المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةمباني الأخلاق
التاريخ 1397/09/21
التوضيح
أهم محتويات المحاضرة:
- الدعاء روح العبادة؛
- شروط استجابة الدعاء؛
- حصول شروط استجابة الدعاء في ليالي القدر؛
- علة ضرورة التزام جميع الأفراد بالوصية الأخيرة لأمير المؤمنين عليه السّلام؛
- فقرات من وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام في التاسع عشر من شهر رمضان المبارك.
هو العليم
فلسفة الدعاء وشروط الاستجابة (٢)
مباني الأخلاق - المجلّس العاشر
محاضرات ألقاها
سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
طهران، مسجد القائم، ليلة ٢۱ من شهر رمضان المبارك سنة ۱٣٩۷ هـ . ق
أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم
بسم الله الرَحمٰن الرَحيم
بارئِ الخَلائقِ أجمعينَ باعثِ الأنبياءِ والمُرسلين
والصَّلاةُ والسّلامُ عَلى أشرفِ السُّفَراءِ المُكرَّمينَ، خاتم الأنبياءِ والمُرسلين
حَبيب إله العالَمين، أبي القاسم محمّدٍ وعَلى آله الطَّيّبين الطّاهرين
ولعنةُ اللَهِ عَلى أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدّين
الدعاء روح العبادة
قال اللَهُ الحكيم في كتابه الكريم:
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ﴾.۱
ذكرنا سابقًا أنَّ أساس الدين قائمٌ على العبادة وأساس العبادة قائمٌ على الدعاء، فالدعاء روح العبادة ومخّها، وشخصيّة الإنسان المؤمن والمتديّن وكينونته تتوقّف على حالة الالتجاء والتوسّل بغايته وبالله التي يمتلكها؛ وكلما كانت حالته أفضل فإنَّ إيمانه سوف يكون أقوى ويقينه أعمق، وكلّما كان أدنى فسيكون له نصيبٌ أدنى من هذه المرحلة.
شروط استجابة الدعاء
لقد ذُكر للدعاء شروطٌ، ومن ضمن هذه الشروط ما يلي:
أوّلًا: أن يقوم الإنسان بتمجيد الله قبل الدعاء، وأن يحمده ويثني عليه وأن يُعدّد صفاته العليا وأسماءه الحسنى، ويحمده على قدرته وعظمته، ويشكره على نعمه التي أنعم بها على الإنسان واحدةً تلو الأخرى ثمّ يدعوه ويطلب حاجته.٢
لذلك نلاحظ في الأدعية المروية عن الأئمة الأطهار عليهم السّلام، أنّها جميعًا بهذا المضمون وبهذه الطريقة. وفي نفس دعاء الافتتاح المعهود الذي نقرأه في ليالي شهر رمضان، وهو دعاءٌ عالي المضامين، يبدأ أوّلًا بحمد الله والثناء عليه، فيقول: «اللَهمّ إنّي أفتَتِحُ الثَّناءَ بِحَمدِكَ و أنتَ مُسَدِّدٌ لِلصَّوابِ بِمَنِّكَ...».
ويُعدّد صفات الله ويُمجّده ثمَّ يطلب حاجته: «اللَهمّ إنّي أسأَلُكَ قَليلًا مِن كَثيرٍ مَعَ حاجَةٍ بي إلَيهِ عَظيمَةٍ...» .٣
ثمَّ عند ذلك يدعو.
ولدينا في دعاء كميل أيضًا ما يلي: «اللَهمّ إنّي أسأَلُكَ بِرَحمَتِكَ الّتي وَسِعَتْ كَلَّ شيء، وبِقوَّتِكَ الّتي قَهَرتَ بِها كُلَّ شيء وخضَعَ لها كُلُّ شَيْ ...».
فيُعدّد كلّ صفةٍ من صفات الله ثمَّ يقول: «اللَهمّ اغفِر لِيَ الذُّنوبَ الّتي تَهتِكُ العِصَم...» .٤
ثمَّ يشرع في الدعاء.
كذلك لدينا في دعاء الصباح ما يلي: «اللَهمّ يا مَن دَلَعَ لِسانَ الصَّباحِ بِنُطقِ تَبَلُّجِهِ، وسَرَّحَ قِطَعَ اللَيلِ المُظلِمِ بِغَياهِبِ تَلَجلُجِهِ...».
ثمَّ يشرع في الدعاء: «وافتَحِ اللَهمّ لَنا مَصاريعَ الصَّباحِ بِمَفاتيحِ الرَّحمَةِ و الفَلاح...».۱
وواقعًا هذه هي حقيقة الأمر؛ فعندما تطلب شيئًا مِمّن هو أعلى منك، فإنّك تُبيّن صفاته وكرمه أوّلًا ثمَّ تطلب منه حاجتك.
الشرط الآخر من شروط الدعاء: هو «اليقين»، أي: أن تكون مطمئنًا أنَّ الله يقضي حاجات الإنسان، فلا يكون الدعاء عن شكٍّ وتردّدٍ وريبٍ، فكلّ دعاءٍ نابعٍ من يقينٍ سيصل إلى منصّة الإجابة حتمًا!٢
ومن الشروط الأخرى للدعاء: «الإلحاح»، يعني: الإصرار. فعندما يريد الإنسان شيئًا من شخصٍ آخر ويعلم أنَّ حلّ هذه المشكلة بيده فقط، فسوف يطلبها منه بجديّة؛ ولكن إذا كان يشكّ في أنّ ذلك الشخص يستطيع أن يحل هذه المشكلة أم لا، فإنَّه سيطلبها منه ببرودةٍ. يجب أن يطلب من الله بجدية؛٣لأنَّ:
أزِمَّةُ الأمور طُرًّا بيَدِهِ | *** | والكُلُّ مُستَمِدَّةٌ مِن مَدَدَهِ٤ |
فزمام جميع الأمور وأصولها بيد الله، وكافة الكائنات تستمد مِن مَدد الله.
تقول هذه الفقرة المنتخبة من دعاء أمير المؤمنين عليه السّلام: «عِلمًا بأنَّ أزِمّةَ الأُمورِ بیَدِك ومَصادِرَها عن قَضائِك [أي: صدور أحكام القضاء بأمرٍ منك]».٥
وأحد شروط الدعاء هو أنَّ يدعو الله عندما تكون لديه حالة انقطاعٍ إلى الله وعندما تكون حاله حسنةٌ، فعندها تتنزّل رحمة الله؛ ولكن عندما تتغيّر حالته أو عندما يُريد غضب الله أن ينزل فلا يُنصح بالدعاء عند ذلك.٦
يروي المرحوم الكليني في الكافي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام، أنّه عليكم أن تغتنموا الدعاء في أربعة مواطن: «اغتنموا الدُّعاء عندَ أربَعٍ: عندَ قراءة القُرآنِ وعندَ الأذانِ وعندَ نُزولِ الغَيثِ وعندَ التِقاءِ الصَفَّينِ للشّهادة».۷
يعني: ادع الله بعد أن تقرأ القرآن!
لأنَّك في حال تلاوة القرآن، تكون مشغولًا بمخاطبة الله وتستمع إلى كلامه ويكون لديك حالةٌ من الانقطاع فتتنزل الرحمة عليك؛ لذلك فإنَّ الدعاء مستجابٌ بعد تلاوة القرآن.
كذلك الدعاء مستجابٌ بعد الأذان؛ فإذا ذكرت الله بالتكبير والحمد، وشهدت على التوحيد وصدقت بالرسالة، وأعلنت الصلاة ووجدت في نفسك حالًا، فإذا دعوتَ فإنَّ دعاءك مستجابٌ؛ لذلك من المستحبّ أن يدعو الإنسان بعد الأذان. (وكذلك ورد استحباب الدعاء بين الأذان والإقامة۸).
كذلك ادعُ عندما ينزل المطر من السماء! (لأنَّ رحمة الله تنزّل آنذاك).
وكذلك ادعُ عندما يتواجه الصفّان للحرب وجهًا لوجه: صفُّ المؤمنين وصفُّ الكفّار والمشركين.
فالمؤمنون في مواجهة الكفار وجاهزون للشهادة، وعندما يضعوا أقدامهم في ميدان الجهاد سيكون الجميع منقطعين إلى الله، لذلك فإنَّ الدعاء في هذه الحالة مستجابٌ؛ ولذلك ادعوا الله قبل أن تقاتلوا.
وفي روايةٍ أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام في الكافي يقول: «اُطلُبوا الدُّعاءَ في أربَعِ ساعاتٍ: عندَ هُبوبِ الرّياح [فإنَّ هبوب الرياح هو رحمةٌ من الله] وزَوالِ الأفياء [أي عند زوال الغيوم وعند غروب الشمس (أي عند مشهد غروب الشمس)] ونُزولِ المَطَر وأوّلِ قَطرَةٍ مِن دَمِ القَتيلِ [أي: الشهيد] المُؤمنِ؛ فإنّ أبوابَ السَّماءِ تُفتَحُ عندَ هَذهِ الأشياءِ».۱
ويقول الله في القرآن المجيد: ﴿وَسَبِّحۡ بِحَمۡدِ رَبِّكَ قَبۡلَ طُلُوعِ ٱلشَّمۡسِ وَقَبۡلَ غُرُوبِهَا﴾.٢
وادعوا الله عندما ينزل المطر من السماء! وادعوا الله عندما تسقط أول قطرةٍ من دماء الشهيد المؤمن! فإنَّ هذه الساعة قيّمةٌ جدًا وأبواب السماء مفتوحةٌ في هذه المواقع، ودعاء من يدعو الله مستجابٌ فيها.
حصول شروط استجابة الدعاء في ليالي القدر
والآن نحن في ليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان، وقد اجتمعنا في هذا المسجد، فمضافًا إلى تلك الشروط التي ذكرناها سابقًا والتي هي إن شاء الله مُتحقّقة فينا، من المسلم أنَّ بعض هذه الشروط التي ذكرناها مُحقّقةٌ؛ فأوّلًا: نحن ندعو بعد الصلاة وتلاوة القرآن والعبادة والأذان والدعاء وأمثالها. ثانيًا: ندعو دعاءنا بجديّة ونلحّ في هذا الدعاء، ندعو ونحن نمتلك اليقين أن أزمّة الأمور بيد الله وحسب!
الليلة هي ليلةٌ عزيزةٌ، هي ليلة شهادة أمير المؤمنين عليه السلام، ذلك الدرّ الفريد لصدف الكائنات، والي عالم الإمكان الوحيد، شمس سماء الولاية الفريد، قد تساقطت دماؤه الليلة على الأرض؛ ولذلك فإنّنا ندعو في هذا الوقت، وكأنّنا حول سرير أمير المؤمنين فيتفضّل الله علينا ويستجيب دعاءنا ببركة هذا الإمام الذي هو واسطة الفيض وموجب جلب إفاضات عالم الملكوت إلى هذا العالم.
فانقطعوا جميعًا إلى الله، وتوبوا توبةً إجماليّةً من كافّة الذنوب، ثمَّ ادعوا لقضاء حوائجكم الشخصيّة والنوعيّة ورفع البلاء وفرج إمام الزمان وتعجيل ظهوره وصفاء القلب وزيادة اليقين ومن أجل الروحانية التي يمنحها الله لكم وينزلها على قلوبكم والاستفادة إلى أقصى درجةٍ من العمر الذي تحيونه، وادعوا أن تكون عاقبة أموركم العافية! هذه مسائل مهمّةٌ جدًا بحيث إذا طلبناها من الله في هذه الأوقات الدقيقة فإنّنا نرجو ونأمل إجابتها من الله.
علة ضرورة التزام جميع الأفراد بالوصية الأخيرة لأمير المؤمنين عليه السّلام
لقد أوصى أمير المؤمنين عليه السّلام بعدة وصايا وقد وردت في الكتب المعتبرة، ومنها هذه الوصية التي أوصى بها [وقرأناها]اليوم والتي ذكرها المرحوم الكليني في فروع الكافي في «كتاب الوصايا»۱وكذلك أوردها ابن شُعبة الحرّاني في تحف العقول.٢
وتدور وصية أمير المؤمنين هذه حول الصلاة والزكاة والإحسان ومدِّ يَدِ العون للأيتام والمحتاجين وحجّ بيت الله الحرام وسائر المواضيع، وطبقًا لأوامره فإنَّها لا تختص بالإمام الحسن والإمام الحسين وسائر أبنائه، بل يقول: «مَن بَلَغَهُ كتابي»؛ أي: كلّ من بلغه كتابي وبلغته هذه الوصيّة فهو وصيٌّ، أيًا كان فليكن؛ ولذلك نحن سنقرأ هذه الوصيّة ونشرح معانيها ومن ثمَّ سنتحدّث عن أحوال أمير المؤمنين بمقدار مُقتضى الحاجة إن شاء الله. فالإمام بعد أن يوصي بهذه الوصيّة التي سنقرأها يقول: أوصي بهذه الوصيّة كلّ من وصلته هذه الوصيّة؛ وبالتالي فنحن جميعًا أوصياء أمير المؤمنين [بهذه الوصيّة]، وبالتالي نحن نمتلك مقامًا وشرفًا عظيمًا بحيث جعلنا أمير المؤمنين أوصياء له! وحينئذٍ يجب أن نعمل في هذا المقام بأنّه من يكون وصيًّا لأمير المؤمنين ويعمل بما يخالف الوصية فهناك مُشكلة في عمله؛ لأنّه ورد في القرآن المجيد:
﴿فَمَنۢ بَدَّلَهُۥ بَعۡدَ مَا سَمِعَهُۥ فَإِنَّمَآ إِثۡمُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُۥٓ إِنَّ ٱللَهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ﴾.٣
يعني: «حينما يرتحل شخصٌ عن دار الدنيا ويُنَصِب شخصًا كوصيٍّ له، فعلى ذلك الشخص الذي عُيّن وصيًا أن يتصرّف طبقًا للوصية؛ وإذا بدلها أو حرّفها وبدّل بنودها وغيّر المواد والبنود التي وردت فيها وفقًا لذوقه وسليقته فإنَّ الذنب في رقبته، والله عليمٌ ومطلعٌ على التحريف والتبديل الحاصل».
والآن فلنتهيّأ جميعًا ولنستمع لوصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام ولنسأل الله أن يُوفّقنا للعمل بنحوٍ مُطابقٍ لهذه الوصيّة:
فقرات من وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام في التاسع عشر من شهر رمضان المبارك
بسم الله الرَحمٰن الرَحيم
«هذا ما أوصى بِهِ عَليّ بنُ أبي طالِب: أوصي أنّه يَشهَدُ أن لا إلهَ إلّا اللَهُ وَحدَهُ لا شَريكَ لَهُ وأنّ مُحمدًا عَبدُهُ ورَسولُه، ﴿أَرۡسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلۡهُدَى وَدِينِ ٱلۡحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلّه ولو كَرِهَ ٱلۡمُشۡرِكُونَ﴾،٤ صلّى الله عَلَیهِ وآلِهِ، ثُمَّ ﴿إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَه وَبِذَٰلِكَ أُمِرۡتُ وَأَنَا۠أَوَّلُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ﴾٥ ثمّ إنّي أوصيكَ يا حَسَن وجَميعَ أهلِ بَيتي ووُلدي ومَن بَلَغَهُ كِتابي، بِتَقوَى اللَه رَبِّكُم ﴿وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ﴾.٦﴿وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾،۷
وصية أمير المؤمنين بالتقوى والاتحاد بين المؤمنين
[فكونوا متحدين في القلب والوجهة والهدف] فَإنّي سَمِعتُ رسول الله صلّى الله عَلَيهِ و آلِهِ يقولُ: "صَلاحُ ذاتِ البَينِ [يعني: أن يصلح شخصٌ بين شخصين بينهما شقاق] أفضَلُ مِن عامَّةِ الصّلاةِ والصيّام؛ وأنّ المُبيرة الحالِقَةَ لِلدّينِ [يعني: ما يقتلع الدين من أصله وجذوره] فَسادُ ذاتِ البَینِ"، ولا قوَّةَ إلّا بِاللَهِ العَلیِّ العَظيمِ.
وصيّة أمير المؤمنين المتعلقة بالأرحام والأيتام والقرآن والجيران
اُنظُروا ذَوي أرحامِكُم فَصِلوهُم [يعني: اذهبوا وانظروا في أحوالهم وساعدوهم في احتياجاتهم، وثواب هذا العمل أنّه يهونُ اللَهُ عَلَيكُم الحِسابَ!].
الله الله في الأيتامِ! فَلا تُغِبّوا أَفواهَهُم ولا يَضيعوا بِحَضرَتِكُم! [يعني: لا ينبغي أن يبقوا جائعين، ولا تتركوهم من دون رعاية!]، فقَد سَمِعتُ رسول الله صلّى الله عَلَیهِ و آلِهِ يقولُ: "مَن عالَ يتيمًا حتّى يستغني أَوجَبَ اللَهُ عزّ وجلّ لَهُ بِذَلِكَ الجَنَّةَ، كما أَوجَبَ لِآكل مالِ اليتيم النّارَ".
الله الله في القُرآن! [يعني: راقبوا الله في القرآن واعملوا به!] فَلا يَسبِقُكُم إلَى العَمَلِ بِهِ أحَدٌ غَيرُكُم! [يعني: لا يسبقكم من ليس على مذهبكم بالاستفادة من ظواهر القرآن والعمل به].
الله الله في جيرانِكُم! فَإنَّ النَّبي صلّى الله عَلَیهِ وآلِهِ أوصى بِهِم! و ما زالَ رسول الله صلّى الله عَلَیهِ وآلِهِ يوصي بِهِم حَتّى ظَنَنّا أنّهُ سيوَرِّثُهُم!
وصيّة أمير المؤمنين فيما يتعلق ببيت الله الحرام والصلاة والزكاة وشهر رمضان والفقراء
الله الله في بَيتِ رَبِّكم! [يعني: في الحجّ والعمرة والزيارة]، فَلا يَخلوا مِنكُم ما بَقيتُم! فَإنّهُ إن تُرِكَ لم تُناظَروا! [يعني: لن ينظر الله لكم نظرة رحمةٍ أبدًا]، وأدنى ما يَرجِعُ بِهِ مَن أَمَّه أن يُغفَرَ لَهُ ما سَلَفَ!»
الله الله في الصّلاةِ! فَإنّها خَيرُ العَمَل، إنّها عَمودُ دينكُم!
اللَهَ اللَهَ في الزّكاةِ! [فادفعوا زكاة أموالكم]، فإنّها تُطفِئُ غَضَبَ رَبِّكُم!
الله الله في شَهرِ رَمَضان! فَإنَّ صيامَهُ جُنَّةٌ مِنَ النّار!
الله الله في الفُقَراءِ و المَساكين! فَشارِكوهُم في مَعايشكُم!
وصيّة أمير المؤمنين المتعلقة بالجهاد وذرية وأصحاب النبي، والنساء والإماء
الله الله في الجَهادِ بِأموالِكُم وأنفُسِكُم وألسِنَتِكُم! فإنّما يُجاهِدُ رَجُلانِ: إمامُ هُدًى [وهو الذي يُجاهد عن هداية وبصيرة، والذي يُمسك بزمام أمور الناس، وهو إمام بالحقّ والعادل بالنسبة للمجتمع] أو مُطيعٌ لَهُ [يعني: لمثل هذا الإمام] مُقتَدٍ بِهُداه [أمّا بقيّة الأفراد غير مجاهدين].
الله الله في ذُرّيةِ نبيكم! فَلا يُظلَمُنَّ بِحَضرَتِكُم وبَینَ ظهرانيكم، وأنتُم تَقدِرونَ عَلَی الدَّفعِ عَنهُم [فلا يُظلمنَّ في المدينة التي أنتم فيها، ويكون باستطاعتكم الدفاع عنهم ولا تدافعون عنهم]!.
الله الله في أصحابِ نَبيكُم الّذينَ لم يُحدِثوا حَدَثًا [أي: لم يبتدعوا بدعةً] ولم يُؤوُوا مُحدِثًا [يعني: مُبتدعًا]! فإنَّ رسولَ الله صلّى الله عَلَیهِ وآلِهِ أوصى بِهِم [أي: أوصى بأصحابه الأطهار]، ولَعَنَ [ثلاث فئات منهم:] المُحدِثَ منهم [في الدين] ومِن غيرِهم، والمؤوي [والذي يُقدّمة المعونة] لِلمُحدِثِ!
الله الله في النِّساءِ وفي ما مَلَكَت أَيمانُكُم [فيجب أن تحسنوا وترحموا الإماء والعبيد الذين تحت أيديكم]! فَإنَّ آخِرَ ما تَكلَّمَ بِهِ نَبيكم علیه السّلام أن قال: "أُوصيكُم بِالضَّعيفين: النِّساءِ و ما مَلَكَت أيمانُكُم!".
وصيّة أمير المؤمنين بالثبات على الطريق الله والإحسان ومساعدة الآخرين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الصّلاةَ الصّلاةَ الصّلاةَ!
لا تَخافوا في اللَهِ لَومَةَ لائِمٍ! يكفِكُمُ اللَهُ مَن آذاكُم وبَغى عَلَيكُم! [يعني: إذا تحركت في سبيل الله ولم تخشَ شيئًا فإنّ الله سوف يحفظك]، ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسۡنٗا﴾،۱[يعني: عامل النّاس بالحسنى! (فكن عذب اللسان، وأمر بالمعروف ولا تدعُ إلى المنكر)]كما أمركم الله عزّ وجلّ!.
ولاتَترُكوا الأمرَ بِالمَعروفِ والنّهي عن المُنكَر، فيولي الله أمرَكُم شِرارَكُم ثُمَّ تَدعُونَ فَلا يُستَجابُ لَكُم عَلَيهِم!
وعَليكُم ـ يا بنيّ ـ بِالتَّواصُلِ والتَّبادُل والتَّبار، [يعني: يا أبنائي، عليكم بالتواصل بينكم والاتحاد فيما بينكم والإيثار فيما بينكم وفداء بعضكم البعض، فابذلوا أموالكم على أخوانكم وليبذل الأخ ماله عليكم، وليحسن أحدكم للآخر، وهو أمر واجب عليكم وضروري!] وإيّاكُم والتَّقاطُعَ والتَّدابُرَ والتَّفَرُّقَ!
﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ وَٱتَّقُواْ ٱللَهَ إِنَّ ٱللَهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾.٢ [يعني:تعاونوا قدر استطاعتكم! وتعاونوا قدر ما تستطيعون على البرّ والتقّوى، والإحسان وأعمال الخير والأعمال التي توصل الإنسان إلى التقوى! ولا تعاونوا على الظلم، وأنؤوا بأنفسكم عن الظلم وعن أيّ موقع يحلّ فيه الظلم، ولا تكونوا عونًا في ذلك الأمر بتاتًا! واتقوا الله فإنَّ الله ﴿شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ !]
حَفِظَكُمُ اللَهُ مِن أَهلِ بَيتٍ، وحَفِظَ فيكُم نَبيكُم! [يعني: فليحفظ الله سنّة النبي ودينه في قلوبكم كي يكون وجودكم ملازم للنبي دومًا وتكون حياة النبي في قلوبكم]، أَستَودِعُكُمُ اللَهَ وأَقرَءُ عَلَيكُمُ السَّلام ورَحمَةُ اللَهِ وبَرَكاتُهُ!».
ثُمَّ لم يَزَل يقول: "لا إلهَ إلّا اللَهُ لا إلهَ إلّا اللَهُ" حَتّى قُتِلَ صَلَواتُ اللَهِ عَلَیهِ [وحتّى فاضت روحه المباركة إلى عالم الملكوت]». ۱
من المسلم أنَّ هذه الوصيّة ألقاها اليوم؛ لأنّه ذُكر في ذيل هذه الوصيّة ما يلي: «ثُمَّ لم يَزَل يقولُ: ”لا إلهَ إلّا اللَهُ“حَتّى قُتِلَ صَلَواتُ اللَهِ عَلَیهِ»، ومن المعلوم أنَّ هذه هي آخر وصيّة للإمام، وقد وصى أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه الوصيّة بجهات مهمة، فنبّهنا عليها وأوصانا بها، ونسأل الله أن يمدّنا من مقام ولاية ذلك الإمام وأن يُوفّقنا من الآن فما بعد بأن نعمل بهذه الوصيّة وأن نحترم الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان، وأن نعمل بالقرآن وأن نحجّ إلى بيت الله الحرام، وأن نقوم بمساعدة المحتاجين والفقراء والمساكين والأيتام ورعاية النساء وسائر الأمور التي وردت في هذه الوصيّة.
ذكر شهادة أمير المؤمنين علیه السّلام
وهناك رواية في بحار الأنوار يرويها محمّد بن الحنفية:
في الليلة العشرين من شهر رمضان بدت آثار السمّ في أقدام أبي أمير المؤمنين، ولم يتمكن في تلك الليلة من الصلاة من وقوف، فأدى صلواته من قعود في تلك الليلة، ولم يغالبه النعاس بسبب أثر السمّ حتّى الصباح، ثمَّ لم يزل يوصينا بوصاياه ويعزينا عن نفسه ويخبرنا بأمره وتبيانه إلى حين طلوع الفجر. وعندما حلّ الصباح قال: «افتحوا الباب ليتمكن من يريد عيادتي الحضور!»
ففتحنا الباب وحضر النّاس أفواجًا لعيادته. فما زال أبي يُردد: «سَلوني قَبلَ أن تَفقِدوني!»، فسأل القوم، وكان الإمام وبسبب وضعه يقول: «أيها الناس اسألوني قبل أن تفقدوني و خففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم !».
وكان حُجر بن عدي من الأصحاب العظماء للإمام، فقام وقرأ بعض البيوت من الشعر [في رثاء الإمام والبراءة من قاتليه وأعداءه].
فقال أمير المؤمنين: «كيف لي بك إذا دعيت إلى البراءة مني فما عساك أن تقول؟».
فأجاب: « والله يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف إربًا إربًا وأضرم لي النار وألقيت فيها لأثرت ذلك على البراءة منك!» فدعا أمير المؤمنين عليه السّلام له بالخير.٢
ثمّ، [أدخلوا ابن ملجم]. فالتفتت أمّ كلثوم إلى ابن ملجم وقالت: الويل لك، لقد أتيت بفعلٍ عظيمٍ! فالويل لك إذا ما تعافى أمير المؤمنين!، فقال لها ابن ملجم لعنه الله: أيتعافى أمير المؤمنين! من أين له أن يتعافى؟! فلماذا تبكي؟ هل تبكين عليَّ أم على عَلِيّ؟ ابكي إن كنتِ باكيةً فو الله لقد اشتريتُ سيفي هذا بألفٍ، وسممته بألف ولو كانت ضربتي هذه لجميع أهل الكوفة ما نجا منهم أحد!٣ هذه كانت ضربة ابن ملجم!
يقول الأصبغ بن نباتة: فدخلت عليه، فرأيت أمير المؤمنين قد سنّد إحدى قدماه من شدّة الألم ثمّ يضعها ثمَّ يسند الأخرى ثمَّ يضعها.۱
[يقول الراوي]: فكانت حال الإمام تشتد ساعةً بعد ساعةٍ، وقال: إنَّ باب المنزل قد أغلق ولم يأتِ أحد بعدها لملاقاته. وقد أمر أن يَحضِرَ كافّة أبناءه وبناته. وكان ذكر الإمام عليه السّلام: «لا إله إلّا الله» وفقط! وكان قد مضى من الليل ثلثيه، وكان بدن الإمام قد غرق بالعرق وتساقطت قطرات العرق من جبينه المبارك كاللؤلؤ، فكان يمسح عرق جبينه بيده الشريفة ويقول: « يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إنَّ المؤمن إذا نزل به الموت ودنت وفاته عرق جبينه وصار كاللؤلؤ الرطب وسكن أنينه“».
فقال الإمام الحسن عليه السّلام: «أبتاه! إنَّك تتحدّث وكأنك قد يئست من نفسك!».
فقال: «نعم فإنَّي راحل عنكم بعد لحظات! فمنذ أربع ليالي وفي الليلة السابعة عشر من شهر رمضان، وفي ذكرى فتح بدر التي صادف وقوعها في اليوم السابع عشر من شهر رمضان، بقيت مستيقظًا حتّى الصباح، وبين الطلوعين وبسبب بقائي يقظًا وضعت رأسي على ركبتيَّ فغفوت قليلًا ورأيت جدّك رسول الله فشكوت إليه: "يا رسول الله، ماذا لَقِيتُ مِن أُمَّتِكَ مِنَ الأَوَدِ واللَّدَد!٢ فكم عانيتُ من الأذى على يد هذه الأمّة!
وكم نصبوا لي العداء وكانوا قاسين معي وكم كانوا أشقياء!“
فقال النبي: "ادع الله عليهم"، فقلت: اللهم أبدلهم بي شرًا منّي، وأبدلني بهم خيرًا منهم!
فأجابني جدّك: "يا علي قد استجاب الله دعاك، سينقلك إلينا بعد ثلاث"، وقد مضت الثلاث أيّها الحسن، فهذه الليلة هي الليلة الثالثة!»
فقال الإمام للإمام الحسن عليه السّلام:
«أوصيك بعدي بالصبر والجلد والتعامل بلطف وعطف مع أخوانكم! فكن الوصي عليهم وكن عطوفًا مع أخيك محمّد بن الحنفية! فأنت تعلم أنّي أحبّه، وهو ابن أبيك، أمّا الحسين فهو ابن الزهراء وأخوك٣ فلا حاجة للوصيّة!».
فبكى الإمام الحسن عليه السّلام بكاءً شديدًا، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: «أقسم عليكم بروحي وبحقّي عليك أن لا تبكي!!».
فقال ابنه الإمام الحسن: «يا أباه وا انقطاع ظهراه من أجلك تعلمنا البكاء!».
ففقد الإمام وعيه! فبكى سيّد الشهداء عليه السّلام كغيم الربيع إلى أن تورمت عيناه من شدّة البكاء. فتساقطت دموعه على وجه أمير المؤمنين، ففتح الإمام عينيه وضم الإمام الحسين عليه السّلام وقال: «لا تبكي بحقي عليك! لقد كنت في السموات الآن ورأيت أن بكاءك قد أبكى ملائكة السماء! يا ولدي الحسين! وكأنّي بكم وقد خرجت عليكم الفتن من ها هنا وها هنا! فعليكم بالصبر، فهو العاقبة، ثم قال: يا أبا محمد ويا أبا عبد الله اصبرا حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين، ثم قال: يا أبا عبد الله أنت شهيد هذه الأمّة فعليك بتقوى الله والصبر على بلائه، وفوّض أمرك لله!».
وحينها التفت الإمام إلى سائر أبنائه وقال: «يا أولادي، لا تخالفوا أخويكما هذين! لقد سمعت عن رسول الله أنَّه قال: "إنَّ الحَسَنَ والحُسَينَ إمامانِ، قاما أو قَعَدا"؛۱ وعاونوهما ونفذوا أوامرهما ولا تتخلوا عنهما في كافة الظروف! فليرحمكم الله جميعًا ويعفو عنكم ويغفر لكم!».
فأغمي عليه ولم يعُد به رمقٌ! فارتفعت أصوات نحيب وأنين الذين كانوا مجتمعين حول فراشه! فلم تمضِ لحظات حتّى فتح عينيه ونادى: «يا نور عيناي، أستودعكم الله! لقد حضر الآن رسول الله، وحضر حمزة سيّد الشهداء وحضر أخي جعفر، وقالوا: يا علي! لقد زينّا الجنّة، فأسرع بالقدوم إلينا! فنحن بانتظار لقاءك!“».
فقال حينها: «سلام عليكِ أيتها الملائكة التي أتيتِ لاستقبال عليّ ﴿لِمِثۡلِ هَٰذَا فَلۡيَعۡمَلِ ٱلۡعَٰمِلُونَ﴾،٢ ﴿إِنَّ ٱللَهَ مَعَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحۡسِنُونَ﴾.٣»٤ (لأنّ هذه الساعة هي الساعة الأولى التي تدخل فيها نتيجة الإيمان والجهاد والعبادة!).
وكانت هذه آخر خطبة للإمام عليه السّلام.
[يقول الراوي]: فنظر الإمام نظرة رحمة نحو كافّة أبنائه ثمَّ مدّ قدميه ناحية القبلة ونادى: «أشهَدُ أن لا إلهَ إلّا اللَه و أنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ ورَسولُه!».
فارتفعت أصوات الصياح والعويل من بيت أمير المؤمنين، وصاح الجميع: «وا أبَتاه، وا أبَتاه، وا إماماه، وا عَليّاه، واعَليّاه، وا مُحَمَّداه، وا جعفراه، وا مُصطَفاه!».
فنادى جبرائيل الأمين من بين السماء والأرض: «يا أهل العالم، قتل عليّ!».
وقد وصل صوت جبرائيل إلى كافة بيوت الكوفة وارتفعت الصيحات من البيوت: «وا عَلیّاه، وا عَلیّاه، وا عَلیّاه، وا عَلیّاه!».۱
اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وآلِ مُحمَّد