77

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

10127
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالتدبير والأسرة


التوضيح

في هذه المحاضرة التي عقدها آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله تعالى عليه لإكمال بحثه عن العلاقة بين المرأة والرجل، تحدّث سماحتُه بدايةً عن السرّ الدقيق لمجيء بعض الآيات القرآنيّة بلسان مذكّر، واستعرض مجموعة من الآيات التي خاطبت الرجال والنساء معًا، ثمّ بيّن الدور الأساسّي الذي يلعبه الإيمان في العلاقة القائمة بين المرأة والرجل، مبرزًا أهمّية اطّلاع كلّ واحد منهما على التكليف المناط به؛ وبعد ذلك، تحدّث سماحته عن الحياة الطيّبة في ظلّ الإيمان، وإمكانيّة بلوغ الرجل والمرأة هذه الحياة، ثمّ خاض في البحث عن المقامات العالية التي نشأت منها الروح الإنسانيّة، وعن تنزّه هذه الروح عن الذكورة والأنوثة في تلك المقامات.

/۱٩
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

1
  •  

  •  

  • هو العليم 

  •  

  • اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۷۷

  •  

  • ألقاها

  •  

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم‌

  • بسم الله الرحمن الرحيم‌

  • وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد

  • وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين‌

  •  

  • كان بحثنا يدور حول طبيعة العلاقات الأسريّة، وأسلوب الحياة الذي يرتضيه الله تعالى ويُوافق عليه الإسلام في مجال العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة؛ وخلاصة ما مرّ معنا سابقًا بنحو مقتضب أنّ الرجل، وباعتبار الجهة الفاعليّة التي يتوفّر عليها، فإنّ الله تعالى جعل فيه مجموعة من الخصائص التي تتطابق مع التكليف والواجب اللذين ألقاهما على عاتقه؛ كما أنّ المرأة، وبسبب الجهة الانفعاليّة التي تمتلكها، فإنّ الباري عزّ وجلّ وضع فيها سلسلة من الخصائص والصفات التي تتطابق مع الواجب والمسؤوليّة اللذين ألقاهما نظام الخلق على عاتقها؛ ولو أنّ أحدهما استبدل مكانه بمكان الآخر، لتعرّض النظام التربويّ الأحسن، والنسق التنمويّ للمجتمع والحضارة الإنسانيّين إلى الفساد؛ وعلاوةً على ذلك، سيُواجه كلّ واحد منهما عقبات خطيرة حين سعيه لبلوغ الكمال.

  • وعليه، فقد وصل بنا المقام إلى الحديث عن أنّ العديد من الأفراد نظروا إلى هذه المسألة من ناحية عالم الكثرة، وبالالتفات إلى الظاهر، فطرحوا مسائل مخالفة لما أكنّه الله تعالى في وجود كلّ من المرأة والرجل، وحتّى أنّ البعض أخرج المرأة من دائرة الإنسانيّة، معتبرًا إيّاها أدنى من الإنسان؛ كما أنّ البعض الآخر خرج عن حدّ الاقتصاد والاعتدال، وبلغ به الإفراط درجة، بحيث ارتأى أنّ مكانة المرأة واستعداداتها أعلى من استعدادات الرجل، واعتبر أنّ عقل المرأة أكمل من عقل الرجل، وإيمانها أقوى من إيمانه، وخصائصها الأخلاقيّة والتكوينيّة أفضل؛ ويبدو أنّ هؤلاء طرحوا هذه الآراء عن علم وعمد وأغراض خاصّة؛ إذ لا يُمكن لأيّ أحد بحث هذه المسألة بهذه الطريقة انطلاقًا من ذهنيّة صافية، ومن دون دغل، ومن غير أن تكون له أهداف خاصّة؛ ولا شكّ في ذلك أبدًا.

  • ومن هنا، علينا أن نبحث عن رؤية الإسلام للبنية الوجوديّة لكلّ من المرأة والرجل، وعن غاية عالم التكوين والخلق من خلقهما، وهل خُلقا في طريق تحصيلهما للكمال على قدم المساواة؟ أم أنّ أحدهما ـ كما ارتأى البعض ـ جُعل مقدّمة لكمال الآخر، بحيث يكون طريق الفلاح والصلاح في الأصل مقتصر على المرأة دون الرجل؟ فهل هذا هو الصحيح، أم أنّ المسألة بنحو آخر؟

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

3
  • السرّ الدقيق لمجيء بعض الآيات القرآنيّة بلسان مذكّر

  • لقد وردت في القرآن الكريم إشارات صريحة لهذه المسألة، وتوجد العديد من الآيات في هذا المجال، حيث لدينا آية في القرآن الكريم تعرّضت بشكل واضح لبيان كافّة المسائل الحسّاسة والأساسيّة المتعلّقة بتربية المرأة والرجل وبالأهداف التي يصبوان إليها. فكلّما طالع الإنسان الآيات القرآنيّة، وقرأها، وتدبّر فيها، توصّل إلى أنّ أغلب الخطابات المتعلّقة بالمؤمنين والمؤمنات وُجّهت للرجال؛ نظير: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ...﴾۱، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هاجَرُوا ...﴾٢، ﴿جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ‌ ...﴾٣، وأمثالها من الآيات التي وُجّه فيها الخطاب للرجل؛ أي أنّ الضمير المستعمل هنا هو ضمير مذكّر؛ إذ في اللغة العربيّة، تختلف الجمل الواردة بخصوص الرجل عن الجمل الواردة بشأن المرأة، وتكون الضمائر مختلفة في مقام الخطاب، خلافًا للغة الفارسيّة التي لا تختلف فيها الجمل المذكّرة والمؤنّثة، شأنها في ذلك شأن اللغة الإنجليزيّة، حيث يُخاطب فيها الرجل والمرأة بنحو مساوٍ، ويكون الاختلاف بينهما في الضمير فقط؛ بخلاف الجمل، والتي يوجّه فيها الخطاب للمرأة والرجل على نسق واحد. ففي اللغة العربيّة [والظاهر مراد سماحته القرآن الكريم]، جميع الخطابات موجّهة للرجل: يا أيّها الذين آمنوا، الذين جاهدوا، لكن، هل المعنيّ فيها هو الرجل فقط، أم أنّها تشمل النساء أيضًا؟ لا ريب أنّه كما أنّ الرجل مكلّف بالإيمان بالله تعالى، والعمل الصالح، واتّباع الأوامر والبرامج التي وضعها الشرع المقدّس لكماله، فإنّ المرأة هي بنفس هذا النحو أيضًا من دون أيّ فارق؛ وهنا، يُمكننا طرح وجهين لتفسير تلك المسألة: الأوّل أنّه إذا تقرّر استعمال اللفظين المذكّر والمؤنّث معًا في كلّ موضع، فإنّ ذلك سيُفضي إلى فقد العبارة للطافة؛ وذلك كأن يُقال: يا أيّها الذين آمنوا، يا أيّتها اللاتي آمنّ؛ ثمّ مرّة أخرى: يا أيّها الذين جاهدوا، يا أيّتها اللاتي جاهدن، ...؛ فلا معنى لهذا الأمر؛ أي أنّ العبارة لن تكون لطيفة أبدًا، وستخرج عن مسائل البلاغة.

  • وعليه، فإنّ البعض طرح مسألة مفادها: لعلّه بسبب العلوّ الروحيّ للرجل وأفضليّته من حيث الشخصيّة، فإنّ الله تعالى وجّه خطابه هنا للرجل والمرأة معًا، لكنّه استخدم ضمير المذكّر؛ هذا، مع أنّ النساء مشمولات أيضًا بهذا الخطاب؛ فالسبب في ذلك هو علوّ شأن الرجال؛ لكن، إذا دقّقنا النظر أكثر، وابتعدنا عن جانبي الإفراط والتفريط، فإنّنا سنلتفت إلى وجود مسألة لطيفة ودقيقة جدًّا هنا؛ وهي كما سنبيّنه لاحقًا أنّ ذلك الأمر هو إشارة للجانب العقلانيّ والفكريّ، وللروح الإيمانيّة الموجودة في كلا الجنسين، وأنّ الخطاب هنا لم يتعلّق بالخاصّية الظاهريّة للذكورة والأنوثة الموجودة فيهما، بل تعلّق بالجانب الروحيّ المكنون فيهما؛ وسنسعى إن شاء الله تعالى في هذه الجلسة أو في جلسة أخرى إلى بيان أكثر لهذه المسألة.

    1. سورة البقرة، الآية ۱۰٤.
    2. سورة البقرة، الآية ٢۱۸.
    3. سورة التوبة، الآية ٢۰.

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

4
  • آيات قرآنيّة تُخاطب الرجال والنساء معًا

  • لكن، في بعض الآيات القرآنيّة الأخرى، نرى بأنّ الخطاب موجّه لكلّ واحد من الجنسين على حدة؛ نظير الآية التي تقول: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِماتِ والْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ ...﴾۱، حيث نُلاحظ هنا أنّ الآية ناظرة للمسلمين مع المسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، ولم تُبق أيّ مجال للشكّ في أنّ المسألة مرتبطة بهما معًا؛ ولم تدع لأيّ أحد الفرصة لكي يقول: «إنّ الله تعالى خاطب هنا الرجال، وبالتالي، فإنّ لهم الأفضليّة، والنساء يحتللن مرتبة أدنى، ولم يجر الاعتناء بهنّ»؛ لا، المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنين ﴿وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ﴾؛ أي الذين يبتهلون إلى الله تعالى، ويتوجّهون إليه، ويدعونه، ﴿وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ﴾؛ أي الرجال الذين يصبرون، والنساء اللاتي يصبرن، فيصبرون جميعًا على التكاليف، والمصائب، وتقلّبات الحياة؛ إذ لا معنى للصبر على المسرّات! فيصبرون على ما قدّر الله تعالى لهم؛ و﴿الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ الرجال الذين يتصدّقون، ﴿وَالْمُتَصَدِّقاتِ﴾ وكذلك النساء؛ ﴿وَالْخاشِعِينَ﴾ الذين هم في حالة خشوع، ﴿وَالْخاشِعاتِ﴾ النساء اللاتي في حالة خشوع؛ ﴿وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والْحافِظاتِ﴾ الرجال الذين يُبقون أنفسهم في مأمن من الاتّصال بغير المحارم، والنساء اللاتي يُحافظن على أنفسهنّ من الاتّصال بغير المحارم؛ ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِراتِ﴾ الذين هم في ذكر كثير لله تعالى، وفي حالة توجّه دائم إليه، ويجعلونه تعالى ميزانًا لأفعالهم، ﴿وَالذَّاكِراتِ﴾ النساء اللاتي على هذه الشاكلة؛ وما هي نتيجة ذلك؟ ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾٢؛ وهو تعالى لم يقل: «أعدّ الله لهم ولهنّ أجرًا عظيمًا»، بل أتى بصيغة المذكّر؛ وهي إشارة إلى مسألة دقيقة جدًّا؛ فاجعلوها محطًّا لأنظاركم، إلى أن نلج إلى بحث عدم الاختلاف بين الرجل والمرأة في المراتب العالية والملكوتيّة، حيث ستنفعنا هذه المسألة، وعلينا أخذها بعين الاعتبار هناك.

  • ففي هذه الآية، جرت الإشارة إلى المرأة والرجل معًا؛ أي أنّه لم يُلغَ ذكرُ أيّ واحد منهما؛ ففي مقام الصبر، عليهما أن يصبرا معًا؛ ﴿وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ﴾ وفي مقام الصوم، عليهما معًا أن يُمسكا [عن الطعام و...]؛ وهكذا أيضًا في مقام الخشوع، والإسلام، والإيمان؛ ﴿الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ﴾ فكلاهما مكلّف بعدم لمس غير المحارم، وعدم النظر إليهم؛ وكلاهما ملزم بذكر الله والقنوت، حيث توحي إلينا هذه الآية بأنّ الجنسين يصبوان معًا في النظام التكاملي للخلق إلى هدف واحد؛ فإذا كان الرجل مكلّف بالصبر على الشدائد، فإنّ المرأة ليس بوسعها أن تدع صبرها جانبًا، وتقول: ما علاقتي بهذا الأمر! وإذا أسلم الرجل، فإنّ المرأة عليها أيضًا أن تُسلم؛ وإذا آمن الرجل، فإنّ المرأة عليها أيضًا أن تُؤمن؛ وبعبارة أخرى، على المرأة أن تلتفت إلى أنّ هذه المائدة التي بسطها الله لأجل كمال الرجل قد دعاها تعالى إليها أيضًا؛ فلا تظنّ بأنّها مختصّة بالرجل فقط، وبأنّها خارجة عن دائرة التربية والكمال.

    1. سورة الأحزاب، الآية ٣٥.
    2. سورة الأحزاب، الآية ٣٥.

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

5
  • ابتناء العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس الإيمان بالدرجة الأولى

  • وتوجد في القرآن الكريم آية شريفة تُشير إلى هذا الأمر بشكل أكبر، حيث تقول: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‌ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ولا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا۱؛ والمراد بذلك الذي يقوم بعمل صالح سواءً كان امرأة أو رجلاً، وسواءً كان رجلاً أو امرأة؛ ويقوم به عن إيمان بالله تعالى، وليس لبهجة حياته الدنيويّة، وتحقيق الأطماع الدنيّة؛ أي أنّ العمل الذي يقوم به الرجل والمرأة ينبغي أن تكون له وجهة واتّجاه وجهة.

  • فحينما تكون المرأة في طاعة زوجها، عليها أن تعلم أنّ هذه الطاعة لأجل الله تعالى الذي منحها هذه الموهبة والنعمة، وليس لأجل أنّ زوجها يُحبّها؛ وإلاّ، إذا جاء يوم، ولم يُحبّها هذا الزوج، فإنّها لن تُطيعه؛ والظاهر أنّ الأمر بهذا النحو!! وأيضًا، عندما يُظهر الرجل لطفه وعنايته بعائلته وزوجته، فإنّ عليه العلم بأنّ هذه العناية تتكّيء على التكاليف التي وضعها الله تعالى، وليس على الحبّ الذي يتبادله الزوجان، مع أنّه سيأتينا لاحقًا الحديث عن طبيعة الدور الأساسيّ الذي يلعبه هذا الحبّ في الحركة الكماليّة للإثنين، وفي سرعة سيرهما التكامليّ.

  • وأمّا الدور الأوّل، فيضطلع به الإيمان؛ أي حينما يُبرز الرجل عطفه وعنايته بزوجته، ويسعى لتربيتها، ويُهيّء لها وسائل الراحة والتربية، ولا يدعها لشأنها مُلقيةً حبلَها على غاربها، لكي ترتبط بكلّ أحد، وتُهاتف كلّ مكان، وتتحدّث مع من تشاء، وتُصادق كلّ من يحلو لها، فإنّه عليه أن يعلم بأنّ عمله هذا خاضع للتكليف الإلهيّ، وليس لمسألة الحبّ؛ لأنّ الحبّ يأتي يومًا، ويضعف يومًا آخر؛ فنحن في نهاية المطاف بشر؛ وقد يكون الرجل في أحد الأيّام تعبانًا، لكونه رجع للتوّ من العمل إلى البيت، وقد عجز عن أداء أحد الشيكات وغير ذلك من الأمور التي تحصل كثيرًا في هذه الأيّام؛ كأن يأتي الزبون، ويبدأ في الصراخ في الزقاق، ويتوعّد، ويدخل إلى البيت، ويشرع في التهديد، وأمثال ذلك؛ فالمسألة المهمّة هنا ـ والتفتوا جيّدًا ـ أنّ هذه الحالة هي التي يتعيّن فيها على الزوجين العمل بتكاليفهما، وليس حينما يكون كلّ واحد يضحك مع الآخر؛ لأنّهما حينئذ، لن يكونا قد قاما بشيء ذي بال؛ فعندما تكون مارًّا في الشارع، وتبتسم في وجه أحدهم، فإنّه سيبتسم في وجهك أيضًا، ولن يلجأ إلى صفعك؛ ولهذا، فإنّ المهمّ هو أن يتحمّل الإنسان مسؤوليّته في الأوقات التي تسنح فيها الفرصة للنفس من أجل التمرّد، وتعثر فيها على مجال للانحراف؛ وهذا هو الذي يُؤدّي إلى كسب الثقة؛ وإلاّ، فإنّ الجلوس معًا على مائدة مليئة بالحلويّات ليس بشيء ذي بال، والضحك معًا في أوقات الفرح والسرور لا يحظى بأهمّية بالغة؛ فالأمر المهمّ هو أن يشعر الطرفان بأنّهما مكلّفان بالعمل بالوظائف التي عيّنها الله تعالى لهما؛ وهذا الذي يُقال له الإيمان بالله تعالى؛ وهو الذي ينفع هنا؛ وإلاّ، فلولا الإيمان، لجاء يوم، ووقع بيننا خصام، فيذهب كلّ واحد إلى حال سبيله؛ وحينئذ، ما الذي سيبقى؟ فنتصالح اليوم، ثمّ نتخاصم غدًا، ويذهب كلّ واحد للاهتمام بشؤونه الخاصّة؛ وحينئذ، ما الذي سيبقى؟ إنّه الإيمان بالله تعالى ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‌ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...﴾٢؛ فالذي يقصم ظهر الإنسان، ولا يحصل إلاّ بعد اللتيا والتي هي هذه العبارة: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾؛ إذ في موارد الفرح والسرور والضحك وأمثال ذلك، لا معنى لـ ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾؛ وهذا يعني أنّ العمل الصالح الذي يتحقّق هنا ينبغي أن تكون له وجهة خاصّة، بحيث يضع الإنسان داخل إطار معتدل يُساهم في حفظه في كافّة الأحوال، ويصونه من التغيّر؛ فإذا كانت الأوضاع في يوم ما بكيفيّة خاصّة، فإنّ الإنسان لن ينحرف؛ لماذا؟ لأنّه صار مستعدًّا، ومُنح له برنامج خاصّ، وحصر نفسه في إطار محدّد لا يُمكنه أن يتعدّاه؛ وهذا هو الذي من شأنه أن يهب الحياة للإنسان، ويوصله إلى الهدف المنشود من خلقه وتربيته.

    1. سورة النساء، الآية ۱٢٤.
    2. سورة النساء، الآية ۱٢٤.

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

6
  • فإذا أراد الإنسان أن يتحرّك بهذه الطريقة، فإنّ الأمر سيختلف كثيرًا عمّا إذا اعتمد في حركته على العلاقة [والمحبّة] الثنائيّة فقط؛ وإلاّ، لما استقرّ حجر على حجر؛ وهذه هي الوضعيّة التي نُشاهدها حاليًّا؛ إذ ما دامت الحياة يسودها السرور والفرح والضحك، فإنّك تجد الأمور جيّدة؛ لكن، ما إن تتعرّض الحياة لبعض التقلّبات، وتحلّ الضغوط، ويأتي اليُسر أحيانًا، والعسر أحيانًا أخرى، حتّى تبدأ الشكوى من هذه الجهة وتلك، ثمّ يكبر الخلاف شيئًا فشيئًا، حيث سنتحدّث عن هذه المسائل لاحقًا؛ لكن، بما أنّنا نحتاج إليها في الموضوع الذي نبحثه اليوم، فإنّني سأستعرضها بنحو مقتضب، حيث ستسمعون أمورًا لم تصل إلى أسماعكم لحدّ الآن.

  • فإذا سعى كلّ من الزوجة والزوج إلى وضع حياته على أساس الإيمان بالله تعالى، فإنّ حياتهما ستكون ثابتة وراسخة؛ لأنّ ركائز هذه الحياة لن تكون موضوعة على التراب، بل ستكون في وضعيّة وأرضيّة صلبة، بحيث لن تتمكّن الرياح من تحريكها وزعزعزتها؛ فحينما تهبّ الرياح، وتحصل الاضطرابات، فإنّ الأعمدة الحديديّة المستخدمة في بناء المنازل لا تقع؛ وحتّى لو حصل تغيير في المنزل، فإنّ غاية ما يُمكن أن يحصل مثلاً هو تحرّك سطحه، أو اعوجاج بعض الأنابيب، أو ...، لكنّ ذلك لن يُؤدّي إلى تعريض أساس الحياة وأعمدة المنزل إلى الخطر؛ وأمّا إذا سعينا إلى بناء بيت مؤلّف من ثلاث أو أربع طوابق، ووضعنا دعامته على التراب، فإنّه سيتعرّض للهدم بأدنى حركة طفيفة؛ لماذا؟ لأنّ هذا البناء غير مستحكم وغير راسخ.

  • أهمّية اطّلاع الرجل والمرأة على الدور المناط بكلّ واحد منهما

  • ومن هنا، على المرأة والرجل اللذين يرغبان في تأسيس أسرة، أن يعلما منذ البداية ما الذي يتوجّب عليهما فعله؛ لكنّنا نرى أنّ المجتمع المعاصر محروم من هذه النعمة؛ وهذه مشكلة؛ لأنّ هذا المجتمع لا يعلم ما هي التكاليف الملقاة على عاتق كلّ من المرأة والرجل، فنجده يُريد أن يسدّ نقصًا من جهة؛ فإذا به يوجد نقصًا آخر من جهة أخرى؛ كطائر اللقلاق الذي أراد أن يُقبّل ابنه، فأعماه؛ فهذا المجتمع المعاصر يسعى للحيلولة دون وقوع بعض المسائل والأخطار، غير أنّه يسقط بفعله هذا في أخطار أهمّ؛ لكن، لماذا ينبغي أن يكون الأمر بهذا النحو؟ لماذا لا نُعطي للمسائل حقّها، ونطرحها كما تحدّث عنها الأئمّة؟ لماذا علينا أن نقع نحن أيضًا الآن في تلك الأوضاع [الوخيمة] التي وصلت إليها الدول المتقدّمة؟ لماذا؟

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

7
  • أ وهل للرسول الأكرم مشكلة مع أحد؟! أ وهل للأئمّة مشكلة مع أحد؟! أو هل إنّ الله تعالى يُعطي أهمّية لمسألة الذكورة والأنوثة؟! إنّ جميع هؤلاء عباده؛ أ فهل إنّه تعالى يُفرّق بين الأحد والآخر؟! لو كان الأمر بهذا النحو، لما قبلنا به كإله! فنحن لا نعترف بالإله الذي يُرجّح كفّة الرجل على المرأة! فأيّ إله هذا؟! فما هو ذنب المرأة في ذلك؟! أ فهل إنّ خلقها بيدها هي؟! أ وهل إنّ خلق الرجل أيضًا بيده؟! فإن جاء الإله، وصبّ الويلات على رأس المرأة دائمًا من خلال أحد القوانين: «قومي بهذا العمل، وأدّي ذلك العمل»، فإنّه لن يكون إلهًا، ولن تُرجى منه أيّة فائدة؛ غاية الأمر أنّه علينا أن نرى هنا ما هو الدور الذي أعطاه للزوجين هذا الإلهُ العادل والعطوف والذي يقول لنا: أنا أرحم بكم من آبائكم وأمّهاتكم؛ ولهذا، لا ينبغي علينا القفز إلى الأعلى والأسفل إلى هذا الحدّ، والتخبّط إلى هذه الدرجة، وطرق هذا الباب وذاك، بل يجب علينا العمل بما أمر به بكلّ وضوح؛ فهذه هي حقيقة المسألة؛ فلا نحتاج لطرق هذا الباب وذاك، ولا داعي للخجل من فلان وعلاّن، بل على الرجل أن يعمل بما أمر به الله تعالى، وعلى المرأة أيضًا ذلك.

  • وهذا عجيب جدًّا! ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‌ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...﴾ فلاحظوا أنّه تعالى يقول مرّة أخرى: ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾؛ أي أنّ العمل الصالح ينبغي أن يتمّ في حالة إيمان؛ فإذا قدّم الرجل خدمة لزوجته وأولاده وعائلته، لكي يُلبّي بها حاجاته الشخصيّة؛ وذلك لأنّه يحتاج [مثلاً] إلى امرأة، وإلى تأسيس أسرة، فإنّه لن يكون قد أتى بشيء ذي بال، وقام بعمل مهمّ؛ وأنا لا أقول هنا: لا تفعلوا ذلك! لا، عليكم القيام به، لكنّ مرادي أنّه لماذا لا يقوم الإنسان بذلك بنحو أفضل؟ فإذا تقرّر أن يقوم الإنسان بهذا العمل، ويُنفق أمواله، ويصرف وقته، ويبذل من نفسه؛ فلماذا لا يُصحّح فكره، حتّى يحصل على منفعة أكبر؟! ولماذا يقنع بدرجة دانية وبمرتبة حيوانيّة؟ فحتّى الحيوان المفترس يخدم صغاره؛ أ فهل شاهدتم الأسد؟ متى ما أراد إنسان أو حيوان أن يتسلّل إلى حريمه، فإنّه يهجم عليه؛ وانظروا أيضًا إلى الفيل وبقيّة الحيوانات، بل حتّى الحمام حينما يضع صغارًا، فإنّك إن أردت الاقتراب منها، فإنّه ينقرك؛ أي أنّه يريد القول: «أنا مسؤول عن حريمي الخاصّ، وأنا أحبّ صغاري»؛ لكن، عندما يكبر هؤلاء الصغار، فإنّه يُلقي بهم خارج القفص؛ فمن منكم هنا عنده حمام؟ فأنتم على علم بذلك إذن! لقد ضحك الجميع، فمن الواضح أنّه ... ؛ فما معنى ذلك؟ يعني أنّ هذه الحمامة تظلّ في نظامها الحبّي والتربويّ وفيّة لصغارها ما دامت تمتلك الشعور بالأمومة تجاههم؛ وقد شاهدت ذلك بنفسي؛ لكن، ما إن يكبروا، حتّى تقول لهم: ماذا تفعلون في قفصي؟ اذهبوا لحال سبيلكم وللقيام بأعمالكم الخاصّة! فتطردهم خارجًا؛ وأمّا آباؤنا وأمّهاتنا، فليسوا بهذا النحو.

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

8
  • نموذج على التأثير السيّء للثقافة الغربيّة على العلاقات الأسريّة

  • لقد كان المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه يقول: أحد الأخطاء التي يرتكبها العديد من الناس، حتّى العلماء ـ وكان يذكر أسماءهم فنتعرّف عليهم نحن ـ أنّ الوالدين يشعران بأنّهما مكلّفان وملتزمان برعاية ابنهما ما دام في سنّ الطفولة، وأنّه بحاجة إلى الرعاية الظاهريّة؛ في حين أنّهما مسؤولان عنه إلى أن يموتا؛ فحتّى لو بلغ الابن من العمر سبعين سنة، وكان عمر الأب تسعين سنة، فإنّه يكون مسؤولاً عنه، ويجب عليه مراقبته، والاهتمام بأحواله، لا أن يقول كما يقول الغربيّون: «لقد كبر ابني، ولا دخل لي في شؤونه»! ما معنى لا دخل لي في شؤونه؟! إنّه لا يزال مفتقرًا للفهم؛ أو أن يقول: «لقد كبر في السنّ، ويُمكنه تحديد الأمور بنفسه، وتعيين طريق سعادته بذاته؛ فالقرار يرجع إليه»! إنّ هذه الثقافة ثقافة غربيّة منحطّة، وهي مجرّد ثقافة اقتصاديّة [مادّية]؛ في حين أنّ الثقافة العاطفيّة والعقلانيّة، وثقافة العدل والشهامة والغيرة التي تتمثّل في الثقافة الإسلاميّة تقول: ما دامتَ تستطيع مساعدة ابنك، فعليك مساعدته؛ فلو أنّك زوّجت ابنك، وصار لديه أربعة أو خمسة أو حتّى عشرة أطفال إن شاء الله تعالى، وبلغ الخمسين من العمر، وأصبحت أنت في سنّ السبعين، لكنت تفوقه بعشرين سنة من التجربة، ولكنت تفضله بعشرين سنة من الفهم والإدراك؛ ولهذا، عليك أن تُعينه، وتأمره وتنهاه؛ فهل التفتّم إلى أين نريد الوصول؟! في حين أنّه لا يوجد أيّ خبر عن هذه الأمور الآن، حيث تجد أنّ البنت حينما تبلغ الثالثة عشرة سنة من العمر، تذهب إلى خارج البيت، وتفعل ما تشاء، وتجلب إلى المنزل كلّ من يحلو لها؛ وحينما يصل الولد إلى سنّ السابعة أو الثامنة عشرة، فإنّنا نعتبره بلغ السنّ القانونيّة؛ وبالتالي، نشعر بأنّنا غير مسؤولين عنه، وأنّه أعلم بحاله، وعليه أن يُقرّر مصيره بنفسه؛ وأنّنا ملزمون بتركه حرًّا يفعل ما يريد، يتعلّم تجارب الحياة بنفسه؛ لكن، ما إن يسعَ لتعلّم التجارب، حتّى ينقلب على رأسه في البئر ستّ مرّات! فما معنى: يتعلّم التجارب؟! هل نخدع أنفسنا، أم نخدعكم أنتم؟! فمن هذا الذي تُريدون خداعه؟ وها هي النتائج ترونها ماثلة أمامكم في الثقافة الغربيّة، حيث تُشاهدون ما آلت إليه أوضاع الأولاد والبنات! حيث يخرج الولد من المنزل من دون أن يعلم بذلك أبوه ولا أمّه؛ وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة للبنت؛ وكلّ من أراد أن يعترض، فإنّهم يتّصلون مباشرة بالشرطة، ويشكونه لديها، فتأتي للقبض عليه؛ أ ليس الأمر كذلك؟ فيذهبون به إلى السجن، والسبب في ذلك: «لماذا أهانني أبي؟ ولماذا تعدّى على حريّتي؟». انظر إلى أيّ عالم تسوده الحيوانيّة نعيش فيه! حيث نأتي إلى الذي يُوفّر لنا الطعام والشراب، ويؤمّن لنا السكن، ويُساهم في تنشئتنا، ونقول له: «لا دخل لك في شؤوني أبدًا»! لقد أصبح هذا عبارة عن حيوان؛ لأنّ هذه الأفعال أفعال حيوانات؛ فما الذي يقوم به الأسد مع صغاره؟ وما الذي يفعله الفهد معهم؟ يُدافع عن حريمهم، ويُعلّمهم الصيد، ويُساهم في تنشئتهم، ثمّ يقول لهم بعد ذلك: تفضّلوا، ارحلوا من هنا، ولا ترجعوا عندي أبدًا؛ فهذا هو عالم الحيوانيّة؛ لكنّ الإسلام لا يعتقد بهذه الأمور، بل يقول: إنّ بين الابن وأبيه معيّة ووحدة تستمرّ حتّى الموت؛ فانظروا إلى عظمة هذه القيمة! وحينئذ، لو تقرّر أن يُعمل بها، فلاحظوا ما الذي سيحصل، وأيّة سعادة سينالها هذين الإثنين، وما هي الدرجة التي ستبلغها المحبّة القائمة بينهما، وما هي المرتبة التي سيصل إليها الأنس بينهما! حيث ستظلّ القيم الإنسانيّة هي الحاكمة طيلة الحياة؛ لا أن يقول [الابن]: «لا يوجد لديّ مجال لكي تأتي عندي هذه الليلة؛ لأنّه لديّ شغل»؛ وذلك حينما يُهاتفه الأب، ويُخبره برغبته في زيارته بالمنزل؛ أو أن ترغب أمّه بالمجيء عنده، فيقول لها: «لا، لأنّه يوجد لديّ احتفال هذه الليلة مثلاً»؛ ماذا؟! إنّه أبوك الذي يُريد أن يأتي عندك أيّها الأحمق! إنّها أمّك التي تأتي عندك؛ والأب والأمّ لهما حقّ الحياة عليك؛ لأنّهما اللذين أوجداك، ومنحاك الحياة، ووهباك السعادة، وأخرجاك من كتم العدم إلى ساحة الوجود؛ فأين ذهبت بنا المذاهب؟! وما هذه الحياة التي صرنا نعيشها؟! فنحن لم يكن لدينا شيء نُصدّره [للغرب]، لكن، ولله الحمد أصبحت هناك أشياء أخرى تُصدّر إلينا، وصارت محاسن [الغرب] تأتي عندنا هنا!! 

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

9
  • فالمرأة والرجل بينهما معيّة، لكنّك تجد كلّ واحد منهما يقول: «لا، عليك أن تهتمّ بأمورك في ضمن دائرتك الخاصّة، وعليّ أنا أيضًا أن أهتمّ بشؤوني في نطاقي الشخصيّ»! وبهذا، صارت الأمور جيّدة جدًّا!!!

  • ترسم نرسى به كعبه‌اى اعرابى‌ *** اين ره كه تو مى‌روى به تركستان است
  • [يقول: أخشى ألاّ تصل إلى الكعبة أيّها الأعرابيّ، فالطريق الذي تسلكه يؤدّي إلى بلاد الترك‌]

  • الحياة الطيّبة في ظلّ الإيمان والقيم الإنسانيّة

  • فبحثنا سيبدأ من هذه النقطة، حيث يقول الله تعالى في الآية الكريمة: ﴿مَنْ عَمِلَ صالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‌ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً ...﴾۱؛ سنحييه، ونُخرجه من موت الجهل والغرور، ومن عالم الجهل والحيوانيّة؛ فهذا هو الذي يعنيه الإحياء، وليس هو أن نمشي ونعيش هكذا؛ وعلى حدّ قول أمير المؤمنين: «يا أشبَاهَ الرِّجَالِ ولَا رِجَال‌»٢؛ أي: يا أيّها الذين أطلقوا على أنفسهم اسم الرجال، لكنّهم ليسوا كذلك؛ أ فهل هذه هي رجولتكم؟! مع ملاحظة كلّ تلك المصائب التي أحللتموها على رأس أمير المؤمنين؛ أو كما ورد في الآية الشريفة: ﴿... وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ‌﴾٣؛ فهذه الحياة الظاهريّة عبارة عن مجموعة من الحركات، وقد يأتون بشيء آخر يقوم بهذا الحركات بدلاً عنّا؛ كالإنسان الآليّ مثلاً؛ أ ولم يتمكّنوا في هذا العصر من صناعته؟! فيصنعون إنسانًا آليًّا، ويدخل إلى هذه الغرفة، وينظر إلى هذه الجهة، وإلى تلك الجهة، ثمّ يجلس في أيّ مكان يجده فارغًا؛ فإذا نظرتم إليه، هل تستطيعون معرفة هل هو إنسان أم لا؟ لن نستطيع معرفة ذلك إن صنعوه على هيئة إنسان؛ فيدخل من الباب، وينظر، ويُرسل بعض الذبذبات، فيكتشف موضع المكان الخالي، فيذهب مباشرة إليه، ويجلس فيه بدقّة تفوق دقّتنا، من دون أن يخطيء في الجلوس يمينًا أو يسارًا، فيجلس في المكان الفارغ، وتكون صورته مثل صورة إنسان؛ لكن هل هو حيّ؟ لا، إنّه ليس بحيّ؛ فإذا كانت حركتنا في هذه الدنيا خاضعة للجهل الحيوانيّ والجهل بالقيم الإنسانيّة، فإنّنا سنُشبه بالضبط ذلك الإنسان الآليّ الذي يعمل طبقًا للبرنامج الذي وضعوه له، وسنكون بنفس ذلك النحو؛ فماذا تقول الآية الكريمة؟ ﴿وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ‌﴾؛ فالآخرة هي الحيوان والحياة؛ أي: يا أيّها الإنسان الذي يتحرّك هنا من دون التوجّه إلى الآخرة، لقد صرت مثل ذلك الإنسان الآليّ بعينه، من دون أيّ فارق؛ فأنت تفتقر إلى الحياة، وعقلك فارغ وخال من أيّ نوع من أنواع القيم الإنسانيّة؛ ولهذا، فإنّ حركتك تتكّيء على الأنانيّة ومحوريّة الذات والظفر بالمصالح؛ وهكذا، إلى أن تصل إلى مستوى معيّن، وينتهي الأمر؛ وهذا هو ذلك الأمر بعينه: ميّت يتحرّك.

    1. سورة النحل، الآية ٩۷.
    2. نهج البلاغة (عبده)، ج ۱، ص ۷۰، الخطبة ٢٦.
    3. سورة العنكبوت، الآية ٦٤.

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

10
  • وفي هذا المقام، تقول الآية الكريمة: ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً﴾؛ أي إنّنا نحييهم، ونخرجهم من عالم الموت، والسكون، واللاشعور، وعدم الإحساس؛ هذا، وبوسعنا نحن أيضًا اختبار الناس بخصوص هذه المسألة؛ فيُمكنكم أن تتحدّثوا مع مختلف الأفراد، وتُجالسونهم، وترون في ماذا يُفكّرون، وما هو العالم الذي يُفكّرون فيه، وحينما يريدون الخروج صباحًا من المنزل، ما هو الهدف الذي يصبون إليه: نأخذ هذا، ونضرب ذاك، ونُقيّد هذا، ونُمسك بذاك، ثمّ نرجع في الليل إلى المنزل؛ ومن الواضح أنّه عبارة عن حيوان؛ إذ لا نراه يُفكّر في أيّ شيء آخر، بل تفكيره مقتصر على: تحصيل أموال أكثر، والإنفاق بشكل أفضل، والأكل بطريقة أحسن، والنوم بنحو أرقى؛ ثمّ الوداع، وانتهى الأمر! فهذا يصير حيوانًا بعينه؛ والله تعالى يقول عن هكذا أناس: موتى! حيث ورد في الآية الكريمة: يا رسولي، إنّك لا تستطيع أن تُعلّم الموتى أيّ شيء ﴿إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى﴾۱؛ فلا يُمكنك إسماعهم، ولا إفهامهم، ولا إرضاءهم؛ لأنّهم موتى؛ ولماذا هم كذلك؟ لأنّهم ظلّوا كالجبص، ومثل التماثيل؛ فلا وجود للإنسانيّة فيهم. فنحن سنحييهم بالحياة الطيّبة؛ فما هي هذه الحياة؟ إنّها حياة طيّبة، وزكيّة، لا دنس فيها، بل كلّها بهجة ونشوة، واكتساب لكافّة التجلّيات والجذبات الإلهيّة، وانغمار في بحار الرحمة الإلهيّة، واجتذاب لجميع الألطاف والأنوار؛ فيا لها من أمور تحدث هناك بحقّ!

  • لمناسبة ما، كنت أستمع البارحة إلى كلمة للمرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه ألقاها في مسجد القائم؛ فتعجّبت لطريقة كلامه؛ فكأنّه كان يعيش بنفسه في ذلك الأفق حينما قال: «أيّها السادة، لو أنّ الله تعالى أظهر للمؤمنين هنا ما أعدّه لهم في يوم القيامة، ولو للحظة واحدة، لما التفتّم أبدًا إلى أيّ شيء في هذه الدنيا»؛ أي أنّ تلك الأمور تأخذ بالعقول ومجامع القلوب إلى درجة كبيرة جدًّا؛ وحينئذ، انظروا إلى هؤلاء الأولياء الذين اطّلعوا على هذه المسائل، وكيف أنّهم يتحمّلون كلّ ذلك! وكيف كانوا يصبرون علينا نحن! أجل، لقد كانوا يصبرون علينا، مع أنّهم رأوا كلّ تلك الأمور؛ فلو أنّكم اطّلعتم على ما أعدّه الله تعالى لهم، لما نظرتم إلى الدنيا، ولا إلى الزوجة ولا الأولاد، ولا إلى المنزل الصيفيّ ولا الشتويّ، ولا إلى الاستجمام، ولا إلى أيّ شيء آخر أبدًا؛ وحينئذ، ماذا ستفعلون؟ وهذا أقوله أنا بنفسي، ولم يقله هو: ستذهبون إلى غار حراء كما فعل النبيّ، ولن ترجعوا إلى مكّة إلاّ مرّة كلّ ثلاثة أشهر؛ فهكذا كان الرسول. وبالله عليكم، هل كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يفتقر ـ لا سمح الله لا سمح الله لا سمح الله ـ إلى الصفات والمشاعر الإنسانيّة حينما كان يذهب إلى هناك؟ فهل ذهبتم سابقًا إلى غار حراء؟ رزقكم الله تعالى الذهاب إلى هناك لكي تتعرّفوا عليه؛ ففي ذلك الزمان، لم يكن متّصلاً بمكّة كما هو الآن، بل كان يبعد عنها بفرسخين؛ فكان النبيّ يذهب إلى هناك، ويظلّ أربعين يومًا؛ سواءً قبل أن يتزوّج بالسيّدة خديجة، أو بعد أن كان معها؛ ويا لها من امرأة عظيمة كانت تشعر بهذه المعاني! فكانت تمرّ كلّ يومين أو ثلاثة أيّام برسول الله، وتحضر له الطعام والماء، من دون أن تقول له أبدًا: «إنّني لوحدي بالبيت، بينما جئتَ أنت إلى هنا، ونحن مثلاً صرنا زوجين»؛ لا، بل كانت تقول: «فلأدعه يُؤدّي أعماله، ولأتركه يعيش حالاته الخاصّة»؛ فهي لم تصر هي السيّدة خديجة هكذا، بل كانت تقوم بتلك الأفعال، وكانت تقول: فلأدعه يمشي في طريقه؛ وفي هذه الحالة، ما الذي كان يُدركه الرسول؟ هل كان يقتصر على الجلوس هكذا؟ فيبقى جالسًا هكذا يقول الأذكار؟ إن جلستم أنتم لمدّة ساعتين، ألن تشعروا بالتعب؟ فما هو التوجّه الذي كان يحصل له؟ وما الذي كان يشعّ عليه؟ وما الذي كان يرد على قلبه، لكيلا ينزل من هناك إلى تحت لمدّة أربعين يومًا؟ ففي نهاية المطاف، هو إنسان، له عقل، وأحاسيس، وفهم، وفكر، وعاطفة؛ فإذا لم يكن يفق الآخرين في ذلك، فهو لم يكن يقلّ عنهم فيه. إنّ السبب في ذلك هو هذه الأمور؛ ويقول حافظ هنا بيتًا شعريًّا كان المرحوم العلاّمة يُردّده كثيرًا؛ فحينما كُلّف رسول الله [بإبلاغ الوحي]، ونزلت ﴿اقرأ باسم ربك الذى خلق* خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ﴾٢، فإنّ حافظ يحكي عن هذا المعنى، ويقول: «من كه ملول گشتمى از نفس فرشتگان»٣؛ أي أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم وصل إلى مرتبة، بحيث صار لا يتحمّل الحديث مع الملائكة؛ وحينئذ، لو تمكّنا نحن من الاطّلاع ولو على تلك المراتب الدانية جدًّا، لتوجّهنا إليها في جميع أوقاتنا؛ وهذا يعني أنّه لم يكن صلّى الله عليه وآله وسلّم يتحمّل النزول إلى تحت أبدًا. «قال ومقال عالمى مى‌كشم از براى تو»؛ أي: أتجرّع لأجلك عَذْلَ الخلائق‌ (وأذاهم)؛ وهذا هو الذي يعني ﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾؛ وفي هذه الحالة، يقوم الرسول، ويأتي إلى مكّة، فيذهب عند أبي سفيان، وأبي جهل، وأبي بكر، وسلمان، وأبي ذرّ؛ فيأتي عندهم واحدًا واحدًا؛ معتمدًا على أخلاقه الحسنة، وصبره، وثباته؛ فيشعلون ضدّه الحروب، ويضربونه، ويكسرون أسنانه، ويشجّون وجهه، ويرضّون جبهته، وتدخل حلقات المغفر في مخّ عظم رأسه؛ فهذا هو الذي يعنيه ذلك؛ لكن، هل نقوم نحن بالشيء ذاته؟! «قال ومقال عالمى مى‌كشم از براى تو»؛ أي: أتجرّع لأجلك عَذْلَ الخلائق‌ (وأذاهم).

    1. سورة النمل، الآية ۸۰.
    2. سورة العلق، الآيتان ۱ و٢.
    3. أي: أنا الذي صرت ملولاً من أنفاس الملائكة. المعرّب

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

11
  • اشتراك المرأة والرجل في إمكانيّة بلوغ الحياة الطيّبة 

  • ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾۱؛ أي أنّنا سنمنحهم ثوابًا يفوق تلك النيّة التي نووها؛ وما معنى ذلك؟ يعني أنّ للرجل والمرأة هنا حكم واحد؛ فلكلّ واحد منهما مرتبة الحياة، وكلاهما سيصل إلى الحياة الطيّبة، وكلاهما سيبلغ أعلى درجة ركّزوا عليها في نيّتهم؛ فمعنى «أحسن» معنى عجيب جدًّا؛ أي أنّ الرجل والمرأة سيصلان معًا إلى مرتبة واحدة؛ وهي مرتبة الحياة الطيّبة؛ لأنّها مملوكة لهما معًا؛ فلم تقل الآية الكريمة إنّ أحدهما يتوفّر على هذه الحياة الطيّبة بنحو أقلّ، والآخر بنحو أكثر؛ ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ﴾ فسنحيي كلّ واحد منهما بالحياة الطيّبة، والحياة الطيّبة واحدة؛ أجل، يوجد اختلاف في القوالب، لكنّ هذه الحياة الطيّبة متوفرّة للجميع، غاية الأمر أنّ هناك اختلاف في الرتبة. فسنُحيي كلّ واحد بالحياة الطيّبة، ونوصله إليها، ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

  • وبما أنّ الحديث بلغ بنا هذا الموضع، فإنّه عليّ أن أستعرض مقدّمة ستُعيننا على الوصول إلى النتيجة المرجوّة؛ لكن، متى ما أحسستم بالتعب، فإنّني سأتوقّف عن الكلام، وأكِل المسألة إلى الجلسة القادمة؛ وأعتقد أنّه عليّ ألاّ أزعجكم كثيرًا، وأرجو أنّكم لم تُصابوا بالتعب! وأريدكم ألاّ تُجاملونني؛ لأنّه أمامنا وقت كثير!

  • من أين نشأت الروح الإنسانيّة؟

  • يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ‌﴾٢؛ فما هي حقيقة الروح؟ إنّ هذه مسألة نحن غافلون عنها بأنفسنا؛ أي حتّى الحاضرون في هذا المجلس ومن ضمنهم أنا غافلون عن أنّ وجودنا ناشيء من ذات الحقّ تعالى، ومتنزّل من ذلك العالم، حيث جاء من عالم السعة والتجرّد والانبساط والصفاء واللطف والنور والبهجة، فصرنا بهذا النحو الذي نراه ؛ أجل، نحن بأنفسنا الجالسون هنا جئنا [من هناك] بهذا الشكل، وصار هناك ارتباط بيننا بهذه الطريقة؛ فمن المؤكّد إذن أنّ نسبة هذه الروح إلى الله تدلّ على أنّها أوجدت من مقام التجرّد، وأنّ خِلقَتها نشأت من مرتبة التجرّد، حيث يلزم من هذه المكانة، اتّصاف الروح بصفات ترجع إلى الوجود الإلهيّ البسيط والصرف والمطلق الذي لا حدّ ولا قيد له؛ ومع أنّ هذه المسألة أصبحت تُعاني من التعقيد نوعًا ما، لكنّكم إذا تحمّلتم قليلاً، فإنّها ستتّضح لكم تدريجيًا.

    1. سورة النحل، الآية ٩۷.
    2. سورة الحجر، الآية ٢٩.

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

12
  • إنّ التصاق جميع الصفات الإلهيّة الجماليّة والجلاليّة بمرتبة الذات، واتّصاف الذات بها راجعٌ إلى ذلك الوجود الذي هو عبارة عن الله تعالى بعينه؛ أي أنّ تلك الحقيقة وذلك التشخّص والتعيّن الذي نُسمّيه بالوجود الصرف والمطلق وغير المقيّد ...، حيث إنّ وجوداتنا نحن مقيّدة بأجمعها، فنرى أنّ أحدنا صغير، والآخر كبير، والثالث له شكل معيّن وملامح خاصّة؛ فهذه بأجمعها قيود تُظهر كلَّ وجودٍ بحصّة خاصّة وشكل محدّد؛ وأمّا وجود الله تعالى، فلا شكل، ولا لون، ولا حدّ، ولا كمّ، ولا مقدار، ولا كيف له؛ ونحن لا نستطيع القول إنّه هناك، ولا يُمكننا الإشارة إليه في السماوات، ولا حتّى في وجودنا؛ لأنّ كافّة هذه الإشارات حدود لـ «هو»؛ و«هو» أعلى من الحدّ والقيد، بل حتّى من الإطلاق الذي نقصده نحن؛ أي باصطلاح الفلاسفة.

  • فهذا الوجود الإلهيّ يستدعي ـ ذاتًا ومن دون تدخّل الغير ـ مجموعة من الصفات؛ وهذا، كما لدينا نحن أيضًا سلسلة من الصفات، غاية الأمر أنّ بعضها فطريّ وغير مكتسب، وبعضها الآخر مكتسب؛ ومثال الصفات غير الكسبيّة السعي نحو نيل المنافع؛ فمن بين الصفات التي نتحلّى بها أنّنا نسعى للظفر بمصالحنا الشخصيّة؛ ومنها أيضًا صفة الغضب، والتي توجد في كافّة الناس، ولم يتعلّمها أحد من الآخرين؛ ومن بين هذه الصفات أيضًا، صفة الرحمة والعطف، والتي لم يُعلّمها أحد لأحد؛ صحيح، قد تختلف هذه الصفات في الناس شدّة وضعفًا، لكن، لم يأت أيّ أحد، ويعلّم الأخرين الرحمة، والعطف، والغضب، والشهوة، حيث سيأتينا إن شاء الله تعالى الحديث عن مسألة الشهوة في هذه الجلسة، أو في الجلسة اللاحقة.

  • ومن بين الصفات التي نتوفّر عليها، صفة طلب الكمال وسدّ النقائص، وهي صفة موجودة في الجميع، حيث نجد أنّ الإنسان يسعى ذاتيًّا لإزالة نقائصه؛ وإلاّ، فلماذا حينما تمشون في الشارع، وتصلون إلى محلّ بيع الجرائد، فإنّكم تعمدون إلى قراءتها؟ لأنّكم تريدون سد نقصكم العلميّ عن الأوضاع السائدة من خلال قراءة الجريدة؛ هذا، مع أنّ تضييع الإنسان وقته بهذه الأشياء خطأ كبير؛ فلا ينبغي عليه أن يُمارس هذه الأفعال كيفما كان، اللهمّ إلاّ في بعض الحالات. ولماذا حينما يحلّ موعد بثّ الأخبار، فإنّكم تفتحون المذياع، لكي تستمعوا إليها؟ لماذا؟ لأنّ الإنسان يسعى إلى رفع جهله؛ مع أنّ رفعه لجهله في بعض الأحيان قد يجرّه إلى نفس الجهل.. حسن جدًّا! لقد أصغيت إلى خبرين أو ثلاثة، فأغلق الآن المذياع؛ لكن، لماذا تُهدر ثلاثة أرباع وقتك في الاستماع؟! فما هو دخلي أنا بأمور من قبيل: هذا جاء، والآخر رحل؛ هذا مات، والآخر أحيي؟ إن كان ذلك يتعلّق بمسألة علميّة مفيدة، فهذا جيّد؛ وأمّا غير ذلك، فإهدار للوقت، وتضييع للعمر. إنّ السبب في ذلك هو أنّ الإنسان يُحبّ أن يرفع جهله؛ وهي مسألة فطريّة.

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

13
  • وهناك بعض المسائل [والصفات] مكتسبة؛ كالعلم والقدرة؛ مع أنّ جزءًا من القدرة هو الذي يكون مكتسبًا؛ ولهذا، فإنّ الإنسان الذي يجلس في بيته، لا يُمكنه أن يصير خطّاطًا ماهرًا، بل عليه أن يذهب للمدرسة، لكي يتعلّم من أساتذة هذا الفنّ؛ كما أنّ الذي يقعد في منزله لا يتسنّى له أن يُصبح طبيبًا، بل عليه أن يلتحق بتلك الأماكن الخاصّة بالتدريب، ويُمارس هذا العمل؛ وكذلك الذي يجلس في بيته لا يُمكنه أن يصير مجتهدًا وعالمًا بالأحكام الإسلاميّة، بل عليه أن يذهب إلى المدرسة، ويتعلّم تلك الأمور؛ فهذا الذي يُقال عنه أنّه كسبيّ. وأمّا بالنسبة للذات الإلهيّة، فلا معنى فيها للصفات الكسبيّة؛ لأنّ جميع الصفات التي يتّصف بها الباري عزّ وجلّ ذاتيّة ولازمة لذاته، حيث يُراد من الصفات الذاتيّة تلك الصفات التي متى ما تحقّق موضوعها، فإنّها تتحقّق بتبعه قطعًا؛ ولأضرب مثالاً عاديًّا جدًّا على ذلك: إنّ الماء يتّسم بالسيلان؛ فإذا سكبت هذا الكوب الذي أحمله بيدي على الأرض، فإنّه يبدأ في الحركة والنفوذ داخل البساط؛ فهل رأيتم ماء مسكوبًا على الأرض لا يتحرّك ولا يسيل؟ لا؛ أجل، قد تُجزّؤون هذا الماء، فيفقد هذه الخاصّية، حينما يُفصل الأكسجين عن الهيدروجين، ولا يعُد بعد ذلك يسيل؛ لكن، ما دام الماء ماءً، فإنّه يظلّ مترافقًا مع السيلان. والمثال الآخر الذي يُضرب على هذا الأمر أنّ العدد أربعة زوج، والعدد ثلاثة فرد؛ فهل بوسعكم أن تعثروا على أربعة تكون فردًا؟ أو ثمانية عشر تكون فردًا، أو خمسة عشر تكون زوجًا؟! وتقولوا: إنّ العدد خمسة عشر فرد في قمّ، وزوج في طهران؛ مع أنّه قد يحصل ذلك أحيانًا، وقد حصل فعلاً، وشاهدت ذلك!!! فالعدد خمسة عشر فرد في إيران، والسعوديّة، وأمريكا، وفي كلّ مكان؛ وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة للعدد ستّة عشر؛ وهذه هي التي يُقال لها صفات ذاتيّة؛ أي أنّها صفات لا تنفصل أبدًا عن موصوفها، حيث نجد أنّ الصفات الإلهيّة هي بهذا النحو.

  • فجميع الصفات التي نعتبرها صفات إلهيّة جماليّة، أو صفات إلهيّة جلاليّة لم يكتسبها الباري عزّ وجلّ؛ مع أنّ هناك العديد من الأبحاث في هذا المجال، حيث تُعدّ هذه المسألة من المسائل العويصة جدًّا التي شكّلت محلاً للاختلاف في الرأي بين الفلاسفة والحكماء والعرفاء؛ فهذه الصفات غير مكتسبة، بل حتّى هذه المخلوقات بأجمعها، والتي يأتي الواحد منها تلو الآخر، لم تُضف إلى علم الله تعالى شيئًا، ولو بمقدار رأس إبرة، بينما نجدها تُضيف شيئًا إلى علمنا نحن، حيث تنضاف كلّ يوم مسألة إلى مسائلنا، ومعلومة إلى معلوماتنا؛ وأمّا بالنسبة لله تعالى، فإنّ كافّة هذه المخلوقات التي تأتي إلى هذا العالم الواحدة تلو الأخرى لا تزيد مقدار مليمتر واحد وذرّة واحدة إلى علمه سبحانه قبل الخلق؛ لماذا؟ لأنّ كلّ شيء واضح عند الله تعالى، والأشياء بأجمعها صدرت منه سبحانه؛ فكيف يُمكن ـ والحال هذه ـ ألاّ يكون الفاعل عالمًا بفعله؟ وكيف يُمكن للذات ألاّ تتوجّه إلى عوارضها؟ إنّ هذا من المستحيلات!

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

14
  • فالإنسان تنزّل من هكذا مرتبة؛ ولاحظوا الآن أيّة مرتبة هي! أي أنّنا تنزّلنا من مقام تكون فيه جميع الصفات الإلهيّة غير منفصلة عن الذات، وملتصقة بها من دون تدخّل شيء آخر وذات مغايرة؛ فنحن وُجدنا من هكذا مقام؛ فـ ﴿نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾ تعني أنّني أبديت نفسي من نفسي على شكلك وصورتك؛ فهل يوجد أعلى من هذا؟! أي أنّني جئت بنفسي، وأظهرتها على شكلك؛ فهذا الذي يعنيه ﴿نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾؛ أي أنّني نزّلت نفسي، وأظهرتها للجميع بهذه الملامح؛ فهل التفتنا الآن إلى من نكون؟! وهل كنّا منتبهين لحدّ الآن إلى هذه المسألة؟

  • توفّر الإنسان على كافّة الأسماء الإلهيّة وقدرته على فعل كلّ شيء

  • فلو أنّ الله تعالى أتى الآن، فماذا تتوقّعون منه أن يفعل؟ ولو أنّه سبحانه جاء إلى جلستنا هذه على شكل إنسان، وجلس هنا، فما الذي تتوقّعون منه أن يفعل؟ يُحيي الموتى، ويُبدّل السواد إلى بياض، ويأتي بالسماء إلى الأرض، ويصعد بالأرض إلى السماء، ويُحدث تغييرات في الأشياء، ويشقّ القمر، ويقلب حركة الأفلاك، ويخلق كلّ ما يأتي على بالنا من الأمور المتعارفة وغير المتعارفة؛ فيخلقها من الأساس، لا أنّه يُحيي الموتى فقط، بل يخلق؛ فهل يُمكننا توقّع شيء أعلى من هذا من الله تعالى؟! فهذا الذي نتوقّعه من الناحية الظاهريّة، وأمّا المسائل المعنويّة، فلندع الحديث عنها الآن؛ لكن، ألا يقوم الإنسان أيضًا بهذه الأعمال؟! أ لم يكن نبيّ الله عيسى يُحيي الموتى؟ أ لم يُحوّل الإمام الرضا عليه السلام صورة الأسد المنقوشة على الستار إلى أسد مفترس۱ يزن أربعمائة كيلوغرامًا؟ فافترس ذلك الساحر في رمشة عين، وابتلعه كلّه، فأغشي على المأمون؛ كما تُنقل هذه الحكاية أيضًا عن موسى بن جعفر عليه السلام٢، والذي خاطب الأسد المنقوش على الستار: «خذ يا أسد الله عدوّ الله»٣؛ مع أنّه لا يوجد لدينا هنا أسد الله، بل مجرّد صورة أسد، والتي تحوّلت إلى أسد ذي خمسمائة كيلوغرامًا؛ فمن الذي قام بهذا العمل؟ إنّه إنسان؛ والمراد من ذلك: ماذا تتوقّعون من الله تعالى؟ الخلق؛ تفضّلوا على بركة الله؛ أ فلم يفعل الإمام الرضا ذلك؟ وقد صرّحت الكتب التاريخيّة بهذا الأمر؛ أ فلم يقم موسى بن جعفر بهذا الفعل؟ أ فلم يقم الإمام الحسن بذلك؟ فبعدما عقد عليه السلام الصلح مع معاوية، جرى الاعتراض عليه ببعض الاعتراضات؛ فكان في مسجد المدينة جالسًا يتحدّث، ويقول: لو شئت، لقمت بكلّ ما أريد، فلا تتصوّروا أنّ المسألة بذلك النحو؛ فلو شئت، لحوّلت المدينة على الشام، وأتيت بالشام إلى هنا، واستبدلت المدينة بها؛ ولو أردت، لحوّلت المرأة إلى رجل، والرجل إلى امرأة؛ يا للعجب، ما هذا الكلام الذي يقوله؟! فقال أحد الجالسين هناك: هل تتكلّم بجدّ؟! فقال له الإمام عليه السلام مباشرة: «اذهبي وضعي حجابك على رأسك»؛ فحينما نظر إلى نفسه، رأى بأنّ شعره قد صار طويلاً، وهكذا بالنسبة لبقيّة الأمور؛ فقال له الإمام: اذهب وضع الحجاب على رأسك! فذهب بسرعة، ووضع شيئًا على رأسه؛ لأنّه صار امرأة، ولم يكن ذلك من باب الخدع السحريّة؛ فما إن أراد الذهاب، حتّى قال له عليه السلام: انتظر، حينما ستذهب إلى بيتك، ستجد هناك رجلاً ذا شارب طويل بانتظارك!!! ففضلاً عن أنّه حوّل ذلك الرجل إلى امرأة، فإنّه حوّل زوجته التي كانت في البيت إلى رجل؛ فقال: يا للعجب، هذا من الأمور التي لم ندرسها لحدّ الآن!! فإلى هذا الحين كنتُ رجلاً، والآن أصبحتُ امرأة؛ إنّه لأمر سيّء جدًّا! ثمّ قال له عليه السلام: سوف يولد لكما طفل خنثى؛ فعليك أن تعلم بذلك؛ فذهب إلى منزله، فرأى شخصًا جالسًا هناك يقول له: «السلام عليكم، كيف هي أحوالك؟» أجل، «گهى پشت بر زين گهى زين به پشت، چنين است رسم سراى درشت»٤؛ فإلى هذا الحين، كانت المسألة تتمّ بنحو، لكن من الآن فصاعدًا، تفضّل، فقد صارت تتمّ بنحو آخر!! فما هو سبب ذلك؟ إنّه إمام! أ فلم يقم بهذا الفعل؟ وقد نُقلت هذه القصّة حتّى عن أهل السنّة؛ وبعدما صار لديهما ولد، ذهبا إلى خارج المدينة؛ فقد نغضّ النظر عن تلك التي صارت رجلاً، لكن، ماذا عن هذا الذي أصبح امرأة؟!! ثمّ جاءا عند الإمام سلام الله عليه، وتابا على يديه، فأرجعهما إلى حالتهما الأولى، وقال لهما: ليُعد كلّ واحد منكما إلى أداء وظيفته؛ وحوّل أيضًا ذلك الطفل إلى بنت أو ولد، حيث يوجد لدينا هنا روايتين مختلفتين في النقل٥؛ فهذا هو فعل الإمام؛ لكن، أ ليس هذا فعل الله تعالى؟ فكيف تمكّن الإمام من القيام به مع أنّه إنسان؟!

    1. معرفة المعاد، ج ۱، ص ۱۷٣.
    2. معرفة المعاد، ج ۱، ص ۱۷٤.
    3. الأمالي (للصدوق)، ص ۱٤۸: «يا أسدَ الله خُذ عَدُوَّ الله».
    4. مثل فارسيّ تعريبه: هذه هي عادة الدنيا؛ فتارة نمتطي السرج؛ وتارةً أخرى يمتطينا السرج؛ ويُعادله في اللغة العربيّة الحديث المرويّ عن أمير المؤمنين عليه السلام: «الدهر يومان: يوم لك، ويوم عليك». المعرّب
    5. بحارالأنوار، ج ٤٣، ص ٣٢۷.

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

15
  • فهل يوجد شيء تتوقّعون من الله تعالى أن يفعله، لكنّ الإنسان يعجز عنه؟ فما هي علّة ذلك؟ علّته أنّ الله تعالى وضع فينا تلك الصفات والأسماء التي بواسطتها يوجد الكون في عالم التكوين؛ أ فهل نحن نيام أم مستيقظون؟!۱ فهو تعالى جعلها فينا بأجمعها؛ ألا يوجد لدينا حديث قدسيّ تعرفونه أنتم يقول: «عبدي أطعني حتى أجعلك مَثَلِي أو مِثلي، أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشّيء كن فيكون»٢؛ أي: يا عبدي، أطعني ـ فالشرط هو الطاعة ـ حتّى أجعلك مِثلي، أو أجعلك مَثَلي؛ بمعنى: نموذجًا عنّي وممثّلاً لي؛ فأنا أقول للشيء كن فيكون ﴿إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾٣، وأنت أيضًا تقول للشيء: كن فيكون؛ أ فلم يكن الإمام بهذا النحو؟ فكان يحوّل الصورة إلى أسد، ويُحيي الميّت؛ وكذلك النبيّ شقّ القمر؛ وأمّا أنتم، فمهما أشرتم إلى القمر، وقذفتموه بالصواريخ، فإنّه لن ينقسم إلى نصفين، بينما الرسول فعل ذلك، وهو جالس في مكانه، من دون أن يُرسل صاروخًا، أو يمتطي مركبة فضائيّة ويذهب إلى هناك؛ مع أنّنا لا نعلم هل قاموا بذلك فعلاً أم أنّه مجرّد كذب، ولم يستخدم قنبلة ذريّة ولا هيدروجينيّة، بل ظلّ جالسًا في مكانه، وشقّ القمر إلى نصفين بإشارة واحدة، بحيث رأى الجميع ذلك، حتّى الذين كانوا متواجدين خارج مكّة؛ فلم يكن ذلك خدعة سحريّة، إذ جاءت قافلة من خارج مكّة، وقال ركّابها: لقد رأينا ليلة أمس أنّ القمر انقسم إلى نصفين؛ فهذا لم يكن خدعة سحريّة؛ لماذا؟ لأنّ رسول الله صار عبدًا مطيعًا لله تعالى «تقول للشّيء كن فيكون»؛ فهو أيضًا يقول كن، فيكون.

  • تنزّه الروح الإنسانيّة عن الذكورة والأنوثة في العوالم والمراتب العلويّة

  • وهذا المقام الأعلى تنزّل إلى أسفل، وحينما تتنزّل الروح من ذلك المقام إلى الأسفل، فإنّها [في تلك المراتب العالية] لا تكون امرأة ولا رجلاً؛ لماذا؟ لأنّ الله تعالى ليس رجلاً، بل هو فاعليّة محضة؛ وهناك لا معنى للذكورة ولا الأنوثة، حتّى نقول عنه تعالى إنّه رجل أو امرأة؛ ولماذا لا توجد هذه الأمور هناك؟ لأنّ الجهة الانفعاليّة مرتبطة ببقاء النسل والمحافظة عليه، بينما هناك لا وجود للنسل، ولا للتوالد والتناسل؛ ولهذا، تتحدّث الآية الكريمة عن الذين كانوا يُخاطبون الملائكة باسم النساء: ﴿وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثًا﴾٤، كما توجد آية أخرى تقول: ﴿أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا﴾٥؛ أي أنّكم أيّها الرجال تعتبرون أنفسكم أبناء لله تعالى، بينما اتّخذ الباري عزّ وجلّ الملائكة بناتًا له؛ في حين أنّ جميع الآيات القرآنيّة خاطبت الملائكة بخطاب مذكّر: ﴿بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾٦؛ فهي لم تقل: «هنّ»؛ لماذا؟ لأنّ الملائكة لا تتوالد ولا تتناسل، إذ التوالد والتناسل من مقتضى الذكورة والأنوثة، بينما خلق الملائكة إبداعيّ، حيث توجد بإرادة واحدة من الله تعالى؛ لأنّها مجرّدة، وتحتلّ مقام العبوديّة؛ وحينما يصل الموجود إلى هذا المقام، فلن يعود هناك أيّ معنى للمرأة والرجل؛ فالملائكة وصلت من الناحية العقليّة إلى مرتبة الفعليّة.. ﴿وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثًا﴾؟!

    1. يبدو أنّ مراد سماحته رضوان الله تعالى عليه الإشارةُ إلى أنّنا غافلون عن هذه المسألة المهمّة. المعرّب
    2. بحار الأنوار، ج ۱۰٢، ص ۱٦٥.
    3. سورة يس، الآية ۸٢.
    4. سورة الزخرف، الآية ۱٩.
    5. سورة الإسراء، الآية ٤۰.
    6. سورة الأنبياء، الآيتان ٢٦ و٢۷.

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

16
  • فحينما تتنزّل حقيقة الروح من ذلك العالم، وتهبط إلى الأسفل، وتريد أن تتجلّى على شكل إنسان، فكيف سيكون هذا الإنسان؟ يتعيّن أن يكون إنسانًا يتوالد، ويظلّ محافظًا على النسل اللاحق، وتكون له استمراريّة في البقاء؛ لكن حينما تتنزّل هذه الروح من هناك، فإنّ جهة الذكورة والأنوثة لا يكون لها أيّ معنى عند الحركة في جميع العوالم الملكوتيّة، وبمجرّد أن تلج إلى عالم المثال، تصير إمّا رجلاً أو امرأة؛ أي أنّها تتّخذ في البعض صبغة انفعاليّة، فتصير امرأة، وتتّخذ في البعض الآخر صبغة فعليّة وفاعليّة، فتُصبح رجلاً؛ لكن، ما هي علّة صيرورة الروح امرأة أو رجلاً عند تنزّلها من ذلك العالم؟ علّة ذلك أنّ هذا النظام يحتاج إلى التوالد والتناسل؛ ولو فرضنا أنّنا لم نكن محتاجين في هذه الدنيا إلى التوالد والتناسل، لما وُجدت فيه الذكورة والأنوثة.

  • وفي يوم القيامة، حينما يُحشر الرجل والمرأة، ويُبعثا، ويتحرّكا في عالم القيامة، فإنّ الأنوثة والذكورة لن تكون موجودة هناك أيضًا؛ لماذا؟ لأنّه لا وجود في ذلك العالم للتوالد والتناسل، حيث تكون الاستفادة فيه فعليّة ممّا حصّلناه في عالم الدنيا لأنفسنا؛ ومن هنا، فإنّ خصائصنا البدنيّة والمادّية ستتغيّر يوم القيامة؛ فلا وجود بعد ذلك للأنوثة والذكورة؛ أي أنّ ما يلزم لتحقّق التوالد والتناسل يرتبط بهذه الدنيا، وأمّا في يوم القيامة، فلا وجود للأنوثة والذكورة؛ فالمرأة موجودة هناك بحقيقتها، لكن، من دون تلك الخصائص المرتبطة بالتوالد والتناسل في هذه الدنيا؛ لماذا؟ لأنّه لا مكان لهذه الأمور في ذلك العالم، حيث إنّ هذا النوع من اللذّات مجعول لغرض التوالد والتناسل، وليس أمرًا ذاتيًّا للإنسان.

  • أذكر أنّني سمعت هذه المسألة من المرحوم العلاّمة، وليست منّي أنا، حيث قال: «ذات يوم، كنت عند المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله تعالى عليه، فقال بخصوص هذه المسألة: «يمتاز الإنسان بأنّ الله تعالى لم يخلقه كموجود شهوانيّ؛ أي أنّ الشهوة لا توجد ضمن الصفات الأوّلية التي جعلها الباري عزّ وجلّ في وجوده أوّلاً وبالذات، بل يوجد فيها التعقّل، والرحمة، والعطف، والعلم، وحسّ التكامل ورفع النقائص، وطلب الوصول إلى كمال المعرفة»، ثمّ أضاف قائلاً: «والسبب في امتلاك الإنسان لهذا الشعور، وتبلور هذا الإحساس في وجوده هو المحيط»؛ أي أنّ المحيط والصفات والعلوم التي اكتسبها في هذا المجال هي التي تسحبه نحو ذلك الاتّجاه، وهذا لا يعني أنّ أصل [هذه الشهوة] وحقيقتها غير مكنونة فيه، بل إنّ الإنسان خُلق بهذا النحو؛ أي أنّ تلك النواة المركزيّة وتلك النقاط المرتبطة بالتوالد والتناسل مكنونة في وجود الإنسان، غاية الأمر أنّ سيطرة القوى العقليّة والاتّصال بالمبدأ يوجبان انصراف الإنسان عن تلك المسائل، وتحجزانه عن الدخول في هذه الدائرة، اللهمّ إلاّ بتدخّل من المحيط، حيث يرى مجموعة من الأمور، وتحصل له سلسلة من الإدراكات، إلى أن يحدث له توجّه نحو هذه المسألة.

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

17
  • وقال المرحوم العلاّمة: ثمّ إنّي سألته: وماذا تقول عن الحيوانات؟ فأجابني [السيّد الحدّاد]: لقد خلقها الله تعالى لأجل هذه المسألة من الأساس؛ أي أنّ مسألة الشهوة من المسائل الأساسيّة المعجونة بوجود الحيوانات، بحيث نجد الحيوان يسعى بالفطرة إلى هذا التوالد والتناسل، لا أنّه يصطبغ بهذه الصبغة من المحيط الخارجي؛ لأنّ هذه المرتبة مختصّة بالإنسان فقط؛ أي أنّ الإنسان على درجة من العلوّ والرفعة، بحيث لولا المحيط، وتلك المسائل التي يتمّ تلقينه إيّاها، لما اندفع نحو ذلك الاتّجاه أبدًا.

  • فلو وُضع ولد وبنت في غابة [لوحدهما] منذ الصغر، ولم يكن هناك شيء من التأثيرات الخارجيّة، ولو حتّى وجود حيوانات، لعاشا معًا إلى آخر العمر، من دون أن يلتفتا أبدًا للأمور الشهوانيّة والحسّية والنزوات؛ فهذا ما يقتضيه الوجود الإنسانيّ، خلافًا لما يُطرح اليوم في علم النفس؛ إذ يقولون إنّ الشهوة مكنونة في وجود الإنسان؛ لكنّهم بعيدون جدًّا عن هذه الحقائق. فهذا هو الذي يتعلّق بالخصائص الإنسانيّة، حيث يقتضي المقام الشامخ للإنسان أن يتحرّك في حياته في أفق أعلى يفوق الحيوانيّة؛ أجل، قد تأتي المسائل الخارجيّة، وتُثير انتباهه إلى هذا الأمر [الشهوة]، حيث يلزم تحقّق التوالد والتناسل بهذه الكيفيّة.

  • ومن هنا، فإنّ الذي يُشكّل حقيقة الرجل والمرأة في نظام الخلق هو أمر خارجٌ عن الذكورة والأنوثة؛ أي أنّ حقيقتنا نحن الرجال الجالسون هنا ـ والمراد ليس ما هو موجود فعلاً، بل المراد تلك الحقيقة العالية الغافلون عنها، وذلك الأمر الذي ينبغي علينا الوصول إليه، وتلك الصيرورة التي يتعيّن علينا التحقّق بها في أنفسنا ـ هي مرتبة أعلى حتّى من الرجولة؛ وبالتالي، فإنّنا وبكلّ وضوح لسنا رجالاً، والمرأة ليست امرأة؛ صحيح، نحن في هذه الدنيا رجال، والمرأة امرأة؛ إذ ينبغي أن يوجد في هذا العالم توالد وتناسل، واستمرار وبقاء للنسل؛ وهكذا أيضًا بالنسبة لعالم المثال؛ أي أنّ هناك وجود فيه للذكورة والأنوثة؛ لأنّ هذا العالم الذي يُمثّل البدن المثاليّ والبرزخيّ هو علّة لعالم المُلك [الدنيا]؛ وبالتالي، ينبغي أن توجد فيه هذه الأمور؛ لكن، حينما نتجاوز مرتبة المثال ـ والتي تُسمّى أيضًا بالبرزخ والملكوت الأسفل ـ، ونصل إلى الملكوت الأعلى، ثمّ نتجاوز هذا الملكوت الأعلى، ونتجّه إلى فوق، فإنّنا لا نجد هناك ذكورة ولا أنوثة؛ ولهذا، فإنّ كمالنا يتعلّق بهذه المرتبة؛ إذ ما هي المرتبة التي نسعى إليها الآن، وأتينا بسببها إلى هنا، ونُطيع الله تعالى في سبيلها، ونؤدّي هذه التكاليف لأجلها؟ هل هي مرتبة الدنيا؟ لا، لأنّها ستنقضي؛ وهل هي مرتبة المثال؟ لا، لأنّها مرتبة دانية، وروحنا أعلى من المثال؛ وأمّا إذا انتقلنا من عالم المثال، إلى عالم الملكوت، فإنّنا لن نجد أيّة صورة، وسيصير كلّ واحد منّا حينئذ إنسانًا عقليًّا؛ أي أنّ المنام الذي ترون فيه أجدادكم، وتُشاهدون فيه مختلف الناس، وتتحدّثون فيه معهم يقع في آخر مرتبة من عوالم الغيب وأدناها؛ بينما يكون أولئك الذين تتحدّث معهم في مرتبة خالية من كلّ شكل؛ أي أنّ حقيقتي أنا لا تتمثّل في هذا الشكل الذي ترونني فيه، وكذلك حقيقتكم أنتم؛ لأنّ حقيقتنا أنا وأنتم لا شكل لها بتاتًا؛ وكمثال على ذلك، أخبروني عن شكل الهواء الموجود هنا؛ فلو أنّ الهواء الذي نستنشقه الآن انعدم، لاختنقنا جميعًا؛ ولهذا، فإنّنا لا نشكّ في وجوده أبدًا؛ لكن، ما هو شكله؟ دلّوني عليه! فنحن نُشبه بدورنا هذا الهواء، لكنّ ذلك لا يعني أنّنا هواء، وأنّنا من سنخ الهواء، بل المراد أنّنا نُضاهيه من حيث عدم توفّرنا على شكل وصورة وصبغة؛ فلو قيل لكم: ما هو شكل السيّد حسن؟ لتعيّن عليكم أن تقولوا: لا شكل له؛ إذن، ما حقيقة شكله؟ إنّه شكل للمادّة [ولوجوده المادّي]؛ لكن، توجد مرتبة أعلى من ذلك تخلو من الشكل؛ وحينما يصل الإنسان إلى هذه المرتبة، لا يعود هناك وجود للرجل والمرأة؛ لأنّ الرجولة والأنوثة متفرّعتان عن الشكل، بل حتّى الصورة المثاليّة غير موجودة هناك؛ وهكذا، إلى أن يصل الإنسان إلى مقام الجبروت، ومن ثمّ إلى مقام الفناء.

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

18
  • عدم اختلاف المرأة والرجل من حيث المراتب والكمالات

  • ومن هنا، فإنّنا نستنتج عدم وجود أيّ اختلاف بين المرأة والرجل من حيث الدرجات والمراتب والكمال؛ إذ لا وجود للذكورة والأنوثة من الأساس، بل إنّهما مرتبطان بالدنيا فقط؛ ونحن لم نُخلق لأجل هذه الدنيا؛ لأنّها عابرة، نقضي فيها ثلاثين أو أربعين أو خمسين أو ستّين سنة، ثمّ يلزمنا الرحيل، حيث إنّ العيش أكثر من ستّين سنة في هذا العصر هو أمر خارج عن المألوف! فعلينا خلع هذا البدن، والرحيل؛ لكن، إلى أين سنرحل؟ إلى موضع سنوجد فيه نحن كما نحن، وليس كما نبدو فيه عند النظر إلى المرآة، لأنّ شكلنا في المرآة هو في الحقيقة شكل بدننا، في حين أنّنا لا نمتلك أيّ شكل. وفي يوم القيامة، فإنّ هذا الشكل سيوجد بعينه لكن ببدن مثاليّ؛ فالشكل سيوجد بعينه، لكن، ما الذي سيحصل للبدن؟ سيصير بدنًا مثاليًّا شبيهًا بالبدن المادّي؛ فلا أنّه مادّي محض، ولا أنّه مثاليّ كعالم المثال، بل سيكون بين هذين الأمرين؛ ولا يخفى وجود خلاف حول هذه المسألة، وهل أنّ الموجود هناك حقيقةً هو هذا البدن الدنيويّ بنفس مادّته، أم أنّ القيامة ستكون عقليّة، حيث أتبنّى هنا الرأي المتوسّط بين الرأيين، وأقول بالجمع بين المسألتين بسبب الخصائص والآثار التي تتعلّق ببدن الإنسان في عالم القيامة.

  • وعليه، لماذا جاء الإسلام؟ وما هي الغاية التي يصبو إليها طريق التكامل في الإسلام؟ هي أن يُخرجنا من هذه الصورة، ويُوجّهنا إلى أنفسنا، ويُعيدنا بواسطة الكمال الذي نحصل عليه إلى ذلك الموضع الذي أتينا منه؛ وماذا يوجد هناك؟ لا وجود هناك أبدًا للذكورة والأنوثة.

  • أظنّ أنّكم أُصبتم بالتعب؛ وأمّا بالنسبة إليّ، فقد تعبت حقًّا! ولو أردت الاستمرار في الحديث عن هذا المسألة، لما تمكّنت من ذلك بحسب ما أعتقد؛ ولهذا، سنكلها للجلسة القادمة إن شاء الله تعالى.

  • نرجو من العليّ القدير أن يفتح أعيننا، ويُظهر لنا مكانتنا؛ وهي مسألة مهمّة جدًّا؛ لأنّها بمثابة المحرّك للإنسان؛ إذ ما دمنا لم نتعرّف على أنفسنا، فإنّنا لن نتمكّن من الحركة؛ وما دمنا لم نطّلع على حقيقتنا، فإنّنا سنعجز عن المشي في الطريق؛ وما دمنا لم نُدرك قيمتنا، فإنّنا لن نستطيع التقدّم إلى الأمام؛ فالمحرّك السلوكيّ والتربويّ يتمثّل في أن نعرف من نكون، ونشعر بالنوم والغفلة الواقعين فيهما؛ ولقد تمكّن الإمام الرضا عليه السلام من القيام بهذا الفعل؛ فبوسعنا نحن أيضًا القيام به؛ كما أنّ الإمام الحسن استطاع القيام بذلك؛ فيُمكننا نحن أيضًا القيام به؛ ومن هنا، لا ينبغي أن يأتي يوم، وتتركوا الأمور تبقى على ما هي عليه! فلقد شقّ الرسول القمر؛ وبوسعنا نحن أيضًا القيام بذلك؛ وهذا الذي أقوله هو أمر حقيقيّ، ولا مزاح فيه؛ غاية الأمر أنّ له طريق، لا أن نُطرق برؤوسنا إلى الأسفل هكذا، ونقول: لا يهمّنا ما الذي سيحصل! لا أيّها السيّد، بل له طريق، وعلينا سلوك هذا الطريق، والعمل بما قاله العظماء؛ وحينئذ، سيصل الإنسان إلى تلك المسألة وإلى الهدف المنشود.

اتّحاد الرجل والمرأة في النشأة والهدف

19
  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد