15

السلوك الحقيقيّ

أهميّة حسن الظنّ

2
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1423

التاريخ 1423/09/26


التوضيح

ما هو أخطر مرض يدمّر العلاقات والمجتمعات؟ ما هو السلوك الحقيقيّ إلى الله، وهل يقتصر على الصلاة والذكر؟ وكيف تكون الرحمة الإلهيّة واسعة لتشمل حتّى الطغاة كنمرود؟ تجيبك هذه المحاضرة عن هذه الأسئلة وغيرها من القضايا الأخلاقيّة والتربويّة العميقة.

/۱۲
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

السلوك الحقيقيّ - أهميّة حسن الظنّ

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • السلوك الحقيقيّ

  • أهميّة حسن الظنّ 

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٣ هـ - الجلسة الخامسة عشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

السلوك الحقيقيّ - أهميّة حسن الظنّ

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم

  • بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرّحیم

  • و صلَّى اللهُ عَلَى سیّدنا و نبیّنا أبی‌القاسمِ محمدٍ

  • و على آلهِ الطّیبینَ الطّاهرینَ

  • واللعنةُ عَلَى أعدائِهِم أجمَعینَ الى یومِ الدین

  •  

  •  

  • «وَ یقینی بِمَعْرِفَتِکَ مِنِّی أن لا رَبَّ لِی غَیْرُکَ وَ لا إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ وَحْدَکَ لا شَرِیکَ لَکَ. اللَهُمّ أَنْتَ الْقَائِلُ وَ قَوْلُکَ حَقٌّ وَ وَعْدُکَ صِدْقٌ: ﴿وَسْئَلُوا اَللّٰهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾۱ ﴿إِنَّ اَللّٰهَ كٰانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾٢»

  • إنّ هذه الأمور التي طلبتها منك هنا، والحاجات التي جئت بها إليك، إنّما هي بسبب اليقين الذي أملكه بمعرفتك بي، أي أنّني أعلم كيف هي معرفتك بي، وما هو انطباعك عنّي، وأنك تعلم أنّ ما في ضميري هو أنّه «لَا رَبَّ لِی غَیْرُکَ» وليس لي ربّ سواك. أنت تعلم هذا عنّي، تعلم أنّ هذا هو حالي وفكري، وأنّ هذه المسألة وحدها هي التي تخطر في قلبي. «وَلا إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ»، لا إله، لا معبود، لا مؤثّر، لا موجود حقيقيّ سواك. «وَحْدَکَ لَا شَرِیکَ لَکَ». يا إلهي، أنت واحد، وليس لك في وجودك ووحدتك ندّ ونظير، لا شريك لك. «اللَهُمّ أَنْتَ الْقَائِلُ وَ قَوْلُکَ حَقٌّ». يا إلهي، أنت بنفسك قلت، وكلامك حق، ووعدك صدق. أنت القائل، فنحن لم نقل هذا، بل أنت قلته. ماذا قلت؟ ﴿وَس‍َٔلُواْ ٱللهَ مِن فَضلِهِۦ﴾ ﴿إِنَّ ٱللَهَ كَانَ بِكُم رَحِيمًا﴾ أنت بنفسك قلت: اطلبوا من الله، اسألوا من فضل الله، اطلبوا من جوده وعطائه. أنت قلت هذا، إنّ الله رحيم بكم وعطوف عليكم.

  • مرض سوء الظن: كيف يدمّرنا؟

  • حسنًا، للإمام عليه السلام هنا مطالب، منها أنّه يقول: «يَقِينِي بِمَعْرِفَتِكَ مِنِّي»، أي أنا على يقين تام بأنّ معرفتك بي هي على هذا النحو، وأنّ هذا هو اعتقادي بهذه المسألة. لأنّ المعرفة التي يكوّنها الإنسان عن الآخرين تكون أحيانًا معرفة مقلوبة، أي أنّ الإنسان يفرض معتقداته بناءً على تصوّراته عن الآخرين، فيقول لهم: «أنتم هكذا وأنتم كذا»، مع أنّهم ليسوا كذلك! فلماذا يقول هذا؟ لأنّه يعتبر ذهنيّاته عن شخص ما صحيحة.

  • وكم هي مهمّة مسألة حُسن النيّة تجاه الأخ المؤمن! أن يحسن الإنسان النيّة بأخيه المؤمن. قد لا تكون تلك المسألة قد خطرت ببال الآخر أصلاً، فيأتي هذا ويقول: «إنّ العمل الذي قمت به كان بسبب ذلك الأمر»، ثمّ يبني خططه على هذا الأساس، ويرتّب عليه الآثار، وينظّم على أساسه حياته وعلاقاته مع الآخرين، وكلّ ذلك مبنيّ على الهواء، لأنّ أساس المسألة خاطئ، وبالتالي فإنّ البناء كلّه سيظلّ معوجًّا حتّى الثريا.

    1. سورة النساء (٤) الآية ٣٢.
    2. سورة النساء (٤) الآية ٢٩.

السلوك الحقيقيّ - أهميّة حسن الظنّ

3
  • قصّة الرسالة الممزّقة: حين يتحول حُسن النيّة إلى إساءة

  • حدثت مرّة قضيّة بين اثنين وكنت على علم بها. فد قام أحدهما بعمل ما، وكان له فهم معيّن لهذا العمل. وعندما علم الآخر بالأمر، كان له فهم مختلف تمامًا، والله وحده يعلم ما الذي دار في قلبه! كان أحدهم قد كتب رسالة إلى آخر، وعندما رأى ذلك الرجل أنّ الرسالة مسيئة جدًّا، وأنّه لو قرأها أحد قد تسبّب له مشكلة، قام بتمزيقها حتّى لا تقع في يد أحد وألقى بها بعيدًا. لقد اطّلع على مضمون الرسالة، ثمّ مزّقها ورماها حتّى لا يراها أحد، لأنّ الأمر ليس جيّدًا بالنسبة لكاتبها، ومن القبيح أن يقال إنّه كتب مثل هذا الكلام. بعد ذلك، ذهب هذا الرجل وأخبر آخر بما حدث وهو ما لم يكن ينبغي له أن يفعله وقال له إنّه مزّق الرسالة حتّى لا يبقى لها أثر. فذهب ذلك الآخر وأخبر كاتب الرسالة الأصليّ بالقصّة. والله وحده يعلم أيّ مصيبة حلّت به! «لقد أهانني! لقد فعل بي كذا وكذا!». انظروا، ما هي نيّة هذا، وما هو فهم ذاك!

  • كيف يقتات الوهم على سوء الظن؟

  • عجيب حقًا! لم يقل في نفسه ولو لمرّة واحدة: لعلّ لهذه القضية وجهًا من الحُسن والصحّة. لم يضع احتمالاً واحدًا ولم يقل: سأصبر حتّى أراه وأسأله عن سبب فعله هذا. لم يخطر هذا الاحتمال في ذهنه أصلاً، وبدأ يكبّر القضيّة في ذهنه بالاتجاه المعاكس والخاطئ. ثمّ تأتي النفس، فهي لا تجلس هادئة، تبدأ بتنمية أيّ فكرة تأتي إلى الذهن. هذه النفس الموقّرة، نفسي ونفسكم، لا تهدأ أبدًا. وكما قيل: راحتها عدمها. ليتها إذ كانت لا تهدأ، لا تهدأ في اتجاه الصواب والصلاح، لكنّها لا تهدأ في الاتجاه المعاكس. تبدأ بتنمية الفكرة: إذًا، ذلك العمل الذي فعله كان بسبب هذا الأمر. الآن فهمت، وذلك العمل الآخر كان أيضًا لنفس السبب. ويبدأ بإسقاط كلّ الأعمال والخطط على هذه المسألة، في حين أنّها لم تكن صحيحة ولو بنسبة واحد في الألف، ولم يكن لها وجود خارجيّ.

السلوك الحقيقيّ - أهميّة حسن الظنّ

4
  • لماذا تقع ٩۸% من مشاكل العالم؟

  • دعونا نترك مجالاً للاحتمال في أعمالنا، لنقل إنّ هذا العمل الذي يقوم به هذا المسكين له وجه صحيح، نحمله على محمل الصحّة، فقد يكون له وجه صحيح. لماذا نجرّ الأمور دائمًا إلى هذا الاتجاه وذاك؟ ونظائر هذه القضايا إلى ما شاء الله. كلّ المشاكل التي تحدث في الدنيا، إن لم نقل مائة بالمائة، فتسعة وتسعون بالمائة منها أساسه سوء الظنّ وعدم ترك مجال لاحتمال الصحّة في النفس. عندما يسمع الإنسان شيئًا، لا يحمله على محمل الصحّة أبدًا، ولا يترك له مجالاً للصحّة. «لقد قال هذا الكلام، فإذًا هو يقصد كذا وكذا». يا أخي، اذهب خطوتين واسأل، لن يضرّك شيء! اذهب واستفسر، واقبل بما يقوله هو. في أسوأ الأحوال، سيقول: لقد قلت ذلك وأخطأت، أو سيقول: لا، لقد قلت هذا وكانت نيّتي كذا، وهو صحيح. حينها، اتّخذ أنت القرار الذي تراه مناسبًا، إمّا أن تتجاوز وتعفو، أو أن تتّخذ القرار المناسب بناءً على تشخيصك ومصلحتك. أمّا أن يصلني كلام، وأنا لم أرَ ذلك المتكلّم، ثمّ أبني على كلام الناقل الذي قد يكون هو نفسه قد أخطأ في النقل وأرتّب عليه الآثار، وأستنتج النتائج، وأقوم بردّة فعل خارجيّة، فهنا الله وحده يعلم ماذا سيحدث.

  • كلّ العداوات التي تحدث في العالم سببها هو هذه القضيّة. وكلّ جرائم القتل التي تحدث مبنيّة على هذه القضيّة. كلّ العداوات بين الأفراد والأشخاص مبنيّة على هذه المسألة. حقًا، لو أنّ مجتمعًا ما، بشكل عام، قرّر من الغد أن يضع مسألة احتمال الصحّة نصب عينيه، والجميع لا البعض دون البعض، وإلا فسيخسر من يطبّقه وحده لرأينا كيف ستصبح العلاقات، وحول أيّ محور ستدور الأحاديث.

  • داء فرض الفهم الشخصيّ على الواقع

  • كلّ هذا بسبب ماذا؟ بسبب أنّ الإنسان يفرض على الآخر ما يدركه هو بعقله الناقص، وتجربته الناقصة، وسعة صدره الناقصة، وفهمه الناقص. فيقول له: «أنت هكذا». بعبارة أخرى، يريد أن يطبّق «مقام الإثبات» (عالم الفهم) على «مقام الثبوت» (عالم الواقع). يريد أن يقول: «ما فهمته أنا هو الواقع بعينه، لم يتغيّر». فنقول له: «يا عزيزي، لعلّك أخطأت في مقام الإثبات، لعلّك أخطأت في ترتيب المقدّمات، لعلّ رأي هذا الرجل في القضيّة لم يكن هكذا». 

السلوك الحقيقيّ - أهميّة حسن الظنّ

5
  • فيقول: لا، هل يعقل أن يكون كذلك؟! 

  • ـ نعم، لماذا لا يعقل؟ قد يخطئ شخص رغم كبر سنّه وعلمه. 

  • فنأتي نحن ونقول: لا، لقد فعل هذا عن عمد؛ فهل يعقل أن شخصًا بهذه التجربة لم يلتفت؟ 

  • ـ نعم، قد لا يلتفت أحيانًا. 

  • فنحن نحمل الأمر على العمد، وحينها نقوم برد فعل، ورد الفعل هذا يثير سلسلة واسعة من الجدال، وينتقل من هنا إلى هناك، ثمّ يبدأ القصف المتبادل! وفي حين أنّ أصل القضيّة لو قيل من البداية: «لقد أخطأ فلان»، لانتهى كلّ شيء. يبدأون بالاشتباك والتصادم وما إلى ذلك، فيذهب شعب كامل أو شعبان في مهبّ الريح! كل هذا بسبب ماذا؟ بسبب خطأ واحد. وقد وضعنا هذا الخطأ موضع العمد. هذا كلّ شيء، انتهى الأمر. هل انتبهتم؟

  • الكلّ هكذا، والأمر نابع من نقصنا، المسألة ناتجة عن نقصنا وأننا لا نضع الأمر في محلّه الصحيح تماماً، وننسب إلى الآخرين ما فهمناه نحن فنقول: «أقسم بالله ورسوله، لم أفكّر عنك هكذا!». 

  • ـ لا، لقد فكّرت!.

  • ما هو العلاج النبويّ لسوء الظنّ؟

  • بعد ذلك، ندمّر حياتنا، وندمّر عمرنا، وندمّر علاقاتنا مع الناس، ونجعلهم أعداء لنا. كلّ ذلك بسبب هذه الفكرة الخاطئة. وهنا يأتي توجيه الإسلام لنجدة الإنسان. هناك رواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال إنّ المؤمن إذا حمل عمل رفيقه على الصحّة سبعين مرّة، ولم يفعل ذلك في المرّة الحادية والسبعين، فإن في إيمانه خللاً ونقصًا.۱ نحن لا نقول سبعين محملاً، بل محملين فقط! حملنا الفعل على محمل الصحّة في المرة الأولى، فرأينا أنّ الأمر لا يستقيم. فلنصعد درجة أخرى، ولنضع احتمالاً آخر. لو أنّ ابننا هو من فعل هذا الفعل، ألم نكن لنحمله على محمل الصحّة؟ لو أنّ أخانا فعله، لكنّا فعلنا، أليس كذلك؟ فالنفس تجيد ذلك، تجيد حمل الفعل على محمل الصحّة. كيف أنّنا إذا وقع الأمر من أخينا، نبرّره جيّدًا: لم يستطع، حدث كذا وكذا، كان يريد أن يفعل كذا. أمّا إذا حدث الأمر من آخر، وقلنا له: «والله كانت قدمي مكسورة ولذلك لم آتِ». فيقول: «لا، ما هذا الكلام، أنت تكذب، أنت لم ترد أن تأتي أصلاً». هذه هي المشكلة، هذا هو المرض. يقولون عن فلان إنّه «بطيء التصديق»، وكم هو جيّد بطء التصديق! معناه أنّه لا يقبل كلّ ما يسمعه فورًا، وهذا صحيح. أمّا البعض فهم سريعو التصديق، يقبلون أيّ شيء من أيّ أحد، كأنّهم مجرّد جهاز تسجيل. لا يفكّرون في صحّة القضيّة أو فسادها. يا أخي، فكّر لخمس دقائق، تأمّل، لعلّ فكرته كانت خاطئة، لعلّه فهم الأمر بشكل مغلوط. بكلمة «عذرًا»، ينتهي كلّ شيء.

    1.  أمالي الصدوق: ٢٥۰ / ۸: الإمام علي (عليه السلام): «ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا »
       شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج۱٩ ص ٢۷۷ وج ٩ ص ۷٢: 
      - عنه (عليه السلام): «لا تظنن بكلمة خرجت من أحد سوءا وأنت تجد لها في الخير محتملا.» 
      - عنه (عليه السلام): «من عرف من أخيه وثيقة دين وسداد طريق فلا يسمعن فيه أقاويل الرجال، أما أنه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام.» 
      البحار: ۷٥ / ۱٩۷ / ۱٥: - رسول الله (صلى الله عليه وآله): «اطلب لأخيك عذرا، فإن لم تجد له عذرا فالتمس له عذرًا.»
      وفي بحار الأنوار ج۷٢ ۱٩٦ عن مصباح الشريعة: قال أبي بن كعب :إذا رأيتم أحد إخوانكم في خصلة تستنكرونها منه، فتأولوا لها سبعين تأويلا، فإن اطمأنت قلوبكم على أحدها وإلا فلوموا أنفسكم حيث لم تعذروه في خصلة سترها عليه سبعين تأويلا، وأنتم أولى بالإنكار على أنفسكم منه 

السلوك الحقيقيّ - أهميّة حسن الظنّ

6
  • أهمّ أصل سلوكيّ: ترويض النفس على حُسن الظنّ

  • هذه من أهمّ المسائل السلوكيّة ومسائل تقدّم النفس وتكاملها في مراتب السير والسلوك. فأن يمتلك الإنسان نفَسًا طويلاً هو أمر صعب ولكنّه ممكن، ويختلف باختلاف الناس، فيعوّدها على حُسن الظنّ، فإذا عوّدها في قضيّة، سيزداد توفيقه في القضيّة الثانية، حتّى يصل إلى مرحلة يطبّق فيها حالة حُسن الظنّ والنظر على جميع الأفراد. يطبّقها على جاره، وعلى شريكه في المتجر. يضع حُسن النظر أساسًا حتّى يثبت له العكس قطعًا، وحينها يتّخذ القرار المناسب.

  • نصيحة للحياة الزوجية: ثلثان تغافل وثلث عفو

  • لذلك، ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في مسائل الأسرة أنّ ثلثي الحياة الأسريّة هو غضّ البصر۱، أن لا ترى أصلاً. فلو أنّ الزوجة فعلت شيئًا والزوج علم به، فعليه أن لا يراه أصلاً. ولو أنّ الزوج فعل شيئًا والزوجة علمت به، فعليها ألّا تراه أصلاً. والثلث الباقي هو الإغماض والعفو. أي دع ثلثين على عدم الرؤية، والثلث الذي لا مفرّ منه، فضعه على العفو. وهكذا تنتهي المشكلة. لكنّنا لا نفعل! بل نسأل عن هذا وذاك، وننسب للشخص ما لم يفعله! فالنبيّ يقول لك لو فعل، فقل إنّه لم يفعل، ونحن ننسب له ما لم يفعله ونقول: «أنت فعلت، ونيّتك كذا وكذا». من الواضح أنّ هذه الحياة لن تدوم، وهذه الشراكة لن تدوم، وهذه الصداقة لن تدوم.

  • كيف نروّض أنفسنا على حُسن الظنّ حتّى مع الخصوم؟

  • إذًا، أوّل وأهمّ أمر في السير والطريق هو أن يعوّد الإنسان نفسه ـ ولنبدأ بأنفسنا ولا ننتظر الآخرين ـ على أن تكون مسألة حُسن الظنّ هي الأساس. أذكر أنّه في مجلس ما قبل سنوات، حدثت قضيّة، وكان المسؤولون عن الأمر لا يتّفقون معنا كثيرًا. فجاءني أحدهم وأنا في قمّ وقال: «لقد شاركنا في هذا المجلس وحدث كذا وقيل كذا». 

  • فقلت له فورًا: لعلّ للكلام تبريرًا، قد يكون قصده كذا وكذا. فكّر قليلاً وقال: ليس تبريرًا سيّئًا، ولكن هل كان هذا هو قصده حقًا؟! 

  • قلت له: قل إنّه كان كذلك. ألأنّه خصم لنا نقول إنّ قصده سيّئ بالضرورة؟ لا، لا بأس. فما دمنا نستطيع أن نحمل حتّى فعل المخالف على محمل الصحّة، فلماذا لا نفعل؟ هل حُسن الظنّ هو للأصدقاء فقط؟ إن كان العمل قابلاً للتبرير، فبسم الله. لو كان تبريرك صحيحًا، فأنت لم تخطئ، وإن لم يكن صحيحًا، فلم ينقص منك شيء، وهو أدرى بحسابه. أمّا إن كان الأمر غير قابل للتبرير ويقينيًّا، فهنا يجب على الإنسان أن يعمل بتكليفه. ولكن عندما يكون الأمر قابلاً للتبرير، فلنبرّره. فأقلّ ما في هذه المسألة هو أنّ نفس الإنسان قد تقدّمت خطوة إلى الأمام، وارتقت درجة عن مرتبة البهيميّة والدناءة والتنزّل. لقد أوجد هذه الحالة في قلبه تجاه مخالفه. فلو حملت فعل صديقك على محمل الصحّة، فأنت لم تفعل شيئًا مهمًّا، لأنّ المحبّة هي التي تبرّر. «حبّك للشيء يعمي ويصمّ»٢. فعندما تحبّ أحدًا، لا تعود ترى عيوبه. فأقلّ ما في الأمر هو أنّنا قدّمنا النفس خطوة من عالم الأنانيّة ومحوريّة الذات نحو عالم التوحيد والوحدة.

    1. مستدرك الوسائل، ج ٩ ص ٣۸ ح ۱۰۱٣٩: عن الإمام الباقر عليه السلام في وصيَّته: «واعلم، يا بنيّ، أنَّ صلاح شأن الدنيا بحذافيرها في كلمتين: إصلاح شأن المعاش ملء مكيال ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل»
      بحار الأنوار، ج۷٥، ص ٢٤۱. عن الإمام الصادق عليه السلام: «صلاح حال التعايش والتعاشر ملء مكيال، ثلثاه فطنة، وثلثه تغافل»
      نهج البلاغة، الكلمات القصار، الرقم ٢٢٢: عن أمير المؤمنين عليه‌ السلام «مِنْ اشْرَفِ اعمالِ الْكَريمِ غَفْلَتُهُ عَمَّا يَعْلَمُ».
      غرر الحكم، ح ٩۱٤٩: عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أنّه قال : «مَنْ لَمْ يَتَغَافَلْ وَلَا يَغُضَّ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الاموُرِ تَنَغَّصَتْ عِيْشَتُهُ».
      بحار الأنوار، ج ۷٥، ص ٦٤: عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أيضاً حيث يقول «وَعَظِّموُا اقْدَارَكُمْ بِالتَّغَافُلِ عَنِ الدَّنِّيِ مِنَ الامُورِ ... وَلَا تَكوُنوا بَحَّاثِينَ عَمَّا غَابَ عَنْكُمْ، فَيَكْثُرُ عَائِبُكُمْ ... وَتَكَرَّموُا بِالتّعَامِي عَنِ الاسْتِقْصَاءِ»
      غرر الحكم ٢٣۷۸: الإمام علي (عليه السلام): «إن العاقل نصفه احتمال، ونصفه تغافل».
    2. عوالي اللآلي: ۱ / ٢٩۰ / ۱٤٩.

السلوك الحقيقيّ - أهميّة حسن الظنّ

7
  • ما هو السير والسلوك الحقيقيّ؟ 

  • كيف يربّي الله النفس؟ هل تستيقظ صباحًا فتجدها قد ترقّت؟ لا، بل يبتليك بهذه القضايا اليوميّة، يأتيك بكلام من فلان، وردّ فعلك إمّا أن يكون انحدارًا أو ارتفاعًا وصعودًا. فليست المسألة أنّنا نستيقظ كلّ يوم وقد صعدنا درجتين! إنّها هذه المسائل اليوميّة، في المنزل وخارجه، مع الصديق والشريك، هي التي تشكّل السلوك. طريقة تعامل الإنسان مع هذه القضايا هي ما يسمّى «السلوك». السلوك هو أن تصحّح علاقاتك مع الظواهر والأحداث الخارجيّة بشكل منطقيّ.

  • منّي لكم: السلوك ليس ذكرًا، ولا صلاة ليل، ولا وردًا، ولا قرآنًا، ولا ادعاءً، ولا ذهابًا إلى المسجد أو الحسينيّة. ليس أيًّا من هذا. السلوك هو ما قلته: التصحيح المنطقيّ لعلاقات الإنسان مع الظواهر التي تحدث خارج وجوده. تلك الأمور التي ذكرتها تشكّل عشرة بالمائة أو خمسة بالمائة من القضيّة. فلو صلّيت الليل مائة عام، ثمّ صفعت أحدهم ظلمًا، لذهب كلّ ثواب صلاتك هباءً. ولو صمت مائة عام وقلت «لا إله إلا الله» مائة عام، ثمّ أسأت الظنّ بمؤمن، لضاع كلّ ذلك. عدم احترام الكبير يضيع كلّ شيء، وأكل الحقّ يضيع كلّ شيء. لكنّنا لا نهتمّ إلا بهذا الجانب. نفعل ما يحلو لنا. كانوا يفعلون ما يحلو لهم، يغشّون في المعاملة، ويتحدّثون عن الناس بما يريدون، ثمّ في الليل يقولون: «يا الله، يا الله»، ويقرؤون دعاء الجوشن في ليالي رمضان! الدعاء لا يكلّف شيئًا، يمكنك أن تشغّل مسجّلاً فيقرأ لك الدعاء لساعة كاملة. ثمّ نطمئنّ!

  • قصّة الشركاء الذين كادوا يقتتلون على خطّ هاتف

  • لقد كنت شاهدًا بنفسي في طفولتي مع والدي المرحوم العلامة على أناس كانوا يعقدون الجلسات في الليل، يقرؤون شعر حافظ ودعاء الجوشن، ويهتفون معًا: «سبحانك يا لا إله إلا أنت، الغوث الغوث...»، ويقرؤون المراثي ويقيمون الموائد. وهؤلاء أنفسهم كادوا يقتتلون على خطّ هاتف، أيّ دكّان يأخذه! لقد رأينا هذا بأعيننا. لماذا؟ لأنّهم ظنّوا أنّ السلوك هو قراءة شعر حافظ فقط، وهو أن تقول «الغوث الغوث» ثمّ تشتري الجنّة وتذهب.

  • النصارى يفعلون شيئًا كهذا، يفعلون ما يحلو لهم طوال الأسبوع، ثمّ يذهبون يوم الأحد إلى غرفة الاعتراف. في سفري هذا الصيف، ذهبت إلى كنيسة عجيبة. قلت لأحد الرفاق مازحًا: «اذهب إلى تلك الغرفة وتب من أعمالك هذا الأسبوع حتّى تتطهّر!». وكان يوم أحد بالفعل، والمراسم كانت رائعة، لم نستطع الاقتراب، فكنّا نطّهّر ذنوبنا من الخلف! هناك صندوق يجلس فيه القسّ، وكرسي آخر للمعترف، ومن نافذة صغيرة يسمع صوته، ويمرّر له بعض المال، حسب حجم زلّاته في ذلك الأسبوع فإن كانت كثيرة أخذ منه الكثير من الدولارات، وإن كانت قليلة اكتفى ببعض سانتات، وأحيانًا القسّ نفسه يساعد فتمحى الذنوب بسرعة! للأسف، نحن المسلمين ليس لدينا هذا، لا نعرف كيف نطّهّر ذنوبنا بهذه الطريقة (مزاح)!!

السلوك الحقيقيّ - أهميّة حسن الظنّ

8
  • فهذا الأمر مفيد جدًّا لحالة النفس، وهو ألاّ يثبّت الإنسان على شخص ما أوّل ما يخطر بباله. لذلك ورد في الرواية أنّه إذا عُرضت عليك قضيّة، فلا تحكم فيها فورًا، بل فكّر لبعض الوقت. لأنّ ما يُنقل في البداية يكوّن لدينا انطباعًا أوليًّا، ولكن عندما يمرّ بعض الوقت، نجد أنّ تلك الشدّة والحدّة الأولى قد خفّت، ويمكن الجمع بين الأقوال.

  • قصّة الزوجين الغاضبين: حكمة التأجيل

  • نقل أحد الرفاق أنّه حدث خلاف بينه وبين زوجته، فثار غضبهما وقرّرا الذهاب إلى المرحوم العلاّمة ليفصل بينهما وينهي الأمر. قال: فانطلقنا وكلّ منهما محمّل بكافّة الأسلحة والصواريخ، جاهزَين لإطلاق النار بمجرّد أن يصلا إليه. جلسنا، وما إن دخل المرحوم العلاّمة ونظر إلينا حتّى قال: "أنا لن أتحدّث اليوم، فاذهبا وعودا غدًا". لا شيء آخر! قال: قمنا ورجعنا خائبين، وفي تلك الليلة نفسها حُلّت القضيّة، ولم تصل إلى الغد. وعندما جاءا في اليوم التالي، قال لهما العلاّمة: ما إن نظرت إليكما حتّى رأيت أنّكما في حالة لا تقبلان فيها الكلام. نفساكما كانت في حالة هجوم لا في حالة قبول واستفهام. فلو قلت إنّ الحقّ معها، لقلت أنت: كيف تقول هذا وهي فعلت كذا وكذا! ولو قلت إنّ الحقّ معك، لقالت هي: كيف تقول هذا وهو فعل كذا وكذا! فرأيت أن لا فائدة من الكلام والنصيحة، فقلت لكما: اذهبا. هذه الكلمة نفسها درس. لماذا قال اذهبا؟ ليعود كلّ منهما إلى نفسه. فعندما يذهبان ويجلس كلّ واحد في غرفته، يبدأ بمراجعة نفسه، صحيح أنّها فعلت ذلك، ولكن ما كان ينبغي لي أن أفعل كذا. وهكذا بعد ساعة أو ساعتين، تُحلّ المشكلة. وعندما يأتون في اليوم التالي، تكون النفس قابلة للنصيحة، وحينها يمكن للمرحوم العلاّمة أن ينصحهما. هذه مسألة مهمّة جدًّا في الحياة، ألّا نأتي في الوهلة الأولى ونستنتج النتائج. بل علينا أن نصبر ونتأنّى، والله يساعد.

  • من هم "الأرباب المتفرّقون" في حياتنا؟

  • الآن، يقول الإمام السجاد: «يا إلهي، أنا على يقين أنّك تعلم ما في داخلي» لا يمكننا أن نشكّ في الله. هل يمكن أن يجهل الله ما في داخلنا؟ إنّه يقول في القرآن: ﴿عٰلِمُ ٱلغَيبِ فَلَا يُظهِرُ عَلَىٰ غَيبِهِۦ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ٱرتَضَىٰ مِن رَّسُول﴾۱. فالرسول هو الذي أمامه ومن خلفه الرصد. والرصد يعني المكان الذي هو محل الاطلاع، إنه "موقع" ألم تروا مكاناً ينشئون فيه "موقعاً" للمراقبة والرؤية؟! فالرصد هو محل "الرؤية". يعني أن الرسول عندما يقوم بحركة، فإنه يتحرك مصحوباً بـ "الرصد" و "الرؤية".

    1. سورةالجن (۷٢) الآيات ٢٦-٢۷.

السلوك الحقيقيّ - أهميّة حسن الظنّ

9
  • فإذا كان من المقرّر أن يطّلع أحد على ضميرنا ومكنونات خواطرنا، فمن هو؟ إنّه الله. والله يعلم ما في "جعبتنا". وإذا ما احتلنا فهو يعلم. فلنكن صادقين مع الله. إن كنّا قد احتلنا على أيّ إنسان حتّى الآن، بنسبة واحد بالمائة، أو اثنين بالمائة، أو ثلاثين بالمائة فلنكن صادقين عندما نتجه إلى الله، دعونا لا نُبقي شيئاً لأنفسنا، لنكن صريحين مع الله.

  • وعندما نقول: "اللهمّ أصلِحنا"، فلنقلها بصدق. "اللهمّ أصلِحنا"، لا أن نقول: "اللهمّ أصلِحنا، ولكن بالطريقة التي نريدها نحن، أن تخرج النتيجة هكذا". فهذا هو "الاحتيال على الله".

  • وعندما نقول: "إلهي، تعال حقاً وخُذ بيدنا"، فلا نأتي ونتحايل على الله. فيقول الله ماذا؟ "آخذ بيدك؟ اذهب وأنجز هذا العمل، بارك الله بك، ألا تريدني أن آخذ بيدك؟ فلماذا لا تنجز هذا العمل؟"

  • فنقول: "لا يا إلهي، تعال خذ بيدي، ولكنني أنا أيضاً لن أنجز هذا العمل".

  • ماذا يصبح هذا؟ هذا يصبح تحايلاً على الله. الله يعلم ما في جعبتنا. الله يعلم أننا لا نستطيع القبول. الله يعلم أننا نريد أن نتملّص من الأمر. الله يعلم كلّ هذا.

  • ولكن رغم ذلك فإنّ الإمام السجّاد عليه السلام هنا يعرّف عن نفسه فيقول: يا إلهي، أنت تعلم ما في قلبي، وأنّه لا ربّ لي غيرك. ليتنا كنّا كذلك، لكنّنا لسنا كذلك. في وجودنا أرباب كثيرون: أخونا ربّنا وسندنا، أبونا ربّنا، فلان وفلان سندنا. نخطّط بناءً على هذا: فإذا حدث كذا نفعل كذا، فلان يدعمنا. حسنًا، لو لم يكن هؤلاء موجودين، هل كنت ستتحدّث مع الله بهذه الطريقة؟ فكّر جيّدًا، فجأة قد يأتي الله ويضرب كلّ هذه العلاقات التي في أذهاننا ويجعلها هباءً منثورًا. أحد أولئك الذين كنّا نثق بهم، لم يلتفت إلينا أصلاً، حتّى أنّه لم يكلّف نفسه عناء الالتفات ليقول: «لا شأن لي بك». لقد جرّبنا هذا، جرّبته أنا شخصيًّا. كأنّه لم تكن هناك صداقة دامت خمسة عشر عامًا! لقد أرانا الله ذلك بوضوح.

  • الآية التي تكشف اعتمادنا على غير الله

  • قال الله: ﴿ءَأَربَاب مُّتَفَرِّقُونَ خَيرٌ أَمِ ٱللَهُ ٱلوٰحِدُ ٱلقَهَّارُ﴾۱. ليس المقصود هنا الأصنام فقط، بل الأرباب الذين صنعتهم في ذهنك، العلاقات التي جعلت من كلّ واحد منها إلهًا، وملأت ذهنك بهذه التوجّهات بدلاً من أن تخرج من منزلك صباحًا وأملك في الله وحده. فهؤلاء المساكين الذين تعتمد عليهم، هم أنفسهم معتمدون في أفعالهم على غيرهم، ولا استقلال لهم. غدًا، عندما يرون أنّ وجودك أصبح مضرًّا لهم، يتركونك جانبًا دون أدنى تأمّل.

    1. سورة يوسف (۱٢) الآية ٣٩.

السلوك الحقيقيّ - أهميّة حسن الظنّ

10
  • قصّة المرأة التي تخلّى عنها الجميع

  • كانت هناك حالة استُشرت فيها قبل سنوات. عندما فهمت المشكلة، نصحت تلك السيّدة وقلت لها: يا فلانة أنت تفعلين هذا على أمل كذا وكذا، وكلّ هذا خيال في ذهنك. هؤلاء يريدونك لأنفسهم، وإذا دار الأمر بين منفعتهم وبين ضرر يلحق بهم، سيتركونك جانبًا. فلم تقتنع بكلامي، حتّى وقع الطلاق. لم يمرّ شهران، حتّى إنّ تلك المرأة التي كانت تحرّضها هي نفسها لم تسمح لها بدخول منزلها. الآن هي تلطم رأسها، ولكن بعد فوات الأوان. نحن نجرّب هذا آلاف المرّات كلّ يوم، ولكنّنا لا نفهم أنّ هؤلاء جميعًا ﴿أرباب متفرّقون﴾. حياتهم مبنيّة على التفرقة والاختلاف، لأنّها دنيا. لذلك يقول الله: هل هؤلاء الأرباب المتفرقون خير، ﴿أم الله الواحد القهّار﴾ الذي لا تكثّر في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله؟

  • قصّة رحمة الله بالنمرود الطاغية

  • هناك رواية قرأتها منذ زمن طويل عن النمرود. عندما أراد الله أن يهلكه، قالت ملائكة القهر والغضب: يا ربّ، هذا هو الذي قام ضدّ نبيّك إبراهيم وفعل ما فعل من الظلم! فجاء الخطاب للملك: ألا تذكر عندما كان هذا رضيعًا في ملفّته، وكانت سفينته مع والديه في البحر، فجاءت عاصفة حطّمت السفينة، فأمرنا الريح أن تهدأ، وحملت اللوح الذي كان عليه إلى الشاطئ، ثمّ أمرنا حيوانًا أن يرضعه حتّى كبر، ثمّ أمرنا سفينة عابرة أن تلتقطه؟ هذا هو نفسه الذي نال لطفنا في ذلك الوقت. والآن هو يتمرّد علينا! وهو نفسه الذي عندما أراد أن يضرب إله إبراهيم في السماء، أمرنا ملكًا أن يضع سمكة أمام سهمه حتّى لا ينكسر قلبه ويرى دمًا! رحمة الله وعطفه لا تفرّق بين النمرود وغيره، نحن الذين ندمّر أنفسنا ونشتري الشقاء بأيدينا. بالنسبة للّه، فالنمرود وموسى وإبراهيم سواء، كلّهم عبيده.

  • ما الفرق بين وحدانية الله ووحدانية الأعداد؟

  • ولكنّ الإمام السجاد عليه السلام يقول: يا إلهي، أنت تعلم ما في قلبي، وأنا على يقين بمعرفتك بي، وأنّه لا ربّ لي غيرك، ولا إله إلا أنت، وحدك لا شريك لك. 

  • وهذه "الوحدة" التي أنت عليها ليست وحدة عددية بجانب سائر "الوحدات"، بل هي "الوحدة الحقّة". إنها وحدة "لا ثاني لها"، لا يوجد معها اثنان.

السلوك الحقيقيّ - أهميّة حسن الظنّ

11
  • فنحن كلّ واحد منّا هو "واحد" بالعدد. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، كل واحد منا هو "واحد"، "واحد". وهذه الاثنان، والثلاثة، والأربعة، والخمسة، والعشرة، كلها هي ذلك "الواحد" نفسه. وليس لدينا شيء اسمه "اثنان"، وليس لدينا شيء اسمه "عشرة". لا وجود لـ "عشرة"، ولا وجود لـ "خمسة". وكلّ ما له وجود في العالم هو "الواحد".

  • ولكنّكم تضعون هذا "الواحد" بجانب "واحد" آخر، فتطلقون عليهما اسماً جديداً لكي لا تكرّروا وتطلقوا اسماً واحداً على كليهما. فبدلاً من أن تقولوا: واحد، واحد، واحد، واحد، واحد، حسناً، ماذا تقولون؟ تقولون "خمسة" دفعة واحدة. والإنسان لا يستطيع أن يقول مائة مرة: واحد، واحد، واحد... حتّى يصل إلى المائة. هذا صعب وكذا الألف. ولذلك يأتي الإنسان بلفظ "مائة". يوجد هنا "مائة". فإذا سألوا: كم العدد هنا؟ لو لم يكن لفظ "مائة" موجودًا، لقلنا: واحد، واحد، واحد، واحد... حتى ننتهي من المائة.

  • ولكننا نقول "مئة" دفعة واحدة. فإذاً، هذه المائة والتسعون والخمسة والعشرة ليس لها وجود خارجي. الشيء الوحيد الذي له "وجود خارجي" هو "الواحد" فقط. ولكنه "واحد" يتكرّر. إنّه يتكرّر في "الأعيان الخارجيّة". 

  • فنحن الآن «واحد»، ولكن كلّ خليّة من خلايا أجسادنا هي «واحد». ومليون خلية تشكّل إصبعًا، وعشرة ملايين تشكّل يدًا. وكلّها «واحد» بجانب «واحد». 

  • أمّا الله فلا يمكن القول إنّه "واحد"، ولكن يوجد "واحد" آخر في قباله. وماذا يوجد في مقابل الله؟! هل الله موجود أم لا؟! حسناً، هو موجود. هل توجد ذات أخرى غير الله يمكنها أن تقف بجانب الله؟ لا، لا توجد.

  • فلو قلنا السماء والأرض، فالسماء والأرض هما أيضاً "أثر" للّه، وليستا شيئًا منفصلاً عنه. وكلّ ما تفترضونه في العالم، كلّه "أثر" من آثاره. فإذاً، لا يوجد "ثانٍ" للّه.

  • الآن، ما هي يدي؟ هذه يدي "من حيث المجموع" هي "واحدة"، هل الأمر غير ذلك؟ ولكن كم عدد أصابعي؟ خمسة. هذا الإصبع، بالنسبة لهذا الإصبع، هو "ضد" لهذا و "نِدّ" له. هذا ضده ومثيله. ولكن هل يمكن لهذا الإصبع أن يقول: "أنا، في مقابل هذه اليد، 'واحد' قائم بذاتي"؟! لماذا لا يمكن؟ لأنّ هذا الإصبع هو "جزء" من هذه اليد. هذه "القبضة" أو اليد هي "واحدة" ووحدة واحدة، ولكن "أجزاء" هذه القبضة قابلة للعدّ وللمقارنة بالنسبة للأجزاء الأخرى. ولكن هذا "الجزء" نفسه (الإصبع) بالنسبة لـ مجموع القبضة، لم يعد قابلاً للعدّ كشيء ثانٍ، لأنه هو نفسه "يُشكّل" هذه القبضة. فهل اتّضحت الفكرة؟

السلوك الحقيقيّ - أهميّة حسن الظنّ

12
  • الآن، هل أدركتم الفرق بين"الوحدة الحقّة" التي هي الوحدة "الأحديّة"، وبين "الواحدية" التي هي وحدة "العدد"، العدد الساري في "الأعيان" و "الأعيان الخارجية"؟

  • فنحن كلّ واحد منّا جميعاً هو "واحد" عددي، بمعنى أن "الآخر" هو أيضاً مثلنا. لذلك، الله يقول: عندما تذهب إلى الآخرين، فهم مثلك تماماً. أنت "واحد"، وهم أيضاً "واحد". ذاك أيضاً "واحد"، كلّ منكم هو "واحد". كلكم لديكم نفس الخصائص.

  • اذهبوا نحو "واحد" ليس له "ثانٍ". اذهبوا نحو "واحد" لا يمكن لذات أخرى أن تستعرض نفسها في قباله. اذهبوا نحو "واحد" يمتلك "الغنى" في وحدته، لديه "غنى ذاتي". اذهبوا إليه.

  • الإمام السجاد (عليه السلام) يقول: هذه المعرفة موجود في وجودي.

  • حسناً الآن، إن شاء الله، الفقرة التالية: "اللَّهُمَّ أَنْتَ الْقَائِلُ وَ قَوْلُكَ حَقٌّ..." إذا وفّق الله، إن شاء الله، لليلة الغد.

  •  

  • اللَهُمَّ صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ