23

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك

تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (1)

6821
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةمباني الأخلاق


التوضيح

أهم محتويات المحاضرة:
- معنى ذكر الله؛
- إنّ الصلاة هي أعلى ذكر، وأفضل وسيلة للتقرّب إلى الله هي؛
- علّة فضيلة الصلاة على باقي العبادات؛
- عدم سقوط حكم الصلاة في أيّ ظرفٍ من الظروف؛
- نقد القائلين بانحصار العبادة في خدمة الخلق؛
- القرب من الله ورفع الحجب بواسطة دوام الذكر وذكر الله؛
- اختلاف طريقة الدعاء وذكر الله بين عرفات وبين المشعر الحرام؛
- التلازم بين ذكر الله وبين محبّة الله؛
- بناء جميع أوامر الدين على أساس المحبّة؛
- الوصول إلى أعلى درجات الإيمان بسبب شدّة المحبّة لله؛
- تأثير العزلة في تحصيل حضور القلب؛
- المداومة على الأذكار والتوجّه إلى الله.

/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك

  • (تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱))

  •  

  • مباني الأخلاق - المجلّس الثالثة والعشرون

  •  

  • محاضرات ألقاها 

  • سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  • طهران، مسجد القائم

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم

  • بسم الله الرّحمٰن الرّحيم

  • وصلّى الله على محمّد وآله الطيّبين

  • ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين

  •  

  •  

  • معنى ذكر الله

  • «يا عيسى، أطِبْ لي قلبَك وأكثِرْ ذِكري في الخَلواتِ! واعلَمْ أنّ سُروري (ورضاي) أن تُبَصبِصَ إليَّ (أي: أن تكون في حالٍ من التضرّع والمناجاة والالتماس والطلب والفقر تجاهي)؛ کُنْ في ذلك حیًّا ولا تكن ميّتًا! »۱

  • تحدّثنا في الأسبوع السابق حول فقرة «أطِبْ لي قلبَك»؛ يعني: طيّب وطهر قلبك لي، وتحدّثنا عن معنى طهارة القلب، وكيف السبيل إلى ذلك، ولماذا أمر الله بطهارة القلب، وتلك الآثار والنتائج التي تترتّب على طهارة القلب.٢

  • «وأكثِرْ ذِكري في الخَلوات».

  • أولًا: أمر بأن تُكثر ذكري، لا ذكر غيري؛ ثانيًا: اذكرني في الخلوات والأماكن الخالية!

  • الذكر يعني: ذكر الله؛ سواءً ذكر الله لفظًا أم بغير اللفظ. بل يمكن القول: إطلاق الذكر ينصرف إلى نفس الذكر القلبي؛ وإنّما يُقال للذكر اللفظي ذكرًا؛ لأنَّ هذا الذكر اللفظي يُذكّر فكر الإنسان بتلك الخاطرة. يقولون: «أتذكّر المسألة الفلانية»، يعني: هي حاضرة في ذهني.

  • على الإنسان أن يذكر الله بالذكر القلبي؛ وذكر الله الذي يجري على اللسان هو وسيلة وآلة لتذكّر الله [في القلب]، ولذلك إذا أجرى الإنسان ذكرًا على لسانه لا يُذكرّه بالله فهو ليس بذكرٍ بل هو لغوٌ وعبثٌ؛ وقيمة الذكر تكمن في أن يمتلك تلك الخاصيّة وذلك الأثر.

  • إنّ الصلاة هي أعلى ذكر، وأفضل وسيلة للتقرّب إلى الله هي

  • ذكر الله، أيّاً يكن نوع هذا الذكر؛ سواءً أراد الإنسان أن يقول لا إله إلّا الله أو سبحان الله أو أن يُصلي، فالصلاة ذكرٌ؛ بل أكبر ذكرٍ هو الصلاة.

  • ﴿إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَ لَذِكۡرُ ٱللَهِ أَكۡبَرُ﴾٣

  • يعني: الصلاة ذكر لله، وأكبر شيء هو هذه الصلاة!

  • لذلك فإنَّ كلام الأفراد الذين يُفسّرون هذه الآية بالنحو التالي:

  • إنَّ الصلاة تنهى الإنسان عن المنكر والأفعال القبيحة؛ ﴿وَ لَذِكۡرُ ٱللَهِ أَكۡبَرُ﴾: أي: أكبرُ مِن الصّلاة؛ أي: لكنّ ذكر الله أكبر من الصلاة! فهذا التفسير خاطئ جدّاً! 

  • ﴿وَ لَذِكۡرُ ٱللَهِ أَكۡبَرُ﴾ یعني: نفس هذه الصلاة التي هي مصداقٌ للذكر أكبر من أيّ شيءٍ آخر! والشاهد أنَّه وردت روايةٌ صحيحةٌ في كتاب الكافي عن الإمام الصادق عليه السّلام، وخلاصة نصّ هذه الرواية ما يلي:

    1. . الكافي، ج ۸، ص ۱٤۱.
    2. . للأسف لم نعثر على هذه الجلسة. لمزيد من الاطلاع حول هذا الموضوع، راجع: السعادة الأبديّة، ص ۱٢۷.
    3. . سورة العنكبوت (٢٩)، الآية ٤٥.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

3
  • لو كان لدى الله العليّ الأعلى ما هو أفضل من الصلاة للتقرّب إليه، لأمر به عباده في كلّ دين.۱

  • إذن ليس هناك مُذكِّرٌ أفضل من الصلاة؛ ولذلك لا حدّ ولا مقدار للصلاة. بعض الصلوات واجبةٌ ويجب على الإنسان أن يُصلّيها، وهذا المقدار لأقلّ النّاس وأضعفهم؛ لأنَّه لو كان المقرّر أن تكون صلاة مئة ركعةٍ أو مئتي ركعةٍ في اليوم والليلة واجبةً على جميع النّاس لما استطاعوا أداءها؛ ولذلك جُعل مقدارًا من الصلاة واجبًا يستطيع الجميع أداؤها من الصغير والكبير، والضعيف والقوي، والمريض والكسول والسليم، وهي سبعة عشر ركعة، وقد وردت روايةٌ بهذا المعنى أيضًا.٢

  • إلّا أنَّ الصلاة لا تنحصر بذلك؛ فصلاة أربع وثلاثين ركعة لصلوات النافلة المكتوبة أمرٌ مستحبٌّ جدًا،٣ بحيث إذا تركها الإنسان فينبغي عليه قضاؤها ولا يحلّ مكان قضائها شيءٌ آخر!٤ وفي روايةٍ أنَّ شخصًا قال في محضر الإمام الصادق عليه السّلام:

  • يا ابن رسول الله لقد فاتني العديد من النوافل، فماذا أصنع؟ فأجابه: «اقضها!».

  • فقال: كثيرة جدًا، فماذا أفعل؟ فأجاب: «اقضها!».

  • فقال: كثيرةٌ جدًا، فأجز لي أن أتصدق عوضًا عنها. فأجاب الإمام: «اقضها!».

  • فقال: يا ابن رسول الله، لا أستطيع، فهي كثيرة جدًا، اسمح لي أن أدفع صدقة!

  • فقال الإمام: «تصدّق!».٥

  • يعني: لا يمكن أن تحلّ الصدقة ولا أيّ شيءٍ آخر محلّ الصلاة.

  • إنّ الصلاة معراجٌ للإنسان، ومقولة «الصّلاةُ مِعراجُ المؤمن» ليست روايةً؛ رغم أنّ المرحوم الآخوند الملّا محمّد كاظم الخراساني يقول في كفاية الأصول: «أنّها مرويّةٌ»،٦ ولكن هذا الأمر اشتباه وليست روايةً!۷ ولكن «الصّلاةُ قُربانُ كلِّ تَقيّ»۸ و «أوّلُ ما يُسألُ العبدُ [عن] الصّلاة؛ فإن جاء بها تامّةً وإلّا زُخَّ به في النّار»٩ فهي روايةٌ. ولكن حتّى لو لم تكن روايةً إلّا أنَّ واقع الصلاة هو أنّها معراجٌ؛ يعني: حركةٌ نحو الله. وهذا المعراج يجب أن يحصل درجةً درجةً؛ فكلّ صلاة يصليها الإنسان تُمثّل درجةً، وهكذا درجةً درجةً... .

  • وغير صلوات النافلة المكتوبة، هناك نوافل أخرى وهي نوافل غير مكتوبة؛ سواءً أكانت ذات عنوانٍ خاص مثل صلاة الزيارة، صلاة التوبة، صلاة الحاجّة، صلاة الغفيلة، صلاة أوّل الشهر، صلاة الليالي والأيّام المخصوصة التي يُصلّيها الإنسان في أماكن مخصوصةً؛ أم لم يكن لها عنوانٌ خاصٌّ فهكذا يقوم الإنسان من تلقاء نفسه ويصلّي. الآن أنتم حضرتم إلى المسجد وصليتم صلاتكم الواجبة، وصليتم الصلاة المستحبة أيضًا، وليس لديكم عملٌ آخر، ولكن من المستحب أن تقفوا وتصلوا أيضًا إلى الصباح ومن الصباح إلى الظهر دون حساب، وهكذا تصلون ركعتين وتسلمون!۱۰

    1. . الكافي، ج ٣، ص ٢٦٤.
    2. . الأمالي، للشيخ الصدوق، ص ٤٥۱.
    3. . الكافي، ج ٣، ص ٤٤٣.
    4. . المصدر نفسه، ص ٤٤٢ و٤٥۱ و٤٥٤.
    5. . المصدر نفسه، ص ٤٥٤.
    6. . كفاية الأصول، ص ٢۸.
    7. . أنوار الملكوت، ج ۱، ص ۱۰٢:
      «هذه الجملة ليست رواية، ولم تُرَ في أيّ كتابٍ من كتب الشيعة والسنّة بعنوان الرواية، وفقط الملّا محمّد كاظم الخراساني ذكرها في باب الصحيح والأعم، في كتابه كفاية الأصول إلى جانب الآية القرآنيّة: ﴿ٱلصَّلَوٰةَ تَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ﴾ ورواية: «الصلاة عمودُ الدّين والصّومُ جُنّةٌ مِن النّار» وظاهرها عنوان الرواية، ولكنّ ذلك اشتباه. وأخيرًا شاهدتُ أنَّ المرحوم صدر المتألهين ذكر هذه الرواية في تفسير آية الجمعة، ص ٢٢٥ من الطبعة الحروفيّة، وقد أسندها إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، وذكرها أيضًا في تفسير سورة الأعلى ص ٣٥۷ بدون إسنادٍ إلى رسول الله. [وقد ذُكرت في مستدرك سفينة البحار، ج ٦، ص ٣٤٣، نقلًا عن العلامة المجلسي في كتاب بيان الاعتقادات]».
    8. . الكافي، ج ٣، ص ٢٦٥.
    9. . عيون أخبار الرّضا عليه السّلام، ج ٢، ص ٣۱، مع أدنى تفاوت.
    10. . راجع: تهذيب الأحكام، ج ٢، ص ٢٣۸؛ الكافي، ج ٣، ص ٢٦٩ و٣٦٣.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

4
  • نعم، هناك كراهة في صلاة النافلة غير المكتوبة في بعض الأحيان، مثلًا: عند طلوع الشمس وفي الفترة المقاربة لغروب الشمس؛ وهذا لأنَّ عبدة الأصنام أو عبدة الشمس كانوا يتعبّدون في هذه الأوقات، فلم يشأ الله أن تتمّ عبادته في هذه الأوقات.۱ فإذا حضر الإنسان إلى المسجد قريبًا من الغروب، فحتّى لو لم يكن لديه أيّ عملٍ آخر في ذلك الوقت، لكنّ الصلاة في هذه الأوقات مكروهٌ؛ خلافًا لما قبل الظهر، إذ لا كراهة في الصلاة آنذاك.

  • قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله:

  • «الصّلاةُ خیرُ موضوعٍ؛ فمَن شاءَ استَقلَّ و مَن شاءَ استكثَر»٢ .

  • علّة فضيلة الصلاة على باقي العبادات

  • إنَّ الصلاة أفضل شيءٍ وبناءً عليه قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «حيَّ على خيرِ العمل»؛ أي: تحرّكوا نحو أفضل الأعمال وأسرعوا إليه! لأنَّ خير العمل وأفضل الأعمال هي الصلاة. إنَّ المؤمنين الذين يؤدّون صلاتهم، إذا تأخرت صلاتهم قليلًا يضطربون، ودائمًا يريدون أنَّ يحضروا إلى عالم الصلاة وعالم المناجاة. ولذلك كان النبيّ يقول:

  • «أرِحني یا بلال»؛٣يعني: أسرع وأذِّن كي نقوم ونصلّي. إنَّ الصلاة راحةٌ وهي أفضل الأعمال وجميع الأعمال الصالحة تبعٌ للصلاة، الصلاة هي الربط مع الله، والصلاة اتصالُ باطن الإنسان مع الله، الصلاة هي فتح باب السماوات والرحمة والإذن بتكلّم العبد إلى الله، والارتباط بالخالق. لا يُمكن لأيّ عمل أن يقف قبال الصلاة، ولا أن يُقاوم الصلاة! فقد شرّع النبيّ بقيّة الأحكام ـ حتّى الصيام والجهاد و... ـ في ظلّ الصلاة، فالجهاد والحرب هما من أجل أن يُسلم النّاس ويُصلّوا.

  • إذا فقد اشتبه عمر حينما قال:

  • إنَّ «حيَّ على خيرِ العمل» غير صحيحةٍ، ويجب أن نزيلها من الأذان؛ مبررًا ذلك بأنّ «حيَّ على خيرِ العمل» تعني: «أسرعوا إلى أفضل الأعمال!»، وإذا علم النّاس أنَّ أفضل الأعمال الصلاة فلن يجاهدوا؛ فإذن لا بدّ أن نرفعها من الأذان كي لا يعلم النّاس أنَّ الصلاة خير العمل وكي يذهبوا إلى الجهاد.٤

  • وأنت تفهم من هذه العبارة نمط تفكير هذا الرجل من الأساس، وتفهم أنَّ هذا الرجل لم يمسّ الإسلام ولم يشمّ رائحة الحقيقة والواقعيّة أصلًا! فتخيّل أنَّ الإسلام حكومةٌ ظاهريّةٌ وغلبةٌ وحربٌ وجهادٌ وقتلٌ وغارةٌ وتنظيمات ظاهريّة وشكليّة، ولم يفهم سوى ذلك؛ ولذلك قال: «إذا دُعي النّاس إلى الصلاة فسوف يتركون الجهاد». ولكنّه لم يعلم أنَّ الصلاة والجهاد والإنفاق وبناء المساجد وعبادة النّاس والحجّ والتصدّق إلى الفقراء وتنظيم الحكومة الإسلاميّة و... إنّما تقوم على أساس واقعٍ وحقيقةٍ وهذه الحقيقة هي في باطن الصلاة؛ فإذا ظهرت تلك الحقيقة، فستكون بأسرها قائمةً على أساسٍ سليمٍ، وإلّا فجميعها خطأ. وهو حينما مضى في هذا السبيل، جرّ معه جميع النّاس خلفه إلى الخطأ، ولذا لم تصل تلك الحقائق لأحد بعد ذلك!

    1. . الكافي، ج ٣، ص ۱۸۰.
    2. . بحار الأنوار، ج ۷٩، ص ٣۰۸، نقلًا عن: الإمامة والتبصرة.
    3. . إحياء علوم الدّين، ج ۱، جزء ٢، ص ٢٩٦؛ مفتاح الفلاح، ص ۱۸٢.
    4. . دعائم الإسلام، ج ۱، ص ۱٤٢؛ الموطّأ، لمالك، ج ۱، ص ۷٢؛ الأحكام، ليحيّى بن الحسين، ج ۱، ص ۸٤.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

5
  • أمّا أمير المؤمنين فهو يعلم ما هي الصلاة، وما هو الأمر المتميّز والحاكم على سائر الأفعال والأعمال. لقد سأل شخصٌ أمير المؤمنين عليه السلام في خضمّ معركة صفين مسألةً عن الصلاة، فوقف الإمام للإجابة، فقال أحد الأصحاب - وهو على ما يبدو ابن عبّاس أو شخص آخر- : ماذا تفعل يا رجل؟ وهل هذا هو الوقت المناسب لطرح هذه المسألة؟ الآن تسأل عن الصلاة؟! فقال الإمام:

  • مهلًا مهلًا! لماذا نحارب؟ إنّما نقاتل القوم من أجل الصلاة! فإذا لم تكن لأجل الصلاة، فنحن لا نريد أن نريق دماء النّاس، ولا نريد أن نُغِيْر على أموال الناس، ولا نريد أن نحكم رقاب النّاس، ولا شأن لنا بذلك؛ ولا نُريد شيئًا من هذه الأعمال التي نقوم بها سوى أن نجعل الناس من أهل الصلاة وهذا الشخص طرح سؤالًا عن الصلاة الآن.۱

  • ولذا الصلاة حاضرةٌ في خضمّ الحرب وفي أتونها.

  • عدم سقوط حكم الصلاة في أيّ ظرفٍ من الظروف

  • لدينا عنوان في الفقه يسمى: صلاة الخوف، وصلاة المطاردة، حيث يجب على الإنسان أن يُصلّي أوّل الوقت حتّى عندما تكون الحرب مضطرمة. فيأتي الإمام ويقسم الجيش قسمين، فيتقدّم القسم الأوّل ويصلّي مع الإمام وينشغل القسم الآخر بالقتال؛ لأنَّ صلاة الخوف ركعتان؛ فيصلّي الإمام ركعةً ويجلس، ويقومون ويصلون الركعة الثانية بمفردهم ويسلمون ويذهبون وينشغلون بالدفاع؛ ثم تأتي تلك المجموعة التي كانت تقاتل فتُصلّي الركعة الثانية مع الإمام.٢

  • لذلك نرى أنَّ جميع أحكام الإسلام تسقط عن الإنسان عند الاضطرار إلّا الصلاة. فإذا كان الإنسان لا يستطيع الجهاد، سقط عنه الجهاد؛ والحجّ واجبٌ على المستطيع، فإذا لم يكن مستطيعًا فليس واجبًا؛ ويسقط الصوم عن المسافر والمريض والعجوز والمرأة الحامل التي يُضرّ الصوم بها وبطفلها و...؛ وتسقط الزكاة والصدقات والإنفاق عن من لا يملك؛ وأمّا الصلاة فلا تسقط أبدًا! فإذا كان الإنسان لا يستطيع الصلاة من وقوف فمن جلوس، وإن كان لا يستطيع من جلوس ينام على شقه الأيمن ناحية القبلة؛ وإذا كان لا يستطيع، فينام على شقّه الأيسر بحيث يكون رأسه ناحية المشرق وقدماه ناحية المغرب وكافة مقاديم البدن ناحية القبلة؛ فإذا كان لا يستطيع، ينام على ظهره وتكون أقدامه ناحية القبلة ويصلي على الحالة التي هو عليها مستلقيًا؛ فإذا كان لا يستطيع الركوع والسجود فإنّه يشير؛ فإذا كان لا يستطيع قراءة الحمد والسورة وسبحان الله وذكر الركوع والسجود ولو بالإشارة فبمقدار ما يستطيع يقرأ الحمد ويترك قراءة السورة؛ فإذا كان لا يستطيع أن يقول ذكر الركوع، أي: «سبحان ربّيّ العظيم و بحمده» على لسانه، فلا يقوله ويشير إشارةً؛ فإذا كان لا يستطيع قراءة الحمد، قال بلسانه «الله أكبر» و يذكر مرّةً «السّلام عليكم!». فمثلًا الآن هناك شخص يغرق في البحر، أو في القطار وبينما القطار يتحرّك ونالت منه النيران، أو في السيارة والسيارة احترقت وهو يموت، فحينها إذا لم يكن قد صلّى فعليه أن يصلي وصلاته «الله أكبر؛ السلام عليكم»، ثمَّ إذا ارتحل عن الدنيا فسيكون قد رحل وهو يذكر الله. «الصّلاة لا تَسقُطُ بحالٍ؛ لأنَّ الصلاة ذكرٌ.»٣

    1. . الخصال، ج ۱، ص ٢؛ إرشاد القلوب، ج ٢، ص ٢۱۷؛ مع اختلافٍ يسير في المصادر.
    2. . راجع: الكافي، ج ٣، ص ٤٥۷ ـ ٤٥٩.
    3. . راجع: وسائل الشّيعة، ج ٥، ص ٤۸۱ ـ ٤۸۸؛ ج ۸، ص ٤٣٩ ـ ٤٥۰.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

6
  • والأذكار الأخرى من قبيل: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلّا الله، الله أكبر هي ذكرٌ أيضًا، ولكن الصلاة جامعة لجميع هذه الأذكار؛ وهي ذكر الإنسان مع الله وذكر الله مع الإنسان. لأنَّنا يجب أن نقرأ القرآن في الصلاة، ولا صلاة بلا قرآن؛ فعلى الإنسان أن يقرأ سورةً في الصلاة، والسورة هي كلام الله مع الإنسان، كما الإنسان يتكلّم إلى الله: ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ﴾،۱ «سبحان ربّيّ العظيم وبحمده»؛ فكلًا من الذكر الذي نذكره به، والذكر الذي يذكرنا به موجودٌ في الصلاة.

  • «أكثِرْ ذِكري في الخلوات!»، فإن شاء الإنسان جعل الذكر من خلال الصلاة فهي أفضل الأذكار!

  • وما قاله البعض: «ليست الصلاة أفضل الأعمال»، خطأ بخطأ أصلًا! وما ذكرته هو من أجل بيان هذا الأمر؛ فالشخص الذي يكون قريبًا من روح الإسلام والخبير بروح الإسلام من ناحية كيفيّة التفكير الإسلاميّ، يفهم أنَّ ذلك الشخص الذي قال: «أزل حيَّ على خیر العمل»، لم يمسّ روح الإسلام أصلًا ولم يفهم من الإسلام أكثر من الظاهر!

  • «أكثر من ذكري في الخلوات!» أولًا: لماذا يقول: «أكثر من ذكري في الخلوات»؟ وثانيًا: لماذا تقول: «أكثر من ذكري»؟ فلماذا يُكثر الإنسان من ذكر الله، في حين أنّه يستطيع أن يذهب تجاه الإنفاق وأعمال الخير؟

  • نقد القائلين بانحصار العبادة في خدمة الخلق

  • عبادت به‌جز خدمت خلق نیست***به تسبیح و سجّاده و دَلق نیست
  • [يقول: العبادة ما هي إلا خدمة الخلق وليست بالسبحة والسجّادة والثياب الخلقة].٢

  • هذا الشعر خطأٌ بخطأ! فما هي المناسبة لتقول هذا الكلام؟! فما معنى قولك: «العبادة ما هي إلّا خدمة الخلق»؟! العبادة هي خدمة الله، العبادة هي العبوديّة لله؛ إذ ليس لخدمة خلق الله من قِيمةٍ إلّا إذا كان الإنسان في مقام العبوديّة لله. وهل هي عبادةٌ إذا خدم الإنسان الخلق وكان غافلًا عن الله؟! هذه عبادةٌ للشيطان، وهي عبادةٌ للنفس الأمّارة، وهي حبّ للجاه، وحبّ للرئاسة! فالشيطان يخدع كلّ شخصٍ بشيءٍ؛ فالبعض يحبون خدمة الخلق وأن يقوموا بأعمال مُبهرة؛ هيئة الفعل كبيرةٌ، ولكنّه ليس لله، فلا قيمة لهذا الفعل!

  • العبادة هي الدخول في مقام العبوديّة وليست منحصرة في [الفعل]. نعم، أحد أقسام العبادة هو خدمة الخلق. أمّا جناب الشاعر سعدي فيقول، «جز» بمعنى «ما وإلّا» والتي تدل على الحصر؛ فمن أين أتيت بهذا الحصر فقلت:

    1. . سورة الحمد (۱)، الآية ٤.
    2. . بوستان سعدي، الباب الأوّل، حكایة اتابک تُکله.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

7
  • عبادت به‌جز خدمت خلق نیست***
  • [أي: ما العبادة إلّا خدمة الخلق]؟! بناءً على أيِّ آيةٍ وأيّ روايةٍ؟! فهنا يأخذ الله العليّ الأعلى يدّ الإنسان في يوم القيامة ويحاكمه تعال وتخلّص من هذه العبارة والشعر الذي قلته وألقيته بين ألسنّة النّاس! فما أن تقول: «سيدي العزيز تعال وصلِّ!» يقولون لك: «ارحل، ما العبادة إلّا خدمة الخلق»، فهل هو يخدم خلق الله أم يخدم معدته؟! إنّه يكذب؛ بل لا يخدم خلق الله أيضًا! فإذا صلّى الإنسان يستطيع أن يخدم خلق الله، إذا أصبح الإنسان عبدًا لله ودخل في طريق العبوديّة، عندها يستطيع أن يعرف طريق الخدمة؛ وإلا فإنّه لا يعرف شيئًا!

  • القرب من الله ورفع الحجب بواسطة دوام الذكر وذكر الله

  • إنَّ ذكر الله يُقرّب الإنسان من الله؛ لأنَّ ذكر الله يزيل الحجب وكلّما كان الذكر أقوى زالت حجبٌ أكثر. ولذلك قال تعالى في القرآن المجيد:

  • ﴿فَٱذۡكُرُواْ ٱللَهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗا﴾۱ .

  • فعندما يرحل والد الإنسان عن الحياة، يتذكّره الإنسان دومًا ولا ينساه على الإطلاق، وتتماثل صورة الأب ووجهه دائمًا أمام الإنسان!

  • اختلاف طريقة الدعاء وذكر الله بين عرفات وبين المشعر الحرام

  • ﴿فَإِذَآ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَٰتٖ فَٱذۡكُرُواْ ٱللَهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِ﴾؛٢ يعني: عندما تغيب الشمس، وعندما تُفيضون وتتركون عرفات باتجاه المشهر، فاذكر الله عند المشعر الحرام.

  • فما أحسن المشعر! وهناك جبل باسم جبل قُزح وإذا كان قريب منكم فمن الجيّد أن تصعدوا جبل قزح؛ وأمّا إذا كان غير متيسرٍ فلا تذهبوا. بالطبع المشعر أرضٌ واسعةٌ ولا يستطيع الإنسان أن يطويها بأكملها. أمّا صعود الجبل في عرفات فليس مستحبًا فاجلسوا في مكانٍ سفليٍّ، ومن كان سفره الأوّل فالمستحب هو: «أن یطَأَ مُزدَلَفَةَ برجلِه»؛٣يعني: يُستحبّ أن تطأ قدمه المشعر وأن يمشي قليلًا، لا أن ينام في المشعر وانتهى الأمر، بل يتحرّك قدرًا ما وتطأ قدمه الأرض ويذكر الله حيثما شاء؛ لأنَّ الحجاب قد زال. إنَّ عرفات خارج الحرم ومن كان خارج الحرم إلى الآن وذهب من الظهر إلى الغروب إلى هناك ودعا واقفًا ببكاءٍ ومناجاة: «يا الله، أنا خارج حرمك، أتأذن لي بالدخول إلى حرمك؟!» فيمنح إذن الدخول أوّل الغروب: «تحرّك ناحية الحرم!» والآن قد حلّ الليل في المشعر؛ المشعر حرم الله وقد دخلت إلى حرم الله. فهنا اذكر الله ما شئت. صحيح أنَّ على الإنسان أن يذكر الله في عرفات، ولكنّ ما ورد كثيرًا هناك هو الدعاء، ولم يرد الذكر. ففي عرفات ادعو ما شئتَ لنفسك ولأبيك وأمك وللأجداد والجدّات وذوي الحقوق والمرضى ومن قلّدك الدعاء وللموتى؛ فعرفات هي موطن الدعاء.٤ أمّا المشعر فحرمٌ، وفي الحرم على الإنسان مشاهدة جمال المحبوب! وعندما يكون خارج الحرم، فإنّه يطرق الباب: إلهي، أنا الفقير، فهل أغلقت الباب في وجهي؟! وقد طلب زيد أن أدعو له، وأبي مُبتلى في جهنم، ولديّ قرضٌ؛ فافتح الباب كي أتحدث إليك!»، فعرفات هي محلّ الدعاء، فادعُ ما شئت؛ ولكن عندما يفتح الباب ويدخل الإنسان إلى الحرم ويحضر مقابل جمال المحبوب، فهناك لا يكون إلّا ذكر المحبوب، وهذا هو الذكر! ولذلك فإنَّ المشعر هو محّل [الذكر فقط]!٥

    1. . سورة البقرة (٢)، الآية ٢۰۰.
    2. . سورة البقرة (٢)، الآية ۱٩۸.
    3. . الكافي، ج ٤، ص ٤٦۸.
    4. . راجع: الكافي، ج ٤، ص ٤٦٤.
    5. . راجع: الكافي، ج ٤، ص ٤٦۸ ـ ٤۷۱.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

8
  • التلازم بين ذكر الله وبين محبّة الله

  • رسول الله حقيقة الذكر! أصلًا أحد أسماء النبيّ هو ذِكرُ الله؛ يعني: هو تجسيدٌ للذكر. مثل: «زيدٌ عدلٌ»، حيث معنى ذلك أنَّ زيد عادلٌ جدًا إلى درجة أنّنا لا يجب أن نقول عنه: عادل؛ لأنَّ زيد أصبح هو العدل وتجسيدٌ للعدل! وكذلك رسول الله هو تجسيدٌ للذكر ولا عمل له إلّا ذكر الله، إنّ الذكر يُقرّب جلوات الله ويجلسها في القلب لأنّه:

  • «مَن أحبَّ شيئًا أحبَّ ذكرَه، ومَن أبغضَ شيئًا أبغَضَ ذكرَه»۱،

  • وهذه وصيّةٌ من وصايا أمير المؤمنين عليه السّلام، وهي أمرٌ بديهيٌّ ووجدانيٌّ. فأنت عندما تحبّ شخصًا، وتحبّ أن تجلس مع رفيقك وأن تتكلّم عنه دومًا أنّه هكذا وهكذا، وأن تذكر مزاياه؛ أو عندما تجلس بمفردك، فإنّ المحبوب يخطر في ذهنك بدون اختيارٍ منك، أيّاً كان هذا المحبوب فليكن؛ فإذا كنتَ تحبّ المال فسيخطر المال في ذهنك، وإذا كنتَ تحبّ العلم فسيخطر العلم في ذهنك، وإذا كنتَ تحب العبادة فستخطر في ذهنك، إذا كنتَ تحب الله فسيخطر الله في ذهنك؛ فلكلّ شخصٍ محبوبٌ. وكذلك عندما يكره شخصٌ شيئًا، فإنّه ينزعج من ذكره ولا يريده أن يمرّ على لسانه أو فكره، وكلّما خطر على باله يتأثّر ويبعده. فالذي قتل ابنًا لأم، فتلك الأمّ لا تريد أن تخطر صورة القاتل على ذهنها، وإذا ذكرَ أحدٌ اسمه فإنَّ بدنها يرتجف!

  • فمن أقرب إلى الإنسان من الله؟! إنّ قُرب جميع القريبين، يقع في ظلّ قرب الله، ومحبّة جميع المحبين يقع في ظلّ محبّة الله؛ لذلك يقول عزّ وجلّ: ﴿فَٱذۡكُرُواْ ٱللَهَ كَذِكۡرِكُمۡ ءَابَآءَكُمۡ أَوۡ أَشَدَّ ذِكۡرٗا﴾؛ فلماذا يذكر الإنسان أباه وأمّه؟ فقد يكون الأبّ والأمّ قد ارتحلا عن دار الدنيا وهما تحت التراب منذ أربعين سنة أو خمسين سنة، إلّا أنَّه يستمر في القول كلّ ليلة جمعة: «اقرؤوا الفاتحة لأبي!» أو تصدّقوا؛ لأنَّه يُحبّ أباه وأمّه. والإنسان يحبّ ابنه أيضًا. وهذه المحبّة هي رشحة وشعاعٌ من محبّة الله، فهو مركز المحبّة؛ وهذه المحبة هي تجلّي لتلك المحبّة، ولو لم تتجلّى تلك المحبّة، لما ظهرت المحبة في الأب والأم. محبّة الأب والأمّ للابن، هي محبّةٌ لله. فالأمّ حينما تستيقظ في ليالي الشتاء الطويلة وتحرّم النوم على نفسها، وتُرضِع طفلها من محبّة وعشق، فمحبّتها هذه عين محبّة الله؛ ولو لم يتجلّى الله في قلبها، لكان قلبها مثل الفولاذ باردًا وجافًا وقاحلًا. لقد أصبحت تجلّياً لله فأحيتها المحبّة وحرّكتها؛ ولذلك كلّما ازدادت المحبّة عند الشخص، كان إيمانه أقوى.

    1. . غرر الحكم، للآمدي، ص ٥۸٣؛ نهج البلاغة (صبحي صالح)، ص ٢٢۸؛ مع اختلافٍ يسيرٍ في المصادر.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

9
  • بناء جميع أوامر الدين على أساس المحبّة

  • لقد سألوا الإمام:

  • هل المحبّة من أجزاء الدين؟ فأجاب عليه السلام: «وَهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُب‌؟!».۱

  • فإنَّ جميع أوامر الدين قائمةٌ على أساس المحبّة. إنّ صلة الرحم قائمةٌ على أساس المحبّة؛ فإذا وصل الإنسان الرحم ولكن رحمه انزعج منه بسبب صلته للرحم فصلة الرحم فهذه صلة رحمٍ سلبيّة وليست بصلة الرحم، وقد خطّ عليها بخطٍّ أحمر؛ فصلة الرحم هي ذلك الفعل الذي يجب على الإنسان القيام به حتّى يسرّ منه رَحِمَهُ.

  • فعلى الإنسان أن يذهب لزيارة المريض وعيادته، والمراد من عيادة المريض، إسعاده وإدخال السرور إلى قلبه؛ لذلك من المستحب أنَّ يجلب الإنسان شيئًا معه، لأنَّ المريض كسير القلب، وإذا ذهب الإنسان لزيارته ولقائه فيحضر معه هدية ولو كانت صغيرةً، كحبة تفاحٍ أو حبة سفرجل، فذلك سيدخل السرور إلى قلبه.٢ ولكن لا ينبغي أن يقول الإنسان: أنا أقصد القربة لله ولن أبرز نفسي، وسأضع تلك التفاحة في زاوية الغرفة كي لا يعرف المريض مَن أحضرها؛ لأنَّ إبراز النفس ليس بالأمر الحسن! ففي هذا الموطن ليس من الحسن أن يُخفي الإنسان فعله، ولا فائدة من ذلك. فعليه أن يأخذ هذه التفاحة وأن يُجامله بها وأن يخبره أنَّه أحضرها من أجله؛ لأنَّ إبراز النفس في هذا الموطن ممدوحٌ، وإذا علم المريض أنَّه أعطاه تفاحة، فسيسرّ؛ وإلّا فإنَّه لن يُسرّ، وإذا لم يُسرّ فلن تحصل النتيجة المطلوبة، ونتيجة زيارته ليست مضايقته بل إدخال السرور إلى قلبه؛ وإدخال السرور يكون في أن يُبرز الإنسان نفسه، ويقول: «يا عزيزي، لقد حضرتُ للقائك، وقد أحضرت لك هذه الهدية أيضًا».

  • فإذن كلّ عملٍ في سبيل الله يوجد المحبّة، فذلك العمل هو عملٌ ممضى؛ وكلّ عملٍ يبعد الإنسان عن المحبّة ولو كان ظاهره مُبهرًا جدًا وكبير جدًا، فهو غير ممضى ولا قيمة له.

  • الوصول إلى أعلى درجات الإيمان بسبب شدّة المحبّة لله

  • إنَّ ذكر الله يوجد المحبّة تجاه الله، وذكر الدنيا يُوجد المحبّة للدنيا؛ وعندما يولي الإنسان اهتمامًا بشيءٍ تظهر المحبّة تجاه ذلك الشيء. وعلّة أنَّ الإنسان يحبّ ابنه كثيرًا هو أنَّه يذكره دومًا، ويحبّ أمّه لأنّه يذكرها دومًا، فالأشخاص الذين لا ينظرون إلى أطفالهم كثيرًا، ولم يكونوا برفقة أطفالهم، يمتلكون القليل من المحبّة تجاه أطفالهم. على سبيل المثال: حملت زوجة زيد منه وسافر، وولدت زوجته ثمّ عاد بعد عشرين عامًا والتقى بابنه، عندها سيمتلك القليل من المحبّة ناحية ابنه وستختلف محبّته عن ذلك الشخص الذي ترعرع ابنه في حضنه إلى سنّ العشرين وكان يبرز له العشق في كلّ لحظةٍ وأصبحت محبته أشدّ في قلبه.

    1. . الكافي، ج ٢، ص ۱٢٥.
    2. . المصدر نفسه، ص ۱۱۸.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

10
  • ومن أجل ذلك من المستحب أن تربّي الأمّ وليدها في حضنها عامين وأن ترضعه من حليبها؛۱ولذلك حليب الأمّ أفضل من حليب المرضعة. فإذا كبر الطفل بين حضني الأمّ والأبّ، فإنّه سينشأ على أساس المحبّة وستصبح روحه عاطفيّةً وسيبتعد عن تلك القسوة.

  • فإذن كلّما اهتمّ الإنسان بشيءٍ زادت محبته في قلبه. فنحن عندما نريد أن نخيط هذه العباءة، فإنَّنا نحول صوفها إلى خيطان بأنفسنا ثمّ نبدّله إلى قماش، ثمَّ نتجه إلى هنا وهناك بحثًا عن خيّاط كي يخيطها، ثمّ يقول الخياط: «يا سيّدي ليس لديّ قِيْطان، يجب أن تعثر على قِيْطان!» فنتلف يومًا ونعثر على القيطان. ثمَّ نسأل كم قيمتها؟ فيقول: «المبلغ الفلاني»، في حين أنَّ من الصعب على الإنسان أن يدفع هذا المبلغ. ثمَّ نسأل: «متى تسلمني هذه العباءة؟»، يقول: «في اليوم الفلاني». فينتظر الإنسان يوميًّا إلى أن يحين ذلك اليوم ويستلم العباءة. لقد أصبح لهذه العباءة قيمة عالية، ولا يفرط الإنسان بها سريعًا؛ لأنّه عمل عليها وأتلف عمرًا وصرف عشقًا. ولكن إذا أراد شخصٌ عباءة فأخرج ورقة عملية ذات قيمة عشرين تومان من جيبه وأعطاها لخادمه وقال: يا عزيزي، اذهب واشتري لي قطعة قماش وخذها كي يخيطوها»، ثمّ في الأسبوع التالي يُحضرها له، فإنَّ هذه العباءة لن تكون ذات قيمة، وسيتخلّى عنها بسرعةٍ.

  • كلّ أمور الدنيا بهذا النحو؛ فكلّ أمرٍ يعمل عليه الإنسان تزداد محبّته تجاهه، وكلّ أمرٍ لم يعمل عليه تقلّ محبته تجاهه. فإذا عمل الإنسان لله فستزداد محبّته لله، ألا يُمكن نعمل لله؟! فلماذا نصلي هذه الصلوات التي نصليها؟! فإنّ الذي قال: «لا إله إلّا الله»، قد اعترف وتمّ الأمر؛ فلماذا يأمرنا الله: صلّ الصبح، صلّ الظهر، صلّ العصر، صلّ المغرب، صلّ العشاء، وعندما تريد أن تنام فلا تنسَ صلاة الوتيرة، وعندما تستيقظ في الليل توضأ وصلّ ركعتين، ثمّ قم مجددًا وصلّ ركعتين، ولا تنسَ الشفع والوتر، وعندما يحين أوّل الصبح ارفع الصوت بـ: «الله أكبر!» وصلّ نافلتك ثمَّ صليّ الصبح؟! كلّ ذلك من أجل أن تداوم على ذكر الله، وكي يتربّع ذكر الله في قلبك، وهكذا تزداد المحبّة حتّى تشتدّ وتقوى.

    1. . سورة البقرة (٢)، الآية ٢٣٣: ﴿وَ ٱلۡوَٰلِدَٰتُ يُرۡضِعۡنَ أَوۡلَٰدَهُنَّ حَوۡلَيۡنِ كَامِلَيۡنِ لِمَنۡ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ﴾.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

11
  • قال أمير المؤمنين عليه السّلام:

  • «واجعَلْ قلبي بحُبّك مُتَيّمًا»۱.

  • يعني: املأ قلبي حبّك إلى درجة أن أصبح مجنونًا في حبّك! فعند ذلك سيزول الحجاب ولن يبقى ثقلٌ لدى المحبّ.

  • إنّ الحبّ إذا اشتدّ يُصبح مثل مُحرّك الطائرة الذي يُشغّلونه ويبقونه مشغلًا كي يحمى، وعندما يحمى يسمحون للطائرة بالتحليق. إذا حمت محرّكات الطائرة ترتفع الطائرة بلحظة محلّقةً في أعالي السماء؛ أمّا الطائرة التي لم يحمَ محرّكها وبقي باردًا، فهي تلتصق بالأرض ولا يمكنها أن تحلّق أصلًا. ترى أربعمئة أو خمسمئة حاجّ ومعهم جبل من الحقائب والوسائل، ويريدون أن يطيروا بالطائرة، فكيف تحلّق دفعةً واحدةً إلى السماء؟ هل تظنّون أنَّ البنزين لا يمتلك حُبّاً، وأنّ هذه البراغي والصواميل لا تمتلك حُبّاً؟! جميع ذرّات هذا العالم تمتلك حُبّاً؛ فهذا العالم هو عالم المحبّة وجميعها تحلّق بعشق، وهذه الطائرات ترتفع من خلال العشق. فالعشق ليس منحصرًا بالإنسان.

  • والآن إذا حضرت المحبة في مركز القلب، وأثّرت هذه الصلوات، تركت صلاة أوّل الوقت أثرًا وحرّكته قليلًا، والصلاة الثانيّة حركته قليلًا، والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة؛ مثل ذلك الوقود الذي يملؤون به الطائرة، فأنتم لا تملؤون خزّان الطائرة دفعةً واحدةً بل درجةً درجةً إلى أن يمتلئ. وكلّما امتلأ أكثر، زالت حُجبٌ أكثر من هذا الطرف؛ لأنّ التآلف من آثار المحبّة.

  • فمن يحبّ الآخر، يضحي من أجله، وكلّما زادت محبّته زادت تضحيته. فإنَّ الأبّ يُضحّي لابنه، فيترك النوم من أجل ابنه؛ هذه تضحية، يُضحّي بماله من أجل ابنه؛ أليست هذه تضحية؟! وفي بعض الأحيان، يُضحّي بصحّته. في بعض الأحيان يُشرف الطفل على أن يحترق فتلقي الأمّ بنفسها في النار وتحترق وتموت وتخسر روحها، ولكنّها لا تدع ابنها يموت؛ فمعنى أن تخسر الأم روحها هو أنّه: لا وجود لي مقابل حبّي لك!

  • ألا يصدق هذا الأمر فيما يتعلّق بمحبّة الله؟! يعني: ألا يزول هذا الوجود كلّما ازدادت محبّة الله في قلب الإنسان؟! فتلك المحبّة تصبح أشدّ وأشدّ إلى أن يزول هذا الوجود من البين، فلا يبقى من حاكمٍ في وجود هذا الشخص سوى إرادة الله ونور الله ومحبّة الله.

    1. . مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ۸٥۰، فقرة من دعاء كميل.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

12
  • وهذا هو معنى هذه الأحوال التي نقرأها عن أمير المؤمنين عليه السلام فيما يتعلّق بمحبّة الله التي ملأت وجوده من رأسه إلى أخمص قدميه. ينقل أبو نعيم الأصفهاني ـ وهو من أهل السنّة المعتبرين ـ روايةً في كتابه حِلية الأولياء أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال:

  • «لا تَسُبّوا علیًّا فإنّه مَمسوسٌ في ذاتِ الله»۱.

  • وممسوس يعني: مجنون، وحصل له مسّ. قال تعالى: ﴿إِذَا مَسَّهُمۡ طَـٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ﴾،٢ يعني: مسّهم الشيطان. والنبيّ صلّى الله عليه وآله يقول: «عليّ ممسوسٌ في ذات الله!»؛ وهذا التعبير راقٍ جدًا. هكذا هو عليّ.

  • يرفع الحجب دومًا، حتّى لا يبقي شيئًا منها! فعندما يزول الوجود عن هذا الطرف، يغلب الوجود في ذلك الطرف؛ وحينما يشتدّ الوجود في هذا الطرف، يقلّ في ذلك الطرف، فيلتصق الإنسان بالأرض، ويصبح بدنه ثقيلًا ومُتعبًا وكسولًا؛ فلا ذكر لله ولا حبّ لله ولا إنفاق ولا صدقة ولا صلاة وحتّى الصلاة تنبع من عدم حاجة ومن الكسل! ألا نقرأ في القرآن عن أحوال المنافقين أنّهم:

  • ﴿وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ ﴾؛٣ وبلا طاقة.

  • تأثير العزلة في تحصيل حضور القلب

  • فعلى الإنسان أن يعمل في الخلوة؛ وحضور القلب إنّما يحصل للإنسان في الخلوة. نعم، إذا تمرّن الإنسان مدّةً طويلةً من الزمن، وانشغل في الخلوات بذكر الله، عندها تصبح لديه حالٌ بحيث لا فرق بالنسبة له بين الخلوة والجلوة. ولكن في نهاية المطاف لا بدّ من العبادة في الخلوة مدّة من الزمن؛ ولذلك لدينا في العديد من الروايات الدعوة نحو الانعزال، والتنحّي جانبًا والانشغال بالعبادة و... .٤ ولدينا في البعض الآخر من الأخبار أنّه يجب على الإنسان أن يصلّي جماعةً وأن يُؤدّي الحجّ مع الجماعة و... والمنع الشديد عن الانعزال وهذه الأمور.٥ وقد حصل لدى العلماء التزاحم والتعارض بين هذه الأخبار، فلماذا ورد في بعض الأخبار بأنّه عليك بالاعتزال [ومنع ذلك في البعض الآخر].

  • قال الإمام الصادق عليه السّلام:

  • «...لَسَرَّنِي أَنْ أَكُونَ عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ لَا أَعْرِفُ النَّاسَ وَلَا يَعْرِفُونِي حَتَّى يَأْتِيَنِي الْمَوْت».٦

  • كذلك:

  • قال له أحد الأشخاص: أَوْصِنِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ فقَالَ الإمَام عَلَيهِ السلَامُ: «أقِلَّ معارفَك»؛

    1. . حلية الأولياء، ج ۱، ص ٦۸.
    2. . سورة الأعراف (۷)، الآية ٢۰۱.
    3. . سورة النساء (٤)، الآية ۱٤٢.
    4. . راجع: مصباح الشريعة، ص ٩٩؛ الكافي، ج ٢، ص ٢٢٦؛ ج ۸، ص ٢٦٥؛ التحصين، لابن ‌فهد الحلّي، ص ۷ ـ ۱٢؛ الخصال، ج ٢، ص ٢۷ و٤٣۷؛ مشكاة الأنوار، ص ٢٥۷؛ الأمالي، الشيخ المفيد، ص ٢۰٩؛ جامع الأخبار، للشعيري، ص ۱٢٣؛ عدة الداعي، ص ٢٣٤؛ عوالي اللئالي، ج ۱، ص ٣۸ و٢۸۰؛ غرر الحكم، ص ٤۷٩؛ المحاسن، ج ۱، ص ٤؛ الأمالي، للشيخ الطوسي، ص ۷؛ إرشاد القلوب، ج ۱، ص ٩٩.
    5. . الأصول السّتة عشر، ص ٤٦؛ المحاسن، ج ۱، ص ۸٤ و٩٤؛ الكافي، ج ۱، ص ٤۰٣؛ من لا يحضره الفقيه، ج ٣، ص ٣٩؛ تهذيب الأحكام، ج ۱، ص ٢٤۱؛ الأمالي، للشيخ الصدوق، ص ٣٣٣.
    6. . التحصين في صفات العارفين، ص ۷.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

13
  • فقال: «زِدني بيانًا»؛ أوصني أكثر! فأجابه مجددًا: «أقِلَّ معارفَك»؛ يعني: قلل عدد أصدقائك!

  • فقال له: زدني؟ فقال له الإمام: «أنكِر مَن عرَفتَ منهم»؛۱ يعني: تخلّص من أصدقائك الذين تملكهم بالتدريج!».

  • وهذا الأمر مختصٌّ بالشخص المبتدئ الذي يُمثّل أصدقاؤه بالنسبة له سلسلةً متصلةً بقلبه وكلّ واحدٍ منهم يسحبه ناحية هواه. فكلّ صديق يمتلكه الإنسان، يريد أن يسحبه بناءً لرابطة الصداقة تلك إلى صراطه وطريقه. فصديقه الدنيوي يريده أن يصبح إنسانًا دنيويًا مثله، والصديق ذو الشهوات يريده أن يكون إنسانًا شهويًا مثله، وهكذا... .

  • ﴿وَ لَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡيَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡ﴾؛ يعني: يا أيّها النبيّ لن ترضى عنك اليهود والنصارى حتّى تتبع ملتهم ودينهم.

  • ﴿قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰ﴾؛٢ «يعني: قل: إنَّ هداية الله هي الهداية، وليس اتباع سنتكم ودينكم (فأنا سأمضي في حال سبيلي)!»

  • لذلك، يجب على الإنسان الذي يريد أن يركّز تفكيره في الله، وأن ينشغل بذكر الله أن يُقلّل من الموانع. ومن الموانع هذه المجتمعات التي يحيا الإنسان ضمنها؛ لذلك على الإنسان أن يذهب إلى مكانٍ خالٍ، والأخبار التي تدعو إلى الاعتزال قائمةٌ على أساس أنّ الإنسان يختلي ويعزل مدّةً من الزمن ليقوى شيئًا فشيئًا؛ مثل فرخ الطائر حينما يخرج من البيضة فتبقيه أمّه وأبوه في العش ولا يخرجونه، ويحضرون له الماء والحَبّ إلى أن ينبت له الريش شيئًا فشيئًا، ثمّ يُحضرونه إلى حافّة العش، ثمَّ يقفز من العش قليلًا، ثمّ يُحلّق من هذا الغصن إلى ذلك الغصن، إلى أن يمتلك القدرة اللازمة، ثمَّ يقولون له: اذهب!

  • وكذلك الإنسان حقًا؛ يعني: هكذا هي نفس الإنسان أساسًا، فإذا لم يخلو فلن يجد القدرة بحيث يتمكّن من العمل في الجلوة. ولذلك لدينا في الروايات:

  • فإنَّ الله لم يبعث أي نبيّ بالنبوة إلّا أوجب عليه العزلة والخلوة له في أوّل عمره أو أواخرها.٣

  • ألم يترك نبينا مكّة المكّرمة مدينة العبادة وبيت الله الحرام والكعبة و... وذهب إلى غار حراء؟! وهو يقع على مسافة فرسخٍ خارج مدينة مكّة تقريبًا، في أعلى الجبل، وهو جبل عالٍ وخطير وثلثه الأخير خطرٌ حقًا؛ وعلى الإنسان أن يعبر فوق الأحجار الملساء حيث لا محل فيها لموطأ القدم، ويوجد غار في أواسط الجبل بعد أن يدور عدة دورات [ليصل إليه في النهاية]؛ كان النبيّ يذهب إلى هناك ويبقى هناك أسبوعًا أو خمسة عشر يومًا أو شهرًا؛ ولم يقتصر الأمر على أسبوع أو شهر بل استمرّ على ذلك أشهرًا وسنوات،٤ ولكنّه كان يبقى كلّما ذهب مدّة أسبوع أو خمسة عشر يومًا أو شهرًا كاملًا. كان النبيّ يذهب إلى هناك لأنّه لم يكن هناك حتّى جناح طائرٍ يرفّ فيزاحم حال النبيّ، وكلّ ذلك كي يخلو مع الله. فلو أراد الخلوة في مكّة في ذلك الوقت، لزاحمه جميع أهل مكّة، أمّا هناك فلا مزاحم، ولذا كان يذهب إلى هناك، فحتّى الحيوانات لم تكن تعبر من هناك ولم يكن الطير يحلّق هناك أيضًا، ومن الأساس لم يكن هناك من داعي لأيّ أنسيّ أن يذهب إلى هناك، فهل هو مجنون؟! فماذا يفعل إذا ذهب إلى هناك؟! فمن يطلب الله فقط هو الذي يذهب إلى هناك حيث الخلوة ولا مزاحم. لذلك يقول هنا: «أكثِرْ ذِكري في الخَلوات!» إذن فإنَّ الخلوة ضروريّةٌ!

    1. . التّحصين، ص ۱۱، مع أدنى تفاوت [عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ لَهُ الْمَعْرُوفُ الْكَرْخِيُّ: أَوْصِنِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ عَليْهِ السَّلام أَقْلِلْ مَعَارِفَكَ. قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: أَنْكِرْ مَنْ عَرَفْتَ مِنْهُمْ. قَالَ: زِدْنِي. قَالَ: حَسْبُك‌].
    2. . سورة البقرة (٢)، الآية ۱٢۰.
    3. . مصباح الشّريعة، ص ۱۰۰.
    4. . نهج البلاغة (صبحي صالح)، ص ٣۰۰.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

14
  • المداومة على الأذكار والتوجّه إلى الله

  • صَمت و جوع و سهر و عزلت و ذکری به دوام***ناتمامان جهان را کند این پنج تمام 
  • [يقول: صمتٌ وجوعٌ وسَهَرٌ وعُزلةٌ ودوام الذِّكر؛ هذه الخمسة ستجعل غير الكاملين في العالم كاملين] ۱

  • هناك خمسة أمورٍ ضروريّةٍ:

  • أوّلًا: الصمت: السكوت؛ يعني: أن يتجنّب الإنسان اللغو أي: الكلام بلا طائل.

  • ثانيًا: السهر (بـ هاء هَوَّز): يعني: إحياء الليل.

  • ثالثًا: الجوع: الجوع مفتاح السماء، ونور الله ليس موجودًا في البطن الممتلئ!

  • رابعًا: العزلة: يعني، هذه الخلوة التي يوصي بها الله النبيّ عيسى بن مريم عليهما السّلام.

  • خامسًا: دوام الذكر: يعني: أن يتذكّر الإنسان اللهَ على الدوام إمّا باللسان أو بالقلب.

  • ***نا تمامان جهان را کند این پنج تمام
  • يعني: الناقصون الذين لم يصلوا إلى محّل وما زالوا في السير والسلوك، ولم يصلوا بعد، ويريدون الوصول إلى مقام القرب.

  • فإذن في هذه الفقرة صار من الواضح تمامًا ما هو أثر الذكر في الخلوة.٢

  • ونسأل الله العليّ الأعلى إن شاء الله ببركة هؤلاء الأفراد الذين جلست محبّة الله وذكره في قلوبهم وحرّكت طائرة وجودهم إلى عشق الله، وحرّكت الوجود الممكن إلى مقام قربه، وأضيفت تجلّيات الله آناً فَآناً إلى قلوبهم، أوليائنا والأئمّة الطاهرين الذين لم يتّخذوا لأنفسهم مولىً غير الله في الدنيا والآخرة ولم يخضعوا لعبادة أيّ معبودٍ سوى الله، أن يجعلنا نتأسّى بهم، وأن يُقرّبنا إليهم في الطريق والنهج ويجعل محبتهم في قلوبنا ثابتةً ومستقرّةً ودائمةً، وأن يُذكّرنا أن نذكره باستمرار!

  • يقسم أمير المؤمنين، ويقول:

  • «أسأَلُكَ بِحَقِّكَ وقُدسِكَ وأعظَمِ صِفاتِكَ وأسمائِكَ أن تَجعَلَ أوقاتِي مِنَ اللَّيلِ والنَّهارِ بِذِكرك معمورَة وبخِدمَتِك مَوصولة [وأعمالي عِندَكَ مَقبولَةً]، حتّى تَكونَ أعمالي وأورادي كلُّها وردًا واحدًا وحالي في خدمتِك سَرمدًا.٣

  • (ولم يعد هناك من ذاكرٍ ومذكورٍ، وما بقي هو الذكر وحسب)!».

  • هذا في دعاء كميل الذي نريد أن نقرأه أو نقرأه كلّ ليلة جمعة. ماذا يريد ان يقول أمير المؤمنين عليه السلام؟ وفي أيّ أفق يحلق؟ «حتّى تَكونَ أعمالي وأورادي كلُّها وردًا واحدًا وحالي في خِدمتِك سَرمَدًا!».

  • جعلنا الله من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام إن شاء الله ونسأله أن يرزقنا ذلك الصراط الذي سلكه الإمام عليه السلام وأن يُنيلنا تلك المقامات التي وصل إليها، وأن يرزقنا من تجليّات ولايته بلا أي شائبة!

    1. ۱. كلّيّات قاسم الأنوار، المقطّعات، ص ٣٣٩، مع أدنى تفاوت.
    2. . لمزيد من الاطلاع، راجع: مصباح الشريعة، ص ۱۱٥؛ رسالة السير والسلوك المنسوبة إلى بحر العلوم، ص ۱٦۰.
    3. . مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ۸٤٩، فقرة من دعاء كميل.

أهميّة طهارة القلب ودوام ذكر الله والعزلة في السير والسلوك - تفسير فقراتٍ من الحديث القدسي: يا عيسى! (۱)

15
  •  

  • اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد