المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةمباني الأخلاق
التوضيح
أهم محتويات المحاضرة:
- خطبة عيد الفطر السعيد الأولى؛
- خطبة عيد الفطر السعيد الثانية.
هو العليم
ضرورة الوحدة والأخوّة بين المسلمين
مباني الأخلاق - المجلّس الثامن عشر
محاضرات ألقاها
سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
طهران، مسجد القائم، خطبة عيد الفطر السعيد
خطبة عيد الفطر السعيد الأولى
أعوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم
بِسمِ اللَهِ الرّحمٰنِ الرّحیمِ
الحَمد لِلّه الواصلِ الحمدَ بالنِّعَم، والنِّعَمَ بالشُّكر. نَحمَده على آلائه كما نَحمَده على بلائه. ونَستَعينه على هذه النُّفوسِ البطاءِ عمّا أُمِرَت به، السِّراعِ إلى ما نُهيَت عنه. ونَستَغفره ممّا أحاطَ به علمُه وأحصاه كتابُه؛ علمٌ غرُ قاصرٍ وكتابٌ غيرُ مُغادر. ونُؤمنُ به إيمانَ مَن عايَنَ الغيوبَ ووقَف علَى الموعود؛ إيمانًا نفى إخلاصُه الشِّركَ، ويقينُه الشَّك.
ونَشهَد أن لا إله إلّا الله وحدَه لا شريكَ له، إلهًا واحدًا أحدًا صمدًا فردًا حيًّا قيّومًا دائمًا أبدًا، وأنَّ محمّدًا صلَّى اللهُ عليه وآله وسلّم عبدُه ورسولُه، أرسَلَه بالهدى ودينِ الحقِّ ليُظهِرَه علَى الدّينِ كلِّه ولو كَرِهَ المُشرِكون؛ شهادتَين تُصعِدان القولَ وتَرفعانِ العملَ، لا يَخِفُّ ميزانٌ تُوضَعانِ فيه ولا يَثقُل ميزانٌ تُرفَعانِ عنه.
«أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّتِي هِيَ الزَّادُ وَبِهَا الْمَعَاذُ زَادٌ مُبْلِغٌ وَمَعَاذٌ مُنْجِحٌ! دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ وَوَعَاهَا خَيْرُ وَاعٍ فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا وَفَازَ وَاعِيهَا».۱
﴿بِسۡمِ ٱللَهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ، قُلۡ هُوَ ٱللَهُ أَحَدٌ ، ٱللَهُ ٱلصَّمَدُ ، لَمۡ يَلِدۡ وَ لَمۡ يُولَدۡ ، وَ لَمۡ يَكُن لَّهُۥكُفُوًا أَحَدُ﴾.٢
خطبة عيد الفطر السعيد الثانية
بسم اللَه الرّحمٰنِ الرّحیمِ
ضرورة الوصول إلى أعلى مراتب التقوى
قال اللَه في كتابه الكريم:
﴿يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ ، وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾ ٣.
هتان الآيتان المباركتان هما الآيتان ۱۰٢ و ۱۰٣من سورة آل عمران، ومفادهما ما يلي:
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، لعلّكم تصلوا إلى مرحلة تكونون فيها تحت العصمة والمصونيّة الإلهيّة كما يستحق شأنها، وذلك على إثر مخالفة النفس الأمّارة والتسليم لأوامر الله واجتناب المحرّمات؛ وعسى أن تتكاملوا وترتقوا بأنفسكم بحيث إذا حضر موتكم تكونون قد وصلتم إلى المقام الكامل من الإسلام، وبحيث تكونون قد استفدتم أقصى فائدة من ثمرة وجودكم، فلا ترحلوا عن هذه الدنيا كالثمرة الفجّة!
إنّكم أناسٌ وبشر، والإنسان يمتلك الغرائز والصفات الإنسانيّة حتمًا؛ وبالتالي إذا عاش في هذه الدنيا ولم يحُز على الصفات والملكات اللازمة لمقام الإنسانيّة، وحان موعد وفاته فسيرحل عن الدنيا ناقصًا.
فعليكم أن تتقوا الله حقّ تقاته وكما يستحق؛ لا أقلّ أو أدنى من ذلك الحدّ! وإيّاكم أن لا تصلوا إلى مرحلة الإسلام الواقعي قبل أن يحين موعد وفاتكم (ذلك الحدّ الأعلى من مقام التسليم الذي ينبغي أن تمتلكوه مقابل أوامر الله كي يُطلق عليكم اسم المسلم)!»
﴿وَ ٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَهِ جَمِيعٗا وَ لَا تَفَرَّقُواْ﴾.
حبل الله يقع في قبال حبل غير الله؛ حبل الله وحبل النّاس. فحبل الله هو الارتباط بين الإنسان وخالقه؛ وحبل غير الله هو تلك الاعتبارات التي يعتمد الإنسان عليها في هذه الدنيا، من الاعتبار والجاه والقدرة والسلطة والمال وباقي الجهات المختصّة بهذا العالم. فاقطعها جميعًا واتصل بالله! تمسّك بذلك الحبل الذي من شأنه أن يرتقي بك في طريق تكامل الإنسانيّة ويوصلك إلى حدّ مقام المعرفة والقرب! كي تستفيد أقصى استفادة من عالم الوجود هذا ومن الحياة والعمر.
﴿وَ لَا تَفَرَّقُواْ﴾؛ فلا تفترقوا عن بعضكم ولا تبتعدوا!
لزوم شكر نعمة الإسلام
﴿وَ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا﴾.
وتذكّروا نعم الله التي أنعمها عليكم! فقد مضى عليكم وقتًا من الزمن لم تتمتّعوا بها بنعمة الإسلام ولا بالإيمان ولا بالتقوى والفضائل الإنسانيّة، وعشتم مع بعضكم على أساس العداوة والنفاق وتنازع البقاء، وكنتم ترون أن مصلحتكم تقوم على حساب ضرر الآخرين.
فهل تذكرون أنَّه مضى عليكم مثل هذا الزمان؟ وقد أنعم االله العليّ الأعلى عليكم وأرسل إليكم كتابًا سماويّاً، وفي هذا الكتاب توجد جميع نقاط ترقّيكم وصلاحكم، وأظهر لكم جميع الطرق التي تُخرجكم من الظلمة والظلم والعدم والزوال والذلّ والفقر والفناء، وسلّم هذا الكتاب للشخص الذي هو ثمرة عالم الخلقة والزهرة التي تقع على وجه سلّة عالم الإمكان؛ يعني: أرسل لكم هذا الكتاب الذي هو دستور العمل، وسلمه إلى يد النبيّ محمّد بن عبد الله، إلى هكذا نبيٍّ عظيمٍ وخاتم الأنبياء والمرسلين. لقد وجدتم هذا النبيّ نموذجًا حيّاً للقرآن المجيد، فكانت جميع اعماله منطبقةً على القرآن المجيد، فسعيتم خلف النبيّ وسرتم في ظل تعاليم القرآن.
وقد وصلتم إلى حيث اتحدت قلوبكم على أساس الوحدة الإسلاميّة بدلًا من تلك العداوة والنفاق والظلم والظلمة والبوار والهلاك والتفرقة والتشخّص، وعُقدت قلوبكم بحبل الألفة والمودّة، وأصبحتم طيّبين ودودين مع بعضكم، وأصبحتم أخوانًا في ظل تعاليم الإسلام.
أصبحتم أحببتم بعضكم بعضًا، كما تُحبّون أنفسكم، وأصبحتم تسعون في حوائج إخوانكم المؤمنين كما تسعون في حوائجكم؛ بل أكثر من ذلك، أصبحتم تُقدّمون إخوانكم المؤمنين على أنفسكم، وأضحيتم تؤثرونهم على أنفسكم وتعفون عن أخطائهم، وذلك في سبيل الفضائل والفواضل. وهذا من آثار نعمة الله الذي جعل الوجود المقدس للنبيّ حاضرًا على الأرض مع هذا الكتاب، أمّا أنتم أيّها الجاهليّون فإنّكم تتراجعون القهقهراء بسبب السُنن الجاهليّة الضالّة والمضِلّة وبسبب العصبيّة القوميّة والعقائد المعادية لله، وستدخلون جهنّم، عجلتم بالدنيا من أجل جهنّمكم، قبل أن تصلوا إلى نتائج أعمالكم آجلًا في جهنم الآجلة. لقد حضر هذا النبيّ وأيقظكم وحذّركم وقال: أيّها الناس، تجاوزوا هذه المرحلة وارتقوا؛ فأنتم لستم حيوانات كي تشبعوا بطونكم من لحم الحيوانات الأخرى، وكي تحصلوا على صيدكم وفريستكم من خلال تمزيق الحيوانات الأخرى؛ إنّك آناسي وبشر ويجب أن تتحرّكوا في مسار التكامل وصفات مقام الإنسانيّة، ويجب أن تتحرّكوا في سبيل الله من خلال مجاهدة النفس والعزم الراسخ والإرادة الثابتة!
﴿وَ كُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَا﴾؛
فقد كنتم بأجمعكم على حافّة النّار، وبهزّةٍ خفيفةٍ ستنهار الأرض تحت أقدامكم وستقعون في وسط النيران؛ لقد هداكم الله العليّ الأعلى، وأمسك بأيديكم ونجّاكم ببركة وجود مثل هكذا نبيّ، أنقذكم وجذبكم من هذا الهلاك وسوء الحظ.
﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ﴾؛
إنّ الله يُبيّن آياته لكم بهذا الشكل، ويُظهر لكم إشارات التوحيد وعلاماته، ويُعلّمكم رموز النجاح والتوفيق والسعادة، ويُوضّح لكم علامات الاستقامة والفوز؛ على أمل أن تعثروا على طريقكم وتخطوا في هذه الطريق، ولا تتقاعسوا ولا تجلسوا طالما لم تصلوا إلى مقصودكم بعد!».
﴿وَ لۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَيۡرِ وَيَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ، وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ وَأُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ﴾.۱
يعني: لا بدّ من أن تكون هناك جماعةٌ وفئةٌ بينكم تدلّ النّاس إلى الخير، وتأمر بالمعروف والعمل الحسن وتنهى عن الفعل القبيح والمنكر؛ وهذه الجماعة هي جماعةٌ حيّةٌ ومن أهل فلاح ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد أن قُرأت عليهم آيات الله ووصلت إليهم بيّناته، وأدركوا الأمور، فسعوا إلى التفرّق والانفصال، وكوّن كلّ واحدٍ منهم مذهبًا ومدرسةً خاصّةً به وجمّعوا النّاس حولهم وابتعدوا عن الوحدة والسلامة والألفة على أساس النفاق والتفرّق والانفصال، فهؤلاء لهم عذاب عظيم!
دعوة النبيّ إلى الاتّحاد يبن المسلمين
نجد في الروايات التي وصلتنا عن النبيّ الأكرم أنَّ النبيّ الأعظم دعى كثيرًا إلى الاتحاد والاعتصام بحبل الله. وكثيرًا ما كان يُردّد في خطبه التي كان يُلقيها: أيّها المسلمون، اتّحدوا مع بعضكم! اتحدوا مع بعضكم! وقد تكرّرت هذه المسألة في زمان النبيّ كثيرًا جدًا، وربّما أكّد على هذه المسألة وأوصى بها في أغلب الخطب التي ألقاها على الناس. إنّما شُرّعت صلاة الجماعة من أجل هذه المسألة، وإنّما شُرّعت صلاة الجمعة من أجل هذه المسألة، وربّما كان سرّ اجتماع النّاس في كلّ عامٍ من أجل أداء مناسك الحجّ، وكانت العمرة طوال السنّة من أجل هذه المسألة.
رواية النبيّ في تشبيه المؤمن بالرأس بالنسبة لجسد مجتمع المسلمين
في إحدى الخطب التي خطب بها النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، أصرّ على هاتين المسألتين، وهي الخطبة التي خطبها النبيّ في معركة أحد. وهي ليست خطبة طويلة بل قصيرة، وربما لا تبلغ أكثر من عشرين سطرًا. فبعد أن نَظّم الصفوف، خطب خطبةً قصيرةً، قال فيها:
«إنّي حريصٌ علیٰ رُشدِكم»؛ فيا أيّها المسلمون، أنا حريصٌ على ترقّيكم وتكاملكم ورشدكم وسعادتكم!
ثمَّ أكمل حديثه، إلى أن وصل إلى هذه المسألة:
من الأمور التي أصبحت واجبةً عليكم صلاة الجمعة التي ينبغي أن تُؤدّوها كلّ يوم جمعة؛ إلّا على المريض أو الطفل أو المرأة أو العبد المملوك، ولو قال شخصٌ: أنا مستغني عن هذا الأمر ولا حاجة لي بصلاة الجمعة، فسيبدي الله عدم الحاجة والاستغناء عنه.
«ما مِن شيءٍ يُقَرِّبُكم إلَی اللَهِ إلّا وقد أمرتُكم بِه[ودللتكم عليه]، وما مِن شَيءٍ يُبَعِّدِكم عن الله إلّا وقد نَهَيتُكم عَنه».
فالأمور على ثلاثة أنحاء:
أمرٌ بَیِّنُ الرّشد، أي: إنَّ رشده جليٌّ وواضحٌ للإنسان، فإذا اتبعه وتحرّك باتجاهه وصل إلى السعادة؛ فعليه أن يقوم به حتمًا.
أمرُ بَیِّنُ الغَيّ، يعني: من الواضح أنَّ الإنسان سيضلّ إذا قام به؛ فيجب عليه أن يتركه.
وأمر مشتبه بينهما، وهذه المشتبهات كثيرةٌ، ولا نعلم حقيقتها إلّا مَن عَصَمَ؛ أي: إلّا من حفظه الله وجعله الله في عصمته.
ثمَّ طرح مثالًا، وقال:
مثل الخراف إذا تركهم الإنسان فمن الممكن أن يتّجهوا إلى الحِمى والخندق، وإذا اقترب من الحمى والخندق، فمن الممكن أن يقع في الخندق؛ وأنتم أيضًا لا تقتربوا من الأمور المشتبهة حيث لا تكون الأمور واضحةً بالنسبة لكم، إلى أن تتضح لكم وتقدموا عليها عن اعتقاد ويقين!
«والمؤمنُ مِنَ المُؤمنين كالرّأسِ مِنَ الجَسَدِ، إذا اشتَكى تَداعى عَليهِ سائرُ الجَسَدِ»
فكلّ فردٍ من أفراد المسلمين هو بالنسبة للمجتمع الإسلامي كالرأس من البدن، فإذا أُصاب الرأس بالألم تألّم البدن بأكمله.۱
وقد نقل الواقدي هذه الرواية التي ذكرتُ لكم قسمًا منها في كتاب المغازي. وهو من مؤرخي غزوات النبيّ، وهو من الكتب التي تمّ تاليفها في القرن الثالث للهجرة، أي: قبل ألف ومئة عامٍ. وقد نقل المرحوم العلامة المجلسي هذه الرواية في المجلّد السدس من كتاب بحار الأنوار،٢ عن الواقدي في جزء من غزوات النبيّ؛ ولكنّ البعض ذكر هذه الفقرة من الرواية بهذا النحو:
«تَرَى المؤمنينَ في تَراحُمِهم ووُدِّهم كالجسدِ الواحدِ؛ إذا اشتَكى عضوٌ تداعى عليها سائرُ الأعضاء بالسَّهَرِ والحُمّى»٣.
ولكن هذه العبارة ليست عبارة النبيّ؛ فعبارة النبيّ هي هذه العبارة التي ذكرتها أوّلًا، وهي ألطف وأجمل؛ لأنَّ هذه العبارة تقول: إذا مرض العبد المؤمن كأنّما تألّم عضوٌ من أعضاء البدن. على سبيل المثال: إذا أصيبت قدم الإنسان أو يده بالألم، فستُشاركه أعضاء البدن بأجمعها بالألم فيحصل الأرق لهم جميعًا وترتفع حرارة البدن إلى أن يتمّ علاج هذا العضو.
أمّا النبيّ فبيّن الأمر بنحوٍ ألطف، وقال:
«المؤمنُ مِنَ المؤمنينَ كالرّأسِ مِنَ الجَسَدِ».
يعني: إذا اعتبرناكم ـ أي: المجتمع الإسلامي ـ البدن، فكلّ فردٍ منكم له حكم الرأس، لا حكم القدم والأذن واليد وباقي الأعضاء. فإذا لحق الضرّر بفردٍ من أفراد المسلمين فكأنّما لحق الضرر والأذى برأس بدن مجتمع المسلمين، وتشنّج جميع المجتمع؛ لماذا لحق الضرر بهذا الرأس! وحتّى لو كان ذلك الفرد المسلم إنسانًا لا شأن له أو كان فردًا ليس له شخصيّة أو جاه أو اعتبار؛ فالإسلام لا يقوم على هذه الأسس! إذا عانى شخصٌ واحدٌ في العالم الإسلامي، فإنَّ رأس الإسلام يُعاني، وبتبع هذا المرض والألم الذي أصاب الرأس يُعاني البدن بأسره، فيكافح الجميع إلى أن يُعالجوه؛ وطالما أنَّه لم يُعالج بعد، فإنَّ البدن بأكمله سيُعاني من الحرارة والأرق. إذا أصيب رأس الإنسان بالألم، ارتفعت درجة حرارة بدن الإنسان بأجمعه، ولم ينم جميع البدن، لا الرأس فقط هو الذي لا ینام بل الجسم بأكمله لا ينام! هذا تشبيه وكناية عجيبةٌ، وهذا هو أمر النبيّ.
تأكيد النبيّ على لزوم وجود علاقة الأخوة في مجتمع المسلمين
لقد خطب النبي في آخر سفرٍ تشرّف فيه بالحجّ خطبةً في مسجد الخيف، قال فيها:
«رَحِمَ اللَهُ امرءًا سَمِعَ مَقالَتي فَوَعاها [في قلبه وحفظها] فَبَلَّغَها إلیٰ مَن لَمْ يَبلُغْها [بعد عودته إلى مدينته أو ولايته أو بلدته ]
فرُبَّ حامِلِ فِقهٍ إلیٰ مَن هو أفقَهُ منه»؛ يعني: كثيرًا ما يتعلّم الإنسان كلامًا ويحفظه وينقله إلى الآخرين ويكون فهمهم أعلى ويكونون أفقه وأكثر استفادةً من هذا الكلام.
ولذلك على كلّ من سمع هذا الكلام أن لا ينظر إليه بلا مُبالاة، فربّما يكون ذلك نابعًا من قصور في فهمه؛ بل عليه أن يحفظه وينقله، وهناك أفرادٌ علماء وفقهاء وإذا وصلتهم هذه الجملة فسوف يفهمون عمق الفكرة.
«ثَلاثةٌ لا يُغِلُّ علَيهنّ [أي: لا يُظلِم بسببهنّ] قلبُ امْرِئٍ مُسلمٍ» ، وإذا فعل هذه الأشياء الثلاثة فسيبقى القلب حيًا دومًا ومنتعشًا وبلا حجاب، ولن يُخيم الحقد والحسد والضغينة والثقل والحزن على ذلك القلب.
«إخلاصُ العملِ لِلَه»؛ الأمر الأوّل: أن يُؤدّي الإنسان أفعاله لوجه الله فقط!
فينبغي أن يكون كلّ فعلٍ يقوم به لوجه الله، سواءً أكان هذا الفعل عباديّاً أم غير عباديٍّ، وسواءً أكان فعلًا للمعاش أم للمعاد. فليذهب إلى مكان مُنعزلٍ وليجلس ويفكّر ولينظر هل يفعل هذا الفعل لوجه الله أم لا؟ فهذا الأمر يرتقي بالإنسان ويحييه.
«والنّصيحةُ لأئمّةِ المُسلِمين»؛ الأمر الثّاني: إذا رأى الإنسان أنَّ قادة المسلمين بحاجة للتنبيه والنصيحة فعليه أن يُنبّههم، ولا يتجنّب ذلك!.
فكم هي كثيرة الأمور التي لا تصل إلى مسامعهم، وعدم وصولها إليها يؤدّي إلى حصول الضرر. فإذا كان لدى الإنسان مسألة تُفيد أئمّة المسلمين (أي: قادة المسلمين)، فعليه أن يُنبّههم إليها.
«و اللُّزومُ لِجَماعَتهم»؛ الأمر الثالث: على الإنسان أن يكون مع جماعة المسلمين!
فلا ينعزل ولا يسير وحيدًا، وينبغي أن لا يعيش بمفرده! يجب ان يكون في اجتماعات الإسلاميّة، ولا يقولنّ: «لا فائدة في ذلك!» بل لوجوده بينهم فائدةٌ. فإذا بيّن معنى آيةٍ أو قام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو قام بالتوجية أو دلّ على الخير ولو لمرةٍ واحدةٍ، كان وجوده بينهم حجّةً وكان مؤثّرًا.
«فإنَّ دَعوَتَهُم مُحيطةٌ مِن وَرائِهم»؛ فدعوة جماعة المسلمين ودعاؤهم ليس فقط من داخلهم، بل هي محيطةٌ بهم ومن وراءهم أيضًا.
يعني: إذا انسجم المجتمع الإسلامي مع بعضه؛ فسوف يُديرون الدنيا بأسرها على أساس النيّة الصحيحة، وسوف يكونون سببًا في رشد وترقّي كلّ الدنيا، وهذه المسألة لا تختصّ بمجتمعهم فقط.
«المُؤمِنونَ إخوَةٌ، تتَكافَأُ دِمائُهُم وهُم یدٌ واحِدٌ عَلیٰ مَن سِواهم، يسعى بِذِمَّتِهم أدناهم».۱
فجميع المؤمنين في حكم الاخوة؛ وكلّ من آمن فهو في حكم الأخّ بالنسبة لباقي المؤمنين، وباقي المؤمنين أخوةٌ له وتتكافأ دمائهم وتتسوى بالقيمة، ففي المجتمع الإسلامي للدم قيمةٌ واحدةٌ؛ فقيمة القصاص والدية هي نفسها سواءً كان الشخص أشرف أو أكثر وجاهةً أم لم يكن، وسواءً أكان أعلى أم أدنى، وسوءً أكان فقيرًا أم غنيّاً. «تتَكافَأُ دِمائُهُم»؛وتتساوى قيمة دمائهم، هذا هو دستور النبيّ!
«وهُم يَدٌ واحِدةٌ عَلى مَن سِواهم»؛ فجميع المؤمنين بحكم اليد الواحدة ضدّ أعدائهم؛ جميع المؤمنين يدٌ واحدةٌ.
يعني: ليس هناك من انفصال أو تفرقة، وإذا ما تعرّضوا للأذى أو الضرر، يصبحون كقبضة اليد الواحدة ضدّ من يُهدّد كيانهم ووجودهم، ويتصرّف بما يخالف القرآن وتعاليم نبينا، إنّهم يدٌ واحدةٌ.
«ويَسعیٰ بِذِمَّتِهم أدناهُم»؛ يعني: يسعى أدنى أفراد المسلمين بعهود المسلمين ويأخذها على عاتقه.
يعني: لو أنّ فردًا من أفراد المسلمين كان أدنى درجةً من باقي المسلمين فأدخل كافرًا في ذمّته وعهده، فإنَّ ذمته وعهده محترمان، وعلى جميع المسلمين اعتبارهما محترمان ولا يُمكنهم نقض عهده أو ذمته؛ لأنَّه مسلم. هذا هو الاحترام والقدر والقيمة والقابليّة التي مُنحت له من الله، فإذا وضع مسلمٌ كافرًا تحت ذمته وحمايته، فهو (أي: الكافر) في أمانٍ ولا يستطيع أيّ مسلمٍ آخر التعدّي عليه.
وقد ورد في بعض الروايات ما يلي:
«نَضَّرَ اللَهُ عبدًا سمِعَ مَقالتِي فوَعاها!».٢
أي أنّ النبيّ يقول:
إنّ الله يحفظ قلب الشخص الذي سمع مقالتي وحفظها ونقلها إلى الآخرين، نضرًا!
أو أنّ ذلك دعاءٌ من ناحية النبيّ ومعناه:
فليحفظ الله قلب الشخص الذي يأخذ كلامي: «أنا الحريص على رشدكم وهدايتكم» وينقله للآخرين، فليحفظه الله قلبه نضرًا وحيًا!
وقد ورد في بعض الروايات ما يلي:
«نَصَرَ اللَه...»؛۱ أي: لينصر الله قلب العبد الذي سمع كلامي وأوصله للآخرين!
رواية الرسول حول التمسّك بالقرآن عند مواجهة الشبهات
ويقول النبيّ في خطبةٍ أخرى من الخطب التي خطبها في زمان حياته:
«أَیُّها النَّاسُ! إنّكُم في دَارِ هُدنةٍ، وأنتُم عَلیٰ ظَهرِ سَفَرٍ، والسَّیرُ بِكُم سريعٌ ، و قَد رَأَيتُمْ أنّ الشَّمسَ والقَمرَ قد يُبليانِ کُلَّ جَديدٍ، ويُقرِّبانِ کُلَّ بَعيدٍ، ويَأتِيَانِ بِكُلِّ مَوعودٍ ، فَأعِدُّوا الجِهَازَ لِبُعدِ المَجازِ [أي: للطريق الطويل أمامكم] !»
قال: فَقامَ المقدادُ بنُ الأسوَد فقال: «یا رسول الله، وما دارُ الهُدنةِ؟».
يعني: أنت قلتَ:” إنّكم في دار الهُدنة؟ “ فما معنى دار الهدنة؟
فأجاب النبيّ: «دَارُ بَلاغٍ وانقِطَاعٍ، فَإذَا التَبسَتْ عَلیكُم الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ فَعلَيكُم بِالْقُرآن؛ فَإنَّه شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وماحِلٌ مُصَدَّقٌ».٢
فدار الهدنة تعني: تلك الدار التي يتمّ تنبيهكم فيها، ثمّ ينتهي هذا الوقت، وبعدها لا فلاح لكم بعد ذلك، يتمّ تنبيهكم فقط؛، فإذا عملتم فقد عملتم؛ وإن لم تعملوا فلم تعملوا! وينتهي عمركم وانقطع السبيل بينكم وبين نواياكم، وهذه هي دار الهدنة.
«فَإذَا التَبسَتْ عَلیكُم الفِتَنُ كَقِطَعِ اللَّيلِ المُظلِمِ فَعلَيكُم بِالْقُرآن؛ فَإنَّه [يساعدكم ويقدّم لكم العون والمَدد، ويمدّ فكركم بالقوة] شَافِعٌ مُشَفَّعٌ [فشفاعته ومساعدته مقبولةٌ عند الله] وماحِلٌ مُصَدَّقٌ.
فالقرآن ليس كسائر الكتب إذا قرأته وعملت بما ورد فيه، فسوف تؤاخذ بعد ذلك، أنّه بأي حجّة ودليل عملت به؟!
فمن يضع القرآن نصب عينيه ويعمل به، «فإنّه شافعٌ مُشَفَّع»؛ وسيُدخله القرآن إلى الجنّة، ومن يضعه خلف ظهره ولا يعمل به «ساقَهُ إلَی النّار»؛ فسيدفعه القرآن من الخلف ويلقيه في جهنم.
«وهو الدَّلیلُ، يدُلُّ عَلیٰ خَیرِ سَبيلٍ»؛ فهو أفضل دليلٍ يدلّكم على أفضل سبيلٍ،
«وهو الفَصلُ ولَیسَ بِالهَزلِ»؛ فهو ليس بكلام هازل، بل هو كلامٌ قاطعٌ يفصل بين الحقّ والباطل.
فاحتمي بالقرآن في جميع الأمور التي تشكّ فيها، واستمد القوّة من القرآن! يقول الله عزّ وجلّ في الآية التي تلينها في مطلع الخطبة:
﴿وَ ٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾؛٣ يعني: تمسكوا بحبل الله واجتنبوا التفرّق والانفصال عن مجتمع المسلمين!
ولا تقوموا بعمل فيه شبهة بينكم وبين الله، بل قوموا بالأعمال عن بصيرةٍ وبعزمٍ راسخٍ، وضعوا أقدامكم في الطريق القويم واجتنبوا المشتبهات. فإذا علمتم سبيل الرشد والصلاح فالفتوا النظر إليه وكونوا مع الجماعة؛ وعند ذلك سيهديكم الله العليّ الأعلى وسيفيض عليكم من أنوار عالم الملكوت، وسيخرج من قلوبكم الغلّ والغش، وعند ذلك سوف تحيون في المجتمع الإسلامي، في مجتمعٍ يملأ قلبكم وروحكم وجسمكم بالسعادة.
كيفيّة التلاوة والتدبّر في آيات القرآن
نسال الله أن يكون القرآن كتاب عملنا، وأن نتدبّر ونتفكّر عند تلاوة القرآن إن شاء الله! يقول الله للنبيّ:
﴿وَ رَتِّلِ ٱلۡقُرۡءَانَ تَرۡتِيلًا﴾؛۱ يعني: اقرأ القرآن بتأنٍ، واقرأه بتفكّرٍ وتأمّلٍ!
فإذا لم نفهم آيةً من آيات القرآن فلنسأل عنها، فلا إشكال في ذلك؛ وإذا لم نفهم آيتين فنسأل عنها! وإذا قرأنا صفحةً من القرآن بتدبّر فإنَّ ثوابها أكبر من أن نقرأ صفحتين بحيث يكون تدبّرنا فيها أقل، فإنَّ ثواب قراءة جزء من القرآن بتدبّر أكبر من ختم القرآن دون تدبّر؛ لأنّ الإنسان إذا لم يتدبر في القرآن، فلن يفهم ما يقوله للإنسان، ولن يتعرّف على رأس الدين وروحه، ولن يتعرّف على روح النبيّ، ولن يفهم روح النبيّ وأمير المؤمنين والأئمّة ولن يُدرك كيفيّة تفكيرهم.
فإنَّ شمّ الفقاهة عبارةٌ عن حالٍ تحصل لدى الفقيه بحيث إذا وصله أحد الأخبار، علم عن أيّ إمامٍ صدرت هذه الرواية، ونحن علينا أن نصل بالنسبة لتعاليم القرآن إلى مرحلةٍ نستنبط فيها مسألةً كليّةً من آيات القرآن، وأن نتعرّف فيها على روح الدين؛ فإذا تعرّفنا على روح الدين أصبحت جميع أعمالنا صحيحةً، ووقعت جميع هذه الأوامر في موطنها، وأصبحت قلوبنا مثلما عبّر عنها النبيّ: «واعية»، فتتبدّل سيئاتنا إلى حسنات، ويتحوّل الذلّ إلى عزّ.
لقد مَنَّ الله العليّ الأعلى على المسلمين، ولم يترك أدنى شبهة أو شكّ في هذا العيد وتمكّن العديد من الأفراد في الأماكن المتفرّقة من هذه الدولة من رؤية القمر بوضوحٍ وشهدوا بذلك.
فالحمد لله. ونسأل الله العليّ الأعلى أن يجعل هذا اليوم مباركًا على الجميع! مبارك يعني: مليء بالبركة؛ يعني: يمدّهم ببركة الدین من عالم الغيب ومن عظماء المسلمين ويُفيضها على جسد المسلمين وقلوبهم وأرواحهم، ويمنحهم العافية؛ والعافية تعني: سلامة الفكر وسلامة الأخلاق والرشد والترقّي، كي يعثروا على سبيلهم، وكي يتحرّكوا نحو الكمال فلا يتراجعون القهقراء، ولا يراوحون مكانهم.
نسال الله أن يتقبل أعمالنا التي أديناها نحن وجميع المسلمين في شهر رمضان المبارك هذا، قليلةً كانت أم كثيرةً، ناقصة أم تامّةً برحمةِ رحمانيته ورحيميّته، وأن يُصلح أعمالنا فلا يأخذنا بخراب أعمالنا؛ وبحقّ ما أقسمت به وبأئمّة القرآن المجيد وقادة هذا الكتاب الإلهي الذين أرونا هذا الطريق، وأتوا بنا إلى هذا الصراط، خُذ بأيدينا واجعلنا نتّبهم إلى نفس المقصد الأسنى وإلى هدف الإسلام الأعلى وأوصلنا إلى الإنسانيّة! وتقبّل جميع دعواتنا! واجعل قلب إمام زماننا راضيًا عنّا! واجعل أعمالنا مبنيّةً على أساس اليقين! وثبّت أقدامنا على الصراط المستقيم! ونوّر قلوبنا بنور اليقين! واستجب سائر الأدعيّة التي نقرأها في صلواتنا، ومنها:
«اللّهُمَّ أَدْخِلْنِي فِي كُلِّ خَيْرٍ أَدْخَلْتَ فِيهِ مُحَمَّداً وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَخْرِجْنِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ أَخْرَجْتَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَآل مُحَمَّدٍ!».
واجعل مجتمع المسلمين على قلبٍ واحدٍ، وأن يكون ذا عقيدةٍ واحدةٍ وهدفٍ واحدٍ! وأذّل أعداء الإسلام! وأرضِ قلب إمام زماننا عنّا، وعجل في فرجه!
اللَهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد