛ و لا نعرف هذا عن أحد من الثقات غير شريك، أي: النخَعيّ القاضي. و برئ محمّد بن الروميّ من التفرّد به. و شريك هو ابن عبد الله النخعيّ القاضي، احتجّ به مسلم، و علق له البخاريّ، و وثّقه يحيى بن معين؛ و قال العجليّ: ثقة حسن الحديث. و قال عيسى بن يونس: ما رأيت أحداً قط أورع في علمه من شريك.
فعلى هذا يكون تفرّده حسناً؛ فكيف إذا انضمّ إلى حديث أبي معاوية و لا يرد عليه رواية من أسقط منه الصنابجيّ، لأنّ سُوَيْدَ بْنَ غَفَلَة تابعيّ
مخضرم۱ أدرك الخلفاء الأربعة، و سمع منهم؛ و ذكر الصنابجيّ فيه من المزيد في متّصل الأسانيد [و لا ضرر في عدمه].
و لم يأت أبو الفرج و لا غيره ببلّة قادحة في حديث شريك سوى دعوى الوضع دفعاً بالصدر انتهى كلام الحافظ علاء الدين العلائيّ.٢
ثمّ نقل السيوطيّ هنا كلام ابن حجر العَسْقَلَانيّ، فقال: و سئل شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر عن هذا الحديث في فتيا، فقال: هذا الحديث أخرجه الحاكم في «المستدرك» و قال: إنّه صحيح. و خالفه أبو الفرج ابن الجوزيّ، فذكره في الموضوعات، و قال: إنّه كذب. و الصواب خلاف قولهما معاً. و أنّ الحديث من قسم الحسن لا يرتقي إلى الصحّة، و لا ينحطّ إلى الكذب.
... و ذكر ابن حجر في أجوبته عن الأحاديث التي انتقدها السراج القزوينيّ على «المصابيح» نحو ذلك. و زاد أنّ الحاكم روى له شاهداً من حديث جابر.
[بعد هذا الحديث مسنداً] قال في «لسان الميزان» عقب إيراد الذهبيّ على رواية جعفر بن محمّد عن أبي معاوية، و قوله: هذا موضوع. ما نصّه: و هذا الحديث له طرق كثيرة في «مستدرك الحاكم»، أقلّ أحوالها أن يكون للحديث أصل فلا ينبغي أن يطلق القول عليه بالوضع انتهى.٣
و قال ابن حجر أيضاً: قال القاسم بن عبد الرحمن الأنباريّ: سألت
يحيى بن معين عن حديث حدّثنا به أبو الصلت [عبد السلام بن صالح الهرويّ خادم عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام] عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عبّاس مرفوعاً [قال: قال النبيّ صلى الله عليه و آله]: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا الحديث؛ فقال: هو صحيح.۱
أجل، أطلنا البحث في هذا القسم عن سند الحديث في كتب العامّة ليتبيّن مدى انحرافهم عن الطريق القويم ألا و هو الولاية، و تعنّتهم على جمودهم و استكبارهم. و على الرغم من تصحيح هذا الحديث من قِبَل الكثير من أعلامهم و مشايخهم الذين هم من الدرجة الاولى كيحيى بن معين و الحاكم و السيوطيّ و الخطيب و العلائيّ و غيرهم، لكنّ بعضهم قد أصرّ على عناده و لجاجه كابن الجوزيّ و ابن عدي و الذَّهَبيّ و نظائرهم، و قالوا بوضع الحديث بلا أي برهان و حجّة من كتب الحديث، و بلا شاهد من كتب الرجال. و بلغ بهم السخف و الوضاعة درجة بحيث أدّى إلى اعتراض نفس أعلامهم كما ذكرنا عباراتهم نصّاً فقالوا: أوّلًا: رجال هذا الحديث من أعلام الحفّاظ. و ثانياً: تفرّد أبي الصلت بنقل الحديث يحسّن الحديث، و لا ينبغي القول: إنّه موضوع. و ثالثاً: هذا الحديث مؤيَّد بأحاديث اخرى، فلا جرم أنّه صحيح بتلك الشواهد، و أنّ القول بوضعه إثم.
إذاً، فهذا الحديث يتمتّع بجميع مراتب الحُجّيّة على شرط سنن أعلام العامّة، لأنّ يحيى بن معين من رجال صحاح العامّة، و هو من أعلام الحفّاظ، و كذلك شيخه محمّد بن عبد الله بن نُمَير الهمدانيّ الخارفيّ أبو عبد الرحمن الكوفيّ، و أبوه من رجال أحاديث الصحاح. و وردت
ترجمتهم في «تهذيب التهذيب» للعسقلانيّ، ج ٦، ص ٥۷؛ ج ٩، ص ٢۸٢.
و أنّ أبا معاوية الضرير، و الأعمش،۱ و مجاهد، و ابن عبّاس من رجال الصحاح و أعلام الرواة.
و من هنا، فبأيّ لسان -سوى اللاغيّ المستهتر- أن يتفوّه بوضع الحديث المذكور؟ و هل يمكن لابن الجوزيّ العنود اللجوج تلميذ ابن تيميّة الحرّانيّ و خرّيج مدرسته أن ينكر جماعة من رجال صحاحه الذين
اتّفق الجميع على أمانتهم و نزاهتهم: كعيسى بن يونس بن أبي إسحاق، و يُعلى بن عُبَيد، و ابن نُمير، و الفيديّ، و ابن مُعين الذين وردت ترجمتهم في «تهذيب التهذيب» و هم معروفون بالجلالة و العظمة و الأمانة عند العامّة، فينسب إليهم الكذب و الافتراء؟!
إن الحكم بوضع الحديث و إنكاره بلا ضابط علميّ، ليس إلّا من تعسّف الأمويّين و حملة لواء الباطل، و الضاربين بوجه الحقّ. فالحديث المؤيّد بالشواهد القطعيّة، و المعروف عند المسلّمين بالأخبار و الأحاديث المأثورة عن صاحب الشريعة أن لا مناص لهم عن القبول بهذا الحديث.
و لو تغاضينا عن ذلك كلّه، و افترضنا أنّ رجال الحديث المذكور ضعفاء و غير موثّقين، بَيدَ أنّ ضعف السند شيء، و الوضع شيء آخر، و ليس ثمّة من تلازم. أجل، فلو كان سند الحديث ضعيفاً، و هو غير مؤيَّد بالدليل القطعيّ فينبغي التوقّف فيه فيما لو لم يرد حديث آخر يعارض مفاده، لا أن نحكم بوضعه، أو بحجّيّته. فبأيّ قاعدة اصوليّة إذَن يتسنّى لنا عدّ الحديث موضوعاً، و من ثمّ إنكاره؟ و ليس لهذا الحديث ذنب سوى أنّه ورد في فضيلة إمام المظلومين و صاحب الولاية الكبرى للأنام، المعزول في داره. و ليس له ذنب سوى أنّ مفاده يقصر سبيل السعادة و الفلاح و الإنسانيّة و شرف العلم و الحقيقة على مدينة العلم، و يعلن بصراحة أنّ عَلِيَّاً بَابُهَا.
إن أبا الصلت الهرويّ هو أحد رواة هذا الحديث. و لمّا كان شيعيّاً واعياً قويّاً مقتدراً في البحث،۱ فقد أسقطوه و حطّوا من شأنه من خلال
وصفه بالتشيّع، و قالوا عنه: رافضيّ خبيث، و دجّال، و كذّاب، و راوٍ أحاديثَ منكرة، هذا مع أنّه كان مشهوراً عند علماء العامّة، و يروي أحاديثهم. و لو كانوا قد وثّقوه، لصدّقوا جميع أحاديثه المرويّة بواسطته عن الإمام المبين و خليفة شرع سيّد المرسلين، الإمام الغريب المسموم عليّ بن موسى الرضا عليه السلام. لكنّهم طعنوا فيه لتفقد الروايات المأثورة عن الإمام الرضا عليه السلام حجّيّتها عندهم.
كان أبو الصلت خادماً للإمام الرضا عليه السلام، و روى عنه روايات جمّة في الولاية، و هي مذكورة في كتاب «عيون أخبار الرضا». و يحترم أبناء العامّة الإمام الرضا، و يرونه ثقة مأموناً من حيث الرواية، و لا يردّون رواية ثبت صدورها عنه. و لكن ما فائدة ذلك و هم يسقطون مثل أبي الصلت، خادمه الذي كان رجلًا تقيّاً، زاهداً، ناسكاً، معرضاً عن الدنيا، عالماً بأخبار العامّة و رواياتهم؟ و إنّما يفعلون ذلك ليسقطوا بالنتيجة تعاليم الإمام في التوحيد، التي تمثّل ردّاً على الحنابلة المجسِّمة، و كذلك تعاليمه في المعاد و العدل و الإمامة و الولاية التي تمثّل ردّاً على جميع
مذاهبهم. و فعلوا ما فعلوا بإلصاق التهم بأبي الصلت الهرويّ. و ليس له من ذنب سوى روايته للحديث! و ما عليكم إلّا أن تناقشوا في أصل الحديث!
أبو الصلت الهرويّ من ثقات الشيعة و رواتهم
كان ما تقدّم موجزاً لترجمة أبي الصلت من كتب رجال العامّة، و أمّا ما في كتب الخاصّة، فنكتفي بمختصر ذكره شيخ الفقهاء و المجتهدين: الشيخ عبد الله المامقانيّ رضوان الله عليه في ترجمته:
قال البعض: اثنان يسمّيان بعبد السلام بن صالح، أحدهما عامّيّ، و الآخر شيعيّ. و ذهب الشيخ الطوسيّ رضوان الله عليه في باب أصحاب الرضا عليه السلام من رجاله إلى أنّه عامّيّ. و تبعه العلّامة الحلّيّ في باب الكنى في القسم الثاني من كتابه «الخلاصة» و قال: هو عامّيّ من أصحاب الرضا عليه السلام. و قد صدر هذا الكلام من العلّامة من استعجاله في التصنيف، لأنّ عدّه إيّاه في القسم الأوّل من شهادته بأنّه ثقة صحيح الحديث من دون غمز في مذهبه بوجه النصّ في تشيّعه.
و من راجع كلمات أهل الرجال العامّة و الخاصّة، جزم بأنّ عبد السلام ابن صالح أبا الصلت الخراسانيّ الهرويّ واحد لا اثنان. كما أنّ من راجع الأخبار و كلمات الفريقين من أهل الرجال جزم بأنّ هذا الرجل شيعيّ إماميّ اثنا عشريّ، و أنّ نسبة العامّيّة إليه من الشيخ سهو من قلمه. و نسوق فيما يأتي شطراً من كلمات أهل الرجال ليستبين الموضوع:
قال النجاشيّ: ثقة صحيح الحديث. له كتاب «وفاة الإمام الرضا عليه السلام». و هذا الكلام نصّ على تشيّعه، إذ لم يغمز في مذهبه؛ و إطلاقه الثقة عليه دليل على كونه إماميّاً. و زعم بعض الفضلاء أنّ إطلاقه الثقة عليه لا يدلّ على تشيّعه بوجه، بل قول النجاشيّ: صحيح الحديث يومئ إلى عدم صحّة مذهبه. و هذا وهم، لأنّ إنكار دلالة إطلاق الوثاقة على التشيّع ناشي من الذهول عن اصطلاح رجال الشيعة إطلاق الثقة على العدل الإماميّ
الضابط في الرواية. و دعواه دلالة قول: صحيح الحديث على عدم صحّة مذهبه من الخيالات السوداويّة. أ لا ترى إلى ما يأتي الآن من كلام ابن طاووس الناصّ على كون الرجل نقيّ الحديث، شديد التشيّع؟!
و في «التحرير الطاوسيّ»: قال أبو أحمد محمّد بن سليمان و هو من العامّة: حدّثني العبّاس الدوريّ، قال: سمعت يحيى بن نعيم۱ يقول: أبو الصلت نقيّ الحديث. و رأيناه سمع، و لكن كان شديد التشيّع، و لم يُرَ منه الكذب.
و قال نزلة بن قيس الإسفرايينيّ: سمعت أحمد بن سعيد الرازيّ يقول: أبو الصلت الهرويّ ثقة مأمون على الحديث، إلّا أنّه يحبّ آل رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم)؛ و كان دينه و مذهبه انتهى. و مثله بعينه موجود في كتاب الكشِّيّ.
و قال الذهبيّ ذهب الله بنوره: عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهرويّ خادم عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام؛ روى عن حمّاد بن يزيد و مالك: وَاهٍ شِيعيّ مَعَ صَلَاحِهِ. و قال في «ميزان الاعتدال»: رَجُلٌ صَالِحٌ إلَّا أنّه شِيعِيّ.
و قال الجعفيّ: رَافِضِيّ خَبِيثٌ. و قال الدار قطنيّ: رَافِضِيّ مُتَّهَمٌ. و قال ابن الجوزيّ: إنّهُ خَادِمُ الرّضَا عليه السلام؛ شيعيّ مع صلاحه. و جاء في «أنساب السمعانيّ» عن أبي حاتم: إنّهُ رَأسُ مَذْهَبِ الرّافِضَةِ. إلى غير ذلك من كلماتهم الناصّة على كونه إماميّاً شيعيّاً.
و لقد أجاد الشهيد الثاني رضوان الله عليه حيث استفاد من ثاني خبرَى الكشّيّ أنّ أبا الصلت كان مخالطاً للعامّة، و راوٍ لأخبارهم؛ فلهذا
قال: فلذلك التبس أمره على الشيخ؛ و ذكر في كتابه أنّه عامّيّ، و تبعه
العلّامة في باب الكنى من القسم الثاني. و لكنّ عبد السلام بن صالح واحد، ثقة عند المخالف و المؤالف، لكن التبس أمره على بعض الناس لكونه
مخالطاً للجميع، و مثله كثير من رجال الشيعة قد التبس أمرهم على بعض الناس أيضاً كمحمّد بن إسحاق الإسفرايينيّ صاحب كتاب «السيرة» المؤرّخ المشهور، و سليمان بن مهران أبي محمّد الأسديّ الأعمش، و خلق كثير. و في كتاب الشيخ الطوسيّ ما يؤذِن بأنّهما واحد، لأنّه ذكره مرّتين، إحداهما في الكُنَى، و الاخرى في باب العين باسمه. و ذكر في الموضعين أنّه عامّيّ انتهى كلام الشهيد الثاني رضوان الله عليه.
و قال المولى محمّد باقر الوحيد البهبهانيّ رضوان الله عليه: إنّ الأخبار الصادرة عنه في «العيون» و «الأماليّ» و غيرهما الصريحة الناصّة على تشيّعه، بل و كونه من خواصّ الشيعة أكثر من أن تحصى. و علماء العامّة ذكروا أنّه شيعيّ. ثمّ نقل كثيراً من عبارات العامّة.
و هنا، قال المامَقَانيّ: أقول: كيف يمكن عدم كون الرجل شيعيّاً مع نقله شطراً وافراً من معجزات الرضا و الجواد عليهما السلام؟ و حكايته شهادة الإمام الرضا عليه السلام. بل يستفاد ممّا نقله الصدوق رضي الله عنه في «العيون» عنه من أحوال الرضا عليه السلام أنّه ممّن يعتمده الإمام الرضا روحي فداه، و أنّه صاحب سرّه و خاصّته. ثمّ نقل المامقانيّ عدداً من الروايات الواردة في «العيون» و التي تنصّ على تشيّع راويها، و هو أبو الصلت. و قال بعد ذلك: و بالجملة، فكون الرجل شيعيّاً إماميّاً عند من راجع الأخبار و كلمات علماء الفريقين كنارٍ على علم. و أنّ ما صدر من الشيخ من رميه بالعامّيّة من سهو القلم، و ما صدر من العلّامة هو استعجال في التصنيف.
و ممّن صرّح بهذا الاشتباه: ابن شهرآشوب حيث قال: الذي أعتقده أنّ أبا الصلت كان إماميّ المذهب؛ و أنّ قول العلّامة في [باب] الكنى إنّه عامّيّ محلّ نظر، فإنّ الصدوق نقل في «عيون أخبار الرضا» ما هو صريح
في أنّه من خواصّ الإماميّة؛ يضاف إلى ذلك، أنّي رأيت في كثير من كتب رجال العامّة التشنيع عليه بأنّه شِيعِيّ رَافِضِيّ جَلْدٌ كما في «ميزان الاعتدال» و غيره انتهى كلام ابن شهرآشوب.
و بالجملة، لا غبار على تشيّع هذا الرجل من وحي الأحاديث الكثيرة التي رواها، و التي لم يحدّث بها الأئمّة عليهم السلام إلّا الخواصّ من شيعتهم و المخلصين لهم. و لذلك لم يروِها إلّا الخواصّ الخُلَّص من الشيعة. ثمّ نقل بعض الكلمات التي ذكرها العلماء في هذا الموضوع، و ختم كلامه بعدد من التذييلات، و قال في التذييل الرابع:
إنّ من طريف ما روى عن أبي الصلت حديث جاء في «كشف الغمّة» قال فيه:
قال أبو الصلت الهرويّ: حدّثني عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام و كان و الله [رضا] كما سمّي عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين، عن أبيه عليّ عليهم السلام أنّه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): الإيمَانُ قَوْلٌ وَ عَمَلٌ!۱
فلمّا خرجنا، قال أحمد بن حنبل: ما هذا الإسناد؟ [يقول أبو الصلت:] فقال له أبي: هَذَا سُعُوطُ المَجَانِينَ إذَا سُعِطَ بِهِ المُجْنُونُ أفَاقَ.
و غرضه أنّ هذا السند سند مبارك إذا قُرِئ على المجنون أفاق. و يشهد بذلك ما في «مناقب ابن شهرآشوب» قال: كان أحمد بن حنبل مع انحرافه عن أهل البيت عليهم السلام لمّا روى عن موسى بن جعفر عليه السلام قال: حدّثني أبو جعفر بن محمّد، و هكذا إلى النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلّم)، ثمّ قال أحمد: و هذا إسناد لو قُرِئ على مجنون أفاق.۱
و قال في التذييل الثاني: قال في محكيّ «تهذيب الكمال»: عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ صَالِحٍ أبُو الصَّلْتِ الهَرَويّ خَادِمُ عَلِيّ بْنِ موسى الرّضَا عَلَيْهما السَّلامُ شِيعِيّ مَعَ صَلَاحِهِ؛ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَ ثَلَاثِينَ وَ مِائَتَيْنِ انتهى.٢
و على ضوء ذلك، تشرّف أبو الصلت بخدمة الإمام الرضا عليه السلام سنتين تقريباً، و أدرك عصر الإمام الجواد، و شيئاً من عصر الإمام الهاديّ عليهما السلام، ذلك أنّه كان يسكن مرو. و في سنة ٢۰۰ ه أحضر المأمون الإمام الرضا عليه السلام من المدينة إلى مرو، و كان استشهاد الإمام -على
ما هو مشهور- في آخر صفر سنة ٢۰٣ ه و هو ابن خمس و خمسين سنة. و استشهد الإمام محمّد الجواد عليه السلام سنة ٢٢۰ ه، و استشهد الإمام عليّ الهاديّ عليه السلام سنة ٢٥٤ ه. و يعود السبب في قلّة رواية أبي الصلت عن الإمامين: الجواد و الهاديّ إلى أنّهما كانا ببغداد و المدينة و سامرّاء، و هو كان بمرو رحمة الله و رضوانه عليه.۱
يقع قبر أبي الصَّلْت الهرويّ خارج مدينة مشهد المقدّسة على بُعد فرسخين عنها، و هو مزار للشيعة.۱
«أبو بكر أساسها و عمر حيطانها و عثمان سقفها»، حديثٌ موضوع
أجل، لقد دخل العامّة إلى هذا الحديث المبارك الذي يمثّل سنداً في فضيلة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام و أفضليّته من طريق آخر و كم حاول معاندوهم أن يسقطوا شأن الحديث، فلم يستطيعوا، إذ قام بوجههم أعلامهم و مشايخهم المنصفون، و أثبتوا في كتبهم أنّ حديث: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا فَمَنْ أرَادَ المَدِينَةَ فَلْيَأتِ البَابَ حديث صحيح لا يمكن الغمز فيه من حيث حجّيّته فوضعوا حديثاً مضمونه: إذا كان عليّ باب المدينة، فأبو بكر و عمر و عثمان سورها؛ أو أنّ أبا بكر أساسها، و عمر حيطانها، و عثمان سقفها. و أضاف بعضهم أيضاً أنّ معاوية حلقتها. فلا تبقى إذاً فضيلة لباب المدينة حيال أساسها و جدارها و سقفها.
نقل السيوطيّ عن «تاريخ ابن عساكر» بسنده عن الحسن بن تميم، عن أنس مرفوعاً قال: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ أبو بَكْرٍ وَ عُمَرُ وَ عُثْمَانُ سُورُهَا وَ عَلَيّ بَابُهَا فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ.
و قال ابن عساكر: مُنْكَرٌ جِدَّاً إسْنَادَاً وَ مَتْنَاً.
و قال ابن عساكر [في تاريخه أيضاً]: أنبأنا أبو الفجر غيث بن عليّ الخطيب: حدّثني أبو الفرج الإسفرايينيّ: كان أبو سعد إسماعيل بن المثنّى الأستراباذيّ يعظ بدمشق، فقام إليه رجل، فقال: أيّها الشيخ! ما تقول في قول النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا؟! قال: فأطرق لحظة، ثمّ رفع رأسه و قال: نعم! لا يعرف هذا الحديث على التمام
إلّا من كان صدراً في الإسلام!
إنّما قال النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ أبُو بَكْرٍ أسَاسُهَا، وَ عُمَرُ حِيطَانُهَا، وَ عُثْمَانُ سَقْفُهَا وَ عَليّ بَابُهَا. قال: فاستحسن الحاضرون ذلك و هو يردّده. ثمّ سألوه (بعد أن تمّ و عظه) أن يخرج له إسناده (أي: يقول: أروي هذا الحديث عن فلان، و هو عن فلان، عن فلان، إلى أن يصل إلى النبيّ الأكرم (صلى الله عليه و آله و سلّم)) فَاغْتَمَّ وَ لَمْ يُخْرِجْهُ لَهُمْ.۱
و قال ابن حجر الهَيتميّ في كتاب «الفتاوى الحديثة» بعد أن نقل هذا الحديث: حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَ مُعَاوِيَةُ حَلَقَتُهَا فَهُوَ ضَعِيفٌ أيْضًا.٢
و مع ذلك نجد في كتابه: «الصواعق المحرقة» أنّ عناده و لجاجه في تشييد قواعد الباطل، و تضعيف أركان الحقّ، و إثبات أعلميّة أبي بكر على أمير المؤمنين عليه السلام قد أعمى بصيرته، و أنّ ما حكم بضعفه في كتاب «الفتاوى الحديثة»، ذكره هنا على نحو إرسال المسلّمات، و تشبّث بذلك من أجل تضعيف دلالة قوله صلى الله عليه و آله: وَ عَلِيّ بَابُهَا على انحصار مرجعيّة الإمام لكافّة الأنام. و يجد القول المشهور: وَ الغَرِيق يَتَشَبَّثُ بِكُلِّ حَشِيشٍ مصداقه هنا بكلّ وضوح.٣
محمّد عربي آبروى هر دو سراى | *** | كسى كه خاك درش نيست خاك بر سر او |
شنيدهام كه تكلّم نمود همچو مسيح | *** | بر اين حديث لب لعل روح پرور او |
كه من مدينة علمم عليّ در است مرا | *** | عجب خجسته حديثي است من سگ در او |
ولايت شه مردان نه كار بي پدري است | *** | كه دست غير گرفته است پاي مادر او |
يقول: أوَّلًا: فَمَنْ أرَادَ العِلْمَ فَلْيَأتِ البَابَ لا يقتضي الأعلميّة، فقد يكون غير الأعلم يُقْصَد لما عنده، من زيادة الإيضاح و البيان و التفرّغ للناس بخلاف الأعلم.
و ثانياً: على أنّ تلك الرواية معارضة بخبر فردوس الديلميّ: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ أبُو بَكْرٍ أسَاسُهَا، وَ عُمَرُ حِيطَانُهَا، وَ عُثْمَانُ سَقْفُهَا، وَ عَلِيّ بَابُهَا. فهذه صريحة في أنّ أبا بكر أعلمهم.
و حينئذٍ فالأمر بقصد الباب إنّما هو لنحو ما قلناه، لا لزيادة شرفه
على ما قبله، لما هو معلوم ضرورة أنّ كلّا من الأساس، و الحيطان، و السقف أعلى من الباب.
و [ثالثاً]: شذّ بعضهم فأجاب بأنّ معني: وَ عَلِيّ بَابُهَا من العلوّ [أي: أنا مدينة العلم و بابها رفيع عالى الشأن] على حدّ قراءة هَذَا صِرَاطُ عَلِي مُسْتَقِيمِ برفع عليّ و تنوينه، كما قرأ به يعقوب.۱
و يستبين ممّا ذكرناه وهن ما ذهب إليه هذا الرجل، و ذلك للأسباب الآتية:
أوّلًا: أنّ هذا الرجل قد حكم بضعف هذا الحديث في كتابه: «الفتاوي»، فكيف يتمسّك بتلك الحربة البالية المرفوضة؟ و كيف يريد أن يشهرها في مقابل قوله: وَ عَلِيّ بَابُهَا بلا أدنى إشارة إلى سندها؟ و هل لهذا من معنى غير الضعف في الاستدلال، و التضعضع في الاسس الإيمانيّة و العقيديّة؟ قال العلّامة الأمينيّ: ذكر العجلونيّ في «كشف الخِفاء» ج ۱، ص ٢۰٤ عن «الفردوس» بلا إسناد عن ابن مسعود مرفوعاً، و كذلك عن أنس مرفوعاً قال: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا وَ مُعَاوِيَةُ حَلْقَتُهَا، قال: قال في «المقاصد»: وَ بِالجُمْلَةِ فَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ وَ ألْفَاظُهَا رَكيكَةٌ.
و قال السيّد محمّد درويش الحوت في كتاب «أسنى المطالب» ص ۷٣: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ أبُو بَكْرٍ أسَاسُهَا، وَ عُمَرُ حِيطَانُهَا، و ذلك لا ينبغي ذكره في كتب العلم لا سيّما مثل ابن حجر الهيتميّ، ذكر ذلك في «الصواعق و الزواجر». و هو غير جيّد من مثله.٢
الطريق الانحصاريّ و السبيل المقصور لبلوغ المقصود. إذ إنّ كلّ من كان له أدنى ذوق علميّ و فهم عرفيّ، يعلم أنّ
و ثانياً: أنّ كلمة الباب أو فليأت الباب جاءت من أجل انحصار طريق الوصول إلى المقصد، لا من أجل شيء آخر. و هي من الوجهة الأدبيّة و اللغويّة أعلى تعبير لعرض «الباب» هنا ليس للدخول و الخروج، بل لأخذ العلوم، و الوصول إلى معدن الأسرار النبويّة الكامنة. و لا يتحقّق هذا المرام و المقصود إلّا أن يكون ذلك الباب حاوياً جميع علوم النبوّة و مشحوناً بكافّة الأسرار الغيبيّة، إذ أراد النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلّم) أن يسوق امّته نحوه، و يسقيهم من ذلك الماء المعين، و يحصل حصر طريق الوصول بكلمة «الباب» فحسب، و خاصّة قد جاء في آخرها ما يشدّد هذا التأكيد، و ذلك في قوله: «فمن أراد المدينة، فليأت الباب».
هذه هي النكتة الأدبيّة اللطيفة المستفادة من الباب، بَيدَ أنّ هذا المسكين الوضّاع الذي ينبغي أن يُعَدَّ تعبيره بالأساس و الحيطان و السقف مهزلة حقّاً، تصوّر لنفسه مدينة، يذهبون في داخلها و ينظرون إلى جمالها، و يتجوّلون بين أسوارها، و ينامون تحت سقفها، و يطرقون بابها بالحلقة؛ و على هذا المنوال من التخيّل و التوهّم وضع هذا الحديث و هو لا يدري أنّ المدينة لا سقف لها. و كانت هناك طرق أفضل و أرضى من غيرها لوضع الحديث، فتوضع على كتف الحكّام الغاصبين شارة الباطل من خلال تعابير مقبولة، و يُلَوَّثُوا بالكتفيّات الرصاصيّة و الحديديّة مكان الأوسمة الزمرّديّة.
يُشعر رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) بقوله: وَ عَلِيّ بَابُهَا أنّ حبل الاتّصال بالعلوم النبويّة، و الارتواء من مشرع المعرفة و الحقيقة هو خليفته و وصيّه أمير المؤمنين عليه السلام ليس غيره، كما أنّ الطريق
الوحيد للوصول إلى المدينة هو الدخول من بابها.
و على ضوء ذلك فالتعبير بالباب كناية لإيصال المغزى. و أمّا أساس المدينة، فلا شرف له غير بناء الجدران عليه.
فلا بدّ لمن يقصد المدينة للاستفادة من منافعها أن يدخلها من بابها؛
و إذا أراد الدخول من غير الباب فقد يهوي و يهلك في الخندق المحفور حولها. و إذا أراد التسلّق على السور المحيط بالمدينة، و ألقى نفسه فيها فقد يرميه الحرس و يقتلوه، و إذا نجى من القتل فسيقدّم إلى المحكمة على أنّه سارق و قاطع طريق و جاسوس.
هذا هو معنى الباب، و أهمّيّة التعبير به في هذا الحديث، و هو أهمّ من الأساس، و الجدار، و السقف، تلك التي ذكرها ابن حجر. و إنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الباب الوحيد الذي يختبر الناس بالدخول منه. و هو علم النبوّة، و القرآن، و كلّ ما يحتاج إليه الناس من الأخلاق و المعارف و التوحيد و العقائد و الأحكام و القضاء و السياسة. و عموماً، فقد أودعت فيه كافّة العلوم الدنيويّة و الاخرويّة. و أمّا زيادة البيان و الإيضاح في الأحكام، و التفرّع أكثر للنظر في شئون الناس الذي لا يراه ابن حجر ملازماً للأعلميّة فهو خطأ أيضاً.
إن من نصبه الله مرجعاً عامّاً للمسلمين بل للبشريّة ينبغي أن يتمتّع بسعة العلم و الاطّلاع، و القدرة على علاج المشاكل المستعصية، و رفع الخصومات و المحاكمات، و بيان الأحكام، و العلم بالتفسير و تأويل القرآن و السنّة و منهاج رسول الله، و تشخيص المؤمنين من المنافقين، و غير ذلك؛ كما ينبغي له أن يكون واضح البيان متفرّغاً للنظر في الشؤون العامّة، و مجالسة الفقراء و المعوزين و أصحاب الحاجات.
هذا هو نهج الأنبياء و الأولياء الإلهيّين بالحقّ؛ فاذا اهمل هذا
المنهج، فإنّه يبدّل برئاسة دنيويّة و حكومة استبداديّة، إذ يخلد الإنسان إلى قصره، و يرى نفسه هو الأعلم و الأبصر بشؤون الناس، و ينيط الامور بأشخاص لا يعرفون حقيقتها، فيظهر ما يظهر.
و كان هذا هو نهج مولى المتّقين عليه السلام، فبينما أقرّ المخالف و المؤالف بأنّ علمه بلغ منزلة بهرت العقول، فإنّ فصاحته و بلاغته قد أخضعت بلغاء الدنيا و فصحاءها. و في الوقت الذي كان يقوم و يقعد فيه مع البائسين و المعدمين، كان يمسح رأس اليتيم، و يضع اللقمة في فم الكفيف، و يحمل على كتفه أكياس الخبز و التمر ليوزّعها على الأرامل و الأيتام و الفقراء في الليالى المظلمة. و يجيب على أسئلة الصغير و الكبير.
و ثالثاً: إذا ذهبنا إلى أنّ كلمة عَلِيّ في قوله: وَ عَلِيّ بَابُهَا هي من العلوّ بالمعنى الوصفيّ لا بالمعنى العَلَميّ، فهو كلام ما أنزل الله به من سلطان. و لا يحتمل أحد هذا المعنى البعيد جدّاً عمّا يتبادر إلى الذهن، فضلًا عن التفوّه به، فلهذا قال: كلام شاذّ.
و العجيب هنا أنّه لو كان المعنى وصفيّاً، إذ يفيد أنّ باب المدينة رفيع و عال، فما ذا يصنعون بقوله: فَمَنْ أرَادَ المَدِينَةَ فَلْيَأتِ البَابَ! إذ يفيد هذا الكلام أنّ مَن أراد المدينة، فعليه أن يدخل من هذا الباب. فإذا كان المعنى و صفيّاً سيكون الكلام لغواً لا طائل تحته، و لا يمكن نسبته إلى رسول الله.
و الأعجب من هذا أنّ ابن حجر الذي روى في صواعقه: أبو بكر أساسها، و عمر حيطانها، و عثمان سقفها، ذكر جملة فَمَنْ أرَادَ المَدِينَةَ بعد قوله: وَ عَلِيّ بَابُهَا، فكيف يخطر المعنى الوصفيّ في بال مفكّر من المفكّرين؟
و جاء في المَثَل الفارسيّ: «الكذّاب مجبول على النسيان»، فالذين
أرادوا أن يحلّقوا كالخفافيش و يهبطوا من شمس سماء الولاية التي أضاءت مشارق الأرض و مغاربها ليقبعوا في كهوف الجهل و الإنكار و الجحود فراراً من هذه المنقبة قد نسوا أنّ عبارة فَمَنْ أرَادَ المَدِينَةَ فَلْيَأتِ البَابَ وردت في ذيل عبارة وَ عَلِيّ بَابُهَا، لذا قد مرّوا عليها عُمياً لا يبصرون.
و تقوّلوا مثل هذا على قوله تعالى: وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ، و لم يعرفوا أنّه لو كان المقصود من صالح المؤمنين هو ليس أمير المؤمنين عليه السلام، بل جميع صلحاء المؤمنين، لكُتب وَ صَالِحُ المُؤْمِنِينَ.۱
أبيات ابن فهد الهاشميّ و الشيخ كاظم الازريّ، و خاتمة البحث
و يحسن بنا هنا و نحن نريد أن نختم بحثنا أن نتبرّك بأشعار الحافظ عزّ الدين عبد العزيز المعروف بابن فهد الهاشميّ المكّيّ الشافعيّ المتوفّى سنة ٩٣٢ ه، انشدها في مدح أمير المؤمنين عليه السلام، و أشار فيها إلى باب علومه، و كذلك نتبرّك بأشعار الازريّ بعدها:
لَيْثُ الحُرُوبِ المِدْرَهُ الضَّرْغَامُ مَنْ | *** | بِحُسَامِهِ جَابَ الدَّيَاجى وَ الظُّلَمْ |
صِهْرُ الرّسُولِ أخُوهُ بَابُ عُلُومِهِ | *** | أقْضَى الصَّحَابَةِ ذُو الشَّمَائِلِ وَ الشِّيَمْ |
الزُّهْدُ وَ الوَرَعُ الشَّدِيدُ شِعَارُهُ | *** | وَ دِثَارُهُ العَدْلُ العَمِيمُ مَعَ الكَرَمْ |
فِي جُودِهِ مَا البَحْرُ؟ مَا التَّيَّارُ؟ مَا | *** | كُلُّ السُّيُولِ؟ وَ مَا الغَوَادِي وَ الدِّيَمْ |
وَ لَهُ الشَّجَاعَةُ وَ الشَّهَامَةُ وَ الحَيَا | *** | وَ كَذَا الفَصَاحَةُ وَ البَلَاغَةُ وَ الحِكَمْ |
مَا عَنْتَرُ؟ مَا غَيْرُهُ في البَأسِ؟ مَا | *** | اسْدُ الشَّرَي مَعَهُ إذَا الحَرْبُ اصطَلَمْ |
مَا نَجْلُ سَاعِدَةَ البَلِيغُ لَدَيْهِ؟ مَا | *** | سَحْبَانُ إنْ نَثَرَ الكَلَامَ وَ إنْ نَظَمْ |
حَاز الفَضَائِلَ كُلَّهَا سُبْحَانَ مَنْ | *** | مِنْ فَضْلِهِ أعْطَاهُ ذَاكَ مِنَ القِدَمْ |
نَصَرَ الرّسُولَ وَ كَمْ فَدَاهُ؟ فَيَا لَهُ | *** | مِنْ نَجْلِ عَمٍّ فَضْلُهُ لِلخَلْقِ عَمْ |
كُلٌّ أقَرّ بِفَضْلِهِ حَقَّاً؟ وَ ذَا | *** | أمْرٌ جَليّ في عَلِيّ مَا انْبَهَمْ |
فَعَلَيْهِ مِنّي ألْفُ ألْفُ تَحِيَّةٍ | *** | وَ عَلَى الصَّحَابَةَ كُلِّهِمْ أهْلِ الذِّمَمْ۱ |
و أنشد شاعر أهل البيت الشيخ كاظم الازريّ قائلًا:
عَائِدٌ لِلمُؤَمِّلينَ مُجِيبٌ | *** | سَامِعٌ مَا تُسَرّ مِنْ نَجْواهَا |
إنّما المُصْطَفَى مَدِينَةُ عِلْمٍ | *** | وَ هُوَ البَابُ مَنْ أتَاهُ أتَاهَا |
وَ هُمَا مُقْلَتَا العَوَالِمِ يُسْراً | *** | هَا عَلِيّ، وَ أحْمَدُ يُمْنَاهَا۱ |
فله الحمد و له الشكر و صلى الله على محمّد و آله الطاهرين، و لعنة الله على أعدائهم أجمعين.
الدَّرْسُ السَّابِعُ وَ الخَمْسُونَ بَعْدَ المِائَةِ إلَى السِّتَّينَ بَعْدَ المِائَةِ: قَضَايَا أمِيرِ الْمُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
رواية الشيعة و العامّة في أنّ: الَّذِينَ يَعْلَمُونَ، هم الأئمّة الطاهرون
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ.۱ (هل يستوي هذا القانت القائم الراجي رحمة ربّه مع الشخص الذي إذا مسّه ضرّ، دعا ربّه منيباً إليه. و إذا خوّله ربّه نعمة كبيرة منه نسي إنابته و دعاءه. و جعل للّه شركاء ليضلّ عن سبيله؟).٢
ورد في «غاية المرام» حديث واحد عن العامّة، و اثنا عشر حديثاً عن الخاصّة في تفسير هذه الآية المباركة.
أمّا عن العامّة، فقد روى عن ابن شهرآشوب، عن النيسابوريّ في «روضة الواعظين» أنّ عُرْوَة بن الزبير كان يقول: سمع بعض التابعين أنس
ابن مالك يقول: نزلت الآية: [أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً] في عليّ عليه السلام.
قال ذلك الرجل [التابعيّ]: فأتيتُ عليّاً عليه السلام وقت المغرب فوجدته يصلّي و يقرأ [القرآن] إلى أن طلع السحر. ثمّ جدّد وضوءه، و خرج إلى المسجد و صلى بالناس صلاة الفجر؛ ثمّ قعد في التعقيب إلى أن طلعت الشمس، ثمّ قصده الناس فجعل يقضي بينهم إلى أن حان وقت صلاة الظهر، فجدّد الوضوء ثمّ صلى بأصحابه [صلاة] الظهر. ثمّ قعد في التعقيب إلى أن صلى بهم العصر، ثمّ كان يحكم بين الناس و يفتيهم.۱
و أمّا عن الشيعة، فالأوّل عن الكلينيّ بسنده عن عمّار الساباطيّ، عن الصادق عليه السلام قال بعد تفسير الآية السابقة: عطف الله عزّ و جلّ القول في عليّ عليه السلام يخبر بحاله و فضله عند الله تبارك و تعالى، ثمّ قال أبو عبد الله عليه السلام: فهذا تأويله يا عمّار.٢
و عن عليّ بن إبراهيم في تفسيره المنسوب إلى الصادق عليه السلام قال بعد تفسير الفقرة السابقة: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام. وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ٣ َقُلْ (يَا مُحَمَّدُ) هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ
أُولُوا الْأَلْبابِ، يعني اولي العقول.۱
و روى تسع روايات بأسناد مختلفة عن الكُلينيّ، و محمّد بن الحسن الصَّفَّار في «بصائر الدرجات»، و أحمد بن محمّد بن خالد البرقيّ في كتاب «المحاسن»، و عن محمّد بن عبّاس أنّ أبا جعفر الباقر، و أبا عبد الله الصادق عليهما السلام قالا في تفسير هذه الآية الكريمة: «نحن الذين يعلمون»؛ «وعدونا الذين لا يعلمون»؛ و شيعتنا «اولوا الألباب».٢
و ذكر الحاكم الحَسْكانيّ بسنده المتّصل هذا المفاد من التفسير عن الباقر عليه السلام.٣
و ذكر الشيخ الطبرسيّ هذا المضمون مرسلًا بدون إسناد.٤
و قال العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه بعد أن روى هذا المعنى عن «الكافي» بسنده عن الإمام الباقر عليه السلام: و هذا المعنى مرويّ بطرق كثيرة عن الباقر و الصادق عليهما السلام. و هو جَرْى و ليس من التفسير في شيء.٥
و نقل الحاكم الحَسْكانيّ أيضاً رواية اخرى بسند آخر عن ابن عبّاس أنّ المراد من قوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ عليّ و أهل بيته من بني هاشم. و المراد من قوله: وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ بنو اميّة، و المراد من قوله: أُولُوا الْأَلْبابِ شيعتهم.٦
لقد بلغت فضيلة العلم قدراً عظيماً بحيث يبيّنها الله تعالى على سبيل الاستفهام الإنكاريّ في هذه الآية: قل يا أيّها النبيّ! «هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون»؟! و الآية كسائر الآيات، تشعّ بتألّقها في الأوساط و المدارس و الحركات و المذاهب إلى يوم القيامة، و تتصدّر امّهات النماذج و الشعارات في بيان عظمة العلم. و بالعلم يميَّز الإنسان عن البهائم و الجمادات. و به ينتشل الإنسان من الظلمات إلى النور. و الفرق بينه و بين الجهل كالفرق بين النور و الظلمة، و الفرق بين القرب و البعد، و بين البصر و العمى، و السعادة و الشقاء، و الجنّة و النار، و الحقيقة و المجاز، و أخيراً الفرق بين الحقّ و الباطل، و العرفان و عدم إدراك عالم الوجود و أسراره.
لأمير المؤمنين عليه السلام المقام الأوّل في العلم بين الصحابة و الامّة قاطبة
و استبان في هذه المباحث أنّ لأمير المؤمنين عليه السلام المقام الأوّل في العلم بين أفراد الامّة الإسلاميّة قاطبة. و لم يصل أحد من الصحابة لذروة ما بلغه طائر علمه المحلّق الطموح، إذ كانوا يتساقطون بأجنحة مهيضة أمام تربّعه على قمّة طود العلم؛ و لم تكن الامّة الإسلاميّة وحدها دونه، بل كانت الامم الاخرى بأسرها كذلك، و ليس هذه الامم فحسب، بل كان الأنبياء السابقون جميعهم أيضاً كذلك.
قال ابن شهرآشوب: رجع عمر إلى عليّ عليه السلام في ثلاث و عشرين مسألة [لم يجب عنها أيّام خلافته] حتى قال: لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ. و قد رواه الخلق منهم أبو بكر بن عبّاس،۱ و أبو المظفّر السمعانيّ.
و قال الصاحب بن عبّاد في هذا المجال:
هَلْ مِثْلُ فَتْوَاكَ إذْ قَالُوا مُجَاهَرَةً | *** | لَوْ لَا عَلِيّ هَلَكْنَا في فَتَاوِينَا |
و قال الخطيب الخوارزميّ:
إذا عُمَرُ تَخَطَّ في جَوَابِ | *** | وَ نَبَّهَهُ عَلِيّ بِالصَّوَابِ |
يَقُولُ بِعَدْلِهِ لَوْ لَا عَلِيّ | *** | هَلَكْتُ هَلَكْتُ في ذَاكَ الجَوَابِ |
و قد اشتهر عن أبي بكر قوله: فَإن اسْتَقَمْتُ فَاتَّبِعُونِي وَ إنْ زِغْتُ فَقَوِّمُونِي. و قوله: أمّا الفَاكِهَةُ فَأعرفها، و أمّا الأبُّ فالله أعلم.۱
و قوله في الكَلَالَةِ: أقُولُ فِيهَا بِرَأي فَإنْ أصَبْتُ فَمِنَ اللهِ؛ وَ إنْ أخْطَأتُ فَمِنّي وَ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ الكَلَالَةُ مَا دُونَ الوَلَدِ وَ الوَالِدِ.٢
و لم يحر عمر جواباً عند ما سأله سبع٣ عن الذَّارِيات.
[و ورد عن عمر أيضاً] قوله: لَا تَتَعَجَّبُوا مِنْ إمَامٍ أخْطَأ وَ امْرَأةٍ أصَابَتْ، نَاضَلَتْ أمِيرَكُمْ فَنضَلَتْهُ.
و كذلك في المسألة الحِمَارِيَّة، و آية الْكَلالَةِ، و قضائه في إرث الجَدِّ٤، و غير ذلك من القضايا و المسائل التي سئل عنها عمر، و عيّ عن
جوابها.
و قد شهد رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) لأمير المؤمنين عليه السلام بالعلم في قوله: عليّ عَيْبَةُ عِلْمِي. و قوله: عَلِيّ أعْلَمُكُمْ عِلْماً وَ أقْدَمُكُمْ سِلْماً. و قوله: أعْلَمُ امَّتِي بَعْدِي عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ. رواه عليّ بن هاشم، و ابن شيرويه الديلميّ بإسنادهما إلى سلمان.
و قوله: أعْطَى اللهُ عَلِيَّاً مِنَ الفَضْلِ جُزْءً لَوْ قُسِّمَ عَلَى أهْلِ الأرْضِ لَوَسِعَهُمْ؛ وَ أعْطَاهُ مِنَ الفَهْمِ جُزْءً لَوْ قُسِّمَ عَلَى أهْلِ الأرْضِ لَوَسِعَهُمْ.
و ما ذُكر في «حلية الأولياء» أنّ رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) سئل عن عليّ عليه السلام، فقال: قُسِّمَتِ الحِكْمَةُ عَشَرَةَ أجْزَاءٍ فَاعْطِى عَلِيّ تِسْعَةَ أجْزَاءٍ وَ النّاسُ جُزْءً وَاحِداً.۱
و قال ربيع بن خُثيم: مَا رَأيْتُ رَجُلًا مَنْ يُحِبُّهُ أشَدَّ حُبَّاً مِنْ عَلِيّ وَ لَا مَنْ يُبْغِضُهُ أشَدَّ بُغْضاً مِنْ عَلِيّ. ثُمَّ الْتَفَتَ فَقَالَ: «وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً».٢
و استُدِلَّ بالحساب فقالوا: أعْلَمُ الامَّةِ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ اتّفقا، في مائتين و ثمانية عشر. و كذلك قولهم: أعْلَمُ الامَّةِ جَمَالُ الامَّةِ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ سَيِّدُ النّجَبَاءِ، اتّفقا في ثلاثمائة و سبعين.
و قال ديك الجنّ:
هُوَ الذي سُمِّي أبَا البَيَانِ | *** | صَدَقْتَ قَدْ أصَبْتَ بِالبَيَانِ |
وَ هُوَ أبُو العِلْمِ الذي لَا يُعْلَمُ | *** | مِنْ قَوْلِهِ قُولُوا وَ لَا تَحَمْحَمُوا |
و قد أجمعوا على أنّ النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلّم) قال: أقْضَاكُمْ عَلِيّ.
حوار الإمام الصادق مع ابن أبي ليلى في علم أمير المؤمنين عليه السلام
و رُوينا عن سعيد بن أبي الخضيب و غيره أنّه قال الصادق عليه السلام لابن أبي ليلي: أ تقضي بين الناس يا عبد الرحمن؟!
قال: نعم يا ابن رسول الله!
قال: بأيّ شيءٍ تقضي؟!
قال: بكتاب الله!
قال: فما لم تجد في كتاب الله!
قال: من سنّة رسول الله! و ما لم أجده فيهما، أخذته عن الصحابة بما اجتمعوا عليه!
قال: فإذا اختلفوا فبقول مَن تأخذ منهم؟
قال: بقول من أردتُ، و اخالف الباقين.
قال: فهل تخالف عليّاً فيما بلغك أنّه قضى به؟!
قال: [نعم!] ربما خالفته إلى غيره منهم.
قال: ما تقول يوم القيامة إذا رسول الله قال: أي ربّ! إنّ هذا بلغه عنّي قولي فخالفه؟!
قال: و أين خالفت قوله يا ابن رسول الله؟
قال: فبلغك أنّ رسول الله قال: أقْضَاكُمْ عَلِيّ؟!
قال: نعم! قال: فإذا خالفت قوله، لم تخالف قول رسول الله؟
فاصفرّ وجه ابن أبي ليلى و سكت!۱
و جاء في كتاب «الإبانة»: قال أبو امامة: قال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): أعْلَمُ بِالسُّنّةِ وَ القَضَاءِ بَعْدِي عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ.
(و ذكر) في كتاب «الجِلاء و الشفاء و الإحَن و المِحَن» أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: قضى عليّ عليه السلام بقضيّة باليمن، فأتوا النبيّ (صلى الله عليه و آله و سلّم) فقالوا: إنّ عَلِيَّاً ظَلَمَنَا.
فقال رسول الله صلى الله عليه و آله:
إنّ عَلِيَّاً لَيْسَ بِظَالِمٍ وَ لَمْ يُخْلَقْ لِلظُّلْمِ وَ إنّ عَلِيَّاً وَلِيُّكُمْ بَعْدِي وَ الحُكْمُ حُكْمُهُ وَ القَوْلُ قَوْلُهُ لَا يَرُدُّ حُكْمُهُ إلَّا كَافِرٌ وَ لَا يَرْضَى بِهِ إلَّا مُؤْمِنٌ.
و إذا ثبت ذلك فلا ينبغي لهم أن يتحاكموا بعد رسول الله إلى غير عليّ. و [كلمة] القضاء [الواردة في هذه الروايات تشمل] جميع علوم الدين. فإذا يكون هو الأعلم، فلا يجوز تقديم غيره عليه، لأنّه يقبح تقديم المفضول على الفاضل.
و قال الشاعر المعروف العونيّ:
أمَّنْ سِوَاهُ إذَا اتِي بِقَضِيَّةٍ | *** | طَرَدَ الشُّكُوكَ وَ أخْرَسَ الحُكَّامَا |
فَإذَا رَأى رَأياً فَخَالَفَ رَأيَهُ | *** | قَوْمٌ وَ إنْ كَدُّوا لَهُ الأفْهَامَا |
نَزَلَ الكِتَابُ بِرَأيِهِ فَكَأنّمَا | *** | عَقَدَ الإلَهُ بِرَأيِهِ الأحْكَامَا |
و قال ابنُ حَمَّاد:
عَلِيمٌ بِمَا قَدْ كَانَ أوْ هُوَ كَائِنٌ | *** | وَ مَا هُوَ دِقٌّ في الشَّرَائِعِ أوْ جِلُ |
مُسَمَّى مُجَلَّا۱ في الصَّحَائِفِ كُلِّهَا | *** | سَلْ أهْلَهَا وَ اسْمَعْ تِلَاوَةَ مَن يَتْلُو |
وَ لَوْ لَا قَضَايَاهُ التي شَاعَ ذِكْرُهَا | *** | لَعَطَّلَتِ الأحْكَامُ وَ الفَرْضُ وَ النّفْلُ |
و قال السيّد إسماعيل الحِمْيَريّ:
مَنْ كَانَ أعْلَمَهُمْ وَ أقْضَاهُمْ وَ مَنْ | *** | جَعَلَ الرّعِيَّةَ وَ الرّعَاءَ سَوَاءَا٢ |
أجل، فقد بلغت علوم الإمام عليه السلام حدّاً من العمق و الشمول بحيث أعجزت كلّ من يروم جمعها في كتاب.
كتاب فضل ترا آب بحر كافى نيست | *** | كه تر كند سر انگشت و صفحه بشمارد۱ |
و زخرت كتب الحديث و التفسير و التأريخ و السنن و السيرة و الأدب و الفقه و المعارف السنّيّة و الشيعيّة بعلوم الإمام، حتى جلّت عن التعداد و الإحصاء.
مَن ذكر قضايا أمير المؤمنين عليه السلام من العلماء
و قد دُوِّنت كتب مستقلّة في باب قضائه و مرافعاته و أجوبته عن الأسئلة المستعصية. و قد روى عدد من العلماء شيئاً منها في كتبهم كالكلينيّ في «الكافي»، و الشيخ الصدوق في «من لا يحضره الفقيه»، و الشيخ المفيد في «الإرشاد»، و الشيخ الطوسيّ في «تهذيب الأحكام»، و الشريف الرضيّ في «خصائص الأئمّة»، و ابن شهرآشوب في «المناقب».
و ألّف كثير من العلماء المتقدّمين كتباً مستقلّة في هذا الموضوع لم يصلنا شيء منها. فهي إمّا فقدت تماماً على تواتر الأعصار، أو أنّها موجودة بَيدَ أنّها لم تفهرس في مكتبة من المكتبات. مثل كتاب إسماعيل بن خالد، و كتاب عبد الله بن أحمد بن عامر، كما هو مذكور في فهرست الشيخ الطوسيّ، و النجاشيّ. و كتاب محمّد بن قيس الأسديّ على ما نقله النجاشيّ، و كتاب محمّد بن قيس البجليّ الوارد اسمه في فهرست الشيخ الطوسيّ، و النجاشيّ؛ و يروي عنه مشايخ الحديث. و غير ذلك.
و خصّص كلّ من المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» و الشيخ الحرّ العامليّ في «وسائل الشيعة» باباً في قضايا الإمام و مرافعاته. و قال ابن شهرآشوب: صنّف موفّق المكّيّ من العامّة كتاباً في هذا الموضوع.
و أشار العلّامة الأمينيّ إلى قسم منها في موسوعة «الغدير» ج ٦، باب نوادر الأثر في علم عمر. و دوّن الشيخ محمّد تقي الشوشتريّ كتاباً عنوانه: «قضاء أمير المؤمنين عليه السلام»؛ و ألّف الشيخ ذبيح الله المحلّاتيّ كتاباً بعنوان «الحقّ المبين» في الأحكام القضائيّة لأمير المؤمنين عليه السلام؛ و حرّر السيّد محسن الأمين العامليّ كتاباً عنوانه: «عجائب أحكام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام» من كتاب عليّ بن إبراهيم القمّيّ.
و قال المرحوم الأمين في مقدّمة هذا الكتاب: من الكتب المؤلّفة في قضايا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام و أحكامه:
الأوّل: كتاب ضخم قال عنه الشيخ البهائيّ في شرح الحديث ٢۸ من أربعينه: اطّلعت عليه بخراسان.
الثاني: كتاب محمّد بن قيس البَجَليّ من أصحاب الصادق و الكاظم عليهما السلام و عنوانه: «قضايا أمير المؤمنين». روى عنه الشيخ النجاشيّ و الشيخ الطوسيّ بسنديهما.
الثالث: كتاب المعلى بن محمّد البَصْريّ الذي قال فيه النجاشيّ: له كتاب «قضايا أمير المؤمنين عليه السلام».
الرابع: كتاب المحدّث الشهير الترمَذيّ صاحب الصحيح، ذكر الفاضل المعاصر الشيخ عبد الله العَلايليّ في الحلقة الاولى من سيرة الحسين عليه السلام، ص ۱٤٢ أنّ الإمام الترمذيّ عني بأقضية أمير المؤمنين عليه السلام و ضبطها و حفظها، و جمعها في مجموعة. و نقل العلّامة ابن القيّم الجوزيّ في كتاب «السياسة الشرعيّة» قسماً كبيراً منها عن الترمذيّ.
الخامس: كتاب «عجائب أحكام أمير المؤمنين عليه السلام» و عندنا نسخة مخطوطة منه. و رواياته كلّها عن محمّد بن عليّ بن إبراهيم بن
هاشم، رواها عن عليّ بن إبراهيم القمّيّ، عن أبيه إبراهيم بن هاشم بأسنادهم المتّصلة التي تصل إلى الأصبغ بن نُبَاته،۱ و الإمام محمّد الباقر، و الإمام جعفر الصادق، و الإمام الحسن العسكريّ عليهم السلام، و الحارث الأعور الهمدانيّ، و عديّ بن حاتم الطائيّ.
و يروي محمّد بن عليّ بن إبراهيم في هذه المجموعة كلّها عن أبيه بالأسناد المذكورة.٢
و استدلّ الشيخ المفيد بالآيات القرآنيّة٣ الواردة في فضيلة العلم على
وجوب اتّباع أمير المؤمنين عليه السلام بملاك العلم و الأعلميّة، و ذهب إلى أنّه أحقّ بالخلافة و الإمامة. و خصّص فصولًا في كتابه لقضايا الإمام و محاكماته.
دعاء رسول الله لأمير المؤمنين عليه السلام: اللهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَ ثَبِّتْ لِسَانَهُ
منها: لمّا أراد رسول الله صلى الله عليه و آله تقليده قضاء اليمن و انفاذه إليهم ليعلّمهم الأحكام و يبيّن لهم الحلال من الحرام و يحكم فيهم بأحكام القرآن، قال له أمير المؤمنين عليه السلام:
تَنْدُبُني يَا رَسُولَ اللهِ للِقَضَاءِ وَ أنَا شَابّ وَ لَا عِلْمَ لِي بِكُلِّ القَضَاءِ.
فقال له: ادْنُ مِنّي! فدنا منه، فضرب على صدره بِيده، و قال: اللَهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَ ثَبِّتْ لِسَانَهُ!
قال أمير المؤمنين عليه السلام: فَمَا شَكَكْتُ في قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَينِ بَعْدَ ذَلِكَ المَقَامِ.۱
و لمّا توجّه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى اليمن و استقرّت به الدار هناك، و نظر فيما ندبه إليه رسول الله من القضاء و الحكم بين المسلمين، رُفع إليه رجلان [في غلام وُلِدَ] من جارية لهما [و كلّ منهما يدّعي الغلام له. و كان لهذين الرجلين جارية] يملكان رِقّها على السواء، و قد جهلا حظر وطئها فوطاها في طهر واحد على ظنّ منهما جواز ذلك لقرب عهدهما بالإسلام، و قلّة معرفتهما بما تضمّنته الشريعة من الأحكام، فحملت الجارية و وضعت غلاماً. فاختصما إليه فيه، فقرع على الغلام باسمهما.۱ فخرجت القرعة لأحدهما، فالحق الغلام به، و ألزمه نصف قيمته لو كان عبداً لشريكه. و قال: لو علمت أنّكما أقدمتما على ما فعلتماه بعد الحجّة عليكما بحظره، لبالغتُ في عقوبتكما.٢
و بلغ رسول الله هذه القضيّة، فأمضاها، و أقرّ الحكم بها في الإسلام، و قال: الحَمْدُ للهِ الذي جَعَلَ فِينَا أهْلَ البَيْتِ مَنْ يَقْضِي عَلَى سُنَنِ دَاوُدَ عَلَيهِ السَّلَامُ وَ سَبِيلِهِ في القَضَاءِ.٣
و ذكر ابن شهرآشوب عن فضائل أحمد بن حنبل، عن إسماعيل بن
عيّاش بإسناده عن عليّ [بن أبي طالب] عليه السلام [أنّه] قضى في عهد رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) فأعجب رسول الله و قال: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَلَ الحِكْمَةَ فِينَا أهْلَ البَيْتِ.۱
الحكم بإلحاق المولود بأحد المدَّعيينِ
و كذلك روى ابن شهرآشوب عن أبي داود، و ابن ماجه في سننهما، و عن ابن بَطَّة في «الإبانة»، و أحمد في «فضائل الصحابة»، و أبي بكر بن مردَوَيْه في كتابه بطرق كثيرة عن زيد بن أرقم أنّه [قال]:٢ قيل للنبيّ (صلى الله عليه و آله و سلّم): أتى إلى عليّ عليه السلام باليمن ثلاثة نفر يختصمون في ولد لهم كلّهم يزعم أنّه وقع على امّه في طهر واحد، و ذلك في الجاهليّة. فقال عليّ: إنّهم شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ.٣ فقرع على الغلام باسمهم، فخرجت لأحدهم، فالحق الغلام به، و ألزمه ثلثي الدية لصاحبيه، و زجرهما عن مثل ذلك. [فلمّا بلغ النبيّ ذلك]، قال: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَلَ فِينَا أهْلَ البَيْتِ مَنْ يَقْضِي عَلَى سُنَنِ دَاوُدَ.٤
لقد عمل الإمام هنا بما تقتضيه قاعدة العدل و الإنصاف، إذ تتعذّر نسبة الولد إلى أبوين على ضوء القواعد العلميّة و الأحكام الشرعيّة، فلهذا هو لواحد منهما. و لكن لمّا كان ابناً لجارية، و أولاد الإماء يحسبون من منافعها، لا من منافع الذي وطأها. و من جهة اخرى، لمّا كان اولئك الرجال الثلاثة أحراراً، لا عبيداً أرقاء، و لا بدّ لابن الحرّ أن يكون حرّاً كأبيه، فلا مناص من تثمين هذا الولد المولود من الجارية على فرض رقّيّة أبيه، و دفع ثلثي ثمنه للشريكين المتخاصمين فيه، و الحكم بحرّيّة الطفل، و إلحاقه بأحدهم عن طريق القرعة.
و تستعمل قاعدة العدل و الإنصاف في كثير من الحالات، كتنازع شخصين على بيت، يدّعي كلّ منهما أنّ البيت كلّه له، و لا بيّنة (شاهدين عادلين) لهما، و كذلك لا توجد سائر أمارات الملكيّة كاليد و أمثالها.
و عموماً، هما متساويان في ادّعائهما من جميع الجهات. و حينئذٍ يقسم البيت بينهما لكلّ واحد منهما نصفه. و هذه من الحالات التي تُقدّم فيها المخالفة القطعيّة على الموافقة الاحتمالية، إذ إنّ نصف البيت قد اعطي لغير المالك قطعاً. و لو أعطينا أحدهما بالقرعة، فإنّ احتمال ملكيّة صاحب القرعة قائم؛ و لكن مع ذلك تقدّم قاعدة العدل على قاعدة القرعة. بَيدَ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لا يستطيع أن يطبّق قاعدة العدل و الإنصاف في النسب أيضاً عند ادّعاء شخصين أو ثلاثة بالطفل الواحد، فيلحقه بأبوين أو ثلاثة آباء، ذلك أنّ انعقاد النطفة يتمّ بواسطة حويمن واحد حسب الدلائل العلميّة التحقيقيّة الضروريّة. و في ضوء الأحكام الشرعيّة، فإنّ إلحاق الطفل بأب واحد من الضروريّات. فلهذا قال: شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ. و في هذا الفرض تطبّق قاعدة الإنصاف في القرعة فحسب؛ و يتحقّق دفع قيمة المولود من امّه بحساب سهام الشركاء.۱
و كانت هذه المرافعة في حالة ينبغي أن تفرض امّ الولد فيها جارية، و الولد له قيمة؛ و إلّا إذا كانت الامّ حرّة، فليس على الأب الذي عُيّن ولده بالقرعة أن يدفع غرامة لمدّعيه.
إنّ المراد من الحكم الداوديّ الوارد في هذه الروايات هو القضاء عن طريق الإلهام. أي: أنّ داود على نبيّنا و آله و عليه السلام كان يحكم في المرافعات باستخبار ضميره على نحو الإلهام. و قد تحقّق هذا الطريق لأمير المؤمنين عليه السلام بدعاء النبيّ صلى الله عليه و آله له عند إيفاده إلى اليمن.
و من جملة هذه الموارد، حكم ذكره الشيخ المفيد في «الإرشاد» فقال: إنّ امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل ادّعته كلّ واحدة منهما ولداً لها بغير بيّنة. و لم ينازعهما فيه غيرهما. فالتبس الحكم في ذلك على عمر، و فزع فيه إلى أمير المؤمنين عليه السلام. فاستدعى المرأتين و وعظهما و خوّفهما، فأقامتا على التنازع و الاختلاف. فقال عليه السلام
عند تماديهما في النزاع: ايتوني بمنشار، فقالت المرأتان: ما تصنع به؟!
فقال: أقدّه نصفين لكلّ واحدة منكما نصفه!
فسكتت إحداهما، و قالت الاخري: اللهَ اللهَ يَا أبَا الحَسَنِ! إن كان لا بدّ من ذلك، فقد سمحت به لها!
فقال عليه السلام: اللهُ أكْبَرُ هذا ابْنك دونها! و لو كان ابنها لرقّت عليه و أشفقت. فاعترفت المرأة الاخرى بأنّ الحقّ مع صاحبتها و الولد لها دونها. فسُري عن عمر، و دُعي لأمير المؤمنين عليه السلام بما فرّج عنه في القضاء.۱
و ذكر ابن شهرآشوب هذه الرواية، و أضاف في خاتمتها ما نصّه: وَ هَذَا حُكْمُ سُلَيْمَانَ عَلَيهِ السَّلَامُ في صِغَرِهِ.٢
حكم الإمام بنسبة الابن و البنت كلّ إلى امّه بوزن لبن امَّيهما
قال السيّد ابن طاووس: وقفت على نسخة أصليّة من مجموع محمّد بن الحسين المرزبان كانت بخطّه و فيها أنّه رُوى عن شريح القاضي أنّه قال: كنت أقضي لعمر بن الخطاب فأتاني يوماً رجل، فقال: يا أبَا امَيَّة! إنّ رجلًا أودعني امرأتين؛ إحداهما حرّة مهرة، و الاخرى سرية فجعلتهما في دار و أصبحنا اليوم، و قد ولدتا غلاماً و جارية و كلتاهما تدّعي الغلام و تنتفي من الجارية، فاقض بينهما بقضائك!
[قال شريح]: فلم يحضرني شيء فيهما، فأتيت عمر، فقصصتُ عليه القصّة. فقال: فيما قضيتَ بينهما؟
قلت: لو كان عندي قضاؤهما، ما أتيتُ!
فجمع عمر جميع من حضره من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله، و أمرني فقصصت عليهم ما جئت به، و شاورهم فيه. فكلّهم ردّ الرأي إليّ و إليه [و قالوا إنّهم لا يعرفون فيه شيئاً!]
فقال عمر: وَ لَكِنّي أعْرِفُ حَيْثُ مَفْزَعَهَا وَ أيْنَ مُنْتَزَعُهَا.
قالوا: كأنّك أردتَ [عليّ] بن أبي طالب! قال: نعم! و أين المذهب عنه؟
قالوا: فابعث إليه يأتيك!
فقال: لَا، لَهُ شَمْخَةٌ مِنْ هَاشِمٍ، وَ أثْرَةٌ مِنْ عِلْمٍ، يُؤْتَى لَهَا وَ لَا يَأتِي؛ وَ في بَيْتِهِ يُؤْتَي الحُكْمُ؛ فَقُومُوا بِنَا إلَيْهِ!
[فَقَمنا] و أتينا أمير المؤمنين عليه السلام فوجدناه في حائط له يركل فيه على مسحاة، و يقرأ [هذه الآية]: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً،۱ و يبكي، فأمهلوه حتى سكن، ثمّ استأذنوا عليه، فخرج إليهم و عليه قميص قُدّ نصف أردانه.
فقال: يا أمير المؤمنين! ما الذي جاء بك؟
فقال عمر: أمرٌ عرض! [قال: ما هو؟] فقصصت عليه. فقال عليّ عليه السلام: فيم حكمت فيها؟
قلتُ: لم يحضرني فيها حكم! [فانحنى عليّ] و أخذ بيده من الأرض شيئاً ثمّ قال: الحكم فيها أهون من هذا! ثمّ استحضر المرأتين، و أحضر قدحاً، و دفعه إلى إحداهما و قال: احلبي فيه! فحلبت فيه، ثمّ وزن القدح، و دفعه إلى الاخرى فقال: احلبي فيه! فحلبت فيه.
ثمّ وزنه؛ فقال لصاحبة اللبن الخفيف: خذي ابنتكِ! و لصاحبة اللبن
الثقيل: خذي ابنك! ثمّ التفت إلى عمر فقال: أ ما علمتَ أنّ الله حطّ المرأة عن الرجل؟ فجعل عقلها و ميراثها دون عقله و ميراثه؟ و كذلك لبنها دون لبنه!
فقال له عمر: لَقَدْ أرَادَكَ الحَقُّ يَا أبَا الحَسَنِ وَ لَكِنّ قَوْمَكَ أبَوا!
فقال عليّ عليه السلام: خَفِّضْ عَلَيْكَ يَا أبَا حَفْصٍ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً.۱
و روى ابن شهرآشوب هذه الرواية مختصراً عن قيس بن الربيع، عن جابر الجُعفيّ، عن تميم بن حَزَام الأسديّ. و ذكر في آخرها أنّ عمر قال: من أين قلتَ ذلك يا أبا الحسن؟
قال: لأنّ الله جعل لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ .٢ [ثمّ قال]: و قد جعل الأطبّاء ذلك أساساً في الاستدلال على الذكر و الانثى.٣
تمييز الغلام من المولي
نزاع رجلين أحدهما يقول: أنا المولى و هذا غلامي:
روى الكلينيّ في «الكافي»، و الشيخ الطوسيّ في «تهذيب الأحكام» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن عثمان، عن رجل، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّ رجلًا أقبل على عهد عليّ عليه السلام من الجبل حاجّاً و معه غلام له. فأذنب، فضربه مولاه. فقال [الغلام]: ما أنت مولاي! بل أنا مولاك! فما زال ذا يتوعّد ذا، و ذا يتوعّد ذا، و يقول: كما أنت حتى نأتي الكوفة يا عدوّ الله، فأذهب بك إلى أمير المؤمنين عليه السلام!
فلمّا أتيا الكوفة، أتيا أمير المؤمنين عليه السلام، فقال الذي ضرب الغلام: أصْلَحَكَ اللهُ! هذا غلام لي، و إنّه أذنب، فضربتُه، فوثب عَلَيّ.
و قال الآخر: هو و الله غلام لي، إنّ أبي أرسلني معه ليعلّمني و إنّه وثب عَلَيّ يدّعيني ليذهب بمالى!
قال: فأخذ هذا يحلف، و هذا يحلف؛ و هذا يكذّب هذا، و هذا يكذّب هذا.
قال [الإمام]: انطلقا فتصادقا في ليلتكما هذه و لا تجيئاني إلّا بحقّ.
قال: فلمّا أصبح أمير المؤمنين عليه السلام قال لقنبر: اثقب في الحائط ثقبين -و كان [الإمام] إذا أصبح عقّب حتى تصير الشمس على رمح يسبّح- فجاء الرجلان و اجتمع الناس، فقالوا: لقد وردت عليه قضيّة ما ورد عليه مثلها، لا يخرج منها.۱
فقال لهما: ما تقولان؟ فخلف هذا أنّ هذا عبده، و حلف هذا أنّ هذا عبده. فقال لهما: قوما! فإنّي لست أراكما تصدقان! ثمّ قال لأحدهما: أدخل رأسك في هذا الثقب! ثمّ قال للآخر: أدخل رأسك في هذا الثقب! ثمّ قال [لقنبر]: يا قنبر! عَلَيّ بسيف رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم)! ثمّ قال: عجّل اضرب رقبة العبد منهما!
فأخرج الغلام رأسه مبادراً.
فقال عليّ عليه السلام للغلام: أ لست تزعم أنّك لستَ بعبد؟! و مكث الآخر في الثقب.
فقال: بلى؛ و لكنّه ضربني، و تعدّى عَلَيّ. قال: فَأخذ الإمام من مولاه العهد باليمين أن لا يضربه بعد ذلك؛ و دفعه إليه.۱
الرجلان اللذان كانت لهما ثمانية أرغفة، و تنازعا في حقّهما
تنازع رجلين في قيمة ثمانية أرغفة
روى الشيخ المفيد عن الحسن بن محبوب، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: سمعت عن ابن أبي ليلى يقول: لقد قضى أمير المؤمنين عليه السلام بقضيّة ما سبقه إليها أحد.
و ذلك أنّ رجلين اصطحبا في سفر، فجلسا يتغذّيان، فأخرج أحدهما خمسة أرغفة، و أخرج الآخر ثلاثة، فمرّ بهما رجل، فسلّم. فقالا له: الغداء! فجلس يأكل معهما. فلمّا فرغ من أكله، رمى إليهما ثمانية دراهم،
و قال: هذه عوض ما أكلت من طعامكما.
فاختصما [في تقسيم الدراهم المذكورة]. و قال صاحب الثلاثة: هذه نصفان بيننا. فقال صاحب الخمسة: بل لي خمسة و لك ثلاثة. فارتفعا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، و قصّا عليه القصّة.
و قال لهما: هذا أمر فيه دناءة؛ و الخصومة غير جميلة فيه؛ و الصلح أحسن.
فقال صاحب الثلاثة أرغفة: لست أرضى إلّا بمُرّ القضاء (حقيقة الأمر نفسه)!
قال أمير المؤمنين عليه السلام: فإذا كنتَ لا ترضى إلّا بمرّ القضاء، فإنّ لك واحداً من ثمانية، و لصاحبك سبعة! فقال: سُبْحَانَ اللهِ! و كيف صار هذا هكذا؟
فقال [أمير المؤمنين عليه السلام] له: اخبرك! أ ليس كان لك ثلاثة أرغفة؟ قال: بلى. قال: و لصاحبك خمسة؟ قال: بلى!
قال [الإمام]: فهذه أربعة و عشرون ثلثاً. أكلت أنت ثمانية! و صاحبك ثمانية، و الضيف ثمانية! فلمّا أعطاكم الثمانية، كان لصاحبك السبعة، و لك واحدة. فانصرف الرجلان على بصيرة من أمرهما في القضيّة.۱
إن قصد الإمام عليه السلام هو أنّ صاحبك الذي كان له خمسة عشر ثلثاً من الرغيف، و أكل منها ثمانية، أعطى للضيف سبعة، فاستحقّ سبعة
دراهم؛ و أنت الذي كانت لك تسعة أثلاث من الأرغفة و أكلت منها ثمانية! أعطيت الضيفَ ثلثاً واحداً من أرغفتك، فاستحققت درهماً واحداً من ثمانية دراهم!
و روى الكلينيّ هذه القصّة بسندين: الأوّل عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد؛ و الثاني عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، و كلاهما يروى عن ابن محبوب، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن ابن ليلى أنّه كان يحدّث أصحابه بها.۱ و رواها الشيخ الطوسيّ على هذا المنوال بالسند الأوّل الذي ذكره الكلينيّ.٢
و رواها من العامّة ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» عن شيخه أبي الأصبع: عيسى بن سعد بن سعيد المُقري، أحد معلّمي القرآن، عن الحسن بن أحمد بن محمّد بن قاسم المقري، قرأها عليه في منزله ببغداد، عن أبي بكر أحمد بن [يحيى بن] موسى بن عبّاس بن مجاهد المقري بمسجده، عن العبّاس بن محمّد الدوريّ، عن يحيى بن مُعين، عن أبي بكر بن عيّاش، عن عاصم بن زِرّ بن حُبَيْش أنّ رجلين جلسا يتغدّيان. ثمّ ذكر هذه القصّة مفصّلًا بتفصيل أكثر ممّا نقلناه عن «الإرشاد».٣
ينبغي أن نعلم بأنّ هذه الروايات التي ذكرناها نقلًا عن الكلينيّ في «الكافي»، و الشيخ الطوسيّ في «التهذيب» كلّها صحيحة السند. و أنّ رواية
المفيد في «الإرشاد» هي عن ابن أبي ليلى: قاضى الكوفة و مفتيها في عصر الإمام الصادق عليه السلام. و كانت بينه و بين أبي حنيفة، و سليمان بن مَهْران الأعمش (الشيعيّ نادرة زمانه) مناقشات، و هو الذي اعترض عليه الإمام الصادق عليه السلام بشدّة في مسجد المدينة كما رأينا ذلك أخيراً لأخذه بفتاوى أبي بكر و عمر، حتى سكت، و اصفرّ لونه.
و العجيب أنّ هذا الرجل هو الذي روى عن عمر قوله: عَلِيّ أقْضَانَا كما روى ابن عبد البرّ، عن عبد الوارث بن سفيان، عن القاسم بن الأصبغ، عن أبي بكر أحمد بن زُهَيْر، عن أبي خَيْثَمة، عن أبي سَلَمة التَّبُوذَكيّ، عن عبد الواحد بن زياد، عن أبي فَرْوَة أنّه قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: قال عمر (رضي الله عنه): عَلِيّ أقْضَانَا.۱ «عليّ أكثرنا سداداً و استقامة في قضائه المطابق للواقع. و هو أحذق و أمهر في هذا الأمر».
و توضيح هذه المسألة هو أنّ الإمام أخرج مضاعفاً مشتركاً لعددهم و هم ثلاثة و أرغفتهم الثمانية، و دراههم الثمانية أيضاً، و هذا المضاعف المشترك هو ٢٤. ثمّ أوضح أنّ كلّ واحد منهم أكل ثماني وحدات، و أنّ صاحب الأرغفة الخمسة التي تشكّل خمس عشرة وحدة أعطى الضيفَ سبع وحدات من حصّته. و أنّ صاحب الأرغفة الثلاثة التي تشكّل تسع وحدات أعطى الضيفَ وحدة واحدة، فلهذا ينبغي أن يأخذ الأوّل سبعة دراهم، و يأخذ الثاني درهماً واحداً.
و إذا قسّمنا الدراهم الثمانية بنسبة ۷ و ۱، تكون الحصّة سبعة دراهم و درهماً واحداً.
في الأربعة الذين سقطوا في حفرة الأسد و ماتوا
و نقل المرحوم السيّد محسن الأمين العامليّ عن كتاب «عجائب أحكام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه لإبراهيم بن هاشم، قال: روى ابراهيم بن هاشم، عن النوفليّ، عن السكونيّ، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: بعث النبيّ [الأكرم] صلى الله عليه و آله عليّاً إلى اليمن، و إذا زُبية۱ قد وقع فيها الأسد. فأصبح الناس ينظرون إليه، و يتزاحمون، و يتدافعون حول الزُّبية.
فسقط رجل في الزبية، و تعلّق بالذي يليه. و تعلّق الآخر بالآخر، حتى وقع فيها أربعة فجرحهم الأسد. و تناول رجلٌ الأسد بحربة فقتله،
فأخرج القوم الموتى.
فانطلقت القبائل إلى قبيلة الرجل الأوّل الذي سقط، و تعلّق فوقه ثلاثة؛ فقالوا لهم: أدّوا دية الثلاثة الذين أهلكهم صاحبكم! فلولاه ما سقطوا في الزُّبية.
فقال أهل الأوّل: إنّما تعلّق صاحبنا بواحد، فنحن نؤدّي ديته. و اختلفوا حتى أرادوا القتال. فصرخ رجل منهم إلى أمير المؤمنين، و هو منهم غير بعيد! فأتاهم و لامهم، و أظهر موجدة، و قال لهم: تقتلون أنفسكم و رسول الله حيّ! و أنا بين أظهركم! فإنّكم تقتلون أكثر ممّا تختلفون فيه. فلمّا سمعوا ذلك منه، استقاموا. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّي قاض فيكم قضاءً، فإن رضيتموه، فهو نافذ، و إلّا فهو حاجز بينكم من جاوزه فلا حقّ له حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه و آله! فيكون هو أحقّ بالقضاء منّي. فاصطلحوا على ذلك.
فأمرهم أن يجمعوا دية تامّة من القبائل الذين شهدوا الزبية؛ و نصف دية و ثلث دية، و ربع دية. فأعطى أهل الأوّل ربع الدية من أجل أنّه هلك فوقه ثلاثة. و أعطى الذي يليه ثلث الدية من أجل أنّه هلك فوقه اثنان. و أعطى الثالث النصف من أجل أنّه هلك فوقه واحد. و أعطى الرابع الدية تامّة، لأنّه لم يهلك فوقه أحد. فمنهم من رضي؛ و منهم من كره؛ فقال لهم عليّ: تمسّكوا بقضائي إلى أن تأتوا رسول الله فيكون القاضي فيما بينكم!
فوافوا رسول الله صلى الله عليه و آله في الموقف بمكّة المكرّمة، فساروا إليه، فحدّثوه حديثهم. فاحتفى ببرد عليه، ثمّ قال: أنا أقضي بينكم إن شاء الله! فناداه رجل من القوم أنّ عليّ بن أبي طالب قد قضى بيننا! فقال رسول الله: ما هو؟!
فأخبروه، فقال: هو كما قضى. فرضوا بذلك.۱
و توضيح هذه المسألة هو: لمّا كان سقوط هؤلاء الأربعة بسبب تزاحم المشاهدين و تدافعهم، فإنّ على عَصَبَتهم (قوم الأب)٢ أن يدفعوا دية المقتولين. و لكن لمّا كان الأوّل شريكاً في سقوط الثلاثة الآخرين و قتلهم، لذا يدفع إليه ربع الدية فحسب. و تسقط الأرباع الثلاثة الاخرى بسبب إسقاطه الباقين. و لمّا كان الثاني شريكاً في سقوط الشخصين الآخرين، يدفع إليه ثلث الدية فقط، و يسقط ثلثاه بسبب ما قام به. و لمّا كان الثالث مساهماً في سقوط شخص واحد، يدفع إليه نصف الدية، و يسقط نصفه الآخر لتسبيبه قتل الرابع. أمّا الرابع الذي ليس له يد في إسقاط أحد و قتله، فتدفع إليه دية تامّة.
و يتحصّل ممّا ذكرناه أنّ هؤلاء الثلاثة الذين تعلّق أحدهم بالآخر، لا هم مختارون تماماً في هذا التعلّق، و لا هم مقسورون عليه بصورة عامّة.
إذ لو كانوا مختارين، و كان وضعهم قرين الإرادة و الاختيار القطعيّ، لدفع الأوّل دية تامّة إلى الثاني، لأنّه المؤثّر الوحيد في إسقاطه و قتله. و هكذا لدفع الثاني دية تامّة إلى الثالث. و الثالث إلى الرابع أيضاً. و ما ينتج عن ذلك هو أنّ الأوّل و الثاني و الثالث الذين كانوا قاتلين و مقتولين في آن
واحد لم يؤخذ منهم شيء و لم يُعطَوا شيئاً في الحقيقة. و محصّلة الحساب أنّ الدية دفعت إلى الرابع فحسب.
و هكذا، فعلى أقارب المشاهدين أن يدفعوا دية الأوّل، بَيدَ أنّه لمّا كان يدفع إلى الرابع ما يأخذه من دية، فإنّ أقارب المشاهدين يدفعون إلى الرابع دية واحدة ليس غيرها في الحقيقة.
و إذا كان الثلاثة الأوائل عبيداً، و كان لهم حكم الآلة في تعليقهم، فيجب حينئذٍ على أقارب المشاهدين أن يدفعوا أربع ديات كاملة إلى الورثة و أهل المقتولين الأربعة.
و لكنّنا لا يمكن أن نسمّي هذه الحالات في المواطن التي تطرأ فيها مثل هذه الأخطار اضطراريّة، كما لا نسمّيها اختياريّة. بل هي مزيج من الاختيار و الاضطرار، و الإرادة و عدم الإرادة. فلهذا كان الثلاثة الاوَل شركاء في قتل الرابع. و كان الشخصان الأوّلان شريكين في قتل الثالث، و كان الأوّل شريكاً في قتل الثاني. و لذلك حكم أمير المؤمنين عليه السلام بدية كاملة إلى الرابع الذي ليس له دور في سقوط أحد و قتله، و إلى الثالث الذي ساهم في قتل شخص واحد، و هو الرابع بنصف دية، إذ يسقط نصفها الآخر لقيامه بقتل الرابع. و حكم إلى الثاني الذي شارك في قتل اثنين بثلث الدية، إذ يسقط ثلثاها الآخران لقيامه بإسقاط الثالث و الرابع. و حكم إلى الأوّل الذي كان شريكاً في قتل ثلاثة بربع الدية، و سقط الباقي.
و لهذا وضحتْ الدية الكاملة، و التنصيف، و التثليث، و التربيع.
لو فرضنا أنّ الأشخاص الذين سقطوا كانوا خمسة، فللخامس دية كاملة، و للرابع ، و للثالث ، و للثاني ، و للّاوّل ، و هكذا الأمر لو كانوا أكثر من ذلك، مثلًا كانوا عشرة، فللعاشر أي دية كاملة، و للتاسع و
للثامن ، و للسابع ، و للسادس ، و للخامس ، و للرابع ، و للثالث
و للثاني ، و للأوّل . أو كانوا خمسين، فللخمسين منهم دية واحدة ، و للتاسع و الأربعين ، و هكذا حتى تصل إلى الأوّل فيأخذ من الدية.
و نقل علماء الخاصّة و العامّة هذه الرواية في كتبهم بالنحو الذي ذكرناه. فمن الخاصّة: الكلينيّ، و الشيخ الطوسيّ، و الشهيدان، و صاحب «جواهر الكلام» و غيرهم. و من العامّة: ابن كثير الدمشقيّ، و سبط ابن الجوزيّ،۱ و محبّ الدين الطبريّ،٢ و آخرون.
و رواها من الخاصّة الكلينيّ و شيخه عن سهل بن زياد، عن محمّد بن الحسن بن شَمُّون، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأصمّ، عن مِسْمَع بن عبد الملك، عن الإمام الصادق عليه السلام.٣ و ضعّفها صاحب «جواهر الكلام»٤ و «شرح اللمعة»٥ لعامّيّة سهل و غلوّه، و ضعف الأصمّ.
و رواها من العامّة: ابن كثير بسندين عن أحمد بن حنبل، أحدهما عن أبي سعيد، عن إسرائيل، عن سِماك، عن حنش؛ و الآخر عن وكيع، عن حمّاد بن سَلِمَة، عن سِماك، عن حَرب، عن حَنَش، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.٦
و رواها ابن شهرآشوب عن أحمد بن حنبل، و أحمد بن منيع، في أماليه بسندهما عن حمّاد بن سَلمة، عن سِماك، عن حبيش بن المعتمر. و لكنّه ذكر في عبارة الحديث لفظ رواية محمّد بن قيس.۱ و رواية محمّد بن قيس رواية مشهورة صحّحها الفقهاء و ذكروها في كتبهم.
و ذكر الشيخ المفيد عبارة هذه الرواية نفسها في «الإرشاد» فقال:
و ممّا دفع إلى أمير المؤمنين عليه السلام و هو في اليمن خبر زُبية حُفِرت للأسد، فوقع فيها. فغدا الناس ينظرون إليه. فوقف على شفير الزُّبية رجل فزلّت قدمه، فتعلّق بآخر، و تعلّق الثاني بثالث و الثالث برابع، فوقعوا في الزُّبية، فدقّهم الأسد و هلكوا جميعاً. فقضى عليه السلام بأنّ الأوّل فريسة الأسد (و لا يُعطى شيئاً من الدية) و عليه ثلث الدية للثاني؛ و على الثاني ثلثا الدية للثالث؛ و على الثالث الدية الكاملة للرابع. فانتهى الخبر بذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) فقال: لَقَدْ قَضَى أبُو الحَسَنِ فِيهِمْ بِقَضَاءِ اللهِ عزّ و جلّ فَوْقَ عَرْشِهِ.٢
و رواها المحمّدون الثلاثة (الكلينيّ و الصدوق و الطوسيّ) عن الحسين بن سعيد، عن النّضْر، عن عاصم، عن محمّد بن قيس؛ عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام.٣
و لكنّ عبارتهم كالآتي: غَرِمَ أهلُه ثلث الدية لأهل الثاني؛ و غَرِمَ أهل الثاني لأهل الثالث ثُلُثَي الدِّيَةِ؛ و غَرِمَ أهل الثالث لأهل الرابع دِيَةً كاملةً.
و هذه هي عبارة ابن شهرآشوب في موضعين من مناقبه.۱
و هذه الرواية صحيحة السند. و قول الشهيد الثاني في «الروضة البهيّة» «شرح اللمعة» إنّ محمّد بن قيس مشترك، مرفوض لقول الشيخ محمّد حسن النجفيّ في «جواهر الكلام» إنّه ثقة بقرينة أنّ عاصماً يروي عنه.٢
إنّ اختلاف مضمون هذه الرواية عن الرواية السابقة واضح، ذلك أنّ ما جاء في الرواية السابقة هو أنّ الأوّل سقط بسبب تزاحم الناس و تدافعهم.
أمّا ما ورد في هذه الرواية فهو سقوطه في الحفيرة بسبب زلّة قدمه. فلهذا قال البعض كالسيّد محسن الأمين العامليّ: و الظاهر أنّ هاتين الروايتين وردتا في قضيّتين واقعتين.۱ و هذا الاحتمال في غاية البعد. و يبدو أنّ الاختلاف يكمن في بيان كيفيّة وقوع الحادثة، و بيان الحكم. و على كلّ تقدير، جعلت هذه الرواية وقوع الأوّل بسبب زلّة قدمه، فصار فريسة الأسد. و لمّا لم يشترك أحد في قتله، فلا دية له.
أمّا الثاني، فقد قتله الأوّل؛ و هو نفسه سبّب في قتل الثالث و الرابع. لذلك تقسّم الدية التي ينبغي أن تدفع إلى ثلاثة أقسام: على الثاني و الثالث و الرابع، إذ يأخذ حصّته من الدية حسب المقدار الذي نال به نصيبه من الجناية. و أمّا الثالث، فقد قتله اثنان هما الأوّل و الثاني. و هو نفسه قتل شخصاً واحداً فحسب، و هو الرابع. لذلك له ثلثان من الدية التي ينبغي أن تدفع إليه. و أمّا الرابع، فقد قتله الثلاثة السابقون، و لذا يجب أن تدفع إليه دية كاملة.
و بعبارة اخرى: دية الرابع على عاتق الثلاثة الأوائل بالتساوي، لأنّهم اشتركوا في قتله. و دية الثالث على عاتق الشخصين الأوّليّين، لأنّهما تشاركا في قتله؛ و دية الثاني كلّها على الأوّل، إذ هو المسبّب الوحيد في قتله. بَيدَ أنّ الثاني لمّا كان ضالعاً في قتل الثالث و الرابع، فالدية يدفعها إليه الأوّل تبلغ ثلثاً. و لمّا كان الثالث وحده باعثاً على قتل الرابع، فالدية التي تدفع إلى ثلثان، ذلك أنّ الأوّل و الثاني جنيا عليه، و هو جنى على الرابع. و لمّا لم يكن الرابع سبباً في قتل أحد، و قد جنت عليه ثلاث جهات، فينبغي أن تدفع إليه ثلاثة أثلاث، أي: دية كاملة. فالحقّ أنّه يأخذ ديته
من ثلاثة أشخاص مشتركين، إذ إنّ مآل كلام الإمام هو أنّ الثلث الذي يدفعه الأوّل إلى الثاني، يضع عليه ثلثاً من عنده، و يدفع إلى الثالث ثلثين؛ و يضع الثالث أيضاً ثلثاً من عنده، و يدفع إلى الرابع دية كاملة.
إن الإشكال الموجود هنا هو أنّ ما جناه الأوّل على الثاني و الثالث و الرابع، و ما جناه الثاني على الثالث و الرابع، و ما جناه الثالث على الرابع، كلّ ذلك يتطّلب ألّا ينقص من الدية التي يدفعونها شيء. و بصورة عامّة، كلّ من جنى على شخص آخر، لا ينبغي أن يسقط شيء من الدية التي يتوجّب على القاتل أن يدفعها إليه، فيما إذا جنى عليه شخص آخر. على سبيل المثال، جنى الثاني، و جرّ الشخصين التاليين بعده إلى الحفرة و القتل، فما علاقة جنايته بدية قاتله الذي هو الأوّل؟
و على قاتله الذي هو الشخص الأوّل أن يدفع إليه الدية كلّها. و جنايته هو على الشخصين التاليين قائمة، و ينبغي أن يتحمّل ما عليه.
و هذا الإشكال، لو سلّمنا بهذه الرواية، يجعل الدية على أهل القاتل، أي: العَصَبَة و العاقلة. و حينئذٍ على عاقلة كلّ قاتل أن تدفع الدية إلى ورثة المقتول؛ و لا نقص في ذلك. قال صاحب «جواهر الكلام»: و عن بعض كتب الإسماعيليّة أنّه جعل الديات [كلّها] على جميع من حفر الزبية؛ و عن «مسند أحمد بن حنبل» عن سِماك، عن حبشي أنّه صلى الله عليه و آله قال: اجمعوا من القبائل الذين حفروا الزُّبية ربع الدية و ثلثها و نصفها و الدية كاملة.۱
و لكن لا يمكن على أيّة حال عدم العمل بهذه الرواية حتى بطريقها الصحيح الوارد عن محمّد بن قيس، و لا يمكن رفضها بسبب هذا الإشكال
الذي يراها مخالفة للُاصول بعد تحقّق قضاء أمير المؤمنين عليه السلام في زبية الأسد باليمن، و وقوع الأربعة فيها، و تأييد رسول الله الذي لا شكّ فيه من منظار التأريخ و الحديث.
و ينبغي العمل بهذه الرواية و ما يماثلها، كما قال صاحب «الجواهر»: العمل بها مشهور بين العلماء سواء في كتب الخاصّة أم العامّة. بل في «الروضة» نسبة العمل بها إلى الأكثر. و قال في «النافع»: عليها فتوى الأصحاب. و في «نكت النهاية و التنقيح»: هي أظهر بين الأصحاب.۱
و على هذا النهج لو فرضنا أنّ عدد الساقطين في الحفرة خمسة، فعلى أهل الأوّل أن يدفعوا إلى أهل الثاني الدية، و على أهل الثاني أن يدفعوا الدية إلى الثالث، و على أهل الثالث أن يدفعوا الدية إلى الرابع، و على أهل الرابع أن يدفعوا الدية أي دية كاملة إلى أهل الخامس. و إذا كان عددهم عشرة مثلًا، فعلى أهل الأوّل أن يدفعوا الدية إلى الثاني، و على أهل الثاني أن يدفعوا الدية إلى الثالث، و هكذا حتى يصل الدور إلى أهل الثامن الذين ينبغي أن يدفعوا الدية إلى التاسع، و يدفع أهل التاسع الدية (دية كاملة) إلى أهل العاشر.
و إذا كانوا خمسين، فعلى أهل الأوّل أن يؤدّوا الدية إلى الثاني، و على أهل الثاني أن يؤدّوا إلى الثالث الدية، و هكذا حتى تصل نوبة أهل التاسع و الأربعين الذين يجب عليهم أن يؤدّوا الدية إلى أهل الشخص الخمسين.
و كذلك الأمر لو كان عدد الساقطين ثلاثة، فأهل الأوّل يؤدّون الدية إلى أهل الثاني، و أهل الثاني يؤدّون الدية إلى الثالث.
و خليق بنا أن نعلم أنّه لا خلاف في الأصل الكلّيّ و ملاك و فلسفة الحكم الوارد في رواية مسمع بن عبد الملك، و رواية محمّد بن قيس، فكلتاهما تبيّن حكماً عامّاً هو أنّ دية الجناية ينبغي أن تقسّم حسب حصص الجُناة، إذ يسقط من حصص المقتولين الذين تدفع إليهم الدية بالمقدار الذي شارك كلّ منهم في قتل الآخر.
غاية الأمر أنّ رواية مسمع لم تجعل الغرامة على صاحب الزبية أو على الساقطين فيها، بل عدّت ذلك مسبَّباً عن تزاحم المشاهدين و تدافعهم، فجعلت الدية على أهليهم. أمّا رواية محمّد بن قيس، فقد جعلت سقوط الشخص الأوّل ناتجاً عن إهماله، فلهذا ذهبت إلى أنّه فريسة الأسد، و أنّ سقوط الباقين كان بسبب جذب السابقين. فهم موثّرون في الجناية. و لكنّ الدية التي يدفعونها على أيّة حال هي بعد طرح الجناية التي ارتكبها المجنيّ عليه ضدّ الآخر. و تعيّن مقدارها في الروايتين على هذا الأساس.
و تقع مثل هذه الغرامات على عاتق العاقلة، أو على عاتق عاقلة المزدحمين، أو عاقلة الساقطين في ضوء الروايتين، ذلك كما ذكرنا أنّ مثل هذا التعلّق و الجذب صدر بغير شعور، و من وحي الدهشة و الخوف، فهو ليس عمداً مثل انقلاب النائم. و يسبّب الجناية خطأً، فهو ليس عمداً و لا شبيهاً بالعمد. و ينبغي أن تحسب هذه الجنايات من جنايات الخطأ، و أن تتعيّن الدية على العاقلة، كما جاء في الروايتين.
حكم الإمام بتثليث الدية على النساء الثلاث اللاعبات: القارصة و ...
دية النساء الثلاث اللاعبات: القارصة و القامصة و الواقصة
ذكر الشيخ المفيد في «الإرشاد» أنّه رُفع إلى أمير المؤمنين عليه السلام خبر جارية حملت جارية على عاتقها عبثاً و لعباً؛ فجاءت جارية اخرى، فقرصت الحاملة، فقمصت لقرصتها، فوقعت الراكبة، فاندقّت
عنقها و هلكت.
[فحكم أمير المؤمنين عليه السلام أنهنّ شريكات في دمها] و قضى على القارصة بثلث الدية، و على القامصة بثلثها، و أسقط الثلث الباقي لركوب الواقصة عبثاً القامصة (و النتيجة أنّ القارصة و القامصة تدفعان ثلثي الدية إلى ورثة الراكبة التي ماتت).
و بلغ الخبر بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و آله، فأمضاه و شهد له بالصواب.۱
و القارصة هي المرأة التي تقرص. أمّا القَامِصة فهي التي تثب و تقفز. و أمّا الواقصة فهي الكاسرة.٢
و روى ابن شهرآشوب هذه الرواية عن أبي عبيد في «غريب الحديث»، و عن ابن مهدي في «نزهة الأبصار» عن الأصبغ بن نُباتة.٣
و روى ابن الأثير الجزريّ هذا الحديث في «النهاية» عن أمير المؤمنين عليه السلام في مادّة قَرَصَ، و قال: إنّهُ قَضَى في القَارِصَةِ وَ القَامِصَةِ وَ الوَاقِصَةِ بِالدِّيَةِ أثْلَاثاً؛ ثمّ بيّن القصّة على هذا النحو: هنّ ثلاث جوار كُنّ يلعبن فتراكَبْن. فَقَرَصت السفلى الوسطى، فقَمصت، فسقطت العليا، فَوَقِصت عنقها. فجعل ثُلُثَي الدية على الثنتين، و أسقط ثلث العليا، لأنّها أعانت على نفسها.
ثمّ قال: جعل الزمخشريّ هذا الحديث مرفوعاً، و هو من كلام عليّ [عليه السلام].۱
و مراده حديث الزمخشريّ في «الفائق» إذ نقله مرسلًا عن رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم).
و روى ابن بابويه، و الشيخ الطوسيّ مضمون هذا الحديث عن محمّد بن أحمد بن يحيي، عن أبي عبد الله، عن محمّد بن عبد الله بن مهران، عن عمرو بن عثمان، عن أبي جميلة، عن سعد الإسكاف، عن الأصبغ بن نُباتة قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في جارية ركبت جارية، فنخستها جارية اخرى، فقمصت المركوبة، فصرعت الراكبة، فماتت. فقضى بديتها نصفين بين الناخسة و المنخوسة.٢
و من الواضح أنّ الحكم في هذه الرواية يختلف عن الحكم السابق الذي ثلّث الإمام فيه الدية؛ و لكنّ هذه الرواية ضعيفة لوجود أبي جميلة، و هو المفضّل بن صالح، في سلسلة السند؛ و قد ضعّفه النجاشيّ؛ و نصّ ابن الغضائريّ على أنّه كان يضع الحديث.
و على هذا، فرواية المفيد مقدّمة مع إرسالها، و إن كان مصدرها من العامّة.
قضاء أمير المؤمنين عليه السلام في البقرة التي قتلت حماراً
القضاء في البقرة التي قتلت حماراً:
قال الشيخ المفيد: جاء في الأخبار و الآثار أنّ رجلين اختصما إلى النبيّ صلى الله عليه و آله في بقرة قتلت حماراً. فقال أحدهما:
يَا رَسُول اللهِ! بقرة هذا الرجل قتلت حماري! فقال رسول الله: اذهبا إلى أبي بكر فاسألاه عن ذلك! فجاءا إلى أبي بكر، و قصّا عليه قصّتهما.
قال أبو بكر: كيف تركتما رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) و جئتماني؟!
قالا: هو أمرنا بذلك.
فقال لهما: بهيمة قتلت بهيمة لا شيء على ربّها. فعادا إلى رسول الله فأخبراه بذلك. فقال لهما: امضيا إلى عمر بن الخطّاب! فقصّا عليه قصّتكما! و سلاه القضاء في ذلك. فذهبا إليه و قصّا عليه قصّتهما فقال لهما:
كيف تركتما رسول الله صلى الله عليه و آله و جئتماني؟! فقالا له: إنّه أمرنا بذلك! فقال: كيف لم يأمر كما بالمسير إلى أبي بكر؟! قالا: إنّا قد امرنا بذلك و صرنا إليه! قال: فما الذي قال لكما في هذه القضيّة؟! قالا له: قال: كيت و كيت. قال: ما أرى إلّا ما رأى أبو بكر. فعادا إلى رسول الله، فأخبراه الخبر.
فقال صلى الله عليه و آله: اذهبا إلى عليّ بن أبي طالب ليقضي بينكما! فذهبا إليه فقصّا عليه قصّتهما. فقال عليه السلام: إنْ كَانَتِ البَقَرَةُ دَخَلَتْ عَلَى الحِمَارِ في مَأمِنَهِ فَعَلَى رَبِّهَا قِيمَةُ الحِمَارِ لِصَاحِبِه؛ وَ إن كَانَ الحِمَارُ دَخَلَ عَلَى البَقَرَةِ في مَأمَنِهَا فَقَتَلَتْهُ فَلَا غُرْمَ عَلَى صَاحِبهَا.
فعادا إلى رسول الله، فأخبراه بقضيّته بينهما، فقال صلى الله عليه و آله: لَقَدْ قَضَى عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ اللهِ تعالى! ثمّ قال: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَلَ فِينَا أهْلَ البَيْتِ مَنْ يَقْضِي عَلَى سُنَنِ دَاوُدَ في القَضَاءِ.۱
و رواها الكلينيّ و الشيخ عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن أبي الخزرج، عن مصعب بن سلام التميميّ، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن الإمام الباقر عليه السلام. و ورد في آخرها أنّ رسول الله رفع يده إلى السماء، و قال:
الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَلَ مِنّي مَنْ يَقْضِى بِقَضَاءِ النّبِيِّينَ.۱
و رواها أيضاً بسند آخر مع اختلاف يسير في اللفظ، و ذلك بسنده المتّصل عن سعد بن طريف الإسكاف، عن الإمام الباقر عليه السلام.٢
و ذكرها ابن شهرآشوب عن مصعب بن سلام، عن الإمام الصادق عليه السلام بلفظ المفيد.٣
و نقلها السيّد محسن الأمين العامليّ عن الشيخ المفيد، كما نقلها عن كتاب «عجائب الأحكام» لإبراهيم بن هاشم، عن النوفليّ، عن السكونيّ مرفوعة عن رسول الله صلى الله عليه و آله بلفظ الكلينيّ و الشيخ في الحديث الأوّل.٤
و ذكرها أيضاً ابن حَجَر الهَيتَميّ، و محمّد بن طلحة الشافعيّ بعد حذف اسم أبي بكر، و عمر، و جعل بعض الصحابة مكانهما، و نقلاها باللفظ الآتي: كان رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) جالساً في المسجد
مع جماعة من أصحابه، فجاء خصمان. فقال أحدهما: يَا رَسُول اللهِ! إنّ لي حماراً، و إنّ لهذا بقرة! و إنّ بقرته قتلت حماري! فبدأ رجل من الحاضرين فقال: لَا ضِمَانَ عَلَى البَهَائِمِ.
فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): اقض بينهما يا عليّ!
فقال عليّ لهما: أ كانا مرسلَين أم مشدودين؟ أم أحدهما مشدود و الآخر مرسل. فقالا كان الحمار مشدوداً و البقرة مرسلة و صاحبها معها.
فقال: على صاحب البقرة ضمان الحمار. [فحكم عليّ بن أبي طالب بلزوم الضمان لصاحب الحمار على صاحب البقرة بحضور النبيّ] و أقرّ رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) حكمه و أمضى قضاءه.۱
و قال محمّد بن طلحة بعد سرد هذا الحديث: و في هذه الواقعة بخصوصها دلالة واضحة للناظرين، و حجّة راجحة عند المعتبرين أنّ عليّ بن أبي طالب لدى رسول الله مَكِين أمِين، حيث استقضاه بحضرته، و عنده أعيان من الصحابة ثمّ قرّر حكمه، و أنفذ قضاءه. و ذلك على ما ذكرناه دليل متين. و في متانة مكانته في العلم آيات للمتوسّمين طريق الحقيقة، و المتلمّسين معدن الفضيلة.
و جعل الفقهاء رضوان الله عليهم فتاواهم في باب ضمان الحيوانات على أساس هذا المبدأ العامّ، سواء جنى حيوان على إنسان أو بالعكس، أو جنى حيوان على حيوان.
و روى الكلينيّ و الشيخ الطوسيّ عن عليّ بن إبراهيم بسند واحد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قضى في رجل دخل دار قوم بغير إذنهم، فعقره كلبهم قال: لا ضمان عليهم و إن دخل
بإذنهم، ضمنوا.۱ و رويا مثلها بسند آخر عن الصادق عليه السلام.٢
إقرار المرأة التي كانت قد أنكرت ولدها
روى الكلينيّ و الشيخ بسندهما المتّصل عن عاصم بن حمزة السلوليّ قال: سمعت غلاماً بالمدينة و هو يقول: يَا أحْكَمَ الحَاكِمِينَ! احكم بيني و بين امّي!
فقال له عمر بن الخطّاب: يا غلام! لِمَ تدعو على امّك؟!
فقال: يا أمير المؤمنين إنّها حملتني في بطنها تسعة أشعر، و أرضعتني حولين، فلمّا ترعرعتُ، و عرفتُ الخير من الشر، و يميني من
شمالى، طردتني و انتفت منّي، و زعمت أنّها لا تعرفني!
فقال عمر: أين تكون الوالدة؟! قال: في سقيفة بني فلان!
فقال عمر: عَلَيّ بَامّ الغلام!
قال: فأتوا بها مع أربعة إخوة لها و أربعين قَسَامَة [شاهد] يشهدون لها أنّها لا تعرف الصبيّ، و أنّ هذا الغلام غلام مدّع ظلوم غشوم يريد أن يفضحها في عشيرتها؛ و أنّ هذه جارية من قريش لم تتزوّج قطّ، و أنّها بخاتم ربّها [باكر].
فقال عمر: يا غلام ما تقول؟! فقال: يا أمير المؤمنين! هذه و الله امّي، حملتني في بطنها تسعة أشهر، و أرضعتني حولين؛ فلمّا ترعرعتُ، و عرفت الخير من الشرّ و يميني من شمالى طردتني و انتفت منّي، و زعمت أنّها لا تعرفني!
فقال عمر: يا هذه! ما يقول الغلام؟ فقالت: يا أمير المؤمنين! و الذي احتجب بالنور، فلا عين تراه، و حقّ محمّد، و ما وَلَدَ، ما أعرفه، و لا أدري من أي الناس هو، و إنّه غلام مدّع يريد أن يفضحني في عشيرتي! و إنّي جارية من قريش لم أتزوّج قطّ؛ و إنّي بخاتم ربّي!
فقال [لها] عمر: أ لكِ شهود؟! فقالت: نعم؛ هؤلاء!
فتقدّم الأربعون القَسَامة فشهدوا عند عمر أنّ الغلام مدّع يريد أن يفضحها في عشيرتها و أنّ هذه جارية من قريش لم تتزوّج قطّ، و أنّها بخاتم ربّها!
فقال عمر: خذوا هذا الغلام، و انطلقوا به إلى السجن! حتى نسأل عن الشهود؛ فإن عدّلت شهادتهم، جلدته حدّ المفتري [حدّ من يفتري الزنا على امرأة، و يتّهمها بالفسق و الفجور] فأخذوا الغلام، و انطلقوا به إلى السجن، فتلقّاهم أمير المؤمنين عليه السلام في بعض الطريق. فنادى
الغلام: يَا بْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه و آله! إنّني غلام مظلوم، و أعاد عليه الكلام الذي كلّم به عمر، ثمّ قال: و هذا عمر، قد أمر بي إلى السجن!
فقال عليّ عليه السلام: ردّوه إلى عمر! فلمّا ردّوه، قال لهم عمر: أمرت به إلى السجن فرددتموه إليّ! فقالوا: يا أمير المؤمنين! أمرنا عليّ بنُ أبي طالب عليه السلام أن نردّه إليك و سمعناك و أنت تقول: لا تعصوا لعليّ عليه السلام أمراً! فبينا هم كذلك إذ أقبل عليّ عليه السلام، فقال: عَلَيّ بِامّ الغلام! فأتوا بها.
فقال عليّ عليه السلام: يا غلام! ما تقول؟ فأعاد الكلام.
فقال عليّ عليه السلام لعمر: أ تأذن لي أن أقضي بينهم؟!
فقال عمر: سُبْحَانَ اللهِ و كيف لا؟ و قد سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) يقول: أعْلَمُكُمْ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ.
ثمّ قال للمرأة: يا هذه! أ لكِ شهود؟! قالت: نعم. فتقدّم الأربعون قسامة، فشهدوا بالشهادة الاولى.
فقال عليّ عليه السلام: لأقضينّ اليوم بقضيّة بينكما هي مرضاة الربّ من فوق عرشه. علّمنيها حبيبي رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم).
ثمّ قال لها: أ لكِ وليّ؟ قالت: نعم! هؤلاء إخوتي. فقال لإخوتها: أمري فيكم و في اختكم جائز؟! فقالوا: نعم يا بن عمّ محمّد (صلى الله عليه و آله و سلّم)، أمرك فينا و في اختنا جائز.
فقال عليّ عليه السلام: اشهد الله و اشهد من حضر من المسلمين أنّي قد زوّجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربعمائة درهم و النقد من مالى. يا قنبر! عَلَيّ بالدراهم.
فأتاه قنبر [غلامه] بها فصبّها في يد الغلام. قال: خذها فصبّها في حجر امرأتك و لا تأتنا إلّا و بك أثر العرس؛ يعني الغسل!
فقام الغلام، فصبّ الدراهم في حجر المرأة، ثمّ تلبّبها [جمع ثيابها عند صدرها و جرّها] فقال لها: قومي! فنادت المرأة: النّارَ النّارَ يا بنَ عَمِّ مُحَمَّدٍ تريد أن تزوّجني من ولدي هذا؟! و الله ولدي؛ زوّجني إخوتي هجيناً فولدت منه هذا الغلام؛ فلمّا ترعرع و شبَّ، أمروني أن أنتفي منه و أطرده! و هذا و الله ولدي و فؤادي يتقلّى أسفاً على ولدي.
قال [عاصم بن حمزة راوي هذا الحديث]: ثمّ أخذت بِيَدِ الغلام، و انطلقت؛ و نادى عمر: وَا عُمَرَاه؛ لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ.۱
و نقل ابن شهرآشوب هذا الحديث عن «الحدائق» لأبي تراب الخطيب، و «الكافي»، و «تهذيب الأحكام» و ذكر في آخره ستّة أبيات لابن حمّاد في هذا الموضوع.٢
و رواه المجلسيّ في «بحار الأنوار» عن كتاب «الروضة»، و كتاب «الفضائل» لابن شاذان، عن الواقديّ، عن سلمان مع اختلاف في متنه.٣ و رواه السيّد محسن الأمين العامليّ في كتاب «أحكام أمير المؤمنين عليه
قال الإمام فولّيني ولاك لكي | *** | اقرّر الحكم قالت أنت تملكني |
فقال: قومي لقد زوّجته بك قم | *** | فادخل بزوجك يا هذا و لا تشنِ |
فحين شدّ عليها كفّه هتفت | *** | أ تستحلّ ترى بابني تزوّجني |
إنّي من أشرف قومي نسبة و أبو | *** | هذا الغلام مهين في العشير دني |
فكنت زوّجْتُه سرّاً فأولدني | *** | هذا و مات و أمري فيه لم يبنِ |
فظلتُ أكتمه أهلي و لو علموا | *** | لكان كلّ امرئ منهم يعيّرني |
السلام» عن كتاب «عجائب الأحكام» لإبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمّد بن أبي عُمَيْر، عن عُمَر بن يزيد، عن أبي المُعلى، عن الإمام الصادق عليه السلام بنفس المضمون و المفاد الوارد في رواية الكلينيّ. و قال بعد نقل رواية ابن شهرآشوب في مناقبه: ذكر ابن القيّم الجوزيّ هذه القصّة في كتاب «السياسة الشرعيّة».۱ و ذكرها العلّامة الأمينيّ أيضاً عن ابن القيّم الجوزيّ في كتاب «الطرق الحُكميّة» ص٤٥.٢
القضاء في شخصين أودعا أمانة عند امرأة، و كانا ينويان الخيانة
روى الكلينيّ و الشيخ الطوسيّ عن الحسين بن محمّد، عن أحمد بن عليّ الكاتب، عن إبراهيم بن محمّد الثقفيّ، عن عبد الله بن أبي شيبة، عن حريز، عن عطاء بن السائب، عن زاذان، و كذلك ذكر الصدوق عن روايات إبراهيم بن محمّد الثقفيّ أنّ رجلين استودعا امرأة وديعة و قالا لها: لا تدفعيها إلى واحد منّا حتى نجتمع عندك. ثمّ انطلقا فغابا؛ فجاء أحدهما إليها فقال: أعطيني و ديعتي، فإنّ صاحبي قد مات. فأبت حتى كثر اختلافه، ثمّ أعطته.
ثمّ جاء الآخر، فقال: هاتي و ديعتي! فقالت: أخذها صاحبك، و ذكر أنّك قد متّ! فارتفعا إلى عمر. فقال لها عمر: ما أراك إلّا و قد ضمنت! فقالت المرأة: اجعل عليّاً عليه السلام بيني و بينه! فقال عمر [لعليّ بن
أبي طالب]: اقض بينهما.
فقال عليّ عليه السلام: هذه الوديعة عندي.۱ [ثمّ التفت إلى الرجل و قال]: أنتماأمرتماها أن لا تدفعها إلى واحد منكما حتى تجتمعا عندها! فائتني بصاحبك! فلم يضمّنها. و قال عليه السلام: إنّما أرادا أن يذهبا بمال المرأة.٢
و رواها ابن شهرآشوب بهذا اللفظ عن «تهذيب الأحكام».٣ و رواها أيضاً محبّ الدين الطبريّ، و سبط ابن الجوزيّ، و أخطب خوارزم: موفّق بن أحمد الخوارزميّ عن حنش بن المعتمر أنّ رجلين أتيا امرأة من قريش فاستودعاها مائة دينار. و لبثا حولًا ثمّ جاء أحدهما، فأخذ الدنانير بعد اختلاف و نزاع، ثمّ مضى حول آخر، فجاء الثاني و طالب بالدنانير. و هكذا يواصلون كلامهم في هذه الرواية، إلى أن قال راويها: بلغ عمر خبر هذه الواقعة فقال:
لا أبقَانِيَ اللهُ بَعْدَ ابْنِ أبِي طَالِبٍ.٤
هَل مِثْلُ قَوْلِك إذ قالوا مجاهرة | *** | لو لا عليّ هلكنا في فتاوينا |
حبّ النبيّ و أهل البيت معتمدي | *** | إذ الخطوب أساءت رأيها فينا |
و أوردها العلّامة الأمينيّ عن هذه المصادر الأخيرة، و عن كتاب «الاذكياء» لابن الجوزيّ ص ۱۸، و «أخبار الظُّرّاف» لابن الجوزيّ، ص۱٩.۱ و ذكرها شاه ولى الله الحنفيّ في «إزالة الخفاء».
رفع الحدّ عن الجانية المجنونة التي أمر عمر برجمها
روى الشيخ المفيد في «الإرشاد» فقال: روى أنّ مجنونة على عهد عمر فَجَرَ بها رجل، فقامت البيّنة عليها بذلك، فأمر عمر بجلدها الحدّ. فمُرّ بها على أمير المؤمنين عليه السلام لتُجلد فقال: ما بال مجنونة آل فلان تُعتل؟ فقيل له: إنّ رجلًا فجر بها و هرب و قامت البيّنة عليها، فأمر عمر بجلدها.
فقال لهم [أمير المؤمنين عليه السلام]: ردّوها إليه و قولوا له: أ ما علمت أنّ هذه مجنونة آل فلان، وَ أنّ النّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ قَدْ رَفَعَ القَلَمَ عَنِ المَجْنُونِ حتى يُفِيقَ؟! إنّها مغلوبة على عقلها و نفسها [و قامت بما قامت به بلا إدارك و لا تعقّل].
فرُدّت إلى عمر، و قيل له ما قال أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: فَرّجَ اللهُ عَنْهُ لَقَدْ كِدْتُ أنْ أهْلِكَ في جَلْدِهَا، فَدَرَأ عَنْهَا الحَدَّ.٢
و رواها ابن شهرآشوب بهذا اللفظ عن الحسن و عطاء و قَتَادة و شُعبة و أحمد بن حنبل.۱
و روى ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» في ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام بسنده المتّصل عن سعيد بن المسيّب، قال: كَانَ عُمَرُ يَتَعَوَّذُ بِاللهِ مِنْ مُعْضَلَةٍ لَيْسَ لَهَا أبُو حَسَنٍ.
و قال في الزانية المجنونة التي أمر عمر برجمها، و كذلك في المرأة التي ولدت لستّة أشهر، و أراد عمر رجمها أيضاً، و قال له عليّ عليه السلام: إنّ الله تعالى يقول: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً الآية٢ و قال له أيضاً: إنّ اللهَ رَفَعَ القَلَمَ عَنِ المَجْنُونِ الحديث؛ قال عمر: لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ.
ثمّ قال ابن عبد البرّ: و قد روى مثل هذه القصّة لعثمان مع ابن عبّاس، و عن عليّ أخذها ابن عبّاس، و الله أعلم.٣
و ذكر الخوارزميّ هذه الرواية عن محمود بن عمر الزمخشريّ بسنده المتّصل عن الحسن البصريّ، عن عمر بن الخطّاب، و فيها أنّ عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام قال لعمر:
أ وَ مَا سَمِعْتَ مَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ؟! قَالَ: وَ مَا قَالَ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ المَجْنُونِ حتى يَبْرَأ وَ عَنِ الغُلَامِ حتى يَحْتَلِمَ وَ عَنِ النّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ.
قَالَ: فَخَلَّى عَنْهَا.۱
و روى محبّ الدين الطبريّ عن أبي ظبيان أنّه قال: شهدت هذه القصّة. و نقلها كما كانت. و ذكر لفظ رسول الله صلى الله عليه و آله كالآتي: رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ النّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ وَ عَنِ الصَّغِيرِ حتى يَكْبُرَ وَ عَنِ المُبْتَلَى حتى يَعْقِلَ.٢
و رواه الحاكم في مستدركه بسنده المتّصل عن أبي ظبيان عن ابن عبّاس، و ذكر لفظ رسول الله بهذا النحو: رُفِعَ القلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ؛ عَنِ المَجْنُونِ المَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ، وَ عَنِ النّائِمِ حتى يَسْتَيقِظَ وَ عَنِ الصَّبِيّ حتى يَحْتَلِمَ.٣
و رواه أبو بكر: أحمد بن الحسين بن عليّ البيهقيّ بثلاثة أسناد مختلفة، و عبارات متفاوتة لرسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) في اللفظ لا فى المعنى.۱
و ذكر العلّامة الأمينيّ بأشكال خمسة من مصادر مختلفة؛ و قال في آخره:
لَفْتُ نَظَرٍ: أخرج البخاريّ هذا الحديث في صحيحه٢ غير أنّه عند ما وجد فيه مسّةً بكرامة الخليفة، حذف صدره تحفّظاً عليها؛ و لم يرقه إيقاف الامّة على قضيّة تعرب عن جهله بالسنّة الشائعة أو ذهوله عنها عند القضاء، فقال:
قال عليّ لعمر: أ مَا عَلِمْتَ أنّ القَلَمَ رُفِعَ عَنِ المَجْنونِ حتى يُفِيقَ وَ عَنِ الصَّبِيّ حتى يُدْرِكَ وَ عَنِ النّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ؟!٣
و لكنيّ أقول: كشف شرّاح «صحيح البخاريّ» الغطاء عن هذه القصّة مفصّلًا، كابن حجَر العَسْقَلانيّ في كتاب «فتح الباري»،٤ و محمود بن أحمد العَيْنيّ في كتاب «عمدة القاري»٥ و كلا الكتابين في شرح «صحيح البخاريّ». كما ذكره أبو داود في صحيحه في باب المجنون الذي يَسْرِق في كتاب «الحدود»،٦ و القاضي عبد الجبّار في كتاب «المغني».
لقد ذكر علماء الشيعة و العامّة في كتبهم حديث رفع القلم الذي رواه
أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه و آله، و جعلوه أصلًا للاستدلال على عدم مؤاخذة المجنون و الصغير، و النائم، و عدم تكليفهم؛ و هذا الحديث هو المتمسَّك في فتواهم، بضميمة أحاديث اخرى رووها عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في حالات خاصّة.
و بعد أن ذكر البيهقيّ ثلاثة أحاديث في رجم المجنونة و رفع القلم، نقل حديثاً مستقلًّا عن أبي الحسن عليّ بن محمّد المقري بإسناده عن الحسن، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الصَّبِيّ حتى يَعْقِلَ؛ وَ عَنِ النّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ؛ وَ عَنِ المَجْنُونِ حتى يُكْشَفَ عَنْهُ.۱
و قال الحاكم بعد نقل هذا الحديث عن أبي عبد الله بن أحمد بن موسى القاضي: قال أبو عبد الله: بالحجر على المجنون و المجنونة ممّا لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء.٢
منع أمير المؤمنين عليه السلام رجم الزانية التي كانت حاملًا
منع أمير المؤمنين رجم الزانية الحامل
التي كان عمر قد أمر برجمها
روى الخوارزميّ عن محمود بن عمر الزمخشريّ بإسناده المتّصلة عن زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، قال: لمّا كان في ولاية عمر، اتي بامرأة حامل، فسألها عمر، فاعترفت بالفجور، فأمر بها أن ترجم.
فلقيها عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقال: ما بال هذه؟!
فقالوا: أمر بها عمر أن ترجم. فردّها عليّ عليه السلام، و قال لعمر:
أمرتَ بها أن ترجم؟ قال: نعم! اعترفتْ عندي بالفجور.
فقال: هذا سلطانك عليها! فما سلطانك على ما في بطنها؟! ثمّ قال له عليّ عليه السلام: فلعلّك انتهرتها أو أخفتها؟!
فقال عمر: قد كان ذاك.
فَقَالَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ: أ وَ مَا سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ: لَا حَدَّ عَلَى مُعْتَرِفٍ بَعْدِ البَلَاءِ. إنّهُ مَنْ قَيَّدْتَ أوْ حَبَسْتَ أوْ تَهَدَّدْتَ فَلَا إقْرارَ لَهُ.۱
فخلّى عمر سبيلها، ثمّ قال: عَجَزَتِ النّسَاءُ أنْ تَلِدْنَ مِثْلَ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ، لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ.٢
و روى عليّ بن عيسى الإربليّ هذا الخبر في «كشف الغمّة» عن «مناقب الخوارزميّ».٣
و قال ابن شهرآشوب بعد عرض هذا الموضوع: قال أمير المؤمنين عليه السلام لعمر: هَبْ لَكَ سَبِيلٌ عَلَيْهَا، فَهَلْ لَكَ سَبِيلٌ عَلَى مَا في بَطْنِهَا وَ اللهُ تعالى يَقُولُ: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ؟٤
قال عمر: فما أصنع بها؟!
قَالَ: احْتَطْ عَلَيْهَا حتى تَلِدَ، فَإذَا وَلَدَتْ وَ وَجَدْتَ لَوَلِدَهَا مَن يَكْفُلُهُ فَأقِمِ الحَدَّ عَلَيْهَا! فَلَمَّا وَلَدَتْ مَاتَتْ؛ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ.
و قال الإصفهانيّ في هذه القصّة:
وَ بِرَجْمِ اخْرَى مُثْقَلٍ في بَطْنِهَا | *** | طِفْلٌ سَوِيّ الخَلْقِ أوْ طَفْلَانِ |
نُودُوا ألَا انْتَظِرُوا فَإن كَانَتْ زَنَتْ | *** | فَجِنِينُهَا في البَطْنِ لَيْسَ بِزَانِ۱ |
و يستفاد من هاتين الروايتين اللتين نقلناهما عن «مناقب الخوارزميّ»، و «مناقب ابن شهرآشوب» أنّ قصّة رجم المرأة الحامل و منع أمير المؤمنين عليه السلام ذلك في عهد عمر وقعت مرّتين. إذ جاء في الخبر الأوّل أنّ اعتراف المرأة كان بسبب التهديد و التخويف و الزجر و الإيذاء، و لا أثر لهذا الإقرار؛ فلهذا خُلِّي سبيل المرأة، و لم يُجْرَ عليها الحدّ بعد الولادة. أمّا الخبر الثاني فلم يذكر فيه تهديد: و إقرار المرأة حجّة، غاية الأمر أنّها لمّا كانت حاملًا، فقد تقرّر إرجاء إقامة الحدّ عليها حتى تلد.
و نصّ محبّ الدين الطبريّ على هذه النقطة في كتابيه: «ذخائر العقبي» و «الرياض النضرة» حيث ذكر فيهما هاتين الروايتين عن زيد بن عليّ بن الحسن، و عبد الله بن الحسن بن الحسن.٢
و ذكر محمّد بن طلحة الشافعيّ قصّة رجم الزانية، و قال: و قال عمر بمحضر من الصحابة: لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ.۱
و ذكر العلّامة الأمينيّ الصورة الاولى من الحديث نقلًا عن بعض الكتب الأخيرة، و عن «أربعين الفخر الرازيّ» ص ٤٦٦؛ كما ذكر صورة الحديث الثاني عن كتاب «الكفاية» للحافظ الكنجيّ ص۱۰٥.٢
و ذكر محبّ الدين الطبريّ في كتابَيْه، في الحديث الثاني أنّ عمر قال ثلاث مرّات:
كُلُّ أحَدٍ أفْقَهُ مِنّي.
و نقل الشيخ المفيد الحديث الثاني في «الإرشاد»، و ورد فيه أنّ عمر قال:
لَا عِشْتُ لِمُعْضَلَةٍ لَا يَكُونُ لَهَا أبُو الحَسَنِ.
و جاء في آخر الحديث أنّ آثار الحزن زالت عن وجه عمر، و عوّل في الحكم به على أمير المؤمنين عليه السلام.٣
منع أمير المؤمنين عليه السلام رجم المرأة التي ولدت لستّة أشهر
روى الشيخ المفيد في «الإرشاد» عن يونس بن الحسن أنّ عمر اتي بامرأة قد ولدت لستّة أشهر، فهمّ برجمها. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إنْ خَاصَمَتْكَ بِكِتَابِ اللهِ خَصَمَتْكَ! إنّ اللهَ تعالى يَقُولُ: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً.۱ وَ يَقُولُ جَلَّ قَائِلًا: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ.٢ فَإذَا تَمَّمَتِ المَرْأةُ الرّضَاعَةَ سَنَتَيْنِ وَ كَانَ حَمْلُهُ وَ فِصَالُهُ ثَلَاثِينَ شَهْراً، كَانَ الحَمْلُ مِنْهَا سِتَّةَ أشْهُرٍ.
و لمّا سمع عمر هذا الكلام من أمير المؤمنين عليه السلام، خلّي سبيل المرأة، و ثبّت الحكم بذلك، فعمل به الصحابة و التابعون و من أخذ عن عليّ عليه السلام إلى يومنا هذا.٣
و ذكر ابن شهرآشوب أنّ الهيثم كان في جيش. فلمّا رجع، ولدت امرأته بعد قدومه بستّة أشهر ولداً، فأنكر ذلك منها، و جاء بها إلى عمر، و قصّ عليه. فأمر برجمها، فأدركها عليّ بن أبي طالب عليه السلام من قبل أن ترجم؛ ثمّ قال لعمر: أربع على نفسك! إنّها صدقت. إنّ الله تعالى يقول: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً. و كذلك يقول: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ. فالحمل و الرضاع ثلاثون شهراً.
فقال عمر: لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ. و خلّى سبيلها. و الحق الولد بالرجل. و اقرّ النسب.
ثمّ قال ابن شهرآشوب بعد هذا المطلب: شرح ذلك: أقلّ الحمل أربعون يوماً و هو زمن انعقاد النطفة. و أقلّه لخروج الولد حيّاً ستّة أشهر. و ذلك أنّ النطفة تبقى في الرحم أربعين يوماً، ثمّ تصير علقة أربعين يوماً، ثمّ تصير مضغة أربعين يوماً، ثمّ تتصوّر في أربعين يوماً، و تلجها الروح في عشرين يوماً، فذلك ستّة أشهر، فيكون الفصال في أربعة و عشرين شهراً، فيكون الحمل في ستّة أشهر.۱
و ثبت اليوم طبّيّاً أنّ الجنين يتمّ في بطن امّه لستّة أشهر، فيستطيع أن يواصل حياته، غاية الأمر أنّ الأشهر الثلاثة الاخرى قد عُيّنت للنموّ في جوّ مناسب و تغذية أفضل.
و على ضوء ما ورد في كتب التأريخ، فإنّ سيّد الشهداء عليه السلام،
و يحيى بن زكريّا على نبيّنا و آله و عليهما الصلاة و السلام قد ولدا لستّة أشهر. فلم تكن هذه الحقيقة خارجة عن القواعد و القوانين الطبيعيّة.
قال النيسابوريّ في تفسيره، في ذيل الآية: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ: إنّ مدّة الحمل ستّة أشهر. و عن عمر أنّ امرأة ولدت لستّة أشهر، فرفعت إليه، فأمر برجمها، فأخبر عليّاً رضي الله عنه بذلك فمنعه محتجّاً بالآية، فصدّقه عمر، و قال لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ.
و قال جالينوس: إنّي كنت شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحمل، فرأيت امرأة ولدت في المائة و الأربع و الثمانين ليلة. و زعم ابن سينا أنّه شاهد ذلك.
و ذكر أهل التجارب قاعدة كلّيّة، قالوا: إنّ لتكوّن الجنين زماناً مقدّراً، فإذا تضاعف ذلك الزمان، تحرّك الجنين. ثمّ إذا اضيف إلى المجموع مثلاه، انفصل الجنين.
و على هذا، فلو تمّت خلقة الجنين في ثلاثين يوماً، و أتى عليه مثل ذلك، أي: إذا بلغ علوقه ستّين يوماً فقد تحرّك. و إذا اضيف إلى هذا المقدار مثلاه -أي مائة و عشرون يوماً- فبلغ مدّة مائة و ثمانين فسينفصل. و لو تمّت خلقته في خمسة و ثلاثين يوماً، فقد تحرّك في سبعين و انفصل في مائتين و عشرة، و هو سبعة أشهر.
و لو تمّت خلقته في أربعين فقد تحرّك في ثمانين و انفصل في مائتين و أربعين، و هو ثمانية أشهر. و قلّما يعيش هذا المولود، إلّا في بلاد معيّنة مثل: مصر، و قد مرّ هذا المعنى في هذا الكتاب.
و لو تمّت في خمسة و أربعين فقد تحرّك في تسعين و انفصل في مائتين و سبعين، و هي تسعة أشهر، و هو الأكثر. أمّا أكثر مدّة الحمل،
فليس يعرف له دليل من القرآن الكريم.۱
و روى البيهقيّ في سننه مرسلًا، في باب مَا جَاءَ في أقَلِّ الحَمْلِ بسندين متّصلين عن أبي الحرب بن الأسود الدؤليّ، و عن الحسن البصريّ، أمر عمر برجم المرأة التي ولدت لستّة أشهر، و منع أمير المؤمنين عليه السلام إيّاه.٢
و روى السيوطيّ هذا الحديث في «الدرّ المنثور» عن عبد الرزّاق، و عبد بن حميد، و ابن منذر، عن طريق قُتادة، عن أبي الأسود الدؤليّ.٣ و نقله العلّامة الفقيد آية الله الطباطبائيّ رضوان الله عليه في «الميزان» عن السيوطيّ في «الدرّ المنثور» و الشيخ المفيد في «الإرشاد».٤
و روى مضمون هذه الرواية أيضاً كلّ من:
الخوارزميّ،٥ و محبّ الدين الطبريّ؛٦ و سبط ابن الجوزيّ،۷
و ابن عبد البرّ،۱ و الملّا عليّ المتّقي الهنديّ.٢ و ورد في آخر حديث الخوارزميّ أنّ هذه المرأة ولدت مرّة اخرى لستّة أشهر أيضاً. و ذكره السيّد ابن طاووس عن مصادر العامّة ردّاً على مذهبهم.٣
و رواه الملّا عليّ المتّقي الهنديّ بسند آخر عن قتادة عن أبي الحرب ابن الأسود الدؤليّ، عن أبيه، و هو كما يأتي:
رُفع إلى عمر امرأة ولدت لستّة أشهر، فأراد عمر أن يرجمها، فجاءت اختها إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقالت: إنّ عمر يرجم اختي، فانشدك الله إن كنت تعلم أنّ لها عذراً لما أخبرتني به!
فقال عليّ بن أبي طالب: إنّ لها عذراً.
فكبّرت تكبيرة سمعها عمر و مَن عنده. فانطلقت إلى عمر، فقالت: إنّ عليّاً زعم أنّ لُاختي عذراً. فأرسل عمر إلى عليّ: ما عذرها؟
قال عليه السلام: قال الله عزّ و جلّ:
وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ.
و قال: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً. فالحمل ستّة أشهر، و الفصل أربعة و عشرون شهراً. فخلّى عمر سبيلها. قال: ثمّ إنّها ولدت بعد ذلك
لستّة أشهر.۱
و حدث مثلها في عهد عثمان، و قضى عثمان برجم امرأة بريئة. و عند ما بلغ عثمان احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام، كان قد رجم تلك المرأة المسكينة، و لات حين لوم، إذ سبق السيف العذل.
رجم عثمان امرأة مظلومة بسبب عدم عِلمه بالحكم
و قال السيوطيّ في «الدرّ المنثور»: أخرج ابن المنذر، و ابن أبي حاتم عن بعجة بن عبد الله الجهنيّ، قال: تزوّج رجل منّا امرأة من جهينة، فولدت له تماماً لستّة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان بن عفّان، فأمر برجمها. فبلغ ذلك عليّاً رضي الله عنه فأتاه، فقال: ما تصنع؟
قال عثمان: ولدت تماماً لستّة أشهر؛ و هل يكون ذلك؟
قال عليّ رضي الله عنه: أ ما سمعت الله تعالى يقول: وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً. و قال: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ، فكم تجده بقي إلّا ستّة أشهر؟!
فقال عثمان: و الله ما فطنتُ لهذا. عَلَيّ بالمرأة! فوجدوها قد فُرغ منها.
و كان من قولها لُاختها: يَا اخَيَّة! لَا تَحْزَنِي فَوَ اللهِ مَا كَشَفَ فَرْجِي أحَدٌ قَطُّ غَيْرُهُ! (و سيكشف الله الغطاء، و يبيّن أنّني كنت مظلومة و بريئة).
قال راوي الرواية: بعجة بن عبد الله الجُهَنيّ: فشبّ الغلام بعد، فاعترف الرجل به، و كان أشبه الناس به. قال: فرأيت الرجل بعد يَتَسَاقَطُ عُضْواً عُضْواً عَلَى فِرَاشِهِ، لما جناه بقذف زوجته البريئة بالزنا.٢
و روى ذلك مالك،۱ و البيهقيّ،٢ و ابن كثير الدمشقيّ،٣ و العينيّ.٤ و حكاه العلّامة الفقيد آية الله الطباطبائيّ نقلًا عن السيوطيّ في «الدرّ المنثور».٥ ذكره السيّد محسن الأمين العامليّ في كتاب «عجائب الأحكام».٦ و نقله العلّامة الأمينيّ في «الغدير» عن مصادره.۷
هذا هو دأب حكّام الجور إذ يشمرّون عن سواعدهم من أجل سفك دماء المظلومين و الأبرياء، و يعتذرون من ذلك بعدم العلم بالكتاب و السنّة، و يقسمون أنّهم لم يعلموا، أ لم يكن هناك من يقول لهؤلاء الذين ينطبق عليهم المثل القائل: أ ظئر أعطف من امّ؟ من الذي سمّاكم خليفة
المسلمين، و أمير المؤمنين، و خليفة رسول الله؟ و أمام أي امّة ألصقتم بأنفسكم هذه الألقاب؟ أ أنتم خلفاء رسول الله، و تقيلون أمير المؤمنين من مقامه ليذهب إلى خارج المدينة فيعمل في بستان هناك، و يحرث، و يزرع، و يسقى، و تضفون على أنفسكم لقب الخليفة و الأمير، و ترون أنّكم خلفاء رسول الله، بينما تعترفون و تقرّون بجهلكم؟
إنّ النتيجة التي يتركها تسلّم الأشخاص غير المؤهّلين لمقام الولاية منصبَ الحكومة و الولاية هي: أنّ أعراضه تظهر واحدة تلو الاخرى، و يظلّ الناس إلى قيام القائم بالحقّ في الضلال و الحيرة و الظلم، و يأتون إلى الدنيا و يرحلون عنها محرومين من الفيوضات الإلهيّة و الآلاء الربّانيّة.
و أيمُ الله عند ما كنت مشغولًا أمس بكتابة قصّة هذه المرأة المظلومة التي رُجمت بوابل أحجار عثمان، كنت أبكي، و دموعي تسيل إلى درجة أنّي أمسكتُ عن الكتابة أسى على مظلوميّة هذه المرأة فحسب، لا على مظلوميّة عليّ و الزهراء و ولدهما محسن! أجل، على مظلوميّة هذه المرأة التي تزوّجت وفقاً للشرع الإسلاميّ و طبقاً للسنّة النبويّة، و تحمّلت فترة الحمل و مصاعبها، إلى أن ولدت، فجازوها، و لكن أي جزاء!
لقد فصلوها عن وليدها بلا جرم و لا ذنب، ذلك الوليد الذي كانت تتمنّى أن ترضعه، و تضع صدرها على صدره، و تنسى آلام الحمل و المخاض و الولادة عند ما تنظر إلى وجهه. ساقوها و رجموها حتى زهقت روحها بتهمة الزنا! و الزعم أنّ وليدها هو ابن زنا! و ما ذا تقول هذه المرأة في قرارة نفسها و وجدانها و مركز تفكيرها و درايتها؟!
إنّها الجملة الخفيّة التي قالتها لُاختها: (ما كشف أحد فرجي غير زوجي، و لم يطّلع على سرّي غير الله) هذا الطفل ابني، حملته في بطني على سنّة رسول الله، و طويتُ فترة الحمل، و ها أنّي ألد، و تبدأ فترة
الرضاع، و يرجمني غاصب الخلافة!
لقد سجن يوسف لعصمته و طهارته. و كان بريئاً و عفيفاً.
أجل، لا فرق بين قضيّة عثمان، و قضيّة عمر الذي كان قد أمر بالرجم، و لكن بلغه خبر أمير المؤمنين عليه السلام، و المرأة لم ترجم بعد. كلتاهما تستقي من مصدر واحد و عين واحدة.
حَكَمَ عثمان بالرجم، فرجمت المرأة. أمّا عمر فقد حكم به، فاتّفق بلوغ حكم عليّ و المرأة لم ترجم، فمُنع الرجم. كِلا الحكمين خاطئ و ناتج عن الجهل، بَيدَ أنّ حكم عثمان قد نُفِّذ، و حكم عمر لم ينفّذ. و لا فرق بينهما أبداً في إصدار الحكم الظالم. و لكن عند ما رجمت المرأة الجهينيّة، فإنّ كتب التأريخ و الكلام ذكرت اسم عثمان بالسوء، و عُدّ هذا الرجم من النقم التي أسخطت الناس عليه، و أمّا عمر فلمّا لم ينفّذ حكمه، و رفع صوته بقوله: لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ. فإنّ أنصاره عدّوا ذلك دليلًا على صدقه، و قالوا: سلّم بالحقّ.
بَيدَ أنّا ذكرنا أنّه لا فرق بين هاتين المسألتين من حيث ملاك القضيّة و روحها. و اعترف عثمان أيضاً بعد لقائه أمير المؤمنين عليه السلام و احتجاج الإمام عليه، أنّه لم يعلم. و صدر الحكم من كلا المصدرين.
ثمّ إذا كان كلام عمر الذي قاله في ثلاثة و عشرين موضعاً: لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ يعني الهلاك الحقيقيّ و الاخرويّ و العذاب الإلهيّ، فلما ذا نهض و لبس لامته أمام سلطان الولاية، فغضب حقّه الثابت عالماً عامداً؟!
يستبين -إذَن- أنّ مراده من هذا الكلام الهلاك الظاهريّ، و تشويه السمعة، و حطّ الشأن و المنصب الدنيويّ، إذ يذكر اسمه في المجالس و المحافل بسوء. و هذا ممّا لا قيمة له. كما أنّ كلامه -لا أبقاني الله لمعضلة ليس فيها أبو الحسن؛ لا عشت لمعضلة لا يكون لها أبو الحسن- لا مفهوم
له غير المفهوم المذكور آنفاً. فهو محتاج إلى عليّ لترسيخ أوتاد حكومته، و إلّا فهو لا يرى نفسه سرّاً و واقعاً محتاجاً إليه. و إنّما كان احتياجه إليه في كونه دعامة من دعائم الخلافة التي لا تدور عجلة حكومته بغيرها.
أشعار خزيمة بن ثابت الأنصاريّ إبّان بيعة أمير المؤمنين عليه السلام
قال الخوارزميّ: و بهذا الإسناد (أي: سلسلة السند المذكور في الخبر السابق) أخبرني أبو العلاء الحافظ، عن الحسن بن أحمد الهمدانيّ إجازة في الحديث على منبر رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم)، أنشد خُزَيْمَةَ بْنُ ثابِتِ الأنصاريّ، و هو واقف بين يدي المنبر قائلًا:
إذَا نَحْنُ بَايَعْنَا عَلِيَّاً فَحَسْبُنَا | *** | أبُو حَسَنٍ مِمَّا نَخَافُ مِنَ الفِتَنْ |
وَجَدْنَاهُ أوْلَى النّاسِ بِالنّاسِ إنّهُ | *** | أطَبُّ قُرَيْشٍ بِالكِتَابِ وَ بالسُّنَن |
وَ إنّ قُرَيْشاً مَا تَشُقُّ غُبَارَهُ | *** | إذَا مَا جَرَى يَوْماً عَلَى الضُّمُرِ البَدَنْ |
وَ فِيهِ الذي فِيهِمْ مِنَ الخَيْرِ كُلِّهِ | *** | وَ مَا فِيهِمُ بَعْضُ الذي فِيهِ مِنْ حَسَن۱ |
و كذلك روى الخوارزميّ بسنده المتّصل عن مهذّب الأئمّة أبي المُظَفَّر، عبد الملك بن عليّ بن محمّد الهمدانيّ باتّصال السند إلى عمرو بن ميمون عن ابن عبّاس قال: و لبعض أهل الكوفة في أمير المؤمنين عليه السلام أيّام صفّين:
أنْتَ الإمام الذي نَرْجُو بِطَاعَتِهِ | *** | يَوْمَ النّشُورِ مِنَ الرّحْمَنِ غُفْرَانَا |
أوْضَحْتَ مِنْ دِينِنَا مَا كَانَ مُشْتَبِهاً | *** | جَزَاكَ رَبُّكَ عَنّا فِيهِ حُسْنَانَا |
نَفْسِي الفِدَاءُ لِخَيْرِ النّاسِ كُلِّهِمُ | *** | بَعْدَ النَّبيّ عَلِيّ الخَيْرِ مَوْلَانَا |
أخِي النّبِيّ وَ مَوْلَى المُؤْمِنِينَ مَعاً | *** | وَ أوَّلُ النّاسِ تَصْدِيقاً وَ إيمَانَا۱ |
و جملة القول أنّ جهل الحكّام الغاصبين لم يقتصر على حقل و حقلين، بل كان في حقول كثيرة. فقد ادير بهم (أخذهم الدوار) في المسائل الشرعيّة و الآيات القرآنيّة و اللغة و المعارف الإلهيّة حتى أنّ علماء الكلام قد ضبطوا ذلك في احتجاجاتهم أمام المناوئين.
عدم معرفة أبي بكر و عمر معنى الأبّ
ذكر الشيخ المفيد قائلًا: سئل أبو بكر عن قوله تعالى: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا، فلم يعرف معنى «الأبّ» من القرآن، فقال: أي سَمَاءٍ تُظِلُّنِي أمْ أي أرْضٍ تُقِلُّنِي أمْ كَيْفَ أصْنَعُ إنْ قُلْتُ في كِتَابِ اللهِ تَعَالى بِمَا لَا أعْلَمُ؟! أمَّا الفَاكِهَةُ فَنَعْرِفُهَا. وَ أمَّا الأبُّ فَاللهُ أعْلَمُ بِهِ.
فبلغ أمير المؤمنين عليه السلام مقاله في ذلك، فقال: يَا سُبْحَانَ اللهِ! أ مَا عَلِمَ أنّ الأبَّ هُوَ الكلَاءُ وَ المَرْعَى؛ وَ أنّ قَوْلَهُ تَعَالى: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا اعْتَدادٌ مِنَ اللهِ تَعَالى بِإنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ بِمَا غَذَّاهُمْ بِهِ وَ خَلَقَهُ لَهُمْ وَ لأنْعَامِهِمْ مِمَّا تَحْيَى بِهِ أنْفُسُهُمْ وَ تَقُومُ بِهِ أجْسَادُهُمْ.٢
و ذكر ابن شهرآشوب صدر هذا الحديث المأثور بشأن أبي بكر، عن «فتاوى الجاحظ»، و «تفسير الثعلبيّ» و نقل ذيله المتمثّل بكلام أمير المؤمنين عليه السلام، و ذلك عن روايات أهل البيت عليهم السلام.٣
و روى كبار علماء التفسير من الخاصّة و العامّة عدم فهم أبي بكر
معنى الأبّ الوارد في سورة عبس، منهم: الزمخشريّ۱ و ابن كثير٢ و الخازن٣ و أبو السعود٤ و السيوطيّ.٥ فقد روى هؤلاء أنّ أبا بكر لم يعرف معنى الأبّ، و قد صرّح بذلك. و يضاف إليه أنّ عمر لم يعرفه أيضاً، حيث اعترف بجهله لمّا تلا الآية المذكورة على المنبر، و نصّ على أنّ البحث عن معنى الأبّ تكلّف في القرآن، و ليس علينا أن نعرف معناه. فاعملوا بما عرفتم معناه من القرآن، وَ كِلوا ما لا تعرفونه إلى الله! و فيما يأتي نصّ ما قاله السيوطيّ:
أخرج أبو عبيدة في فضائله، و عبد بن حميد عن إبراهيم التميميّ قال: سئل أبو بكر عن قوله: وَ أبّاً، فقال: أي سَماءٍ تُظِلُّنِي، وَ أي أرْضٍ تُقِلُّنِي إذَا قُلْتُ في كِتَابِ اللهِ مَا لَا أعْلَمُ؟ و أخرج سعيد بن منصور، و ابن جرير، و ابن سعد، و عبد بن حميد، و ابن المنذر، و ابن مردويه، و البيهقيّ في «شعب الإيمان»، و الخطيب، و الحاكم، و صحّحه عن أنس أنّ عمر قرأ على المنبر: فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا ، وَ عِنَباً وَ قَضْباً -إلى قَوْلِهِ- وَ أبّاً، قَالَ: كُلُّ هَذَا قَدْ عَرَفْنَاهُ؛ فَمَا الأبُّ؟ ثُمَّ رَفَضَ عَصاً كَانَتْ في يَدِهِ؛ فَقَالَ: هَذَا لَعَمْرُ اللهِ هُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْكَ أن لَا تَدْرِي مَا الأبُّ؛ اتَّبِعُوا مَا بُيِّنَ لَكُمْ هُدَاهُ مِنَ الكِتَابِ فَاعْمَلُوا بِهِ؛ وَ مَا لَمْ تَعْرِفُوهُ فَكِلُوهُ إلَى رَبِّهِ!
(فلينظر الإنسان إلى طعامه ، أنّا صببنا الماء صبّاً ، ثمّ شققنا الأرض
شقّاً ، فأنْبَتْنا فيها حبّاً ، و عنباً و قضباً، و خُضَراً طريّة طازجة تقطف، ثمّ تنمو ثانية، و أنبتنا شجر الزيتون، و التمر، و حدائق مملوءة بأشجار كثيفة، و فواكه، و أعشاب للبهائم متاعاً لكم و لأنعامكم).۱
و اكتفى الحاكم في مستدركه بذكر الرواية الواردة عن عمر في عدم معرفة معنى الأبّ، و النهي عن التكلّف في القرآن. و روى ذلك عن عمر بسنده المتّصل عن أنس بن مالك؛ ثمّ قال بعد ذلك: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، و لم يخرجاه.٢
و روى السيوطيّ أيضاً -بعد هذين الحديثين المذكورين عن أبي بكر و عمر- عن عبد بن حميد، و ابن الأنباريّ في «المصاحف»، عن أنس قال: قرأ عمر وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا، قال: هذا الفاكهة قد عرفناها، فما الأبّ؟ ثمّ قال: مَهْ نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ.٣
و أخرج السيوطيّ أيضاً عن عبد بن حميد، عن عبد الرحمن بن يزيد أنّ رجلًا سأل عمر عن قوله: وَ أبّاً، فلمّا رآهم يقولون، أقبل عليهم بالدرّة.۱
و قال العلّامة الفقيد آية الله الطباطبائيّ رضوان الله عليه في ذيل الحديث الأخير بعد نقل هذه الأحاديث عن تفسير «الدرّ المنثور»: هو مبنيّ على منعهم عن البحث عن معارف الكتاب حتى تفسير ألفاظه.٢
و يستبين من تفريع قوله: مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ على الآيات السابقة أنّ الأبّ هو كلأ الماشية من غنم و بقر و إبل، نحو العلف و العشب الخاصّ بالبهائم كالتبن، و البرسيم، و العلف الصحراويّ و النبات الطبيعيّ. ذلك أنّه بعد أن عدّد النباتات على الأرض كالحبّ، و العنب، و الخضر المقطوفة (مثل الكرّاث و البقدونس و الشبت و غيرها) و الزيتون و التمر و أنواع الفواكه و هي كلّها للإنسان ذكر الأبّ، ثمّ إنّه جعل المجموعة التي عدّدها متاعاً للإنسان و الأنعام، فيستبين أنّ معنى الأبّ هو العلف النابت في المراتع و المروج، و الصحاري، و هو طعام الحيوانات.
و تحدّث ابن حجر العسقلانيّ في كتابه «فتح الباري» دفاعاً عن حرمة الشيخين، و تنزيهاً لساحتهما عن لوث الجهل بكتاب الله بما فيه ألفاظه، مع زعمه أنّهما خليفتا رسول الله الذي أتى بالقرآن. و ذكر عبارة تدلّ على أنّه لا يعرف الألف من الباء.
قيل: سئل ابنٌ لبستانيّ: كم مرّة في اليوم يسقى أبوك الأزهار؟ و لمّا لم يعلم، و أراد أن يتملّص من الجواب، قال: ليس في بستان أبي أزهار
فتحتاج إلى الماء.۱
و ابن حجر يقول أيضاً: و قيل: إنّ الأبّ ليس بعربيّ، و يؤيّده خفاؤه على مثل أبي بكر و عمر.٢
و هذا كلام عجيب بلغ من الوهي و الوهن أنّه هو ذاته خجل منه، فنسب إلى نفسه هذا الاحتمال، و قال رجماً بالغيب: قيل!
و ذلك: أوّلًا: لما ذا استعمل القرآن الكريم الذي أتى بأفصح الألفاظ و أبلغها كلمة غريبة هنا في غير سَدَد، حتى غابت عن الأذهان، و ظلّ معناها غامضاً على الخليفتين؟
ثانياً: إذا كانت هذه الكلمة غير عربيّة، فلما ذا ذكرها أصحاب اللغة و المصنّفون و المؤلّفون الكبار في هذا الفنّ كسائر المفردات العربيّة في كتبهم، و لم يشيروا إلى عجمتها و غرابتها؟
ثالثاً: وردت روايات جمّة في معنى الأبّ من طرق العامّة، و ذلك في تفسير «الدرّ المنثور»، و «تفسير ابن كثير» و فيهما أنّ معناه هو العلف الذي تأكله الحيوانات.
نحو: رواية ابن المنذر، عن السدّيّ أنّه قال: الحدائق: البَسَاتين [و القَضْب: ما قدُم من الأشجار] و الأبّ العشب. و قال في معنى قوله تعالى: مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ: الفاكهة لكم، و العشب لأنعامكم (الإبل و البقر و الغنم).٣
و رواية عبد بن حميد عن الضّحاك، قال: الفاكهة التي يأكلها بنو آدم. و الأبّ المرعى.۱
و رواية عبد بن حميد عن عكرمة، قال: الفاكهة ما تأكل الناس. و الأبّ ما تأكل الدوابّ.٢
و روايته عن الحسن، قال: ما طاب و احلولي فلكم. و الأبّ لأنعامكم.٣
و روايته عن سعيد بن جبير، قال: وَ أبّاً الكلأ.٤
و روايته عن أبي مالك، قال: الأبّ: الكلأ.٥
و روايته عن عطاء، قال: كلّ شيء ينبت على الأرض، فهو الأبّ.٦
رابعاً: للأبّ جذر عربيّ، و قد ورد في أشعار العرب، كما قال السيوطيّ: و أخرج الطستيّ في مسائله عن ابن عبّاس أنّ نافع بن الأزرق سأله عن قوله: وَ أبّاً. فقال ابن عبّاس: الأبّ ما يعتلف منه الدوابّ. قال نافع: و هل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم! أ ما سمعت قول الشاعر:
تَرَى بِهِ الأبَّ وَ اليَقْطِينَ مُخْتَلِطاً | *** | عَلَى الشَّرِيعَةِ يَجْرِي تَحْتَهَا العَذبُ۷ |
و ذكر الزمخشريّ في تفسير «الكشّاف»، و نقل عنه الفخر الرازيّ أيضاً أنّ: الأبُّ المَرْعَى؛ لأنّه يُؤَبُّ أي يُؤَمّ وَ يُنْتَجَعُ؛ وَ الأبُّ وَ الأمُ
أخَوانِ؛ قَالَ:
جذْمُنَا قَيْسٌ وَ نَجْدٌ دَارُنَا | *** | وَ لَنَا الأبُّ بِهِ وَ المَكْرَعُ۱ |
يفتخر الشاعر هنا على غيره بالشرف و الشجاعة، لأنّ أصله من قَيْس، و له المرعى و مورد الماء.
و قال ابن الأثير في مادّة أبَبَ بعد عرض حديث عمر، و اعترافه بجهله، و نهيه عن التكلّف في القرآن: الأبّ المرعى المتهيّئ للرعي و القطع. و قيل: الأبّ من المرعى للدوابّ كالفاكهة للإنسان. و منه قول قُسِّ بن ساعدة:٢ فَجَعَلَ يَرْتَعُ أبّاً وَ أصِيدُ ضَبَّاً.٣
و أمّا البخاريّ فقد أسقط في صحيحه صدر الحديث المتمثّل بسؤال أبي بكر و عمر عن الأبّ، و عدم علمهما به، و اقتصر على ذيل حديث عمر إذ روى عنه أنس فقال: كُنّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ.٤
و حاول الزمخشريّ أيضاً أن يدافع عن حرمة الشيخين، و أراد تنزيه ساحتهما بفلسفة مبتورة واهية. فقد ذكر في تفسيره كما قلنا الروايتين كلتيهما في عدم فهم الشيخين معنى الأبّ، و نهى عمر عن التكلّف في
القرآن؛ ثمّ قال:
إن قلت: فهذا يشبه النهي عن تتبّع معاني القرآن و البحث عن مشكلاته. قلتُ: لم يذهب إلى ذلك، و لكنّ القوم كانت أكبر همّتهم عاكفة على العمل، و كان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلّفاً عندهم.
فأراد أنّ الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطعمه و استدعاء شكره؛ و قد عُلم من فحوى الآية أنّ الأبّ بعض ما أنبته الله للإنسان متاعاً له أو لأنعامه (الإبل و البقر و الغنم).
[يقول عمر إذَن]: فعليك بما هو أهمّ من النهوض بالشكر للّه على ما تبيّن لك و لم يشكل ممّا عدّد من نعمه! و لا تتشاغل عنه بطلب معنى الأبّ و معرفة النبات الخاصّ الذي هو اسم له! و اكتفِ بالمعرفة الإجماليّة إلى أن يتبيّن لك في غير هذا الوقت. ثمّ وصّى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن.۱
و لا يصّح هذا الجواب أيضاً، لأنّه على الرغم من أنّه لم ينف جهل الشيخين معنى الأبّ، فلم يُعْلَم كيف يكون السؤال عن معنى ظاهر و بسيط للفظ من ألفاظ القرآن تكلّفاً؟! أ ليس للناس بما فيهم العرب أن يسألوا عن معناه الظاهر و ألفاظه، و هو الذي جاء للتدبّر و التأمّل و التفكّر؟
و سنناقش فيما بعد إن شاء الله و بحوله و قوّته سبب منع الشيخين نقل الأحاديث النبويّة، و خاصّة نهى عمر الشديد المقرون بالعقوبة و التعذيب عن البحث في الآيات القرآنيّة، و معرفة شأن نزولها، و التأمّل و التفكّر فيها، و كذلك نهيه عن تدوين الحديث. و سنبيّن أنّه لم يهدف إلّا إلى ترك الأذهان فجّة غير ناضجة، و إبقائها غريبة عن الولاية و الآيات الواردة بشأن
مولى الموالى أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين.
عدم معرفة أبي بكر معنى الكلالة في القرآن
ذكر الشيخ المفيد في «الإرشاد» أنّ أبا بكر سئل عن الكلالة، فقال: أقُولُ فِيهَا بِرَأيِي؛ فَإنْ أصَبْتُ فَمِنَ اللهِ؛ وَ إنْ أخْطَأتُ فَمِنْ نَفْسِي وَ مِنَ الشَّيْطَانِ.
فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فقال: مَا أغْنَاهُ عَنِ الرّأيِ في هَذَا المَكَانِ! أ مَا عَلِمَ أنّ الكَلَالَةَ هُمُ الإخْوَةُ وَ الأخَواتُ مِنْ قِبَلِ الأبِ وَ الامِّ؛ وَ مِنْ قِبَلِ الأبِ عَلَى انفِرَادِهِ؛ وَ مِنْ قِبَلِ الامِّ أيْضاً عَلَى حِدَتِهَا (في النسخة البدل: انفرادها)؟!
قَالَ اللهُ عزّ و جلّ: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ۱؛ وَ قَالَ عَزَّ قَائِلًا: وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ.٢
و لذلك نرى أنّ الله تعالى ورّث الكلالة التي تشمل الاخت من الأب و الامّ، و الاخت من الأب، في الآية الاولى نصف ما ترك الميّت. و قرّر لها في الآية الثانية التي تخصّ الأخ أو الاخت من الامّ السُّدس أو الثلث في فرض الانفراد أو الاجتماع.
فعلى هذا يلاحظ للكلالة في القرآن معنى معيّن. فهو يطلق أوّلًا على الأخوات و الإخوة من الأب و الامّ، و ثانياً عليهم من الأب، و ثالثاً عليهم من الامّ. و هذا الحكم منصوص عليه في القرآن لهذا الموضوع. و يستعمل الرأي في المواضع التي ليس فيها نصّ. و لذلك قال عليه السلام: ما أغناه
عن الرأي في هذا المكان! و هذه المسألة ليست مسألة نظريّة، فتحتاج إلى الرأي. و إنّما هي مسألة لغويّة، بيّنت الآية القرآنيّة حكمها بصراحة.
و ذكر الملّا عليّ المتّقي في «كنز العمّال» روايات جاء فيها أنّ أبا بكر و عمر لم يعرفا معنى الكلالة، منها: روى عن الشعبيّ مثل صدر الرواية التي نقلناها عن «الإرشاد» للمفيد، و فيها أنّ أبا بكر قال: لا أعلم، و بعد ذلك أضاف جملة قالها أبو بكر، و نصّها: أرَاهُ مَا خَلَا الوَالِدِ وَ الوَلَدِ.
و لمّا استخلف عمر، قال الكَلَالَةُ مَا عَدَا الوَلَد. و في لفظ آخر: مَن لَا وَلَدَ لَهُ. فلمّا طعن (بخنجر أبي لؤلؤة)، قال: إنّي أستحي من الله أن اخالف أبا بكر. أرى أنّ الكلالة هم ما عدا الوالد و الولد.۱
و كذلك روى الملّا عليّ المتّقي عن سعيد بن المسيّب أنّ عمر سأل رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) كيف يورث الكلالة. فقال صلى الله عليه و آله: أ وَ لَيْسَ قَدْ بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ؟ ثمّ قرأ [الآية الكريمة]:
وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ... إلى آخر الآية.
فكأنّ عمر لم يفهم، فقال لحفصة: إذا رأيتِ من رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم) طيب نفس فاسأليه عنها!
(و لمّا سألته حفصة)، قال: أبوكِ ذكر لك هذا! مَا أرَى أبَاكِ يَعْلَمُهَا أبَداً.
فكان عمر يقول: مَا أرَانِي أعْلَمُهَا أبَداً وَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ مَا قَالَ.۱
و روى مسلم و أحمد و ابن ماجة و البيهقيّ و الطبريّ و القرطبيّ جميعاً عن معدان بن أبي طلحة اليعمريّ أنّه قال: إنّ عمر بن الخطّاب خطب يوم جمعة، و ذكر نبيّ الله صلى الله عليه و آله، و ذكر أبا بكر، ثمّ قال: إنّي لا أدع بعدي شيئاً أهمّ عندي من الكلالة. [و] ما راجعت رسول الله في شيء ما راجعته في الكلالة. و ما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه حتى طعن بإصبعه في صدري و قال: يَا عُمَرُ! أ لَا تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ التي في آخِرِ سُورَةِ النّسَاءِ؟٢
[و قال عمر]: و إنّي إن أعش أقض فيها بقضيّة يقضي بها من يقرأ القرآن و من لا يقرأ القرآن.٣
قال السيوطيّ: قال مسروق: سألت عمر [بن الخطّاب] عن ذي قرابة لي ورث كلالة: فقال الكَلَالَة، الكَلَالَة، و أخذ بلحيته، ثمّ قال: و الله لأن أعلمها أحبّ إليّ من أن يكون لي ما على الأرض من شيء. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه [و آله]، فقال: أ لم تسمع الآية التي انزلت في الصيف؟ فأعادها ثلاث مرّات.
و روى الحاكم في «المستدرك» عن محمّد بن طلحة، عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: لأنْ أكُونَ سَألْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ عَنْ ثَلَاثٍ أحَبُّ إلَيّ مِنْ حُمْرِ النّعَمِ: مَنِ الخَلِيفَةُ بَعْدَهُ؟ وَ عَن قَوْمٍ قَالُوا: نُقِرّ بِالزَّكَاةِ في أمْوَالِنَا وَ لَا نُؤَدِّيهَا إلَيْكَ، أ يَحِلُّ قِتَالُهُمْ؟ وَ عَنِ الكَلَالَةِ.۱
و كذلك روى ضمن رواية عن حذيفة بن اليمان قال: لمّا نزلت الآية: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ، علّمها رسول الله صلى الله عليه و آله حذيفة، و علّمها حذيفة عمر، ثمّ سأل عمر حذيفة عنها، فقال: وَ اللهِ إنّكَ لأحْمَقُ إن كُنْتُ ظَنَنْتُ إنّهُ لَقَّانِيهَا رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ فَلَقَّنْتُكمْ كَمَا لَقَّانِيهَا رَسُولُ اللهِ! وَ اللهِ لَا أزيدُكَ عَلَيْهَا شَيْئاً أبَدَاً.
اعتراض يهوديّ على أبي بكر حول مكان الله، و جواب الإمام عليّ عليه السلام
و ذكر الشيخ المفيد في «الإرشاد» أنّه جاءت الرواية أنّ بعض أحبار إليهود جاء إلى أبي بكر فقال له: أنتَ خليفة نبيّ هذه الامّة؟! فقال له: نعم!
فقال: إنّا نجد في التوراة أنّ خلفاء الأنبياء أعلم اممهم! فأخبرني عن الله تعالى أين هو؟ أ في السماء أم في الأرض؟
فقال أبو بكر: هو في السماء على العرش.
فقال اليهوديّ: فأرى الأرض خالية منه. و أراه على هذا القول في مكان دون مكان!
فقال له أبو بكر: هذا كلام الزنادقة؛ اغرب عنّي، و إلّا قتلتك!
فولّى الحبر متعجّباً يستهزئ بالإسلام. فاستقبله أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا يهوديّ! قد عرفتُ ما سألتَ عنه و ما اجبت به. و إنّا نقول: إنّ اللهَ عزّ و جلّ، أيَّنَ الأيْنَ، فَلَا أيْنَ لَهُ، وَ جَلَّ أنْ يَحْوِيَهُ مَكانٌ؛ وَ هُوَ في كُلِّ مَكَانٍ بِغَيْرِ مُمَاسَّةٍ، وَ لَا مُجَاوَرَةٍ يُحِيطُ عِلْمَاً بِمَا فِيهَا؛ وَ لَا يَخْلُو شَيءٌ مِنْهَا مِنْ تَدْبِيرِهِ.
[ثمّ قال له أمير المؤمنين]: و إنّي مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدّق ما ذكرته لك. فإن عرفته، أ تؤمن به؟ فقال اليهوديّ: نعم!
فقال [أمير المؤمنين عليه السلام]: أ لستم تجدون في بعض كتبكم أنّ موسى بن عمران على نبيّنا و آله و عليه السلام كان ذات يوم جالساً إذ جاءه مَلَك من المشرق، فقال له موسى: من أين أقبلتَ؟! قال: من عند الله عزّ و جلّ!
ثمّ جاءه مَلَك من المغرب، فقال له: من أين جئتَ؟! فقال: من عند الله عزّ و جلّ!
ثمّ جاءه ملك، فقال: قد جئتك من السماء السابعة، من عند الله عزّ و جلّ. و جاءه ملك آخر، فقال له: قد جئتك من الأرض السفلى السابعة من عند الله تعالى!
فَقَالَ موسى عَلَى نَبِيِّنَا وَ آلِهِ وَ عَلَيهِ السَّلَامُ: سُبْحَانَ مَنْ لَا يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ وَ لَا يَكُونُ مِنْ (في النسخة البدل: إلى) مَكَانٍ أقْرَبُ مِنْ مَكَانٍ.
فقال اليهوديّ: أشهد أنّ هذا هو الحقّ؛ و أنّك أحقّ بمقام نبيّك ممّن
استولى عليه.۱
و أمثال هذه الأخبار كثيرة، و فيها أنّ أبا بكر عجز عن جواب علماء اليهود و النصارى. و لو لا أمير المؤمنين عليه السلام و إغاثته بالجواب، لسوّى اليهود و النصارى أبا بكر و أمثاله مع الأرض، و لقطعوا دابر الإسلام و المسلمين. و ما أحسن و أروع ما أنشده الشاعر الكبير في قياس و إلى مقام الولاية و الإمامة بأبى بكر؛ الحاكم الغاصب المفروض على الامّة، إذ قال:
تَبَّاً لِنُصَّابَةِ الأنَامِ وَ قَدْ | *** | تَهَافَتُوا بِالَّذِي بِهِ فَاهُوا |
قَاسُوا عَتِيقَاً بِحَيْدَرٍ عَمِيَتْ | *** | عُيُونُهُمْ بِالَّذِي بِهِ تَاهُوا |
كَمْ بَيْنَ مَنْ شَكَّ في هِدَايَتِهِ | *** | وَ بَيْنَ مَنْ قَالَ: إنّهُ اللهُ |
أهْلُ الوَرَى عَجَزُوا عَنْ وَصْفِ حَيْدَرَةً | *** | وَ العَارِفُونَ بِمَعْنَى وَصْفِهِ تَاهُوا |
إنْ أدْعُهُ بَشَراً فَالْعَقْلُ يَمْنَعُنِى | *** | وَ أخْتَشِي اللهَ في قَوْلِي هُوَ اللهُ |
و بلغ أبو بكر من الحمق و الجهل درجة أنّ عمر سمّاه: احَيْمقُ بَنِي تَيْمٍ، و سمّى ابنه عبد الرحمن دُوَيْبَّةُ سُوءٍ، و كان يرى أنّه أفضل من أبيه. و تحدّث ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» مفصلًا، نقلًا عن الشريف المرتضى في «الشافي»، فذكر رضا عمر في ظاهره بخلافة أبي بكر، و كرهه لها في باطنه، ثمّ نقل الرواية الآتية دليلًا على هذه الحقيقة، فقال:
روى هَيْثَمُ بْنُ عَدِيّ عن عبد الله بن عبّاس الهَمْدانيّ، عن سعيد بن جبير أنّه قال: ذكر أبو بكر و عمر عند عبد الله بن عمر. فقال رجل: كَانَا وَ اللهِ شَمْسَي هَذِهِ الامَّةِ وَ نُوْرَيْهَا.
فقال ابن عمر: و ما يدريك؟! قال الرجل: أو ليس قد ائتلفا؟! قال ابن عمر: بل اختلفا لو كنتم تعلمون! أشهد أنّي كنت عند أبي يوماً، و قد أمرني أن أحبس الناس عنه! فاستأذن عليه عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال عمر: دُوَيْبَّةُ سُوءٍ وَ لَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أبِيهِ.
فأوحشني ذلك منه، فقلت: يا أبت! عبد الرحمن خير من أبيه؟!
فقال: و من ليس بخير من أبيه لا امّ لك! ائذن لعبد الرحمن.
فدخل عليه، فكلّمه في الحُطَيْئَة الشاعر أن يرضى عنه و قد كان عمر حبسه في شعر قاله فقال عمر: إنّ في الحطيئة أوداً، فدعني اقوّمه بطول حبسه! فألحّ عليه عبد الرحمن، و أبي عمر، فخرج عبد الرحمن، فأقبل عَلَيّ أبي و قال: أ فِي غَفْلَةٍ أنْتَ إلَى يَوْمِكَ هَذَا عَمَّا كَانَ مِنْ تَقَدُّمِ احَيْمِقِ بَنِي تَيْمٍ وَ ظُلْمِهِ لِي؟!
فقلتُ: لأعلم لي بما كان من ذلك!
قال: يا بُنيّ! فما عسيت أن تعلم! فقلتُ: و الله لهو أحبّ إلى الناس من ضياء أبصارهم! قال: إنّ ذلك لكذلك على رغم أبيك و سخطه! قلتُ: يا أبَتِ! أ فلا تُجلّى عن فعله بموقف في الناس تبيّن ذلك لهم؟!
قال: و كيف لي بذلك مع ما ذكرت أنّه أحبّ إلى الناس من ضياء أبصارهم؟
إذاً يرضخ رأس أبيك بالجندل!
قال ابن عمر: ثمّ تجاسر [أبي] و الله فجسر. فما دارت الجمعة حتى قام خطبياً في الناس، فقال: أيُّهَا النّاسُ! إنّ بَيْعَةَ أبِي بَكْرٍ كَانَتْ فَلْتَةً وَقَى
اللهُ شَرّهَا. فَمَنْ دَعَاكُمْ إلَى مِثْلِهَا فَاقْتُلُوهُ!۱
جهل الشيخين بالمسائل الشرعيّة
قال ابن شهرآشوب: سأل رجل أبا بكر عن رجل تزوّج بامرأة عند الصبح، فولدت عشيّة، فحاز ميراثه الابن و الامّ، فلم يعرف.
فقال عليّ عليه السلام: هَذَا رَجُلٌ لَهُ جَارِيةٌ حُبْلَى مِنْهُ فَلَمَّا تَمَخَّضَت مَاتَ الرّجُلُ.٢
و المراد أنّ هذا الرجل كانت له جارية، حملت منه، ثمّ أعتقها، و بعد ذلك تزوّجها صباحاً، فولدت عشيّة، ثمّ مات الرجل، فورثته المرأة و الولد.
يقول الفضل بن شاذان في احتجاجاته على العامّة: رويتم عن عبد الأعلى، عن سعيد بن قتادة أنّ عمر بن الخطّاب خطب للناس، فقال: ألا لا أعلم رجلًا تزوّج على أكثر من أربعمائة درهم، إلّا أنهكته عقوبةً!
قال [ابن قتادة]: فأتته امرأة، فقالت: مَا لَنَا وَ لَكَ يَا عُمَرُ؟ قَوْلُ اللهِ أعْدَلُ مِنْ قَوْلِكَ وَ أوْلَى أنْ يُتَّبَعَ، فقال عمر: ما قال الله تعالى؟! قالت: قال الله عزّ و جلّ:
وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ، وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً.٣
[ثمّ قالت المرأة لعمر]: القنطار بمقدار دية الإنسان،٤ و هو أكثر من
أربعمائة درهم فقال عمر: كُلُّ أحَدٍ أفْقَهُ مِنْ عُمَرَ.
ثمّ عاد إلى المنبر، فخطب، فقال: أيُّهَا النّاسُ! إنّي كُنْتُ نَهَيْتُ أنْ يَتَزَوَّجَ الرّجُلُ عَلَى أكْثَرَ مِنْ أرْبَعمائَةِ دِرْهَمٍ وَ إنّ امْرَأةً أفْقَهُ مِنْ عُمَرَ جَاءَتَنِي فَحَاجَّتْني بِكِتَابِ اللهِ فَحَجَّتْ وَ فَلَجَتْ؛ وَ إنّ المَهْرَ مَا تَرَاضَى بِهِ المُسْلِمُونَ.۱
و نقل استاذنا الكريم العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه عن تفسير «الدرّ المنثور» أنّ السيوطيّ حكاه عن عبد الرزّاق، و ابن المنذر عن عبد الرحمن السُّلَميّ، و أيضاً عن سعيد بن منصور، و أبي يعلى بسند جيّد عن مَسْرُوق، و كذلك عن سعيد بن منصور و عبد بن حميد، عن بكر بن عبد الله المُزْنيّ.٢ و روى عن الزبير بن بكّار في «الموفّقيّات» عن عبد الله بن مصعب قال: قال عمر: لَا يَزِيدُوا في مُهُورِ النّسَاءِ عَلَى أرْبَعِينَ اوقِيَّة فَمَنْ زَادَ ألْقَيْتُ الزيَادَةَ في بَيْتِ المَالِ الرواية.٣
و ذكر العلّامة الأمينيّ هذه القصّة بتسع صور نقلًا عن المصادر التأريخيّة المهمّة، و مشايخ الحديث و التفسير. و جاء في بعضها أنّ عمر قال: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين اوقيّة، و إن كانت بنت ذي
الفضّة، [يعني يزيد بن الحصين الحارثيّ]۱ فقامت امرأة من صفّ النساء طويلة في أنفها فَطَس، فقالت: ما ذاك لك. فقال عمر: امرأة أصابت و رجل أخطأ.
و ورد في بعضها أنّ عمر قال: كُلُّ أحَدٍ أفْقَهُ مِنْ عُمَرَ. و كرّرها مرّتين أو ثلاثاً.
و جاء في بعضها أنّه قال لأصحابه بعد هذا الكلام: تَسْمَعُونَنِي أقُولُ مِثْلَ القَوْلِ فَلَا تُنْكِرُونَهُ عَلَيّ حتى تَرُدَّ عَلَيّ امْرَأةٌ لَيْسَتْ مِنْ أعْلَمِ النّسَاءِ!
و قال عمر في بعضها: إنّ امْرَأةً خَاصَمَتْ عُمَرَ فَخَصَمَتْهُ.
و في بعضها: كُلُّ أحَدٍ أعْلَمُ مِنْ عُمَرَ. و في بعضها: وَ كُلُّ النّاسِ أفْقَهُ مِنْ عُمَرَ.٢
و في بعضها: كُلُّ النّاسِ أفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حتى رَبَّاتِ الحِجَالِ؛ ألَا تَعْجَبُونَ مِنْ إمَامٍ أخْطَأ وَ امْرَأةٍ أصَابَتْ؛ فَاضَلَتْ إمَامَكُمْ فَنَضَلَتْهُ!
و في بعضها: كُلُّ النّاسِ أفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حتى المُخَدَّراتِ في البُيُوتِ.
جمع الحاكم النيسابوريّ طرق هذه الرواية لعمر في جزء كبير كما قاله في مستدركه، ج ٢، ص ۱۷۷، و قال: تواترت الأسانيد الصحيحة بصحّة خطبة عمر بن الخطّاب بذلك. و أقرّه الذهبيّ في «تلخيص المستدرك». و أخرجه الخطيب البغداديّ في تاريخه ج ٣، ص ٢٥۷ بعدّة طرق، و صحّحها.۱
استدلال قُدامة على حلّيّة الخمر للمؤمن، و قبول عمر
و قال الفضل بن شاذان في احتجاجه على العامّة أيضاً: و رويتم أنّه اوتيَ بقُدَامَة بن مَظْعُون،٢ و قد شرب الخمر، فأمر عمر بجلده، فقال
[له] قدامة: يا أمير المؤمنين! ليس عَلَيّ جلد. إنّما أنا من أهل هذه الآية: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.۱
فأراد عمر تركه، فقال عليّ عليه السلام: إنّ أهل هذه الآية لا يأكلون و لا يشربون إلّا ما أحلّ الله لهم؛ و هم إخواننا الماضون.
فإن أقام على أنّها حلال، فاقتله. و إن أقرّ أنّها حرام، فاجلده.
قال عمر: و كم جلدةً؟! قال عليّ عليه السلام: إنّ الشارب إذا شرب، سكر. و إذا سكر هذي. و إذا هذي افترى. فاجلده حَدَّ المُفْتَرِي! قال: فجُلد ثمانين جلدة.٢
و قال الشيخ المفيد في «الإرشاد»، و ابن شهرآشوب في «المناقب»: نقل العامّة و الخاصّة شرب قدامة بن مظعون الخمر، و استدلاله بالآية الكريمة: نَفي الجُنَاح، و تبرئة عمر إيّاه. و قالوا: لمّا بلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السلام، مشى إلى عمر، فقال له: لِمَ تركت إقامة الحدّ على قُدامة في شرب الخمر؟! فقال: إنّه تلا عَلَيّ الآية، و تلاها عمر.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: لَيْسَ قُدَامَةُ مِنْ أهْلِ هَذِهِ الآيةِ، وَ لَا مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُ في ارْتِكَابِ مَا حَرّمَ اللهُ، إنّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا يَسْتَحِلُّونَ حَرَاماً. فاردد قُدامةَ، و استتبه ممّا قال! فإن تاب، فأقم عليه الحدّ. و إن لم يتب فاقتله! فقد خرج عن الملّة!
فاستيقظ عمر لذلك، و عرّف قدامة الخبر. فأظهر التوبة و الإقلاع.
فأدرأ عمر عنه القتل. و لم يدر كيف يحدّه، فقال لأمير المؤمنين عليه السلام: أشِرْ عَلَيّ في حَدِّهِ.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: حدّه ثمانين. إنّ شارب الخمر إذا شربها سكر، و إذا سكر هذي، و إذا هذي افترى. فجلده عمر ثمانين، و صار إلى قوله في ذلك.۱
و روى المجلسيّ هذه القضيّة في «بحار الأنوار» بنفس الألفاظ التي ذكرناها، و ذلك عن «المناقب» لابن شهرآشوب و «بشارة المصطفي» للطبريّ، ثمّ رواها باختلاف يسير عن «الكافي» للكلينيّ، عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن عبد الله بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام.٢ و عدّ ذلك من مطاعن عمر، و جعلها الطعن التاسع من مطاعنه.٣
دية الجنين و قطع رأس الميّت بعد الموت
و من قضاء أمير المؤمنين عليه السلام: حكمه بأربعين ديناراً دية للجنين الذي كان علقة في بطن امّه.
ذكر الشيخ المفيد في «الإرشاد» أنّ رجلًا ضرب امرأة، فألقت علقة. فقضى أمير المؤمنين عليه السلام أنّ عليه ديتها أربعين ديناراً. و تلا قوله عزّ و جلّ:
وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلنَٰهُ نُطفَة فِي قَرَار مَّكِين ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.۱
ثمّ قال عليه السلام: في النطفة عشرون ديناراً؛ و في العلقة أربعون ديناراً؛ و في المضغة ستّون ديناراً؛ و في العظم قبل أن يستوي خلقاً ثمانون ديناراً؛ و في الصورة قبل أن تلجها الروح مائة دينار. فإذا ولجتها الروح كان فيها ألف دينار. (دية إنسان كامل).
و قال الشيخ المفيد بعد نقل هذا الحكم: فهذا طرف من قضايا أمير المؤمنين عليه السلام و أحكامه الغريبة التي لم يقض بها أحد قبله؛ و لا عرفها من العامّة و الخاصّة أحد إلّا عنه. و اتّفقت عترته على العمل بها؛ و لو مُني غيره بالقول فيها، لظهر عجزه عن الحقّ في ذلك كما ظهر فيما هو أوضح منه.٢
و لعلّ مراد الشيخ المفيد من عمل عترة أمير المؤمنين عليه السلام بهذا النهج هو الروايات المأثورة عن الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين في دية الجنين خلال مراحله المختلفة إذ عيّنوها على هذا المنوال.
منها: رواية رواها الكلينيّ بسنده المتّصل عن سعيد بن المسيّب، عن عليّ بن الحسين عليه السلام. و تعيّن فيها أنّ حدّ النطفة أربعون يوماً في الرحم، و حدّ العلقة ثمانون يوماً، و حدّ المضغة مائة و عشرون يوماً.۱
و منها رواية رواها الكلينيّ، و الشيخ الطوسيّ عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن الحسن بن موسى، عن محمّد بن الصباح، عن بعض أصحابنا، قال: أتى الربيع أبا جعفر المنصور و هو خليفة في الطواف فقال له: يا أمير المؤمنين! مات فلان مولاك البارحة، فقطع فلان مولاك رأسه بعد موته!
فاستشاط [المنصور] و غضب، قال: فقال لابن شِبْرَمة و ابن أبي ليلى و عدّة معه من القضاة و الفقهاء: ما تقولون في هذا؟! فكلٌّ قال: ما عندنا في هذا شيء! فجعل [المنصور] يردّد المسألة في هذا، و يقول: أقتله أم لا؟! فقالوا: ما عندنا في هذا شيء!
فقال له بعضهم: قد قدم رجل الساعة. فإن كان عند أحد شيء، فعنده الجواب في هذا، و هو جعفر بن محمّد؛ و قد دخل المَسعَى!
فقال [المنصور] للربيع: اذهب إليه فقل له: لو لا معرفتنا بشغل ما أنت فيه (السعي بين الصفا و المروة) لسألناك أن تأتينا، و لكن أجبنا في كذا و كذا! فأتاه الربيع، و هو على المروة، فأبلغه الرسالة.
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: قد ترى شغل ما أنا فيه. و قبلك
الفقهاء و العلماء فسلهم!
قال فقال له: قد سألهم [المنصور] و لم يكن عندهم فيه شيء!
فردّه [الإمام عليه السلام] إلى المنصور. فقال [الربيع]: أسألك إلّا أجبتنا فيه فليس عند القوم في هذا شيء!
فقال له أبو عبد الله عليه السلام: حتى أفرغ ممّا أنا فيه! و لمّا فرغ، جاء فجلس في جانب المسجد الحرام. فقال للربيع: اذهب فقل له: عليه مائة دينار! فأبلغه ذلك. فقال له: فسله كيف صار عليه مائة دينار؟
فقال أبو عبد الله عليه السلام: في النطفة عشرون. و في العلقة عشرون، و في المضغة عشرون، و في العظم عشرون، و في اللحم عشرون، ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ. و هذا هو ميّت بمنزلته قبل أن ينفخ فيه الروح في بطن امّه جنيناً.
فرجع [الربيع]، فأخبره بالجواب، فأعجب الفقهاء ذلك، و قالوا [للربيع]: ارجع إليه فسله الدنانير لمن هي، لورثته أم لا؟!
فقال أبو عبد الله عليه السلام: ليس لورثته فيها شيء، إنّما هذا شيء اتي إليه في بدنه بعد موته يُحَجُّ بها عنه، أو يُتَصَدَّقُ بها عنه، أو تصير في سبيل من سبل الخير.
قال الراوي: فزعم الرجل أنّهم ردّوا الرسول إليه، فأجاب فيها أبو عبد الله عليه السلام بستّ و ثلاثين مسألة، و لم يحفظ الرجل إلّا قدر هذا الجواب.۱
حول حلي مكّة المكرّمة و حكم أمير المؤمنين عليه السلام بإبقائها
و من قضايا الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: حكمه بإبقاء الحلي
التي كانت قد جمعت في بيت الله، و كان عمر يقول، و كذلك قيل له: ما تصنع الكعبة بالحلي؟ لو تصرف في تجهيز الجيوش. فاستشار عمر الإمام، فمنعه من ذلك.
ذكر ذلك الشريف الرضي في حِكَم «نهج البلاغة» فقال: و رُوِي أنّهُ ذُكِرَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ حَلْيُ الكَعْبَةِ۱ وَ كَثْرَتُهُ؛ فَقَالَ قَوْمٌ: لَوْ أخَذْتَهُ فَجَهَّزْتَ بِهِ جُيُوشَ المُسْلِمِينَ كَانَ أعْظَمَ لِلأجْرِ؛ وَ مَا تَصْنَعُ الكَعْبَةُ بِالحَلْيِ؟! فَهَمَّ عُمَرُ بِذَلِكَ وَ سَألَ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إنّ القُرآنَ انْزِلَ عَلَى النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ الأمْوَالُ أرْبَعَةٌ: أمْوَالُ المُسْلِمِينَ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الوَرَثَةِ في الفَرَائِضِ؛ وَ الفَيءُ فَقَسَّمَهُ عَلَى مُسْتَحَقِّيهِ؛ وَ الخُمْسُ فَوَضَعَهُ اللهُ حَيْثُ وَضَعَهُ؛ وَ الصَّدَقَاتُ فَجَعَلَها اللهُ حَيْثُ جَعَلَهَا.
وَ كَانَ حَلْيُ الكَعْبَةِ فِيهَا يَوْمِئِذٍ؛ فَتَرَكَهُ اللهُ عَلَى حَالِهِ؛ وَ لَمْ يَتْرُكْهُ نِسْيَاناً، وَ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَكَاناً، فَأقِرّهُ حَيْثُ أقَرّهُ اللهُ وَ رَسُولُهُ!
فَقَالَ عُمَرُ: لَوْلَاكَ لَا فَتْضَحْنَا، وَ تَرَكَ الحَلْيَ بِحَالِهِ.٢
و ذكر ابن شهرآشوب عين هذا الموضوع في مناقبه.٣ كما ذكره بهذه الألفاظ المولى مير محمّد قلي الهنديّ النيسابوريّ والد المير حامد حسين الهنديّ في كتاب «تشييد المطاعن» عن الباب الخامس و السبعين من كتاب
«ربيع الأبرار» للزمخشريّ.
و ذكره أيضاً البخاريّ في صحيحه، في باب كِسْوَةُ الكَعْبَةِ من كتاب الحجّ، و كذلك في كتاب «الاعتصام»؛ و لكنّه لفرط نصبه العداء لأهل البيت، نسب ذلك إلى شيبة بن عثمان، و صرفه عن أمير المؤمنين عليه السلام.۱
و نقله ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» و ذكر بعده وجهين لتأييد مضمون الحديث و صحّة الاستدلال به.
أحدهما: أن يقال: أصل الأشياء الحظر و التحريم. فلا يجوز التصرّف في شيء من الأموال و المنافع إلّا بإذن شرعيّ. و لم يوجد إذن شرعيّ في حلي الكعبة فَبقينا فيه على حكم الأصل [و هو الحظر و التحريم].
الوجه الثاني: أن يقال: حلي الكعبة مال مختصّ بالكعبة هو جار مجرى ستور الكعبة، و مجرى باب الكعبة. فكما لا يجوز التصرّف في ستور الكعبة و بابها إلّا بنصّ [شرعيّ]، فكذلك حلي الكعبة.
و الجامع بينهما الاختصاص الجاعل كلّ واحد من ذلك كالجزء من الكعبة. فعلى هذا الوجه ينبغي أن يكون الاستدلال.٢
و روى العلّامة الأمينيّ ثلاث روايات في هذا الموضوع في كتاب «الغدي» عن البخاريّ و «أخبار مكّة» للازرقيّ و «سنن أبي داود» و «سنن ابن ماجه» و «سنن البيهقيّ» و «فتوح البلدان» للبلاذريّ و «نهج البلاغة» و «الرياض
النضرة» و «ربيع الأبرار» و «تيسير الوصول» و «فتح الباري» و «كنز العمّال».۱
و روى جلال الدين السيوطيّ في كتاب «عَرْفُ الوَرْدِيّ في أخْبَارِ المَهْدِيِّ» عن أبي نعيم بن حمّاد أنّ عمر بن الخطّاب دخل الكعبة و قال: لا أدري و الله هل أترك هذه الأموال و الأسلحة على حالها أو أتصدّق بها في سبيل الله؟! فقال عليّ بن أبي طالب: أنت لست صاحب هذه الأموال! إنّما صاحبها فتى من قريش منّا بني هاشم يقسّمها آخر الزمان في سبيل الله.
موضوع تُبّع و عدم اعتدائه على مجوهرات الكعبة
و ذكر الطبريّ في تاريخه ضمن وقائع أيّام قبّاد و عصر انوشيروان أنّ: تُبَّع و هو تُبَّانُ أسْعَد أبُو كَرِب٢ حين أقبل [في حروبه] من المشرق، جعل طريقه على المدينة، و بدأ حربه عليها.
و حين وصل إليها كان جازماً على تخريبها و تدميرها، و استئصال أهلها. فجاءه حبران من أحبار يهود بني قريظة و هما عالمان راسخان حين سمعا منه ما يريد من إهلاك المدينة و أهلها، فقالا له: أيّها الملك! لا تفعل! فإنّك إن أبيتَ إلّا ما تريد، حيل بينك و بينها، و لم نأمن عليك عاجل العقوبة!
فقال [تبّع] لهما و هما كعب و أسد، و هما ابنا عمّ، و كانا أعلم أهل زمانهما: و لِمَ ذاك؟!
فقالا: هي مهاجر نبيّ يخرج من هذا الحيّ من قريش في آخر
الزمان، تكون داره و قراره!
فتناهى عند ذلك من قولهما عمّا كان يريد بالمدينة، و رأى أنّ لهما عِلماً، و أعجبه ما سمع منهما. فانصرف عن المدينة، و خرج بهما معه إلى اليمن، و اتّبعهما على دينهما. لأنّه و قومه أصحاب أوثان يعبدونها.
و لمّا توجّه إلى اليمن، جعل طريقه على مكّة التي كانت منزلًا في الطريق. حتى إذا كان بالدُّف من جُمدان بين عسفان و أمَج، في طريقه بين مكّة و المدينة، أتاه نفر من هُذَيل، فقالوا له: أيّها الملك! ألا ندلّك على بيت مال داثر، قد أغفلته الملوك قبلك، فيه اللؤلؤ و الزبرجد، و الياقوت و الذهب و الفضّة؟!
قال: بلى! قالوا: بيت بمكّة يعبده أهله، و يصلّون عنده. و إنّما أراد الهُذَليُّون بذلك هلاكه لما عرفوا من هلاك من أراده من الملوك و بغى عنده.
فلمّا أجمع لما قالوا، أرسل إلى الحبرين، فسألهما عن ذلك، فقالا له: ما أراد القوم إلّا هلاكك و هلاك جندك! و لئن فعلت ما دعوك إليه، لتهلكنّ و ليهلكنّ من معك جميعاً!
قال: فما ذا تأمرانني أن أصنع إذا قدمتُ عليه؟! قالا: تصنع عنده ما يصنع أهله: تطوف به و تعظّمه و تكرّمه! و تحلق عنده رأسك، و تتذلّل له حتى تخرج من عنده.
قال: فما يمنعكما أنتما من ذلك؟!
قالا: أما و الله إنّه لبيت أبينا إبراهيم؛ و إنّه لكما أخبرناك؛ و لكنّ أهله حالوا بيننا و بينه بالأوثان التي نصبوا حوله؛ و بالدماء التي يهريقون عنده، و هم نجس أهل شرك.
فعرف نصحهما و صدق حديثهما، فقرّب النفر من هُذَيل، فقطّع
أيديهم و أرجلهم، ثمّ مضى حتى قدم مكّة.۱
و ذكر ابن شهرآشوب أنّ المسترشد العبّاسيّ أخذ من مال الحائر و كربلاء و النجف! و قال: إنّ القبر لا يحتاج إلى الخزانة و أنفق على العسكر، فلمّا خرج، قُتل هو و ابنه الراشد.٢
و في عصر قريب من عصرنا، حاول السلطان عبد الحميد العثمانيّ أن يأخذ حلي بيت الله التي كانت داخل الكعبة، و يستولي عليها. فاستفتى علماء العامّة. فلم يجيبوه جواباً صريحاً مراعاة للسلطان. فاستفتى المرجع الإماميّ الكبير الملّا محمّد كاظم الخراسانيّ رحمه الله، و هو المعروف بالآخُونْد، و كان أحد الأساتذة العظام في حوزة النجف الأشرف. فمنعه، و كتب إليه رسالة ذكر فيها بعض الأخبار الواردة في هذا الموضوع، فتراجع السلطان و انصرف عمّا عزم عليه.
و من المؤسف حقّاً، بل من عظيم الأسف أنّ الوهّابيّين خذلهم الله جميعاً قد سلبوا الكعبة في عصرنا هذا و نهبوا منها نفائس الأموال و المجوهرات و الأشياء القديمة و الثمينة. ثمّ أغاروا منها على المدينة المنوّرة. و نهبوا كلّ ما كان داخل الروضة النبويّة المطهّرة و أطراف قبر الرسول الأعظم و السيّدة الصديقة فاطمة سلام الله عليها. و هي من الأشياء التي لا يُظْفَر بمثلها في العالم. و كان سلاطين العالم و حكّامه و امراؤه قد وضعوها هناك و أهدوها خلال ما يربو على ألف سنة. منها أربع ثُريّات من الزمرّد لا تقدّر بثمن، و أربعة صناديق من الذهب المزيّن بالمجوهرات
و المرصّع بالياقوت و الألماس. و هذه كانت تنير في الليلة الظلماء كالكوكب المتألّق. و كذلك نهبوا مائة سيف مقابضها من الزمرّد و قد كتب اسم صاحبها عليها، و أغمادها كلّها من الذهب الخالص المزيّن بالألماس.
أين أخذوا هذه الأشياء؟ و كيف صرفوها؟ هل أنفقوها في سبيل الإسلام و عظمته و كسر شوكة الكفر و معالمه؟ أو بالعكس، حملوها جميعها لتكون في خزائن الدول الأجنبيّة و الكفّار المعادين للإسلام مجّاناً عملًا بما تمليه عليهم العمالة و الخدمة، فامتلأت خزائن الدول الكافرة بالذهب و الأحجار الكريمة و النفائس و العتلائق بسبب هذه الغارات و غارات اخرى مماثلة لها، و افتقرت بلداننا بأسرها و خلت خزائنها، و جُرّدت من كلّ شيء.
و هذا هو سرّ استيلائهم على العالم. و ليس السرّ في علمهم و ثقافتهم. علماً أنّهم سرقوا العلم و الثقافة منّا أيضاً. و لذلك إذا تركنا التعبير الناقص القاصر عن بلدانهم أنّها البلدان المتحضّرة المتقدّمة الكبرى، و قلنا إنّها البلدان الناهبة، و بلداننا هي البلدان المنهوبة، فقد وضعنا الكلام في موضعه.
قيل: إنّ الزعيم الهنديّ غاندي، عند ما سافر إلى لندن، و دخلها بهيئة خاصّة، قال: أنا أتعجّب إذ أرى الجزيرة الإنجليزيّة لم تغطس في الماء إلى الآن! فقيل له: و هل تغطس الجزيرة في الماء؟
قال: و لِمَ لا؟ فإنّ الحكومة الإنجليزيّة أتت بذهب الشعب الهنديّ إلى هنا، فأضحت الهند قطراً فقيراً جائعاً منكوباً، و هي من أكبر الأقطار و أغناها و أكثرها نفوساً، فحسبت أنّ هذه الجزيرة تغرق لثقل الذهب الذي نهب من الهند، و اتى به إلى هنا.
غارة الوهّابيّين على كربلاء، و هدم قبور أئمّة البقيع
و ارتكب الوهّابيّون مذابح عظيمة بحقّ المسلمين. و من لم يكن
وهّابيّاً، فهو مشرك بزعمهم، و يباح دمه و ماله و عرضه. و تجاوز عدد القتلى في كلّ مدينة استباحوها عشرة آلاف نسمة.
و أغاروا على كربلاء المقدّسة، و طوّقوا أهلها، و قتلوا في يوم واحد ما يزيد على خمسة آلاف، و نهبوا الأشياء الثمينة من الحرم الحسينيّ الشريف. ثمّ دخلوه و اقتلعوا الشبّاك الخشبيّ الذي كان من النفائس، و حطّموه. و أوقدوا النار من أخشابه على القبر المطهّر. و صنعوا القهوة و شربوها.
و قاموا في اليوم الثامن من شهر شوّال سنة ۱٣٤٥ ه بتدمير جميع المراقد المقدّسة لأئمّة البقيع: الإمام الحسن المجتبى، و الإمام زين العابدين، و الإمام محمّد الباقر، و الإمام جعفر الصادق عليهم السلام، و كذلك مراقد بنات رسول الله: زينب و امّ كلثوم و رقيّة، و قبور صفيّة و عاتكة عمّتي رسول الله، و امّ البنين، و إسماعيل بن جعفر الصادق، و إبراهيم ابن رسول الله، و قبور كافّة الصحابة و التابعين و أرحام النبيّ و أزواجه، و الصلحاء و الأبرار، و هي ممّا لا يحصى. دمّروها برمّتها و سوّوها مع الأرض.
و كانوا يعتزمون تدمير قبر رسول الله، و الكعبة متذرّعين بأنّ التقبيل و الطواف حول الأحجار شرك، لكنّهم لم يجرأوا على ذلك خوفاً من سائر المسلمين من فرق العامّة، و إلّا فإنّ هدم هذين المكانين المقدّسين كان مرسوماً في خطّتهم. و إذا ما اطمأنّوا من جانب الأقطار الإسلاميّة، فإنّهم يرتكبون هذه الجريمة.
تقول الوهّابيّة: إنّ تقبيل الضريح المقدّس المطهّر لرسول الله شرك. فهو من الحديد، و تقبيل الحديد شرك. و كان الناس أحراراً في تقبيل الكعبة إلى ما قبل عدد من السنين، بَيدَ أنّهم مُنِعوا في السنين الأخيرة. إذ
يقف الشرطة في كلّ جانب من جوانب الكعبة، و عددهم في كلّ مكان يزيد على خمسة أو ستّة. و يتراوح مجموعهم بين عشرين و ثلاثين شرطيّاً. و هؤلاء أداروا ظهورهم إلى الكعبة بكلّ وقاحة و بأيديهم هراوات و سياط، و ينظرون إلى الطائفين، حتى إذا أراد أحد الحجّاج أن يقبّل الكعبة، يزعقون به: هذا حَجَر! هذا حَجَر! و الآمرون بالمعروف منهم يديرون ظهورهم إلى الكعبة أيضاً، و يقفون في الركن العراقيّ و الشاميّ و اليمانيّ، و يقولون: تقبيل الحجر شرك. و إذا ما حاول أحد الطائفين أن يلثم الحجر الذي لثمه رسول الله، ينهالون عليه بسياطهم، و يقولون: شرك.
و لا يُستبعد أن يمنعوا الناس من تقبيل الحجر الأسود، و يعتبروا الطواف الذي يمثّل أقدس حالة للخضوع و التذلّل أمام صاحب البيت شركاً. و يرفعوا الطواف حول الأحجار الجامدة.
إنّ مكّة و المدينة حاضرتان إسلاميّتان متّفق عليهما بين جميع المذاهب الإسلاميّة، و هما مهد نشأة النبيّ و مهجره و داره و قراره. و كلّ نقطة فيهما مسجد و معبد و مكان يذكّر بتأريخ الإسلام الحيّ و سِيَر الصالحين، و آثار النبوّة، و معالم ولاية أمير المؤمنين عليه السلام، لكنّ الوهّابيّين بدّلوهما إلى مدينتين اوروبّيّتين، و طمسوا جميع معالم النبيّ و أهل بيته سواء في مكّة أم في المدينة، و بنوا مكانها العمارات الشاهقة ذات الطوابق العشرة، و قطعوا نخيل المدينة و اجتثّوا جذوره بعد ما كانت تزهى بخضرته، و شيّدوا مكانه عمارات على طراز غربيّ تماماً.
و لا نجد في المدينة الطيّبة اسماً لمحلّة بني هاشم، و بيت الإمام السجّاد، و بيت الإمام الصادق، و بيت أبي أيّوب الأنصاريّ. و دمّروا بيت الأحزان و غطّوا جدار مسجد عليّ بصفائح و ألواح، و ختموا على بابه. و ما ذا
أقول عن مشربة امّ إبراهيم؟ ذلك المحلّ الشريف و المقدّس، و ذلك المكان النورانيّ و المبارك، و قد أضحى اليوم أشبه بمزبلة منه بمسكن رسول الله و أهل بيته! و هو مهجور مغلق.
أمّا مسجد الفضيخ، و هو مسجد ردّ الشمس لأمير المؤمنين عليه السلام، فهو متروك مهجور، حتى لا يعرف اسمه أحد. و لا يذكر اسم عليّ بن أبي طالب في الخطب على المنابر، بَيدَ أنّ عبارة: سيّدنا عمر تتكرّر عشرات، بل مئات المرّات. آه وا حسرتاه ما أغرب المدينة و ما أكثر هجرها! إنّ المدينة التي كان كلّ شبر منها ينبئ عن علم أمير المؤمنين عليه السلام و عرفانه و قضائه و درايته و ولايته و حماسته و إيثاره، و هو الحامي الوحيد لرسول الله، أضحت اليوم مظلمة و غريبة. و يُذكَر المخالفون في كلّ نقطة منها، أمّا عليّ فهو غريب عليها، و ذكره محظور فيها.
البقيع أرض خالية، لا حَجَر، و لا مصباح، و لا اسم، و لا ذِكر لها. و قد شيّدت حوله عمارات شاهقة بشكل دائريّ و هي تتألّف من عدّة طوابق، و تكثر البنايات ذات الطوابق العشرة هناك. كما تكثر معارض البيع و الفنادق و الداوئر و الدكاكين التي تبيع أنواع البضائع، من دجاج و سمك و شطائر و جوارب و أحذية، كما نجد محلّات بيع الذهب، و كلّ هذه المعارض و الدكاكين عليها لوحات مضيئة برّاقة بصور مختلفة، و أشكال عجيبة، و ألوان متباينة مومضة تدور، حتى إذا كان أحد عند قبور الأئمّة المعصومين، فإنّه يشاهد العمارات الشاهقة و اللوحات.
أمّا قبور أئمّتنا، فلا مصباح فيها و لا حجر، حتى أنّ أحداً لا يستطيع أن يكتب عليها بإصبعه مثلًا: هذا قبر الإمام جعفر الصادق. و هل تعلم ما ذا يعني هذا؟! يعني أنّ اسم جعفر الصادق غريب و محظور. و كذلك اسم
محمّد الباقر. أي: أنّ حقيقتهم و روحهم و ولايتهم و تفسيرهم و حديثهم و رسالتهم، كلّ ذلك محظور. و ترى الوهّابيّة أنّ وجودها في حظر هذا المذهب و هذه الرسالة، و يسعى أصحابها من أجل المحافظة على وجودها الذي يمثّل هدم الإسلام حقّاً. و لِمَ ذاك؟ لأنّ التشيّع ليس إلّا تجسيد روح الإسلام و تبلور معنى النبوّة و القرآن.
تشرّفتُ بحجّ بيت الله الحرام سنة ۱٤۰۷ ه، و رأيت ما وقع عصر يوم الجمعة السادس من ذي الحجّة، إذ حوصر الناس في شارع المسجد الحرام، أي البلد الحرام، في الشهر الحرام، و في حرم الله بين العمرة و الحجّ، لا لذنب إلّا لأنّ الشيعة الإيرانيّين أعلنوا البراءة من المشركين، و نادوا باتّحاد المسلمين، و هتفوا للتخلّص من نَير الجبّارين و الجائرين الكافرين في العالم. فهجم عليهم الجلاوزة، و ضربوهم و جرحوهم. و كان عدد الجرحى أكثر من أربعة آلاف، و عدد القتلى ثلاثمائة و اثنين و عشرين بلا شكّ، بينهم مائتان و ثماني نساء، و مائة و أربعة عشر رجلًا، و فُقِد أربعة عشر رجلًا آخر، لا يُعلم هل سيقوا إلى السجن أم ماتوا و لم يعرفوا لكثرة جروحهم، و لم يسلّم الوهّابيّون أجسادهم.
و الأنكى من هذه الجريمة أنّ الوهّابيّين يتّهمون الحكومة الإسلاميّة في إيران أنّها تريد الفساد و الإفساد و تدمير بيت الله و التآمر، و يرون أنّ هجمتهم القبيحة الوقحة الظالمة معلَم على إقرار الهدوء و المحافظة على النظم. و نُقل أنّهم صرّحوا في إذاعتهم المرئيّة، و مذياعهم، و صحفهم بأنّهم حالوا دون أعمال الشغب و الاضطرابات، و إلّا لدمّر الإيرانيّون بزعمهم بيت الله، لأنّهم مجوس و يهود و لا علم لهم بالإسلام و لا يفدون إلى مكّة من أجل الحجّ، بل من أجل إثارة الشغب، و الإخلال، و التفريق بين المسلمين، و بثّ الشبهات و الشكوك في الإسلام، و يتظاهرون بإقامة
الحجّ بين المسلمين.
إنّ الفرقة الوهّابيّة كالفرقة البهائيّة، فتلك قد ظهرت بين أهل العامّة و هي حنبليّة المذهب، و هذه ظهرت بين الشيعة، و هي جعفريّة المذهب. و كلتاهما منفصلة عن الإسلام، بعيدة عنه، و قد تقمّصت الاولى وجه الإسلام الحقيقيّ بزعمها و الكفاح ضدّ الشرك، أمّا الثانية فقد تقمّصت لباس التشيّع الحقيقيّ بظنّها و زعمت ظهور الإمام المهديّ عجّل الله فرجه. و قتلت كلّ منهما اناساً أبرياء بذلك الزعم و الظنّ، و أفسدتا في الأرض و سوّدتا وجه التأريخ.
آل سعود كالاسرة البهلويّة قد شدّوا عقد مآزرهم لهدم الإسلام
و قد علمنا في الجزء الخامس من كتابنا هذا أنّ الوهّابيّة ظهرت قبل مائتي سنة بتخطيط الإنجليز و إشرافهم. و تزامن ظهور البابيّة و البهائيّة في إيران مع ظهور الوهّابيّة على التحديد. و كان ظهور آل سعود و تدمير المشاهد المشرّفة في البقيع بعد انتصار الإنجليز على الدولة العثمانيّة الإسلاميّة المترامية الأطراف في الحرب العالميّة الاولى و تقسيمها إلى تسع عشرة دولة. و أقالوا الشريف حسين حاكم مكّة يومئذٍ، و نصبوا مكانه الملك سعود. و أنتم تعلمون و ترون ما ذا فعل هو و اسرته من الأفاعيل بالإسلام! و أنزلوا به و بالمسلمين من المصائب ما لم يَدُر في خلد أحد، و ذلك في صورة الإسلام، و قالب الدعوة إلى التوحيد، و قناع الدين و القرآن.
و تجرّأوا على الشعائر و الاسس و المبادي الدينيّة بما لم تعهده أيّة امّة أو دين.
إنّ اليهود المتعصّبين بما فيهم الصهاينة، و جميع النصارى و البوذيّين و أتباع مذهب كونفوشيوس و الوثنيّين، و بعامّة، كافّة الطوائف و الفرق أحرار في الذهاب إلى معابدهم، و يهتمّون في مناسكهم باحترام أنبيائهم
و حفظ آثارهم من قبر و دار و مولد و منزل و مصدر و مورد، و غير ذلك، و يعظّمون مقدّساتهم. أمّا لو جاء مسلم من الصين أو من جنوب الهند، أو من إفريقيا و آسيا و اوروبّا لأداء فريضة الحجّ، و أراد التأسّي بسنّة نبيّه الأعظم في تقبيل أركان الكعبة الأربعة (ركن الحجر الأسود، الركن العراقيّ، الركن الشاميّ، الركن اليمانيّ)، و تقبيل المستجار (مدخل بيت الله الذي ولد فيه أمير المؤمنين عليه السلام)، و تقبيل الحطيم (بين ركن الحجر الأسود و باب الكعبة) و تقبيل المُلْتَزَم (بين باب الكعبة و الركن العراقيّ) و تقبيل الضلع الواقع في حجر إسماعيل، و خاصّة تحت الميزاب، فسيواجه بالمنع و الزجر و الضرب بالسياط، و لعلّه يعود إلى وطنه محروماً من نيل امنيّة التقبيل.
فليس بإمكانه تقبيل ضريح نبيّه و قبور الأوصياء و الأئمّة العظام الذين تقرّ مذاهبهم الأربعة بتقدّمهم على غيرهم في الطهارة و السيادة و العلم و العرفان و الوصاية و الولاية، و لا يحقّ لذلك المسلم تكريمهم و تعظيمهم! و لا ينطلق هذا العمل إلّا من وحي تخطيط مكشوف و مدروس للدول الاستعماريّة الكافرة في سبقها إلى هدم القواعد الدينيّة و كسر صولة الحقّ، و طمس معالم أولياء الإسلام إلى هذه الدرجة.
و تمّ تدمير قبور الأئمّة العظام و أوصياء رسول الله في البقيع على يد آل سعود في وقت نصب فيه المستعمرون على كلّ قطر من الأقطار الإسلاميّة حاكماً مستبدّاً عبداً عميلًا بائعاً لشرفه. ففي إيران كان رضا خان قائداً عسكريّاً، فجعلوه وزيراً للدفاع، ثمّ رئيساً للوزارء، ثمّ نصبوه ملكاً. و في تركية مصطفى كمال باشا (أتاتورك) و في العراق الملك فيصل والد الملك غازي، و في مصر الملك فؤاد والد الملك فاروق، و كذلك الأمر في سائر الأقطار.
و عند ما بلغ إيران خبر تدمير قبور أئمّة البقيع لم يكن بإمكان الشيعة التحرّك بسبب ظروفهم الداخليّة و الضغوط الشديدة التي كان يمارسها المستبدّ الجديد ضدّهم. فأنّى لهم أن يفكّروا بالبقيع؟ هذا من حيث الشعب. أمّا من حيث الحكومة، فقد كان يربطها مع آل سعود قاسم مشترك في التعهّد للأجانب بهدم الدين. و كلّ ما كان بإمكان الناس أن يفعلوه هو إقامة مجالس العزاء و التجمّع في بيوت العلماء و إرسال برقيّات إلى علماء النجف و كربلاء يعربون فيها عن أسفهم الشديد.
و لم يتوان رضا خان لحظة واحدة عن هدم أركان الإسلام. و لم يدّخر وسعاً في سبيل ذلك من: ارتكاب مذبحة جماعيّة في مسجد گوهرشاد (= جوهرة السرور) المقدّس و قتل الجرحى و كشف حجاب النساء و استبدال الزي المتعارف بالزي الأجنبيّ، و لبس ربطة العنق (الصليب)، و القبّعة، و ملاحقة العلماء بالقتل و السجن و سرقة مجوهرات الروضة الرضويّة المقدّسة، و تدمير قبور أبناء الأئمّة و هدم المدارس الدينيّة. و قامت مديريّة الأوقاف بصرف الأموال الموقوفة التي أوقفها أصحابها على طلّاب المدارس العلميّة على الثقافة الغربيّة و المدارس الاوروبّيّة و أحواض السباحة المختلطة و مجالس الرقص و الموسيقى المشتركة، و غيرها. و أصبحت المدارس الدينيّة في أرجاء إيران محلًّا للقمامة، مهدّمة الجدران و السقوف، و أضحت غرفها مخازناً لبضائع الدكاكين المجاورة لها!
و قام إسماعيل مِرآت وزير التربية يومذاك بتدمير قبر السيّد يحيي بطهران، و هو أشراف و كبار أبناء الأئمّة و من علماء أهل البيت عليهم السلام و رواة الحديث. و كان رجلًا يستحقّ التعظيم و التبجيل، و لمحلّ دفنه قبّة و صحن، فقام الوزير المذكور بهدم البناء و هدّه من
القواعد، و حوّله إلى ملعب رياضيّ بعد نهب مجوهراته التي كان فيها طاووس مرصّع ثمين عريق. و حاول أحد المستشرقين آنذاك أن يردعه عن عمله بالتحدّث إليه و تذكيره بأنّ مرقد هذا السيّد من الأماكن التأريخيّة التي مضى عليها أكثر من ثمانمائة سنة، و قال له: دعه على حاله و لا تخرّبه! و لك في طهران ملاعب رياضيّة كثيرة، و سأقوم بترميمه و تَعميره على حسابي، دع هذا السند التليد قائماً، و هذا الأثر الثمين العريق شامخاً، فلم يلق اذناً صاغية قطّ. فقام الوزير بتخريب ذلك الأثر و لم يُبق له أثراً يذكر!
و كانت هناك شجرة دُلب معمّرة تقع في الزقاق قريباً من مرقد السيّد و تعرف باسم [چنار امام زاده يحيي] (= دُلب السيّد يحيي). و قد انفصل قسم من جذعها عن القسم الآخر، و كادت أن تسقط كلّها على الأرض لثقلها. فدفع الوزير المذكور ثمانمائة تومان من الميزانيّة الخاصّة للأماكن الأثريّة و هي تعادل يومذاك أربعين مثقالًا من الذهب من أجل أن يقوم الحدّادون بصنع حلقة كبيرة، و يلحموا القسم المفصول بصاحبه. و بالنتيجة فقد ظلّ الأثر المذكور قائماً، فعُدَّ من إنجازات ذلك الوزير!
و في الليلة التي هرب رضا خان في صبيحتها من بندر عبّاس (= ميناء العبّاس)، و ركب الباخرة الإنجليزيّة، فقد اجتمع رهط من أهإلى تلك المحلّة (محلّة امام زاده يحيي) و معهم معاولهم و مساحيهم و طابوقهم و ما إلى ذلك من أجل إعادة بناء المرقد المدمّر بتصميم معماريّ جديد.
لمّا علمت وزارة التربية بذلك، قامت بإعادة البناء بنفسها. فجدّدته تجديداً يسيراً كما هو عليه الآن و خصّصت قسماً صغيراً من الصحن للسيّد يحيى، و قامت بتشييد مدرسة على القسم المتبقّى من أرض الملعب.
و دمّر البهلويّ دروازه قرآن (= بوّابة القرآن) في شيراز و سوّاها مع
الأرض. و هي من البوّابات الأثريّة القديمة في المدينة. و في أعلاها قرآن يمرّ من تحته الداخلون و الخارجون يقال: إنّه يزن سبعة عشر منّاً.
و كان على كلّ من أراد الخروج من شيراز من الأهالى و الجنود و الحكّام أن يمرّ من تحت البوّابة. للدلالة على أنّهم في حفظ القرآن و الالتزام به، و الاستمداد من روحه، كما هو معهود عندنا، حيث يمرّ مَن يروم السفر من تحت نسخة من القرآن.
و قد أمر البهلويّ بتدمير البوّابة المشار إليها في إحدى أسفاره إلى شيراز لأنّه قد كبر عليه أن يمرّ من تحتها، فغطرسته و جبروته و غروره و أنانيّته قد منعاه من أن يكون في حفظ القرآن!
و على رغم تأكيد المستشرقين من أنّ لهذه البوّابة قيمة عالميّة من الوجهة التأريخيّة، و على ضرورة المحافظة عليها، إلّا أنّ تأكيدهم راح هباءً، حيث قد دمّرت البوّابة، و لم يبقوا منها أي أثر. و قد تمّ أخيراً بناء بوّابة اخرى على نسق ما كانت عليه السابقة.
و نهب البهلويّ المجوهرات التي كانت في مرقد الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، و نهب كلّ ما كان في متحف الإمام و حرمه المطهّر و ضريحه المقدّس، ممّا أهداه الملوك و الامراء خلال ألف سنة.
و لم يسلم ذلك الصندوق الذي كان عند قدمي الإمام عليه السلام من نهب البهلويّ، فقد سبكه على شكل مزهريّتين مرصّعتين بلغ وزنهما سبعة و عشرين منّاً، و أهداهما إلى ولده محمّد رضا بمناسبة زواجه من فوزيّة المصريّة باعتبارهما هديّة من الإمام الرضا و الروضة المقدّسة إلى العروسين!
و جمع البهلويّ المصاحف النفيسة و الكتب الخطّيّة القديمة الثمينة، و أرسل ما ينبغي له أن يرسله إلى الخارج و ترك الباقي في مكتبة البلاط.
و أخيراً، فقد حمل معه مجوهرات القصر الملكيّ عند فراره من هذا البلد المتضرّر المنكوب و وضعها في حقيبة حملها بيده، و لم يفارقها، حتى إذا ركب في الباخرة الإنجليزيّة في ميناء عبّاس أخذها منه أحد أعضاء الحرس الإنجليزيّ بالقوّة و ألحقها ببقيّة المجوهرات التي قد ارسلت من قبل و ادّخرت في المصارف و البلاط الملكيّ لذلك الحرس.
أجل، فمن خلال ما بيّناه إلى هنا، يتوضّح مدى قبح كلام عملاء الوهّابيّة الجدد في بلدنا؛ أفراخ ما كنة التفقيس السعوديّة و الوهّابيّة التي تتغذّى من تلك العفونة و القباحة.
إنّهم يقولون: لا تجوز الصلاة عند قبور الأئمّة. و إنّ تقبيل باب الضريح و جداره عبارة عن تقبيل الخشب و الحجارة و الحديد. و ما هي الفائدة التي يحصل عليها الإمام من هذه القباب و الأبواب الذهبيّة، و صناديق الخاتم؟ و لو صرفت هذه الأموال على الفقراء و الشؤون الخيريّة و التعليم لكان أفضل. و إنّ التوسّل بالإمام شرك. و زيارة الإمام زيارة لإنسان ميّت. و لا يختلف الإمام عن سائر الناس. و لمّا رحل النبيّ عن الدنيا، فهو ليس أكثر من إنسان ميّت!
و الجواب هو أنّ عصر هذه الترّهات و الأباطيل قد انقضى بحمد الله و منّه. و أنّ خيانتكم في هذه المغالطات واضحة ظاهرة. و لمّا كنتم كذّابين خرّاصين و انكشفت للناس صور من خياناتكم، فقد أصبح الطالب الجامعيّ لا يسمع كلامكم، و كذا الحال بالنسبة لطالب المدرسة و السوقيّ و الزبّال!
إن تقبيل قبر الإمام كتقبيل القرآن و يد العالِم. إنّه تقبيل روح الإمام، و التواضع أمام عظمة مقامه.۱ و إنّ الصلاة عند قبور الأئمّة خاصّة
گر ميسّر نشود بوسه زنم پايش را | *** | هر كجا پاي نهد بوسه زنم جايش را |
بر زميني كه نشان كف پاي تو بود | *** | سالها بوسه گه أهل نظر خواهد بود |
ليست جائزة فحسب، بل فيها ثواب عظيم لا يعادله أي ثواب.
جواز بناء قبور الأئمّة عليهم السلام و إهداء السجّاد و المصابيح
إنّ هذه القباب الذهبيّة و الأبواب النفيسة هي كمجوهرات الكعبة، فلا هي من مال المسلمين الذي يورّث لأهله، و لا هي من الخمس۱ الذي يصرف في مواضعه، و لا هي من الزكاة و الصدقات التي ينبغي أن تصرف في مواردها الثمانية،٢ و لا هي من الغنائم و الفيء المعيّن مورده. إنّها ملك خاصّ لأشخاص و قفوه للكعبة، و للإمام، و لابن الإمام. و قد اعتبر الشرع المقدّس الوقف صحيحاً و أمضاه و قبل الهديّة. فإذا أراد شخص أن يعبّر عن حبّه فيكدّ في نسج سجّادة، أو إذا حاكت امرأة إصفهانيّة، أو يزديّة، أو قاسانيّة أو أيّة امرأة كانت لأحد المراقد المطهّرة غطاءً مشبّكاً، أو قطعة مزركشة و ما شاكل ذلك من الأعمال إليدويّة، فإنّ ذلك الرجل و تلك المرأة إنّما يقومان بذلك تعبيراً عن مودّتهما لمن يحبّان. و تراهما يكتبان عليها الآيات القرآنيّة النازلة بشأن أهل البيت عليهم السلام، و الأشعار العربيّة و الفارسيّة بأجمل خطّ -و لو عرضت هذه النتاجات في معارض
عالميّة لبهرت العيون، و للقيت الترحيب حتى ليتقاطر الناس لشرائها بأسعار خياليّة- و يهديانها إلى أعظم معشوق روحيّ و معنويّ، و هو إمامهما، الذي و إن لم تصل إليه أيديهما فهما يبسطانها على مرقده.
تقولون: لا تقدّموا الهدية، ما ذا يصنع الإمام بالهديّة؟! أو قدّموا الهدايا إلى الملك الفلانيّ أو الرئيس الفلانيّ أو بيعوا ما تنتجون لأمثالكم؟ فأنتم أيّها القائلون ترضون بهذا، و لا ترضون بذاك!
إنّ مراقد الأئمّة الطاهرين ملاذ الناس و ملجأهم. و كما يقبل عليها الناس في ملمّات الحياة و خطوب الدهر، فإنّهم يحبّون أن يهدوا إليها أفضل و أزكى ثمرتهم. لهذا يقدّمون ذهبهم، و يهدون كتبهم النفيسة، و يعرضون عصيّهم و سيوفهم.
و سينتفع بهذه الأشياء جميع الزائرين شئنا أم أبينا بل المؤمنين و ستبقى محفوظة من جهة اخرى و مصونة من أيدي ذئاب في صورة شياه كأمثالكم. ثمّ لا تستطيعون إرسالها إلى الخارج لتزيّنوا بها متاحف الدول الكافرة و مكتباتها!
و على كلّ تقدير، لمّا كان التصرّف بها حراماً، فلا بدّ أن تبقى على هذا المنوال؛ و لا يحقّ لأحد أن يتصرّف بها. و إذا تصرّف بها فهو سارق؛ كالذي يسرق ستائر باب الحرم، أو يقلع الطابوق و الفسيفساء المنصوب على الجدران. و إنّما الذي لا يجوز هو تزيين المساجد لا مراقد الأئمّة عليهم السلام. و إذا كان مسجد ما مجاوراً لأحد المراقد، و اطلق عليه المسجد شرعاً، فينبغي أن يكون بسيطاً. و لا ضير في كتابة الآيات القرآنيّة في المساجد بخطوط غير ذهبيّة، لأنّه ممّا لا يعدّ زينة.
يكره الصلاة في المقبرة و بين القبور، إلّا أن تكون المسافة عن القبر من كلّ طرف من أطرافه عشرة أذرع (قرابة خمسة أمتار). و يحرم السجود
على القبر. و يستثني من هذه القاعدة العامّة قبور الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين. هذا مع أن السجود على قبر الإمام غير جائز، و لكن يستحبّ وضع الخدّ الأيمن عليه. و تعتبر الصلاة عند قبر الإمام من أفضل الطاعات خاصّة في أعلى جهة الرأس المتّصلة بالقبر؛ و لا بأس بها عند أسفل جهة القدم و خلفه؛ أمّا التقدّم على القبر في أثناء الصلاة بحيث يكون القبر وراء المصلّي فهو خلاف الأدب. و هذه كلّها مسائل فقهيّة مأثورة في الروايات.
ارجوزة بحر العلوم في فضيلة الصلاة في مشاهد الأئمّة عليهم السلام
و ما أروع ما أنشده المرحوم السيّد بحر العلوم رضوان الله عليه في منظومته، حيث قال:
أكْثِرْ مِنَ الصَّلَاةِ في المَشَاهِدِ | *** | خَيْرِ البَقاعِ أفْضَلِ المَعَابِدِ |
لِفَضْلِهَا اخْتِيرَتْ لِمَنْ بِهِنّ حَلّ | *** | ثُمَّ بِمَنْ قَدْ حَلَّهَا سَمَا المَحَلّ |
وَ السِّرّ في فَضْلِ صَلَاةِ المَسْجِدِ | *** | قَبْرٌ لِمَعْصُومٍ بِهِ مُسْتَشْهَدِ |
بِرَشَّةٍ مِنْ دَمِهِ المُطَهَّرة | *** | طَهَّرَهُ اللهُ لِعَبْدٍ ذَكَرَه |
وَ هِيَ بُيُوتٌ أذِنَ اللهُ بِأنْ | *** | تُرْفَعَ حتى يُذْكَرَ اسْمُهُ الحَسَنْ |
وَ مِنْ حَدِيثِ كَرْبَلَا وَ الكَعْبَه | *** | لِكَرْبَلَا بَانَ عُلُوُّ الرّتْبَه |
وَ غَيْرُهَا مِنْ سَائِرِ المَشَاهِدْ | *** | أمْثَالُهَا بِالنّقْلِ ذِي الشَّوَاهِدْ |
فَأدِّ في جَمِيعِهَا المُفْتَرضَا | *** | وَ النّفْلَ وَ اقْضِ مَا عَلَيْكَ مِنْ قَضَا |
رَاعِ فِيهِنّ اقْتِرَابَ الرّمْسِ | *** | وَ آثِرِ الصَّلَاةَ عِنْدَ الرّأسِ |
وَ النّهْيُ عَنْ تَقَدُّمٍ فِيهَا أدَبْ | *** | وَ النّصُّ في حُكْمِ المُسَاوَاةِ اضْطَرَبْ |
وَ صَلِّ خَلْفَ القَبْرِ فالصَّحِيحُ | *** | كَغَيْرِهِ في نَدْبِهَا صَرِيحُ |
وَ الفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ القُبُورِ | *** | وَ غَيْرِهَا كَالنّورِ فَوْقَ الطُّورِ |
فَالسَّعْيُ لِلصَّلَاةِ عِنْدَهَا نُدِبْ | *** | وَ قُرْبُها بَلِ اللُّصُوقُ قَدْ طُلِبْ |
و الاتّخَاذُ قِبْلَةً وَ إنْ مُنِعْ | *** | فَلَيْسَ بِالدَّافِع إذْناً قَدْ سُمِعْ۱ |
و على ضوء ذلك فإنّ لقبور الأئمّة حكم المساجد، بل هي أفضل المساجد، لأنّنا كما رأينا البيتين الثالث و الرابع أنّ شرف كلّ مسجد يُبني في العالم هو بفضل دم المعصوم الذي اريق هناك، و نال صاحبه و سام الشهادة. و قد وقع هذا الأمر على تواتر القرون و كرور الأزمان. و قد جعل الله ذلك المكان معبداً طاهراً مطهّراً لذكره ببركة الدم المذكور. و إن كان بناء المسجد بعد انطواء السنين المتمادية.
و لمّا كانت هذه القاعدة العامّة جارية في كلّ مسجد، حتى لو لم نعرف صاحب ذلك الدم، فانظروا إلى مدى ميزة المراقد المقدّسة للأئمّة عليهم السلام و عِظم فضيلتها، فأصحابها معروفون معيّنون، و هم في منزلة أعلى و أسمى من منزلة جميع المعصومين الذين كانوا في العصور الخالية و الأزمان السالفة.
أمّا قوله في البيت السادس:
وَ مِنْ حَدِيثِ كَرْبَلَا وَ الكَعْبَه | *** | لِكَرْبَلَا بَانَ عُلوُّ الرّتْبَه |
فيبدو أنّه إشارة إلى الحديث الذي رواه ابن قُولَوَيْه في كتابه الجليل و النفيس: «كامل الزيارات» عن أبيه، عن سعد بن عبد الله، عن أبي عبد الله الرازيّ، عن الحسن بن عليّ بن حمزة، عن الحسن بن محمّد بن عبد الكريم أبي عليّ، عن المفضّل بن عمر، عن جابر الجُعفيّ أنّه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام للمفضّل:
كَمْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ قَبْرِ الحُسَيْنِ عليهِ السَّلَامُ؟ قُلْتُ: بِأبِي أنْتَ وَ امِّي! يَوْمٌ وَ بَعْضُ يَوْمٍ آخَرَ! قَالَ: فَتَزُورُهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ! قَالَ: فَقَالَ: أ لَا ابَشِّرُكَ؟ أ لَا افَرّحُكَ بِبَعْضِ ثَوَابِهِ؟
قلت: بلى جعلتُ فداك! فقال: إنّ الرجل منكم ليأخذ في جهازه، و يتهيّأ لزيارته، فيتباشر به أهل السماء. فإذا خرج من باب منزله راكباً أو ماشياً، و كلّ الله به أربعة آلاف ملك من الملائكة يصلّون عليه حتى يوافي قبر الحسين عليه السلام.
ثمّ بيّن الإمام عليه السلام كيفيّة الدخول، و متن الزيارة، و قال بعد إكمال الزيارة:
ثُمَّ تَمْضِي إلى صَلَاتِكَ. وَ لَكَ بِكُلِّ رَكْعَةٍ رَكْعَتَها عِنْدَهُ كَثَوابِ مَنْ حَجَّ ألْفَ حِجَّةٍ وَ اعْتَمَرَ ألْفَ عُمْرَةٍ، وَ أعْتَقَ ألْفَ رَقَبةٍ، وَ كَأنّمَا وَقَفَ في
سَبِيلِ اللهِ ألْفَ مَرّةٍ مَعَ نَبِيّ مُرْسَلٍ الحديث.۱
و الشيء العجاب هو أنّ العامّة يقيمون امورهم و يقتدون بأعمالهم بسنّة عمر و عمله. و يتّخذون أفعاله مبادى عمليّة لأفعالهم، حتى لو كان رسول الله قد نهاه عن عمل قام به، أو كان أمير المؤمنين قد أوقفه على خطأه. و كأنّ العامّة يقدّمون سنّة عمر و عمله على سنّة رسول الله و عمله. و هذه هي الطامّة الكبرى التي لا تُسَوَّغ بمنطق و برهان، و لا بطريقة تفكير معيّنة، و لا تعبّر إلّا عن جمود و ركود و تعصّب أعمى و حميّة جاهليّة على حدّ تعبير القرآن الكريم. و هذه حقيقة ملموسة في تضاعيف كثير من الأحكام في فقه العامّة.
منها: البكاء على الميّت، و قد أذِن به رسول الله، و عدّه رحمة، إلّا أنّه لم يجز الشكوى و الجزع و التأفّف من الله. أمّا عمر، فقد كان ينهى عنه، و يضرب بدرّته من كان يبكي من النساء و الأقارب على عزيز فقدوه. و منها: متعة النساء و متعة الحجّ.
قول عمر للحجر الأسود: لا تضرّ و لا تنفع
روى الحاكم في مستدركه بسنده المتّصل عن أبي هارون العَبْديّ، عن أبي سعيد الخُدْريّ قال: حججنا مع عمر [بن الخطّاب] فلمّا دخل الطواف استقبل الحَجَرَ [الأسْوَد] فقال: إنّي أعْلَمُ أنّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرّ وَ لَا تَنْفَعُ! و لَوْ لَا أنّي رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ!
ثُمَّ قَبَّلَهُ.
فَقَالَ لَهُ عَلِيّ [بْنُ أبِي طَالِبٍ]: بَلَى يَا أمِيرَ المُؤمِنِينَ! إنّهُ يَضُرّ وَ يَنْفَعُ!
قال [عمر] قلت: بم [قلت]؟ فقال [عليّ بن أبي طالب]: بكتاب الله تبارك و تعالى!
[قال عمر: و أين ذلك من كتاب الله؟ فقال عليّ بن أبي طالب]: قال الله عزّ و جلّ:
وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى۱ خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَ مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ فَقَرّرَهُمْ بِأنّهُ الرّبُّ وَ أنّهُمُ العَبِيدُ وَ أخَذَ عُهُودَهُمْ وَ مَوَاثِيقَهُمْ وَ كَتَبَ ذَلِكَ في رِقٍّ وَ كَانَ لِهَذَا عَيْنَانِ وَ لِسَانٌ.
فَقَالَ لَهُ: افْتَحْ فَاكَ! قَالَ: فَفَتَحَ فَاهُ فَألْقَمَهُ ذَلِكَ الرّقَّ؛ وَ قَالَ: اشْهَدْ لِمَنْ وَافَاكَ بِالمُوَافَاةِ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ وَ إنّي أشْهَدُ لَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ: يُؤْتَى يَوْمَ القِيَامَةِ بِالحَجَرِ الأسْوَدِ لَهُ لِسَانٌ ذَلِقٌ يَشْهَدُ لِمَنْ يَسْتَلِمُهُ بِالتَّوْحِيدِ. فَهُوَ يَا أمِيرَ المُؤمِنِينَ! يَضُرّ وَ يَنْفَعُ!
فَقَالَ عُمَرُ: أعُوذُ بِاللهِ أنْ أعِيشَ في قَوْمٍ لَسْتَ فِيهِمْ يَا أبَا حَسَنٍ!٢
و روى صاحب كتاب «تشييد المطاعن» العلّامة مير محمّد قلي هذا الحديث عن كتاب «البدور السافرة في الامور الآخرة»۱ لجلال الدين السيوطيّ، في باب شهادة الأمكنة، عن أبي سعيد الخُدري. ثمّ قال: رواه الفقيه أبو الليث في كتاب «تنبيه الغافلين» عن أبي هارون العبديّ، عن أبي سعيد الخُدريّ رضي الله عنهما، قال: حججنا مع عمر بن الخطّاب في أوّل خلافته. ثمّ نقل قصّة دخول عمر في الطواف و مكالمة عمر و جواب أمير المؤمنين، و ذكر بعد ذلك أنّ أمير المؤمنين قال لعمر:
وَ لَوْ أنّكَ قَرَأتَ القُرْآنَ وَ عَلِمْتَ مَا فِيهِ مَا أنْكَرْتَ عَلَيّ!
فقال له عمر يا أبا الحسن! ما تأويل هذه الآية من كتاب الله عزّ و جلّ؟ قال: يقول الله عزّ و جلّ: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ... إلى آخره. ثمّ قال له: لمّا أقرّ بنو آدم بالعبوديّة، كتب الله إقرارهم في رقّ، ثمّ دعا هذا الحجر، فألقمه ذلك الرقّ، فَهُوَ أمِينُ اللهِ في هَذَا المَكَانِ يَشْهَدُ لِمَنْ وَافَاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ.
قال له عمر: يَا أبَا الحَسَنِ! لَقَدْ جُعِلَ بَيْنَ ظُهْرَانِكُمْ مِنَ العِلْمِ غَيْرُ
قَلِيلٍ!
و كذلك روى محمّد بن يوسف الشاميّ عين ألفاظ هذا الحديث الذي نقلناه عن الحاكم، و ذلك في كتاب «سبيل الهدى و الرشاد» المشهور ب «السيرة الشاميّة» عن الخُجَنديّ في كتاب «فضائل مكّة»، و عن أبي الحسن القطّان في كتاب «الطُّوَالات»، و عن الحاكم، و البيهقيّ في «الشُّعَب» عن أبي سعيد الخُدريّ رضي الله تعالى عنه.۱
و رواه أيضاً ابن أبي الحديد،٢ و السيّد هاشم البحرانيّ عنه،٣ و البيهقيّ.٤
و رواه العلّامة الأمينيّ في «الغدير» -مضافاً إلى المصادر المذكورة- عن ابن الجوزيّ في «سيرة عمر» ص ۱۰٦، و عن الأزرقيّ في «تاريخ مكّة» كما في «العُمدة»، و القسطلانيّ في «إرشاد الساري» ج ٣، ص ۱٩٥، و العينيّ في «عُمدة القاري» ج ٤، ص ٦۰٦ بلفظيه، و السيوطيّ في «الجامع الكبير» كما في ترتيبه، ج ٣، ص ٣٥ نقلًا عن الخجنديّ في «فضائل مكّة»، و أبي الحسن القطّان في «الطوالات»، و ابن حبّان، و أحمد زيني دحلان في «الفتوحات الإسلاميّة» ج ٢، ص ٥. ٦٥
و رواه البخاريّ بسند واحد، و مسلم بأربعة أسانيد، لكنّهما حذفا ذيله
الذي فيه اعتراض أمير المؤمنين عليه السلام على عمر، و جواب الإمام نفسه، و ذلك لفرط عنادهما و مكابرتهما.۱ و نحن نرى في مواطن كثيرة في الفقه و السيرة أنّ هذين و أمثالهما يقطعون من الحديث ما فيه فضيلة و منقبة لأمير المؤمنين عليه السلام أو لأهل البيت، و يذكرون ما يتعلّق بالفقه، و يحذفون ما يثبت المناقب.
و من هنا نعرف أنّ هذين الشخصين وضعا أساس كتابيهما على التمويه و الخداع و الدجل و الحيلة و الحذف، و لم يعرضا حقيقة الامور. فلهذا يتميّزان و يترجّحان عند الحكّام و الامراء الجائرين من العامّة، و عند العوامّ الذين هم كالأنعام.
قصيدة الخوارزميّ حول أمير المؤمنين عليه السلام
بَيدَ أنّ كثيراً من العامّة هم من اولي الإنصاف، إذ يعرضون الأحاديث و الروايات كما وصلت، لا يقطعون و لا يحذفون. و نخصّ بالذكر منهم النسائيّ و أحمد بن حنبل و ابن أبي الحديد و السيوطيّ و البيهقيّ و الحاكم و الحسكانيّ و ابن المغازليّ و إبراهيم بن محمّد الحمّوئيّ، و منهم: الحافظ أبو المؤيّد موفّق بن أحمد البكريّ المكّيّ الحنفيّ المعروف بأخطب خوارزم المولود سنة ٤۸٤ ه، و المتوفّى سنة ٥٦۸ ه. و يُعدّ كتابه «المناقب» في فضائل أمير المؤمنين عليه السلام و مناقبه من نفائس الكتب، كما ينظر إليه كمصدر للروايات و الأحاديث التي يرويها عنه أعيان الخاصّة و العامّة، و طبع في آخر مناقبه ثلاث قصائد غرّاء نظهما في مدح مولى الموالى، و كلّ منها تحتوي على مطالب رفيعة.
و نذكر فيما يأتي أبياتاً من قصيدته الاولي:
هَلْ أبْصَرَتْ عَيْنَاكَ في المِحْرابِ | *** | كَأبِي تُرَابٍ مِنْ فَتَى مِحْرابِ |
لِلَّهِ دَرّ أبِي تُرابٍ إنّهُ | *** | أسَدُ الحِرَابِ وَ زِينَةُ المِحْرَابِ |
هُوَ ضَارِبٌ وَ سُيُوفُهُ كَثَواقِبٍ | *** | هُوَ مُطْعِمٌ وَ جِفَانُهُ كَجَوابِ۱ |
إنّ النّبِيّ مَدِينَةٌ لِعُلُومِهِ | *** | وَ علِيّ الهَادِي لَهَا كَالبَابِ |
لَوْ لَا عَلِيّ مَا اهْتَدَى في مُشْكِلٍ | *** | عُمَرٌ وَ لَا أبْدَى جَوَابَ صَوَابِ |
مَا ارْتَابَ في فَضْلِ المُحِقِّ المُهْتَدِي | *** | غَيْرُ الغَوِيّ المُبْطِلِ المُرْتَابِ |
كَالشَّهْدِ مَوْلَانَا عَلِيّ المُرْتَضَى | *** | للأوْلِياءِ وَ لِلْعِدَى كالصَّابِ |
إنّ الوَصِيّ لَمَوْضِعُ الأسْرَارِ إذْ | *** | زَمَّ النّبِيّ مَطِيَّهُ لِذَهَابِ |
إنّ الوَصِيّ أخَا النّبِيّ المُصْطَفَى | *** | زَمَنَ الصِّبَا مَا جَرّ ذَيْلَ تَصَابِ |
وَ لَهُ مَنَاقِبُ مَدَّ مَدْحِي ضَبْعَهُ | *** | فِيهَا وَ أكْثَرُهَا وَرَاءَ نِقَابِ |
يَا عَاتَبِي بِهَوَى عَلِيّ زَدْنُهُ | *** | صِدْقاً هَوَايَ فَزِدْ بِمَكْثِ عِتَابِ |
إنْ كَانَ أسْبَابُ السَّعَادَةِ حُجَّةً | *** | فَهَوَى عَلِيّ آكَدُ الأسْبَابِ |
وَ كَسَوْتُ أعْقَابِي بِنَظْمِي مِدْحَةً | *** | حُلَلًا تَجِدْ عَلَيّ بِالأحْقَابِ |
حَسَنَاهُ وَ هوَ وَ فَاطِمٌ أهْوَاهُمُ | *** | حَقَّاً وَ اوصِى بِالهَوَى أعْقَابِي۱ |
و نختم بحثنا هنا برواية مسندة ذكرها هذا العالم الجليل العامّيّ المذهب: موفّق بن أحمد الخوارزميّ.
قال: أخبرني الحافظ أبو العلاء حسن بن أحمد العطّار الهمدانيّ، و الإمام الأجلّ نجم الدين أبو منصور محمّد بن حسين بن محمّد البغداديّ، قال: أخبرني الإمام الأجلّ نور الهدى أبو طالب حسين بن محمّد بن عليّ الزينيّ، عن الإمام محمّد بن أحمد بن عليّ بن الحسن بن شاذان، قال: حدّثني سهل بن أحمد عن أبي جعفر محمّد بن جرير الطبريّ، عن هنّاد بن سريّ، عن محمّد بن هشام، عن سعيد بن أبي سعيد، عن محمّد بن المنكدر، عن جابر [أنّه] قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: إنّ اللهَ لَمَّا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ دَعَاهُنّ فَأجَبْنَهُ فَعَرَضَ عَلَيْهُنّ نبوَّتِي
وَ وَلَايَةَ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ فَقَبِلَتَاهُمَا. ثُمَّ خَلَقَ الخَلْقَ وَ فَوَّضَ إلَيْنَا أمْرَ الدِّينِ. فَالسَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ بِنَا وَ الشَّقِيّ مَنْ شَقِيَ بِنَا؛ نَحْنُ المُحِلُّونَ لِحَلَالِهِ وَ المُحَرّمُونَ لِحَرامِهِ.۱
الدَّرْسُ الحَادِي وَ السِّتُّونَ بَعْدَ المِائَةِ إلَى الخَامِسِ وَ السِّتِّينَ بَعْدَ المِائَةِ: عَجَائِبُ قَضَاءِ أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
معنى الحكمة الواردة في القرآن الكريم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.۱
قال استاذنا العلّامة الطباطبائيّ في تفسيره: الحِكمة بكسر الحاء على فعلة بناء نوع يدلّ على نوع المعنى. فمعناه النوع من الإحكام و الإتقان، أو نوع من الأمر المحكم المتقن الذي لا يوجد فيه ثلمة و لا فتور. و غلب استعماله في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة التي لا تقبل البطلان و الكذب البتة. فالحكمة هي القضايا الحقّة المطابقة للواقع من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان كالمعارف الحقّة الإلهيّة في المبدأ و المعاد، و المعارف التي تشرح حقائق العالم الطبيعيّ من جهة مساسها بسعادة الإنسان كالحقائق الفطريّة التي هي أساس التشريعات الدينيّة [و الأحكام الإلهيّة].٢
و من هذا المنطلق قال الحكماء الإلهيّون: الحِكْمَةُ هُوَ العِلْمُ بِحقَايقِ الأشْيَاءِ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ البَشَرِيَّةِ. أو: الحِكْمَةُ صَيْرُورَةُ الإنسَانِ عَالِماً عَقْلِيَّاً مُضَاهِياً لِلْعَالَمِ الخَارِجِيّ.
و كان رسول الله صلى الله عليه و آله على ما نطق به القرآن الكريم معلّم الحكمة لُامّته. و تلميذه الوحيد في هذه المدرسة هو مولى الموحّدين أمير المؤمنين الذي فاضت الحكمة من نواحيه حتى كان رسول الله صلى الله عليه و آله يعجب منه في بعض الأوقات، و يبتهج لكثرة علمه و درايته. كما روى أحمد بن حنبل في مسنده بسلسلة سنده المتّصل عن حميد بن عبد الله بن يزيد المدنيّ: إنّهُ ذُكِرَ عِنْدَ النّبِيّ (صلى الله عليه و آله و سلّم) قَضَاءٌ قَضَى بِهِ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ فَأعْجَبَ النّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ قَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَلَ الحِكْمَةَ فِينَا أهْلَ البَيْتِ.۱
و روى موفّق بن أحمد الخوارزميّ بسنده المتّصل عن زيد العمي، عن أبي صديق الناجي، عن أبي سعيد الخُدريّ أنّه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: إنّ أقْضَى امَّتِي عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ.٢
و كذلك روى الخوارزميّ بسنده المتّصل عن سلمان، عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنّه قال: أعْلَمُ امَّتِي مِنْ بَعْدِي عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ.٣
و يتعذّر على الإنسان أن يحكم بالحقّ في جميع الامور، و يقضي به في كافّة المسائل و المواطن ما لم يستنر قلبه بنور الله، و يطّلع على أسرار
عالم الخارج، و يكتنه حقيقة الملك و الملكوت و يدركها كما هي. و خاطب الله سبحانه و تعالى نبيّه داود على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام قائلًا:
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ.۱
نجد هنا أنّ الله جلّ و علا رتّب الحكم بالحقّ على الخلافة. و لا يصدر الحكم بالحقّ ما لم تتحقّق هذه الخلافة الإلهيّة. و كلّ من تمرّد على الخلافة الإلهيّة و اتّبع هوى نفسه الأمّارة، فإنّه يتيه و يضلّ عن السبيل. و لن تفتح في وجهه نافذة من عالم النور، إذ إنّ نسيان الله و يوم القيامة طريق معاكس لطريق الخلافة الإلهيّة التي تستلزم اليقظة و الوعي و التنبّه و العرفان و الالتزام و المسئوليّة و العمل بما يتطلّبه منهج العبوديّة.
و لا تحصى الروايات و الأحاديث المأثورة عن الخاصّة و العامّة في تفرّد أمير المؤمنين عليه السلام في القضاء و الحكم بالحقّ و تدفّقه بالعلم و العرفان.
قال الإمام محمّد الباقر عليه السلام: لَيْسَ أحَدٌ يَقْضِي بِقَضَاءٍ يُصِيبُ فِيهِ الحَقَّ إلَّا مِفْتَاحُهُ قَضَاءُ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ.
و جاء في كتاب «فضائل الصحابة» لأبي المظفّر السمعانيّ، عن عبد الرحمن بن أبي قبيصة، عن أبيه، عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قال: عَلِيّ أقْضَى امَّتِي فَمَن أحَبَّني فَلْيُحِبَّهُ فَإنّ العَبْدَ لَا يَنَالُ وَلَايَتِي إلَّا بِحُبِّ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ.٢
و ورد في مسند أحمد بن حنبل بسنده المتّصل عن يحيي بن سعيد، عن المسيّب قال: كَانَ عُمَرُ يَتَعَوَّذُ بِاللهِ مِنْ مُعْضَلَةٍ لَيْسَ لَهَا أبُو الحَسَنِ عَلَيهِ السَّلَامُ.۱
و روى موفّق بن أحمد الخوارزميّ بسنده المتّصل عن يحيى بن سعيد، عن المسيّب قال: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: اللهُمَّ لَا تُبْقِنِي لِمُعْضَلَةٍ لَيْسَ لَهَا ابْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السَّلَامُ.٢
و روى أيضاً بإسناده عن أبي الدرداء [أنّه] قال: العلماء ثلاثة: رجل بالشام، يعني نفسه. و رجل بالكوفة، يعني عبد الله بن مسعود. و رجل بالمدينة، يعني عليّاً. فالذي بالشام يسأل الذي بالكوفة. و الذي بالكوفة يسأل الذي بالمدينة. و الذي بالمدينة لا يسأل أحداً.
و كثير من هذه الأحاديث ذكرها من العامّة إبراهيم بن محمّد الحمّوئيّ في كتاب «فرائد السمطين».٣
علم أمير المؤمنين كعلم آدم، و قد عدّه النبيّ الأكرم أقضى الامّة
و روى الحاكم الحسكانيّ و جلال الدّين السيوطيّ بسندهما المتّصل عن أبي راشد الحبرانيّ، عن أبي الحمراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: مَنْ أرَادَ أنْ يَنْظُرَ إلَى آدَمَ في عِلْمِهِ، و إلَى نُوحٍ في فَهْمِهِ، وَ إلَى إبْراهِيمَ في حِلْمِهِ، وَ إلَى يَحْيَى في زُهْدِهِ، وَ إلَى موسى في بَطْشِهِ فَلْيَنْظُرْ
إلَى عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ.۱
و كذلك روى السيوطيّ عن أبي راشد الحمّانيّ، عن أبي هارون العبديّ، عن أبي سعيد الخُدري أنّه قال:
كُنّا حَوْلَ النّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، فَأقْبَلَ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ، فَأدَامَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ النّظَرَ إلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: مَنْ أرَادَ أنْ يَنْظُرَ إلَى آدَمَ في عِلْمِهِ وَ إلَى نُوحٍ في حُكْمِهِ، وَ إلَى إبْرَاهِيمَ في حِلْمِهِ، فَلْيَنْظُرْ إلَى هَذَا. وَ اللهُ أعْلَمُ.٢
و روى ابن عساكر بسندين متّصلين عن ابن شِبْرَمَة أنّه كان يقول: مَا كَانَ أحَدٌ يَقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: «سَلُونِي» عَنْ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ إلَّا عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ.٣
و المراد من اللوحين: اللوح المحفوظ، و لوح المحو و الإثبات. أي: عالم القضاء الإلهيّ الكلّيّ و الحتميّ، و عالم التقدير و القضاء الإلهيّ الجزئيّ. أعني: جميع وقائع ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة. و كذلك عالم الملكوت الأعلى و الملكوت الأسفل.٤
و كذلك روى بسنده عن سعيد بن المسيّب أنّه قال: لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنْ أصْحَابِ النّبِيّ (صلى الله عليه و آله و سلّم) يَقُولُ: «سَلُونِي» إلَّا عَلِيّ.۱
و روى بسنده أيضاً عن عمير بن عبد الله أنّه قال: خَطَبَنَا عَلِيّ [بْنُ أبِي طَالِبٍ] عَلَى مِنْبَرِ الكُوفَةِ؛ فَقَالَ: أيُّهَا النّاسُ! سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي! فَبَيْنَ الجَنْبَيْنِ مِنّي عِلْمٌ جَمٌّ.٢
و روى بسنده المتّصل أيضاً عن الضحّاك، عن ابن عبّاس أنّه قال: قُسِّمَ عِلْمُ النّاسِ خَمْسَةَ أجْزَاءٍ؛ فَكَانَ لِعَليّ مِنْهَا أرْبَعَةُ أجْزَاءٍ، وَ لِسَائِر النّاسِ جُزْءٌ، وَ شَارَكَهُمْ عَلِيّ في الجُزْءِ فَكَانَ أعْلَمَ بِهِ مِنْهُمْ. و عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عبّاس، قال: إذ ثبت لنا الشيء عن عليّ، لم نعدل به إلى غيره.٣
و ذكر بسنده المتّصل عن عكرمة، عن ابن عبّاس، قال: إذَا بَلَغَنَا شَيءٌ تَكَلَّمَ بِهِ عَلِيّ مِنْ فُتْيَا أوْ قَضَاءٍ وَ ثَبَتَ، لَمْ نُجَاوِزْهُ إلَى غَيْرِهِ.٤
و نقل بسنده أيضاً أنّ عكرمة يحدّث عن ابن عبّاس أنّه كان يقول: إذَا حَدَّثَتْنَا ثِقَةٌ عَنْ عَلِيّ يَقِيناً لَا نَعْدُوهَا.٥
و قد ذكرنا في الدرس الثالث و الخمسين بعد المائة إلى الدرس السادس و الخمسين بعد المائة من هذا الجزء أنّ الأحاديث المتواترة معنى
قد اثرت أنّ رسول الله قال: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. و على ضوء تفسير الآية القرآنيّة المباركة: وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها فإنّ المراد من الأبواب هم الأئمّة الطاهرون و على رأسهم أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أجمعين، و هم الذين ينبغي لنا أن نأخذ العلم منهم فحسب و نعمل به. و هم منهل الماء الزلال العذب المفيد. و أمّا أخذ العلم من الآخرين، فهو ليس أخذ علم، بل أخذ جهل و ضلال و غيّ. و أخذ صديد جهنّم و قيحها و غلسينها. و هذا الضرب من الأخذ لا يروي مهجة الإنسان، بل يزيد مرضه و ظمأه و صداعه حتى يقتله.
خطبة «نهج البلاغة» في لزوم اتّباع أبواب مدينة العلم
و قال مولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين في «نهج البلاغة»:
وَ نَاظِرُ قَلْبِ اللَّبِيبِ بِهِ يُبْصِرُ أمَدَهُ، وَ يَعْرِفُ غَوْرَهُ وَ نَجْدَهُ.
دَاعٍ دَعَا، وَ راعٍ رَعَى، فَاسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي وَ اتَّبِعُوا الرّاعِيَ! (الداعي رسول الله و الراعي أمير المؤمنين).
قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الفِتَنِ، وَ أخَذُوا بِالبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ. وَ أرَزَ۱ المُؤْمِنُونَ وَ نَطَقَ الضَّالُّونَ المُكَذِّبُونَ. نَحْنُ الشِّعَارُ وَ الأصْحَابُ وَ الخَزَنَةُ وَ الأبْوَابُ. لَا تُؤْتَى البُيُوتُ إلَّا مِنْ أبْوَابِهَا. فَمَنْ أتَاهَا مِنْ غَيْرِ أبْوَابِهَا سُمِّي سَارِقاً.
(منها) فِيهِم (أهل بيت النبويّ الكريم) كَرَائِمُ القُرْآنِ، وَ هُمْ كُنُوزُ الرّحْمَنِ. إنْ نَطَقُوا صَدَقُوا وَ إنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا. (أي أنّ مقامهم المكين
و الرصين على درجة أنّهم حتى لو كانوا صامتين، فلا يعقل الكلام الصحيح و السديد أمامهم. و لهذا لا جرأة لأحد على الكلام).
فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أهْلَهُ! (و هو الذي يرسل من قبل القافلة و القبيلة لتقصّى الماء و الكلاء في الصحراء، ثمّ يخبر من أرسله، فليصدق أهله عند رجوعه). وَ لْيُحْضِرْ عَقْلَهُ (أي: أنتم الذين اجتمعتم هنا من حواضر مختلفة، و تسمعون خطبتي، مَثَل أحدكم كمثل الرائد الذي جاء من قبل قومه لطلب الحقيقة و المعنويّة، اصدقوا عند رجوعكم إلى قومكم و قبيلتكم، و بيّنوا ما تشاهدونه منّا بلا زياده و لا نقصان). وَ لْيَكُنْ مِنْ أبْنَاءِ الآخِرَةِ فَإنّهُ مِنْهَا قَدِمَ وَ إلَيْهَا يَنْقَلِبُ. فَالنّاظِرُ بِالقَلْبِ العَامِلُ بِالبَصَرِ يَكُونُ مُبْتَدَا عَمَلِهِ أنْ يَعْلَمَ أ عَمَلُهُ عَلَيْهِ أمْ لَهُ؟! فَإنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ، وَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عَنْهُ. فَإنّ العَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ إلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ. وَ العَامِلُ بِالعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الوَاضِحِ.
فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ أ سَائرٌ هُوَ أمْ رَاجِعٌ. وَ اعْلَمْ أنّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِنَاً عَلَى مِثَالِهِ، فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ. وَ مَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ. وَ قَدْ قَالَ الرّسُولُ الصَّادِقُ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: إنّ اللهَ يُحِبُّ العَبْدَ وَ يُبْغِضُ عَمَلَهُ. وَ يُحِبُّ العَمَلَ وَ يُبْغِضُ بَدَنَهُ.
وَ اعْلَمْ أنّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً وَ كُلُّ نَبَاتٍ لَا غِنى بِهِ عَنِ المَاءِ، وَ المِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ فَمَا طَابَ سَقْيُهُ، طَابَ غَرْسُهُ وَ حَلَتْ ثَمَرَتُهُ. وَ مَا خَبُثَ سَقْيُهُ، خَبُثَ غَرْسُهُ وَ أمَرّتْ ثَمَرَتُهُ.۱
يقول الإمام في هذه الخطبة إنّ مخالفيهم هم الضالّون المكذّبون.
و هم الذين تقدّموا عليهم و أصبحوا روّاد القافلة. و المؤمنون يزحفون و يراوحون في جحر الوحدة و الغربة. و إنّ التربية التي يربّي بها اولئك الضالّون الناسَ، تربية نابعة من نفوسهم الخبيثة التي تسوق إلى الضلال و الضياع، و تقتل الاستعداد كالماء العفن الاجاج الذي تسقي به المزارع، فتفسد ثمارها. أيّها الناس! نحن آل محمّد الذي نزل فينا القرآن! و نحن الذين صفا علمنا فلا كدر و لا غشّ فيه، و هو من معدن النور و التجرّد و العرفان! و إن اتّبعتم هذا العلم. فعملكم صحيح و يبلغ بكم ما ترومون. و إن لم تتّبعوه، فعملكم باطل، و تحركّكم في الطريق المعاكس، و ستنأون عن المقصود يوماً بعد يوم. و ستخطون في الاتّجاه المضادّ لنهج السعادة. و هيهات أن تشمّوا رائحة الوجدان و الإنصاف و الحقيقة و العبوديّة و الإيثار و العرفان و التوحيد.
أيّها الناس! من تعلّم العلم من غيرنا فهو كمن دخل بيتاً من جداره أو سطحه -من غير بابه- و يعدّ هكذا إنسان سارقاً لا طالباً للعلم، فيلقى عليه القبض و يودع السجن لتقطع يده. و سوف لن يجني ممّا في الدار أبداً.
قال ابن أبي الحديد۱ في شرح هذه الخطبة: و الخزنة و الأبواب،
وَ رَأيْتُ دِينَ الاعْتِزَالِ وَ إنّنِي | *** | أهْوَى لأجْلِكَ كُلَّ مَنْ يَتَشيَّعُ |
يمكن أن يعني به خزنة العلم و أبواب العلم لقول رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فَمَنْ أرَادَ الحِكْمَةَ فَلْيَأتِ البَابَ. و قوله فيه: خَازِنُ عِلْمِي. و قال تارة اخرى: عَيْبَةُ عِلْمِي.
و يمكن أن يريد خزنة الجنّة، و أبواب الجنّة. أي لا يدخل الجنّة إلّا من وافي بولايتنا؛ فقد جاء في حقّه الخبر الشائع المستفيض: إنّهُ قَسِيمُ النّارِ وَ الجَنّةِ.
و ذكر أبو عبيد الهرويّ في «الجمع بين الغريبين» أنّ قوماً من أئمّة العربيّة فسّروه فقالوا: لأنّه لمّا كان مُحِبُّه من أهل الجنّة، و مُبغضه من أهل النار، كأنّه بهذا الاعتبار قسيم النار و الجنّة. قال أبو عبيد: و قال غير هؤلاء: بل هو قسيمها بنفسه في الحقيقة، يدخل قوماً إلى الجنّة، و قوماً إلى النار.
[قال ابن أبي الحديد]: و هذا الذي ذكره أبو عبيد أخيراً هو ما يطابق الأخبار الواردة فيه. يقول للنار: هَذَا لِي فَدَعِيهِ! وَ هَذَا لَكِ فَخُذِيهِ!
ثمّ ذكر [أمير المؤمنين عليه السلام] أنّ البيوت لا تؤتى إلّا من أبوابها. قال الله تعالى: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها.۱
ثمّ قال [عليّ عليه السلام]: من أتاها من غير أبوابها سمّى سارقاً. و هذا حقٌّ ظاهراً و باطناً. أمّا الظاهر فلأنّ من يتسوّر البيوت من غير أبوابها هو السارق. و أمّا الباطن فلأنّ من طلب العلم من غير استاذ محقّق فلم يأته من بابه؛ فهو أشبه شيء بالسارق.۱
و ذكر ابن أبي الحديد هنا فصلًا مشبعاً من مناقب أمير المؤمنين عليه السلام و محامده و فضائله. و نقل كثيراً من الأحاديث الثابتة المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه و آله فيه. و على الرغم من أنّنا أوردنا في كتابنا هذا بأجزائه كثيراً من الأحاديث المشار إليها، و تحدّثنا عنها، بَيدَ أنّه لمّا جمعها كلّها هنا و قسّمها و بوّبها، و رواها في أربع و عشرين رواية متقنة من مصادر أهل السنّة، فمن المستحسن أن ننقل عين مطالبه، و نأتي بهذه الأحاديث النفيسة نصّاً:
ذكر الأحاديث و الأخبار الواردة في فضائل عليٍ
و اعلم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لو فخر بنفسه، و بالغ في تعديد مناقبه و فضائله بفصاحته التي آتاه الله تعالى إيّاها، و اختصّه بها، و ساعده على ذلك فصحاء العرب كافّة، لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به الرسول الصادق صلوات الله عليه في أمره؛ و لست أعني بذلك الأخبار العامّة الشائعة التي يحتجّ بها الإماميّة على إمامته، كخبر الغدير، و [حديث] المنزلة، و قصّة براءة، و خبر المناجاة، و قصّة خيبر، و خبر [دعوة العشيرة إلى] الدار بمكّة في ابتداء الدعوة، و نحو ذلك. بل الأخبار الخاصّة التي رواها فيه أئمّة الحديث، التي لم يحصل أقلّ القليل منها لغيره؛ و أنا أذكر
من ذلك شيئاً يسيراً ممّا رواه علماء الحديث الذين لا يُتَّهمون فيه، و جلّهم قائلون بتفضيل غيره عليه؛ فروايتهم فضائله توجب سكون النفس ما لا يوجبه رواية غيرهم.
الخَبَرُ الأوَّلُ: يَا عَلِيّ! إنّ اللهَ قَدْ زَيَّنَكَ بِزِينَةٍ لَمْ يُزَيِّنِ العِبَادَ بِزِينَةٍ أحَبَّ إلَيْهِ مِنْهَا، هِيَ زِينَةُ الأبْرَارِ عِنْدَ اللهِ تَعَالى: الزُّهْدُ في الدُّنْيَا، جَعَلَكَ لَا تَرْزَأُ مِنَ الدُّنْيَا شَيئاً، وَ لَا تَرْزَأُ الدُّنْيَا مِنْكَ شَيْئاً، وَ وَهَبَ لَكَ حُبَّ المَسَاكِينِ، فَجَعَلَكَ تَرْضَى بِهِمْ أتْبَاعَاً، وَ يَرْضَوْنَ بِكَ إمَاماً.۱
رواه أبو نعيم الحافظ٢ في كتابه المعروف ب «حلية الأولياء». و زاد
فيه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في «المسند»: فَطُوبَى لِمَنْ أحَبَّكَ وَ صَدَّقَ فِيكَ! وَ وَيْلٌ لِمَنْ أبْغَضَكَ وَ كَذَّبَ فِيكَ!
الخَبَرُ الثَّانِي: قال [النبيّ] لوفد ثقيف: لَتُسْلِمُنّ أوْ لأبْعَثَنّ إلَيْكُمْ رَجُلًا مِنّي أوْ قَالَ: عَدِيلَ نَفْسِي فَلَيَضْرِبَنّ أعْنَاقَكُمْ وَ لَيَسبِيَنّ ذَراريَكُمْ، وَ لَيَأخُذَنّ أمْوَالَكُمْ.
قال عمر: فما تمنيّتُ الإمارة إلّا يؤمئذٍ؛ و جعلتُ أنصب له صدري رجاء أن يقول: هُوَ هَذَا! فالتفتَ فأخذ بِيَدِ عليّ و قال: هُوَ هَذَا، مَرّتَينِ!
رواه أحمد في «المسند». و رواه في كتاب «فضائل عليّ» عليه السلام أنّه قال: لَتُنتَهُنّ يَا بَنِي وَلِيعَةَ۱ أوْ لأبْعَثَنّ إلَيْكُمْ رَجُلًا كَنَفْسِي، يُمْضِي فِيكُمْ أمْرِي؛ يَقْتُلُ المُقَاتِلَةَ وَ يَسْبِي الذُّرّيَّة!
قال أبو ذرّ: فما راعني إلّا برد كفّ عمر في حُجزتي من خَلفي، يقول: مَنْ تَرَاهُ يَعْنِي؟ فقلت: إنّهُ لا يَعْنِيكَ! وَ إنّمَا يَعْنِي خَاصِفَ النّعْلِ؛ وَ إنّهُ قَالَ: «هُوَ هَذَا».
الخَبَرُ الثَّالِثُ: إنّ اللهَ عَهِدَ إلَيّ في عَلِيّ عَهْداً؛ فَقُلْتُ: يَا رَبِّ بَيِّنْهُ لِي!
قَالَ: اسْمَعْ! إنّ عَلِيَّاً رَايَةُ الهُدَى؛ وَ إمَامُ أولِيَائِي؛ وَ نُورُ مَنْ أطَاعَنِي؛ وَ هُوَ الكَلِمَةُ التي ألْزَمْتُها المتَّقِينَ. مَنْ أحَبَّهُ فَقَدْ أحَبَّنِي؛ وَ مَنْ أطَاعَهُ فَقَدْ أطَاعَنِي!
فَبَشِّرْهُ بِذَلِكَ! فَقُلْتُ: قَدْ بَشَّرْتُهُ يَا رَبِّ!
فَقَالَ: أنَا عَبْدُ اللهِ وَ في قَبْضَتِهِ؛ فَإنْ يُعَذِّبْنِي فَبِذُنُوبِي لَمْ يَظْلِمْ شَيئاً؛ وَ إنْ يُتِمَّ لِي مَا وَعَدَنِي فَهُوَ أوْلَى. وَ قَدْ دَعَوْتُ لَهُ؛ فَقُلْتُ: اللَهُمَّ اجْلُ قَلْبَهُ وَ اجْعَلْ رَبِيعَهُ الإيمَانَ بِكَ!
قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ؛ غَيْرَ أنّي مُخْتَصُّهُ بِشَيءٍ مِنَ البَلَاءِ لَمْ أخْتَصَّ بِهِ أحَداً مِنْ أولِيَائِي.
فَقُلْتُ: رَبِّ! أخِي وَ صَاحِبِي!
قَالَ: إنّهُ سَبَقَ في عِلْمِي أنّه لَمُبْتَلٍ وَ مُبْتَلَى.۱
ذكر أبو نعيم الحافظ في «حلية الأولياء» عن أبي برزة الأسلميّ؛ ثمّ رواه بإسناد آخر بلفظ آخر، عن أنس بن مالك: إنّ رَبَّ العَالَمِينَ عَهِدَ في عَلِيّ إلَيّ عَهْداً أنّهُ رَايَةُ الهُدَى، وَ مَنَارُ الإيمَانِ، وَ إمَامُ أوْلِيَائِي، وَ نُورُ جَمِيعِ
مَنْ أطَاعَنِي، إنّ عَلِيَّاً أمِينِي غَداً في القِيَامَةِ، وَ صَاحِبُ رَايَتِي، بِيَدِ عَلِيّ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ رَحْمَةِ رَبِّي.
الخَبَرُ الرّابِعُ: مَنْ أرَادَ أنْ يَنْظُرَ إلَى نُوحٍ في عَزْمِهِ، وَ إلَى آدَمَ في عِلْمِهِ، وَ إلَى إبرَاهِيمَ في حِلْمِهِ، وَ إلَى موسى في فِطْنَتِهِ، وَ إلَى عيسى في زُهْدِهِ، فَلْيَنْظُرْ إلَى عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ.
رواه أحمد بن حنبل في «المسند» و رواه أحمد البيهقيّ في صحيحه.
الخَبَرُ الخَامِسُ: مَنْ سَرّهُ أنْ يَحْيَا حَيَاتِي، وَ يَمُوتَ مِيتَتِي، وَ يَتَمَسَّكَ بِالقَضِيبِ مِنَ إليَاقُوتِةِ التي خَلَقَهَا اللهُ تَعَالى بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهَا كُونِي فَكَانَتْ فَلْيَتَمَسَّكَ بِوَلَاءِ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ.
ذكره أبو نعيم الحافظ في كتاب «حلية الأولياء». و رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتابيه: «المسند» و «فضائل عليّ بن أبي طالب». و حكاية لفظ أحمد:
مَنْ أحَبَّ أن يَتَمَسَّكَ بِالقَضِيبِ الأحْمَرِ الذي غَرَسَهُ اللهُ في جَنّةِ عَدْنٍ بِيَمِينِهِ، فَلْيَتَمَسَّكْ بِحُبِّ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ.
الخَبَرُ السَّادِسُ: وَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَا أنْ تَقُولَ طَوَائِفُ مِنْ امَّتِي فِيكَ مَا قَالَتِ النصارى في ابْنِ مَرْيَمَ، لَقُلْتُ اليَوْمَ فِيكَ مَقَالًا لَا تَمُرّ بِمَلأٍ مِنَ المُسْلِمِينَ إلَّا أخَذُوا التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْكَ لِلْبَرَكَةِ.
ذكره أبو عبد الله أحمد بن حنبل في «المسند».
الخَبَرُ السَّابِعُ: خرج [رسول الله] صلى الله عليه و آله على الحجيج عشيّة عرفة، فقال لهم: إنّ اللهَ قَدْ بَاهَى بِكُمُ المَلَائِكَةَ عَامَّةً وَ غَفَرَ لَكُمْ عَامَّةً؛ وَ بَاهى بِعَلِيّ خَاصَّةً، وَ غَفَرَ لَهُ خَاصَّةً! إنّى قَائِلٌ لَكُمْ قَوْلًا غَيْرَ مُحَابٍ فِيهِ لِقَرَابَتِي: إنّ السَّعِيدَ كُلَّ السَّعِيدِ حَقَّ السَّعِيدِ مَنْ أحَبَّ عَلِيَّاً في حَيَاتِهِ وَ بَعْدَ مَوْتِهِ!
رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب «فضائل عليّ عليه السلام»؛ و في «المسند» أيضاً.
الخَبَرُ الثَّامِنُ: رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في الكتابين المذكورين:
أنَا أوَّلُ مَنْ يُدْعَى بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ فَأقُومُ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ في ظِلِّهِ؛ ثُمَّ اكْسَى حُلَّةً. ثُمَّ يُدْعَى بِالنّبِيِّينَ بَعْضِهِمْ عَلَى أثَرِ بَعْضٍ. فَيَقُومُونَ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ؛ وَ يُكْسَوْنَ حُلَلًا، ثُمَّ يُدْعَى بِعَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ لِقَرَابَتِهِ مِنّي وَ مَنْزِلَتِهِ عِنْدِي؛ وَ يُدْفَعُ إلَيْهِ لِوَائِي لِوَاءَ الحَمْدِ؛ آدَمُ وَ مَنْ دُونَهُ تَحْتَ ذَلِكَ اللِّوَاءِ.
ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ: فَتَسِيرُ بِهِ حتى تَقِفَ بَيْنِي وَ بَيْنَ إبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ؛ ثُمَّ تُكْسَى حُلَّةً وَ يُنادِي مُنَادٍ مِنَ العَرْشِ: نِعْمَ العَبْدُ أبُوكَ إبْرَاهِيمُ! وَ نِعْمَ الأخُ أخُوكَ عَلِيّ! أبْشِرْ فَإنّكَ تُدْعَى إذَا دُعِيتُ؛ وَ تُكْسَى إذَا كُسِيتُ، وَ تَحْيَى إذَا حَيِيتُ!
الخَبَرُ التَّاسِعُ: يَا أنَسُ! اسْكُبْ لِي وُضُوءاً. ثمّ قام [رسول الله صلى الله عليه و آله] فصلّى ركعتين، ثمّ قال: أوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْكَ مِنْ هَذَا البَابِ إمَامُ المُتَّقِينَ، وَ سَيِّدُ المُسْلِمِينَ، وَ يَعْسُوبُ الدِّينِ، وَ خَاتَمُ الوَصِيِّينَ، وَ قَائِدُ الغُرّ المُحَجَّلِينَ.
قال أنس: فقلتُ: اللهمّ اجعله رجلًا من الأنصار۱ و كتبت دعوتي، فجاء عليّ، فقال رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم): من جاء يا أنس؟! فقلتُ: عليّ.
فقام إليه [رسول الله] مستبشراً، فاعتنقه، ثمّ جعل يمسح عرق وجهه. فقال عليّ:
يَا رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْكَ وَ آلِكَ! لَقَدْ رأيْتُ مِنْكَ اليَوْمَ تَصْنَعُ بِي شَيئاً مَا صَنَعْتَهُ بِي قَبْلُ!
قال [رسول الله صلى الله عليه و آله]: وَ مَا يَمْنَعُنِي وَ أنْتَ تُؤَدِّي عَنّي، وَ تُسْمِعُهُمْ صَوْتِي، وَ تُبَيِّنُ لَهُمْ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بَعْدِي!۱
رواه أبو نعيم الحافظ في «حلية الأولياء».
الخَبَرُ العَاشِرُ: ادْعُوا لِي سَيِّدَ العَرَبِ عَلِيَّاً.
فقالت عائشة: أ لَسْتَ سَيِّدَ العَرَبِ؟
فقال صلى الله عليه و آله: أنَا سَيِّدُ وُلْدِ آدَمَ وَ عَلِيّ سَيِّدُ العَرَبِ.
فلمّا جاء، أرسل إلى الأنصار، فأتوه، فقال لهم: يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ! أ لَا أدُلُّكُمْ عَلَى مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا أبَداً؟ قالوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.
قال [صلّى الله عليه و آله]: هَذَا عَلِيّ فَأحِبُّوهُ بِحُبِّي! وَ أكْرِمُوهُ بِكَرَامَتِي! فَإنّ جَبْرَائِيلَ أمَرَنِي بِالَّذِي قُلْتُ لَكُمْ عَنِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ!٢
رواه الحافظ أبو نُعَيم في «حلية الأولياء».
الخَبَرُ الحَادِي عَشَر: مَرْحَباً بِسَيِّدِ المُؤْمِنِينَ؛ وَ إمَامِ المُتَّقِينَ!
فقيل لعليّ: كَيْفَ شُكْرُكَ؟
فقال عليه السلام: أحْمَدُ اللهَ عَلَى مَا آتَانِي، وَ أسْألُهُ الشُّكْرَ عَلَى مَا
أوْلَانِي، وَ أنْ يَزِيدَنِي مِمَّا أعْطَانِي.
ذكره صاحب «الحلية» أيضاً.
الخَبَرُ الثَّانِي عَشَر: مَنْ سَرّهُ أنْ يَحْيَا حَيَاتِي وَ يَمُوتَ مَمَاتِي وَ يَسْكُنَ جَنّةَ عَدْنٍ التي غَرَسَهَا رَبِّي فَلْيُوَالِ عَلِيَّاً مِنْ بَعْدِي، وَ لِيُوَالِ وَلِيَّهُ؛ وَ ليَقْتَدِ بِالأئمَّةِ مِنْ بَعْدِي، فَإنّهُمْ عِتْرَتِي، خُلِقُوا مِنْ طِينَتِي، وَ رُزِقُوا فَهْماً وَ عِلْماً. فَوَيْلٌ لِلمُكَّذِّبِينَ مِنْ امَّتِي! القَاطِعِينَ فِيهِمْ صِلَتِي؛ لَا أنَالَهُمْ اللهُ شَفَاعَتِي!
ذكره صاحب «الحلية» أيضاً.
الخَبَرُ الثَّالِثُ عَشَر: بعث رسول الله صلى الله عليه و آله خالد بن الوليد في سريّة (الجهاد في سبيل الله، الذي لم يشترك فيه رسول الله)، و بعث عليّاً عليه السلام في سريّة اخرى، و كلاهما إلى اليمن، و قال:
إن اجْتَمَعْتُمَا فَعَلِيّ عَلَى النّاسِ، وَ إنِ افْتَرَقْتُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا عَلَى جُنْدِهِ.
فاجتمعا، و أغارا، و سبيا نساءً، و أخذا أموالًا، و قتلا ناساً؛ و أخذ عليّ جاريةً فاختصّها لنفسه.
فقال خالد لأربعة من المسلمين، منهم بُرَيْدة الأسلميّ: اسبقوا إلى رسول الله (صلى الله عليه و آله و سلّم)، فاذكروا له كذا، و اذكروا له كذا! لُامور عدّدها على عليّ. فسبقوا إليه، فجاء واحد من جانبه، فقال: إنّ عليّاً فعل كذا، فأعرض عنه. فجاء الآخر من الجانب الآخر، فقال: إنّ عليّاً فعل كذا، فأعرض عنه. فجاء بُريدة الأسلميّ فقال: يَا رَسُولَ اللهِ! إنّ عليّاً فعل ذلك. فأخذ جارية لنفسه.
فَغَضِبَ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ حتى احْمَرَ وَجْهُهُ؛ وَ قَالَ: دَعَوا لِي عَلِيَّاً (يُكَرّرُهَا) إنّ عَلِيَّاً مِنّي وَ أنَا مِنْ عَلِيّ؛ وَ إنّ حَظَّهُ في الخُمْسِ أكْثَرُ مِمَّا أخَذَ؛ وَ هُوَ وَلِيّ كُلِّ مُؤْمِنٍ [وَ مُؤْمِنَةٍ] مِنْ بَعْدِي.
رواه أبو عبد الله أحمد في «المسند» غير مرّة. و رواه في كتاب «فضائل عليّ»؛ و رواه أكثر المحدّثين.
الخَبَرُ الرّابِعُ عَشَرَ: كُنْتُ أنَا وَ عَلِيّ نُوراً بَيْنَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ آدَمَ بِأرْبَعَةِ عَشَرَ ألْفَ عَامٍ، فَلَمَّا خَلَقَ آدَمَ قَسَّمَ ذَلِكَ فِيهِ، وَ جَعَلَهُ جُزْءَيْنِ فَجُزْءٌ أنَا وَ جُزْءٌ عَلِيّ.
رواه أحمد في «المسند» و في كتاب «فضائل عليّ عليه السلام»؛ و ذكره صاحب كتاب «الفردوس»، و زاد فيه: ثُمَّ انْتَقَلْنَا حتى صِرْنَا في عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَكَانَ لِيَ النّبُوَّةُ، وَ لِعَلِيّ الوَصِيَّةُ.
الخَبَرُ الخَامِسُ عَشَر: النّظَرُ إلَى وَجْهِكَ يَا عَلِيّ عِبَادَةٌ! أنْتَ سَيِّدٌ في الدُّنْيَا وَ سَيِّدٌ في الآخِرَةِ! مَنْ أحَبَّكَ أحَبَّني؛ وَ حَبِيبِي حَبِيبُ اللهِ! وَ عَدُوُّكَ عَدُوِّي، وَ عَدُوُّي عَدُوُّ اللهِ. الوَيْلُ لِمَنْ أبْغَضَكَ!
رواه أحمد في «المسند»، و قال: و كان ابن عبّاس يفسّره، و يقول: إنّ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْهِ، يَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ! مَا أعْلَمَ هَذَا الفَتَى! سُبْحَانَ اللهِ مَا أشْجَعَ هَذَا الفَتَى! سُبْحَانَ اللهِ! مَا أفْصَحَ هَذَا الفَتَى!
الحَدِيثُ السَّادِسُ عَشَر: لمّا كانت ليلة بدر، قال رسول الله صلى الله عليه و آله: مَنْ يَسْتَقِي لَنَا مَاءً؟ فَأحْجَمَ النّاسُ، فَقَامَ عَلِيّ فَاحْتَضَنَ قِرْبَةً؛ ثُمَّ أتَى بِئْراً بَعِيدَةَ القَعْرِ مُظْلِمَةً، فَانْحَدَرَ فِيهَا، فَأوْحَى اللهُ إلَى جِبْرِيلَ وَ مِيكَائِيلَ وَ إسْرَافِيلَ أنْ تَأهَّبُوا لِنَصْرِ مُحَمَّدٍ وَ أخِيهِ وَ حِزْبِهِ! فَهَبَطُوا مِنَ السَّمَاءِ، لَهُمْ لَغْطٌ يَذْعَرُ مَنْ يَسْمَعُهُ، فَلَمَّا حَاذُوا البِئْرَ، سَلَّمُوا عَلَيهِ مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ إكْرَاماً لَهُ وَ إجْلَالًا.
رواه أحمد في كتاب «فضائل عليّ عليه السلام» و زاد فيه في طريق اخرى عن أنس بن مالك: لَتُؤْتَيَنّ يَا عَلِيّ يَوْمَ القِيَامَةِ بِنَاقَةٍ مِنْ نُوقِ الجَنّةِ فَتَرْكَبُهَا، وَ رُكْبَتُكَ مَعَ رُكْبَتِي، وَ فَخِذُكَ مَعَ فَخِذِي؛ حتى تَدْخُلَ الجَنّةَ!
الحَدِيثُ السَّابِعُ عَشَر: خطب [رسول الله] صلى الله عليه و آله الناس يوم جمعة، فقال: أيُّهَا النّاسُ! قَدِّمُوا قُرَيْشاً وَ لَا تَقْدُمُوها! وَ تَعَلَّمُوا مِنْهَا وَ لَا تُعَلِّمُوهَا!
قُوَّةُ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَعْدِلُ قُوَّةَ رَجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَ أمَانَةُ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ تَعْدِلُ أمَانَةَ رَجُلَيْنِ مِنْ غَيْرِهِمْ.
أيُّهَا النّاسُ! اوصِيكُمْ بِحُبِّ ذِي قُرْبَاهَا: أخِي وَ ابْنِ عَمِّي عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ! لَا يُحُبُّهُ إلَّا مُؤْمِنٌ وَ لَا يُبْغِضُهُ إلَّا مُنَافِقٌ. مَنْ أحَبَّهُ فَقَدْ أحَبَّنِي؛ وَ مَنْ أبْغَضَهُ فَقَدْ أبْغَضَنِي. وَ مَنْ أبْغَضَنِي عَذَّبَهُ اللهُ بِالنّارِ.
رواه أحمد في كتاب «فضائل عليّ عليه السلام».
الحَدِيثُ الثَّامِنُ عَشَر: الصِّدِّيقُونَ ثَلَاثَةٌ: حَبِيبُ النّجَّارُ الذي جَاءَ مِنْ أقْصَى المَدِينَةِ يَسْعَى؛ وَ مُؤْمِنُ آل فِرْعُونَ الذي كَانَ يَكْتُمُ إيمَانَهُ؛ وَ عَلَيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ؛ وَ هُوَ أفْضَلُهُمْ.
رواه أحمد في كتاب «فضائل عليّ عليه السلام».
الحَدِيثُ التَّاسِعُ عَشَر: اعْطِيتُ في عَلِيّ خَمْساً، هُنّ أحَبُّ إلَيّ مِنَ الدُّنْيَا وَ مَا فِيهَا؛ أمَّا وَاحِدَةٌ فَهُوَ كَابٌ۱ بَيْنَ يَدَي اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ حتى يَفْرُغَ مِنْ حِسَابِ الخَلائِقِ. وَ أمَّا الثَّانِيَةُ فَلِوَاءُ الحَمْدُ بِيَدِهِ، آدَمُ وَ مَنْ وَلَدَ تَحْتَهُ. وَ أمَّا الثَّالِثَةُ فَوَاقِفٌ عَلَى عَقْرِ حَوْضِي، يَسْقِي مَنْ عَرَفَ مِنْ امَّتِي. وَ أمَّا الرّابِعَةُ فَسَاتِرُ عَوْرَتِي وَ مُسَلِّمِي إلَى رَبِّي. وَ أمَّا الخَامِسَةُ فَإنّي لَسْتُ أخْشَى عَلَيْهِ أنْ يَعُودَ كَافِراً بَعْدَ إيمَانٍ، وَ لَا زَانِياً بَعْدَ إحْصَانٍ.
رواه أحمد في كتاب «الفضائل».
الحَدِيثُ العِشْرُونَ: كانت لجماعة من الصحابة أبواب شارعة في مسجد الرسول صلى الله عليه و آله. فقال عليه الصلاة و السلام يوماً: سُدُّوا كُلَّ بَابٍ في المَسْجِدِ إلَّا بَابَ عَلِيّ!
فسُدّت. فقال في ذلك قوم، حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه و آله، فقام فيهم، فقال:
إن قَوْماً قَالُوا في سَدِّ الأبْوَابِ وَ تَرْكِي بَابَ عَلِيّ، إنّي مَا سَدَدْتُ وَ لَا فَتَحْتُ؛ وَ لَكِنّي امِرْتُ بِأمْرٍ فَاتَّبَعْتُهُ.
رواه أحمد في «المسند» مراراً، و في كتاب «الفضائل».
الحَدِيثُ الحَادِي وَ العِشْرُونَ: دعا [رسول الله] صلى الله عليه و آله عليّاً في غزاة الطائف، فانتجاه، و أطال نجواه حتى كَرِهَ قومٌ من الصحابة ذلك.
فقال قائل منهم: لَقَدْ أطَالَ اليَوْمَ نَجْوَى ابْنِ عَمِّهِ. فبلغه عليه الصلاة و السلام ذلك، فجمع منهم قوماً، ثمّ قال: إنّ قَائِلًا قَالَ: لَقَدْ أطَالَ اليَوْمَ نَجْوَى ابْنِ عَمِّهِ، أمَا إنّي مَا انْتَجَيْتُهُ، وَ لكنّ اللهَ انْتَجَاهُ.
رواه أحمد في «المسند».
الحَدِيثُ الثَّانِي وَ العِشْرُونَ: أخْصِمُكَ يَا عَلِيّ بِالنّبُوَّةِ فَلَا نُبُوَّةَ بَعْدِي؛ وَ تَخْصِمُ النّاسَ بِسَبْعٍ، لَا يُجَاحِدُ فِيهَا أحَدٌ مِنْ قُرَيْشٍ: أنْتَ أوَّلُهُمْ إيمَاناً بِاللهِ؛ وَ أوْفَاهُمْ بِعَهْدِ اللهِ؛ وَ أقْوَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ؛ وَ أقْسَمُهُمْ بِالسَّوِيَّةِ؛ وَ أعْدَلُهُمْ في الرّعِيَّةِ؛ وَ أبْصَرُهُمْ بِالقَضِيَّةِ؛ وَ أعْظَمَهُمْ عِنْدَ اللهِ مَزِيَّةً!۱
رواه أبو نُعَيم الحافظ في «حلية الأولياء».
الخَبَرُ الثَّالِثُ وَ العِشْرُونَ: قالت فاطمة: إنّكَ زَوَّجَتَنِي فَقِيراً لَا مَالَ
لَهُ! فقال [صلّى الله عليه و آله]:
زَوَّجْتُكِ أقْدَمَهُمْ سِلْماً؛ وَ أعْظَمَهُمْ حِلْماً؛ وَ أكْثَرَهُمْ عِلْماً. ألَا تَعْلَمِينَ أنّ اللهَ اطَّلَعَ إلَى الأرْضِ اطِّلَاعَةً فَاخْتَارَ مِنْهَا أبَاكِ، ثُمَّ اطَّلَعَ إلَيْهَا ثَانِيةً فَاخْتَارَ مِنْهَا بَعْلَكِ!
رواه أحمد في «المسند».
الحَدِيثُ الرّابِعُ وَ العِشْرُونَ: لمّا أنزل: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ بعد انصرافه صلى الله عليه و آله من غزاة حُنَين، جعل يكثر من سُبْحَانَ اللهِ، أسْتَغْفِرُ اللهَ، ثمّ قال:
يَا عَلِيّ! إنّهُ قَدْ جَاءَ مَا وُعِدْتُ بِهِ؛ جَاءَ الفَتْحُ، وَ دَخَلَ النّاسُ في دِينِ اللهِ أفْوَاجاً. وَ إنّهُ لَيْسَ أحَدٌ أحَقَّ مِنْكَ بِمَقَامِي، لِقِدَمِكَ في الإسْلَامِ، وَ قُرْبِكَ مِنّي، وَ صِهْرِكَ، وَ عِنْدَكَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ العَالَمِينَ؛ وَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ بَلَاءِ أبِي طَالِبٍ عِنْدِي حِينَ نَزَلَ القُرآنُ؛ فَأنَا حَرِيصٌ عَلَى أنْ ارَاعِيَ ذَلِكَ لِوَلَدِهِ.
رواه أبو إسحاق الثعلبيّ في «تفسير القرآن».
و قال ابن أبي الحديد بعد نقل هذه الأحاديث و الأخبار الأربعة و العشرين: و اعلم أنّا إنّما ذكرنا هذه الأخبار هاهنا، لأنّ كثيراً من المنحرفين عن عليّ عليه السلام إذا مرّوا على كلامه في «نهج البلاغة» و غيره المتضمّن التحدّث بنعمة الله عليه من اختصاص الرسول صلى الله عليه و آله له، و تميزه إيّاه عن غيره، ينسبونه إلى التيه و الزَّهْو و الفخر. و لقد سبقهم بذلك قوم من الصحابة. قيل لعمر: وَلِّ عَليَّاً أمْرَ الجَيْشِ وَ الحَرْبِ. قال: هُوَ أتْيَهُ مِنْ ذَلِكَ. و قال زيد بن ثابت: مَا رأيْنَا أزْهَى مِنْ عَلِيّ وَ اسَامَةَ.
فأردنا بإيراد هذه الأخبار هاهنا عند تفسير قوله: نَحْنُ الشِّعَارُ
وَ الأصْحَابُ وَ الخَزَنَةُ وَ الأبْوَابُ، أن ننبّه على عظم منزلته عند رسول الله صلى الله عليه و آله، و أنّ من قيل في حقّه ما قيل، لو رقي إلى السماء، و عرج في الهواء، و فخر على الملائكة و الأنبياء تعظّماً و تبجّجاً، لم يكن ملوماً، بل كان بذلك جديراً. فكيف و هو عليه السلام لم يسلك قطّ مسلك التعظّم و التكبّر في شيء من أقواله و لا من أفعاله؟ و كان ألطف البشر خلقاً، و أكرمهم طبعاً، و أشدّهم تواضعاً، و أكثرهم احتمالًا، و أحسنهم بِشراً، و أطلقهم وجهاً. حتى نسبه من نسبه۱ إلى الدُّعابة و المزاح، و هما خُلُقان ينافيان التكبّر و الاستطالة.
و إنّما كان يذكر [عليه السلام] أحياناً ما يذكره من هذا النوع، نفثة مصدور، و شكوى مكروب، و تنفّس مهموم؛ و لا يقصد به إذا ذكره إلّا شكر النعمة، و تنبيه الغافل على ما خصّه الله به من الفضيلة، فإنّ ذلك من باب الأمر بالمعروف، و الحضّ على اعتقاد الحقّ و الصواب في أمره، و النهي عن المنكر الذي هو تقديم غيره عليه في الفضل، فقد نهى الله سبحانه عن ذلك فقال: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي
إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.۱
سبب إقصاء أمير المؤمنين عليه السلام هو الجهل بمنزلته الرفيعة
لقد كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بحراً موّاجاً لا حدّ له من العلم و الفهم و الدراية. بَيدَ أنّ البشريّة جنت على نفسها و خسرت خسارة كبيرة لا تُعَوَّض بإقصائه عن المسرح السياسيّ، و منعه تولّى شئون
وَ رَأيْتُ دِينَ الاعْتِزَالِ وَ إنّني | *** | أهْوَي لأجْلِكَ كُلَّ مَنْ يَتَشَيَّعُ |
وَ لَقَدْ عَلِمْتُ بِأنّه لَا بُدَّ مِنْ | *** | مَهْدِيِّكم وَ لِيَوْمِهِ أتَوَقَّعُ |
المجتمع و تربية الناس حتى بلوغهم مقام الكمال. و مَن شغل منصبه لم يجلب للبشريّة سوى الذلّ و العجز و الجهل و الوحشة و الاضطراب.
و ما أروع ما نظمه أبو الحسن المراديّ رحمه الله في هذا المجال، إذ قال:
يَا سَائِلي عَنْ عَلِيّ وَ الاولَى عَمِلُوا | *** | بِهِ مِنَ السُّوءِ مَا قَالُوا وَ مَا فَعَلُوا |
لَمْ يَعْرِفُوهُ فَعَادَوُهُ لِجَهْلِهِمُ | *** | وَ النّاسُ كُلُّهُمُ أعْدَاءُ مَا جَهِلُوا۱ |
(إنّ سبب تأخيرهم عليّاً عليه السلام ضيق افقهم و جهلهم بما اندمج عليه من علوم و أسرار).
روى عن شرح «بديعيّة ابن المُقْري» أنّ ثلاثة جاءوا إلى أمير المؤمنين عليه السلام، و كانوا قد تنازعوا في سبعة عشر جملًا. قال الأوّل منهم: لي نصفها. و قال الثاني: لي ثلثها. و قال الثالث: لي تسعها. و لمّا أرادوا تقسيمها، رأوا أنّ حصّة كلّ منهم تكون عدداً كسريّاً لا صحيحاً.
كما كان كلّ منهم لا يرغب في بذل مقدار من حصّته للآخر، أو يصرف درهماً و ديناراً، فعزموا على نحر جمل ليأخذ كلّ واحد حصّته منه بالكسور.
فقال لهم الإمام: أ ترضون أن اضيف من مالى جملًا واحداً إلى جمالكم، ثمّ اقسّمها بينكم؟!
قالوا: و كيف لا نرضى؟! فأضاف الإمام جمله، و دعا الأوّل الذي
ففعلوا فما نقص درهم واحد، و عدد الرجال اثنا عشر ألفاً.۱
و يمكن أن يكون هذا التقسيم قد جرى عن طريق الحساب، فيما إذا كان مقدار الذهب و الفضّة ستّة ملايين درهم. و هذا المبلغ كان معلوماً عند الإمام. و يمكن أن يكون التقسيم المذكور من قضاياه الإعجازيّة فيما إذا كان حسابهم غير معيّن، و عيّن الإمام حصّة مرافقيه و أصحابه بواسطة علم الغيب.
و هذه القضيّة كالقضيّة التي وقعت للإمام في أوّل خلافته، إذا أمر بإعطاء كلّ مسلم ثلاثة دنانير.
خطبة «نهج البلاغة» في لزوم اتّباع أبواب مدينة العلم
و روى ابن شهرآشوب عن عمّار بن ياسر، قال: لمّا صعد عليّ عليه السلام المنبر (في أوّل خلافته)، قال لنا: قُومُوا فَتَخَلَّلُوا الصُّفُوفَ، وَ نَادُوا هَلْ مِنْ كَارِهٍ؟! فتصارخ الناس من كلّ جانب: اللهمَّ قَدْ رَضِينَا وَ أسْلَمْنَا وَ أطَعْنَا رَسُولَكَ وَ ابْنَ عَمِّهِ!
فقال: يا عمّار! قم إلى بيت المال، فأعط الناس ثلاثة دنانير لكلّ إنسان، و ارفع لي ثلاثة دنانير! فمضى عمّار و أبو الهيثم مع جماعة من المسلمين إلى بيت المال. و مضى أمير المؤمنين عليه السلام إلى مسجد قبا يصلّي فيه. فوجدوا فيه ثلاثمائة ألف دينار، و وجدوا الناس مائة ألف.
فقال عمّار: جَاءَ وَ اللهِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ! وَ اللهِ مَا عَلِمَ بِالمَالِ، وَ لَا بِالنّاسِ؛ وَ إنّ هَذِهِ لآيَةٌ وَ جَبَتْ عَلَيْكُمْ بِهَا طَاعَةُ هَذَا الرّجُلِ. فَأبَى طَلْحَةُ وَ الزُّبَيْرُ وَ عَقِيلُ أنْ يَقْبَلُوهَا -القصّة.٢
فقارنوا علم إمام الشيعة و فهمه و درايته بفهم إمام العامّة الخليفة الثاني و علمه و درايته، إذ لم يعرف مفهوم العدد ثمانمائة ألف و معناه، مع أنّه لم يُستعمل فيه جمع و لا ضرب و لا تقسيم!
يقول ابن أبي الحديد: يقول أبو هريرة: قدمتُ على الخليفة الثاني من عند أبي موسى الأشعريّ بثمانمائة ألف درهم. فقال لي: بما ذا قدمتَ؟! قلتُ: بثمانمائة ألف درهم! فجعل يعجب و يكرّرها. إلى أن قال: وَيْحَكَ ثَمَانْمِائَةِ ألْفِ دِرْهَمٍ!
فعددتُ مائة ألف، و مائة ألف، حتى بلغت ثمانمائة ألف.
فاستعظم ذلك الخبر.
استفتاء أمير المؤمنين عن سهم المرأة في الإرث و هو على المنبر
المسألة المنبريّة:
ذكر ابن شهرآشوب عن كتاب «فضائل عليّ بن أبي طالب» لأحمد بن حنبل أنّه قال: قال عبد الله: إنّ أعلم أهل المدينة بالفرائض عليّ بن أبي طالب. و قال الشَّعْبِيّ: مَا رَأيْتُ أفْرَضَ مِنْ عَلِيّ وَ لَا أحْسَبَ مِنْهُ، وَ قَدْ سُئِلَ مِنْهُ وَ هُوَ عَلَى المِنْبَرِ يَخْطُبُ: عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَ تَرَكَ امْرَأةً وَ أبَوَيْنِ وَ ابْنَتَيْنِ؛ كَمْ نَصِيبُ المَرْأةِ؟!
فَقَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: صَارَ ثَمَنُهَا تُسْعاً. فَلُقِّبَتْ بِالمَسْألَةِ المِنْبَرِيَّةِ.
ثمّ قال ابن شهرآشوب: شرح ذلك للأبوين السدسان، و للبنتين الثلثان، و للمرأة الثمن عالت الفريضة فكان لها ثلث من أربعة و عشرين ثمنها. فلمّا صارت إلى سبعة و عشرين صار عنها تسعاً، فإنّ ثلاثة من سبعة و عشرين تسعها. و يبقى أربعة و عشرون للابنتين ستّة عشر، و ثمانية للأبوين سواء.
قال هذا على الاستفهام أو على قولهم: صار ثمنها تسعاً أو على
مذهب نفسه أو بيّن كيف يجيء الحكم على مذهب من يقول بالعول. فبيّن الجواب و الحساب و القسمة و النسبة.۱
إنّ مراد ابن شهرآشوب من كلامه الأخير هو أنّ العول باطل بإجماع الشيعة. أي: لا نقص في سهم الزوجة عند زيادة سهام الفريضة، فتُعطي ثمناً، و يُعطي الأبوان ثلثاً. و هو ثمانية سهام من أربعة و عشرين قسماً. و الباقي سهم البنتين، و هو ثلاثة عشر سهماً من أربعة و عشرين قسماً.
و أمّا العامّة. فإنّهم يزيدون الفريضة و ينقصون من الجميع بالنسبة على ضوء زيادة سهام الفريضة. و لذا فهم يأخذون الفريضة في هذا المثال من العدد (٢۷). فيعطون الزوجة ثلاثة سهام منه، و الأبوين ثمانية، و البنتين ستّة عشر.
و أجاب أمير المؤمنين عليه السلام بهذا الجواب: صَارَ ثُمْنُهَا تُسْعاً على مذاق العامّة، و ليس هو الجواب الحقيقيّ.٢ و دليلنا هنا هو أنّ جوابه
البديهيّ أمر عجيب حتى قال ابن أبي الحديد: لو فكّر الفرضيّ فيها فكراً طويلًا، لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب. فما ظنّك بمن قاله بديهة و اقتضبه ارتجالًا.۱
و حتى عدّها محمّد بن طلحة الشافعيّ في كتاب «مطالب السؤول» أعلى من عقول أولي الألباب، و قال: و في استحضار هذا الجواب ما لا يعقل لعقول أوُلي الألباب إليه. و يسجّل بأنّه ممّن آتاه الله الحكمة و فصل الخطاب.٢
سؤال امرأة عن سهمها من الإرث و المسألة الديناريّة
و ذكر محمّد بن طلحة الشافعيّ أيضاً أنّ من علوم أمير المؤمنين عليه السلام المعجزة المسألة الديناريّة. و شرحها: أنّ امرأة جاءت إليه و قد خرج من داره ليركب، فترك رجله في الركاب، فقالت: يا أمير المؤمنين! إنّ أخي قد مات و خلّف ستمائة دينار، و قد دفعوا إليّ من ماله ديناراً واحداً. و أسالك إنصافي و إيصال حقيّ إليّ.
فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام: خلّفكِ أخوكِ بنتين؟! فقالت:
نعم! قال: لهما الثلثان أربعمائة [دينار]. و خلّف امّاً؟ قالت: نعم! قال: لها السدس مائة [دينار]. و خلّف زوجة؟ قالت: نعم! قال: لها الثمن خمس و سبعون [ديناراً]. و خلّف معك اثني عشر أخاً؟ قالت: نعم! قال: لكلّ أخ ديناران. و لكِ دينار. فقد أخذتِ حقّك! فانصرفي!
ثمّ ركب لوقته [و مضي]. فسميّت هذه المسألة بالمسألة الديناريّة باعتبار ذلك.۱ و لو سُميت: الركابيّة، لكان أنسب.
و أجاب الإمام عليه السلام هنا على مذهب العامّة أيضاً. أي: مذهب التعصيب. و التعصيب باطل عند الشيعة بإجماع الأئمّة المعصومين عليهم السلام. و معنى التعصيب هو أخذ العصبة ما زاد عن السهام المفروضة، أي أنّ مقدار الفريضة و ما ترك الميّت أكثر من السهام المفروضة. و العامّة يعطون العَصَبة الزيادة المذكورة، أي: سائر أرحام الميّت الذين ليست لهم درجة الورّاث، و لهذا سمّي: التعصيب. و كما ذكر مقدار السهام في الرواية المشار إليها على هذا الأساس، إذ بعد أن ترث البنتان و الامّ و هنّ في الدرجة الاولى، و كذلك الزوجة، يُعطي الإخوة و الأخوات بقيّة المال، و هو خمسة و عشرون ديناراً.
و لكن -بناء على الروايات الثابتة الموثوقة و إجماع أهل البيت- ينبغى أن يعطي المقدار الزائد للأشخاص الذين هم في هذه الدرجة ما عدا الزوجة و الامّ اللتين فرض لهما سهمان مختلفان (للزوجة الثمن و الربع، و للُامّ السدس و الثلث). و في هذا المثال، يعود المال المضاف إلى البنتين
فحسب. و تأخذ الزوجة سهمها و هو خمسة و سبعون ديناراً أي: ثمن المبلغ، و كذلك تأخذ الامّ سهمها، و هو مائة دينار، أي: سدس المبلغ، و يقسم المال الباقي على البنتين بالسّويّة فرضاً و ردّاً. و أولئك يأخذون أربعمائة دينار و هو سهمهم المفروض، و يعطوا خمسة و عشرين ديناراً أيضاً ردّاً. و في ضوء ذلك يرث كلّ واحد منهم مائتين و اثني عشر ديناراً و نصف الدينار. و لا يصل منه شيء إلى الاخت و الإخوة.
نكرّر و نقول إنّ هدفنا من ذكر المسألة الديناريّة لبيان مدى تبحّر الإمام و تمكّنه و إحاطته العميقة و علمه الذي لا يتناهى، إذ كان ملمّاً بامور الإرث و مقاديره و كيفيّة التسهيم و عدد الورّاث بشتّى درجات قرابتهم كالبنات و الامّ، و الإخوة و الاخت، حتى أنّه أجاب جواباً تامّاً في لحظة قصيرة تساوى ركوب الراكب ناقته، و إن كانت حقيقة هذا الجواب لا تنطبق على رأيه و فتواه. فقد كان يعمل بما تتطلّبه المصالح العامّة، و ما يستلزمه النظم، و كان يعرض الموضوع في كثير من الحالات وفقاً لآراء الحكّام السابقين و فتاواهم.
روى أبو شعيب المحامليّ عن الإمام الصادق عليه السلام قال: سألته عن رجل قبل رجلًا أن يحفر له [بئراً] عشر قامات بعشرة دراهم، فحفر له قامة، ثمّ عجز. فقال تقسّم عشرة على خمسة و خمسين جزءاً فما أصاب واحداً فهو للقامة الاولى، الاثنان للثانية، و الثلاثة للثالثة، و على هذا الحساب إلى العشرة.۱
و توضيح هذه المسألة هو أنّه لمّا كان حفر القامة الثانية يعادل في صعوبته حفر الاولى ضعفين، و كان حفر الثالثة ثلاثة أضعاف حفر الاولى، و حفر القامات الاخرى على هذا المنوال، حتى يصل إلى القامة العاشرة التي يبلغ حفرها عشرة أضعاف، لذلك ينبغي أن تقسّم الدراهم العشرة بهذه النسبة.
٥٥= ۱۰+ ٩+ ۸+ ۷+ ٦+ ٥+ ٤+ ٣+ ٢+ ۱.
و يعطي الشخص الذي حفر قامة واحدة جزءاً من خمسة و خمسين جزء من عشرة دراهم، و لا يعطي درهماً واحداً على أساس تقسيم الدراهم العشرة على القامات العشر، ذلك أنّ حفر القامات السفلى أكثر صعوبة.
و يكون هذا فيما لو كانت حزونة الأرض في القامات العشر على السواء. و أمّا في حال اختلاف هذه الحزونة في بعض الأماكن من طبقات الأرض، فسيكون حكمها مختلفاً.
نهي أمير المؤمنين عليه السلام عن البول في الماء الجاري و الهواء
و قال أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الأربعمائة: وَ لَا يَبُلْ أحَدُكُمْ عَلَى سَطْحِ الهَوَاءِ، وَ لَا في مَاءٍ جَارّ، فَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأصَابَهُ شَيءٌ فَلَا يَلُومَنّ إلَّا نَفْسَهُ؛ فَإنّ لِلْمَاءِ أهْلًا وَ لِلْهَوَاءِ أهْلًا.۱
و ثبت اليوم أنّ في الماء و الهواء كائنات حيّة، و خاصّة في الماء الجاري. و البول فيه يؤذيها أو يقضي عليها. فلهذا يُكره البول في الماء و الهواء.
و نقرأ في دعاء الإمام السجّاد عليه السلام على أعداء الإسلام و المعتدين على حرمته قوله: اللَهُمَّ امْزُجْ مِياهَهَمْ بِالوَبَاء.۱
و ثبت اليوم أنّ جرثومة الوباء تعيش في الماء. و هذا الكلام الذي نطق به الإمام كان قبل اكتشاف الجراثيم، سواء في الماء أم في الهواء. و كلامه ككلام جدّه أمير المؤمنين الذي حدّثنا عن وجود السكّان في الماء و الهواء نقلًا عن مصدر النبوّة.
طريقة تعيين الأرش و دية الأعضاء: العين و الاذن و اللسان
روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ و الشيخ الطوسيّ بسنديهما المتّصلين عن الأصبغ بن نُباتة أنّه قال: سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن رجل ضرب رجلًا على هامته؛ فادّعى المضروب أنّه لا يبصر شيئاً
و لا يشمّ الرائحة، و أنّه قد ذهب لسانه.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن صدق، فله ثلاث ديات. فقيل: يا أمير المؤمنين! و كيف يعلم أنّه صادق؟ فقال: أمّا ما ادّعاه أنّه لا يشمّ الرائحة، فإنّه يدني منه الحراق (مادّة حادّة كالفلفل و ماء البصل و أمثالهما) فإن كان كما يقول و إلّا نحّى رأسه و دمعت عينه.
و أمّا ما ادّعاه في عينه، فإنّه يقابل بعينه الشمس، فإن كان كاذباً، لم يتمالك حتى يغمّض عينه. و إن كان صادقاً، بقيتا مفتوحتين.
و أمّا ما ادّعاه في لسانه، فإنّه يضرب على لسانه بإبرة، فإن خرج الدم أحمر، فقد كذب، و إن خرج الدم أسود، فقد صدق.۱
و روى الكلينيّ و الشيخ هذا الحديث عن الأصبغ كما مرّ ذكره، و لكنّ الكلينيّ رواه في بعض نسخ «الكافي» مرفوعاً، و قال: عليّ بن إبراهيم رفعه قال: سئل. فلهذا اعتمد صاحب «وسائل الشيعة» على هذه النسخة، و ذكره مرفوعاً. و رواه عن الشيخ مسنداً عن الأصبغ، كما في ذيله.٢
و ذكره صاحب «مستدرك الوسائل» مرسلًا عن «بحار الأنوار» عن كتاب «مقصد الراغب» ضمن قضايا أمير المؤمنين عليه السلام.٣
و روى الكلينيّ بإسناده عن محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، عن بعض أصحابه، عن أبان بن عثمان، عن الحسن بن كثير، عن أبيه، كما روى الشيخ الطوسيّ عن الحسين بن سعيد، عن فُضالة، عن أبان، عن الحسن بن كثير، عن أبيه، أنّه قال: اصيبت عين رجل و هي قائمة، فأمر أمير المؤمنين عليه السلام، فربطت عينه الصحيحة. و أقام رجل بحذاه، بيده بيضة يقول: هل تراها؟! قال: فجعل إذا قال: نعم! تأخّر قليلًا، حتى إذا خفيت عليه، علّم ذلك المكان، قال: و عصبت عينه المصابة. و جعل الرجل يتباعد، و هو ينظر بعينه الصحيحة، حتى إذا خفيت عليه؛ ثمّ قيس ما بينهما، فُأعطي الأرش على ذلك.۱
و ذكر الشيخ النوريّ في «مستدرك الوسائل» عن كتاب «دعائم الإسلام» عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: إذا ضرب الرجل، فذهب سمعه كلّه، ففيه الدية كاملة. فإن اتّهم، ضُرب له بالشيء الذي له صوت بقربه من حيث لا يراه و لا يعلم به، و يُتَغَفَّل بذلك، و بالصوت و الكلام، حتى يوقف على ذهابه سمعه.٢
و كذلك روى في مستدركه عن كتاب «الجعفريّات» بسنده المتّصل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قضى في رجل ضُرب فذهب بعض سمعه، فقال عليّ عليه السلام: تمسك اذنه المصابة، ثمّ ترسل الصحيحة، ثمّ ينقر له بالدرهم حتى إذا بلغ مداه قاسوه و حسبوه كم ذراع.
ثمّ يقلب إلى الجانب الآخر، ثمّ ينقر له بالدرهم، حتى إذا انتهى إلى مداه، قاسوه و حسبوه كم ذراع هو. ثمّ ينظرون هل هو سواء، صُدِّق. و إن لم يكن سواء، اتّهم. فإن جاء سواء، أمسكوا الصحيحة، ثمّ أرسلوا المصابة، ثمّ نقر له بالدرهم، حتى إذا بلغ مداه، قاسوه و حسبوه. فإن جاء سواء، صُدِّق (و إلّا اتّهم). ثمّ يجعلون الدية على قدر الأذرع،۱ فيعطونه على قدر ما نقص من سمعه.٢
و روى الشيخ الطوسيّ عن الحسين بن سعيد، عن الحسن، عن زرعة، عن سماعة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قضى في رجل ضرب غلاماً على رأسه فذهب بعض لسانه، و أفصح ببعض الكلام، و لم يفصح ببعض. فأقرأه المعجم، فقسّم الدية عليه. فما أفصح به طرحه، و ما لم يفصح به ألزمه إيّاه.٣
و نقل السيّد ابن طاووس عن «مجموع» محمّد بن حسين المرزبان أنّ عمر اتيَ برجل قد ضربه آخر بشيء فقطع من لسانه قطعة قد أفسدت بعض كلامه. فلم يدر [عمر] ما فيه! فَحَكَمَهُ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ أنْ يُنْظَرَ مَا افْسِدَ مِنْ حُرُوفِ اب ت ث وَ هِيَ ثَمَانِيَةٌ وَ عِشْرُونَ حَرْفاً؛ فَتُؤْخَذَ مِنَ الدِّيَةِ بِقَدْرِهَا.٤
و روى الكلينيّ عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن فضّال، عن سليمان الدهّان، عن رفاعة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنّ عثمان أتاه رجل من قيس بمولى له (عتيق حليف شريك) قد لطم عينه، فأنزل الماء فيها، و هي قائمة ليس يبصر بها شيئاً.
فقال له: اعطيك الدية. فأبى [المضروب و أصرّ على القصاص] قال: فأرسل بهما (إنّ عثمان لم يعرف كيف يقتصّ، إذ إنّ عينه الظاهرة صحيحة، و لكن ذهب نورها) إلى عليّ عليه السلام، و قال: احكم بين هذين! فأعطاه الدية، فأبى، [و زاد فيها] فلم يزالوا يعطونهم حتى أعطوه ديتين، قال: فقال: ليس اريد إلّا القصاص.
[قال الإمام الصادق عليه السلام]: فدعا عليّ عليه السلام بمرآة، فحماها، ثمّ دعا بكرسف فبلّه، ثمّ جعله على أشفار عينيه، و على حواليها، ثمّ استقبل بعينه عين الشمس. قال: و جاء بالمرآة فقال: انظر، فنظر، فذاب الشحم و بقيت عينه قائمة، و ذهب البصر.۱
قال المجلسيّ رضوان الله عليه في شرح هذا الحديث: قال الشيخ في «النهاية»: جعل القطن المبلول على أشفار عينيه لئلّا تحترق. و قول الإمام الصادق عليه السلام: ثمّ استقبل بعينه الشمس. ظاهر أنّه يجعل الرجل مواجه الشمس لا المرآة، كما ذكره في «التحرير». و ظاهر بعضهم جعل المرآة مواجهة الشمس، و لعلّه أوفق بالتجربة [إذ تجعل المرآة مواجهة للشمس، و يقال للرجل: انظر في المرآة].
قال في «الروضة»: و لو ذهب ضوء العين مع سلامة الحدقة، قيل: في الاقتصاص منه طرح على الأجفان قطن مبلول، و يقابل بمرآة محماة
مواجهة الشمس، بأن يكلّف النظر إليها حتى يذهب الضوء.
و القول باستيفاء القصاص على هذا الوجه هو المشهور بين الأصحاب. و مستنده رواية رفاعة. و إنّما حكاه [في «الروضة»] قولًا (قيل في ذلك) للتنبيه على عدم دليل يفيد انحصار الاستيفاء فيه، بل يجوز بما حصل الغرض من إذهاب البصر، و إبقاء الحدقة بأيّ وجه اتّفق.۱
تعيين دية نقص النفس
و قال ابن شهرآشوب: و قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل ضُرب على صدره فادّعى أنّه نقص نَفَسه، فقال عليه السلام: إنّ النّفَسَ يكون في المنخر الأيمن، و في الأيسر ساعة. فإذا طلع الفجر يكون في المنخر الأيمن إلى أن تطلع الشمس، فاقعد المدّعي من حين يطلع الفجر إلى طلوع الشمس و عدّ أنفاسه. و اقعد رجلًا في سنّه يوم الثاني من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس و عدّ أنفاسه. ثمّ أعْطِى المصاب بقدر ما نقص من نفسه عن نَفَس الصحيح.٢
و ذكر الشيخ المفيد في «الإرشاد» أنّ رجلًا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: إنّه كان بين يدي تمر، فبدرت زوجتي، فأخذت منه واحدة فألقتها في فيها. فحلفتُ إنّها لا تأكلها و لا تلفظها. فما ذا أفعل لأبرّ قسمي؟ (إذ إنّ زوجتي ما زالت تمسك التمرة في فيها).
فقال عليه السلام: تأكل نصفها و ترمي نصفها. و قد تخلّصت من يمينك.٣
في كيفيّة تعيين وزن القيد في رِجل الغلام، و وزن الفيل
و روى المجلسيّ عن حفص بن غالب مرفوعاً قال: بينما رجلان
جالسان في زمن عمر بن الخطّاب إذ مرّ بهما عبد مقيّد، فقال أحدهما: إن لم يكن في قيده كذا و كذا فامرأتي طَالِقٌ ثَلاثاً.۱ فحلف الآخر بخلاف مقاله يعني [إن كان فيه كما قلت فامرأته طالق ثلاثاً].
[و لمّا كان مولى هذا العبد قد قيّده لما فعله، فقد جاءه] و سأله أن يحلّ قيده، حتى يعرف وزنه [و يتبيّن أي القسمين صحيح و أيّهما خطأ. إذ إنّ قسمه خطأ لطلاقه زوجته ثلاثاً]، فأبى المولى [أن يحلّه]، فارتفعا إلى عمر، فقال لهما: اعتزلا نساءكما! و بعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام، و سأله عن ذلك.
[فقال عليه السلام: ما أهون ذلك!] ثمّ دعا بإجّانة، فأمر الغلام أن يجعل رجله فيها ثمّ أمر أن يصبب الماء حتى غمر القيد و الرّجل. ثمّ عَلَّمَ في الإجّانة علامة، و أمره أن يرفع قيده عن ساقه [حتّى يخرج من الماء، و تبقى الرجلان فقط في الماء، ثمّ أمر أن يعلَّم محلّ تراجع الماء] فدعا بالحديد فوضعه في الإجّانة حتى تراجع الماء إلى موضعه. ثمّ أمر أن يوزن الماء فوزن فكان وزنه بمثل وزن القيد و أخرج القيد فوزن فكان مثل ذلك،
فعجب عمر.۱
و روى الشيخ الطوسيّ عن الحسين بن سعيد، عن بعض الأصحاب يرفعه إلى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل حلف أن يزن الفيل فأتوه به، فقال: وَ لِمَ تَحْلِفُونَ بِمَا لَا تُطِيقُونَ؟! قال: قد ابتليتُ.
فأمر [أمير المؤمنين عليه السلام] بقُرْقور٢ فيه قصب، فأخرج منه قصب كثير. ثمّ علم صبغ الماء بقدر ما عرف صبغ الماء قبل أن يخرج القصب، ثمّ صيّر الفيل فيه حتى رجع إلى مقداره الذي كان انتهى إليه صبغ الماء أوّلًا. ثمّ أمر أن يوزن القصب الذي اخرج، فلمّا وزن، قال: هذا وزن الفيل.٣
و روى الكلينيّ عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن بعض الأصحاب، كما روى الشيخ الطوسيّ عن عليّ بن مهزيار، عن إبراهيم بن عبد الله، و روى الشيخ الصدوق، و كلّهم رووا عن أبان بن عثمان، عن رجل أخبره، عن الإمام الباقر أو الإمام الصادق عليهما السلام، قال: اتي عمر بن الخطّاب برجل قتل أخا رجل، فدفعه إليه، و أمره بقتله، فضربه الرجل حتى رأى أنّه قد قتله، فحُمل إلى منزله، فوجدوا به رمقاً، فعالجوه حتى بري.
فلمّا خرج (من المنزل)، أخذه أخو المقتول فقال: أنت قاتل أخي! و لي أن أقتلك! فقال له: قد قتلتني مرّة! فانطلق به إلى عمر فأمر بقتله،
فخرج و هو يقول: يا أيّها الناس! قد و الله قتلني. فمرّوا به إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فأخبر خبره، فقال: لا تعجل عليه حتى أخرج إليك! فدخل على عمر، فقال: ليس الحكم فيه هكذا!
فقال [عمر]: مَا هُوَ يَا أبَا الحَسَنِ؟!
فقال [الإمام]: يَقْتَصُّ هَذَا مِنْ أخِ المَقْتُولِ الأوَّلِ مَا صَنَعَ بِهِ؛ ثُمَّ يَقْتُلُهُ بِأخِيهِ.
فنظر أنّه إن اقتصّ منه، أتى على نفسه، فعفا عنه و تتاركا.
و نقل ابن شهرآشوب هذه الواقعة عن أحمد بن عامر بن سليمان الطائيّ، عن الإمام الرضا عليه السلام بالنحو الآتي: أقرّ رجل بقتل ابن رجل من الأنصار، فدفعه عمر إليه ليقتله به فضربه ضربتين بالسيف حتى ظنّ أنّه هلك. فحُمل إلى منزله و به رمق فبرئ الجرح بعد ستّة أشهر. فلقيه الأب و جرّه إلى عمر. فدفعه إليه عمر. فاستغاث الرجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام. فقال لعمر: ما هذا الذي حكمت به على هذا الرجل؟!
فقال [عمر]: النّفْسُ بِالنّفْسِ. قال [الإمام]: أ لَمْ تَقْتُلْهُ مَرّةً؟! قال [عمر]: قد قتلته ثمّ عاش!
قال [الإمام]: فَتُقْتَلُ مَرّتَيْنِ؟! فبَهت [عمر]، ثمّ قال: فَاقْضِ مَا أنْتَ قَاضٍ.
فخرج [الإمام عليه السلام]، فقال للأب: أ لم تقتله مرّة؟! قال: بلى! فيبطل دم ابني؟! قال: لا! و لكنّ الحكم أن تدفع إليه، فيقتصّ منك مثل ما صنعتَ به، ثمّ تقتله بدم ابنك! قال: هُوَ وَ اللهِ المَوْتُ وَ لَا بُدَّ مِنْهُ. قال [الإمام]: لَا بُدَّ أنْ يَأخُذَ بِحَقِّهِ. قال: فَإنّي قد صفحت عن دم ابني، و يصفح لي عن القصاص.
فكتب [أمير المؤمنين عليه السلام] بينهما كتاباً بالبراءة. فرفع عمر
يده إلى السماء، و قال: الحَمْدُ لِلَّهِ أنْتُمْ أهْلُ بَيْتِ الرّحْمَةِ، يَا أبَا الحَسَنِ! ثُمَّ قَالَ: لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ.۱
و كذلك نقل ابن شهرآشوب عن تفسير «روض الجنان» لأبي الفتوح الرازيّ قال: حضر عند عمر بن الخطّاب أربعون نسوة و سألنّه عن شهوة الآدميّ. فقال: للرجل واحد و للمرأة تسع. فقلن: ما بال الرجال لهم دوام و متعة و سراري بجزء من تسعة و لا يجوز لهنّ إلّا زوج واحد مع تسعة أجزاء؟ فافحم. فرفع ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
فأمر أن تأتي كلّ واحدة منهنّ بقارورة من ماء، و أمرهنّ بصبّها في إجّانة. ثمّ أمر كلّ واحدة منهنّ أن تعرّف ماءها؟ فقلن: لا يتميّز ماؤنا! فأشار عليه السلام أن لا يفرّقن بين الأولاد، و إلّا لبطل النسب و الميراث. و في رواية يحيى بن عقيل أنّ عمر قال: لَا أبْقَانِيَ اللهُ بَعْدَكَ يَا عَلِيّ!٢
حكمه عليه السلام بجواز زواج امرأة زوجها عنِّين
و روى ابن شهرآشوب أيضاً أنّ امرأة جاءت إلى عمر، فقالت:
مَا تَرَى أصْلَحَكَ اللهُ | *** | وَ أثْرَى لَكَ أهْلَا |
في فَتَاةٍ ذَاتِ بَعْلٍ | *** | أصْبَحَتْ تَطْلُبُ بَعْلَا |
بَعْدَ إذْنٍ مِنْ أبِيها | *** | أ تَرَى ذَلِكَ حِلَّا |
فأنكر ذلك السامعون [و استقبحوه]. فقال [لها] أمير المؤمنين عليه السلام: أحضريني بعلكِ، فأحضرته، فأمره بطلاقها، ففعل، و لم يحتجّ لنفسه بشيء. فقال عليه السلام: إنّه عِنّين.٣ فأقرّ الرجل بذلك. فأنكحها
رجلًا من غير أنّ تقضي عدّة.۱
[و قال] أبو بكر الخوارزميّ: إذَا عَجَزَ الرّجَالُ عَنِ الامْتَاعِ (الإيقاع في نسخة بدل) فتطليق الرجال إلى النساء.٢
و قال ابن شهرآشوب أيضاً: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في امرأة محصنة٣ فجر بها غلام صغير، فأمر عمر أن ترجم، فقال عليه السلام: لا يجب الرجم إنّمَا يَجِبُ الحَدُّ، لأنّ الذي فَجَرَ بِهَا لَيْسَ بِمُدْرِكٍ.٤
و ذكر أيضاً أنّ عمر أمر برجل يَمَنيّ محصن فجر بالمدينة أن يرجم، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرّجْمُ لأنّهُ غَائِبٌ عَنْ أهْلِهِ؛ وَ أهْلُهُ في بَلَدٍ آخَرَ؛ إنّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الحَدُّ. فقال عمر: لَا أبْقَانِيَ اللهُ لِمُعْضَلَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا أبُو الحَسَنِ.٥
و كذلك روى ابن شهرآشوب عن عمرو بن شعيب و الأعمش و أبي الضحى و القاضي و أبي يوسف، عن مسروق أنّ عمر اتي بامرأة انكحت في عدّتها، ففرّق بينهما، و جعل صداقها في بيت المال، و قال: لا اجيز
مهراً رُدّ نكاحه، و قال: لا تجتمعان أبداً.
فبلغ عليّاً عليه السلام فقال: وَ إنْ كَانُوا جَهِلُوا السُّنّةَ لَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَ يُفَرّقُ بَيْنَهُمَا فَإذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَهُوَ خَاطِبٌ مِنَ الخُطّابِ.۱ فَخَطَبَ عُمَرُ النّاسَ، فَقَالَ: رُدُّوا الجَهَالاتِ إلَى السُّنّةِ. وَ رَجَعَ عُمَرُ إلَى قَوْلِ عَلِيّ.٢
قول عمر: شعرة من آل أبي طالب أفقه من عديّ
و من ذلك ذكر الجاحظ عن النّظام في كتاب «الفتيا» ما ذكر عمرو بن
داود عن الصادق عليه السلام، قال: كان لفاطمة عليها السلام جارية يقال لها فِضَّة، فصارت من بعدها لعليّ عليه السلام فزوّجها من أبي ثَعْلَبَة الحَبَشِيّ فأولدها ابناً، ثمّ مات عنها أبو ثعلبة. و تزوّجها من بعد أبو مليك الغطفانيّ؛ ثمّ توفّى ابنها من أبي ثعلبة، فامتنعت من أبي مليك أن يقربها. فاشتكاها إلى عمر، و ذلك في أيّامه. فقال لها عمر: ما يشتكي منك أبو مليك يا فضّة؟ فقالت: أنت تحكم في ذلك و ما يخفى عليك!
قال عمر: ما أجد لك رخصة!
قالت: يا أبا حفص! ذهب بك المذاهب أنّ ابني من غيره مات، فأردت أن أستبرئ نفسي بحيضة، فإذا أنا حضت، علمت أنّ ابني مات و لا أخ له، و إن كنت حاملًا، كان الولد في بطني أخوه.
فقال عمر: شَعْرَةٌ مِنْ آل أبِي طَالِبٍ، أفْقَهُ مِنْ عَدِيّ.۱
و كذلك روى ابن شهرآشوب عن عمرو بن داود، عن [الإمام] الصادق عليه السلام أنّ عقبة بن أبي عقبة مات، فحضر جنازته عليّ [عليه السلام] و جماعة من أصحابه، و فيهم عمر. فقال عليّ [عليه السلام] لرجل كان حاضراً: إنّ عقبة لمّا توفّى، حرمت امرأتك، فاحذر أن تقربها!
فقال عمر: كُلُّ قَضَايَاكَ يَا أبَا الحَسَنِ عَجِيبٌ؛ وَ هَذِهِ مِنْ أعْجَبِهَا!
يَمُوتُ الإنْسَانُ فَتَحْرُمُ عَلَى آخَرَ امْرَأتُهُ!
فَقَالَ: نَعَمْ! إنّ هَذَا عَبْدٌ كَانَ لِعَقَبَةَ، تَزَوَّجَ امْرَأةً حُرّةً، وَ هِيَ اليَوْمَ تَرِثُ بَعْضَ مِيرَاثِ عَقَبَةَ. فَقَدْ صَارَ بَعْضُ زَوْجِهَا رِقَّاً لَهَا. وَ بُضْعُ المَرْأةِ حَرَامٌ عَلَى عَبْدِهَا حتى تُعْتِقَهُ وَ يَتَزَوَّجَهَا.
فقال عمر: لِمِثْلِ هَذَا نَسْألُكَ عَمَّا اخْتَلَفنَا فِيهِ.۱
حكم أمير المؤمنين عليه السلام في خمسة نفر ارتكبوا الزنا
و روى أيضاً عن الأصبغ بن نُباتة أنّ عمر حكم على خمسة نفر في زنا بالرجم، فخطّأه أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك. و قدّم واحداً فضرب عنقه؛ و قدّم الثاني فرجمه؛ و قدّم الثالث فضربه الحدّ؛ و قدّم الرابع فضربه نصف الحدّ خمسين جلدة؛ و قدّم الخامس فعزّره. فقال عمر: كيف ذلك؟
فقال عليه السلام: أمّا الأوّل، فكان ذمّيّاً زنى بمسلمة، فخرج عن ذمّته. و أمّا الثاني، فرجل محصن زنى، فرجمناه. و أمّا الثالث، فغير محصن، فضربناه الحدّ. و أمّا الرابع، فعبد زنى فضربناه نصف الحدّ. و أمّا الخامس، فمغلوب على عقله مجنون، فعزّرناه. فقال عمر: لَا عِشْتُ فِي امَّةٍ لَسْتَ فِيهَا يَا أبَا الحَسَنِ!٢
حكمه عليه السلام في كفّارة الحجّاج الذين صادوا بيض النعام
و روى ابن شهرآشوب أيضاً عن كتابَي أبي القاسم الكوفيّ و القاضي نعمان، عن عمر بن حمّاد بإسناده عن عبادة بن الصامت قال: قدم قوم من الشام حجّاجاً، فأصابوا أدحى نعامة فيه خمس بيضات و هم
محرمون، فشووهنّ و أكلوهنّ. ثمّ قالوا: ما أرانا إلّا و قد أخطأنا و أصبنا الصيد و نحن محرمون، فأتوا المدينة و قصّوا على عمر القصّة.
فقال: انظروا إلى قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله فاسألوهم عن ذلك ليحكموا فيه. فسألوا جماعة من الصحابة، فاختلفوا في الحكم في ذلك.
فقال عمر: إذا اختلفتم فهاهنا رجل كنّا امرنا إذا اختلفنا في شيء فيحكم فيه. فأرسل إلى امرأة يقال لها عطيّة، فاستعار منها أتاناً، فركبها، و انطلق بالقوم معه حتى أتى عليّاً عليه السلام و هو بَينْبُع. فخرج إليه عليّ عليه السلام فتلقّاه، ثمّ قال له: هلّا أرسلتَ إلينا فنأتيك؟ فقال عمر: الحَكَمُ يُؤْتَى في بَيْتِهِ.
فقصّ عليه القوم. فقال عليّ لعمر: مرهم فليعمدوا إلى خمس قلائص من الإبل فليطرقوها للفحل. فإذا أنتجت، أهدوا [إلى مكّة] ما نتج منها جزاء عمّا أصابوا. فقال عمر: يَا أبَا الحَسَنِ! إنّ النّاقَةَ قَدْ تُجْهِضُ؛ فَقَالَ عَلِيٌّ: وَ كَذَلِكَ البَيْضَةُ قَدْ تَمْرَقُ. فقال عمر: فَلِهَذَا امِرْنَا أنْ نَسْألَكَ.۱
و ذكر محبّ الدين الطبريّ هذه القصّة في كتابيه: «ذخائر العُقبي» و «الرّياض النّضِرة» بالشكل الآتي: قال محمّد بن الزبير: دخلتُ مسجد دمشق. فإذا أنا بشيخ قد التوت ترقوتاه من الكبر. فقلتُ: يا شيخ! من أدركتَ (من أصحاب رسول الله)؟! قال: عمر! فقلتُ: فما غزوتَ معه؟! قال: غزوتُ اليرموك!
قلتُ: فحدّثني شيئاً سمعته! قال: خرجت مع فتية حجّاجاً، فأصبنا بيض نعام و قد أحرمنا. فلمّا قضينا نسكنا، ذكرنا ذلك لأمير المؤمنين
عمر، فأدبر، و قال: اتبعوني، حتى انتهى إلى حجر رسول الله صلى الله عليه و آله، فضرب حجرة منها، فأجابته امرأة. فقال: أ ثَمَّ أبو حسن؟! قالت: لا، فمرّ في المقتاة. فأدبر، و قال: اتبعوني، حتى انتهى إليه و هو يسوّى التراب بِيَدِهِ. فقال: مَرْحَبَاً يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! فقال [عمر]: إنّ هؤلاء أصابوا بيض نعام و هم محرمون. فقال أبو الحسن: أ لا أرسلتَ إلَيّ؟! قال [عمر]: أنا أحقّ بإتيانك! قال [عليّ عليه السلام]: يَضْرِبُونَ الفَحَلَ قَلَائِصَ۱ أبْكَاراً بِعَدَدِ البَيْضِ، فَمَا نَتَجَ مِنْهَا أهْدَوْهُ. فقال عمر: فَإنّ الإبِلَ تُخْدِجُ!٢ قَالَ عَلِيٌّ: وَ البَيْضُ يَمْرَضُ.
فقال عمر: اللَهُمَّ لَا تُنْزِلْ بِي شَدِيدةً إلَّا وَ أبُو الحَسَنِ إلَى جَنْبِي!٣
و جاء في السنّة أنّ المحرم إذا صاد نعامةً، فعليه أن ينحر بَدَنَةً بمكّة. و هذه هي كفّارتها. و على مَن صاد بيض النعام أن يهدي قلوصاً كفّارة له. فلهذا كان عمر يتوقّع أن يقول أمير المؤمنين عليه السلام: كفّارة البيضات الخمس إهداء خمس قلائص إلى مكّة.
بَيدَ أنّ الإمام لم يحكم بهذا. و حكم بإهداء ما تنتجه القلائص الخمس بعد إطراقها للفحل. و تعجّب عمر هنا و قال: صادوا خمس بيضات، و قد لا يكون أولاد الناقة بهذا العدد، لأنّ بعض النياق تجهض. و لذلك يقلّ مقدار الكفّارة عن مقدار البيضات المصيدة. و قال أمير المؤمنين عليه السلام في جوابه: لا يُعلم أنّ بيضات النعام الخمس كلّها تنتج لاحتمال
فساد بعضها، فيكون هذا الاحتمال بإزاء ذلك الاحتمال.
و على ضوء هذه الدقّة في المحاسبة العجيبة، قال عمر: اللهمّ لا تُنزل بي شديدة إلّا و أبو الحسن إلى جنبي! (فيحلّها لي كحلّ مسألة بيض النعام!)
و قال ابن شهرآشوب أيضاً: روى جماعة منهم إسماعيل بن صالح عن الحسن أنّ عمر استدعى امرأة كان يتحدّث عندها الرجال. فلمّا جاءها رسله، ارتاعت و خرجت معهم فأملصت فوقع إلى الأرض ولدها يستهلّ ثمّ مات. فبلغ عمر ذلك، فسأل الصحابة عن ذلك، فقالوا بأجمعهم: نراك مؤدِّباً، و لم ترد إلّا خيراً! و لا شيء عليك في ذلك! [فالتفت إلى أمير المؤمنين عليه السلام]، فقال: أقسمت عليك يا أبا الحسن لتقولنّ ما عندك!
فقال عليه السلام: إن كان القوم راقبوك، فقد غشّوك. و إن كانوا ارتأوا فقد قصّروا، الدية على عاقلتك! لأنّ القتل الخطأ للصبيّ يتعلّق بك!
فقال [عمر]: أنْتَ وَ اللهِ نَصَحْتَنِي! و الله لا تبرح حتى تجري الدية على بَنِي عَدِيّ. ففعل ذلك أمير المؤمنين عليه السلام.
و قد أشار الغزّاليّ إلى ذلك في «إحياء العلوم» عند قوله: و وجوب الغرم على الإمام إذَاً، كما نقل من إجهاض المرأة جنينها خوفاً من عمر.۱
و قال ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»: لمّا مات عمر، و أظهر
ابن عبّاس قوله في العول، و لم يكن قبل يظهره، (قيل له): هلّا قلتَ هذا و عمر حيّ؟!
حكمه عليه السلام في دية الجنين الذي أجهضته امّه خوفاً من عمر
قال: هِبْتُهُ وَ كَانَ امْرِءاً مَهِيباً.۱ وَ اسْتَدْعَى عُمَرُ امْرَأةً لِيَسْألَهَا عَنْ أمْرٍ
وَ كَانَتْ حَامِلًا، فَلِشِدَّةِ هَيْبَتِهِ ألْقَتْ مَا في بَطْنِهَا فَأجْهَضَتْ بِهِ جَنِيناً مَيِّتاً.
فَاسْتَفْتَى عُمَرُ أكَابِرَ الصَّحَابَةِ في ذَلِكَ؛ فَقَالُوا: لَا شَيءَ عَلَيْكَ! إنّمَا أنْتَ مُؤَدِّبٌ. فَقَالَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ: إنْ كَانُوا رَاقَبُوكَ، فَقَدْ غَشُّوكَ؛ وَ إنْ كَانَ هَذَا جُهْدَ رَأيِهِمْ فَقَدْ أخْطَاوا. عَلَيْكَ غُرّةٌ يَعْنِي عِتْقَ رَقَبَةٍ. فَرَجَعَ عُمَرُ وَ الصَّحَابَةُ إلَى قَوْلِهِ.۱
رجوع عمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام في عدّة طلاق الأمَة
و قال ابن شهرآشوب أيضاً: و في «غريب الحديث» عن أبي عُبَيد أيضاً، قال أبو صُبْرَة:
جاء رجلان إلى عمر، فقالا له: ما ترى في طلاق الأمَة؟! فقام إلى حلقة فيها رجل أصلع، فسأله، فقال [مشيراً]: اثنتان. فالتفتَ إليهما فقال: اثنتان. فقال له أحدهما: جئناك و أنت أمير المؤمنين، فسألناك عن طلاق الأمة، فجئتَ إلى رجل، فسألتَهُ! فو الله ما كلّمك (و إنّما أشار بيده فأفهمك!).
فقال له عمر: وَيْلَكَ، أ تَدْرِي مَنْ هَذَا؟! هَذَا عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ! سَمِعْتُ رَسُولَ اللهُ صلى اللهُ عَلَيه وَ آلِهِ يَقُولُ: لَوْ أن السَّمَاواتِ وَ الأرْضَ وُضِعَتْ في كَفَّةٍ وَ وُضِعَ إيمَانُ عَلِيّ في كَفَّةٍ لَرَجَحَ إيمَانُ عَلِيّ.
و رواه مَصْقَلَة بن عبد الله.
[و قال] العبديّ شاعر [أهل البيت]:
إنّا رُوينا، في الحديث خَبَرا | *** | يَعْرِفُهُ سَايِرُ مَنْ كَانَ رَوَى |
أنّ ابْنَ خَطَّابٍ أتَاهُ رَجُلٌ | *** | فَقَالَ: كَمْ عِدَّةُ تَطْلِيقِ الإمَا |
فَقَالَ: يَا حَيْدَرُ كُمْ تَطْلِيقَةٌ | *** | لِلُامَةِ اذْكُرْهُ فَاومَى المُرْتَضَى |
بِإصْبَعَيْهِ فَثَنَى الوَجْهَ إلَى | *** | سَائِلِهِ قَالَ: اثْنَتَانِ وَ انْثَنَي |
قَالَ لَهُ: تَعْرِفُ هَذَا؟ قَالَ: لَا | *** | قَالَ لَهُ: هَذَا عَلِيّ ذُو العُلَا۱ |
و ذكر السيّد عليّ الهمدانيّ في كتاب «مودّة القربي»،٢ كما نقله الخوارزميّ في مناقبه.٣
و رواه العلّامة الأمينيّ بتمامه و كماله في «الغدير» عن الحافظ الدارقطنيّ، و عن ابن عساكر، عن الشيخ الكنجيّ في «كفاية الطالب» ص ٢٩. و قال الكنجيّ: هذا حسن ثابت. و رواه من طريق الزمخشريّ خطيب الحرمين الخوارزميّ في «المناقب» ص ۷۸، و السيّد عليّ الهمدانيّ في «مودّة القربي».٤
و من الجدير ذكره أنّ ما جاء في الرواية التي نقلناها عن ابن شهرآشوب هو قوله: وَ اللهِ مَا كَلَّمَكَ. أي أنّ ذلك الرجل قال لابن الخطاب: هذا الرجل لم يكلّمك و اكتفى بالإشارة بإصبعيه. بينما جاء في رواية الخوارزميّ: وَ اللهِ مَا اكَلِّمُكَ. لأنّك تقول: أنا أمير المؤمنين و تسأل غيرك عن هذه المسألة، و هو يجيبك بالإشارة فحسب.
توضيح أمير المؤمنين الكلمات الغامضة التي قالها حذيفة لعمر
و روى الإمام الحافظ الكنجيّ الشافعيّ بسلسلة سنده المتّصل عن سعيد بن المسيّب، عن حذيفة اليمانيّ أنّه لقي عمر بن الخطّاب، فقال له
عمر: كيف أصبحَت؟ فقال: كيف تريدني اصبح! أصْبَحْتُ وَ اللهِ أكْرَهُ الحَقَّ، وَ احِبُّ الفِتْنَةَ، وَ أشْهَدُ بِمَا لَمْ أرَهُ، وَ أحْفَظُ غَيْرَ المَخْلُوقِ، وَ اصَلِّي عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، وَلِيَ في الأرْضِ مَا لَيْسَ لِلَّهِ في السَّمَاءِ.
فغضب عمر لقوله، و انصرف من فوره. و قد أعجله أمر، و عزم على أذى حذيفة لقوله ذلك. فبينا هو في الطريق إذ مرّ بعليّ بن أبي طالب، فرأى الغضب في وجهه، فقال: ما أغضبك يا عمر؟
فقال عمر: لقيت حذيفة بن اليمان، فسألته: كيف أصبحتَ؟ فقال: أصبحت أكره الحقّ! فقال الإمام: صدق، يَكْرَهُ المَوْتَ وَ هُوَ حَقٌ. فقال عمر: قال: و احبّ الفتنة! فقال الإمام: صدق، يُحِبُّ المَالَ وَ الوَلَدَ؛ و قد قال الله تعالى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ .۱
فقال عمر: يَا عَلِيّ! يقول: وَ أشْهَدُ بِمَا لَمْ أرَهُ.
فقال الإمام: صدق، يشهد للّه بالوحدانيّة و الموت و القيامة و الجنّة و النار و الصراط، و هو لم ير ذلك كلّه. قال عمر: يَا عَلِيّ! و قد قال: إنّني أحفظ غير المخلوق. فقال الإمام: صدق يحفظ كتاب الله تعالى القرآن، و هو غير مخلوق.٢
قال عمر: و يقول: اصلّي على غير وضوء! فقال الإمام: صدق، يصلّي على ابن عمّي رسول الله صلى الله عليه و آله على غير وضوء، و الصلاة عليه جائزة.
قال عمر: يَا أبَا الحَسَنِ! قد قال أكبر من ذلك. فقال الإمام: و ما هو؟
قال: قال: ولى في الأرض ما ليس للّه في السماء! فقال الإمام: صدق، له زوجة و تعالى الله عن الزوجة و الولد.
فقال عمر: كَادَ يَهْلِكُ ابْنُ الخَطَّابِ، لَوْ لا عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ.۱
و روى ابن صبّاغ المالكيّ مثله و لكن ليس عن حذيفة، بل عن رجل جاء إلى عمر، و قال كذا و كذا، و أجاب أمير المؤمنين عليه السلام فأزال الإشكال. و في آخره، قال عمر: أعوذُ بِاللهِ مِنْ مُعْضَلَةٍ لَا عَلِيّ لَهَا.٢
و ذكر عن سعيد بن المُسَيِّب قوله: كان عمر يقول: اللَهُمَّ لَا تُبْقِنِي لِمُعْضَلَةٍ لَيْسَ فِيهَا أبُو الحَسَنِ؛ وَ قَالَ مَرّةً: لَوْ لا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ.٣
و قال ابن أبي الحديد: جاءت امرأة إلى عمر بن الخطّاب، فقالت: يا أمير المؤمنين! إنّ زوجي يصوم النهار و يقوم الليل، و إنّي أكره أن أشكوه و هو يعمل بطاعة الله! فقال: نِعْمَ الزوج زوجُكِ! فجعلت تكرّر عليه القول، و هو يكرّر عليها الجواب.
فقال له كعب بن سَوْر: يا أمير المؤمنين! إنّها تشكو زوجها في مباعدته إيّاها عن فراشه! ففطن عمر حينئذٍ، و قال له: قد وليتك الحكم بينهما. فقال كعب: عَلَيّ بزوجها، فاتي به، فقال له: إنّ زوجتك هذه تشكوك! قال: في طعام أو شراب؟! قال: لا. قالت المرأة:
أيُّهَا القَاضِي الحَكِيمُ رَشَدُهُ | *** | ألْهَى خَلِيلي عَنْ فِرَاشِي مَسْجِدُهْ |
زَهَّدَهُ في مَضْجَعِي تَعَبُّدُهْ | *** | نَهَارُهُ وَ لَيْلُهُ مَا يُرْقِدُهْ |
فَلَسْتُ في أمْرِ النّسَاءِ أحْمَدُه | *** | ... |
فقال زوجها:
زَهَّدَنِي في فَرْشِهَا وَ في الحَجَلْ | *** | أنّي امْرُؤٌ أذْهَلَنِي مَا قَدْ نَزَلْ |
في سُورَةِ النّمْلِ وَ في السَّبْعِ الطِّوَلْ۱ | *** | وَ في كِتَابِ اللهِ تَخْوِيفٌ جَلَلْ |
قال كعب:
إن لَهَا حَقَّاً عَلَيْكَ يَا رَجُلْ | *** | تُصِيبُهَا مِنْ أرْبَعٍ لِمَنْ عَقَلْ |
فَأعْطِهَا ذَاكَ وَ دَعْ عَنْكَ العِلَلْ | *** | ... |
فقال لعمر: يا أمير المؤمنين! إنّ اللهَ أحَلَّ لَهُ مِنَ النّسَاءِ مَثْنَى وَ ثلَاثَ وَ رُبَاعَ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ أيَّامٍ وَ لَيَالِيهِنّ يَعْبُدُ فِيهَا رَبَّهُ، وَ لَهَا يَوْمٌ وَ لَيْلَةٌ.
فقال عمر: وَ اللهِ مَا أعْلَمُ مِنْ أي أمْرَيْكَ أعْجَبُ؟! أ مِنْ فَهْمِكَ
أمْرَهُمَا، أمْ مِنْ حُكْمِكَ بَيْنَهُمَا؟ اذْهَبْ فَقَدْ وَلَّيْتُكَ قَضَاءَ البَصَرةِ.۱
نجد أنّ الخليفة هنا لم ينصف، إذ كان خليقاً به أن يفوّض الخلافة إلى الشخص المذكور.
حكم أمير المؤمنين عليه السلام بتبرئة المرأة التي زنت اضطراراً
و روى عن «أربعين الخطيب» أنّ امرأةً شهد عليها الشهود أنّهم وجدوها في بعض مياه العرب مع رجل يطأها ليس ببعل لها. فأمر عمر برجمها. فقالت: اللَهُمَّ أنْتَ تَعْلَمُ أنّي بَرِيَّةٌ. فغضب عمر و قال: وَ تَجْرَحِي الشُّهُودَ أيضاً. و أمر أمير المؤمنين عليه السلام أن يسألها.
فقالت: كان لأهلي إبل، فخرجت في إبل أهلي، و حملتُ معي ماء، و لم يكن في إبلي لبن. و خرج معي خليط و كان في إبله لبن، فنفد مائي، فاستسقيته، فأبى أن يسقيني حتى امكّنه من نفسي. فأبيتُ. فلمّا كادت نفسي تخرج، أمكنته من نفسي، فأعطاني الماء.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: اللهُ أكْبَرُ «فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ» فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ.٢
و أنشد ابن الأصفهانيّ مثل هذا الباب:
لَا يَهْتَدُونَ لِمَا اهْتَدَى الهَادِي لَهُ | *** | مِمَّا بِهِ الحُكْمَانِ يَشْتَبِهَانِ |
في رَجْمِ جَارِيَةٍ زَنَتْ مُضْطَرّةً | *** | خَوْفَ المَمَاتِ بِعِلَّةِ العَطْشَانِ |
إذْ قَالَ: رُدُّوهَا فَرُدَّتْ بَعْدَ ما | *** | كادَتْ تَحِلُّ عَسَاكِرُ المَوْتَانِ |
وَ بِرَجْمِ اخْرَى وَالِداً عَنْ سِتَّةٍ | *** | فَأتَى بِقَصِتِهَا مِنَ القُرآنِ |
إذ أقْبَلَتْ جَرَى إلَيْهَا اخْتُهَا | *** | حَذَراً عَلَى حَدِّ الفُؤادِ حَصَانِ۱ |
و روى ابن قتيبة في عيونه عن المدائنيّ، قال: أحدث رجل في الصلاة خلف عمر بن الخطّاب [فبطلت صلاته، و سمعه عمر]. فلمّا سلّم عمر أعزم على صاحب الضرطة إلّا قام فتوضّأ، و صلى. فلم يقم أحد.
قال جرير بن عبد الله: يا أمير المؤمنين! أعزم على نفسك و علينا أن نتوضّأ، ثمّ نعيد الصلاة. فأمّا نحن، فتصير لنا نافلة. و أمّا صاحبنا، فيقضي صلاته. فقال عمر: رحمك الله! أن كنت لشريفاً في الجاهليّة، فقيهاً في الإسلام.٢
و قال ابن أبي الحديد: روى محمّد بن سيرين أنّ عمر في آخر أيّامه اعتراه نسيان، حتى كان ينسى عدد ركعات الصلاة، فجعل أمامه رجلًا يلقّنه. فإذا أومى إليه أن يقوم أو يركع، فعل.٣
تجسّس عمر ليلًا دارَ أبى محجن شارب الخمر
و أخرج السيوطيّ في «الدرّ المنثور» عن الخرائطيّ في كتاب «مكارم الأخلاق» عن ثور الكنديّ، [قال]: إنّ عمر بن الخطّاب كان يعسّ بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنّى، فتسوّر عليه، فوجد عنده امرأة، و عنده خمر، فقال: يَا عَدُوَّ اللهِ! أ ظَنَنْتَ أنّ اللهَ يَسْتُرُكَ وَ أنْتَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ؟!
فقال: يَا أمير المؤمنين! لَا تَعْجَلْ عَلَيّ أنْ أكُونَ عَصَيْتُ اللهَ وَاحِدَةً
فَقَدْ عَصَيْتَ اللهَ في ثَلَاثٍ: قَالَ اللهُ: «وَ لا تَجَسَّسُوا»۱ وَ قَدْ تَجَسَّسْتَ! وَ قَالَ [الله]: «وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها»٢ وَ قَدْ تَسَوَّرْتَ عَلَيّ! وَ دَخَلْتَ عَلَيّ بِغَيْرِ إذْنٍ. وَ قَالَ اللهُ: «لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا٣ وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها»!.٤
و ذكر ابن أبي الحديد في آخر هذه الرواية أنّ الرجل قال: وَ مَا سَلَّمتَ.٥
ينبغي هنا ملاحظة مدى جهل الخليفة الثاني بالآيات القرآنيّة و ما هو نصيبه منها؛ فهو يتسلّق الجدار ليلًا بدون علم صاحب البيت، ثمّ يلوم صاحب البيت و يوبّخه على ارتكابه الذنب أمام شخصيّة كعمر الذي يزعم أنّه أمير المؤمنين! و إذا بذلك الرجل الثمل و هو أبو مِحجَن الثَّقَفي على رواية الثعلبيّ و قد استشهد بثلاث آيات قرآنيّة و هو سكران فيفضح بها عمر و يُخجله، و يرغمه على التراجع!
قال الثعلبيّ: إنّ ذلك الرجل الذي تسوّر عليه عمر كان أبا محجن الثقفيّ. و روى أنّه قال لعمر: إنّ هذا لا يحلّ لك! قد نهاك الله عن
التجسّس! فقال عمر: ما يقول هذا: [إنّه تجسّس]؟ فقال زيد بن ثابت و عبد الله بن أرقم: صدق يا أمير المؤمنين [هذا التجسّس]. فخرج عمر و تركه.۱ و هنا قال أحد علمائنا: العجيب أنّ أبا محجن الثقفيّ الخمِّير السكِّير عرف هذا و عمر لم يعرفه! و لم ينتبه بعد تنبيه أبي محجن إيّاه، حتى أعلمه الآخرون (زيد و عبد الله).
و كان أبو محجن الثقفيّ رجلًا دائم اللهو بالخمر و مجالس الغناء. و هو صاحب البيتين الآتيين:
إ ذَا مِتُّ فَادْفِنّي إلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ | *** | تَرَوَّى عِظَامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقَهَا |
وَ لَا تَدْفِنَنّي في الفَلَاةِ فَإنّنِي | *** | أخَافُ إذَا مَا مِتُّ أنْ لَا أذُوقَها٢ |
يستفاد من هذه الرواية أنّ عمر كان جاهلًا بآية التجسّس و كذا في موضوع التجسّس و مفهومه على الرغم من كونه أمر عرفيّ، حتى أنّه قد سأل صحابيينِ عن مصداق مفهومه، فحدّثاه بمصداقه كما أدركه أبو محجن!
قارنوا هذه الروايات و الأحاديث الثابتة في التأريخ -التي تفوق حدّ الإحصاء- بما روى عن الإمام المظلوم عليّ بن أبي طالب من علم غزير. ذلك الإمام الذي كان مصدر النور المتألّق، و منهل العلم الفيّاض، بيد أنّه قد قُصّ جناحاه عن كلّ شيء، و إذا هو يذهب إلى بساتين المدينة، يحرث و يزرع و يجري قنوات الماء خمساً و عشرين سنة!
يستند بعض من أحكام الإمام العجيبة على الآيات القرآنيّة الكريمة، و قد قرأنا كثيراً منها في هذا الكتاب الشريف. و إذ نريد أن نختم بحثنا نكتفي بذكر رواية مباركة، و على القارئ الكريم أن يلاحظ كيفيّة تبيان الإمام الحكم بالاستناد على الآيات القرآنيّة.
استناد أمير المؤمنين عليه السلام على الآيات القرآنيّة في الحكم
روى العيّاشيّ في تفسيره عن عبد الله بن قدّاح، عن أبي عبد الله عليه السلام، عن أبيه عليه السلام، قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين! بي وجع في بطني. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أ لك زوجة؟! قال: نعم! قال: استوهب منها شيئاً طابت به نفسها من مالها، ثمّ اشتر به عسلًا! ثمّ اسكب عليه من ماء السماء، ثمّ اشربه! فإنّي أسمع الله يقول في كتابه: وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً.۱ و قال: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ.٢ و قال: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً.٣
[ثمّ قال له أمير المؤمنين عليه السلام: إذا شربتَ منه]، شفيتَ إن شاء الله تعالى! قال الإمام الباقر عليه السلام راوي هذا الحديث ففعل
ذلك فشفي.۱
و جاء في خاتمة رواية «مجمع البيان» أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لذلك الرجل: فَإذَا اجْتَمَعتِ البَرَكَةُ وَ الشِّفَاءُ وَ الهَنِئُ المَرِئُ شُفِيتَ إنْ شاءَ تعالى.٢٣
قراءة عمر المرتجلة آية: السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ ...
و يشهد التأريخ الصحيح على عدم كون الحكّام الآخرين مراجعاً للقراءات، و كانوا يرجعون فيها إلى غيرهم كابن مسعود و زيد بن ثابت و ابيّ بن كعب. و لم يكن عمر مرجعاً للقراءة فحسب، بل كان يخطئ في قراءته في بعض المواطن، بل و يخال أنّ رسول الله كان يقرأ هكذا! و كانت قراءته في بعض الأحيان تفضي به إلى التفاخر و التباهي، فيتلمّس المقام و المنزلة لقريش و المهاجرين في مقابل الأنصار. كما في الآية ۱۰۰، من السورة ٩: التوبة: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
و كما هو واضح، فإنّ كلمة الْأَوَّلُونَ صفة كلمة السَّابِقُونَ ، و مِنْ بيانيّة، و وَ الأنصَارِ بالكسر معطوفة على الْمُهاجِرِينَ و تسبقها واو العاطفة. و حرف الجرّ مِن يبيّن السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ، و هم من المهاجرين و الأنصار معاً. و قوله: وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ معطوف على قوله: السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ و قوله: رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ خبر لقوله: السَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ من المهاجرين و الأنصار، و كذلك خبر لمعطوفه، و هو قوله: الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، إذ إنّ للمعطوف و المعطوف عليه حكماً واحداً، و لذلك فإنّ للسابقين الأوّلين سواء كانوا من المهاجرين أم من الأنصار، و الذين اتّبعوهم بإحسان حكماً واحداً، و تشملهم عناية إلهيّة خاصّة.
بيد أنّ عمر كان يُسقط الواو الواقعة بين الأنصَارِ و وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ عند قراءة هذه الآية، و يرفع كلمة الأنصَارِ و هي مجرورة. لذلك كان يذهب إلى أنّ كلمة الأوَّلُونَ خبر أو صفة المُهَاجِرينَ، و مِنْ في قوله: مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لابتداء الغاية، و الأنْصَارِ مبتدأ، وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ خبره أو صفة له. و حينئذٍ يتميّز السابقون فحسب، بخاصّة المهاجرون الاوَل، و يفرز الأنصار من هذا الحكم. اولئك قوم رضي الله عنهم و لطف بهم لاتّباعهم المهاجرين الذين هم من الدرجة الاولى. و من المعلوم أنّ السابقون في مثل هذا التعبير يتميّزون على غير هم و لهم مقام رفيع لا يبلغ شأوه أحد. و الأنصار تابعون لهم. و لا يبلغ مقامهم و مقام الذين اتّبعوهم بإحسان مقامَ المهاجرين و درجتهم.
روى الحاكم في «المستدرك» ج ٣، ص ٣۰٥ بسنده المتّصل عن أبي سَلَمة، و محمّد بن إبراهيم التيميّ، قالا: مرّ عمر بن الخطّاب برجل و هو يقرأ: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ. إلى آخر الآية. فوقف عليه عمر فقال: انصرف! فلمّا انصرف، قال له عمر: من أقرأك هذه الآية؟! قال: أقرأنيها ابيّ بن كعب. فقال: انطلقوا بنا إليه! فانطلقوا إليه فإذا هو متّكئٌ على وسادة برجل رأسه، فسلّم عليه [عمر] فردّ عليه [ابيّ] سلامه. فقال عمر: يا أبا المنذر! قال [ابيّ]: لبيك. قال [عمر]: أخبرني هذا أنّك أقرأته هذه الآية! قال: صدق، تَلَقَّيْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه و آله
و سلّم). قال عمر: أنت تلقّيتها من رسول الله؟ قال: نَعَمْ؛ أنَا تَلَقَّيْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ؛ ثلاث مرّات. و [قال] في الثالثة، و هو غضبان: نَعَمْ؛ وَ اللهِ لَقَدْ أنْزَلَهَا اللهُ عَلَى جِبْرِيلَ؛ وَ أنْزَلَهَا جِبْرِيلُ عَلى مُحَمَّدٍ، فَلَمْ يَسْتَأمِرْ فِيهَا الخَطَّابَ وَ لَا ابْنَهُ. فخرج عمر و هو رافع يديه و هو يقول: الله أكبر، الله أكبر.
و ذكر السيوطيّ هذه الرواية باللفظ المذكور في تفسير «الدرّ المنثور» ج ٣، ص ٢٦٩، كما ذكرها الآلوسيّ في تفسير «روح المعاني» ج ۱۱، ص ۸. و قال الزمخشريّ في تفسير «الكشّاف» ج ۱، ص ٤۰۸، الطبعة الاولى، المطبعة الشرقيّة، عند تفسير هذه الآية: روى أنّ عمر سمع رجلًا يقرأ بالواو: و اتّبعوهم؟! فقال: من أقرأك [هذا]؟! قال: ابَيّ. فدعاه [عمر]. فقال [ابيّ]: أقْرَأنِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ وَ إنّكَ لَتَبِيعُ القَرَظَ بِالبَقِيعِ! (القرظ ورق السَّلَم يُدبَغ به. و السلم شجر كبير و شائك).
قَالَ: صَدَقْتَ وَ إنْ شِئْتَ قُلْتَ: شَهِدْنَا وَ غِبْتُمْ، وَ نَصَرْنَا وَ خَذَلْتُمْ، وَ آوَيْنَا وَ طَرَدْتُمْ! (الأنصار هم الذين آووا، و قريش هم الذين طردوا المسلمين من مكّة).
وَ مِنْ ثَمَّ قَالَ عُمَرُ: لَقَدْ كُنْتُ أرَانَا رُفِعْنَا رِفْعَةً لَا يَبْلُغُهَا أحَدٌ بَعْدَنَا.
و في ذيل هذه الآية الشريفة أيضاً روى كلّ من السيوطيّ في «الدرّ المنثور» و القرطبيّ في «التفسير» ج ۸، ص ٢٣۸، و الزمخشريّ في «الكشّاف» ج ۱، ص ٤۰۸، و الطبريّ في «جامع البيان» ج ۱۱، ص ۸، و ابن كثير في «التفسير» ج ٣، ص ٤٤٤، و السيّد محمّد الآلوسيّ في «روح المعاني» ج ۱۱، ص ۸ و ٩ أنّ عمر أخذ بيد ذلك الرجل الذي كان يقرأ القرآن، و قال: مَنْ أقَرَأكَ هَذَا؟! قَالَ: ابَيّ بْنُ كَعبْ! فقال له عمر:
لا تفارقني حتى أذهب بك إليه! فلمّا جاءه، قال عمر: أنتَ أ قرأتَ هذا هذه الآية هكذا؟! قال: نعم! قال عمر: لَقَدْ كُنْتُ أظُنّ أنّا رُفِعْنَا رِفْعَةً لَا يَبْلُغُهَا أحَدٌ بَعْدَنَا.
فقال ابيّ: تصديق ذلك في أوّل [سورة] الجمعة: وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ... و في [سورة] الحشر: وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ. و في [سورة] الأنفال: وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ.
و كذلك روى السيوطيّ و الطبريّ و ابن كثير و الزمخشريّ و القرطبيّ، و الآلوسيّ في التفاسير المذكورة، في ذيل هذهالآية، عن أبي عبيد و سعيد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن حبيب الشهيد، عن عمرو بن عامر الأنصاريّ أنّ عمر بن الخطّاب قرأ: وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، فرفع الأنصار، و لم يلحق الواو في الَّذِينَ. فقال له زيد بن ثابت: وَ الَّذِينَ [بالواو]، فقال عمر: الَّذِينَ. فقال زيد: أمير المؤمنين أعلم. فقال عمر: ائتوني بابيّ بن كعب! فأتاه، فسأله عن ذلك. فقال ابيّ: وَ الَّذِينَ [بالواو]. فقال عمر: فَنَعَمْ إذَنْ نُتَابِعُ أُبَيّاً، وَ نَقْرَأهَا بِالوَاوِ.