المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1430
التاريخ 1430/10/13
التوضيح
ما معنى (وقودها الناس والحجارة)؟ ومن الذي يوجد النار وعذابها والجنّة ونعيمها وكيف يحصل ذلك؟ كيف يجمع أولياء الله بين العيش في الجنّة وهم في الدنيا، وبين آلام الدنيا ومصائبها ومسؤوليّاتها؟ وما العلاقة بين هذا المعنى للجنّة والنار وبين نسبة الإمام عليه السلام الذنوب إلى نفسه؟
في سياق تفسير فقرة (إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت) تلخّص هذه المحاضرة أهمّ ما سبق في المحاضرات السابقة وتفصّل في حقيقة الجنّة والنار لتأسيس مقدّمات الجواب على إشكاليّة نسبة الإمام الذنوب إلى نفسه.
هو العليم
حقيقة الجنّة والنار
مَن الذي يوجد الجنّة والنار وما فيهما وكيف ومتى؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۰ هـ. ق - الجلسة السابعة عشرة (عنوان البصري ج ۱۷۱)
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذ باللَه من الشيطان الرجيم
بسم اللَه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى اللَه على نبيّنا أبي القاسم محمّد
(صلّى اللَه عليه وآله و سلّم)
و على آله الطيّبين الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
لن نتابع في بحث عنوان البصري الذي كنّا نتحدّث حوله بشكل متسلسل، وإن شاء الله نريد أن نفي بذلك الوعد الذي وعدنا به في ليالي شهر رمضان المبارك.
إن كان الرفقاء متابعين للأبحاث التي طرحت في ليالي شهر رمضان المبارك في شرح دعاء أبي حمزة الثمالي الرفيع المضامين فسيذكرون أنّ الكلام حول إحدى الفقرات بقي ناقصًا، وقد وعدنا في الليلة الأخيرة أنّ تتمّة الكلام ستكون في أوّلة جلسة تكون لنا مع الرفقاء.
كان حديثنا في ليالي شهر رمضان حول هذه الفقرة الشريفة من عاء أبي حمزة، حيث يقول الإمام:
«إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت وإذا رأيت كرمك طمعت».
فعندما أنظر يا مولاي إلى ذنوبي سيطر عليّ الجزع والفزع والوحشة.
معنى الفزع والفرق بينه وبين القلق
وقد تقدّم للرفقاء أنّ الفزع يختلف عن القلق والاضطراب، فالفزع هو أقصى مراتب القلق، فالدرجة القصوى تسمّى بالوحشة، وهناك آية حول يوم القيامة وأحوال المؤمنين: ﴿وهم من فزعٍ يومئذ آمنون﴾۱ وبناء على بعض القراءات: وهم من فزعِ يومئذ آمنون. والتي تعني أنّ المؤمنين آمنون من فزعِ يوم القيامة، والصالحين آمنون من الفزع يوم القيامة، لا أنّهم آمنون من القلق والاضطراب والتشويش واشتغال الذهن، بل من الوحشة والحيرة التي تحصل هناك هم آمنون، لماذا يحصل للإنسان وحشة؟! لماذا تحصل للإنسان دهشة؟! لأنّه يرى جهنّم إلى جانبه، نار جهنّم ولهيبها والتي هي عبارة عن عين الأعمال التي قام بها الإنسان في هذه الدنيا خلافًا لرضا الله.
حقيقة الجنّة والنار
وإنّها لآية عجيبة جدًّا التي يقول الله فيها: ﴿وقودها الناس والحجارة﴾٢، فهذا أمر عجيب جدًّا وأنّه كيف يكون وقود النار يوم القيامة عبارة عن الناس أنفسهم، الناس أنفسهم وقود، لا أجسامهم. فليس المراد من الناس أجسامهم، فالجسم ليس قابلاً للاشتعال بل هو ضدّ الاشتعال. ما هو وقود ويؤدّي إلى الاشتعال في هذه الدنيا ماذا هو؟ عبارة عن الخشب، عبارة عن الموادّ المشتعلة كالنفط والبنزين أو سائر الموادّ التي تؤدّي إلى الاشتعال. ولكنّ الماء لا يقال أبدًا إنّه وقود، وأنّ الحجر وقود مثل الجصّ والكلس فهذه ليست وقودًا، الوقود عبارة عن ذلك السائل الذي يؤدّي إلى الاشتعال. والوقود يوم القيامة هو عبارة عن الإنسان نفسه، وهذه نقطة دقيقة جدًّا جدًّا وظريفة تفيد أنّ الله تعالى لم يخلق جهنّم، بل نحن الذين خلقنا جهنّم، والله تعالى لم يخلق الجنّة، بل نحن الذين خلقنا الجنّة، فالجنّة والنار عبارة عن النفس الملكوتيّة والبرزخيّة لأعمالنا وتصرّفاتنا وأفكارنا. فمن كان في هذه الدنيا مطيعًا لله جاعلاً مساره ومذهبه وفق ما يرضاه الله، فإنّ عين هذا العمل هو الجنّة، لا أنّ هناك وعدًا سيتحقّق في يوم من الأيّام، فهذه نظرة عاميّة، ماذا يقول جناب حافظ هنا:
... | *** | وعدهی فردای زاهد را چرا باور کنم |
یقول: لماذا أصدّق وعد الزاهد؟
فلديه شعر شبيه بهذا وقد نسيته الآن ويقول فيه أنا الآن مع إلهي ومع هذه النعم. ويقول في موضع آخر:
من كه ملول گشتمیاز نفس فرشتگان | *** | قال و مقال عالمیمیكشم از برای تو |
والمعنى: أنا الذي مللت من أنفاس الملائكة صرت أحتمل من أجل عذل العالمين.
فهناك هو في مكان يتكدّر فيه حتّى من مجالس مظاهر الأسماء الجماليّة لله، فإلى هذا الحدّ قد وصل. بعدها يقول: وعده فردای زاهد را چرا باور كنم
والمعنى: لماذا أصدّق وعد الزاهد للغد؟!
فهو يقول لي الآن: ﴿حور مقصورات في الخيام﴾۱، ﴿جنّات تجري من تحتها الأنهار﴾٢، وجنّات غلمانها كذا وحورها كذا والتي تحدّثنا عن شيء منها في ليالي شهر رمضان الفائتة إن كان الرفقاء يذكرون، فهذه الحالة تحصل في هذه الدنيا للعارف ولوليّ الله وللذين هم في مرتبة الوصال، فهذه الحالة هي جنّتهم، جنّتهم هي تلك الحالة التي يعيشونها في هذه الدنيا، ولكنّ الحياة في هذه الدنيا والجلوس والقيام الأكل والنوم والتحرّك ليست هي الجنّة، تلك الأعمال التي على الإنسان أن يقوم بها في هذه الدنيا، وتلك المرتبة من أرواحهم ونفوسهم الخافيّة علينا، هم في تلك المرتبة في الجنّة. لذلك لا يرغبون أن يتكلّموا مع أحد، ولذلك تمرّ مجالسهم بالسكوت، ولذلك ليست لديهم القدرة على الكلام مع أحد، ولذلك ليست لهم القدرة على المشاركة في هذه المجالس العامّة، ولذلك ليست لهم القدرة على مجالسة هؤلاء العوام الذين هم كالأنعام، ولذلك لا يمكنهم أن يجالسوا أيّ إنسان مهما كانت خصوصيّاته، ولذا لا يمكنهم صرف أوقاتهم في الأمور التي لا طائل تحتها واللهو والعبث والتي يقضي سائر الناس أوقاتهم بها، فلماذا كلّ ذلك؟! لأنّهم لا يمكنهم التنازل عن ذلك المقام، ولو أرادوا التنازل فلأجل التكليف، ويتعب كثيرًا في ذلك، ولكن ماذا يصنع والتكليف يقتضي منه في مثل هذه الحالة أن يصنع ما يصنع.
ذلك الذي لا يمكنه أن يتكلّم مع الملائكة عليه أن يتكلّم الآن مع أبي سفيان، ومع أبي جهل ويطرق بنداء التوحيد كالمطرقة على كلّ واحد من المشركين رغم صدورهم التي هي كالحجارة وقلوبهم التي هي كالحجارة السوداء، عليه أن يطرق مكرّرًا على كلّ واحد منهم بنداء التوحيد فيقوله اليوم ويقوله غدًا ويقوله غدًا في المسجد الحرام، ولا يتراجع عنه، يسخرون منه، يستهزئون منه، يلاحقونه، يرسلون خلفه الأراذل والأوباش ويؤذونه لعلّه ينصرف عن عزمه، ولكنّه لا يتخلّى، لماذا؟ لأنّ لديه أمرًا ولديه تكليفًا ولا بدّ أن يبلغ هذا التكليف إلى الناس، وأثناء أداء هذا التكليف يشجّون رأسه، ويكسرون رجله ويسقطون رباعيّته، ويضربونه بالسيوف ويرمونه بالنبال فلا يتخلّى.
وهكذا سائر الأولياء فبعضهم يسقط في المحراب شهيدًا، وبعضهم بين الأعداء، وبعضهم بالسمّ وسائر ما قدّره الله لأمثال هؤلاء.
ما الذي يدفع أنبياء الله وأولياءه إلى التخلّي عن حالاتهم مع الله والخوض في أمور الناس؟
لماذا كلّ ذلك؟ هذا كلّه من أجل التكليف، وإلا لو أنّ الله خيّر النبيّ أن افعل ما شئت، وإن لم ترد أن تبلّغ فلا شيء عليك، ولا نلزمك، هذا شأنك، فمثلاً لو كنّا نأكل طعامًا وخيّرناك إن شئت فكل منه وإن شئت فكل ماء اللحم وإن شئت كل السمك، فكل ما شئت، فلو كان الأمر هكذا هل كان النبيّ والحال هذه مستعدّا أن يتنازل عن مقام الخلوة والأنس الذي هو فيه في حال اتّصال بذات الله لا اتّصال بالأسماء الكليّة الجماليّة، فقد كان في حال اتّصال بذات الله، فهل كان مستعدًّا لأن يتكلّم مع هذا؟ ولماذا لكي يجعل واحدًا من الناس من أتباعه، أفهل هو عاطل عن العمل؟! هل فقد النبيّ عقله حتّى يقوم ويجعل واحدًا من الناس من أتباعه؟! الآن صار الأتباع اثنين، والآن صاروا ثلاثة، والآن صاروا جماعة، الحمد لله جيّد إنّهم يزدادون، الجماعة تزداد، فلو أراد النبيّ أن يفعل ذلك لأجل هذا الأمر فسيكون قد فقد عقله، والنبيّ هو العقل الأوّل في العالم، وليس عقله كعقلي وعقلك، ليس مثلي ومثلكم، ولا أقصدكم أنتم بالذات، بل أقصد هؤلاء الذين جعلوا جميع دينهم ودنياهم فداء لأربعة أيّام زائلة ويبيعون آخرتهم بأربعة أيّام، فماذا هم هؤلاء؟ إنّهم مجانين، إنّهم من المخلوقات التي أعطاها الله كلّ شيء ولم يعطها شيئًا من "أوّل ما خلق"، فقد أنقص لها منه، وليس فقط أنقص لها منه بل يبدو أنّه لم يضع لها منه شيئًا، هذا النوع من الناس الذين يقدّمون سعادتهم قربانًا أمام أربعة أيّام تغرب فيها الشمس ثمّ تشرق ثمّ تغرب، وشئت أم أبيت تنتهي، ثمّ يقال: عليك أن تغادر غدًا! حقًّا مجنون من يعلم أنّ هناك آخرة ثمّ يعمل هكذا! حقًّا مجنون! ويجب أن يُربط هذا بسلسلة، ولكنّه الآن مطلق يسير في الشوارع. حقًّا هو مجنون! لماذا؟
لقد رأيت بنفسي وبعيني أمورًا ومسائل من الأعاظم أنقلها بضرس قاطع أن كيف يمكن للإنسان أن يأتي على نفسه بالنكبة والشقاء بحيث يرى الأبيض أسود والنور ظلمة والظلمة نورًا؟! حقًّا عجيب جدًّا، كيف يمكن أن يبتلى الإنسان بهكذا هلاك ومنتهى الشقاء والخسران بحيث أنّه عندما يقال له: هذا مستقبلك هذا غدك، وفي النهاية هناك شيء ما، في النهاية هناك حساب، وبعد يومين ستتحوّل الأمور فإنّه يتغاضى عن كلّ هذه الحقائق ويكتفي بهذين اليومين من أيّام الدنيا وكلمتي ما شاء الله ما شاء الله تقالان له، واثنين يمشيان خلفه، وكلمتي تشجيع وأمثال ذلك، وإشباع النفس من الاستعلاء ومن السيطرة على جميع الحقائق، فيغلق عينيه عن جميع الحقائق ويعمى عنها! فهذه نهاية التعاسة، وليس هناك ما هو أرفع من ذلك.
فلو أنّ الله قال للنبيّ والحال هذه: إن شئت يمكنك أن تأتي وإن شئت فلا تأت. ثمّ يقوم إلى أبي جهل والمغيرة وشعبة والوليد وعتبة وأبي سفيان وألف واحد من أمثال هؤلاء لا يفيدون في شيء، ولا يستحقّون أصلاً أن ينظر إليهم، ثمّ ومع ذلك يقوم النبيّ بذلك ويعمل على هدايتهم؟! فهؤلاء ليسوا بشرًا. نحن لا نملك شيئًا من تلك المراتب، نحن لم نر شيئًا من تلك الأمور، ولم نشاهد شيئًا من ذلك في قلوبنا، ولم نلمسها بسرائرنا وضمائرنا، وإنّما سمعنا كلامًا من الأعاظم ومن الذين نثق بهم، ونحن نعلم أنّها حقّ، وبهذا المستوى من المعرفة لو قالوا لنا قم يا فلان وخذ ذاك المنصب. فلو قبلنا فسنكون مجانين، نحن لم نر شيئًا، نحن لم نحصّل أيّة معرفة عن تلك الحقائق، نحن لم نشمّ شيئًا من استغراق هؤلاء في أنوار البهاء والجمال للذات، لا الأسماء والصفات الجماليّة لها، فقد كان هؤلاء يعيشون في نفوسهم بوارق الذات، ونحن لا نعرف شيئًا عن ذلك، وإنّما تحصل لدينا حال جيّدة، وحالة من الانبساط، أقصى ما أدركناه هو أنّه إن كان هناك شيء ما فهو في ذاك العالم، لقد أدركنا هذا المقدار، والحمد لله وإن شاء الله يوفّقنا الله ويأخذ بأيدينا وتأخذ الولاية بأيدينا إلى مقام ﴿ولدينا مزيد﴾ والذي لا يعلمه إلا الله وأولياؤه، فنحن بعد أن أدركنا بهذا المقدار لو جاؤوا وأعطونا ملك الأرض لا مدينة وإمارة بل ملك الأرض كلّها وحكومة الأرض كلّها، فلو قبلنا سنكون مجانين، لو قبل الإنسان فهو مجنون.
والنبيّ الذي هو في غار حراء ويقضي كلّ ساعاته الأربع والعشرين في مقام الاتّصال الذاتيّ والفناء الذاتيّ بالله ولا يحتمل الحديث حتّى مع جبرائيل، يخرج الآن ويقول له الله: اذهب إلى مكّة إلى أبي سفيان وأبي جهل وتكلم معهما، أفهل جنّ حتّى يخرج ويترك هذه الأمور وهذه الحالات. الناس إذا وجدوا إنسانًا [يأنسون به] فإنّهم يحافظون عليه بحيث لا يلتفت إليهم أحد، أفيتخلّى النبيّ عن تلك الأوضاع وتلك الأحوال ويخرج؟! وإلى من؟ إلى أناس ليس في عقولهم ذرة من العقل ولا من الفهم ولا من المعرفة ولا من الإنصاف ولا من الشعور، ومع ذلك يريد أن يجعلهم بشرًا، ذلك العربيّ الذي يئد البنت التي يرزق بها ﴿وإذا الموؤودة سئلت بأيّ ذنب قتلت﴾ لا إله إلا الله لا إله إلا الله، يدفن إنسانًا بريئًا تحت التراب، ﴿بأيّ ذنب قتلت﴾؟ لماذا قتلت هذه الفتاة؟ لماذا جعلت هذا الكائن الحيّ فاقدًا للحياة؟ لماذا؟ لماذا جعلت هذا الطفل البريء تحت التراب بيديك؟! ﴿وإذا الموؤودة سئلت بأيّ ذنب قتلت﴾، ألسنا نحن مثلهم؟ بلى؟ بأيّ ذنب قتلت؟ بأيّ ذنب جعلت هذه الطفلة البريئة تحت التراب بيديك؟! وعلى النبيّ أن يأتي ويتعامل مع هذه القسوة، هذه القسوة التي تجعل الإنسان يدفن ابنته بيديه حيّة! فإمّا يضربها بالمعول أو يضربها بالسيف أو يقتلها بأيّ وسيلة أخرى، فلا فرق في النهاية، كلّه سواء، فأيّة قسوة يحتاج هذا قسوة لا ينافس الإنسانَ فيها أيّ حيوان مفترس على وجه الأرض، بأيّ ذنب قتلت؟ لقد أرسلت هذه الطفلة البريئة إلى ديار الفناء؟ ثمّ بعد ذلك يريد النبيّ أن يُسمِعَ هذا الإنسان هذا الحيوان الوحشيّ القاسي نداء التوحيد، ويريد أن يسمعه الأحكام الإلهيّة، يريد أن يسلك به الصراط المستقيم، يريد أن يخرجه من عالم الأنانيّة! إنجاب البنات قبيح! يقولون إنّ إنجاب البنات عار على الرجل! لا بدّ أن أنجب ذكرًا، فانظروا كم هي أفكار منحظّة وكم هي أفكار جاهليّة، يقولون لي: رزقت بنتًا، عار قبيح. أنت بنفسك أخذت فتاة، فأنت بنفسك لا يمكن أن تنجب الأولاد، لا بدّ أن تتزوّج بامرأة، فهناك لا يقول عار، فانظروا كم هي أفكار خاوية، وأفكار جاهليّة، وهنا لا بدّ أن يأتي النبيّ ويكلّف الناس بما كلّفه الله، وكأنّ الله يقول له: لقد كنت معي كثيرًا، كان لك مكان خلوة لمدّة طويلة، لقد جلسنا معًا طويلاً وتكلّمنا وسمعنا وتحدّثنا، أعلم أنّ قلبك لا يريد أن يخرج من هنا ولو قطّعوا بدنك إربًا… .
نشاط المرحوم العلاّمة السياسي كان بأمر من أستاذه
سمعت من المرحوم الوالد في قضيّة كان ينبّهني عليها، وربّما ذكرتها للرفقاء، حيث قلت له: لماذا أنت فعلت ذلك كالآخرين؟! وكان الحديث حول مسألة معيّنة، فقال: لو لم يكن أمر أستاذي أن عليك يا سيّد محمّد حسين أن تتابع هذا الطريق وتحافظ عليه وتأخذ بأيدي العاشقين والوالهين المتألّمين في طريق الله لما صرفت ساعة واحدة من عمري على واحد من الناس، لم يكن يمزح وكان كلامه متقنًا ولم يكن خاضعًا للأحاسيس، لما بذلت ساعة من عمري على أحد، ولكن الآن عليه أن يخرج ويتكلّم ويقيم جلسة في طهران جلسة قرآن، ومحاضرة ليلة الثلاثاء، وتلك الأحداث التي واجهها بعد رجوعه من النجف وبداية الثورة والإعداد للثورة سنة ٤٢ هجري شمسي، ومرافقة قائد الثورة السيّد الخميني رحمة الله عليه في تلك الأحداث التي وقعت، فلماذا كان كلّ ذلك؟ لقد كان تكليفًا، كلّ ذلك كان تكليفًا، كلّ ذلك كان وظيفة، ولمدّة عشرين سنة كان هذا الرجل في طهران سنة بعد سنة، والحال أنّه قال لي: لم أبق ساعة واحدة في طهران باختيار منّي، ساعة واحدة لم تكن باختيار منّي، مدينة طهران التي يتنازع عليها الجميع، هو يقول: حسنًا بماذا تختلف طهران عن غيرها، فالمدينة مدينة، وبماذا تختلف القرية عن المدينة، هذا كلّه ماذا؟ كلّه خيال وكلّه تخيّل.
كنت في مجلس كان فيه عدد من العلماء من أئمّة الجماعة في مساجد طهران، فقد كان هناك مجلس في منزل أحد العلماء المعروفين والذي انتقل إلى رحمة الله قبل سنة أو سنتين، كان هناك مجلس عزاء، وكان عدد كبير من العلماء حاضرين، وذلك في تلك المرحلة التي تشرّف فيها والدنا بالانتقال إلى مشهد وتشرّف بالتوطّن عند عتبة عليّ بن الرضا عليهما السلام، ففي تلك الأيّام ذهبت إلى ذلك المجلس، وكان سؤال الحاضرين في ذلك المجلس لي هو هذا، فانظروا جميع الحاضرين حوالي ثلاثين أو أكثر من أئمّة الجماعة في مساجد طهران كانوا حاضرين، وكلّهم بلفظ واحد كانوا يسألونني هذا السؤال: رغم وجود المريدن والتلامذة والموقع الذي كان له في طهران لماذا هاجر إلى مشهد؟!
فالحديث هو عن المكانة الجيّدة، الكلام هو عن المريد والتلميذ والإمام والمأموم، الكلام عن الموقع، الكلام عن الأمر والنهي والمجالس وأمثال ذلك، لم يتحدّثوا أبدًا عن الهدف وأنّه ماذا كان؟ وماذا كانت نيّته؟! هل ذهب لأجل آخرته؟! ما هي المشكلة التي كانت هنا حتّى ذهب إلى هناك؟! النفس فقط فقط.
الفرق بين حجّ أولياء الله وحجّ غيرهم
هل رأيتم عندما يرجع الناس من الحجّ ماذا يسألونهم؟ كيف كان الطقس؟ سمعت أنّ الطقس كان… ما شاء الله ما شاء الله، لقد سافر المسكين شهرًا إلى المدينة وإلى مكّة، ذهب إلى تلك المواقف إلى كلّ تلك المشاهد المشرّفة، ذهب إلى النبيّ، إلى السيّدة الزهراء، إلى أئمّة البقيع، عرفات، منى وتقول له: هل كان الطقس جيّدًا؟! كيف كان الازدحام؟! سمعت أنّ الحجّاج كانوا كثيرين هذه السنة وكان هناك ازدحام، فهل هذا كلام؟! هل هذا سؤال عن الأحوال؟ هل هذا تصرّف؟ فلتقل له كيف كانت حالك هناك؟ ماذا أدركت؟! كيف تبادلت المحبّة مع الله؟ كيف رأيت النبيّ؟ كيف كانت حالك؟ لا شيء لا شيء أبدًا، ولا خبر عن هذه الأمور.
عندما كان المرحوم العلاّمة يزور من رجع من الحجّ كان يسأله: حسنًا ما أخبار الله؟! لم يكن يسأل: كيف كان الطقس؟ كان يسأل عن الله. وعندما كان يزور راجعًا من كربلاء والعتبات المقدّسة كان يقول له: كيف كان أمير المؤمنين عليه السلام؟ هل كان بحال جيّدة؟ هل كان جيّدًا مسرورًا؟ وكيف كان الإمام الحسين عليه السلام. فهكذا كان هؤلاء يسألون! وخلق الله كانوا يسألون بذاك النحو.
رجعت مرّة من الحجّ وكان هناك مجلس فجاء بعضهم لزيارتي في قم هذه ولن أذكر اسمهم ليعلم من كانوا، ففي هذا المكان المقدّس، لم يسألني أنا المسكين أحد ولو بكلمة واحدة عن عوالم المعنى والارتباط والمشاهد والخصوصيّات والحال والكيفيّة، ولم يكن هناك إلا سؤال هكذا: هل كان الطقس حارًّا؟ هل كان باردًا؟ هل كان هناك ازدحام؟ كيف كانت الأوضاع في منى؟ كيف كانت في عرفات؟ هل تعبتم أم لم تتعبوا؟ كانت جميع الأسئلة حول هذه الأمور، وقد أجبت عليها بدوري بهذا المقدار. فهذا هو مقدار المعرفة ومستوى الإدراك من المشاهد المشرّفة هناك، والعوام وغير العوامّ سواء في هذا المقدار، ولا يختلف الأمر فيه.
ولكن عندما يزور أولياء الله مكّة… فقد زارها الوالد وكنت برفقته مع أخي الأكبر وكنت حينها لم أبلغ السابعة عشرة، كنت في السادسة عشرة والنصف، قريبًا من السابعة عشرة، فقد كانت رحلتي الأولى مع المرحوم الوالد وطالت شهرًا، ورجعنا، وبقينا شهرًا في العتبات المقدّسة وكربلاء وغيرها في منزل السيّد الحدّاد، فقد كنّا طيلة هذا الشهر والثلاثين يومًا هناك، أو أقلّ من ثلاثين يومًا، ربّما اثنين وعشرين يومًا أو ثلاثة وعشرين يومًا، لأنّا قضينا ما يقارب سبعة أيّام أو ثمانية أيّام في زيارة سامرّاء والكاظميّة والنجف، فقد بقينا ثلاثة وعشرين يومًا أو أربعة وعشرين يومًا، وفي خلال هذه الأيّام الثلاثة والعشرين أو الأربعة والعشرين عندما كنت أستيقظ كلّ ليلة، وطبعًا في تلك الليالي التي كان من المقرّر أن أستيقظ فيها وأسمع شيئًا وإلا ففي كثير من الليالي كنت أبقى نائمًا حتّى أذان الصبح فيوقذوني للصلاة، ولكن في تلك الليالي التي كان من المقرّر أن أستيقظ فيها، وكنت غالبًا أستيقظ بهدوء والغطاء على رأسي لا أحرّكه كيلا يلتفتوا، ولم أكن أعلم أنّهم هم الذين أيقظوني كي أسمع شيئًا في هذه الثلاث والعشرين ليلة التي كنت فيها هناك، ففي كلّ ليلة كان هذان الاثنان يتحدّثان ثلاث ساعات حول مسائل الحجّ، ثلاث وعشرون ليلة. الطقس حارّ؟! الطقس بارد؟! هناك ازدحام؟! كان الحجّاج مليوني حاجًا أم مليون حاج؟! فهل هذه الحِجّة بمرتبة واحدة مع سائر الحجج؟! كلاّ بل لها حساب خاصّ. لقد كنت أسمع في بعض الليالي أمورًا عجبية أبقى مضطربًا بعدها طوال النهار. فهل هذه الحجّة وغيرها سواء؟! هل هما من نوع واحد؟! ومن ذلك ما كشفته للمرحوم العلاّمة في أواخر عمره قبل وفاته ببضعة أشهر فقال لي: ما هذا؟ فقلت: هذا ما قلتموه في إحدى الليالي. فقال: لا تقله لأحد! هذا خطير فلا تقله! قلت: كلا. فأنا إلى الآن لم أخبر إلاّ بواحدة منها وخفت ممّا هو أعظم منها فلم أصرّح بها.
فأولياء الله هؤلاء عندما يحجّون ويزورون العتبات المقدّسة هكذا يزورونها، ثمّ لماذا بعد ذلك يأتون ويتعاطون مع الناس؟! لماذا؟ ألكي يضاف إلى صفّ جماعتهم اثنان؟! دعهم لا يأتون إلى جماعتهم إلى مائة عام!
رفض المرحوم العلاّمة تأخير الصلاة بانتظار التجّار
جاؤوا إلى المرحوم العلاّمة وقالوا له: أخّر صلاة الظهر قليلاً، ففي النهاية نحن نريد أن نغلق المتاجر.
ـ أغلقوها قبل نصف ساعة.
ـ ماذا سيفعل الزبائن؟!
ـ هل تريد الزبائن أم الله؟! فأنا أصلّي عند الوقت والسلام، فإن شئت تعال، وإن شئت فلا تأت. وقد كان هكذا حتّى نهاية عمره، وهكذا فارق الدنيا.
ـ الآن لرعاية المؤمنين…
ـ هؤلاء المؤمنون هم خدعة نخادع بها أنفسنا، فما معنى رعاية المؤمنين؟! لماذا لا يراعون هم لدقيقتين؟! لا بدّ أن تكن المراعاة من طرف واحد فقط، تعال أنت قبل دقيقتين من متجرك وأغلق بابه، اترك عملك وبرنامجك قبل دقيقتين فلا إشكال، لماذا يجب أن تكن المراعاة من جهة واحدة، لماذا لا بدّ أن تعطّل السنّة؟ لماذا لا بدّ أن يكتم الحقّ لأجل الباطل ويتجاوز عنه لماذا؟! من أراد فليتفضّل بسم الله! فهكذا هم الناس، فاليوم لأجل بضعة دقائق نؤخّر الصلاة، وغدًا لأجل أمور أخرى لا إله إلا الله، لقد تخلّوا عن أشياء كثيرة، لقد داسوا على الحرام والحلال! لقد بدّلوا حكم الله من أجل الناس! وحينها ستكون الأمور دقيقة وظريفة جدًّا، وفي النهاية ستصل المسألة من أجل الحفاظ على هذه المكانة إلى الفتوى بقتل ابن رسول الله! إلى هنا تصل الأمور، إلى هنا.
فهذه المكانة وهذه الحالة هي لأولياء الله، وهذا الأمر يحوز أهميّة فائقة للغاية وهو أنّ هؤلاء في مقدّمة فعلهم وعملهم وفي مقام الاتّصال بالتوحيد وبالمبدأ يتشكّل الوحي، فهم لا ينقصون شيئًا من أنفسهم ولا يزيدون، ويعملون في ذلك المسير وفي ذلك المقام.
وجود الجنّة والنار في الدنيا إلى جانب آلام الدنيا ولذائذها
يقول الإمام السجّاد عليه السلام في هذه الفقرة من الدعاء: «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت» فعندما أنظر إلى ذنوبي تسيطر عليّ الوحشة. لماذا؟ لأنّي أرى في ذنوبي تلك النار التي تتحدّث عنها يوم القيامة: ﴿وهم من فزع يومئذ آمنون﴾۱. فالمؤمنون والصالحون في أمان من تلك النار، تلك النار التي أوجدناها نحن بأنفسنا تمامًا كما نوجد الجنّة. فأولياء الله هم في الجنة وهم لا يزالون هنا في الدنيا، غاية الأمر أنّ هذه الجنّة هي جنّة مقرونة بالمتاعب والصعوبات، فيها مرض، فيها موت، فالأقارب يموتون، وفيها صعوبة، وفيها ديون، وفيها ضيق، وفيها أمور مختلفة من الأحداث التي تحيط بهم.
جانب من آلام رسول الله صلى الله عليه وآله وأمير المؤمنين عليه السلام في الدنيا
فهل سمحوا لرسول الله أن يشرب قطرة ماء مطمئنًّا؟! فكم من الحروب خاض؟! وكم من المصائب تحمّل؟! كم سبّب له المنافقون من فتن في المدينة وفي مكّة، ناهيك عن فتن اليهود وأمثالهم؟! ثمّ بعدما سمّموه بتلك الحالة وقتلوه، سبّبوا تلك الأزمات لأمير المؤمنين وكفن رسول الله لم يجفّ بعد، وذهبوا بقيمة الإسلام أمام اليهود والنصارى، أحكومة الإسلام تقتل ابنة النبيّ بين الحائط والمسمار؟! فماذا قال اليهود والنصارى حينئذ؟! ماذا قالوا؟! قالوا: حكومة إسلامكم المتمثّلة بالخليفة الأوّل والخليفة الثاني هي التي قتلت ابنة نبيّكم أنتم؟ أهذا هو الإسلام؟! لئن كان هذا هو الإسلام فسيقول اليهوديّ والمسيحيّ: لا أريد أن أكون مسلمًا ولو بعد ألف سنة إن كان هذا هو الإسلام! فالإسلام الذي يقتل ابنة النبيّ بين الحائط والمسمار، ويقطع عنق الذين لا يقبلون به كمالك بن نويرة ثمّ يزني بامرأته في الليلة نفسها، فهذا الإسلام لن يقبل به ولو بعد ألف سنة لا اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا الشيوعيّون!
من جرائم الخلافة: قصّة مالك بن نويرة
فمن كان مالك بن نويرة؟ قال: إن كان النبيّ قد اختارك ونصّبك للولاية في يوم الغدير فأهلاً وسهلاً بك.
فقال: لقد انتهى الأمر ومضى هذا الكلام.
ـ حسنًا إن كان مضى هذا الكلام فأنا أيضًا أعرف ماذا أصنع، أمضي وشأني.
قال: تعرف؟! أنا سألقّنك درسًا لن تنساه أبدًا يجعلك تتذكّر حتّى أيّام رضاعك!
فمن الذي قال هذا الكلام؟ إنّهم حكّامنا المسلمون، قاله جناب الخليفة الأوّل وقاله جناب الخليفة الثاني!
ـ أنا أخرج على الحكومة مادمتم هكذا.
ـ أتخالفنا يا مالك بن نويرة ولا تدفع لنا الزكاة؟!
جاء فقهاء تلك الحكومة الإسلاميّة ووضعوا خطّة أن ماذا علينا أن نصنع؟! فالخليفة الأوّل ليس نبيًّا حتّى يقولوا: خالفته، فلم يتعاملوا معه على أنّه مخالف لحكومة الإسلام، بل على أنّه مرتدّ، والمرتدّ واجب قتله، فازحفوا نحوه بالجيوش! فزحفوا نحوه، فجاء إليهم فقال لهم: لماذا تهاجموننا؟ فأنتم تصلّون ونحن نصلّي، أنتم تصومون ونحن نصوم، فلماذا؟ فلم يجدوا جوابًا. وهو قويّ أيضًا لا يمكنهم القضاء عليه، فأعطوه الأمان لكي يصالحوه، وفي أثناء الصلاة يشهر خالد سيفه ويضرب عنق مالك وهو في صلاته. هذه حكومة الإسلام! هذه هي الحكومة التي أرانا إيّاها الخلفاء وهم مسلمون. لقد خرج على الحكومة فصلاته لا قيمة لها لماذا تصلّي؟! عبثًا تصلّي.
ـ حسنًا فما شأن الآخرين؟ لماذا كانت الأعمال الأخرى؟ لماذا اعتديتم على زوجته؟! حسنًا قتلتموه هو لا بأس، ولكن لماذا تعتدي على زوجته يا عديم الأصل والمبعوث من قبل الخليفة يريد أن يطبّق حكم الإسلام؟! أهذا جزء من الارتداد؟! هذا جزء من الأوامر؟!
ـ لا، لدينا حكم لهذا أيضًا، فلا تحزن! فما دام هناك فقهاء مستأجرون وجناة فلا داعي للقلق، فهذا أيضًا ندبّر أمره ولا إشكال أبدًا، يأتي خالد بن الوليد إلى الخليفة عمر، ولأجل الاختلافات القبليّة التي كانت بينهما في أيّام الجاهليّة لا لأجل الإسلام يعاتبه: أقتلته؟! لماذا قتلته؟!
ـ هكذا.
ـ لماذا زنيت بزوجته؟!
ـ إنّه مطمئنّ لماذا؟ لأنّه يستند إلى ركن وثيق، فما دام الإنسان مستندًا إلى أحد فإنّه يفعل ما يحلو له فلا مشكلة، فإنّه يستند إلى جناب الخليفة، يدخل فيقول كلامًا لأبي بكر: إن شئت أن لا يغمَد السيف الذي جعله الله في يدك لمساعدتك فاحتفظ بي لنفسك. وأبو بكر يرى أنّه ليس هناك خير منه يحفظ له حكومته الإسلاميّة، فلا بدّ أن تُقوّى وتؤيّد وتحمى الحكومة الإسلاميّة للخليفة، ولا بدّ من اقتلاع المخالفين وقمعهم، فمن يفعل ذلك؟! هنيئًا لك، قتلت واحدًا؟! فاذهب واقتل ألفًا. اعتديت على واحد؟! فاذهب الآن واعتد على من شئت سواء من الرجال أم من النساء. لماذا؟ لأنّه يؤيّد حكومتنا. فهذا هو الدين الذي جاؤوا به وقدّموه للنّاس. فهذا يريد أن يحكم بهذه الحالة، يريد أن يحكم فيقتل ابنة النبيّ، لا بدّ من إزالتها من الطريق، لا بدّ من إزالتها من أمامنا، فبوجودها لا يمكن الحكم، فيبرّر لصاحبه ويبرّر لنفسه، ويؤوّل من أجل يومين، فكم حكم أبو بكر؟! سنتين. فهذا أمير المؤمنين عليه السلام على هذه الحال، وذاك النبيّ صلّى الله عليه وآله على تلك الحال، وفي المقابل هذا هذا على هذه الحال أيضًا.
معنى "فبصرك اليوم حديد" و"لو كشف الغطاء لما ازددت يقينًا"
فالجنّة موجودة في هذه الدنيا لأولياء الله وللمؤمنين، رغم وجود هذه المتاعب رغم وجودها، فإذا ما تركوا هذه الدنيا فلا متاعب، فقط هذا هو الفارق، لا أنّه إذا ما تركوا هذه الدنيا فتح لهم فصل جديد، نعم المؤمنون الذين هم أفراد صالحون ولكن أعينهم لم تفتح هؤلاء يحصل لديهم ﴿فبصرك اليوم حديد﴾۱ فهناك يحصل لهم تجلّي ذلك، ويحصل لهم تجلٍّ جديد بانتقالهم من هنا إلى هناك. لذلك يقول الإمام: «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا»٢. فلو أزيح الستار وأردت أن أغادر هذه الدنيا إلى عالم آخر فلا يحصل لي شيء جديد، فأنا أعرف كلّ شيء، لقد وصلت إلى جميع الأماكن، ولديّ اطّلاع على كلّ شيء، أنا الآن أعيش في الجنّة. وفي المقابل فإنّ الكفّار هم أيضًا كذلك.
كيفيّة إيقاد النار واختلاف مراتبها بحسب أنواع الذنوب
فإذن من هنا ندرك أنّ نار جهنّم التي هي هنا لم يصنعها الله بأن يأتي بالنفط والبنزين والخشب ويريقهما فوقه ويشعل نارًا ثمّ يلقي فيها الإنسان، كلاّ بل النار هناك هي حسب الأعمال التي قام بها كلّ إنسان في هذه الدنيا. فهناك إذن جهنّم بعدد أفراد الناس، فهذا جهنّمه بهذا المقدار، وذاك جهنّمه بهذا المقدار، ذاك مقدار إحراقها بهذا المستوى، وهذه إحراقها بهذا المستوى، فكيفيّة نار ذاك الذي ناره هي بسبب الزنا تختلف عن تلك النار التي هي بسبب قتل النفس المحترمة، فتلك بنفسجيّة وهذه حمراء ـ وأنا أمثّل مجرّد تمثيل وإلا فنار يوم القيامة لا لون لها ـ فتلك بنفسجيّة وهذه حمراء، وتلك زرقاء وتلك سوداء، وتلك بيضاء، يزداد نور تلك النار ولمعانها كلّما ازدادت حرارتها، فعندما تشعلون شمعة فإنّها تكون في أوّلها بيضاء، ثمّ صفراء، ثمّ شيئًا فشيئًا غامقة اللون إلى أن تتبدّل إلى دخان.
كلّ ذنب تقوم به هنا عن عناد واستكبار لا عن خطأ وزلة وعن جهل، كلّ ذنب يقوم به الإنسان له نار خاصّة به بمستوى الكدورة الحاصلة له عند القيام به، فلو ارتكب شابّ في العشرين من عمره ذنبًا فإنّ نار ذنبه تختلف عن نار من يرتكب الذنب نفسه في عمر الخمسين، فالأوّل ناره صغيرة والثاني ناره تبلغ إلى العرش، ذنب واحد ولكنّه وقع على هيأتين وفي ظهورين، فيقاس هذا الذنب بحسب مستوى الخصوصيّات العلميّة والنفسيّة والمقام والمحيط، فلهذا زيدوا غِرامًا واحدًا وزيدوا لهذا أوقية وزيدوا لذلك كيلوغرامًا. فالذنب واحد، ولكن هذا يكتب له بوزن غِرام واحد، وذاك يكتب له كيلوغرام، فهذا يوضع له كوب وذاك عين ماء وذاك نهر وذاك واد وذاك بمقدار صحراء كاملة. فكلّ إنسان بنحو.
لذلك يقول: ﴿من قتل نفسًا﴾ محترمة فلا تظنّوا أنّا نكتب له قتل نفس واحدة، بل نكتب له ذنب قتل جميع الناس ﴿فكأنّما قتل الناس جميعًا﴾۱ فالله هنا لم يقل هزلاً، بل قال فصلاً، كلام الله فصل، كلام الله حقّ.
وهكذا هو الحال إذا عمل إنسان عملاً صالحًا كما ذكرنا، فبمقتضى معرفته ومقتضى نيّته ومقتضى مستوى رقيّه [يجعل له من الثواب والنعيم]، فلو أدّي حج، فذاك يسأل عن الحرّ والبرد والازدحام وأنّه هل كان هناك حرّ أم برد أم مرض؟ هل مرضت ولم تقدر على أخذ البنسلين؟ هل شربت الدواء أم لم تشربه وتعبت؟! فهذا يسأل عن ذلك ويؤدّي حجًّا، وذاك أيضًا يؤدّي حجًّا أنا لم أفهم بعد خمس وأربعين سنة ذاك الكلام الذي جرى حوله في تلك الليلة وأنّ ذاك الكلام إلى أين ينتهي وبأيّ شيء يرتبط، فهذا حجّ أيضًا، فهل هذان النوعان من الحجّ سواء ولهما مستوى واحد من الثواب والدرجة من تجرّد النفس وانكشاف الحقائق للإنسان؟! ذاك يحجّ فيكتب له سانتيمتر واحد إن كتبوا له، سانتيمتر واحد، وهذا يحجّ فلا يتمكّن حتّى جبرائيل من كتابة ثوابه لأنّه ليس تحت قدرة جبرائيل، ليس تحت قدرة الملائكة المقرّبين وسيطرتهم، وقد بيّنت هذا الأمر، فهذا نوع وذاك نوع آخر.
جهتان في خلق الجنّة
فإذن وبناء على ذلك، فإنّ للجنّة التي خلقها الله للمؤمنين يوم القيامة جهتان:
الجهة الأولى: جهة الانتساب إلى ذات الله، وجميع الأشياء تنبع من مبدئه الفيّاض. وهذه الجهة محفوظة [لا تنتفي بسبب الجهة الأخرى].
الجهة الثانية: مستوى تأثير الفرد في إيجاد تلك الجنّة وخلقها، فبمقدار ما يكون ذلك الإنسان مخلصًا وصادقًا في عمله وفي كلامه وفي استماعه وفي صلاته وفي علاقاته، ولا يخادع نفسه والآخرين ويقرّب نفسه إلى الحقيقة، فإنّهم يجعلونه بهذا المستوى في تلك المرتبة.
تلك الصلاة التي تصلّيها والتي تخرجُ أثناءها من عينك قطرة دمع فقد خلقت في تلك اللحظة وبهذا المستوى الحورَ والغلمان، لم يخلقهما الله بل أنت خلقتهما، فخلق هذه الحور والغلمان ليس هكذا بأن يخرجهما الله من المصنع كالسيّارة، فهل رأيتم السيّارة، يجعل الحديد والأسلاك والبلاستيك وأمثال ذلك في جهة من المصنع فتخرج من الجهة الأخرى سيّارة، سيّارة جميلة لها عجلات ولها عجلة قيادة ولها محرّك ولها ناقل الحركة كلّ ذلك منظّمًا ومرتّبًا، فاليوم لا بدّ أن يصنع هذا المصنع مائة سيّارة وغدًا مائة وعشرة وهكذا حتّى يخرج خلال شهر هذا المقدار من السيّارات لا أكثر ولا أقلّ، وفق ما نظّم على أساسه، فلم يخلق الله الحور العين ولا هيّأها وجعلها إلى جانب ميزانه، مثلاً خمسة ملايين من الحور، وخمسة ملايين ليست بشيء بالقياس إلى هذا العدد من الناس وهذا التمجيد الذي قدّمه الأعاظم، فنحن لم نرَ، نحن قلوبنا صادقة فوثقنا… يقال إنّه دخل أحدهم مجلسًا وكان من إحدى البلدان، فرأى أنّ الجميع يضحكون فأخذ يضحك هو أيضًا، قالوا لماذا تضحك؟ قال: أنا وثقت بكم من الآن حتّى أفهم ما تقولون. ونحن الآن وثقنا بما قاله الأعاظم وإلا فماذا نعرف نحن؟!
كيف تُخلق الحور والغلمان والجنّات والأنهار؟
فما هي الحور العين وما الغلمان؟ لقد سمعنا عن هذه الأمور قليلاً أو كثيرًا، فالرؤية لهم والسماع لنا، وقالوا لنا بما يناسب أفهامنا، فليس الأمر هكذا وأنّ الله جعل عددًا من الحور جانبًا ثابتة مغلقة لا يصيبها أيّ تغيير، ثمّ إذا جاء الإنسان يقال له: هذه لك فلا تتنازع، وهذه لك أنت وأمثال ذلك، فهذا نحو من الأنحاء التي يمكن تصوّرها، والتصوّر الأدقّ والأصحّ هو أنّ تلك الحور العين تُخلق عند العمل الذي يقوم به الإنسان حين الصلاة،، فذاك العمل يخلق الحور، ويخلق ﴿جنّات تجري من تحتها الأنهار﴾۱، ويخلق تلك النعم التي في الجنّة، وأعلى من ذلك أنّه يخلق ما لا يخطر في خيالنا، فمادمنا في دائرة تصوّر النعم الإلهيّة، فنفوسنا في قدرتها الملكوتيّة تخلق وجودًا ملكوتيًّا بحسب ذلك المستوى، فإن كنّا نبحث عن النعمة والالتذاذ الروحيّ والنفسي فإنّ تصوّرنا ذاك مقرونًا بالنيّة الخالصة هو الذي يوجِدها، إنّه ذلك المصنع الذي يصنع الحور والغلمان، ويصنع الفواكه، ويصنع الأنهار ﴿أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبين﴾٢ هذا المصنع يصنع هذه النعم والأغذية ﴿وَ فيها ما تَشْتَهيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾٣ لماذا؟ لأنّ نفوسنا عند القيام بهذا العمل هي في هذه التخيّلات وفي هذه المشتهيات وفي هذه الميول، فلو خرج إنسان من هذا الاشتهاء ومن هذا الالتذاذ فإنّ الصلاة التي يصلّيها لو أنّهم جاؤوه بواحدة من الحور أثناءها ووضعوها أمام السجّادة لما بالى بها، لا أنّه يكفّ نفسه، لا أنّه يجعل نفسه غير مبالية ولكنّه في الواقع يريدها، وطبعًا هذا جيّد أيضًا أن يكون الإنسان في الواقع يريد شيئًا ويريد أن يلتفت إلى شيء ثمّ يمنع نفسه منه، ففي النهاية لا يوجد إنسان يستاء من الجمال ولا أحد يستاء من الشيء الجميل، فمن كان كذلك فهو ناقص وليس إنسانًا. کلاّ ليست حال هذا الإنسان الذي نتكلّم عنه هكذا، بل هو من ناحية القدرة الروحيّة والالتذاذات الروحيّة حاله كحال جناب حافظ لا يمكنه أن يتنزّل ويصرف وقته بمظاهر المادّة هذه ويأنس بهذه الملذّات، فهذا الإنسان هكذا.
قصّة الإمام الكاظم في سجن هارون
أراد هارون أن يمتحن موسى بن جعفر عليه السلام حسب توهّمه وأن يحقّر موسى بن جعفر في أعين الآخرين، وقد فعل المأمون أيضًا ذلك، كان موسى بن جعفر عليه السلام في المدينة فسجنه وقيّده وألقى القبض عليه وأخذه من جوار قبر النبيّ صلّى الله عليه وآله، فيا لهم من منافقين! ويا لهم من شياطين! يلقي القبض على ابن النبيّ صلّى الله عليه وآله وهو إلى جانب قبره، أنا آسف يا رسول الله، أنا حزين جدًّا لأنّي أفعل ذلك، فماذا أفعل؟! لا مفرّ من ذلك فماذا أفعل؟!
سقاك الله سمًّ الأفاعي! ابتعد من هنا! فما معنى "ماذا أفعل؟"، فـ "ماذا أفعل؟" هذه هي لأنّ السلطة ستذهب منك، حسنًا فلتذهب وإلى الجحيم! الناس لا يريدونك؟! فليكونوا هكذا فما معنى ذلك؟! فما معنى القتل؟! وما معنى إلقاء القبض على موسى بن جعفر عليه السلام؟! فابن النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى جانب أهله وأبنائه، فلماذا تلقي القبض عليه؟ فما هذا الكلام؟! حسنًا إن كانوا لا يريدونك فلتتنحّ جانبًا! جاء باكيًا أن ماذا أفعل يا رسول الله؟! يا بن العم يا ابن العم. سأريك معنى ابن العمّ يوم القيامة! أتقول يا ابن العمّ؟! أأنست بهذين اليومين من أيّام الدنيا، وتقول في قلبك: أيّتها الشمس أشرقي حيث شئتِ فإنّك في ملكي، وأيّها السحاب أمطر حيث شئت… وتظنّ أنّ الأمر قد انتهى. كلاّ يا عزيزي غدًا ستلقى حسابك وسترى معنى قولك «ماذا أصنع يا ابن العمّ فلا مفرّ لي إلاّ أن ألقي القبض على موسى بن جعفر عليه السلام وأرمي به في السجن؟»
والإمام يقول: حسنًا افعل، أتخال أنّك بإلقاء القبض عليّ تحلّ المشكلة أيّها الشقيّ، أتخال أنّ مشكلتك تحلّ بذلك؟! أتخال أنّك ستحكم بذلك إلى الأبد، أماتك الله وأقبرك، فما كتبه الله لك من العمر لا ينقص ثانية واحدة ولا يزيد، أتريد أن تلقي القبض عليّ أيّها الأحمق؟!
الهدف من نعمة العقل والمقدار الذي يكفي منه لإصلاح أمور الدنيا
حقًّا لو أنّ الناس كانوا يملكون عقولاً أكبر بقليل ولو بمقدار حبّة شعير لا أكثر فهذا يكفي وحده، فأنا أظنّ أنّ هذا يكفي، فهذا العقل الذي أعطانا الله إيّاه ليس لهذه الأمور والحكومات الظاهريّة وإصلاح الدنيا، هذا العقل الذي أعطانا الله إيّاه هو لأجل الوصول إليه، فلأجل إصلاح الأمور الظاهريّة يكفي مقدار حبّة شعير منه، وحتّى مقدار حبّة الشعير هذه هم لا يملكونها، فكم مقدارها؟ لا تبلغ غِرامًا واحدًا، فلو كان لإنسان ما مقدار شعيرة من العقل لكفت أن لا يظلم، أن لا يقتل الناس، أن لا يعتدي، وأن يعطي كلّ إنسان حقّه، وأن يعدل، أن يتعايش مع الناس، وأن يعيش بينهم بسلام وصفاء، فحبّة شعير واحدة تكفي، والباقي من الجبل الذي أعطانا إيّاه الله من العقل نتركه له، فمقدار شعيرة يكفي، والحمد لله هو لا يملك حتّى هذا المقدار، يقول: ألقي القبض عليه وأسجنه. والإمام يقول: أتسجنني حسنًا لا بأس.
شكر الإمامِ اللهَ لتفريغه للعبادة في السجن
والإمام يقول في السجن الحمد لله، فقد كنت مشغولاً حتّى الآن مع الناس، كانوا يأتون ويطرقون بابي ويسألونني مسائلهم، وقد استرحت الآن، فقد ألقوا بي في السجن، لقد كنت أريد مكان خلوة يا ربّ، وقد هيّأته لي، ثمّ من هذا السجن إلى ذاك ومن ذاك إلى ذلك، وحقًّا يا لها من مسائل معيبة يراها الإنسان في هذا التاريخ وسيراها، أيّ أمور ووقائع! ومهما فعل كان يرى أنّ موسى بن جعفر يتابع أعماله يعبد الله، يسجد صباحًا ويرفع رأسه ظهرًا، ثمّ يسجد ظهرًا ويرفع رأسه عند المغرب، فهذا هو عمله، هذا هو الذي يدور كلّ ما سوى الله تحت فصّ خاتمه، وأنت حبست الآن هذا الإنسان الذي يدور كلّ ما سوى الله تحت فصّ خاتمه، هذا الذي سجد، هذا بعينه، أنت تلقي بهذا في السجن؟! جميع الملائكة تحت أمره. أيّها المسكين ماذا تفكّر؟ إنّ جميع الملائكة تحت أمر هذا، ثمّ بعد ذلك تلقي به في السجن، لماذا؟ لتبقى حكومتك محفوظة، تبقى حكومتك بعيدة عن المشاكل وبغير موانع، أهذا هو فهمك للإسلام؟! إلى هذا المستوى بلغ؟! الأطفال يضحكون من ذلك.
جارية في السجن مع الإمام
جاء بإحدى الحسناوات وأرسلها إلى سجن موسى بن جعفر عليه السلام، امرأة فائقة الجمال، حتّى يرى بعد ذلك أنّ موسى بن جعفر يتمايل إليها، يجلس ويتحدّث ويضحك معها، وفي المقابل يجلس عند نافذة السجن ينظر فينادي تعالوا وانظروا هؤلاء الذين يدّعون التقوى، فهؤلاء لم يكن قد تهيّأ لهم الأمر، وإلاّ تعالوا وانظروا!
ولكن كان نصيب هذه المرأة جيّدًا ولم تكن تدري ماذا سيحلّ بها، وقد جاءت بتلك النيّة في النهاية، وقد أرسلها هارون، وكانت في قصره، فهو لم يأت بها من مسجد الكوفة، ولم يأت بها من المسجد الحرام، بل هي من تلك اللواتي كنّ في القصر واللواتي يقضي معهنّ مجالسه، فقد جاء بها من هؤلاء. جاءت وجلست، هناك إنسان يسجد هكذا، أصلا لا ينظر من هي هذه، وهي تكرّر قول السلام عليكم. فلا تسمع إلا عليكم السلام، وهذا من باب الواجب، وإلا لما أجابها، عليكم السلام ثمّ يجلس وكأنّ شيئًا لم يكن، ثمّ رقّ قلب الإمام عليها فاعتنى بها عناية فسجدت هي الأخرى، فلمّا رفع الإمام رأسه من السجود عند الظهر رفعت هي رأسها أيضًا، وإذا رفع رأسه عند الغروب رفعت هي رأسها أيضًا، فصارا اثنين، وأولئك يأتون مرارًا فينظرون فيتعجّبون ويقولون: كان واحدًا فصارا اثنين، فماذا نصنع نحن؟ ماذا أردنا وماذا حصل؟! وعمّ كنّا نبحث وماذا جرى؟! رأوا أنّها تأثّرت جيّدًا وأيّ تأثّر، وكم هو جيّد أن نتأثّر نحن أيضًا مثلها.
آنان كه خاك را به نظر كيميا كنند | *** | ... |
يقول: هؤلاء الذين يحوّلون التراب بنظرة منهم إلى ذهب
هذا هو فعلهم، عناية واحدة من موسى بن جعفر عليه السلام تجعل تلك المرأة التي كانت تثير الوجد والأنس في مجالس هارون ينتهي أمرها إلى حيث يرى هارون أنّه لا يمكن أن تحدث فضيحة له أكثر من ذلك، يأتي بتلك المرأة إلى القصر، ولكن يرى أنّها في عالم آخر، فهي أصلا لا تنظر، عينها ترى موضعًا آخر، إنّها لا ترغب في النظر إلى هذا الجانب، يتكلّم معها فلا تجيب، حائرة خرساء ذهنها في عالم آخر، إنّها ليست في هذا العالم، جيّد أنّك ترى بنفسك أيّها المسكين فلماذا لا تجعل نفسك مثله، يمكنه أن يجعلك هكذا، فلماذا أنت غارق في هذه السلطة وهذا العرش أيّها التعيس؟ وإلا فالإمام لا ينظر إلى أحد بتمييز، الإمام أب للجميع، فموسى بن جعفر عليه السلام هو أب لك أنت يا هارون أيضًا، تعال أنت أيضًا ليأخذ بيدك وليجعلك مثل تلك المرأة، فتعال الآن وانظر إلى حياتها، إنّها لا يمكن أن تكون هنا، لقد قرأت الفاتحة على القصر وهارون والخلافة وكلّ شيء، فأرسل بها إلى السجن بضعة أيّام، وقال اذهبوا وانظروا ما حالها، قالوا: إنّها تسجد صباحًا وترفع رأسها ظهرًا، ثمّ تسجد ظهرًا وقضت بضعة أيّام هكذا ثمّ انتقلت إلى رحمة الله، ذهبت إلى حيث يجب أن تذهب.
آنان كه خاك را به نظر كيميا كنند | *** | آيا شود كه گوشه چشمی به ما کنند |
یقول: هؤلاء الذين يحوّلون التراب بنظرة منهم إلى ذهب، هلاّ ينظرون إلينا بطرف أعينهم.
مستوى الجنّة التي يصنعها موسى بن جعفر عليه السلام في الدنيا
هذه هي الحقيقة، فموسى بن جعفر عليه السلام يصنع جنّته في هذه الدنيا، في هذه الدنيا بعينها في هذه الدنيا يجعل الجنّة، يصنع لنفسه في هذه الدنيا تلك النعم، فموسى بن جعفر عليه السلام هذا والذي يجعل أجمل امرأة في قصر الخليفة العبّاسي بتلك الحالة هل تُعِدّ سجدته الحور العين؟! إنّها ليست شيئًا! وهذا أمر معيب، إنّه إهانة للإمام، إنّه توهين بالإمام، إنّ سجدة موسى بن جعفر عليه السلام تُعِدّ له ذات الله وتأتي له بذات الله، وتحقّق له مقام الاتّصال بالذات، وتلك التجليّات الذاتية التي هي أرفع من مقامات وتجلّيات الأسماء والصفات الكليّة لله، تحقّق له هذا لا الحور والغلمان والجنّة والفواكه والمراتب وأمثال ذلك، إنّ سجدة موسى بن جعفر عليه السلام تهدي لموسى بن جعفر عليه السلام جنّة الذات، تقدّم له مقام القرب والأنس بذات الله والذي لا يتمنّى أن يتنزّل عنه لحظة واحدة إلى المراتب الجمالية والظهورات الجماليّة.
فإذن ما يقوم به أولياء الله والمؤمنون بصورة عامّة في هذه الدنيا على أساس تلك الجهة الملكوتيّة وذلك المقدار من الهدف والنيّة والإرادة التي في قلب كلّ واحد منهم، يحقّق لهم تلك المرتبة من النعم الإلهيّة في الذات وفي الجنّة، ولذلك لدينا في آيات القرآن أنّ الجنّة موجودة الآن وجهنّم موجودة الآن وهذا معنى ﴿وإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ﴾۱ أي إنّ عين هذا العمل هو صانع جهنّم ويصنع جهنّم، فليس لدينا جهنّم واحدة، لدينا جهنّم بعدد الناس يوم القيامة، وهناك جهنّم لهم بعدد الذنوب في المراتب المختلفة.
كيف ينسب الإمام الذنب إلى نفسه؟
والآن الإمام السجّاد عليه السلام يقول ـ وقد اقتربنا كثيرًا من الجواب ـ : «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت» إلهي عندما أنظر إلى ذنوبي تسيطر عليّ الوحشة، فمتى تحصل الوحشة للإنسان، عندما يرى جهنّم، فما لم يرها الإنسان وما لم ير الإنسان مكانته فلا داعي لأن تسيطر عليه الوحشة، وإن كان السادة لا يزالون يذكرون وملتفتين وحافظين لما ذكرنا في تلك الليالي فقد ذكرت أنّ الإمام لم يمازح هنا، والإمام لم يمثّل لي ولك فيلمًا، فالإمام لم يكن فنّانًا، والإمام أكثر صدقًا وجدّية وإتقانًا وإحكامًا منّا جميعًا في بيانه هذه الحقائق بين يدي الله، وكان أقرب إلى الواقع، وليس لدينا في الدنيا من هو أكثر صدقًا واعتقادًا فيما يقول من الإمام عليه السلام فيما يقوله لله، أفيأتي واحد من الأئمّة عليهم السلام ويمازح الله في خطابه له؟! أو يقول كلامًا غير حقّ؟ فأنت لم ترتكب ذنبًا فلماذا كلّ هذا البكاء؟! أنت لم تذنب فلماذا تقول: إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت؟! فمتى أذنبت أنت؟! بل متى ارتكبت مكروهًا لكي تفزع وتجزع هكذا؟ فبماذا يجيب الإمام السجّاد عليه السلام؟! هل الكذب جائز حتّى يكذب الإنسان؟! هل يمكن للإمام السجّاد أن ينكر الحقائق الخارجيّة؟ هل يمكن أن يقول: أنا لست ابن الحسين بن عليّ بل ابن زيد بن أرقم؟! هل يمكن أن يقول ذلك؟! لا يمكن أن يقوله، فالكذب كذب، والإمام السجّاد عليه السلام ولد من سيّد الشهداء، وأمّه معروفة إنّها شهربانو بنت يزدجرد، وقد توفّيت أثناء الولادة، والإمام السجّاد عليه السلام لم يرها، والد الإمام السجّاد معروف، وأمّه معروفة، وعائلة الإمام السجّاد معروفة، الجميع معروفون. وهل يمكن للإمام السجّاد أن يقول: ليس هؤلاء أصحابي، ليس أبو حمزة الثمالي وأمثاله أصحابي، بل هم رجال آخرون مثلاً من أبناء ما قبل مائتي عام؟! فهذا كذب، فكيف لا يكون هذا كذبًا؟! هذا كذب والإمام السجّاد عليه السلام لم يرتكب ذنبًا، فكيف يقول لله: لقد أذنبت؟! هل يمكن للإنسان في مقام مناجاة الله أن يغضّ الطرف عن المسائل التكوينيّة الخارجيّة؟! هل يمكن للإنسان أن ينكر القضايا التكوينيّة الخارجيّة التي تحقّق لها وجود خارجيّ؟! هل يمكن للإمام عليه السلام أن يقول إنّ جاري هو إنسان آخر؟! لا يمكنه، ولو قال فهذا كذب، سيكون قد أذنب، هل يمكن للإمام أن يقول: إنّ أبي هو إنسان آخر؟ هل يمكن أن يقول: أنا اليوم خرجت من المنزل ولم أر هؤلاء الناس، أو خرجت من المنزل اليوم ورأيت هؤلاء الناس والحال أنّه لم يرهم ومع ذلك يقول رأيتهم؟! سنقول له: يا بن رسول الله أنت لم ترَ أحدًا فكيف تقول إنّك رأيت؟! فيقول الإمام: حسنًا في هذا المقام أتكلّم هكذا.
ـ ليس لدينا كلام هكذا، فإمّا أن يقول الإنسان الصدق وإمّا أن يقول الكذب، والكذب لا يليق بالإمام، بل لا يليق حتّى بغيره من الناس فكيف به هو؟!
فماذا كانت قصّة الإمام عليه السلام حين يقول تلك العبارة؟ نعم تارة يقول الإمام عليه السلام إلهي إن لم تأخذ بيدي وقعت في الذنب، إن لم يشملني توفيقك… وكما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء الصباح: «إلهي إن لم تبتدئني الرحمة منك بحسن التوفيق، فمن السالك بي إليك في واضح الطريق»۱؟! فلولا توفيقك من يجعلني أسير في الطريق؟ فهذا صحيح، فالشيطان يمكن أن يغويني، الرفيق يمكن أن ينحّيني عن المسير، هذا كلّه صحيح، ولكن هل يقول أمير المؤمنين إنّي اليوم سرقت تلك السرقة، وقفزت فوق جدار الناس ونزلت إلى الأسفل وسرقت من الدار ذلك الشيء؟! لا يمكن، هل يمكن أن يقول هذا الكلام وهو لم يفعله، فما دام لم يفعله فلماذا يقول: إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت؟! ففي النهاية أنت لم تذنب، بل حتّى لم تترك الأولى، وسرّك متّصل بسرّ الله ، والعمل الذي يصدر عنك أنت أيّها الإمام هو فعل الله المتجسّد في عالم التعيّنات وفي عالم الخارج، فكيف يرتدي هذا العمل الذي هو عين الربط بذات الله ثوب الكدورة والظلمة ويتجلّى في النفس كعمل محرّم، كيف يمكن للإمام أن يكون قد قال كلامًا كهذا؟!
إن كان الرفقاء يذكرون فقد قلت في تلك الليالي إنّ العمل الذي يقوم به الإنسان له جهة تكوينيّة خارجيّة لا تسمّى ذنبًا، هي عمل خارجيّ، فأنا الآن أتكلّم وكلامي هذا لا هو ذنب ولا طاعة، بل هو كلام يتحقّق وألفاظ تخطر في النفس، غاية الأمر أنّها تستقرّ بعضها إلى جانب بعض وتتركّب بواسطة الإرادة وتنتقل بواسطة سلسلة الأعصاب فتخرج عن طريق اللسان، فهي لا ذنب ولا طاعة، لا شيء منهما، بحيث إنّكم لو ضغطّتم مفتاحًا يبدأ الشريط بالدوران ويخرج صوت، هذا الصوت الذي أصدره أنا يخرج من المسجّل، فهل تضربون المسجّل وتفسدونه؟ كلاّ فإنّما يخرج منه صوت لا هو ذنب ولا طاعة، صوت فقط، والصوت ليس ذنبًا، فما هو الذنب؟ الذنب هو عبارة عن ذلك الهدف والنيّة اللذان هما وراء كلامي هذا ويؤدّي إلى ظهور وبروز هذه الكلمات في الخارج، فهذا هو الذنب. وهذا العمل بنفسه لا يعدّ ذنبًا، فلو أنّ إنسانًا تسلّق جدران الناس عشرة آلاف مرّة فإنّ تسلّق الجدران فيه نفسه ليس ذنبًا، إنّه تسلّق للجدران، تمامًا كما لو أنّ القطة تسلّقت جدارًا وقفزت من فوقه فهل تكون مذنبة؟! الغراب يقفز من فوق الجدار والحمامة كذلك، والآن هناك إنسان قفز أيضًا فلم يرتكب ذنبًا، لماذا تتسلّق الجدار؟ هذا هو المهمّ لماذا تتسلّقه وتقفز من فوقه وتقوم بهذا العمل؟ هل هذا العمل ممّا يرضاه الله؟ لو قمت بذلك مائة ألف مرّة لا يكتبون عليك ذنبًا، وإن لم يكن هذا العمل ممّا يرضاه الله فحتّى لو لم تتسلّق الجدار فإنّه يكتبون عليك معصية، حتّى وإن لم تتسلّق، هذا ما تقدّم في ليالي شهر رمضان.
ما بقي في هذا المقام هو نتيجة الكلام وهي أنّ…
تفسير آية (كلّ ذلكَ كان سيّئه عند ربّك مكروهًا) وما قبلها من آيات
أذكر أنّ المرحوم العلاّمة ـ وقد تذكّرت ذلك الآن ـ قد تحدّث يومًا حول آيات في سورة الإسراء، فهناك آيات في سورة الفرقان تقريبًا ۱٤ آية تأمر بمسائل أخلاقيّة وبالواجبات والقيم والتكاليف ويبيّن خلالها القرآن صفات أولياء الله وتبدأ بقوله تعالى ﴿وعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً﴾ إلى آخرها، وهناك آيات أيضًا في سورة الإسراء يذكر الله فيها بعض التكاليف مثلاً، وهي تبدأ من هنا على ما يبدو: ﴿وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً﴾۱ تبدأ من هنا لا تحبس يدك في جيبك ولا تبخل وكذلك لا تفرّط وتبسط يدك كثيرًا بحيث إنّك إذا أردت أن تعطي تجد نفسك ملومًا محسورًا وتصاب بالحسرة. ثمّ يقول الله بعد ذلك: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبيراً بَصيراً﴾٢ لا تظنّ أنّ فلانًا إذ كان في ضيف فهو بعيد عن أعيننا، فنحن نقدّر لكلّ إنسان بمقدار ما يصلحه ﴿يبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ﴾ أي يضيّق ﴿وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ فعندما انطلق النبيّ يونس خارجًا ﴿ظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ خال أنّا لا نضيّق عليه ولا نعدّه من سائر الناس، ولكنّه لم يكن يعلم أنّا لسنا غافلين عنه، ولا نغفل عمّا يفكّر به، وأعددنا له برنامجًا لأجل إصلاحه ولأجل تصحيح أحواله وذلك البرنامج هو ﴿فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ وذكر اليونسيّة المعروف يرجع إلى هذه الحادثة.
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ﴾ ثمّ يقول: ﴿وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبيرا﴾٣ لا تقتلوا بناتكم وأولادكم من أجل الفقر، لا تقتلوهم وتقضوا عليهم من أجل ذلك ثمّ تستمرّ الآيات المختلفة هكذا: ﴿وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا﴾ ثمّ يقول: ﴿وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَه إِلَّا بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً﴾٤ فالنفس التي حرّمها الله والإنسان البريء لا تقتلوه، لا تقتلوا الإنسان البريء، إلا بالحقّ، كأن يقتل قصاصًا، أو قام بعمل يستحقّ عليه القتل شرعًا، وفي غير هذه الحالة فإنّ قتل الأبرياء هو سقوط في جهنّم على الرؤوس، سواء من يقتل أو يأمر بالقتل كلاهما في قعر جهنّم، ﴿ومَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً﴾ لا تظنّوا أنّكم إذ قتلتم إنسانًا ولم يعد يقدر على شيء فإنّ دمه سيذهب هدرًا، كلاً ﴿فقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً﴾ جعلنا لوليّ الدم سلطة أن عليه أن يحقّ الحقّ فإن استطاع فبها وإلا فمن وليّه؟ إمام زماننا الحيّ فهو وليّ دم الأبرياء الذين يقتلون ولدينا في تفسير هذه الآية أنّ ﴿ومَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً﴾ تعبيرها هكذا عن سيّد الشهداء عليه السلام أنّ الله جعل وليّ الدم إمام الزمان عليه السلام ولذا يعد بالنصر ﴿إِنَّهُ كانَ مَنْصُورًا﴾ فنحن جعلناه منصورًا، جعلنا نصرنا حليفه، ومن جهة أخرى فحيث إنّ الإمام عليه السلام وليّ على الجميع ومن لم يكن له وليّ دم فسيكون إمام الزمان وليّ دمه، فيحرق أنفاسه، فمن قتل إنسانًا بغير حقّ أو أمر بالقتل عليه أن يعلم أنّ خصمه إمام الزمان.
﴿وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَه﴾ وهكذا تتابع الآيات إلى قوله: ﴿وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ ثمّ بعدها ﴿وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا﴾ ثمّ آية أخرى وفي جميعها أمر بالعمل الواجب ونهي عن الإفساد فكلا هذين النوعين واردان في هذه الآيات ﴿وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا﴾ فماذا جرى حتّى صرت تمشي بين الناس هكذا بتبختر وتكبّر؟! فأنت لا يمكنك أن تخرق الأرض بأقدامك الثقيلة هذه، كما أنّك لا يمكن أن تصل إلى الجبال. فأنت إنسان كسائر الناس، لك من العمر سبعون أو ثمانون سنة لا أكثر، انظر إلى الآخرين وسر مثل الناس، رحم الله أولئك الأعاظم فحين كانوا يمشون كانوا يمشون وحدهم ولم يكونوا يسمحون لأحد أن يمشي خلفهم، ما إن يريد أحد أن يكلّمهم كانوا يقفون ويقولون له: إن كان لديك كلام فتفضّل، أنا أريد أن أمشي وحدي، وعندما يريدون أن يزوروا أحدًا… كأنّ بعضهم لا يمكنهم أن يمشوا إلا برفقة عشرة أو اثني عشر رجلاً معهم، وكأنّه يجب أن يكون خلفهم خمسة عشر رجلاً، لا بدّ أن يكون خلفهم صوت خفق النعال. ولا بدّ أن يدخلوا حين يدخلون وهم يثيرون ضجّة، فمثلاً لو كان هناك أحد في آخر الزقاق فإنّه لا بدّ أن يدرك أنّه فلان قد جاء، كلاّ فهذا ليس صحيحًا، يجب أن يكون الإنسان وحده، يجب أن يكون وحده.
فهذه الأمور تأتي وتبعد الإنسان وتبعده وتجعله متعلّقًا بهذه الدنيا، وتزيد التعلّقات، وتقيّد أيدي وأرجل الإنسان أكثر فأكثر، على الإنسان أن يعدّ نفسه وحيدًا، ولو أراد الآخرون في وقت من الأوقات أن يسيروا خلفه فلا بدّ أن يكون يقظًا ويقول: كلاّ أنا أريد أن أذهب وحدي وأشارك وحدي، تفضّلوا أنتم.
ره چنان رو که رهروان رفتند | *** | ... |
یقول:
اسلك الطريق كما سلكه السالكون.
فقد قال الأعاظم الحقائق لما فيه مصلحتنا، نحن علينا أن نقوم بها.
﴿ولن تبلغ الجبال طولاً﴾ لن تتمكّن من الوصول إلى الجبال بطولك. ثمّ يقول: ﴿وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا﴾۱ وفي الآية الأخيرة يقول: ﴿كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً﴾٢ لقد كان التفسير رائعًا جدًّا وقد تذكّرته الآن فجأة، فكم كان دقيقًا المعنى الذي يطرحه المرحوم العلاّمة في هذا المجال، فانظروا تقول الآية في الختام ﴿كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً﴾ سيّئه أي جهة السوء فيه، ويمكن أن نفسّر هذه الآية بمعنيين:
أحدهما المعنى الظاهريّ، لأنّه في الآيات السابقة بيّن نوعان من الأحكام والتكاليف، أحدهما التكاليف التي توجب، والأخرى التكاليف التي تحرّم. مثل ﴿وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ ليكن الكيل والوزن دقيقًا وصحيحًا، وعندما تزنون فزنوا بالقسطاس والعدل.
تفسير آية وأوفوا بالعهد… وبيان أنواع الشروط
﴿وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا﴾ اعملوا بالعهود والمواثيق التي تعقدونها مع الناس ولا تتصوّروا أنّ الأمر سهل وأنّكم قلتم مجرّد كلام ووعد فتقول لنفسك: دعه! فقد قلتُ ذلك ولم أفِ به، نريد أن نذهب إلى بيت فلان، اتركه ولا تذهب! سأشتري لك هذا الشيء، لا تشتره! كلاّ هذا غير صحيح، نعم تارة ينسى الإنسان أمرًا ما فلا بأس عليه، ولكن عندما لا يكون ناسيًا فلا بدّ من الوفاء بالعهد، وما يقال في الأبحاث الفقهيّة من أنّه فقط العهد والشرط اللذان هما في ضمن معاملة يجب الوفاء بهما هو غير صحيح، فلا يقتصر الأمر على الشرط الذي يشترط ضمن معاملة، فهو لا يصير ملزمًا لأجل كونه شرطًا في ضمن معاملة، بل لمجرّد كونه شرطًا، فلكونه شرطًا يصبح ملزمًا، ولذلك فإنّ الشرط سواء كان في ضمن معاملة أو كان في غير معاملة يجب الالتزام به، وسواء كانت المعاملة لازمة أو غير لازمة كالهبة وأمثالها والعارية، ففي هذه كلّها الشرط لازم الوفاء والوفاء بالعهد والوفاء بالشرط لازم، وهكذا الوعود التي يعطيها الإنسان ابتداء والشروط الابتدائيّة، كأن أقول مثلاً: سأحضر لك غدًا مائة ألف تومان لتسدّد قرضك، فعليّ أن أحضرها لأنّي وعدته، إلا إذا لم يتمكّن، ففي هذه الحالة يختلف الأمر، ولكن عندما يعد الإنسان فعليه أن يفي. نعم تارة يقول: إن شاء الله سأحضر لك، سأحاول، إذا أراد الله سأقوم بعملي هذا، فهذه لا يجب معها، وطبعًا لا بدّ أن يسعى جهده. ولكن أحيانًا يقول: أنا سأفعل ذلك لك، كأن يعده بأن ينقل ما في ذمّته إلى ذمته هو، فكما يتحقّق نقل ما في الذمّة هنا إلى طرف ثالث، فكذلك التعهّد بالأداء وعند الشرط، الشرط الابتدائي والعهد الابتدائي لا بدّ من الوفاء.
وليلتفت الرفقاء إلى هذا الأمر، فإمّا أن لا يعدوا، وإمّا أن يفوا عندما يعدون، فالوفاء هو كالصلاة الواجبة ولا بدّ من العمل به، ولا يختلف الأمر في هذا المجال، ﴿وأوفوا بالعهد﴾ يجب عليكم الوفاء بالعهد، لا بالعهد الذي هو ضمن العقد، فالعهد هنا مطلق وإطلاقه يشمل جميع الموارد من العقود اللازمة وغير اللازمة ومن الشروط الابتدائيّة ﴿وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا﴾. وطبعًا هناك في الروايات وصايا وعبارات تفيد أنّ المراد من العهد الوفاء بالعهد والقبول بولاية أمير المؤمنين عليه السلام! فهذه مسائل باطنيّة، لا من هذه المسائل الظاهريّة والشرعيّة والفقهيّة.
حسنًا فلدينا في هذه الآيات نوعان من الأحكام أحدهما الأحكام الملزمة والموجِبة، والآخر الأحكام الناهية والمحرّمة، وعندما يقول ﴿كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ﴾ فهي ترجع إلى المحرّمة وتلك الأحكام التي بيّنها الله هنا مثل: ﴿ولا تقربوا الزنا… ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق … ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله … ولا تقف ما ليس لك به علم … ولا تجعل يدك مغلولة …﴾ والتي تتضمّن حرف "لا" وفيها نهي وتحريم، فكلمة "سيّئه" المراد بها هو هذه المحرّمات وجميع الموارد التي ذكرناها منها والتي تتضمّن نهيًا. فما هي حال تلك المحرّمات؟ ﴿عند ربّك مكروهًا﴾ لا يحبّها الله ولا يرضاها، أمّا النوع الآخر فلا، مثل: ﴿وأوفوا الكيل وزنوا بالقسطاس المستقيم … وأوفوا بالعهد﴾ فهذا القسم الآخر المقابل لهذه الأمور التي هي ﴿لا تقف ما ليس لك به علم﴾ والتي في مقابلها: اقف ما عندك به علم وما عندك به يقين في هذا المسير الذي اخترته، فهذه الأمور لا يمكن أن تكون مكروهة. هذا معنى ظاهريّ.
والمعنى الآخر الذي كان المرحوم العلاّمة يفسّر به هذه الآية والذي يستحقّ الدقّة هو… ـ وقد مضى الوقت وكنت قد وعدتكم أن أنهي البحث وأنا أتصوّر أنّ ﴿أوفوا بالعهد﴾ هذه هي لي أنا أوّلاً فإنّي دائمًا أعاهدكم، وطبعًا جعلت في عهودي شرطًا وهو أن أفعلها في صورة الاستطاعة، فقد تركت مجالاً للفرار، وأحيانًا لا أستطيع ـ كان المرحوم العلاّمة يقول: معنى ﴿كلّ ذلك كان سيّئه﴾ هو هذه الأمور المحرّمة ولا تنظر الآية إلى الأمور غير المحرّمة، فالله يتحدّث عن الجهة السيّئة من هذه الأمور المحرّمة، لا الجانب التكوينيّ والماديّ الخارجيّ.
والمتوقّع أن يكون الرفقاء قد أدركوا هذا الأمر، فعندما يقوم الإنسان بعمل حرام فله صورتان:
صورة جوارحيّة وماديّة وهذا العمل الذي يتحقّق، كما لو كان لطبيب ما عمليّة جراحيّة، ويريد الآن أن يشقّ بطن هذا المريض، وهو يقوم بهذا العمل حرامًا، فهذا المريض لا يحتاج إلى جراحة، والطبيب يريد أن يجريها له لكي يصل إلى منافعه الدنيويّة، فهذه العمليّة التي يجريها هل هي مكروهة؟ هل هي سيّئة؟! كلاّ! فربّما يكون عملاً نظيفًا وجيّدًا وعن خبرة وبصيرة، بحيث أنّك لو صوّرت له فلمًا لكان ممّا يستحقّ أن يعرض على الطلاّب ليتعلّموا بواسطته، فانظروا هذه العمليّة الآن تحقّقت، وهذه العضلات فتحت، ووصل إلى الصدر، ثمّ وصل إلى القلب، وقد فتح هذا المكان ثمّ أغلقه، وانتهت العمليّة بشكل جيّد ومنظّم جدًّا. تلك النيّة التي هي وراء هذه العمليّة هي التي يقال لها سيّئه، لا هذا الفعل الخارجيّ. هذه العمليّة جيّدة وممدوحة وعن خبرة ومهارة، عمليّة ماهرة والجميع يمدحونها، الجميع يشجّعون صاحبها والجميع يصفّقون له. ولكن حيث إنّه كان يعلم أنّ هذه العمليّة ليست مفيدة، وهذا القلب لا يحتملها، وهذا الذي يجب أن يعمّر سنتين أخريين أو ثلاثة أشهر أخرى يموت الآن، فهذه الخيوط التي خيط بها تنحلّ، وهذه الشرايين تفتح ويحدث نزيف داخليّ فيموت، فهذا ما يعلمه الطبيب دون غيره، الناس يقولون: يا لها من عمليّة رائعة! والملائكة تقول: آه آه من هذه العمليّة. لماذا أجريتها؟ الناس لا يعلمون فيقولون: انظروا يا لها من عمليّة جيّدة قام بها!
وقد نقل لي أحد الأصدقاء قبل مدّة أنّه أجريت عمليّة كهذه، فرغم أنّ المتخصّصين قالوا يجب أن لا تجرى العمليّة، وأنّه وفق الاختبارات التي أجريت فإنّ القلب يعاني من تضيّق الصمام التاجي (الميترالي) وقد قُرّر أن لا تجرى هذه العمليّة، ولكنّها أجريت له فمات تحت العمليّة، فمن هو المسؤول؟! هذا الطبيب هو المسؤول رغم كونه خبيرًا جدًّا وكان عمليّته صحيحة وفي الموضع المناسب. ولولاها لعاش هذا المريض لسنوات، لأنّ هذا العمل صدر عن نيّة فاسدة وعلى أساس نيّة دنيويّة فهو مورد غضب الله ومورد نهيه ومورد عقابه، حسنًا فهل الناس الآن يعلمون؟! لا أدري. يقولون: سلمت يداك أيّها الطبيب، يا لها من عمليّة، ولكن بعد ثلاثة أشهر يفتضح الأمر! فحيث إنّك كنت تعلم لماذا أقدمت عليها؟!
وقد نقل لي أحد الأصدقاء الرفيق الشفيق الدكتور سجّادي حادثة أخرى، فقد ذهبنا يومًا إلى مكان ما وكانت معنا امرأة مسكينة لا معيل لها، كانت عينها تبصر ـ وكانت تلك الحادثة قبل بضع سنوات في طهران، قبل ما يقارب ستّ أو سبع سنوات، وفجأة غضب هذا الطبيب واختلّت أوضاعه بحيث لم يعد يحتمل أبدًا، رغم أنّه على علاقة حميمة معي إلاّ أنّه كان عادة منضبطًا في كلامه وتصرّفاته أمامي، ولكنّه في تلك الحالة تغيّرت حالته وفقد السيطرة على نفسه وبدأ بذمّ ذلك الطبيب الذي أجرى عمليّة لتلك المرأة بكلّ ما يخرج من فمه: عديم الأصل كذا… ذلك الطبيب الذي جاء وأجرى عمليّة جراحيّة لهذه المرأة التي لا معيل لها وسبّب لها العمى في كلتي عينيها، فماذا كانت حقيقة الأمر؟ كانت أنّ هذه المرأة لم يكن ينبغي أن تجرى لها عمليّة، وكان يقول: الطالب الذي يدرس عندي ستّة أشهر يعرف أنّها لا ينبغي أن تجرى لها عمليّة، ولكن هذا الطبيب أجراها لها وذكر اسمه، وهي لا تملك مالاً وقد باعت جهاز البرّاد وأثاث دارها وما تحتها حتّى جمعت مليون تومان أو مليوني تومان لا أذكر كم أخذ منها، أكثر من مليون تومان، مع علمه بأنّها ستعمى، وقال لها: إنّ هناك احتمال ثلاثين بالمائة في أن تشفى، فكيف يمكن هذا؟ فهل هذا إنسان؟ هل يمكن أن يقال له إنّه إنسان؟ إنّه أدنى من أيّ حيوان.
تارة لا يكون طبيب ما على علم بالنتيجة فلا بأس. ولكنّه يعلم. فسيّئ هذه العمليّة ما هو؟! إنّه تلك النيّة السيّئة والنيّة الباطلة وتلك النيّة التي على أساسها أوصلت تلك المرأة المسكينة إلى تلك الحالة بحيث فسدت كلّ حياتها، فعينها لم تعد تبصر، وتلك الخمسة بالمائة التي كانت تبصرها زالت، هذا معنى ﴿كان سيّئه عند ربّك مكروهًا﴾ وأمّا العمليّة فهي في نفسها لو أجريت لغير هذه المرأة فهي جيّدة وناجحة، فهذه الشفرة التي تفتح العين فتزيل الغشاء ثمّ تفتح القرنيّة وتخرج العدسيّة فيضع مكانها عدسيّة أخرى مثلاً، كلّ ذلك لا إشكال فيه وهو صحيح، فهذه العمليّة جيّدة، عمليّة تحقّقت في الخارج، وربّما لو كان هناك طالب طبّ يتعلّم فهو يستفيد منها، ويقول: تعلّمت. ولكنّ الله يعاقب هذا الطبيب أشدّ العقاب، فيقول: لماذا تعاقبه يا ربّ أشدّ العقاب؟! فأنا الآن أنظر فلا أرى مشكلة. إنّه لا علم له بما يجري في القلب. أنت ترى شيئًا وأنا أرى شيئًا آخر:
تو مو بینی و من پیچش مو | *** | تو ابرو، او اشارتهای ابرو۱ |
يقول: أنت ترى الشعر وأنا أرى تجاعيده *** أنت ترى الحاجب وهو يرى إشاراته
فأنا أرى شيئًا آخر هنا هو سيّئ هذا العمل.
وقد كان المرحوم العلاّمة يفسّر هذه الآيات هكذا ويقول:
العمل المحرّم ليس هو في نفسه محرّمًا، بل تلك الجهة الباطنيّة التي هي وراءه. وطبعًا هذا التفسير صحيح وتامّ والأمر كما قال، ولكن يبدو لي أنّ ﴿كلّ ذلك﴾ في الآية هي إشارة إلى كلّ ما تقدّم. وعلى كلّ حال فهي فكرة لطيفة ذكرها هو هنا.
نتيجة المحاضرة
فإذن النتيجة التي تستنتج ـ وإن شاء الله نحن نعد وعملنا بآية ﴿أوفوا بالعهد﴾ سيكون في جلسة عنوان اللاحقة ـ أنّ الجهة الباطنيّة للعمل هي الذنب.
فما هو مراد الإمام السجّاد عندما يقول: «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت»؟ فهو لم يرتكب ذنبًا خارجيًّا؟ فالإمام السجّاد لم يتسلّق جدران بيوت الناس، الإمام السجّاد لم يقتل أطفال الناس، الإمام السجّاد عليه السلام لم يقتل نفسًا، الإمام السجّاد لم يسجن أحدًا، الإمام السجّاد عليه السلام لم يرتكب المحرّمات وتلك الأفعال، فهذا كلّه صحيح، والإمام يقول أيضًا: أنا لم أفعل هذه الأعمال الخارجيّة التي هي العمل الماديّ، والعمل الذي يتحقّق في الخارج، فأنا لم أقم بهذه الأعمال، ولكن ليست هذه هي الذنوب.
وبالالتفات إلى تلك الأمور على ماذا يطلق الذنب؟ يطلق على تلك النيّة، وطبعًا وفق الاصطلاح الكلاميّ تسمّى بالقبح الفاعليّ لا القبح الفعليّ، وفق الاصطلاح الكلامي لذلك الذنب يقال له القبح الفاعليّ، وهو صحيح، وليراجع الرفقاء في هذا المجال ما تقدّم في ليالي شهر رمضان حول ذلك، وقد قدّمت توضيحات كثيرة.
وما ذكرناه اليوم للرفقاء كان جيّدًا حيث يلخّص تلك المحاضرات لكي ننتهي إلى تلك النقطة الحسّاسة التي هي هذا السؤال: فإذن ماذا حصل؟! فالإمام السجّاد لم يخطئ في نفسه ولم ينو نيّة باطلة، فلا يمكننا أن نقول والعياذ بالله إنّ تلك النفس المطهّرة التي وصلت إلى مقام العصمة لديها نيّة باطلة، فكيف يمكن ذلك؟! أفيعقل الجمع بين السواد والبياض؟ هل يمكن الجمع بين نقطتين متقابلتين وأن تكون نفس الإمام عليه السلام قد وصلت إلى نقطة البياض المطلق فالبياض ليس فيه أيّ مقدار من الكدورة، فكيف بالسواد؟! فكيف يمكن للإمام عليه السلام ـ رغم أنّه قال كلامه للّه على وجه الجدّ وعلى نحو الحقّ ـ أن يقول لنا هذا الكلام؟ هذا ما يبقى للجلسة الأخرى إن شاء الله.
تو مو بینی و مجنون پیچش مو | *** | تو ابرو، او اشارتهای ابرو |
والمعنى: أنت ترى الشعر وهو تجاعيده | *** | أنت ترى الحاجب وهو يرى إشاراته |
اگر در دیدهٔ مجنون نشینی | *** | به غیر از خوبی لیلی نبینی |
تو کی دانی که لیلی چون نکویی است | *** | کزو چشمت همین بر زلف و رویی است |
تو قد بینی و مجنون جلوه ناز | *** | تو چشم و او نگاه ناوک انداز |
نأمل من الله أن يكون بنفسه شاهدًا علينا ومتوكّلاً بأمرنا وآخذًا بأيدينا في جميع الأماكن والأزمان، وأن يكون قد قدّر لنا في جميع الأعمال والأفعال الوصول إليه، وكما يقول المرحوم العلاّمة: إذا اكتفينا بغير الذات [فقد خسرنا] وحقًّا لو لم تكن معارف أولياء الله هؤلاء لما فهمنا ماذا علينا أن نفعل، بعضهم يقول لي: لو لم يكن مثنوي هذا لما كان معلومًا ماذا كنّا سنفعل، لو لم يكن مولانا هذا لما عرفنا ماذا كنّا سنفعل.
وقد ذكرت لكم في إحدى ليالي شهر رمضان إن كنتم تذكرون قصّة عن أحد السادة زار النجف فذهب أوّلاً إلى وادي السلام وزار غير أمير المؤمنين عليه السلام أوّلاً، ثمّ كان يقول: يجب عليّ أنا أن أزوره أوّلاً فأذهب إلى قبره أوّلاً ثمّ أزور أمير المؤمنين عليه السلام. أتذكرون ذلك؟! واللطيف هنا أنّ ذلك العالم الذي كان في مشهد وينقل هذه القصّة كان يقول: من الواضح أنّ عليه أن يفعل ذلك. فهو نفسه كان مقتنعًا بذلك ولولا اقتناعه لما نقلها.
وحين نقلها ارتفع صوت أحد الحاضرين وكان جالسًا إلى جانبي ولا أدري ما إن كان حيًّا الآن أم توفّي، كان من علماء مشهد، فقد اعترض عليه في نفس المجلس وقال: ما هذا الكلام الذي تقوله؟! وقد تأذّى المرحوم العلاّمة أيضًا من هذا الكلام، فهناك إنسان مضى من عمره ثمانون سنة يقول: من أعطاك قرشين فعليك أن تزوره أوّلاً في وادي السلام فلا تذهب لزيارة أمير المؤمنين عليه السلام أوّلاً، عليك أوّلاً أن تزوره! ليت الله يزيد في فهمنا، يزيد الفهم، يزيد الإدراك، يزيد المعرفة، وذلك العبد الذي ساعدك ـ وإن شاء الله في الجلسة القادمة سنتابع هذا البحث وإذا نسيت فليذكّرني الرفقاء ـ ذلك الرجل الذي ساعدك لو لم يكن وليّك أمير المؤمنين لما ساعدك، ولما وصل إليك خيره. فهذه الخيرات تنشأ كلّها من مصدر واحد، ولكنّ العيون مغلقة والأفهام قاصرة.
إن شاء الله أدام الله ظلّ وليّ العصر فوق رؤوس الجميع، وجعلنا من منتظريه، وعجّل في فرجه، فهذا الزمان هو زمان يجب أن لا ندعو فيه إلا بهذا الدعاء ونطلب من الله فرج إمام الزمان عليه السلام.