1

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟

تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

19
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1422

التاريخ 1422/09/01

جلسات المجموعة(8 جلسة)

التوضيح

لمَ اعترض نبيّ الله موسى عليه السلام على أفعال الخضر، ولكنّه لم يعترض على الموت الطبيعي الذي يراه كل يوم؟ ما الفرق الجوهري بين رؤية النبي ورؤية العارف الكامل؟ ولماذا يُعدّ البلاء والصبر على الشدائد شرطًا أساسيًّا في السلوك إلى الله؟ وكيف يُمثّل صبر أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلَّى الله عليه وآله قمّة التوحيد العملي والتسليم المُطلق؟ تجيبك هذه المحاضرة العرفانية القيّمة التي ألقاها آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني عن هذه الأسئلة العميقة، كاشفةً عن حقيقة النظرة التوحيديّة لمجريات الأحداث.

/۱۲
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟ - تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

1
  •  

  • هوالعليم

  •  

  • كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟

  • تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام 

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٢ هـ - الجلسة الأولى

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟ - تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم‌ 

  • بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحیم‌ 

  • وصلَّی اللهُ عَلَی سیدنا ونبینا أبی‌القاسم محمدٍ 

  • صلَّى الله عليه وآله وعلی آلهِ الطّیبینَ الطّاهرینَ 

  • واللعنةُ عَلَی أعدائِهم أجمَعینَ‌

  •  

  •  

  • مفاتيح الدعاء: كيف نرى الله في الشدائد؟

  • لأنّ الفقرات تنتهي عند قوله: «أَبْوابَ الدُّعآءِ إِلَیک لِلصّارِخِینَ مَفْتُوحةً»، فكأنِّي أقول: يا إلهي، أنا أعلم أنّك للذين يأملون ويرجون «بِمَوْضِعِ إِجابَةٍ»، أي في مقام الإجابة. «وَلِلْمَلُهوفِینَ بِمَرْصَدِ إِغاثَة»؛ وللذين وقع عليهم الظلم ويتحسّرون على نيل حقوقهم ـ فاللهف يعني الحسرة والتأسّف والظلم، ومن يقع عليه الظلم يُقال له ملهوف ـ أنت في مقام نجدتهم. «وَأَنَّ فِی اللهفِ إِلی جُودِک»، أي وأعلم يقينًا أنّ في التوجّه والشوق لجودك، والرضا بقضائك...، فأنا راضٍ بما تحكم به وتقدّره لعبادك. الذين يرضون بما تقدّره لهم ولا يعترضون، فلا يقولون: لمَ لم تجعلني مكان فلان يا إلهي؟ لمَ وضعتَ فلانًا مكاني أو لم تضعه؟ لمَ يجب أن أُبتلى أنا وحدي بهذه المسألة؟ لمَ ذاك؟ ولمَ هذا؟ لا، فالذين يرضون بقضائك، فإن هذا اللهف إلى جودك والرضا بقضائك «عِوَضًا مِنْ مَنْعِ الْباخِلِینَ»، أي يمكن أن يكون بديلاً عن منع الباخلين. «وَمَنْدُوحَةً عَمّا فِی أَیدِی الْمُسْتَأْثِرِینَ»، أي وفيه غنى وسعة عن الذي في أيدي من يطلبون الأشياء لأنفسهم.

  • إنّ كلّ هذه الفقرات والمعاني تصبّ في اتجاه واحد. فأنا أعلم أنّ أمل الذين يأملون فيك ليس في غير محلّه؛ وأعلم أنّ الذين وقع عليهم الظلم، هناك من يجبر ظلمهم ويخرجهم من تحت وطأته ويكون لهم مأوى. «وَ أَنَّ فِي اللهفِ إِلی جُودِک»، أي إنّ في التوجّه إلى جودك والرضا بقضائك بديلاً مناسبًا عن منع الباخلين وغنىً عما في أيدي المستأثرين، الذين يطلبون لأنفسهم ويجمعون لها. يقول الإمام السجاد عليه السلام أنا أعلم، وقد وصلت إلى هذا العلم. والإمام لا يخطئ، ولا يقول خلاف الواقع حاشا للّه. «وَ أَعْلَمُ» أي أنا أعلم، لقد بلغت هذه الدرجة من العلم بأنّ الذين يأملون فيك، والذين وقع عليهم الظلم ويتحسّرون للوصول إليك وإلى نعمك، أنت في المقام المناسب لإغاثتهم. وكلّ من يرضى بقضائك ويتوجّه إلى جودك وإحسانك، فإنّ له «عِوَضًا مِنْ مَنْعِ الْباخِلِینَ»، أي هو في غنى عن منع الباخلين الذين يبخلون. «وَمَنْدُوحَةً عَمّا فِی أَیدِی الْمُسْتَأْثِرِینَ»، أي وفي سعة وغنى عمّا في أيدي الذين يطلبون لأنفسهم ويجمعون لها.

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟ - تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

3
  • حسنًا، هذه كانت الترجمة الحرفيّة لهذه الفقرات. ولكن، لمَ يكون الله تعالى في موضع الإجابة؟ ولماذا يكون في مقام نجدة الذين وقع عليهم الظلم ويتحسّرون على بلوغ حقّهم؟ ولماذا يمكن للرضا بقضاء الله أن يكون عوضًا عن منع الباخلين والمستأثرين بما في أيديهم؟ ما هو سبب ذلك؟

  • لماذا نخطئ في فهم مجريات حياتنا؟

  • إنّ سبب هذه المسألة يمكن أن يعود إلى علل وعوامل متعدّدة، والاطلاع على هذه العلل يصحّح رؤية الإنسان في علاقته بربّه ويربطه بذلك المبدأ، ويمكن أن يخرجه من هذه الكثرات والتعلقات، ويوصل نفسه إلى مرتبة الطمأنينة والسكينة.

  • النقطة المهمّة ومحور الحديث في كلام الإمام السجّاد عليه السلام تكمن في كيفيّة رؤية الإنسان لسلسلة العلل والأسباب. فكلّ المشاكل التي نواجهها في هذه الدنيا تعود إلى أننا أخطأنا في فهم سلسلة العلل والأسباب؛ فنحن نفترضها على نحو خاطئ، فنضع العلّة مكان المعلول، والسبب مكان المسبِّب، والمؤثِّر مكان المتأثِّر. وهذه أعيننا المريضة والناعسة ـ هل رأيتم العين الناعسة؟ ـ حين يستيقظ المرء من نومه لا يستطيع أن يرى ما أمامه جيّدًا. فيذهب فجأة فيصطدم رأسه بالباب؛ لأنه لم يره وظنه مفتوحًا، فهو لا يزال ناعسًا. فيُقال له: «يا هذا، افرك عينيك قليلًا، لقد استيقظت للتوّ، اغسل وجهك بالماء لترى جيدًا!». لماذا يحدث هذا؟ لأنّ العين كانت في ظلام دامس لساعات، فخلايا الشبكيّة لم تكن مستعدّة بعد لاستقبال النور، فتواجه صعوبة في التقاط الصورة؛ فكما تعلمون، لدينا نوعان من الخلايا في الشبكيّة: الخلايا العصوية والخلايا المخروطيّة، وعملهما يختلف؛ ففي النهار تعمل المخروطيّة وفي الليل تعمل العصوية التي تكون قاعدة سطحها أكبر لتتمكن من عكس المزيد من الضوء. وعندما تكون العين مغمضة لفترة طويلة ثمّ نفتحها، تكون حالتها الأوليّة غير طبيعيّة بعض الشيء. وفي الرواية ورد ما معناه: «مَنْ أَحَبَّ کرِیمَتَيهُ فَلَا يَكْتُبْ أَوْ لَا يَقْرَأْ بَعْدَ الْعَصْرِ»۱، أي من يحب عينيه، فلا ينبغي له أن يقرأ عند الغروب، أي بعد العصر وقبيل الغروب. وذلك لأن أجهزة خدمة العين تريد أن تتبادل أدوارها وقت الغروب؛ فالمسؤولون عن انعكاس الضوء وإرساله إلى سلسلة عصب الدماغ يريدون أن يسلموا مهامهم لعمال نوبة الليل، وفي أثناء هذا التسليم والتسلم تحدث بعض المشاكل. لذا، يخطئ الإنسان أحيانًا في الرؤية عند الغروب، ولا ينبغي له أن يطالع في ذلك الوقت، خاصة الطلاب الذين لا يريدون تضييع فرصة المطالعة والاستفادة منها، ولكن ذلك مضرّ.

    1.  مطلع انوار، ج ١، ص ٢٩٣: رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم: «من أحب كريمتاه* لم يكتب بعد العصر».
      *كذا وردت ولعلّ الوجه في كونها بالرفع أنّ كلمة كريمتاه صارت اسم علم للعينين كما يقال في الأجدّان والجديدان أنّهما علم على الليل والنهار فلا تتغيّر حالتهما الإعرابيّة.
      هذا وقد وردت في مصادر أخرى بالجرّ وقال العجلوني في كشف الخفاء ج٢ ص ٢٢٩: «من أكرم حبيبتيه فلا يكتب بعد العصر». قال في المقاصد لم يثبت في المرفوع ولكن أوصى الإمام أحمد بعض أصحابه أن لا ينظر بعد العصر في كتاب - أخرجه الخطيب وغيره وقال الشافعي فيما أخرجه البيهقي في مناقبه: الوراق إنما يأكل من دية عينيه. وتقدم بلفظ: «من أحب كريمتيه» - الحديث. (م) 

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟ - تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

4
  • الذين في أعينهم "رَمَد" ـ والرمد يعني المرض والنعاس والانزعاج ـ يقول الشيخ محمود الشبستري رحمه الله في أشعاره الرائعة حقًا: 

  • «رمد دارد دو چشم اهل ظاهر***که از ظاهر نبیند جز مظاهر» 
  • يقول: 

  • في أعين أهل الظاهر رَمَدٌ *** فلا يرون من الظاهر إلا المظاهر

  • إنها مريضة، ناعسة، ترى الأشياء على غير حقيقتها، ترى الصورة مشوّهة. إنّ أهل الظاهر مرضى لأنّهم لا يرون من الظاهر إلا المظاهر، أي لا يرون سوى هذه الصور. يرون الشاشة التي تُعرض عليها الصور تباعًا، لكنّهم لا يعرفون أنّ من يمسك بمقبض جهاز العرض يجلس خلف الستار. هم فقط يرون الصور، وذاك يفتح المقبض فتظهر الصور، فيرون هذه الصور تأتي وتذهب وتلعب مع بعضها وتقفز إلى أعلى وأسفل، فيقولون: «عجبًا!». ولكن لو أغلق ذاك المقبض فجأة، فماذا سيحدث للشاشة كلّها؟ ستُظلم، ولن يرى شيئًا؛ فهو لا يرى من الظاهر إلا المظاهر.

  • قصّة تربوية عن لوم الآخرين

  • نحن في سلسلة العلل والأسباب دائمًا ما نقع في الخطأ، ونعاني من الاضطراب والضعف. نريد دائمًا أن ننسب الأمور إلى هذا وذاك؛ فنريد أن ندفع العيوب عن أنفسنا وننسب المحاسن إليها. أذكر عندما كنّا ندرس في قم أنا وأخي الأكبر، في فترة العزوبية، وكنّا نسكن في حجرة من حجرات الطلاب في الحوزة، كانت تحدث أحيانًا بعض الاختلافات في وجهات النظر، وكان يصدر منّي بعض التقصير، فيُنسب الأمر إليّ، وهكذا كانت تجري الأمور. كان المرحوم العلامة يتشرّف بزيارتنا في قم أحيانًا ويلقي نظرة على حجرتنا، فكنّا نذهب إليه ونشتكي من وضع الحجرة، وكان أخي بدوره يلقي باللوم عليّ ويقول: «المشكلة منه، هو الذي يقصّر ولا يقوم بواجبه». وكان المرحوم العلامة يضحك. وفي مرّة من المرّات، أتى فبدأنا كعادتنا بالشكوى، فقاطعنا فجأة وقال: «أريد أن أقول لكم شيئًا هذه المرّة؛ إذا أتيت في المرّة القادمة ووجدت نقصًا، فقلت أنت: ’اللوم عليّ أنا‘، وقال هو: ’اللوم عليّ أنا‘، فعندها يكون أمركما قد استقام. اذهبا الآن واعملا على الوصول إلى هذه المرحلة، حينها فقط يمكن أن يُعتمد عليكما».

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟ - تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

5
  • رؤية السالك كبصيرة الطفل

  • بشكل عام، إنّ النقص والعيب الموجود في نفس الإنسان يجعل توجّهنا وطلبنا دائمًا منصبًّا على المعلولات عند تحقّق الأحداث؛ وذلك لأنّنا نتعامل مع المعلولات والمسبَّبات أكثر. فالنفس الإنسانيّة التي تتعلّق بهذا الجسد في هذه الدنيا لا تزال بحاجة إلى قطع طريق طويل للوصول إلى عالم التجرّد، تمامًا كالطفل الذي لا يملك القدرة على تحليل الأحداث ويرى الأمور من منظوره الناقص والخام والمحدود، ولا يستطيع تحليل القضايا أبعد من ذلك. ولكن عندما يكبر ويفكّر في تلك القضايا، يستطيع أن يصل إلى التحليل الصحيح للمسائل الماضية التي حدثت في طفولته. لماذا؟ لأنّ فكره نضج. في السابق كان يسمي الكهرباء "غولًا"، فعندما تصعقه الكهرباء كان يقول: «هناك غول في الداخل، في هذا الجدار». ولكن عندما يكبر، يدرك أن الجدار ليس إلا طينًا وآجرًّا، وأنّه لا وجود لغول، بل هو تيّار كهربائي إذا مرّ بالجسد فإنّه يوقف القلب. يفهم هذا لاحقًا، ولكنه في طفولته لا يفهم هذا الأمر؛ لأنّ فكره واستعداده لا يسع إدراك هذا السير المتردّد للكهرباء. وهو يخاف من الحقنة والدواء المرّ ويهرب منهما، فهو لا يرى إلا الألم الحالي. أما الشفاء الذي يأتي بعد هذا الألم، فهو لا يشعر به؛ والدا الطفل هما من يشعران بذلك الشفاء، أما الطفل فلا يشعر إلا بالألم. فهل رأيتم يومًا ما طفلًا يشكر والديه لأنّه معافى وأسنانه لا تؤلمه؟ هل رأيتم طفلًا في الخامسة أو العاشرة من عمره يأتي إلى أمّه ويقول: «شكرًا جزيلًا، بطني لا تؤلمني الآن»؟ الكلّ سيضحك! لماذا؟ لأن الطفل لا يفهم معنى الصحة، لا يفهم معنى عدم المرض. نعم، هو يفهم الألم، فما إن يبدأ وجع بطنه حتّى يعلو صراخه، وحينها يجب علاجه. فنقول له: «إذا أردت أن تشفى، يجب أن تأخذ هذه الحقنة»، فيقول: «لا، لا، هذه الحقنة مؤلمة». هو لا يدرك إلا الألم.

  • نحن هكذا تمامًا. ولكن عندما نكبر ـ إن شاء الله ـ يعلّموننا قاعدة في الصحّة والطب، ماذا تقول؟ قولوا بسرعة: «الوقاية خير من العلاج». هذه قاعدة، لمن تقال؟ تقال لمن يدرك معنى الصحّة. عندما يكبر الإنسان يدرك معنى الصحّة، أمّا عندما يكون صغيرًا فلا يدركه، بل يدرك معنى الألم فقط. وعندما يكبر، يدرك حينها أن هناك شيئًا اسمه الصحة. يقولون إن الصحة شيء واحد، أما المرض فما هو؟ آلاف الأشياء. فإن آلمك سنّك فلست بصحيح، ون آلمتك عينك فلست بصحيح، وكذلك ألم البطن والعظام. إذن، كم هي الصحّة؟ واحدة. ولكن كم هو المرض؟ ما لا نهاية له من الأمراض. هناك أمراض معروفة وأخرى مجهولة، وكلّ يوم يظهر شيء جديد.

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟ - تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

6
  • كذلك الإنسان في عالم الكثرات، ينصبّ اهتمامه على المعلول والمظاهر فقط: هذا فعل كذا، وهذا وصل إلى المنصب الفلاني، وهذا أصبح غنيًا وذاك فقيرًا، وهذا قال سوءًا وذاك قال خيرًا، وهذا أصبح عالمًا وذاك جاهلًا، هذا تولّى الرئاسة وذاك أصبح مرؤوسًا، هذا عُزل وذاك نُصّب... كل ما يلتفت إليه الإنسان في هذا العالم هو سلسلة العلل والأسباب الماديّة، أي عالم المعلولات. وهذا لأنه لا يزال طفلًا، لم يكتشف العلة والجذر؛ لأنّه يفتقر إلى ذلك الاتّصال الحقيقيّ الذي يوجب تصحيح الفكر والسرّ والروح.

  • قصّة موسى والخضر: حين تلتقي الشريعة بالحقيقة

  • لا أدري هل ذكرت هذه المسألة في شرح "عنوان البصري" عندما كنت أتحدّث عن قضايا الخضر أم لا؟ قصّة الخضر عليه السلام قصّة عجيبة جدًّا وفيها أسرار، وكلّما تعمّق الإنسان فيها، وصل إلى مسائل جديدة. فموسى على نبيّنا وآله وعليه السلام نبيّ ورجل عظيم، وقد أدرك بعض المعارف، ولكنّه لم يكن قد بلغ مرتبة النضج القصوى بالنسبة للوصول إلى حقيقة التوحيد ونزول الفيوضات المختلفة الأنواع والمظاهر في عالم الكثرة. فأراد الله أن يرفع هذا النقص عن موسى عليه السلام ويعرّفه بجميع مراتب التوحيد، طبعًا إلى الحدّ الذي لا يمكننا معه القول بأنّ جميع المراتب قد اتّضحت له، فتلك المراتب لم تتّضح إلا لرسول الله صلَّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السلام. وبالطبع، يمكننا القول إنّه بناءً على بعض الروايات، ربّما يكون قد وصل إلى هذه المراتب بعض أفراد أمّة رسول الله، وهو ما نعبّر عنه بالبقاء الأتم۱.

  • فموسى على نبيّنا وآله وعليه السلام يرى الناس يموتون أمام عينيه ألف مرّة في اليوم، ولكنّه لا يعترض على الله أبدًا. تلد الأم طفلها فيموت كلاهما عند الولادة، فهل يعترض؟ لا. إنّه الموت: ﴿ٱللَهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوتِهَا وَٱلَّتِي لَم تَمُت﴾٢، ﴿قُل يَتَوَفَّىٰكُم مَّلَكُ ٱلمَوتِ ٱلَّذِي وُكِّلَ بِكُم﴾٣. الله هو الذي يميت. كنت أقرأ في ترجمة للقرآن، لا أذكر من هو المترجم، حول عيسى على نبيّنا وآله وعليه السلام في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيتَنِي كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِيبَ عَلَيهِم﴾٤، كانت الترجمة تقول: «عندما قبضت روحي». ترجمة «قبض الروح» هنا خاطئة؛ فالمعنى ليس قبض الروح. لا تخطئوا، فعيسى عليه السلام لم تُقبض روحه، إنّه حيّ مثلنا، ومثل إمام الزمان عليه السلام، لكنّه في برزخ بين المادّة والمجرد، وهو ما يُعبّر عنه بالسماء الرابعة. وعندما يظهر بقيّة الله أرواحنا فداه إن شاء الله وينير أعيننا المريضة بنوره، سينزل عيسى عليه السلام من السماء ويقتدي به ويكون من أتباع وشيعة إمام الزمان عليه السلام. الأئمة عليهم السلام ماتوا، أمير المؤمنين عليه السلام مات، الإمام السجاد عليه السلام مات، ولكنّ إمام الزمان عليه السلام حيّ، وعيسى عليه السلام حيّ لم يمت؛ ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلٰكِن شُبِّهَ لَهُم﴾٥.

    1. المراد بالبقاء هنا مرحلة البقاء بعد الفناء، ففي اصطلاح العرفاء وأهل السير والسلوك يمرّ الإنسان في ثلاث مراحل: 
      مرحلة ما قبل الفناء: وهي مرحلة غلبة الكثرات والعلل، والتي يعيش فيها حالة الشرك ويعطي فيها للكثرات قيمة ذاتية، ولا يكون قد وصل في هذه المرحلة بعد إلى حقيقة التوحيد.
      مرحلة الفناء: وهي مرحلة غلبة الوحدة والوصول إلى حقيقة التوحيد وأنّ الله هو الحقّ وما دونه الباطل، وفيها يكتشف أنّ نفسه وكافّة الموجودات لا وجود لها أصلاً، فلا يعود يرى سوى الله ولا يشعر بعالم الكثرة أبدًا. 
      مرحلة البقاء بعد الفناء: وهي مرحلة الوحدة في عين الكثرة، حيث يرى أنّ نفسه وجميع الموجودات في عالم الكثرة قائمة بالله ومعلولة لله وهي تجليّات لذاته ولا وجود لها من نفسها، فهو يشعر بالكثرات القائمة بالله تعالى فيعطي عالم الكثرة حقّه ويعطي عالم الوحدة حقّه.
      ثمّ إنّ هناك قاعدتين أخريين لدى العرفاء: 
      مفاد إحداهما أنّ طيّ هذه المراحل قد يكون بالاختيار في عالم الدنيا عبر التربية و التزكية والسير والسلوك، وقد يكون قهرًا عبر الموت وعقبات البرزخ ونفخ الصور والقيامة. 
      ومفاد الثانية: أنّ ما يناله الإنسان في عالم البقاء بعد الفناء من إدراك للكثرة يتناسب مع ما كان قد أدركه في مرحلة ما قبل الفناء واطّلع عليه من قوانين عالم الكثرة، وأنّ ما يعرفه من الذات في مرحلة البقاء يتناسب مع ما بلغه من مراتب التوحيد في مرحلة الفناء، فإن بلغ الفناء الذاتي كان بقاؤه أتمّ، وإن بلغ الفناء في الصفات والأسماء كان بقاؤه فيها. 
      ويبدو أنّ سماحة السيّد رضوان الله عليه يتحدّث في اصطلاح البقاء الأتمّ هذا عن البقاء في الذات بعد الفناء في الذات وهو الأمر الذي اختصّ به النبيّ محمّد صلّى الله عليه وآله دون سائر الأنبياء وفتحه لأمّته من بعده. (لمزيد من التحقيق حول ذلك راجع: أسرار الملكوت ج٢ ص ٤٩٣، معرفة المعاد ج٦ ص ۱٦۰، ج۸ ص ٤۸) (م) 
    2. سورة الزمر (٣٩) الآية ٤٢.
    3. سورة السجدة (٣٢) الآية ۱۱.
    4. سورة المائدة (٥) الآية ۱۱۷.
    5. سورة النساء (٤) الآية ۱٥۷.

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟ - تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

7
  • لماذا اعترض موسى على الخضر ولم يعترض على ملك الموت؟

  • فالنبيّ موسى عليه السلام يرى الملائكة تقبض الأرواح ألف مرّة في اليوم. يمرّ إنسان إلى جانب جدار فينهار عليه ويموت. هل يُرى موسى عليه السلام يقول: «يا إلهي، لمَ حدث له هذا؟». كان عليه ألا يمرّ من هناك، لكنّه مرّ فانهار عليه الجدار. أو مثلاً، ربّما يكون هناك إنسان نائم تحت شجرة فينكسر غصنها فجأة ويقع على رأسه فيموت، فهل قال موسى عليه السلام يومًا: «يا إلهي، لمَ حدث هذا؟». هذا أمر طبيعيّ، إنّها علل طبيعيّة. أو يصعد رجل جبلاً فتزلّ قدمه ويسقط في الوادي، فهل يقول موسى عليه السلام: «يا ويلتاه! لمَ حدث هذا؟!». كان عليه ألاّ يصعد الجبل، لكنّه صعد... هل تسمعون يا أطفال؟ عندما تصعدون الجبل، كونوا حذرين، لا تركضوا، بل انتبهوا.

  • حسنًا، قولوا لي الآن، كيف حدث أن الخضر عليه السلام أتى وقتل غلامًا في العاشرة من عمره فارتفع صوت موسى عليه السلام معترضًا: «لمَ تقتل هذا الغلام؟»، مع أنّ هذا الغلام نفسه لو كان يمشي وسقط على الأرض وانكسر رأسه ومات، لما اعترض موسى عليه السلام. لماذا؟ لأنّ موسى عليه السلام كان يرى تلك الوفيات والحوادث متّصلة بسلسلة العلل الطوليّة، أما في قضيّة الخضر، فقد رأى هذا الموت متصلاً بسلسلة العلل العرضيّة، وهنا نشأت لديه الشبهة.

  • في الحقيقة، لو أنّ موسى عليه السلام كان قد درس الفلسفة! ـ أستغفر الله ربّي وأتوب إليه، فنحن لا نصلح أن نكون تلاميذ لموسى عليه السلام، ولا نبلغ قيمة ظفر من أظفاره! ولكنّا نمزح قليلاً، فطلاّب العلم يمزحون عادة، ولا بأس أن يمزح المرء مع الأنبياء، وإن شاء الله لن يغضبوا منا ـ لكان قد علم أنّ سلسلة العلل العرضيّة هي في طول سلسلة العلل الطوليّة. طبعًا، موسى عليه السلام الآن هو نفسه معلّم للملاّ صدرا في ذلك العالم، يعلّمه المعارف ويقول له: «ما أثبتَّه أنت بالفهم والإدراك والفكر، نحن شاهدناه رأي العين وبالقلب، فنحن نسبقك بكثير».

  • إنّ الخضر على نبيّنا وآله وعليه السلام عندما كان يذبح ذلك الطفل، كان فاعلاً ضمن سلسلة العلل الطوليّة، لا العرضيّة. ولأنّ موسى عليه السلام كان في ذلك الوقت ملتفتًا إلى جانب المظاهر ولم يستطع أن يحلّ مسألة عدم الاختلاف بين المادّي والمجرّد في ارتباطهما بالمبدأ، فقد اعترض. ولكن، لو أن ملك الموت هو من أتى وفعل ذلك بدلاً من الخضر، فهل كان موسى عليه السلام سيعترض؟ لا! فذاك ملك الموت، وما علاقته بعالم المادة؟ فملك الموت لديه سجلّ يضعه تحت إبطه كلّ صباح وينزل من ذلك العالم. وماذا في سجلّه؟ يومًا يأتي إلى مشهد، ويومًا إلى همدان، ويومًا إلى قم، ويومًا إلى إفريقيا فيقضي على ألف شخص دفعة واحدة، ويومًا يذهب إلى هيروشيما فيحول ثلاثمائة ألف إنسان إلى رماد في لحظة. ولدينا في الروايات أنه سيُباد ثلثا سكان الأرض من المخالفين لإمام الزمان عليه السلام.

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟ - تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

8
  • قصة الحاج الأبهري وملك الموت

  • نعم، عمل ملك الموت يكون مزدحمًا أحيانًا وخفيفًا أحيانًا أخرى؛ فذلك يعتمد على الأمر الذي يصدر إليه. يفتح سجلّه صباحًا ويقول: «يا الله، علينا أن نقضي على ثلاثة ملايين اليوم». ولكن هذا لا يمثّل له شيئًا، فهو أسهل عليه من شربة الماء هذه التي أرفعها. لقد منحه الله قدرة يستطيع بها أن يقطع كلّ تلك التعلّقات بين النفس والبدن في طرفة عين.

  • رحم الله الحاج هاديًا الأبهري، فقد كان رجلاً حيّ القلب جدًّا. توفّي أحد أقاربنا، وكنّا نجلس هناك، فقال له أحدهم ـ وكانوا قد وضعوا الجنازة كأمانة في مكان ما لينقلوها لاحقًا إلى كربلاء وتُدفن هناك وكانوا قد دفنوه في وادي الصفا المعروف بالوادي القديم ـ: «يا حاج، إن استطعت، تعال وافعل شيئًا لهذه العائلة الحزينة، أعد الروح إليه». ففكّر قليلاً وقال: «لو كان الأمر قبل أن يموت، لاستطعت أن أفعل شيئًا، أما الآن فلا أستطيع»، أي أن نؤخر الأمر أو نفعل شيئًا. كان رجلاً حيّ القلب.

  • كان يقول: كنت أفكر يومًا كيف أن بعض الذين يموتون تبقى أعينهم مفتوحة وبعضهم مغمضة. كنت أفكر في هذا، وذات يوم كنت جالسًا بجانب جبل يمر به نهر، فرأيت أنه كانت هناك قرية في هذا المكان قديمًا. يقول: رأيت فجأة أن زلزالاً قد وقع، وجميع أهالي القرية ذهبوا تحت الأنقاض في منتصف الليل في ثانية واحدة. لقد خطر ببالي هذا الأمر ورأيت أنّ الذين أصابهم ذلك كانوا على قسمين: بعضهم كانت أعينهم مفتوحة وبعضهم مغمضة. لم يمهلوا حتّى يغمضوا أعينهم، وأولئك الذين كانت أعينهم مغمضة لم يمهلوا حتّى يفتحوها. لقد أحطتُ بنفوسهم في تلك اللحظة التي أراد الله أن يريني فيها كيف كان ملك الموت يقبض أرواحهم. رأيت أن هذا أراد أن يغمض عينه فانتهى الأمر، وذاك أراد أن يفتحها فانتهى الأمر! ملك الموت لديه مثل هذه القدرة، لا يدعك تغمض عينك أو تفتحها. المهم ليس أن تكون العين مفتوحة أو مغمضة، بل أن يكون الإنسان صالحًا عند رحيله، أن يرحل سعيدًا، أو كما كان يقول المرحوم العلامة: «يرحل وهو يرقص فرحًا». أو يقول: «آه، آه، يا إلهي، تعال وانظر!».

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟ - تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

9
  • قصة أستاذ الأخلاق الذي خاف من الموت

  • كان هناك عالم من الأفاضل والعلماء ومدرّسي الأخلاق، وكنت أحضر دروسه أحيانًا. كان يقول: «على الإنسان أن يكون مستعدًّا دائمًا، حتّى يذهب قبل أن يُطلب منه الذهاب». كان يلقي دروس الأخلاق ويحضرها حوالي مائتا طالب، وكان رجلاً فاضلاً وعالمًا ومجتهدًا وله كتب وأبحاث. وقد أصيب هذا الرجل بالسرطان سرطان الدم، وعندما ذهبنا لزيارته، لم يكن يُحتمل النظر إليه. بدا وكأنّ الدنيا قد انهارت على رأسه. هذا الأستاذ الذي كان يقول إنّ الإنسان يجب أن يذهب قبل أن يُطلب منه، لم يكن يسمح لأحد بالدخول إلى منزله، ولم يكن يتحدّث، وكان كلّ همّه الأدوية أن لا تبتعد عن متناول يده. حاولنا أن نذكّره بكلامه، بأنّه كان يقول لنا: «يجب على الإنسان أن يسبق عزرائيل بخطوات حتّى يبحث عنه فلا يجده!»، لكنّنا رأينا أنّه لا يستطيع أن يتنازل عن تعلّقه بالحياة، وبعد فترة توفّي على تلك الحال.

  • كان المرحوم العلامة يقول: على الإنسان أن يرحل من هذه الدنيا وهو يرقص فرحًا ويضحك. وهذا ما حدث له هو نفسه كما يروي الرفقاء. كنت حاضرًا في ساعاته الأخيرة، ويقولون إنه عندما شعر بالمرض في جلسة عصر الجمعة في منزله، أخذ يضحك ويقول لمن كانوا يحملونه: «قولوا لا إله إلا الله بصوت عالٍ». هذا يرحل هكذا، وذاك يرحل هكذا. هذا يبحث عن عزرائيل ويسأل: «أين أنت؟ لمَ لا تأتي؟». وكما يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «لَوْلَا الْآجَالُ الَّتِي قَدْ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ لَمْ تقرّ [تَسْتَقِرَّ] أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ وشَوْقًا إِلَى الثَّوَابِ»۱. لو لم يكن هناك أجل محدّد، لما استقرّت أرواحهم في أجسادهم طرفة عين.

  • العارف يرى المعجزة في كل شيء

  • فعندما يأتي عزرائيل ويفعل ما يفعل، قد يتساءل الإنسان «لماذا؟»، لكنّه تساؤل يمر بالذهن سريعًا ولا يركّز فيه؛ لأنّه ينسب الأمر إلى عالم الغيب. أمّا عندما تقع الحادثة نفسها من خلال العلل المادّية، تنشأ الشبهة لدى الإنسان أن «لماذا؟». لماذا يفعل الخضر هذا؟ حسنًا، لعلّ الخضر هنا مثل عزرائيل، فما الفرق؟ فكما أن عزرائيل لا يفعل شيئًا دون إذن وتكليف من الله تعالى، كذلك الخضر يفعل ما يفعله بإذن منه. وهنا تكمن النقطة التي كان السيد الحداد رضوان الله عليه يقولها: «لو أنّ الناس ذهبوا إلى بئر جافة ودعوا الله أن يرتفع ماؤها فاستجاب لهم، لعدّوا ذلك معجزة، ولكنهم إذا فتحوا صنبور الماء في منازلهم وجرى الماء، لا يعتبرون ذلك معجزة»، مع أنّ كليهما إعجاز. هذا كلام عارف وصل إلى مرتبة "البقاء الأتم"، فلم يعد يرى فرقًا بين سلسلة العلل المجرّدة وغير المجرّدة. إنّه ينظر إلى جميع الأحداث من زاوية ارتباطها بمبدأ الفيض بنسق واحد. فالنبيّ موسى عليه السلام يعترض ويقول: «لمَ قتلت هذا الغلام؟!»، وهذا يقول: «إنّ سلسلة العلل واحدة، سواء كانت في الأعلى أو في الأسفل، فما الفرق؟!».

    1.  أصول الكافي، ج ٢، ص ٢٣۷؛ نهج البلاغة، الخطبة ۱٩٣خطبة المتقين، ص ٣٠٣: «وَلَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ». 

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟ - تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

10
  • ثمن السلوك إلى الله: لماذا لا بد من البلاء؟

  • إذا تقدّمنا قليلاً، فإن الإنسان إذا أراد أن ينفتح فهمه وتستنير بصيرته في هذه الأمور، سيعلم كيف كان أولياء الله يربّون تلاميذهم ويهيّئون لهم الظروف لبلوغ المطلوب، وكيف كانوا يزيلون الموانع من طريقهم ويغيّرون النفس المتعلّقة بعالم الكثرة ليوصلوها إلى المبدأ ويجرّدوها.

  • كان المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه يقول مرارًا: «طالما نسير مع هؤلاء الرفقاء بسلام وأمان، فلا توجد مشكلة، فالأمر كلّه سلام وصلوات وذهاب وإياب، ونحن نضيف من عندنا: ما شاء الله، يا له من سيّد طيب! ما شاء الله، يا له من نورانيّ! ولكن بمجرّد أن نريد أن نؤدّبهم قليلاً، تعلو أصوات الجميع بالشكوى والأنين: ’لماذا هكذا؟! وماذا فعلنا؟!‘ ولا يعلمون أنّ كلّ هذا من متطلّبات السلوك، ويقولون لو لم يكن هذا السلوك لما حدث ذلك، مع أنّ هذا كلّه خطأ. واللطيف في الأمر هو أنّ هذه الأمور تحدث للآخرين أيضًا، ولكنّها عندما تحدث للسالك، يُعطى معها التحمّل والصبر». وكان يقول: «وبدون هذا لا فائدة، لا فائدة أبدًا».

  • نقل أحد الرفقاء قائلاً: كنت في طريقي إلى مكّة قبل أحداث ترحيل الإيرانيّين من العراق. وفجأة، سمعت صوتًا يقول لي: «أتَدَّعي السير في طريقنا؟». 

  • قلت: «نعم». 

  • قالوا: «لم يحدث لك شيء بعد، فهل أنت مستعدّ؟». 

  • قلت: «نعم». قالوا: «فاستعدّ للبلاء واصبر». وكان من العرب.

  • يقول: «عندما عدت من مكّة، وقعت تلك الأحداث، فضربوا واعتقلوا ورحّلوا، ووقعت أمور كثيرة، وكنت أنا من بين الذين رحّلوا، وابتُليت بمصائب كثيرة».

  • التسليم للحقائق رغم مرارتها

  • إن مسألة ربط القضايا والحوادث بذلك المبدأ وتلك الحقيقة هي العامل المهمّ في حركة السالك إلى الله. فأحيانًا يرى الإنسان أنّه يستطيع تحريك بعض الأوراق لصالحه، لكنّه يجد أنه غير مأذون له بذلك، ويعلم أنّ عدم تحريكها سيؤدي إلى مضارّ، فيقول: «لا بأس، فليكن ما يكون». الله يترك له الخيار: إن أردت هذا الطريق، فبسم الله، ولكن إن أردت أن ترضى بقضائي، فهذا هو الطريق ومعه هذه المصاعب. لا يمكن أن تسلك هذا الطريق وتأكل الحلوى في الوقت نفسه؛ فالحلوى موجودة في الجانب الآخر، بعد انتهاء الطريق، أما هذا الجانب فهو سراب وخيال. يرى الإنسان بوضوح أن هذا الطريق له عواقبه، ولكن عليه أن يصبر ويعضّ على نواجذه ويتحمّل ولا يقول شيئًا. يتّهمونه وهو ينظر صامتًا، يضيّقون عليه وهو ينظر صامتًا. مع أنّه يستطيع في اللحظة نفسها أن يردّ الصاع صاعين ويغيّر مجرى الأمور، لكنّ عليه ألاّ يتكلّم. ثمّ شيئًا فشيئًا، تُرفع الحجب عن عينيه، وبعد مرور فترة، لا يعود هو الشخص نفسه؛ فالعمل الذي يقوم به الآن، لم يكن ممكنًا له قبل سبع سنوات. والتحمّل الذي لديه الآن، لم يكن يملكه قبل عشر سنوات. لماذا؟ لأنّه تغيّر، وهذا التغيّر هو نتيجة لذلك التغيّر السابق، وبدونه لا يمكن أن يحدث هذا.

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟ - تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

11
  • إذا أراد الإنسان أن يصل إلى نقطة التوحيد، فعليه أن يعلم أنّ هذه النقطة حارقة، تكوي الأكباد، فهل رأيتم تلك الآلة التي تلحّم الحديد وتذيبه؟ فكم فولتًا يجب أن يخرج منها لكي تذيب الحديد العجيب ذاك وتجعل نقطتين منه تلتحمان؟! 

  • وعندما يقول مولانا جلال الدين الرومي في تلك الحكاية العجيبة، والتي نقلها السيّد العلامة في أول كتاب "الروح المجرد" الذي هو عن السيد الحداد رضوان الله عليه، وهي حكاية تفوق كلّ المثنوي، يقول: 

  • از من ارکوه احد واقف بُدی***پاره گشتی و جگر پرخون شدی‌
  • حق همی‌گوید که ای مغرور کور***نی زنامم پاره پاره گشت طور؟
  • يقول: 

  • لو أن جبل أُحد عرفني *** لتفتّت وامتلأ جوفه دمًا

  • فالحقُّ يقول أيها المغرورُ الأعمى: *** ألم يتصدّع الطّورُ من اسمي؟

  • إنّ حقيقة نور التوحيد يجب أن تتجلّى في محل مستعد. وكيف يوجد هذا المحلّ المستعدّ؟ بالخبز والحلوى؟ كلا! بل هو محلٌّ قد غيّر نفسه حتّى النخاع، لقد أُنهك تمامًا.

  • كان المرحوم العلامة يقول: «كنّا في مجالس يقولون لنا فيها ما يشاؤون، وكنّا مكلّفين بعدم الجواب، فكنا ننظر بصمت، والطرف الآخر يظنّ أنه قد انتصر وغلب. عجيب! السيّد محمّد حسين لا يجيب، وهو يُهزَم علميًّا وأخلاقيًا ويُهان، ولكنّه لا يرد». كان يجب أن يجلس صامتًا. ولو أراد أن يردّ، لانتهى الأمر بكلمتين. طبعًا، لكلّ مقام مقال. وعندما تكون المسألة محورها النفس لا الحقّ والباطل، فعندها دع الخصم ينتصر، وليقل إنّ فلانًا أقوى، وليصبح هو الرئيس. دعك من هذا يا عزيزي. في النهاية، رحل العلامة ورحل ذاك، ورحل الجميع. فماذا الآن؟ هل تستطيع أن تعقد مجلسًا هناك وتتكلّم؟ في هذه الدنيا كنت تستطيع أن تطرح مسائل لتتقدّم، لكن ماذا عن الآخرة؟ فاذهب وافعلها هناك أيضًا. فمن الذي فاز في النهاية؟ الذي جلس ولم يتكلّم.

  • قمّة التوحيد العملي: لماذا سكت عليٌّ عليه السلام؟

  • كان باستطاعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلَّى الله عليه وآله أن يحسم الأمر لصالحه في ساعتين. كان بإمكانه أن يقف عند باب مسجد المدينة ويشهر سيفه ويقول: «من كان يستطيع فليأتِ وليدخل هذا المسجد ويعتلِ هذا المنبر». فمن كان سيجرؤ؟! لكنّه لم يفعل ذلك، بل جلس في بيته. وأولئك الذين فرّوا من معركة أحد واختبأوا خلف جبال المدينة لثلاثة أيام، هم الذين أتوا ومزّقوا زوجته إربًا أمام عينيه ولم يرتفع له صوت. لماذا؟ لأنّ النبي صلَّى الله عليه وآله أوصاه: «يا علي! اصمت». لقد ضربوها وأحرقوا الباب. ويأتي شاعر النيل المصري ويفتخر أمام الملك فاروق فيقول: من يستطيع أن يفعل مثلما فعل عمر، الخليفة الثاني، حين وقف أمام فارس العرب وحاميها وضرب زوجته وأسقطها أرضًا؟ يعتبرون هذا فخرًا لهم!

كيف نفهم حقيقة التوحيد في المصائب؟ - تحليل لقصّة موسى والخضر عليهما السلام

12
  • و قَولَةٌ لِعَلیٍّ قالَها عُمَر***أکرِم بِسامِعِها أعظِم بِمُلقیها
  • حَرّقتُ دارَکَ لا أُبقی عَلَیکَ بِها***إن لَم تُبایِع و بِنتُ المُصطَفَی فیها
  • ما کان غیرُ أبی حَفصٍ یَفوهُ بِها***أمامَ فارِسِ عَدنانَ و حامیها۱
  • ثمّ يضعون الحبل في عنق أمير المؤمنين عليه السلام ويجرّونه إلى المسجد. فهل يمكنكم تصوّر المشهد؟! هذا هو أمير المؤمنين الذي كاد يخنق بطلهم الذي يخاف منه الجميع خالد بن الوليد بإصبعيه وضعهما في عنقه بينما كان أمير المؤمنين يتشهّد٢، هو عليّ نفسه الذي وقف عند البقيع عندما جاء عمر وقال يجب أن تنبش هذه القبور لأصلّي على فاطمة، فشهر أمير المؤمنين سيفه وقال: من كان قادرًا على نبشها فليتقدّم٣، فماذا حصل؟ ولماذا لم يشهر السيف في اليوم الأوّل؟ لأنّه كان مكلّفًا بالسكوت، ولو شهر سيفه هناك، لما كان عليٌّ عليًّا، ولما كان أمير المؤمنين أمير المؤمنين. هناك كان يجب أن يغمد سيفه، ولكن عند قبر فاطمة عليها السلام ـ وبالطبع لم يكن هذا قبرًا حقيقيًّا ـ كان يجب أن يشهره، وفي ليلة الهرير في مواجهة معاوية كان يجب أن يشهره ليقتل خمسمائة رجل حتّى الصباح٤. ولكن عندما يسبّونه يطأطئ رأسه ولا يتكلّم. فهنا يجب أن يفعل هذا وهناك يجب أن يفعل ذاك، هكذا أصبح عليٌّ أمير المؤمنين.

  • وكلّ إنسان بحسب سعته، فأمير المؤمنين عليه السلام الذي وصل إلى مقام الاسم الأعظم وله الشفاعة الكبرى يوم القيامة وهو ساقي الكوثر وقسيم الجنة والنار٥ ، يجب أن تكون حياته هكذا. والإمام الحسين عليه السلام يجب أن يكون هو الذي تحدث له تلك الواقعة ليبلغ مقام الشفاعة الكبرى.

  • من البديهيّ أنّ أحدًا لا يُجعل قسيم الجنّة والنّار جزافًا؛ فأمر الله ليس عبثًا. حسنًا، يبدو أنّ الحديث له تتمة، فهل نكمل أم نكتفي بهذا القدر؟ لنكتفِ بهذا القدر الآن. إن شاء الله يوفقنا الله وينير أبصارنا بهذه المعارف ويرزقنا الاهتداء بهداية أوليائه. 

  •  

  • اللهمّ صلِّ على محمد وآل محمد

    1. دیوان حافظ إبراهیم، ج ١، ص ٨٢.
    2. کتاب سلیم بن قیس الهلالی، ج ٢، ص ۸۷٢؛ بحار الأنوار، ج ٢۸، ص ٣۰٦.
    3. بحار الأنوار، ج ٤٣، ص ۱۷۱.
    4. وقعة صفین، ص ٤۷٦.
    5. تفسیر القمی، ج ٢، ص ٣٢٤.