11

أربعة أدلّة على أصالة النيّة

نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

2455
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1430

التاريخ 1430/09/20


التوضيح

تتحدّث المحاضرة حول أربعة أدلّة على أصالة النيّة:
1 ـ سيرة العقلاء في المدح والذمّ.
2 ـ سيرتهم في إنشاء المحاكم ـ 3ـ إرسال الله للملائكة نيابة عن المؤمنين الناوين لعمل ما.
4 ـ إرسال الله للشياطين نيابة عن الفاسقين.
كما تتحدّث حول بعض المواضيع الفرعيّة مثل: ثبات الشريعة،آداب الزيارة، خلق الأبدان، حقيقة ماء الكوثر، المكاشفات الشيطانيّة، دعوى التخلّي عن النفس، وغير ذلك…

/۲٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • أربعة أدلّة على أصالة النيّة

  • نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين 

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - عام ۱٤٣۰ - الجلسة الحادية عشر

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني 

  • قدّس الله سره.

  •  

  •  

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

2
  •  

  •  

  • أعوذ باللَه من الشيطان الرجيم‌

  • بسم اللَه الرحمن الرحيم‌

  •  

  •  

  • «إذَا رَأيتُ مَولاي ذُنُوبِي فَزِعتُ، وَإذَا رَأيتُ كرَمَك طَمِعتُ فَإن عَفَوتَ فَخَيرُ راحِمِ وَإن عَذَّبتَ فَغَيرُ ظالِم».

  • عندما أنظر يا مولاي إلى ذنوبي وزلاّتي أستوحش وأدهش، وعندما أنظر إلى كرمك وجودك وعفوك أطمع، فإن عفوت وتجاوزت فأنت أرحم الراحمين لأنّك عفوت عمّن كان ينشأ الذنب والزلّة عن وجوده، وإن عذّبت فلست بظالم في عذابك. 

  • خلاصة لما سبق

  • تقدّم للرفقاء في الجلسات السابقة أنّ الذنب عبارة عن ذلك الحقد القلبيّ ونيّة الاستكبار والاستنكار أمام أوامر الله، والمخالفة لرضا الله، فهذا ما يسمّى ذنبًا وليس هذا العمل والفعل الخارجيّ الذي يصدر من الإنسان. وإن قيل لهذا العمل الخارجيّ إنّه ذنب فمن باب تسمية المسبّب باسم السبب، والمعلول باسم العلّة، والمتأثّر باسم المؤثّر. فقد كان ينبغي أن تطلق هذه الصفة وهذا الاسم على تلك الحالة الباطنيّة للإنسان وتلك العلّة لهذا العمل الخارجيّ، ثمّ بما أنّ هذا العمل الخارجيّ قد نشأ من مرتبة النفس، لذلك يطلق عليه أنّه ذنب. 

  • أدلّة وشواهد جديدة على أصالة النيّة في تحديد هويّة العمل: 

  • ۱. سيرة العقلاء في المدح والذمّ (مثال الدخول بغير إذن) 

  • والدليل على ذلك هو أنّه عندما يتّضح للإنسان أنّ هذا العمل الخارجيّ له علّة أخرى وجهة أخرى سوى تلك الجهة التي يتصوّرها تتغيّر حالته فجأة ويقول: لا إشكال عند هذا، إنّه لم يكن مقصّرًا حين قام بهذا العمل، فلو فرضنا أنّ إنسانًا أراد أن يدخل منزلاً، فيضرب الباب ويكسره ويدخل، فهذا العمل غير صحيح، لا بدّ أن يرنّ الجرس ويستأذن! {يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبيّ إلا أن يؤذن لكم}۱ فإذا أردتم أن تدخلوا فاستأذنوا فليس هذا نزلاً تدخلونه هكذا دخول الحيوانات، فالبيت له حسابه، {إلا أن يؤذن لكم} فبعد أن يؤذن لكم تدخلون، فإذا أراد الإنسان أن يدخل منازل الناس فهي حريم شخصيّ لهم، ولا يمكن دخول الحريم الشخصيّ للنّاس، لا يمكن، وهذا حرام، ولا بدّ أن يستجيز ثمّ يدخل، فحفظ الحريم الشخصيّ واجب في الإسلام، فلو فرضنا أنّ إنسانًا كسر الباب ودخل هكذا فإنّه يؤخذ كمتعدٍّ ويسأل: لماذا فعلت ذلك؟! لماذا دخلت إلى الحريم الشخصيّ؟! فهذا العمل يبدو غير مناسب ابتداءً ويعدّ خطأ، ولا بدّ من أخذ فاعله ومحاكمته وتغريمه وأمثال ذلك. فلو قال: لا إنّما كنت أمرّ، وجئت لأطرق الباب فلم يفتح لي أحد، ومهما طرقت لم يفتح لي، ثمّ سمعت صوت طفل في المنزل، فصبرت ورأيت أنّي إن لم أكسر الباب ربّما أصيب الطفل بأذى في داخل المنزل، فلذلك كسرت الباب ودخلت لأنجي الطفل. 

    1. سورة الأحزاب (٣٣)، الآية ٥٣. وفي سورة النور (٢٤) الآية ٢۷: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى‌ أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

3
  • فإن كانت هناك مشكلة وكان هناك طفل أو إنسان يحتاج إلى مساعدة فدخلت بهذه الطريقة للعمل على نجاته، فحينها إذا التفت الناس أنّ السبب في الدخول بهذه الطريقة هو هذا، فليسوا فقط لا يذمّونه بل يمدحونه: أحسنت! لو لم تفعل ذلك لأصيب هذا الطفل ببلاء عظيم! هناك إنسان في هذه الدار كان سيصاب بمشكلة! وفجأة تتحوّل حالة العصيان والذنب والذمّ والقبح إلى حالة مدح وثناء، في حين أنّه لم يكن سوى عمل واحد، فهو لم يصنع عملين اثنين، إنّما هو عمل واحد، فكيف كنت في البداية تريد أن تضربه خمسين ضربة لأنّه فعل ذلك والآن تقول: بارك الله بك؟! 

  • ـ لقد أدركتُ فجأة أنّ نيّته كانت هكذا.

  • فلمّا عرف نيّته تبدّلت صفة ذلك العمل الخارجيّ من الذمّ والقدح والتعدّي والظلم إلى الاستحسان، فالناس والعقلاء والشرع يستحسنون ذلك العمل، هذا جمع بين المتناقضين، فإن كان لا بدّ من حمل صفة الحسن على هذا الفعل الخارجيّ في نفسه بما هو فعل خارجيّ فكيف يمكن أن يحمل عليه نفسه صفة الحسن وصفة القبح في آن واحد؟! ففي تلك اللحظة التي يذمّونه فيها على هذا الفعل وهذا العمل هناك جماعة آخرون يعلمون أنّه تحقّق لأجل هذا الأمر ولأجل هذه النيّة، غاية الأمر أنّه لم يرفع صوته، أو أنّه يبدأ بالكلام وذكر الأسباب والأدلّة على ذلك والشواهد، وفي النهاية هذا يتكلّم وهذا يتكلّم فيتغلّب أحدهما على الآخر، ففي النهاية كيف يمكن لأمر خارجيّ أن يتّصف بصفتين؟! جماعة تقول: هذا العمل قبيح، وجماعة أخرى تقول: هذا العمل صحيح؟!

  • فلو فرضنا أنّ هذا الكتاب الذي بيدي الآن هذا الكتاب ما لون صفحاته؟ إنّها بيضاء في النهاية. والجميع يرونها بيضاء، إلا أن يكون هناك من لديه مشكلة في عينه فلا يراها، فيقول: إنّها حمراء فهل يمكن أن تكون في آن واحد سوداء وبيضاء؟ كلاّ بل هي بيضاء وهذه الكتابة التي عليها سوداء، وهذا واضح للجميع، فالفعل الخارجيّ في نفسه له صفة واحدة، له نعت واحد، له خصوصيّة واحدة لا تختلف باختلاف الأفراد، فإذا اختلفت فلمرض وعلّة، كأن يعاني أحدهم في نظره من عمى الألوان أو لا يرى جيّدًا في الليل، أو لديه مرض آخر بحيث لا يمكنه أن يرى جيّدًا، وإلاّ فإنّ هذا الشيء في نفسه وهذا الوجود الخارجيّ واضح أنّه أبيض، وهذه الأسطر الموجودة هي أسطر سوداء، أسطر الفقرة المؤلّفة من ثلاثة أسطر. فهل الفعل الذي يصدر عنّا في الخارج هو هكذا ثابت ولا شكّ فيه أصلاً، فهو إمّا فعل قبيح أو مستحسن ولا شكّ فيه، وإنّما نحن أحيانًا نخطئ ونراه قبيحًا، أو غيرنا يخطئ ويعدّه حسنًا دون أن يكون كذلك؟ 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

4
  • كلاّ ليس الأمر هكذا، ليس هكذا، فالفعل الذي يصدر عنّا ليس مثل سواد الصفحة وبياضها، ولكنّه له خصوصيّات من حيث نحو وجوده وتكوّنه، وتلك الخصوصيّات هي مثل الصفحة، فهو عمل وحركة لها خصوصيّات، وقعت في زمان معيّن، فلها هذه الخصوصيّة، فهذه أمور في الخارج، وهي لا تختلف بحسب النظرات المختلفة، لماذا؟ لأنّ المنظور إليه هنا هو الجهة الوجوديّة للشيء، وهذه الجهة الوجوديّة للشيء تشبه هذا البياض والسواد، فالبياض والسواد كيفان، وهما لونان بصريّان عرضا على هذا الموضوع، على الصفحة، فهما أمران واقعيّان خارجيّان، فإن لم يلتفت إليهما أحد ما فالمشكلة منه هو، لا من الأمر الخارجيّ والصفة الخارجيّة، فهو كلّ شيء عنده بنحو خاصّ، وأصلا لا وجود خارجيّ في نظره، فهذا يرى أبيض وذاك يرى أسود وثالث يرى أحمر.

  • إشارة في الردّ على نظريّة سروش في تغيّر الشريعة

  • مثل تلك النظريّة التي جعلت الشريعة بغير حقيقة ثابتة، فهي عبارة عن حقيقة سيّالة في ظرف الزمان تتغيّر حقيقتها الماهويّة حسب الظروف المحيطة والظروف الشخصيّة للإنسان. فمثلاً أنا أفهم هذه الآية من القرآن اليوم بمعنى وفي سنة أخرى بمعنى آخر، ويفهمها غيري الآن بمعنى ثالث، وبعد عشر سنوات يلتفت إلى شيء جديد، وبعد عشرين سنة يلتفت إلى شيء آخر، فهذه الآية من القرآن لا حقيقة ثابتة لها، بل هي جملة جاءت من عند الله لا محتوى لها ولا مفهوم، ما محتواها ومفهومها؟ هو ما نفهمه نحن، فالله ركّب بضع كلمات إلى بعضها وأنّقها وقال هذه آية من القرآن. 

  • ـ حسنًا ما هو مفهومها؟! 

  • ـ مفهومها هو ما تفهمونه أنتم.

  • ـ حسنًا يا الله ما هو المفهوم الذي قصدته أنت منها؟

  • يقول: أنا لا أدرك مفهومًا أصلاً، أنا لا أدرك معنى، أنا لا أدرك مصداقًا، ما قمت به هو أنّي جعلت بينكم هذه الأداة وأنتم تستعملونها بما شئتم، فأنتم مثل نجّار يحتاج إلى مطرقة ومسمار وخشب ومنشار ومبرد ومسطرة وأمثال ذلك، حسنًا فأنا جعلت بين أيديكم هذه الآلات لكي تصنعوا بها طاولة، نعم تصنعون طاولة، أنا ليست لديّ أيّة نيّة حول كيفيّة صناعة هذه الطاولة، أنا أسلّم الأمر إليكم. فأنت تصنع منها طاولة بقياس متر في تسعين سانتيمتر، وهذا الخشب بعينه أعطيه لآخر فيصنع منه طاولة بقياس متر وعشرين سانتيمتر في ثمانين. ولو أعطيت هذه الوسائل لثالث فإنّه يأخذها ويقول: أصلاً ليس هناك طاولة بقياس متر وعشرين سم في ثمانين، بل هناك طاولة بقياس متر ونصف في عشرين سم، شيء طويل يشبه الخبز البربريّ۱ الذي يوضع في التنّور، هكذا أريد الطاولة! وكلّ إنسان يريدها بشكل، وكلّ يصنعها كما يريد ويقول: أنا تشخيصي صحيح، أنا أصنع بشكل صحيح. 

    1. أحد أنواع الخبز المعروفة في إيران، طوله حوالي ٤۰ سم وعرضه حوالي ٢۰ سم. (م)

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

5
  • فهؤلاء الذين يقولون إنّ الحقيقة سيّالة هؤلاء لا يعلمون أنّ الحقيقة نفسها تعني الـ "ما بإزاء الخارجي" ولا يمكن أن تكون سيّالة، لا يمكن، إنّها حقيقة واحدة وواقع خارجيّ واحد، ولا بدّ أن تحكي تلك الجمل عن حقيقة واحدة وواقع واحد في نفس الأمر، ولكنّ الإنسان يحتاج في الوصول إلى تلك الحقيقة النفس الأمريّة أن يبذل الجهد ويتعب نفسه حتّى يصل إليها. 

  • نعم فقد كنت معاصرًا للأعاظم، وكنت أشارك في مجالسهم، وعندما كان يتكلّم أحد هؤلاء الأعاظم بكلام كنت أنا أفهمه بشكل، وكان الذين هم أقرب وفي أفق أقرب يدركون معنى أرفع، وهكذا كان من الممكن أن يكون لكلام واحد مصاديق مختلفة على أساس الرؤى المختلفة، لا أنّ ذلك المتكلّم لم يكن يقصد أيّ فكرة وكان يتكلّم هكذا في الهواء، فقال جملة ما ونحن علينا أن نبحث حولها وأنّه عندما قالها ماذا كان يقصد منها؟ فهذا لا معنى له. 

  • فقد اتّضح إذن أنّ العمل الخارجيّ الذي نقوم به هو في نفسه لا يتّصف بالحسن ولا بالقبح.

  • ٢. سيرة العقلاء في إنشاء المحاكم 

  • ولذلك عندما يؤخذ الجاني إلى المحكمة فأوّل ما يسأله القاضي هو: لماذا فعلت ذلك؟ ما هو الهدف؟ وما الداعي؟ ولا يقول له: لقد قمت بهذا العمل. حقًّا هو قام بهذا العمل وصدر عنه ولا شكّ في ذلك، فإذا كان هذا الرجل قد قتل آخر، وكان القتل في نفسه يستوجب الجزاء فلا حاجة إلى المحكمة، فقد كان هناك جماعة وشاهدوا أنّ هذا قتل ذاك، حسنًا انتهتى الأمر، ولا بدّ من قتل القاتل في أرضه مباشرة فلماذا المحكمة؟ ولماذا القاضي؟ والمحكمة لأجل من؟ والشرطة لأجل من؟! لن يكون هناك داع لكلّ ذلك، لأنّ القتل في نفسه يقتضي الجزاء، القتل في نفسه عمل غير ملائم وقبيح. وتشكيل المحكمة في البلاد هو لسببين: 

  • أحدهما: أن تثبت أنّ هذا الرجل قام بهذا الفعل. 

  • الثاني: أن تعرف جهة الفعل. 

  • وهذان الأمران لا بدّ أن يلاحَظا في حكم القاضي، وإلاّ فلو رأى القاضي أنّ هذا الرجل لم يصدر عنه الفعل سواء كان صالحًا أم طالحًا [فلا معنى للحكم]. 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

6
  • قصّة مظلوم في زمان أمير المؤمنين عليه السلام

  • يحكى أنّه أخذ رجل في زمان أمير المؤمنين عليه السلام وقطع رأسه، وكان الرجل يمرّ من جانب المجرم، فتقدّم وكان ذلك في عهد عمر الخليفة الثاني على ما يبدو، فألقوا القبض على هذا المسكين فتلعثم وسألوه ماذا فعلت؟ فكانوا يأخذونه إلى الإعدام فمرّ الإمام عليّ عليه السلام فقال لهم: دعوه. فقال له: هل أنت قتلته؟ فما إن وقعت عينه على الإمام استراح فقد رأى أنّ المقام الآن صار مقام الحقّ، فأمير المؤمنين عليه السلام حقّ في النهاية، ولا معنى لهذا الكلام، فاستراح وقال: كلاّ يا عليّ ما قتلته، قالوا: لقد رأينا ذلك بأنفسنا. قال: والله لقد سمعت ضجيجًا فأتيت خلف هذه الخرِبة فرأيت رجلاً يضرب بيديه ورجليه وقد سال دمه، وهكذا وبينما أنا راجع وصل الناس فجأة وأخذوني، وأنا لا أعرف من هو هذا المسكين أصلاً، لا أعرف شيئًا عنه. 

  • قالوا: لماذا أقررت إذن؟ 

  • قال: لقد ضربوا رأسي إلى درجة كبيرة، ورأيت لساني قد انعقد فخفت، لقد ضربوا رأسي إلى درجة أنّي أقررت، وفي النهاية من يضرب على رأسه يقرّ، من يضرب يقرّ، وقد أقررت أنا أيضًا لأنّي رأيت أنّه لا مفرّ لي من ذلك فماذا أفعل؟

  • فقال الإمام إنّ هذا الإقرار ليس في محلّه. وجاء ذلك القاتل واعترف بنفسه، فأطلقوا هذا وتركوه. 

  • وعلى كلّ حال، لماذا يقومون بكلّ ذلك؟ لكي يعرفوا هل فعل فلان ذلك أم لا؟ هل ارتكب هذا المسكين ذلك أم لا؟ هل ارتكب هذا المسكين ذلك أم لا؟ ولماذا فعل ذلك؟ 

  • فإذن الفعل في حدّ نفسه لا يوجب الجزاء، بل الدافع إليه هو الذي يوجبه، فإن كان الدافع باطلاً كان سببًا للجزاء والعقاب، وإن لم يكن باطلاً، فلو كان هذا هو الذي قتله وبهذه النيّة وبهذه الخصوصيّة كأن لم يقصد قتله ويوجّه الرصاص عليه بل يريد أن يطلق الرصاص في الهواء، وصدفة أصابته الرصاصة، وأمثال ذلك من الحوادث، فإذا ما تبيّنت حقيقة الأمر وعلم أنّه كان بريئًا فلا بدّ من تبرئته وإطلاق سراحه.

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

7
  • فإذن الفعل في حدّ نفسه لا يوجب العقاب، وإنّما النيّة هي التي توجبه، لذلك فإنّا نجد أنّ إلهنا تبارك وتعالى يهتمّ بذلك في المسائل المختلفة.

  • ٣. إرسال ملاك نيابة عمّن نوى زيارة أو حجًّا 

  • ففي مسألة من ينوي زيارة أحد المشاهد المشرّفة وحقًّا تكون لديه نيّة ولا يتمكّن، يحدث مانع فلا يتمكّن، فإنّ الله يرسل ملاكًا ليزور نيابة عنه، فهذه واحدة من المسائل الموجودة عندنا. أنت تريد أن تتشرّف بزيارة الإمام الرضا عليه السلام وتعزم على ذلك وتقصده وفجأة تمرض زوجتك أو طفلك، أو يحدث مانع من قبل الأمّ أو الأب أو لا تتمكّن من الزيارة فتأسف لأجل ذلك وأنّك سلبت التوفيق للزيارة. كلاّ فليس هذا موضع أسف فإنّ الله يرسل ملاكًا إلى مشهد إلى تحت قبّة عليّ بن موسى الرضا عليه السلام فيزور بالنيابة عنك، ويقف هناك ويقرأ ما تقرأه أنت عادة، فماذا تقرأ؟ زيارة أمين الله، «السلام عليك يا أمين الله في أرضه وحجّته على عباده أشهد أنّك قد جاهدت في الله…» أو الزيارة الخاصة بالإمام الرضا عليه السلام، فأيّهما تقرأ أنت عادة يذهب هو ويقرأها، فلو أنّك ذهبت أيّهما كنت ستقرأ؟ فهو لا يقرأ من عنده، ولا يقول: أنا أحبّ أن أقرأ زيارة أمين الله. كلاّ، ليس الأمر هكذا، بل ينظر إليك عندما تقف أمام الإمام وعندما تفتح كتاب مفاتيح الجنان ماذا تقرأ؟ وأنا لكي أريح الملاك أقرأ عادة زيارة أمين الله! حتّى إذا حصل يومًا أن لم أتمكّن من الذهاب يقرأ هو أيضًا أمين الله! نعم لقد اتّفق لي أحيانًا أن قرأت الزيارة الخاصّة! 

  • كيف كان المرحوم العلاّمة يزور الإمام الرضا عليه السلام؟ (بعض آداب الزيارة)

  • وعندما كان المرحوم العلاّمة يزور كان يقرأ أنواعًا مختلفة من الزيارات، فأحيانًا كان يقرأ الزيارة ثمّ يمضي إلى المكان الواقع إلى رأس الإمام فيجلس ويقرأ دعاء مكارم الأخلاق أو الزيارة الجامعة، وكذلك الزيارة الجامعة الصغيرة، نعم أحيانًا كان يقرأها، أو يقرأ القرآن، فهذا ما أذكره عنه، شيء واحد لا أكثر في جهة رأس الإمام، ولم يكن من المحتّم أن يجلس في ذلك المكان فقط، فقد كان يمشي فإن وجد مكانًا عند الرأس جلس فيه وإلا جلس في الأروقة الأخرى. 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

8
  • وليفعل الرفقاء ذلك أيضًا فلا داعي لأن يجلس الإنسان بين الازدحام ويوقع نفسه في الازدحام وفي الضغط، بل اجلس في مكان مريح، ولا تجعل نفسك في ضغط، حيث يتردّد الناس ذاهبين وراجعين بحيث يشتّت تركيزك ويعرّضك لركلات الأرجل والأبدان وأمثال ذلك. حتّى إذا لم تجد مكانًا في داخل الحرم فاذهب إلى صحن الحرم واجلس هناك. فالهواء هناك أكثر سلامة، وكثيرًا ما يحدث أنّي إذا وجدت هواء الحرم مختنقًا أذهب إلى صحن جوهر شاد فأجلس فيه وأصلّي، حتّى صلاة الزيارة أصلّيها هناك، وإن أردت أن أقرأ دعاء أقرأه هناك، أو في الصحن الكبير الصحن القديم والأروقة التي خلفه، فما أذكره من الأعاظم هو أنّهم لم يكونوا يتعبّدون بمكان خاصّ يصرّون على الجلوس فيه، فجميع الأماكن منتسبة إلى الإمام الرضا عليه السلام، الجميع منتسبة إلى الإمام، ولا اختلاف بينها في ذلك، غاية الأمر أنّه عندما يكون المكان أقرب وأهدأ ويمكن للإنسان أن يجلس فمن الجيّد أن يقترب، فكلّما اقترب من البدن المطهّر فإنّ له آثارًا أكثر. فلا شكّ في ذلك، حتّى إنّ الذهاب إلى أيّ موضع من مشهد له أثره، فالإمام موجود في كلّ مكان، إنّه هنا وهناك، فلماذا يذهب الإنسان إلى مشهد؟ لأنّ البركات المترتّبة على وجود ذلك البدن المطهّر هناك هي أقوى من تلك التي تصيب الإنسان في سائر الأماكن.

  • وعلى كلّ حال فإنّ ذلك الملاك يأتي ويزور بالطريقة نفسها التي تزور أنت بها، لذلك لا تحزنوا أبدًا إن كان لديكم حقًّا نيّة للزيارة، فلا تقولوا ليتني كنت هناك، والآن أريد أن أذهب ولكن لا أدري فلان منعني من ذلك. مثلاً استأذنت أبي فلم يأذن لي وقال: انتظر الآن. أو استأذنت أمّي فلم تأذن لي، أو استأذنت زوجتي مثلاً فلم تأذن لي! ولا يمكنني أن أخالفها! ولو خالفتها فلي الويل! نعم تقع السماء على الأرض، وتلتصق الأرض بالسماء! لذلك لا بدّ من التفكير في هذه المخالفة الثالثة! أمّا الأولى والثانية فلا مشكلة فيهما! ولا تستحقّان الاهتمام كثيرًا! ولكن هنا المشكلة وهي مشكلة كبيرة في النهاية، وعلى كلّ حال، لا أقول إنّ الإذن هو فقط من ناحية الزوجة بل قد يكون من ناحية الزوج أيضًا! فعلى كلّ حال لا معنى للقلق والأسف هنا، فهم عظام وكرام إلى درجة أنّهم ينظرون بكرمهم إلينا لا إلى نقصان فكرنا وحدودنا الوجوديّة.

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

9
  • فما إن ينظر الإمام الرضا عليه السلام إلينا أنّنا نريد أن نزوره فقد انتهى الأمر، ولا معنى للقلق والحزن وأمثال ذلك، يأتي بملك من السماء ويقول: اذهب وزر نيابة عنه كما يزور هو. 

  • وهكذا هو الحال في سائر الأماكن المقدّسة. 

  • ملاك يحجّ نيابة عن المرحوم العلاّمة الطهراني رضوان الله عليه

  • يقول المرحوم العلاّمة: جاءني في إحدى السنوات رجل وقال: هيّا بنا لنذهب معًا إلى مكّة، يا حاجّ محمّد حسين هيّا نذهب إلى مكّة، ولا أدري ما إن كان ذلك الرجل لا يزال الآن على قيد الحياة أم لا، فقد مرّ زمان طويل ولا اطّلاع لديّ على أحواله، فإن كان على قيد الحياة فنسأل الله أن يحفظه إن شاء الله ويوفّقه، وإن كان قد انتقل إلى رحمة الله فقد كان إنسانًا صالحًا، كان يأتي إلى ذلك المسجد، وهو الذي ذكر المرحوم العلاّمة قصّته في لبّ اللباب على ما أذكر إن لم أكن مخطئًا، فقد ذكر في رسالة لبّ اللباب أنّه كان خارجًا عن دين الإسلام ثمّ أسلم واستبصر، وله قصّة في زيارة كربلاء، فهذا هو الرجل بعينه! 

  • جاء إلينا وقال: هيّا بنا يا حاجّ محمّد حسين هذه السنة لنذهب معًا إلى مكّة. 

  • فقلت: أنا لا أستطيع. أحبّ كثيرًا أحبّ كثيرًا أن أذهب ولكن لا أستطيع. فلو أمكن لأتيت، والحاصل أنّي لم أتمكّن وكنت راغبًا جدًّا في ذلك ولم يحصل لسبب من الأسباب. وأمّا ماذا كان السبب فلا اطّلاع لديّ. نعم فذهب ذلك الرجل وبعد عودته وعندما زرناه قال: يا حاجّ محمّد حسين شكرًا لك! أهكذا تصنع؟! 

  • فقلت: ماذا حصل؟ ماذا تقصد؟! 

  • فقال: أنت بنفسك! ـ وكانا صديقين حميمين ـ أنت مضيت إلى هناك. 

  • فقلت: لم أمضِ أتيت لزيارتك، أتيت لزيارتك. 

  • فقال: دعك من هذا يا عزيزي. 

  • فقلت: ماذا تقصد أنا لا أفهم! 

  • قال: ذهبت إلى مكّة، وعندما دعوتك أنا لم ترافقني بل رافقت غيري.

  • فقلت: أيّة مكّة؟! لقد كنت هنا! 

  • فقال: لقد رأيتك يا عزيزي في عرفات. 

  • فقلت: والله تعال واسأل المسجد فقد كنت طوال هذه المدّة آتي إلى المسجد. 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

10
  • ـ لقد كنت أراك في عرفات، وأراك في منى، وأراك في الطواف، وأراك في جميع الأماكن، والآن تقول لي: لا أدري! 

  • قلت: تعال يا عزيزي إلى المسجد واسأل هؤلاء المأمومين وهؤلاء الأصدقاء فقد كنت طوال هذه المدّة هنا! وأنا لا أعرف هذه الأعمال. فهناك من يتصرّف بعض التصرّفات فيخلق بدنًا في موضعين، وفي ثلاثة مواضع، وأنا لم أكن أصنع أمثال ذلك، ومن يفعل ذلك هم أناس آخرون، وكان هؤلاء الآخرون من أصدقائه، وأنا أعلم أنّ بعضهم يفعل ذلك. 

  • وأنا بنفسي مطّلع على خصوصيّاتهم… 

  • مقام جابر بن يزيد الجعفيّ وبعض أصحاب سرّ الأئمّة عليهم السلام (خلق الأبدان)

  • وقد تذكّرت الآن قصّة حصلت في زمان الإمام الباقر عليه السلام، حيث كان بعض أصحاب الإمام يخلق لنفسه أبدانًا متعدّدة، وكان الأمر بالنسبة إليه رائعًا جدًّا! فقد كان الإمام جالسًا مع أصحابه فجاء جابر بن يزيد الجعفيّ، والذي كان من أصحاب المقامات، وكان من أصحاب الشأن والأذكياء ومن الغارقين في التفكير في أنفسهم والذين لا يسمع لهم صوت، ولكنّه يقوم بما عليه دون أن يطّلع عليه أحد، ولكن لا أدري لماذا خرج عنه هذا المورد. نعم جاء جابر بن يزيد الجعفي فقال أحد الجالسين للإمام الباقر عليه السلام: لقد كنّا ليلة أمس مع جابر. وليس هذا جابر بن عبد الله، كلاّ فهذا يختلف، وجابر بن عبد الله الأنصاري كان رجلاً شديد الصلاح وهو الذي جاء إلى كربلاء وحدّثتكم عن قصّته قبل ليال، وكان رجلاً جليلاً وله حالات ومكاشفات وبعض خوارق العادة. أمّا جابر بن يزيد الجعفيّ فقد كان من أصحاب السرّ، ومن أصحاب التوحيد، فقد كان من الموحّدين، وهؤلاء كانوا يختلفون عن سائر أصحاب الأئمّة، وحسابهم مختلف، مثل بايزيد الذي كان من جملة أصحاب السرّ الذين كانوا في زمان الإمام الصادق عليه السلام، فهو مثلاً يختلف عن أبان بن تغلب وأبي بصير وحمران بن أعين، وهؤلاء كانوا أجلاّء أيضًا وكانوا من المحدّثين والفقهاء، أمّا أولئك فلا، بل كانوا أهل معنى ولهم حالات خاصّة وخصوصيّات، مثل معروف الكرخي الذي كان من أصحاب سرّ الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، أو مثل بشر الحافي الذي كان من أصحاب موسى بن جعفر عليه السلام، أو مثل غيرهم كحبيب بن مظاهر الأسديّ الذي كان من أصحاب سرّ الإمام الحسين والإمام الحسن عليهما السلام، والذي كان في زمان أمير المؤمنين أيضًا، فقد كان حبيب بن مظاهر من هؤلاء، وميثم المعروف أيضًا، وقد كان السيّد الحدّاد يمدحه كثيرًا ويعدّه من الأصحاب الشديدي القوّة، وكان يقول كما أذكر: عندما أزور ميثم يسيطر عليّ ويجعلني في عالمه، وهذا الأمر كان عند حبيب أشدّ. فقد كان السيّد الحدّاد يريد أن يبيّن مكانة حبيب أنّها أرفع فهكذا يبدو لي، مثل أويس، فأويس القرنيّ كان من أولئك الرفيعي الدرجات. والحاصل أنّ أصحاب الأئمّة مختلفون، ومراتبهم متفاوتة، وكان جابر بن يزيد الجعفيّ من هؤلاء، كان من الذين فتح الإمام أمامهم أودية أخرى وأبوابًا أخرى وعرّفه على حقائق من نوع آخر. فرغم أنّ جميع هؤلاء من حواريّي الإمام عليه السلام، لكنّه كان يعطي كلّ واحد منهم حسب همّته، كان يصبّ في آنية كلّ منهم من ذلك الماء المعين الذي له درجات مختلفة تختلف بحسب اختلاف درجات الناس. 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

11
  • ما هي حقيقة ماء الكوثر؟

  • وأمره عجيب ذلك النهر، فليس هو ماء خارجيّ وكلّ من يشرب منه أكثر يكون نصيبه أكثر، كلاّ ليس هكذا، بل ماء الكوثر ماء يختلف صفاؤه باختلاف مرتبة الإنسان، فهذا الإنسان مثلاً له تلك الخصوصيّة من الخلوص، فيكون شرابه الطهور بحسب مستواها، وذاك إنسان آخر من أصحاب اليمين، فماء الكوثر الذي يشربه هو في ذلك المستوى.

  • وهكذا هو الحال في الخمور التي بين الناس، أليست هي كذلك أيضًا؟ علينا أن نسأل غيركم، فالخمور التي كانت منتشرة وإن شاء الله الآن لا وجود لها إن شاء الله! ولكنّها في السابق كانت موجودة، وكانت تختلف نسبة صفائها وغشّها، فمنها ثمانية في المائة… إن أخطأت فصحّحوا لي! فأنا لا اطّلاع لديّ على هذه الأمور! فبعضها بنسبة عشرة في المائة، وبعضها خمسة عشر بالمائة وبعضها ثلاثون وأربعون وربّما كان ما هو أرفع من ذلك، فالأمر يرتبط بقدرة تحمّل الإنسان، فكلّ إنسان لديه قدرة يزيدون له من الموادّ المسكرة، وهكذا هو الحال في البنزين وأمثاله. 

  • فإذن ليس ماء نهر الكوثر حقيقة خارجيّة في مرتبة واحدة، كلاّ بل هو حقيقة تتبلور على أساس الحال التي تكون للإنسان، فإن كان من المؤمنين مثلاً فإنّها ترتفع درجة من الإسكار، وهكذا يزداد الإسكار ويزداد ويزداد حتّى إذا كان الإنسان من الأولياء وأصحاب مراتب الذات فإنّ ماء الكوثر هذا الذي هو عبارة عن الظهور والبروز الخارجيّ لولاية أمير المؤمنين عليه السلام يصبح بوارق ذاتيّة وجواذب ونفحات جماليّة وجلاليّة لا تصيب إلاّ روح وسرّ وقلب الوليّ والعبد، وتقتلع كلّ شيء وتزيله وتجعله متوجّهًا إلى الذات فقط، فلا يرى هناك غلمانًا يوم القيامة ولا حور العين ولا جنّات وقصور وفواكه وأمثال ذلك، لا يشاهد هناك شيئًا، عينه هناك على جمال الذات اللامتناهية. وغيره أيضًا يشرب من هذا الماء، فهو حقيقة واحدة مشكّكة لها مراتب وجوديّة مختلفة من حيث الآثار الخارجيّة وهكذا من حيث الآثار الذاتيّة.

  • تتمّة مقام جابر

  • جاؤوا وقالوا للإمام عليه السلام: لقد كنّا ليلة أمس مع جابر، وقد فعل جابر كذا، وقال لنا كذا، وكان كلامه رائعًا. فقال آخر: لقد كان جابر في دارنا ليلة أمس. فقال جابر: يا ويلتاه! ولم يكن قد خطر في باله أنّه يمكن أن يُفشى هذا الأمر ويعرف، وهكذا قال ثالث. قال: متى في أيّ وقت؟ فقال: الساعة الثامنة مساء مثلاً. قال: الساعة الثامنة مساء كان في بيتنا، وكنّا جالسين معًا نشرب الشاي. فاتّضح أنّه كان متواجدًا في سبعة أماكن أو ثمانية، فقد كان يزورهم، ولم يكن غرضه أن يقوم بهذه الأعمال، بل كان غرضه أن يوصل هذه الحقائق إلى أصحاب الأئمّة وأن يرغّبهم لا أنّه كان يحبّ إبراز نفسه۱، فهذه الأمور هي لنا نحن، إنّها لنا نحن فقبل أن نتعلّم حتّى كلمتين نرسل مكبّرات الصوت إلى القمر وإلى كلّ مكان، أمّا جابر وأمثاله فقد أعطاهم الأئمّة بحورًا ولم يصدر لهم صوت، فلم يكن هؤلاء أهل إذاعة وإظهار ونقل لهذه الحقائق، لم يكونوا من أهل ذلك. ولكنّ النقطة المهمّة التي هنا هي أن يعمل الإنسان وفق الأوامر. 

    1. معجم رجال الحديث و تفصيل طبقات الرجال، ج‌٤، ص: ٣٤٣‌: 
      نصر بن الصباح، قال: حدثني إسحاق بن محمد البصري، قال: حدثنا‌ محمد بن منصور، عن محمد بن إسماعيل، عن عمرو بن شمر، قال قال: أتى رجل جابر بن يزيد، فقال له جابر: تريد أن ترى أبا جعفر علیه السلام؟ قال: نعم، فمسح على عيني، فمررت و أنا أسبق الريح، حتى صرت إلى المدينة، قال: فبقيت أنا لذلك متعجبا إذ فكرت، فقلت: ما أحوجني إلى وتد، أوتده، فإذا حججت عاما قابلا نظرت هاهنا هو أم لا، فلم أعلم إلا و جابر بين يدي يعطيني وتدا. قال: ففزعت، قال: فقال هذا عمل العبد بإذن الله، فكيف لو رأيت السيد الأكبر؟، قال: ثم لم أره. قال: فمضيت حتى صرت إلى باب أبي جعفر علیه السلام فإذا هو يصيح بي: «ادخل، لا بأس عليك»، فدخلت فإذا جابر عنده. قال: فقال لجابر «يا نوح غرقتهم أولا بالماء، و غرقتهم آخرا بالعلم، فإذا كسرت فاجبره». قال: ثم قال «من أطاع الله أطيع، أي البلاد أحبّ إليك؟ قال: قلت الكوفة. قال بالكوفة فكن». قال: سمعت أخا النون بالكوفة. قال: فبقيت متعجبا من قول جابر، فجئت فإذا به في موضعه الذي كان فيه قاعدا، قال: فسألت القوم هل قام أو تنحى؟ قال: فقالوا: لا.

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

12
  • فالتفت إليه الإمام عليه السلام وقطّب في وجهه وحذّره من ذلك، تحذيرًا وفق القوانين، وأنّه ليس لدينا من أمثال هذه الأمور، لا يمكنك أن تذهب إلى أكثر من مكان، والآخرون هم في عهدتنا نحن، فعلى ماذا أنت حزين؟! أتريد أن تخبر هؤلاء بذلك، كلّ ذلك له مكانه، ولكن نحن نعلم كيف نتعامل مع أصحابنا، وليس هناك حاجة إلى هذا الخلق للأبدان العديدة الذي تقوم به أنت، فلو أردنا لأوصلناها لهم من دونك، فيمكن من دونك أيضًا إيصالها. وقد قلت ذلك أنا من عندي توضيحًا وليس هو قول الإمام، والإمام نهاه فقط عن تكرار ذلك. 

  • ٤. إرسال شيطان نيابة عن الإنسان العاصي

  • وقد تذكّرت أمرًا الآن، لا أدري إن كنت أخبرتكم عنه أم لا، وهي قصّة رائعة ومفيدة ترتبط بموضوع الملاك، وهي عجيبة جدًّا، فإذا أراد أحد أن يقوم بعمل خير كأن يحجّ أو يزور المشاهد المشرّفة ولم يتمكّن فإنّ الله يخلق ملاكًا على هيئته، وإذا أراد إنسان أن يرتكب معصية فإنّ الله يرسل نفسًا من تلك النفوس الخبيثة والشياطين يذهبون نيابة عنه إلى أيّ مكان يريده ويقومون بذلك، وهذا الأمر عجيب جدًّا وأنّه كيف لا يترك الله، لا يترك الله أجر أحد، فالأمر دقيق جدًّا، فهذا الموضوع دقيق جدًّا، وهو أمر مثير لتعجّب الناس، وليس العجب فقط من كون ذلك للمؤمنين والذين لديهم نيّة خير وهم في الطريق ومن أهل الولاء، كلاّ فلو كان إنسان من أهل المعاصي وأراد أن يحجّ فإنّ الله يرسل واحدًا من الجنّ أو الشياطين ليحجّ عنه!! هذا أيضًا وليس الأمر مختصًّا بذاك. وهنا على الإنسان أن يخاف، فإلى هذا ترجع كلّ هذه المسائل المنحرفة التي تظهر في المكاشفات وغير المكاشفات، ورؤية بعضهم لإمام الزمان عليه السلام، الإمام غير الحقيقيّ، إمام الزمان الذي يرونه والذي هو في الحقيقة شيطان. نحن نقول: حسنًا هذا المسجد الحرام، فكيف يمكن لإنسان كهذا أن يأتي؟! فمن الواضح أنّه إنسان مستقيم، ذلك الإنسان الذي كان هناك. ولكن اتّضح الأمر الآن.

  • وأذكر أنّه في رحلتي الأولى إلى الحجّ والتي كانت برفقة المرحوم العلاّمة حين كان عمري سبعة عشر عامًا تقريبًا وتشرّفت بالحجّ برفقة أخي، أخي الأكبر، عندما تشرّفنا برفقة جدّنا، جدّنا لأمّنا السيّد معين الشيرازي رحمه الله فقد كان معنا هو أيضًا، واجهنا مشكلة هناك، أثناء العودة، حيث كنّا ناوين أن نرجع إلى العراق، ولم نكن حينها ذهبنا برفقة حملة، فلم نكن هناك برفقة حملة ولا جئنا من إيران برفقة حملة، وكنّا قد ذهبنا بأنفسنا مستقلّين، ولكن واجهنا تلك المشاكل، لأنّه لم يكن من المسموح في عهد الشاه أن يحجّ من كان تحت العشرين سنة، وكان عمري حينها ۱۷ سنة، لذلك لم يكونوا يسمحون لي، فاضطررنا أن نذهب مستقلّين، ولكنّنا هناك التحقنا بتلك الحملة التي تحدّثنا عنها، وعندما أردنا أن نرجع، التقينا بجدّنا والذي كان برفقة جدّتنا أيضًا رحمة الله عليهما فقد توفّيا كلاهما، فقد كانا يريدان الرجوع أيضًا، وتهيّأت مقدّمات السفر إلى المشاهد المشرّفة لنا معًا، أي أنّا كنّا في طيّارة واحدة، وكنّا جالسين عند الساعة ۱۱ ليلاً ننتظر حتّى ينادونا ونركب وكانت الساعة ۱۱ ولم يكن يفصلنا عن منتصف الليل سوى نصف ساعة، وكنّا قريبين من منتصف الليل، وكنّا جالسين على الأرض مع جدّنا وجدّتنا وأخي والمرحوم العلاّمة فكنّا خمسة، وكان هناك كوب من الماء أتيت به وأرجعته إلى الذين كانوا هناك، فشربوا وأعطيته للمرحوم العلاّمة، فما إن أخذه نظر إلى السيّد معين وقال: انظر هذا الكوب في يدي، أريقه أم لا؟ أريقه أم لا؟

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

13
  • ولـ «أريقه» هذه قصّة رائعة، ففي الرحلة الأولى التي حجّ فيها المرحوم العلاّمة برفقة عدد من أصدقائه وكانت رحلة طالت أكثر من شهرين، حيث ذهبوا إلى العراق ومن العراق ذهبوا إلى الحجّ، وعند العودة مرضوا مرضًا شديدًا، ولم تكن إسرائيل قد احتلّت بعد بيت المقدس، وكان حينها تحت سلطة الأردن قبل سنة ۱٩٦۷ م، ففي تلك السنة وقعت تلك الحرب بين العرب وإسرائيل واحتلّت إسرائيل بيت المقدس، وكانت مصر والأردن وسوريا معًا قد حاربت والحاصل أنّه في تلك السنة احتلّ بيت المقدس. 

  • زيارة العلاّمة الطهراني للمسجد الأقصى ووصفه لأجوائه المعنويّة

  • يقول المرحوم العلاّمة: أثناء العودة وحين مرورنا في الأردن ـ ولا أدري لماذا مرّوا على الأردن ـ ومن الأردن أتينا إلى بغداد، ذهبنا أربعة أو خمسة أيّام إلى بيت المقدس، وكان يثني كثيرًا على أجوائه المعنويّة ونورانيّته، كان يثني كثيرًا. كان يقول: لقد كان عجيبًا جدًّا، لقد كان الأمر عجيبًا جدًّا بالنسبة إلينا، وكان يتمنّى أن يأتي يوم ويتحرّر من يد هذه الحكومة الغاصبة فيذهب الناس ويذهب المسلمون لزيارة هذه الأماكن، فقد كان مكانًا نورانيًّا جدًّا، فبيت المقدس كان مهبطًا للوحي، وكان منزلاً للأنبياء، منزلاً للأنبياء، ومن الواضح جدًّا أجواؤه المعنويّة، فهو مكان شديد النورانيّة ومكان مليء بالبركة.

  • ملاطفة المرحوم العلاّمة مع أحد شديدي الاهتمام بالطهارة 

  • نعم كان في تلك الرحلة برفقة عدد من أصحابه منهم السيّد معين الشيرازي الذي هو جدّنا، ومنهم الحاج إسماعيل الدولابي ويبدو أنّه قد توفّي قبل بضع سنوات، وكان من تلامذة الشيخ الأنصاري ومن أصدقاء المرحوم العلاّمة، ولكن في النهاية لم يكن على صلة به، وكان هناك آخرون لا يزالون الآن على قيد الحياة. وعندما كانوا في مكّة [كان السيّد معين كثير الاهتمام بالطهارة…] وكان السيّد معين حتّى آخر عمره هكذا يهتمّ كثيرًا بمسائل الطهارة والنظافة والتطهير، بل كان خارجًا عن المقدار المتعارف في ذلك شيئًا ما. وكان هؤلاء في حال من السرور العظيم والأنس فيما بينهم، ولم يكن حالهم كحالنا الآن الجميع في عبوس، ففي ذلك الزمان كانوا مسرورين ومأنوسين وفرحين… والحاصل أنّه في آخر طواف وعندما أرادوا أن يغادروا المسجد الحرام ويتوجّهوا نحو المدينة لأنّه كان ترتيب رحلتهم هكذا، وكان آخر طواف لهم بعد الظهر، وكانوا قد جلسوا في مكان ليستريحوا من التعب، بعد أن كانوا جاؤوا سيرًا على الأقدام، جلسوا ليشربوا الشاي ثمّ ينطلقون، يطوفون الطواف الأخير ويزورون ويطوفون طواف الوداع، ولم يكن المسجد الحرام يومها كما هو الآن، وربّما رأى الرفقاء صوره، وكان هناك باب بني شيبة وكان لا بدّ حين الخروج من الخروج منه، لأنّه كان هناك أمور معيّنة وكانوا قد دفنوا هناك صنمًا كبيرًا دفنه النبيّ صلّى الله عليه وآله، فلا بدّ أن يخرجوا منه ويدوسوا على هذا الصنم ـ وإن شاء الله لدينا مشروع لتوضيح مسائل الحجّ، مشروع مفصّل إن شاء الله ـ وبينما هم جالسون، أراد العامل أن يأتي بالشاي أو القهوة من محلّه فبدأ السيّد معين رحمه الله بالقول للمرحوم العلاّمة والحاج إسماعيل والآخرين: لقد استحممت حمّامًا مهمًّا جدًّا ولبست ثيابًا نظيفة واغتسلت حتّى أطوف طوافًا يعجبني لا يطرأ عليه الشكّ أبدًا، فأنا من جهتي اغتسلت، واللباس أيضًا طاهر، فلا شكّ أبدًا ولا شبهة لا من ناحية البدن المبارك والبدن الشريف والذي لا شبهة فيه أبدًا وقد غسلناه بشكل كامل تحت الأظافر ـ والتوضيح منّي ـ وداخل الأذنين وكلّ مكان يحتمل أن لا يكون قد وصله الماء، فقد اغتسلت غسلاً رائعًا ثمّ لبست ثيابًا نظيفة أعلم أنّ أحدًا لم يلسمها ولم ينظر إليها… وبدأ بالتوضيح والبيان وكان مسرورًا جدًّا رحمة الله عليه. وعندما قال ذلك، أخذ المرحوم العلاّمة كوبًا من الماء الذي كان موجودًا هناك على الطاولة في الإبريق عند بائع القهوة، ملأ هذا الكوب ونظر إلى الحاج إسماعيل وقال له: هل أريقه على السيّد معين؟ فقال الحاج إسماعيل: نعم أرقه يا سيّد محمّد حسين، فأراقه المرحوم العلاّمة على رأسه فتساقط من أعلى العمامة، بل لم يكونوا لابسين للعمائم، على تلك العباءة وبلّل جميع ذلك اللباس جيّدًا. وكان جالسًا على الكرسيّ ويتحدّث عن أموره ووفّر له لباسًا طاهرًا! جعله يتوب عن هذا النوع من الكلام والغسل والتطهير! وفجأة رفع السيّد معين يده وقال: الويل لي لقد ذهب كلّ شيء! كلّ ما صنعته قد ذهب! 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

14
  • مفاسد الاهتمام الشديد بالطهارة والنجاسة

  • وقد كان كلّ ذلك على أساس حساب، فهو من ناحية مزاح وأنس وسرور، كما أنّه اعتراض على هذا النوع من الكلام. فنحن مأمورون أن نغتسل ونلبس ثوبًا ونأتي، أمّا هذا النوع من الاهتمام بالظاهر ورعاية الظاهر فإنّه يمنع الإنسان عن الباطن، فأثناء كامل طوافك هذا الذي تقوم به بماذا كان قلبك مستأنسًا؟! كان قلبك مستأنسًا بأنّ لباسي الآن طاهر وانتهى الأمر، هذا هو؟ أنت واقف هنا؟ أليس كذلك؟! الصلاة التي تصلّيها تقول عنها إنّ هذه الصلاة تختلف عن سائر الصلوات، صلاتي هذه هكذا، وانتهى الأمر، يقول الله: ماذا؟ بماذا تهتمّ في كلّ كلامك هذا؟ بلباسك؟! بالطهارة التي حقّقتها؟! عليك أن تفكّر أثناء طوافك هذا بي أنا وحدي، وعليك أن لا ترى الثوب، عليك أن لا ترى الغسل الذي اغتسلته، عليك أن لا ترى هذه الأمور. نعم على الإنسان أن يقوم ببعض الأمور في البداية، ينظر إن كان هناك شيء نجس يطهّره، يحصّل الطهارة أو يليس لباسًا طاهرًا، لا أن يفكّر في الأمر ويحدّث عنه. فحديث السيّد عن الأمر يعني أنّه خصّص له مكانًا في قلبه، خصّص له مكانًا. وإلاّ لما تحدّث عنه، فهذا جعل نصيبًا للالتفات إلى غير الله، جعل نصيبًا للالتفات إلى اللباس، جعل همّه قصّة هذا اللباس، فهذا فيه إشارات مهمّة أيّها الرفقاء، فيه إشارات مهمّة لا بدّ من التفكير فيها، فعندما كان يتكلّم عن ذلك أرقنا الماء عليه وقلنا: الآن لن يتمكّن من تبديلها، لن يتمكّن في النهاية، صار مضطرًّا أن يبقى بها، فقال: رحمك الله ليتك لم ترقه! إنّها ثيابي التي عليّ أن ألبسها دائمًا وقد تبلّلت واتّصلت بهذه الكرسيّ وتلوّثت. فهذه كلّها حركات للاجتياز بالإنسان، حركات يقوم بها وليّ الله أو الرفيق المريد لوليّ الله ويجتاز بالإنسان. فهناك حركات تجتاز بالإنسان سلوكيًّا، تأخذ الإنسان فجأة وتلقيه في مكان آخر، بحيث أنّ الإنسان لو أراد بنفسه أن يجتاز ذلك لاحتاج منه الكثير من العمل والكثير من الجهد، فيأتي هذا فيأخذ بيده ويقفز به، وفجأة يجد أنّه لا يدري ماذا حصل! أين نحن؟ آه انظر ما هي الأوديّة التي قطعناها والعقبات التي اجتزناها! فجأة أمسك بهذه اليد وقفز قفزة فاسترحنا يا له من أمر عجيب! لقد خرجنا من هذه المشاكل، إنّها العنايات الخاصّة والألطاف. 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

15
  • وبينما كنّا جالسين تلك الليلة هناك، ما إن أعطيته كوبًا من الماء حتّى أمسك به وقال: أتذكر يا سيّد ذلك اليوم حين كنّا جالسين في مكّة قبل أن نغادرها فرميت الماء على ثيابك؟! فضحك وقال: لا ترقه مرّة أخرى، أنا لا أريد أن أطوف، أريد فعلاً أن أذهب. كنّا قاصدين بغداد، فضحكنا وكان الجميع يضحكون. 

  • رؤية السيّد معين الشيرازي اثنين في الحجّ مع أنّهما لم يكونا في الحجّ حينها

  • ثمّ التفت السيّد معين إلى المرحوم الوالد وإلينا والحاضرين وقال: لقد كنت خلال هذه الرحلة كثيرًا ما أرى اثنين: أحدهما واحد من أصدقائه كان لا يزال حيًّا آنذاك، والآن هو حيّ أيضًا ولكن لا أدري أين هو. والآخر الصديق المكرّم الحاج عبد الجليل محيي والذي كان من أصدقاء ومريدي وتلامذة السيّد الحدّاد، وكان منزله في الكاظميّة. فهو أحد الذين كنت أراهم كثيرًا في هذه المراسم والمواقف والمشاهد، والآخر هو المرحوم… ـ وطبعًا كان حينها على قيد الحياة، وإنّما أقول الآن المرحوم لأنّه انتقل إلى رحمة الله ـ المرحوم الحاجّ عبد الزهراء الكرعاوي والذي ذكر اسمه المرحوم العلاّمة في الروح المجرّد، وذكر حالاته هناك. 

  • وعندما كان السيّد معين رحمه الله ينقل هذا الأمر كان الحاج عبد الزهراء قد خرج من تحت ولاية السيّد الحدّاد رحمه الله، وكان أهل الفتن قد أحاطوا به، وأوجد لديه أهل الوسوسة شبهات إضافة إلى تشكيكاته هو، ممّا أدّى إلى نشوء شبهات لديه، وسبّبت أن يبتعد، ولم يتدخّل السيّد الحدّاد بشأنه. فعلى كلّ حال لكلّ إنسان نصيبه، يأخذ نصيبه ويمضي. مهمّتنا هي أن نطرح الحقائق، ونقوم بما هو لازم للرفقة والصداقة لا أكثر من ذلك، لذلك كان هو قد غادر، وكان له تردّد على الفريق المخالف، حتّى عندما جاء إلى إيران كان يتردّد على مجالس أولئك الذين ذكرهم المرحوم العلاّمة بالكناية من المخالفين والمعاندين للسيّد الحدّاد۱. حتّى إنّه عندما جاء للقاء المرحوم العلاّمة في منزله، لم يلتق به وأرسل إليه أنّي لا ألتقي بك! هكذا بكلّ صراحة، فرجع برفقة من كان معه حيث كانا اثنين، أحدهما واحد من أصدقائه من أهل طهران كان قد جاء برفقته إلى ذلك المنزل، ولكنّهما لم يلتقيا به ورجعا.

    1. راجع الروح المجرّد ص ٤٣ وما بعدها. 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

16
  • وعندما سمع المرحوم العلاّمة بذلك قال: نعم هو الأمر هكذا، ولا إشكال في ذلك. أمّا بالنسبة إلى الحاج عبد الجليل فإنّه من أهل الولاء ـ وكان صريحًا جدًّا في هذه الأمور، ولم يكن يجامل ـ هو من أهل الولاء ولا بدّ أنّه كان قاصدًا للحجّ ونوى ذلك ولم يتمكّن، ولدينا في الروايات أنّ الذين يريدون وينوون زيارة العتبات المقدّسة ولم يتمكّنوا فإنّ الله يرسل ملائكة بصورتهم لكي تقوم بذلك نيابة عنهم فتزور عنهم، فهذا أيضًا صحيح، لذلك كان يقول: كنت أراه كثيرًا خاصّة أثناء الطواف. فقد كان ملاكًا بتلك الصورة، وكنت أنت تراه. غاية الأمر أنّه حيث إنّك تعلم أنّه لم يأت عرفت أنّ هذا متمثّل قد جاء نيابة عنه، ولو كان هناك أحد غيرك ووقعت عينه عليه، كذلك الذي دعا المرحومَ العلاّمة إلى الحجّ، فما الذي يُدريه؟! فهو لا يعرف هذه الأمور، فيقول: ربّما كان ذلك حقيقة، وأنّ ذلك الرجل قد جاء بنفسه إلى هنا. وأمّا أنّك رأيت الحاج عبد الزهراء الكرعاوي فقد كان شيطانًا على شكله وصورته!! وذلك لأنّه… ـ فانظروا كم الأمر دقيق، وهذا ما كنت أودّ قوله ـ لأنّه كان قد خرج من تحت الولاية، ولأنّه خرج فإنّه يندرج تحت قوله تعالى: {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} ولا وجود لنور الولاية عنده، وإنّما تنوب الملائكة عن الإنسان النورانيّ، لأنّ حقيقة الملاك حقيقة نورانيّة، ولا يمكن أن يكون الملاك متمثّلاً بصورة إنسان ظلمانيّ؛ فالذي رأيته إذن ربّما كان لديه قصد للحجّ ولم يتمكّن، وقد أرسل الله شيطانًا على صورته فجاء إلى هذه المواقف والمشاهد نيابة عنه. وهو يقوم بذلك نيابة عنه. 

  • فهذا الأمر أمر عجيب جدًّا، حقًّا إنّه غريب، فأولاً ليس عالم الشياطين خارجًا عن قدرة الله، كلاّ بل نظام الشياطين [خاضع لقدرة الله أيضًا]، وليس معنى ذلك أنّ الله يقول: تعال أيّها الشيطان لديّ عمل، تعال، لأنّ فلانًا يريد أن يقوم بهذا العمل فاذهب أنت نيابة عنه، كلاّ بل نظام عالم الغيب نظام يحتوي كلّ هذه الأمور، وكلّ ذلك يحصل فيه بشكل تلقائيّ، كلّ هذه الأمور وهذا القضايا تتبلور في نظام عالم الغيب. فعندما ينوي إنسان ما في ذلك النظام فإنّ ذلك الملاك الذي لا بدّ أن يقوم بذلك العمل ينهض بنفسه ولا حاجة إلى إذن الله وإجازة منه وأن يقول له: انهض وافعل ذلك نيابة عنه. وهكذا هو الحال في الجهة المقابلة، فعندما يدخل إنسان في عالم البهيميّة وفي عالم الظلمة وفي عالم النفس وفي عالم الكدورة فإنّ الشياطين تأخذه وتحميه وتجعله في حيطة ولايتها، وتؤدّي الأعمال نيابة عنه، وتجعل نفسها مكان إمام الزمان، فهو يرى إنسانًا ويسمّيه إمام الزمان، والحال أنّه شيطان، فهذا ما يحصل بشكل تلقائي. 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

17
  • يرى إنسانًا يأتيه فيخبره بأمر ما، أمرًا لا اطّلاع لأحد عليه، فيرى أنّه يخبره عن الغيب فيقول يا للعجب! ولكنّه شيطان، لقد توهّم أنّه من الرحمن، يتوهّم أنّه على صلة بإمام الزمان، يتوهّم أنّه كذا وكذا. وقد وقع من أمثال هذه الأمور الكثير الكثير. 

  • المكاشفات الشيطانيّة وكيفيّة تمييزها

  • ففي زمان المرحوم العلاّمة، وقد كنت في خضمّ هذه الأحداث ولديّ منها إلى ما شاء الله، لديّ منها ما يملأ كيسًا كبيرًا، وأنّه كيف يرى هؤلاء الناس عندما يرون؟! فعندما ينفصل هؤلاء من سيطرة ولايته يقعون في ولاية الشيطان فيتولّى أمورهم ويقوم بها، يخبرونهم أن افعل كذا ولا تفعل كذا، سيحدث كذا. ويحدث بالفعل، لا أنّه كذب، فلو كان كذبًا فلا فائدة منه وسيتحرّر الإنسان منهم، ولكنّ الحقائق التي يبيّنها هؤلاء كنّا نرى فيها أنّ طريق هذا الرجل باطل، فكيف يمكن لإمام الزمان عليه السلام أن يأمر بالباطل؟! كيف يمكن ذلك؟! كيف يمكن ذلك؟! كيف يمكن لإمام الزمان أن يأمر بأمر مخالف للأخلاق؟! كيف يمكن لإمام الزمان عليه السلام أن يأمر بهتك مؤمن؟! أيمكن ذلك؟! أيتلاءم ذلك مع نظام الوجود؟! أينسجم مع الحقائق؟! إمام الزمان الذي هو أكثر اهتمامًا من الناس بهذه الأمور كيف يمكن أن يأمر بأمر باطل؟! كيف يمكن أن يفعل ذلك؟! فيكون ذلك الإنسان تحت سيطرة ولاية الشيطان بحيث أنّه كما أنّ نور المعرفة يتوهّج في قلوبنا إن شاء الله بواسطة ولاية أمير المؤمنين عليه السلام وابنه إمام الزمان عليه السلام فيجعلنا ملتفتين إلى الحقائق، ولكنّ نور الولاية هذا يظهر بالنسبة إلى هؤلاء على هيئة ظلمة الولاية فيغطّيهم، فينظر الإنسان إلى أشكالهم فيرى أنّها يا للعجب! إلى أين ذهب هذا؟! إلى أين مشى وابتعد؟! ينظر فيرى هيأته غريبة وهو يتكلّم بضرس قاطع فيقول: كلاّ! الأمر هكذا، الأمر هكذا، هذا هو الحقّ، هذا هو الحقّ {والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت} يأتي الطاغوت ويحيط بهم ويأمرهم وبعض أوامره صحيحة، لا أنّها يتبيّن كذبها، يقول لهم: سيحدث كذا، فيحدث. ولكن هل سيحدث ذلك في نور أم في ظلمة؟! الحدوث ليس أمرًا مهمًّا، ولكن هل ما أقوله لك سيحدث في الظلمة وطيّ طريق الباطل ولو أردت في إحدى هذه المواقف أن تسلك طريق الصدق فإنّه يقطع صلته بك وينفصل عنك؟! فهل فكّرت في أنّ تلك الحادثة ستقع أثناء سيرك في الطريق الباطل والمظلم؟! إن قمت بذلك فسيحدث كذا، سيحدث وسترى غدًا أنّك ستكون كذا، سترى غدًا أنّ فلانًا سيلتقي بك، سترى وسيلتقي بك ويحدث ذلك، لماذا؟! لأنّك تطيعه وتسير في هذا الطريق الباطل، فسيرك في طريق الباطل هذا يؤدّي أن تتحقّق سلسلة العلل في طريق الظلمة وتقع وتظهر فيها. 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

18
  • وهذا هو ما يؤدّي إلى الشبهة عند كثيرين! وكثيرون يتوهّمون أنّهم على ارتباط مع الإمام، والحال أنّهم على ارتباط مع الشيطان، على ارتباط مع الشيطان، إنّه الشيطان ولكنّهم يرونه الإمام، إلا أن يأخذ الله بأيديهم ويعيد الأمر بنحو آخر. 

  • نعم قال المرحوم العلاّمة: هذا الآن تحت سيطرة الشيطان، وقد جاء الشيطان نيابة عنه إلى عرفات وإلى منى. وهو يقوم بهذه الأفعال في النهاية لكي يحافظ على أصحابه، يصنع لهم ماء اللحم والأرزّ وأمثال ذلك ويقول لهم: أنا أيضًا أصنع لك ذلك؛ فتعال يا عزيزي تعال إلى حضني! تعال إليّ فأنا لك خير رفيق، لا أتركك، لا أفارقك. إنّه لا يفارقك حتّى يوسّدك في هذا القبر. أنا لا أبتعد عنك، وسأكون رفيقك وصاحبك حتّى اللحظة الأخيرة، حين أدخلك إلى القبر مشركًا كافرًا، حينها أستريح، حينها أرى أنّي عملت بما عليّ فأمضي إلى عملي وأصفّق وأغنّي أنّي وفيت بـ {وعزّتك لأغوينّهم أجمعين} لقد منعت إنسانًا من أن يسير، لقد صنعت له إمام زمان كذبًا! لقد صنعت له ملائكة كذبًا، لقد صنعت له حور العين كذبًا، لقد جئته بعلم الغيب، لقد جئته بمسائل غريبة، لقد صنعت له المكسّرات التي تخدع الناس وتخدعهم حتّى النهاية.

  • ادّعاءات أنّ فلانًا تجاوز نفسه ومدى صوابها

  • كانت هناك حادثة سمعتها من أحدهم وهي أنّ الشيخ الأنصاري رحمه الله قال عن إنسان إنّه تجاوز نفسه. ولا أدري هل كان ذلك الأمر صحيحًا أم خاطئًا، فلا اطّلاع لديّ على ذلك، كنت قد سمعتها من أحدهم. فقلت: هذا لا ينسجم مع ما أراه، هذا لا ينسجم مع ما أراه. ففي النهاية لو أنّ إنسانًا تجاوز نفسه فهناك آثار خارجيّة لذلك، وآثار ذلك وظهوراته تختلف. نحن جميعًا نقول: تجاوزنا نفوسنا، ولكنّنا جميعًا نقول ذلك هراء، ولا حقيقة لذلك، نعم نقول: لقد تجاوزنا أنفسنا، وقد كان السابقون أيضًا يقولون: نحن جميعًا تجاوزنا أنفسنا فماذا علينا أن نصنع؟ وأمثال هذا الكلام، ولكن عندما كان يحدث شيء ما كان يتبيّن هل تجاوز الإنسان نفسه وآثار نفسه أم أنّه لا يزال مبتلى بها ولكنّ الأمر اختلط لديه، ما إن حدث أمر ما حتّى اتّضح لجميع الحاضرين في ذلك المجلس وضوح النهار أنّ جميع الادّعاءات كانت هراء، فقد حدثت بيني وبينه مشاجرة كان من الواضح أنّي لم أكن أنا من ابتدأها، وكذلك الأمور التي كانت تطرح، والإهانات التي حصلت فيها وقلّة الأدب التي حصلت. ثمّ كان لي جواب على ذلك، وكان من الواضح إلى أين ستنتهي المسألة، ولمّا لم يبق له طريق يفرّ منه، التفت الجميع، جميع الحاضرين في ذلك المجلس والذين كان يبلغ عددهم ما يقارب العشرين والخمسة وعشرين رجلاً، التفتوا جميعًا ماذا حصل في ذلك الأمر، فأنا لم أتكلّم، أنا لم أفعل شيئًا، كنت جالسًا في مكاني، وبدأ هو بالإهانة، غاية الأمر أنّي رأيت أنّ مسألة الإهانة تجاوزت الشأن الشخصيّ وصارت عامّة لجميع العلماء، فاتّخذتُ موقفًا وأسكتّه وهزمته هزيمة فظيعة، فقد كان إنسانًا طليق اللسان جدًّا، ولم يكن ممّن يتنازلون بسهولة وينهزمون، وكنت أعرفه أنا أيضًا، كنت قد رأيته منذ طفولتي وجميع سجلّه كان بيدي، وكنت أعرف أنّه سيعيد الكرّة، ومن أين سيأتي، وكلّما ورد من مكان كنت أعيد عليه الكرّة، وبعد ثلاث أو أربع جولات من النقاش بيننا رأى أنّي قد شهرت سيفي وأواجهه علنًا لا خفية ولا فائدة من المحاولة. والنتيجة أنّه دخل من باب الاعتذار. فقلت: الآن حصل أمر مهمّ، فمن الآن فصاعدًا التفت جيّدًا فلا تتكلّم في أيّ مكان، لا تتكلّم معنا كلامًا باطلاً في أيّ مكان. فلم يستطع أن يفعل شيئًا لأنّي كنت على علم بكلّ شيء وبتفاصيل الأمر ولم يكن هناك شيء خافيًّا عليّ. وقلت لكم إنّ الأمر لم يكن خاصًّا بي. فلو كان الأمر شخصيًّا لا يبالي الإنسان أبدًا، فعلى الإنسان في هذه الدنيا أن لا يقف عند هذه الأمور، ولكنّ الأمر تجاوز عن أن يكون شخصيًّا، وصار عامًّا. حسنًا أهذا الذي يقال إنّه تجاوز عن النفس؟ هذا الذي يقال إنّه تجاوز عن النفس؟! هذه هي المسألة، والنتيجة أنّ الأمر صعب جدًّا. 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

19
  • تتمّة قصّة رؤية السيّد معين للحاجّين

  • وعندما نقِلتْ تلك القصّةُ [من قبل السيّد معين] التفت إليه المرحوم العلاّمة وقال له: غاية الأمر أنّه حيث إنّك لا تملك القدرة على التمييز فقد رأيتهما كليهما بصورة واحدة، رأيتهما كليهما بصورة الملاك، فلو كانت لإنسان ما قدرة على التمييز لعلم أنّ هذا ليس ملاكًا، هذا وضعه يختلف، ولكن بما أنّك لا تملك هذه القدرة، ومن جهة أخرى كنت تعلم أنّه لا هذا جاء ولا ذاك، استنتجت أنّهما ملكين يقومان بالحجّ، ولكنّ هذا شيطان ومن الجنّ جاء بالنيابة عن ذاك ليحجّ عنه، الطواف يا عزيزي يؤدّيه عنه، يصلّي صلاة الطواف، يقول: ولا الضالين بنحو لم تقله أنت في حياتك كلّها، هكذا يأتون ويصلّون صلاة صحيحة، وجميع حروفها تخرج من مخارجها بشكل جيّد، يجلس الشيطان فيقرأ لك الحمد وسورة يصحّح فيها الأخطاء بما لا يصحّحه المصحّحون من هؤلاء العلماء الذين يكونون في حملات الحجّ ويقولون للحجّاج إنّ جميع صلواتكم باطلة فأعطونا المال لنصلّي عنكم، هو يصلّيها بنحو أفضل من أولئك العلماء. 

  • خطأ التشدّد في القراءة أثناء صلاة الطواف

  • لقد تشرّفت إحدى السنوات بالحجّ فرأيت في منى رجلاً عجوزًا جاءني باكيًا، فقلت له: ماذا جرى؟! فقال: عالم الحملة يقول: عليك أن تدفع بضعة ريالات أو دولارات لأنّ قراءتك للحمد والسورة باطلة وزوجتك تحرم عليك. فضحكت عاليًا وقلت له: هذا أفضل، فلتحرم عليك زوجتك، فقد صرت عجوزًا! دعها تذهب، واغتنم الأيّام القليلة الباقية من عمرك بالتفكير في الآخرة. مازحته قليلاً. فقال: أتسخر منّي يا سيّد؟! فقلت: لا، والله أنا محقّ، فلو كنت بدلاً منك لأفسدت طواف نسائي هذا، لأفسدته لنعيش بضعة أيّام مرتاحي البال من هذه الأمور، فمازحته وضحكنا معًا، فقال لي فجأة: إنّ فلانًا يقول هذا. فقلت له: اقرأ الحمد والسورة لأرى. فقرأهما فقلت له: أنت تقرؤهما خيرًا منّي. فقال: حقًّا؟! قلت: نعم. فقال: رحم الله أباك فقبّلني ثمّ قال لي: فماذا يقول هؤلاء إذن؟! قلت: لا أدري والله! أنت جئت إليّ وأنا أقول لك هذا، فاذهب إلى من شئت وقل له ذلك. فذهب وبعد قليل جاء ثلاثون حاجًّا كلّ واحد منهم قد دفع المال الكثير لهؤلاء، وامتلأت الخيمة، فقلت: الويل لي لقد راج عملي، فبماذا سأجيبهم؟ والحاصل أنّهم جاؤوا الواحد تلو الآخر إليّ فكنت أقول لهم: صحيحة صحيحة صحيحة. وكان هناك اثنان أو ثلاثة لم يكونوا مطمئنّين من أعماق قلوبهم فقلت لهم: أعطوني أسماءكم أنا سأصلّي عنكم، أنتم صلّوا وأنا أيضًا أصلّي عنكم. كانوا اثنين أو ثلاثة لم يكونوا مطمئنّين من أعماق قلوبهم، فذهبوا واسترجعوا كلّ المال الذي كانوا قد دفعوه، وقالوا جميعًا: أعطنا أموالنا فصلاتنا صحيحة. فقال لهم: كلاّ أنتم مخطئون من قال لكم ذلك؟! قالوا: هذا السيّد الطهراني يقول: إنّ الصلاة صحيحة. 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

20
  • والحاصل أنّي قمت بعمل جعل هؤلاء القيّمين لا ينظرون إليّ حتّى رجعنا إلى إيران، هذان القيّمان وكان معهما ثالث صغير السنّ استبدلوه، وآخر كانوا يعملون عنده. كانوا يقولون: لا نأخذ أقلّ من مائة ريال، أقلّها مائتا ريال، وإذا أردتَ أن نلفظ حرف العين بشكل أفضل فأضف عشرة ريالات، وإذا أردت أن نلفظ الصاد بشكل أفضل فأضف ثلاثين ريالاً، وأمثال هذه الألاعيب. وقد جاء هذا السيّد الطهراني وأغلق عنهم باب رزقهم وأفسده عليهم. قلت لهم: ما هذا الدكّان الذي فتحتموه؟! لا سامحكم الله أنتم ومن يعلم بحالكم ومع ذلك يرسلكم إلى هذه الأماكن لتؤذوا هؤلاء الناس وتشدّدوا عليهم هكذا! وقلت لهم: تعالوا يا أعزّائي وأخبروني في أيّة رواية وأيّ دليل فقهيّ جاء أنّ صلاة الطواف هذه تختلف عن سائر الصلوات؟! فإن كانت صلاة الصبح التي تصلّيها مقبولة فهذه الصلاة أيضًا مقبولة، وإن كانت صلاة طوافك غير مقبولة فعليك أن تقضي جميع صلواتك طوال عمرك، فما هذا الكلام الذي اخترعتموه؟! أصلاً لا أساس فقهيًّا لأمثال هذه المسألة، وفضلاً عن ذلك وهنا المشكلة، وهي أنّ المسألة لا تختصّ بصلاة الطواف، فصلاة العمرة أو الطواف أمرها أشدّ وأعظم وأهمّ من هذه الصلاة، غاية الأمر أنّه حيث ترتبط هذه المسألة بالنساء وبطواف النساء وتلك الأمور التي هي في أذهان الناس، فإنّهم يصنعون ذلك، وإلا فلا أساس فقهيًّا لذلك لا في الروايات ولا في غيرها، وإنّما هي شبهة طرحها الشيخ ولا معنى لها وينبغي أن لا يلتفت الإنسان إلى هذه الأمور أبدًا، فهذه الأمور ليست مهمّة! 

  • لقد قال العلاّمة للسيّد معين: بما أنّك لم تكن لديك القدرة على التمييز فقد توهّمتهما كليهما معًا ملاكين، وإلا لو كانت لديك قدرة على التمييز لأدركت أنّ هذا شيطان، شيطان، وقد تمثّل بصورته، وهو يطوف، ويقوم بأعمال أخرى. 

  • ولكن حيث إنّ السيّد معين رحمة الله عليه لم يكن من حيث تفكيره وفهمه للسيّد الحدّاد رحمه الله آنذاك مثل المرحوم العلاّمة الوالد، نعم كان يعدّ السيّد الحدّاد رجلاً جليلاً ومن المبرّزين والمميّزين وفوق المعتاد وكانت له صلة به، ولكنّه لم يكن يعتقد في مسألة الولاية والأستاذ وأمثالهما اعتقاد الوالد رحمه الله، فإنّه لم يقتنع بهذا الكلام كثيرًا، وأنّ هذا شيطان وأنّك تميّزه، فضحك ضحكة وقال: الله أعلم وتجاوز عن الموضوع.

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

21
  • عتاب السيّد حدّاد للعلاّمة على تصريحه بعدم قدرة السيّد معين علنًا

  • لقد جئنا تلك الليلة إلى العراق، وبينما نحن جالسون في الليلة الأولى أو الثانية عند السيّد الحدّاد رحمه الله، رفع رأسه هكذا والتفت إلى المرحوم العلاّمة وقال: هذه المسألة التي تطرح وهي أنّه إذا نوى إنسان أن يذهب إلى مكان من الأماكن المقدّسة والمشاهد المشرّفة وخصوصًا الحجّ فإنّ الله يرسل ملاكًا على صورة هذا الإنسان ـ فانظروا عن أيّ شيء بدأ يتحدّث ـ فهل هذه المسألة صحيحة؟ 

  • فقال المرحوم العلاّمة: نعم هناك أمر كهذا، ولدينا في الروايات، والشواهد قائمة على ذلك أيضًا. 

  • فطأطأ رأسه لحظات ثمّ رفعه من مرّة ثانية وقال: حسنًا فهل هذا يختصّ بالمؤمنين أم أنّ غير المؤمنين أيضًا يمكن أن يتمثّل الشيطان بصورهم؟ أم أنّها تختصّ بأولئك؟ فانظروا إلى لطافة أولياء الله كيف يريدون أن يعلّموننا عندما كنّا جالسين هناك كيفيّة التصحيح والتعامل والعلاقة والفهم، فقال المرحوم العلاّمة: لا بل الشيطان أيضًا هكذا، والأمر لا يختصّ بالملائكة، والشياطين أيضًا يتمثّلون بصور الفسّاق ويظهرون أنفسهم بصورة جيّدة، ويفعلون لهؤلاء وبالنيابة عنهم ويقومون بما يقوم به الملاك، غاية الأمر أنّ ذاك بنحو وهذا بنحو آخر. 

  • وهنا أيضًا تأمّل السيّد الحدّاد بضع لحظات ثمّ قال: حسنًا كيف يمكن التمييز؟ ـ انظروا ـ كيف يمكن التمييز ومعرفة ما إن كان هذا ملاكًا أم شيطانًا؟ ما هو طريق معرفة ذلك؟ من أين يعرف؟

  • فقال المرحوم العلاّمة: لا بدّ للإنسان حتّى يميّز أن تكون لديه بصيرة، لا بدّ أن تكون لديه بصيرة، فيفهم بواسطة نور الباطن أنّ هذا الآن شيطان تجلّى بهذه الصورة أو ملاك. 

  • فقال السيّد الحدّاد: نعم صحيح صحيح صحيح ما لم تكن للإنسان بصيرة فلا يمكنه التمييز، لا بدّ أن يكون للإنسان نور بصيرة، لا بدّ أن يكون لديه مائز عبّر بالمائز، لا بدّ أن يكون لديه مائز بحيث يمكنه أن يميّز بين الباطل والحق، نعم نعم هكذا. 

  • ثمّ صبر بضع لحظات ثمّ قال: على الإنسان أن لا يقول عيوب الناس بصراحة! فانظروا. ماذا فعل المرحوم العلاّمة قبل ليلتين؟! قال له بصراحة: لأنّك لا تملك نورًا وليست لك القدرة على التمييز لذلك خلطت بينهما ولم تميّز. فقد كان يصحّح ذلك، ونحن لم نكن ملتفتين ماذا يصنع، كنّا نظنّ أنّه يقول ذلك فقط فقال: على الإنسان أن لا ينبّه على عيب الآخر بصراحة وأمام الآخرين! على الإنسان أن يحفظ ماء وجه المؤمن، إنّ حفظ ماء وجه المؤمن ضروريّ، ثمّ قرأ هذا البيت: 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

22
  • داند و خر را همی راند خموش***بر رُخت خندد برای روی پوش
  • يقول: إنّه يعلم ما يجري، ولكنّه يسوق حماره بصمت، ويضحك أمامك ليحجب وجهَه عنك وراءَ بسماته.

  • فهذا بيت شعر معروف لمولانا رحمة الله عليه، حقًّا لم يترك مولانا هذا شيئًا.

  • داند و خر را همی راند خموش***بر رُخت خندد برای روی پوش
  • ثمّ لم يقل السيّد الحدّاد شيئًا، قال ذلك وانتهى الأمر، وفي صباح اليوم التالي انطلقنا بعد تناول الفطور برفقة المرحوم الوالد وأخي الأكبر، وتوجّهنا نحن الثلاثة نحو الحرم، حرم سيّد الشهداء، ولم يكن آنذاك كما هو الآن، بل كان هناك سوق ولا بدّ من العبور منه، وأثناء سيرنا في ذلك السوق قال المرحوم العلاّمة: تعالوا يا أبنائي أريدكم لأمر مهمّ! تقدّم يا سيّد محمّد صادق ويا سيّد محمّد محسن أريدكما، أتذكرون الكلام الذي قاله السيّد الحدّاد أمس لأيّ شيء كان؟ قلنا: لا فنحن لم نلتفت أصلاً لأيّ شيء كان، لا أنا ولا أخي. فقال: فكّرا جيّدًا ماذا كان ذاك الكلام. ففكّرنا قليلاً وفكّرنا فالتفتنا فجأة وقلنا: ألم يكن مرتبطًا بما جرى في جدّة؟! فقال: بارك الله بكم، كلّ ما قاله كأنّه كان حاضرًا في ذلك المجلس ويسمع، وقد ذكر أربعة أمور: 

  • الأوّل: أنّ الملاك والجنّ يظهران بصورة إنسان، سواء الملاك أو الشيطان والجنّ.

  • الثاني: إن نوى إنسان ما الذهاب إلى مكان من المشاهد والمواقف المشرّفة والمناسك وما شابه، فإنّ الله يرسل ملاكًا إن كان مؤمنًا، ويرسل شيطانًا إن كان غير مؤمن، فينوب عن الإنسان بشكل دقيق. 

  • الثالث: للتفريق بين هذين الأمرين لا بدّ للإنسان أن تكون له قدرة نفسيّة بحيث يميّز، وأمّا من حيث النظرة الظاهريّة فهما متشابهان إلى درجة كبيرة، والأمر دقيق إلى درجة بحيث لا يختلفان حتّى بشعرة، حتّى إنّ أحدهما هو أفضل وأدقّ، وكتفه يكون نحو الكعبة بدقّة ويصوّب نحوها بشكل دقيق بحيث لا يكون فيه أيّ شبهة من قبل هؤلاء العلماء الذين يقولون: لا بدّ أن يكون الكتف الأيسر نحو أحجار الكعبة بشكل دقيق، وإذا ما مال قليلاً بطل الطواف، بطل، أصلاً يكون الطواف باطلاً!! هكذا يقولون، أمّا أنا فعندما كنت أطوف كنت أميل نحو هذا الجانب وذاك، ونحو الأعلى، والله يقبل، فهكذا كان طوافي، وإن شاء الله يقبل، يقبل من عباده. 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

23
  • الرابع والأخير: هو أنّي هناك قلت لجدّكم إنّه ليس لديك قدرة على التمييز. وعملي هذا خاطئ ولم يكن ينبغي أن أقول ذلك أمامكم وأمام جدّتكم والحاضرين بشكل صريح فأظهر عيب إنسان هكذا. وقد أشار السيّد الحدّاد ببضع جمل إلى الأمور الأربعة التي كانت هناك الأول والثاني والثالث والرابع، ثمّ قال: هذا هو أسلوب أولياء الله في بيان الحقائق للإنسان بشكل دقيق ولطيف وعذب. 

  • حسنًا لقد انتهى الوقت وأعتقد أنّا لو تكلّمنا بضع دقائق أخرى لصار كلامنا ساعتين كاملتين. إن شاء الله تتمّة الكلام تأتي لاحقًا. والحقيقة أنّي لم أكن الليلة قادرًا على متابعة ذلك الموضوع الأساسيّ، وسأفشي عن نفسي فالأمر ليس خافيًا عن الله، ولأكن صريحًا مع الرفقاء، فقلت لن أدخل في أصل الموضوع وسأتحدّث بما هو قريب منه وليس خارجًا عنه. فذاك يحتاج إلى قليل من الطاقة رأيت أنّي لا أملكها اليوم، فتكلّمت بأمور أخرى، وقلت نجلس ونقضي لحظات بذكر الصالحين، فعند ذكر الصالحين تنزل الرحمة. 

  • نأمل من الله أن ينزل علينا خيره وبركاته في هذا الشهر وفي هذه الأيّام الأخيرة، فقد انقضى ثلثا هذا الشهر المبارك ونحن لا نزال خالي الأيدي. 

  • إن شاء الله ببركة الأنفاس القدسيّة والذوات المقدّسة للمعصومين وأولياء الله والصلحاء والأبرار يلطف الله بنا نحن أيضًا، ونقول هذا لله أيضًا رغم أنّنا لسنا أهلاً له ولكنّا نحبّهم، فنحن لسنا منهم. 

  • أحبّ الصالحين ولست منهم***لعلّ الله يرزقني صلاحًا
  • فنحن في هذا الجانب، نحبّهم، نحبّ أن نقول كلامهم، حقًّا هكذا هو الواقع، أليس هو كذلك؟! هل هو غير ذلك؟ هل نريد في كلامنا أن نتكلّم بكلام الآخرين الفارغ، أم لا بل تريد قلوبنا أنّه إن كان هناك من قرأ قصّة وحكاية مفيدة عن عظيم، عن إنسان مقرّب، عن إنسان مهذّب، عن وليّ، عن عارف، عن إمام ومعصوم، فإنّا نبحث عن ذلك في الظاهر، والحمد لله فقد شمل التوفيق الجميع وهذا الأمر متحقّق عندهم، فرغم أنّنا لسنا من الصالحين ولكنّا نحبّهم. ونأمل من الله أن يكمل لها باقي الأمر بكرم هؤلاء، فذاك أيضًا كان بكرمهم، وهذا أيضًا يكون بكرمهم، فقد كان بإمكان الله أن يلقي في قلوبنا محبّة غيرهم، أليس هناك من هم كذلك، انظروا حولكم، انظروا الناس، وفي أيّ أحوال هم الناس وماذا يدور في رؤوسهم، وحول ماذا يدور كلامهم؟ وذهابهم وإيابهم إلى أين؟ إلى بيت هذا وبيت ذاك، حتّى المصلّون منهم، لا أتحدّث عن غير الملتزمين لا سمح الله، بل عن الذين يصلّون في أيّ مسائل هم مشغولون وفي أيّ كلام وفي أيّ أمور، كلّها قضايا وأخبار هذا وذاك وكذا وكذا. 

أربعة أدلّة على أصالة النيّة - نيابة الملائكة والشياطين عن المؤمنين والفاسقين

24
  • وإذا نظرتُ الآن إلى أنفسنا أرى أنّ الأمر يختلف، ولا يعني ذلك أنّ لا نملك الاستعداد للدخول في تلك الأمور، كلاّ، بل لدينا، ولدينا ما هو أرفع منها، ولكنّنا لم نعد نرى حاجة، لا نرى حاجة لها في نفوسنا، لا نشعر بتكليف بها في نفوسنا، في هذا الزمان الذي شعاره وانفساه دعه وشأنه، نركّز في أعمالنا ونعمل في دائرة ما كلّفنا به ونسير في حدودها. إن شاء الله لا يمنعنا الله نظر اللطف من أوليائه ويجعلنا دائمًا تابعين لذلك السلوك وذلك الطريق إن شاء الله.