18

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

9050
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةالورد و الذكر


التوضيح

ألحق بأوّل هذه المحاضرة ملاحظات ألقيت في مقدّمة محاضرة أخرى لمناسبتها لموضوعها، وتتناول هذه الملاحظات كيفيّة الاستعداد لمجالس الذكر والمعارف الإلهيّة بالسكوت والسكينة قبلها، تحضيرًا لقبول آثارها. وتعرّضت تطبيقًا لذلك إلى خطبة الجمعة وشروطها وواقعها الذي يحصل من تقديم محاضرة قبلها، وبيّنت برنامج السيّد القاضي للسيد هادي الشيرازي والذي يؤكّد فيه على ضرورة السكوت والسكون.
وأمّا نفس المحاضرة فبعد تلخيصها للمحاضرة السابقة تتابع في موضوعين أساسيّين:
الأوّل: ضرورة المراقبة والذكر للتمرّس وتفعيل استعدادات النفس، وقد بيّنت ذلك في قالب شرح رسالة الشيخ الأنصاري للمرحوم العلامة حول اجتناب كثرة الطعام والكلام ومجالسة أهل الغفلة. وقد استندت في ذلك إلى حديث الإمام الكاظم عليه السلام لهشام حول العزلة.
الثاني: حاجة الإنسان في جميع المراتب إلى الذكر حتّى النبيّ والإمام، وذلك لأنّ الأسماء والصفات الإلهيّة مطلقة لا نهاية لها وهم مخلوقون. وقد بيّنت أثناء ذلك معنى ذكر النبيّ ربّ زدني فيك تحيّرًا وأنّه ذكر الأئمة كلّهم عليهم السلام.

/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۸

  •  

  • ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

2
  •  

  • أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم

  • بسم اللـه الرحمن الرحيم

  • الحمد للـه ربّ العالمين

  • والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

  • ورسول ربّ العالمين

  • أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين

  • واللعنة على أعدائهم أجمعين 

  •  

  • کيفيّة الاستعداد لجلسات الذكر والمعارف الإلهيّة

  • قبل الدخول في شرح حديث عنوان البصريّ الشريف، من الضروريّ التذكير بأنّه سُمع عن المرحوم الوالد رضوان الله عليه وأساتذته أنّ حضور الذهن وتوجّه النفس والاطمئنان والسكون والطمأنينة شرط لا يتغيّر ولا يتبدّل ولا يمكن اجتنابه في جلسة الذكر، وبصورة عامّة في الجلسات العرفانيّة والمعارف الإلهيّة.۱ لذلك فنحن لدينا توصية بأنّ من أراد أن يصلّي فمن الأفضل أن يجلس بضع دقائق قبل الصلاة بحالة سكون على سجّادته، فيتوجّه ويخلّي ذهنه من المسائل المختلفة. وبصورة عامّة في الموارد التي هي ذات بعد عباديّ من الأفضل أن يأتي الأفراد بمزيد من حضور الذهن. 

  • ضرورة الاستعداد لخطبة صلاة الجمعة

  • من إشكالات المرحوم العلامة الصحيحة والتي في محلّها على صلوات الجمعة الحاليّة أنّه قبل أن يقوم الخطيب بخطبته يقوم رجل آخر كمحاضر ويتحدّث مدّة ساعة. 

  • إنّ صلاة الجمعة تتمحور حول الخطيب، وهو الذي يجب أن يدير المجلس، وكلمات المحاضر ـ وإن كانت حقّة ـ تذهب ببريق موضوعات إمام الجمعة، وهذا الأمر ليس صحيحًا.

  • خصائص خطيب الجمعة

  • ويجب أن يتوفّر في خطيب الجمعة شرطان أساسيّان: 

  • أولاً: أن يكون بليغًا، جذّابًا في حديثه ومؤدّيًا للفكرة، يتكلّم بشكل جميل حتّى لا يسبّب الملل للناس، لأنّ الناس ينتظرون أسبوعًا، يتركون أعمالهم وحياتهم ويأتون من أماكن بعيدة، فليست خطبة صلاة الجمعة بالأمر السهل، ومن البديهيّ أنّ لا يمكن أن يلقي خطبة الجمعة ذلك الإنسان العجوز الذي لا يقدر حتّى على ردّ السلام. 

  • في المسائل التي تطرح في صلاة الجمعة، لا بدّ من الاهتمام بالجانبين السياسيّ والعباديّ، ونحن نقرأ في تاريخ الإسلام أنّهم كانوا يأتون بالخطباء لصلاة الجمعة، وكان هؤلاء الخطباء أيضًا يشدّون الناس إليهم بواسطة كلامهم الجميل العذب والبليغ، ولم يكن الأمر بحيث أنّ أيّ إنسان يخطب خطبة الجمعة.٢ فلكي يشدّ خلفاء بني أميّة وبني العبّاس الناس ويحضروهم إلى صلاة الجمعة ويتمكّنوا من إلقاء ما يضمرون في أنفسهم إليهم كانوا يأتون بأفضل وأبلغ الخطباء. 

    1. للأوقات المختلفة تأثير في حضور الذهن، ففي إحصاءٍ لعلامات امتحان إحدى الجامعات التفتوا إلى أنّ الامتحانات التي تجري في الصباح تختلف كثيرًا عن تلك التي تجري الظهر أو بعده، وهي ذات نتائج أفضل. وتلك هي حقيقة المسألة، لأنّ الأمور المختلفة لا تكون قد هجمت على الإنسان في الصباح، وحضورُ ذهنه واستعداده لفهم الموضوعات يكون أكثر وأعمق.
    2. راجع صلاة الجمعة، ص ٣٢. 

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

3
  • ثانيًا: أن يكون عالمًا، فيجمع المطالب من الروايات وكتب أهل البيت، ولا يتلف أوقات الناس. بل يعلّمهم كلمات وبيانات الإمام عليه السلام، ويطلعهم على المعارف. عليه أن يقوّي الناس في الجانبين الفكريّ والروحيّ وذلك بالاطلاع على المسائل المعاصرة والموضوعات العلميّة والاعتقاديّة المتّخذة من روايات الأئمّة عليهم السلام. فيطرح المسائل السياسيّة مقرونة بالمسائل العباديّة والمسائل العباديّة مقرونة بالمسائل السياسيّة لكي يتمكّن من التأثير الإيجابيّ في رؤية الناس وأحوالهم النفسيّة. وعلى الخطيب أن يحقّق للناس حالاً روحيّة جيّدة حتّى تكون خطبته بالنحو الذي يرضاه الله. فذلك من شرائط الخطيب، لذلك فإنّ من كان لديه مشكلة في التكلّم فلا يليق لإمامة الجمعة وإلقاء الخطبة.۱

  • يقول المرحوم الملاّ محمّد تقي المجلسي ـ الذي هو من الأعاظم ومفاخر الشيعة ووالد الآخوند الملا محمّد باقر المجلسي صاحب بحار الأنوار ـ في شرح الكتاب الشريف من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: 

  • "وإن رأى من المناسب أن يذكر طرائف الحكم والتي هي أكثر تأثيرًا، كما روي في الحسن كالصحيح عن حضرة أمير المؤمنين صلوات الله عليه: إنّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان ، فابتغوا لها طرائف الحكم٢ ومن ذلك أشعار المحقّقين كالحكيم الغزنويّ والحكيم الرومي والعطّار وغيرهم."٣

  • فعلى خطيب الجمعة أن يجعل الناس في حال من السرور والوجد بحيث يبقون إلى الأسبوع التالي ممتلئين طاقة وحيويّة، وأمّا الكلام اليوميّ المعتاد والذي لا يستحقّ الاهتمام والفارغ من المحتوى فهو ليس صحيحًا ولا يحسن. 

  • أثران سيئان للمحاضرة قبل خطبة الجمعة

  • وللمحاضرة قبل الخطبة أثران سيّئان: 

  • أولاً: تتعب الناس وتبعث فيهم الملل عن استماع الخطبة. 

  • ثانيًا: تقلّل من أهميّة الإصغاء إلى الخطبة واستماعها. فعندما يجلس الناس ساعة لكي يستمعوا إلى ما يطرحه المحاضر، فإنّ تهيّؤهم واستعدادهم لاستماع أمور صلاة الجمعة سيقلّ بل سينعدم. لو أنّ خطيب الجمعة كان يحمل شيئًا مهمًّا فلن يجد بعد ذلك آذانًا صاغية. وإن لم يكن يحمل شيئًا فسيكون الأمر أسوأ. وعلى أيّ حال هذا أحد الاشتباهات التي نقع بها في هذا الزمان. وفي جلسات الذكر أيضًا فإنّ المتعارف هو أن تكون هناك مدّة من السكوت لكي تحصل حالة من الاستعداد والتهيّؤ، فينبغي أن يكون للإنسان هدوء حال الذكر.

    1. راجع صلاة الجمعة، ص ٣٣.
    2. نهج البلاغة، ج٤، ص ٢۰. 
    3. . لوامع صاحبقرانى، ج ٤، ص ٥٦٦؛ مطلع انوار، ج ٥، ص ٣۱.

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

4
  • برنامج السيّد القاضي للسيد هادي التبريزي والاهتمام بالصمت

  • كان المرحوم آية الله الحاج السيّد هادي التبريزي من علماء الكاظمين المعروفين ومن تلامذة المرحوم القاضي رضوان الله عليه، وينقل المرحوم الوالد أنّ المرحوم القاضي أعطاه برنامجًا فقال: 

  • "اغتنم أمرين: 

  • الأول: محراب نافلة أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة.۱ لأنّ هناك آثارًا تترتّب على ذلك المكان وهي مشهودة.

  • والثاني: هو زيارة أهل القبور بين الطلوعين. حيث كان يقول: إذا زرت أهل القبور بين الطلوعين فاقرأ الفاتحة ثمّ اجلس بغير أن تقرأ القرآن أو أيّ شيء آخر، بل اجلس جانبًا والزم الصمت؛ فإنّ هذا السكوت مفيد جدًّا لك. فكّر في أحوال القبر والقيامة واعتباريّة الدنيا والمسائل التي تجري."

  • وكان يقول: "الذهاب إلى المقبرة عند الظهر أو بعد الظهر وفي الليل ليس له تلك الفائدة."

  • السكون والهدوء من صفات الملائكة

  • لقد كان له اهتمام كبير بالسكوت، وكان يقول:

  • "للملائكة أنواع: منهم ركّع لا يسجدون ومنهم ساجدون لا يركعون ومنهم غير ذلك٢ 

  • ولكنّ المهمّ هو أنّ الملائكة دائمًا في حال سكون وهدوء، ولا وجود للتشويش والاضطراب فيهم، على العكس من الشياطين الذين هم دائمًا في حال حركة واضطراب."

  • ثمّ يقول المرحوم القاضي متأدّبًا للمرحوم الحاج الميرزا السيّد هادي التبريزي: 

  • "نحن لسنا مع الملائكة الساكنين ولا مع الشياطين المضطربين، ولكنّا نسرّ من فعل الملائكة ونُساء من فعل الشياطين." فالملائكة ينفّذون الأوامر الإلهيّة بحال من الهدوء {وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}،٣ {بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ}.٤ فهم لا يطيعون مقام المشيئة والتقدير باضطراب، ولا يتدخّلون ولا يتصرّفون في وظائفهم، فلو أراد الله أن يصيب منطقة ما بزلزال قوته سبع درجات ريختر فإنّهم لا يجعلونه بقوّة ثماني درجات، ولو أمر بصاعقة فإنّهم لا يبدّلونها حتّى بمقدار ميليمتر واحد. ما داموا عبادًا فلا دخل ولا تصرّف ولا معنى للزيادة والإنقاص. وإذا كنّا نحن أيضًا كذلك ونظرنا إلى الحوادث نظرة عبوديّة فإنّا سنكون مثل الملائكة. يأتون بالعذاب أو بالنعمة بهدوء، وحالهم في القيام بالتقدير الإلهيّ بحيث لا يفرّقون بين اذهب و توقّف، هذا معنى سكون الملائكة.٥

    1. المحراب الذي له صندوق الآن في مسجد الكوفة هو المحراب الذي كان يصلّي فيه أمير المؤمنين عليه السلام صلاة الجماعة، ولكنّه قبل صلاة الجماعة كان يصلّي النوافل في محراب يبعد تقريبًا عشرين مترًا عن المحراب الأصليّ ويقع على شماله، وهو الآن معروف. كان الإمام يصلّي فيه صلاة الليل ونافلة الصبح، ثمّ يصلّي صلاة الصبح في المحراب الأصليّ، في الليلة التاسعة عشرة من شهر رمضان هوى سيف ابن ملجم على فرقه الشريف وهو في محراب النافلة، حيث كان قد صلّى صلاة الليل في منزل السيّدة زينب* وكان يصلّي نافلة صلاة الصبح فوقع تلك الحادثة.** 
      (*) روضة الواعظين، ج ۱، ص ۱٣٥.
      (**) بحار الأنوار، ج ٤٢، ص ٢۸۱.
    2. انظر نهج البلاغة، ج۱، ص ۱٩: منهم سجود لا يركعون ، وركوع لا ينتصبون وصافون لا يتزايلون ومسبحون لا يسأمون...
    3. . سورة النحل (۱٦) الآية ٥۰؛ سورة التحريم (٦٦) الآية ٦. 
    4. . سورة الأنبياء (٢۱) الآية ٢٦. 
    5. . آيين رستگارى، ص ۱٣٥ (وفي النسخة العربيّة تحت عنوان سبیل الفلاح وهي قید الإعداد): 
      تجليات الله لا تكون إلّا في ظلّ هدوء النفس، {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}(*)، إنَّ موجودات العالم تدعو الإنسان إليها، وكلّ موجودٍ يُلقي الإنسان في التمريج والتشويش والاضطراب ويجعل خواطره قلقةً ومضطربةً وحزينةً، وفي بعض الأحيان تتغلّب الخواطر على الإنسان وتجرّه نحوها، والقلب يطمئن فقط بذكر الله، فيُدفن ذلك بأجمعه في مقبرة النسيان، فلا يعود وجودٌ لخاطرةٍ أو فكرةٍ أو خيالٍ، ولا شيء من ذلك أبدًا؛ لأنّ القلب قد اطمئن بذكر الله، وترسّبت قاذورات النفس تلك وتحجّرت، وذلك كلّه بواسطة السكوت، ولذا فإنّ أحد الدساتير هو السكوت.
      الآن: كم ينبغي للإنسان أن يسكت؟ يختلف الأمر؛ يختلف الأمر في المنازل والمراحل المختلفة، ففي البداية يقولون للسالك: ينبغي أن تلتزم السكوت عن زوائد الكلام، وليس فقط عن الغيبة والكذب وأمثال ذلك، بل ينبغي أن يبتعد الإنسان حتّى عن الكلام العادي الذي يتكلّم به الإنسان عادةً ولكن لا يكون له فائدةٌ دنيويّةٌ ولا أخرويّةٌ، إذ على الإنسان أن يضع قفلًا على فمه وأن لا يتحدّث بكلامٍ زائدٍ.
      فرضًا، لو شاركَ الإنسان في مجلسٍ ما، وتحدّث لمدّة ساعةٍ وتسلَّى ثمَّ وقف وتساءل: بماذا تفوّهتَ؟ ماذا كان هذا الكلام وما هي نتيجته؟ وهل كانت له نتيجة دنيويّة؟ هل كانت له نتيجةٌ أخرويّةٌ؟ هل رفع روحي إلى الأعلى؟ هل منحني صفاءً؟ هل كان فيه صلاحي؟ لا! الجلسات (القعدات)، المسامرات الليليّة، المحادثات النهاريّة والاختلاط وتمضية الوقت! مثلاً: يقولون: لقد تعبنا، لذا دعنا نذهب إلى ذاك المكان لتمضية الوقت، إنَّ هذه الأحاديث تُسبّب ظلمةً وسوادًا في القلب، وتجلب القسوة، وليس من اللازم أن تكون تلك الجُمَل محرّمةً، بل على الإنسان أن يتجنب الكلام في بعض الأمور المباحة أيضًا الذي لا طائل ولا فائدة منه، وينبغي أن يكون المفتاح بيد نفس الإنسان، وعلى الإنسان أن يفكر أوّلًا بما يُريد أن يتكلّم به ثمّ يقوله، لا أنّه يتكلّم أوّلًا ثمَّ يُفكّر هل هذا الكلام الذي تفوهتُ به صحيحٌ أم خاطئٌ؟.... ينبغي للسالك أن يجعل ضبط لسانه بيده مئةً بالمئة، وعليه أن يُفكّر في كلّ كلمةٍ يُريد أن يتفوّه بها، وأن يرى هل هذا الكلام صحيحٌ من الأساس أم خاطئٌ؟ وما الفائدة المترتّبة عليه؟ وضبط اللسان هذا يشمل الكلام والمسموعات أيضًا؛ لأنّ ما يسمعه الإنسان يجلب تمريج القلب أيضًا. فلا ينبغي للإنسان أن يستمع كل شيءٍ، بل يكتفي بالأمور المفيدة له...
      إنّ الأنس بالعيال والجلوس معهم والاختلاط هو أمرٌ لازم ولا يُعدّ من الكلام الزائد، إلّا إذا كان يُضرّ بالتحكّم باللسان...
      فإذن وبصورةٍ مجملةٍ وكليّةٍ، الصمت يعني: السكوت. وفي المرحلة الفعليّة فلتتكلّم بمقدار ما يلزم من قراءة القرآن، والزيارة، والدعاء، والصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأنس بالعائلة، وفي نطاق العمل الجراحي(**)، ولا تتكلّم بأكثر من ذلك... ولا تناقش الناس كثيرًا، ولا تُطلعهم على أسرارك، ولا تُبد لهم أحوالك، فلتُبقِها بداخلك، ولا تبدِ إلّا المقدار اللازم، وكفى! ليكن هناك قفلٌ على الفم، ولا تتجاوز ولا تفسح المجال لبيان ذلك المقدار الذي يبديه اللسان عن قلبك ونيتك، والقيام بهذا العمل ـ وهو ضبطُ اللسان ـ مهمّةٌ صعبةٌ أيضًا.
      لقد وَرَدَ عن أحوال بعض السالكين القدماء أنّهم كانوا يضعون حصاةً في أفواههم، وكلّما أرادوا بيان أمرٍ عن غفلةٍ، فإنّهم لا يبيّنوه، فربّما أرادوا أن يُبينوه ولكن هناك حصاة في فمهم فيلتفتون: هل ما يريدون قولَهُ صحيحٌ أم لا؟ فإذا كان جيّدًا، يُخرجون الحصاةَ ويتكلّمون ثمّ يعيدونها إلى مكانها؛ إلى هذا القدر! إنّها مهمّةٌ صعبةٌ؛ لأنّ الإنسان قد اعتاد الكلام على الدوام، ولا بدّ أن يضبط نفسه وأن يقوم بالمجاهدة كي يَعبُر عن مسألة الصمت.
      (*) سورة الرعد (۱٣) الآية ٢۸.
      (**) مراد سماحته: إنّه لا بأس من التكلّم الضروري في مجال عمل الإنسان، وأعطى لجليسه المخاطب بهذه المحاضرات مثالًا من واقع عمله كونه طبيبًا جرّاحًا. (م)

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

5
  • وعلى العکس فإنّ الشياطين دائمًا يقولون: لا بدّ أن نغوي فلانًا ونمنعه من طريق الهداية، ولنَقُلْ تلك الكلمة لفلان، ولنصرفْ فلانًا عن العبادة ونوقعه في المعصية.۱ كلّ ذلك ناشئ من الاضطراب والتشويش.

  • مجالسة أهل الهدوء دواء ومع أهل التشويش سمّ

  • وأفراد الناس أيضًا هم كذلك، فبعضهم أصحاب نفوس هادئة، بحيث يطمئنّ الإنسان إذا ما جلس وتحدّث معهم، فالجلوس مع غير المضطربين وأصحاب النفوس الهادئة أشدّ ضرورة للإنسان من أيّ دواء.

  • ولكن يحصل للإنسان الاضطراب والتشويش من مجالسة البعض. فهؤلاء يتحدّثون عن هذا الناحية وعن تلك، وهم دائمًا في تشويش واضطراب لا يمكنهم أن يجلسوا هادئين، بل لا بدّ أن يطرحوا مطلبًا، وإلاّ فهم يعتقدون أنّ المجلس حتمًا سيمضي لغوًا بغير فائدة، ولن يحصلوا منه على شيء. حتّى لو لم يتحدّثوا فإنّ مجرّد الجلوس مع أفراد كهؤلاء أشدّ خطرًا لنفس السالك من السمّ الهالك. 

  • هدوء العلامة الطباطبائي

  • لقد كان المرحوم العلامة الطباطبائي إنسانًا هادئًا٢؛ فلو جلس عنده أحد ساعة فما لم يسأل لا يجيب هو ولا يتكلّم، فنفس هذا الإنسان هادئة.٣ 

  • فلکي تکون المطالب التي تنقل عن المرحوم العلامة أو سائر الأعاظم أوقع في النفوس، لا بدّ من الاستعداد والتهيئة المسبقين. لذلك فإنّ الحديث والكلام الزائدين قبل الجلسات يتعارضان مع أهداف هذه الجلسات. ومن الجيّد أن يأتي الأصدقاء على استعداد حتّى نستفيد نحن أيضًا من بركة أنفاسهم. فكلّما كانت النفوس تتمتّع باستعداد أكثر فإنّ بإمكانهم أن يؤثّروا ويتأثّروا أكثر بناء على قاعدة الأواني المترابطة. ٤ و٥

  • خلاصة الجلسة السابقة

  • تقدّم في الجلسة السابقة أمران حول ضرورة الذكر لأجل حركة السالك إلى المبادئ الكماليّة: 

  • الأوّل: كون الكيفيّة المتعارفة التي في الأذكار والأوراد الإلهيّة وبشكل عدديّ أمرًا له أدلّته. 

  • الثاني: ضرورة الأذكار والأوراد لجميع الأفراد في جميع المراتب وعدم اختصاصها بالمتبدئين كحركة أوليّة. فلو كان أصحاب المراتب مستغنين عنها فلماذا يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ: لي أورادٌ فى كُلِّ ساعَةٍ مِن آناءِ اللَيلِ و النَّهارِ، فَلا تَشغَلني عَن وِردي؟!

  • وحول الموضوع الأول تقدّم أنّه كما لا نتيجة للإنسان بغير التدرّب والممارسة والاختبار والحذاقة في الفنّ، فكذلك في السلوك والصعود إلى المراتب العليا ورفع الحجب الظلمانيّة والنورانيّة أيضًا هناك حاجة إلى المراقبة وإلا فإنّ هذه الحركة ستتوقّف. 

    1. ولو فُتحتِ الأعين لرأيتم ما الخبر!
    2. . الشمس الساطعة، ص ۱٩ و۷٦.
    3. . لمزيد من الاطلاع حول ضرورة مراعاة الصمت والسكوت في طريق السير والسلوك راجع لبّ اللباب ص ۱٢٢؛ رسالة السير والسلوك المنسوبة إلى بحرالعلوم، ص ۱٩٤؛ آيين رستگارى، ص ۱٣۱.
    4. . الکلام من أول هذه المحاضرة إلى هنا هو القسم الأول من الجلسة الثانية والعشرين من شرح حديث عنوان البصري، وقد نقل إلى هنا لمناسبته لموضوع الورد والذكر.(المحقق)
    5. . آيين رستگارى، ص ۱٤۱ (سبیل الفلاح قيد الإعداد):
      أحد الأمور الضروريّة الأخرى: الابتعاد عن محيط القلق والتشويش والاضطراب؛ لأنّ الإنسان حينما يكون في هذه المعارك من التشويش والاضطراب، فسوف تُؤثّر عليه العلاقات المسمومة، والتعامل المسموم، والكلام المسموم، سوف تُؤثّر على روح الإنسان وتدمرها.
      إنّ النفوس كالأواني المرتبطة، إنّ أحد القواعد الفيزيائيّة، قاعدة الأواني المرتبطة، وقاعدة الأواني المرتبطة هي التالي: إذا أضيف سائلٌ لأحد الأواني فسوف يتساوى مستوى السائل في الجميع، والقلوب بهذا النحو أيضًا، فعندما يحصل ارتباطٌ بين قلبين كما يحصل بين الأوعية المرتبطة، فإنّ المعاني التي تقع في أحدهما تذهب إلى الآخر، فإذا كان الوعاء الأعلى ملكوتيّاً فسيجعل الوعاء السفلي ملكوتيّاً أيضًا وبنفس المتسوى، ولكن إذا كان الوعاء الأعلى ملوّثًا، مثلًا: كان فيه خلٌّ العنب، أو خلّ الحُصرم، أو سائل متعفّن، فسوف يتلوّن الوعاء السفلي بلونه أيضًا، ولذلك يجب على الإنسان أن لا يجالس الأفرادَ الخبيثين، أو عبّاد الدنيا، ومَن كان همّه وغمّه الدنيا؛ لأنّهم يجذبون قلب الإنسان ويجلبونه إليهم.
      «مَن أَصبَحَ وأكبر هَمِّهِ ‌الدنيا فليس مِنَ اللَهِ في شَيء»(*)، فالبشر حتّى لو كانوا جيّدين وكانوا مُصلّين ويُؤدّون جميع التكاليف، إلّا أنّهم على فئتين؛ فئةٌ يُؤدّون الصلاة ويصومون أيضًا لكنّ مقصدهم الأساسي هو الدنيا، أيّ أنّهم لا يبيعون الدنيا بالله، فإذا أتى أمر الله وأتت في مقابله مصلحةٌ ماديّةٌ، فإنّهم يُقدّمون المصلحة الماديّة، ومعاشرة هؤلاء فيها ضررٌ على الإنسان، يعني: مثل تلك الأواني المرتبطة، يجذبون قلب الإنسان إلى سطحهم، والإنسان إذا ارتبط بأيّ واحدٍ من هؤلاء فإنّهم يجذبونه إلى بؤرتهم الوجوديّة ويدعونه إلى أفكارهم، فكلّ مَن يدعو الإنسان، أو يسلّم عليه أو يجيب على سلامه أو يستأنس به، فإنّ نفسه تجذب ذلك الإنسان نحوها، سواءً كانت هذه النفس جيّدةً أم سيّئةً، قبيحةً أم حسنةً.
      يجب على السالك أن يبقى مُتيقّظًا كي لا يكون طعمةً للذئب، بل يفتح أمامه باب حديقة الرحمة، يجب عليه أن يذهب دومًا إلى النفوس الملكوتيّة والروحانيّة، فيتعامل مع أمير المؤمنين عليه السّلام ومع ميثم ومع تلك الأرواح الطيّبة الطاهرة، لا أن يذهب إلى الطرق المنحرفة، والتحكّم بهذا الأمر بيد نفس الإنسان.
      (*) مجموعه ورام، ج ۱، ص ۱٣۰ مع أدنى تفاوت.

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

6
  • فبما أن النفس الإنسانيّة مستعدّة وهيولانيّة، فلا شكّ أنّه يمكن تغييرها إلى الكيفيّة التي يريدها الإنسان، ولكن لا بدّ في هذه الحركة النفسيّة من تهيئة ظروف الوصول إلى الهدف، والابتعاد عن كلّ ما يسبّب التخطّي والانحراف عن المسير، وإلاّ فلن تكون هناك أيّة نتيجة لهذا السير والسلوك. 

  • وقد تحدّثنا في الجلسة السابقة عن أنّ المرحوم الوالد رضوان الله عليه قال من باب إتمام الحجّة على رفقائه وتنبيههم على أعمالهم وكيفيّة سلوكهم: لا تظنّوا أنّه يكفي أنّكم أسميتم أنفسكم سلاّكًا، فإنّه ليس بين الله وبين أحدكم قرابة ومداراة. فلو أنّ إنسانًا عمل وخطا بقدم صدق فإنّه سيرى نتيجة ذلك، وإلاّ فبمجرّد التسمّي باسم السلوك والحركة نحو المبادئ العالية لن يحصل الإنسان على نتيجة. 

  • رسالة آية الله الأنصاري إلى العلامة الطهراني رضوان الله عليهما وتأكيدها على المراقبة

  • وفي الرسالة التي كتبها آية الله الشيخ محمّد جواد الأنصاري الهمداني للمرحوم الوالد رضوان الله عليهما كتب له حول المراقبة والاستعداد والظروف المعدّة للحركة: 

  • " بعد ترك الأهواء الممنوعة شرعًا (كالآمال والميول النفسيّة التي لا شكّ في حرمتها والتي حذّر منها الشارع) فإنّ الأمور التي تسبب الملل هي عبارة عن: كثرة الطعام، وكثرة الكلام، وكثرة مجالسة أهل الغفلة."۱

  • فالأمر الأوّل: كثرة الطعام: وقد ورد حول هذا الموضوع الكثير من الروايات٢ وستأتي مطالب حول ذلك في الحديث الشريف عن عنوان البصريّ.

  • والأمر الثاني: كثرة الكلام: يتأذّى البعض من السكوت في المجالس، ويتصوّرون أنّ المجلس بغير كلام، فارغٌ وضعيف، ولم يمض كما ينبغي.٣

  • لقد كانت لي صلة وثيقة بالعلامة الطباطبائي رضوان الله عليه، وكثيرًا ما كنت أشارك في مجالسه، وكنت شاهدًا أنّه حتّى لو مضت ساعة يبقى ساكتًا ما لم يطرح عليه أحد سؤالاً، وكان صامتًا بشكل كامل.٤

  • السكوت يحفظ حالات السالك والكلام يضيّعها

  • إنّ الكلام الكثير في مسائل اللهو وغير الضروريّة ليس في صالح السالك، وحتّى الكلام الصحيح هو أيضًا يسبّب ذهاب رزانة الإنسان. إنّ السكوت يؤدّي أن يحفظ السالك استعداده ورزانته التي حصّلها بواسطة المراقبة، وأن يبقى ما جمعه في جعبته. في حين أنّ الكلام ولو كان صحيحًا فهو كإيجاد ثقب يؤدّي إلى الوقوع التدريجيّ لما في تلك الجعبة، أمّا الكلام الباطل والمخالف للشرع فهو لا يستحقّ أن نتحدّث عنه! هكذا جعل الله الأثر التكوينيّ لكثرة الكلام، وليس هذا من المسائل الاعتباريّة التي تخضع للتغيير والتغيّر.

    1. . مطلع انوار، ج ٢، ص ٣٣٥.
    2. . رجوع شود به رساله لبّ‌اللباب، ص ۱٢٢ و ۱٢٣؛ رساله سيروسلوك بحرالعلوم، ص ۱٥٩.
    3. . راجع رسالة لبّ ‌اللباب، ص ۱٢٢؛ رسالة السير والسلوك المنسوبة إلى بحرالعلوم، ص ۱٩٤؛ آيين رستگارى، ص ۱٣۱.
    4. . الشمس الساطعة، ص ۱٩ و ص ۸۰.

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

7
  • مجالسة أهل الغفلة 

  • الأمر الثالث: كثرة مجالسة أهل الغفلة، وأهل الغفلة هم أناس ليس لهم من حركاتهم وسكناتهم أيّ هدف عقلائيّ ومنطقيّ، ويقضون أيّامهم ولياليهم بالعبث. وقد كتب المرحوم آية الله الأنصاريّ رضوان الله عليه في تتمّة هذه الرسالة: "وكلّما حاول الإنسان أن يأنس بالوحدة كان خيرًا له، خصوصًا إذا ما ابتعد عن وسط الجمع، فإنّ لشرور النفوس الخبيثة تأثير السموم."۱

  • فسواء شاء الإنسان أم أبى، هناک في العلاقة مع الناس تبادل وتأثير، وهذا التأثير ليس باختياره، فهل يمكن أن يسقط الماء على السجّاد ولا يتبلّل؟! وهل يمكن أن تضع يدك في النار ولا تحترق؟! وحتّى لو لقّنت نفسك أنّها لن تحترق، وتحمّلت ولم تصرخ، فإنّها ستحترق وستقوم النار بعملها. 

  • إنّ الارتباط مع أهل الغفلة يجبر الإنسان على الغفلة، وستضيع حالة النورانيّة والروحانيّة التي حصّلها بواسطة الأعمال والعبادات.

  • حديث الإمام الكاظم عليه السلام مع هشام بن الحكم حول العزلة

  • يقول الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام لهشام بن الحكم: 

  • يا هشامُ، الصّبرُ علَى الوَحدةِ علامةُ قوّةِ العقلِ؛ فمَن عَقلَ عن اللهِ٢ اعتَزَلَ أهلَ الدّنيا والرّاغبينَ فيها ورَغِبَ في ما عندَ اللهِ، وكانَ اللهُ أُنسَهُ في الوحشةِ، وصاحبَهُ في الوحدةِ، وغِناهُ في العَيلةِ، ومُعِزّهُ مِن غيرِ عَشيرَةٍ.٣

  • إنّ الصبر على الوحدة وعدم الملل من الخلوة علامة قوّة العقل وكثرته، فمن كان قليل العقل فإنّه يبقى على الدوام باحثًا عن هذا وذاك ويسعى للتواصل. على الإنسان أن يكون طالبًا لأن يكون له حال جيّد وأن يحافظ عليه، فلو أنّ امرءًا جلس في داره مستريحًا ولم يأته أحد فهل سينقص منه شيء؟! وأن يأتي أحد يعني أن يأتي ويقضي وقته معنا، والذي يأتي بهذه النيّة فإنّه يذهب في اليوم التالي إلى آخر ويقضي وقته معه، وما دام الأمر كذلك فهل يرتبط الإنسان قلبيًّا بهكذا إنسان ويثق به؟! 

  • على الإنسان أن لا يفتح باب قلبه لأيّ أحد، وأن لا يفتح الطريق لغير الله إلى هذا القلب الذي هو مكان الله؛ لأنّه هو الوحيد الذي يبقى لنا سواء في الدنيا أو في القبر والبرزخ والقيامة. واللطيف هو أنّنا نظنّ أنّه رقيب عتيد وحارس مسلّح يقف فوق رؤوسنا في حين أنّ كلّ محبّة وودّ وأنس نبحث عنه في العلاقات المجازيّة والاعتباريّة هو يمتلكها بعين الحقيقة ونحن عنه غافلون. فقد جاء في الحديث القدسيّ: 

    1. . مطلع انوار، ج ٢، ص ٣٣٥.
    2. من وصل عقله إلى أساس يستطيع معه أن يأخذ علمه ودرايته في كلّ أمر من أموره بدون واسطة بشريّة.
    3. . أصول الكافي، ج ۱، ص ۱۷.

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

8
  • أنا أرحم بعبدي من الأمّ بولدها. ۱

  • ورغم ذلك فقد نسينا نحن كلّ ذلك وأخذنا نسعى إلى أن نأنس بهذا وذاك لكي يهتمّوا بنا ويؤنسوا مجلسنا فلا نحسّ بالوحدة!

  • ما معنى ما يقال من أنّ هؤلاء سيفيدوننا يومًا ما؟! علينا أن نهتمّ بمستقبلنا حين يضعوننا في القبر ويهيلون التراب على رؤوسنا، وحين لا يقرأ لنا حتّى هؤلاء المحيطون بنا الفاتحة. 

  • إذا أراد أهل الميّت أن يحترموه غاية الاحترام فإنّهم يقيمون له مجلسًا لثلاثة أيّام، ويرشّون فوق قبره ماءً، ويقضون مدّة يسيرة بالبكاء عليه. 

  • حتّى إنّ الله يبعث في الوجود الماديّ للإنسان المصاب تغييرات وتحوّلات تناسب حاله، فتترشّح في دماغه مادة تسبّب النسيان التدريجيّ للمصيبة، وذلك بدلاً من ترشّح مادّة أخرى تسبّب الحزن، ومع مرور الزمان تعود حالة الاعتدال إلى الإنسان.٢ 

  • وعلى أيّ حال فإنّ حالة الحزن تتبدّل شيئًا فشيئًا إلى اللامبالاة ثمّ إلى المسرّة ثمّ إلى النسيان وكأنّه {لم يكن شيئًا مذكورًا}٣ لذلك فإنّ الإمام الكاظم عليه السلام يقول لهشام إنّ العاقل هو من فكّر 

  • بغده: 

  • فمَن عَقَلَ عن الله اعتَزَلَ أهلَ الدّنيا و الرّاغبينَ فيها.

  • فأهل الدنيا يطوون مسيرًا والسالك يطوي مسيرًا آخر. لذلك فإنّ السالك لا يمكنه أن يجمع بين هذين المحورين اللذين يقود كلّ منهما إلى طريق مختلف. إنّ من يشرع في كلّ يوم بالعبادة والذكر والمراقبة ويحصل على حالة من الروحانيّة والنورانيّة، ولكنّه بالمشاركة في مجلس لهو ولعب ومجالسة زيد وبالكلام الفارغ يفقد كلّ ما حصّله ويقضي الأيّام والأسابيع والشهور أيضًا بهذه الطريقة، ينبغي أن لا يتوقّع ويعترض أنّه لماذا لم يصل إلى مكان؟! فلو وصل لكان مثارًا للاستفهام

  • ولو عمل بما قال به الأعاظم ثمّ لم يصل فمن حقّه أن يعترض.

  • ورغب في ما عند الله

  • یرغب فی النعم التي عند الله والطرق التي توصله إليها، ودائمًا يبحث من باب إلى باب عن الطريق الذي ينتخبه، لا أن يجلس في بيته متساهلاً يقول: إن شاء الله سيحلّ المشكلة. اطمئنّوا لو بقيتم منتظرين بهذا العنوان فإنّ الله لن يحلّ المشكلة، وهو يعرف جيّدًا كيف يأتي لنا بما يشغلنا ويلهينا. ثمّ يلتفت الإنسان بعد مدّة فجأة أن يا للعجب! لقد قضى شهرًا بالغفلة، ثمّ إذا أراد أن يتحرّك من جديد فإنّه وببرنامج جماليّ آخر كالقدرة المادّية والحيويّة في الحياة يمضي عمر الإنسان من جديد بالغفلة. 

    1. . روضة الواعظين، ج ٢، ص ٥۰٣:
      « قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه و آلِهِ و سلّم:" و الّذى نفسى بِيَدِهِ إنَّ اللهَ تعالى أرحمَ بِعَبدِهِ مِن الوالدةِ المُشفِقَةِ بِوَلَدِها."» (المحقق)
    2. ولذلك فإنّ من الأمور المطروحة في التحليل النفسي المعاصر أن تقدّم لصاحب العزاء أمور تبعث على السرور كالضحك وبعض أنواع الموسيقى التي تسبّب ترشّح تلك المادّة، رغم أنّ هذه العمل له مضرّات وآثار سيّئة بسبب كونه غير طبيعيّ.
    3. . سورة الإنسان (۷٦) الآية ۱.

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

9
  • نظرت قبل مدّة إلى أحوال فرد يعيش في إحدى المحافظات فرأيت أنّ ما يشاهد منه في حال تغيّر، وشيئًا فشيئًا تحدث له خصوصيّات جديدة وجوانب حديثة. لقد كانت له صلة بي، ولذلك كان من واجبي في هذه الصداقة أن لا أخونه، وأن أخبره بما يجول في ذهني. فتحدّثت إليه يسيرًا أن لماذا يلبّي كلّ نداء يتوجّه إليه وليست له أيّة إرادة من نفسه؟ فقلت له: إنّ هذه الحالة ستخرجك شيئًا فشيئًا عن المسير الأصليّ والثقة التي عندك. ولكنّه لم يبال إلى كلامي، ولم يكن منه إلا أن نظر إليّ نظرة من به أذى من رأسه وعيناه نصف مفتوحتين ولم يلتفت إلى الموضوع كما هو حقّه.

  • والغاية من هذا الكلام هي أنّ الإنسان لم يصبح كذلك دفعة واحدة ولم يقم من نومه فوجد نفسه على هذه الحالة، بل شيئًا فشيئًا وبالتدريج يتساهل فيما كان جادًّا فيه ومصرًّا، حتّى يرى فجأة أنّ حياته غدت كحياة سائر الناس، وأنّه يقوم بالأعمال التي يقومون بها فيما يرتبط بمسائلهم الداخليّة والخارجيّة، ولم تعد حالاته وحركاته وسكناته كما كانت في الماضي، وصار مشمولاً لهذه: 

  • {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}۱

  • لو أنّ الإنسان وقع فجأة من أعلى السلّم وانكسر عظمه فإنّه سيلتفت إلى كسر عظمه ويصرخ أن قد انكسرت يدي ورجلي! ويمكن أنّ يقوم شيئًا فشيئًا، ولكنّ الخطر هو عندما لا يهبط درجة واحدة ولا يشعر ويقول: لا زالت لنا حالة من التوجّه والبكاء ولم نهبط. في هذه الحالة وحيث إنّ النفس قد اعتادت الاستدراج وتلقّفت الطُعم، فحتّى لو وصلت إلى الأرض تظنّ أنّها لا زالت على السطح! وهذا أمر مهمّ جدًّا.

  • يقال إنّ بعض الذين يتناولون المخدِّرات يصلون إلى حالة تصبح فيها موادّ دمائهم مسمومة، ولو أنّ حيوانًا عضّهم في هذه الحالة فإنّه يموت! وبعبارة أخرى: إنّ كامل وجود الإنسان قد سمّم، وصار سمًّا بنفسه، ولذلك فإنّ السمّ لا يؤثّر فيه، والأمر في الاستدراج هو من هذا القبيل.

  • يقول الإمام الكاظم عليه السلام في الختام: 

  • وكانَ اللهُ أُنسَهُ فى الوحشةِ، و صاحبَهُ فى الوحدَةِ، و غِناهُ فى العَيلَةِ، و مُعِزَّهُ مِن غيرِ عَشيرَةٍ.

    1. . سوره قلم (٦۸) آيه ٤٤.

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

10
  • وبناء على ذلك فإنّ الوصول إلى هذا المقام متوقّف على كيفيّة علاقات الإنسان، ولذلك على سالك طريق الله أن لا يقوم بما يقضي على آثار الذكر.

  • الاستدلال على حاجة الإنسان في كلّ المراتب إلى الذكر

  • الذكر هو عبارة عن تذكّر الله، وهومختلف في المظاهر والعبارات والأوراد المختلفة. وقد تحدّثنا في الجلسة السابقة أنّ على الإنسان أن يصل إلى الأسماء والصفات الكليّة للحق الله تعالى من خلال نفس تلك الأسماء والصفات الكليّة التي يتصرّف الله في الكون بواسطتها.

  • وستكون الأسماء والصفات الكليّة مختلفة بحسب المراتب، فبالنسبة إلى المبتدئ هناك معنى، وبالنسبة إلى السالك الذي قطع شوطًا هناك معنى آخر، وبالنسبة للإنسان الذي بلغ مرتبة أعلى هناك معنى مختلف. والعبور من كلّ مرتبة يوصل الإنسان إلى مرتبة أعلى من الأسماء الكليّة ولهذه الأسماء والصفات في كافّة المراتب حكم القوّة الرافعة التي تعدّ لوصول الإنسان إلى الدرجات الأعلى من التجرّد، وفي الوقت نفسه فإنّ خصوصيّات تلك المرتبة تظهر للإنسان وتتّضح، وبناء على ذلك فلن يكون السالك مستغنيًا في وقت من الأوقات عن الذكر.۱

  • وحيث إنّ ذات الله هي في مرتبة الإطلاق بواسطة التجرّد التامّ، وليس لها أيّ حدّ وقيد، فإنّ آثار ولوازم الذات التي هي نفس الأسماء والصفات الإلهيّة ليس لها حدّ ولا قيد.

  • فمن باب المثال، يمتلك هذا العبد القدرة على رفع إناء صغير، ولكنّي لا يمكنني بقدرتي المحدودة أن أرفع أكثر من وزن معيّن، ولكن ليس هناك أيّ حدّ وعجز في قدرة الله وسائر صفاته الأخرى من العلم والحياة والرحمة والعطف والقهر. وبالنظر إلى ذلك فهل يمكن أن نتصوّر أنّ مخلوق الله ولو كان النبيّ الأكرم يرى نفسه مستغنيًا في آن من الآنات عن الارتباط بالأسماء والصفات الإلهيّة؟

  • النبيّ الأكرم والأئمّة عليهم السلام مخلوقون لله، وما ورد في الروايات من أنّ الأئمّة مجرى فيض الله٢، لا يعني أنّهم مستغنون، بل يعني أنّ الإمام بنفسه القدسيّة والمباركة يحقّق الأسماء والصفات الإلهيّة في جميع العوالم. فالقدرة التي نحسّ بها في وجودنا فيتحدّث هذا العبد ويسمع الرفقاء هي بواسطة النفس المباركة لحضرة بقيّة الله أرواحنا فداه. فلولا الإمام سنكون نحن جميعًا عدمًا أيضًا، وسوف لن يكون لنا مثقال ذرّة من القدرة. 

    1. . طبعًا ليس هناك مجال للبحث في اختلاف الأذكار بعضها عن بعض والآثار الخاصّة لكلّ ذكر واسم من أسماء الله. 
    2. . راجع البرهان فى تفسير القرآن، ج ٤، ص ٦۸٣.

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

11
  • إنّ علومنا هي بواسطة الفيض الآتي من إمام الزمان عليه السلام إلى وجودنا، ولو أنّه غفل وأمسك ثانية واحدة، فلن يكون لنا أيّ علم في وجودنا، تمامًا كالشريط الذي إذا ضغطنا مفتاحًا ما فإنّ كافّة المعلومات الموجودة فيه ستحذف وسيغدو خاليًا تمامًا. أو كالذين يفقدون ذاكرتهم بسبب صدمة واضطراب ويغدون كأنّهم طفل مولود حديثًا، ليس في ذهنه أيّ شيء. 

  • إنّ حياتنا هي بواسطة عناية النفس المقدّسة لحضرة بقيّة الله عليه السلام، والذي يجري الفيض لكلّ واحد من الموجودات بشكل خاصّ، سواء كلّ واحد من أفراد الجنّ والإنس والملك وحتّى جنود الأبالسة، فأصل وجود وقدرة كافّة هذه المخلوقات هو من الإمام عليه السلام، وهذا معنى إشراف الولاية وإجراء الفيض الإلهيّ والأسماء والصفات الكليّة في القوالب المعيّنة.

  • وبما أنّ شخص الإمام عليه السلام هو أيضًا يستفيض من الأسماء الكليّة ويبقى العلم المطلق الإلهيّ دائمًا في مرحلة الإطلاق، فلا يمكن للإمام عليه السلام أبدًا أن يصل إلى حدّ علميّ يقول فيه: لقد انتهيت إلى نهاية علمك وشبعت، وأخذت كل ما هو موجود. لا بدّ من معرفة النبيّ والإمام بشكل صحيح وأن يحافظ لهم على مقام أنّهم مخلوقون. لقد كان النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله يقول إلى آخر عمره: 

  • ربِّ زِدني فيكَ تَحَيُّرًا۱. وزيادة التحيّر هي بسبب الواردات، لأنّه إذا وصل الإنسان إلى كافّة حدود مسألة ما وأحاط بها فلا معنى للتحيّر. ومعنى كلام النبيّ هو أنّه: يا ربّي، تقدّم بي دائمًا في التعرّف على علمك وقدرتك المطلقين، ولا تجعلني أتوقّف، فكلّما ازددت فيك علمًا ازددت فيك تحيّرًا وتعجّبًا.

  • لذلك كان النبيّ يقول هذا الذكر حتّى نهاية عمره، وليس النبيّ وحده، بل إمام الزمان عليه السلام كذلك هو في هذا الوقت وفي كلّ لحظة من لحظات حياته يقول: ربِّ زِدني فيكَ تَحَيُّرًا. ويطلب من الله المزيد من العلم والإفاضة.

  • والآن يصبح من الواضح معنى كلام الإمام الصادق عليه السلام حين يقول: 

  • «لي أورادٌ فى كُلِّ ساعةٍ مِن آناءِ اللّيلِ و النّهارِ، فلا تشغَلني عن وردي» . فالإمام الصادق عليه السلام لا يقصد من قوله لا إله إلا الله ما نقصده نحن، حتّى إنّه من المحال أن نتصوّر حقيقة التوحيد التي يطلبها من الله والحجب المختلفة التي تنكشف له الواحدة تلو الأخرى.

    1. . الفتوحات المكّيه، ج ۱، ص ٢۷۱ و ٢۷٢؛ ج ٢، ص ٥٤٥؛ فصوص الحكم، ص ۷٣؛ مرصاد العباد، ص ٣٢٦؛ شرح الأسماء الحسنى، ملّا هادى السبزواري، ص ٥٣٥.

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

12
  • فلأنّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، والإمام عليه السلام والأولياء يتمسّكون بالأسماء الكليّة المطلقة لله، ويستفيدون من لانهائيّتها، فقد كانوا حتّى نهايات أعمارهم دائمًا في حالة ذكر، ولم يكونوا يرون أنفسهم لحظة واحدة مستغنين عن الورد وذكر الله، أفهل يمكن أن يكون الإنسان مستغنيًا؟!

  • طبعًا لا شكّ أنّ الأوراد والأذكار ومراتب التوجّه مختلفة ويمكن أن يكون ورد وذكر خاصّ مختصًّا بمرتبة معيّنة، ولكنّ استغناء النفس عن الذكر هو عين الهبوط والتوقّف والورود في الجهل وإغلاق أبواب الرحمة في وجه الاستعدادات الوجوديّة والذاتيّة للإنسان. 

  • معنى قراءة القرآن وتفسير رواية اقرأ وارق

  • وقد جاء في وراية حول القرآن أنّه يقال للإنسان يوم القيامة: 

  • إقرأ وارقَ۱ وليس المراد من هذه الرواية حفظ ظاهر القرآن وألفاظه، حيث يمكن أن يُحفظ القرآن ويسجّل في المسجّل أيضًا، بل المراد هو أنّ كلّ إنسان إنّما يقترب من حقيقة القرآن بمقدار ما حقّق في وجوده من معانيه العالية الراقية.

  • فآيات القرآن الكريم تتمحور حول موضوعات مختلفة كالأحكام والأخلاق والتربية والتكامل، وعلى الإنسان أن يتأمّل أنّه إلى أيّ حدّ ومرتبة عمل بهذه الآيات والسور وحقّقها في وجوده. 

  • فمن باب المثال يجعل الله للمؤمنين في ختام سورة الفرقان أربع علامات منها هاتان الآيتان: 

  • {وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً* وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً}.٢ فکم عملنا نحن بهذه الآيات في الواقع؟! فنحن أمام الآخرين نظهر تواضعنا ونقول كذبًا: "لسنا شيئًا" ولکن لو أنّ أحدًا قال لنا ذلك بصراحة لا يمكننا أن نحتمل ونودّ لو نقطّعه إربًا إربًا. وأثناء البحث العلمي وبيان المطالب نتظاهر بالتواضع، ولكن لو أنّ أحدًا اعترض على ما طرحنا نتأذّى. فمن المعلوم إذًا أنّا نكذب وقولنا وعملنا نفاق ومجاز، ولا نعمل حتّى بالجانب الظاهر من هذه الآية، فضلاً عن مراتبها العالية.

  • لقد أنزل الله تعالى كافّة قصص القرآن أيضًا لأجل أن نعتبر أنا وأنت، والمراد من بيان قضايا النبيّ يوسف والمراتب التي حصلت له وليعقوب ليس مجرّد حكاية القصص. 

    1. . الكافى، ج ٢، ص ٦۰٦.
    2. . سوره فرقان( ٢٥) آيه ٦٣ و ٦٤.

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

13
  • فالنبيّ يوسف يقول في السجن للرجل الذي صار صاحبًا للسلطان وساقيًا له: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}؛۱ فإذا ذهبت إلى الملك فقل له: إنّهم ألقوني في السجن بريئًا.

  • فأنساه الله ذكر تلك الوصيّة بضع سنوات، في حين كان النبيّ يوسف يتوقّع الحريّة والفرج في كلّ يوم. فعلى صاحب الملك أن ينسى سبع سنوات لكي يتكامل يوسف، وعندما أدرك يوسف جيّدًا ونضج واكتمل تذكّر ذلك الرجل يوسف.

  • لم يكن الله ليترك النبيّ يوسف في السجن ثانية واحدة عبثًا، فكما أنّ عليه أن يبقى في السجن ما لم يصلح حاله، فكذلك إذا ما وصل إلى تلك المرتبة ينبغي أن لا يبقى في السجن ثانية واحدة.

  • ومن جهة أخرى فإنّ على النبيّ يعقوب أيضًا أن يحترق في فراق يوسف لسنوات لكي يصل إلى التكامل! فالله بحجر واحد يرمي آلاف آلاف الطيور، غاية الأمر أنّه لا يدرك ذلك إلا القلب الذي ليس غافلاً.

  • كان المرحوم العلامة الطهراني رضوان الله عليه يقول: 

  • "على السالك أن يلتفت بعينه وأذنه وبكلّ حواسّه إلى ظرائف الطريق وإشاراته واحدة واحدة. 

  • هو نفسه كان كذلك، في السفر الذي تشرّفت فيه بزيارة كربلاء في خدمته، كنّا نصغي نحن أيضًا إلى كلمات المرحوم السيّد الحدّاد، ولكن بعد ذهاب السيّد الحدّاد كنت شاهدًا أنّ المرحوم الوالد كان يستخرج من جيبه دفترًا صغيرًا ويكتب النقاط اللطيفة لأستاذه معبّرًا بـ: حضرة السيّد روحي فداه٢ وكان يكتب مطالب لم نكن نلتفت إليها، والآن ندرك کم هي عجيبة النكات التي فيها! لقد كان يقوم بذلك من كان له خمسون مريدًا، وكان مريدو السيّد الحدّاد تحت نظره أيضًا، تلك الشخصيّة التي كان حاكمًا عليها «إقرأ و ارقَ» في كافّة أوقاتها وحركاتها وسكناتها. 

  • أجل فبقدر ما نطبّق آيات القرآن تلك في وجودنا، فإنّ حقيقته أيضًا ستتحقّق فينا. وهذا العمل والتحقّق بحقيقته يؤدّي إلى إيجاد الاستعداد للترقّي إلى مرتبة أعلى من القرآن، أمّا عند عدم العمل بآيات الله فإنّها تغدو حجابًا تمنعنا من الحركة اللاحقة.

  • يسأل في يوم القيامة عن مقدار عمل الإنسان بمعنى القرآن، فلو أنّ أحدًا كالإمام عليه السلام عمل بكافّة مضامين القرآن، فقد وصل إلى البطون السبعين كلّها وإلى حقيقته المطلقة. وإذا ما قنع من العمل بأقلّ من مائة في المائة فإنّه يكون قد حصل على ذلك المقدار من حقيقة القرآن المطلقة. 

    1. . سوره يوسف( ۱٢) آيه ٤٢.
    2. . ولا یزال مقدار من هذه المنقولات موجودًا الآن في الموسوعة الخطيّة.*
      (*) راجع مطلع انوار، ج ٢، ص ۱۱٩- ۱۷٩.

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

14
  • في رواية عن ابن الكوّا يسأل فيها أمير المؤمنين حول مزايا بعض أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم (عبد الله من مسعود، أبي ذر، سلمان، حذيفة، عمّار) وهو يجيب، وقد قال الإمام حول عبد الله بن مسعود: 

  • «قَرَأَ القرآنَ ثمَّ وَقَفَ عندَه»‌۱ 

  • لقد كان ابن مسعود شيعيًّا وقارئًا للقرآن وكان ذا صوت حزين وجميل، وفي كثير من الأوقات كان رسول الله يناديه ويقول: «اقرأ عليّ» يا ابن مسعود القرآن! فكان يقرأ بصوت حزين، فينهمر الدمع من عيني النبيّ٢ ولکنّ حدّه وحظّه فقط كان في مستوى القراءة. 

  • ثمّ يسأل ابن الكوّاء في هذه الرواية عن سلمان ويقول أمير المؤمنين عليه السلام: 

  • «أدركَ علمَ الأوّلِ و الآخِرِ و هو بَحرٌ لا ينزَح٣»٤ 

  • ولهذا الاختلاف في الرتبة سبب، فعلى الإنسان أن لا يقوم بما يغلق نافذة الفيض والمعارف عنه، وعليه أن يطبّق الظروف التي تحدُث على ذكر الله. 

  • على هذا الأساس سواء المبتدئون أم السلاّك الذين هم في نهاية المسير وحتّى الإمام عليه السلام والنبيّ الأكرم الذي هو أشرف الكائنات وفخر عالم الوجود ومنبع الفيض ونقطة الواحديّة ومجرى الأسماء والصفات الكليّة، محتاجون إلى التوسّل بالأسماء والصفات الكليّة الإلهيّة؛ لذلك يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ: لقد أعطيتك البرنامج، وأخبرتك بالأمر، فلا تضع وقتي أكثر من هذا، فمهما قصّرت في الذكر فإنّي محروم من ذلك الفيض. 

  • فلو أنّ الإمام الصادق عليه السلام يفسح بالمجال للجميع، فإنّ الناس وبحجّة الحديث لبضع دقائق والشكوى أنّي خسرت في رأسمالي، وقد أخذت الريح سفينتي، وهدّ السيل داري، سيأخذون من وقت الإمام ساعات، لذلك يقول إنّي مشغول بالذكر وليس لي وقت ولا قوّة لاستماع هذه المسائل التي لا قيمة لها.

  • نعم لو أنّ الظروف كانت بنحو يشعر فيه الإمام عليه السلام بالتكليف، فإنّه بنفسه يجمع الأصحاب ويبيّن لهم الأحكام في المدينة، وكلامنا هو عندما لا يكون هناك ضرورة للتواصل. 

  • فعلى السالك أن يتعلّم من الإمام الصادق عليه السلام، فما دام الإمام رغم عبوره مقام {قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‌}٥ یقول ذلك لعنوان البصريّ، فالويل لنا إذ نقضي كامل أوقاتنا بالكلام ونقلِ هذا وذاك غير مبالين، وكأنّه لا آخرة ولا مراتب! ورغم أنّ السالك ينبغي أن يأخذ الدنيا بيسر وسهولة، ولكن لا يحسن أن يكون متراخيًا إلى هذا الحدّ، ولو تساهل في هذا الأمر فإنّ الحقيقة التي استبدلها بالمجاز مجّانًا لا يمكن أن تردّ. 

    1. . الأمالى (صدوق) ص ٢٥٢؛ روضة الواعظين، ج ٢، ص ٢۸۱؛ معرفة الإمام، ج ٤، ص ۱٥٤.
    2. . بحار الانوار، ج ۸٩، ص ٢۱٦.
    3. هو بحر واسع لا ينتهي ماؤه.
    4. . تفسير روض الجنان، ج ۱۰، ص ٢٥۰.
    5. . سورة النجم (٥٣) الآية ٩. الله‌شناسى، ج ۱، ص ٩۸: وصل إلى أقرب مقام متصوّر والذي هو بمقدار نصفي وتر قوس إلى رأس القوس (ذراعين) بل أقرب من ذلك.

الحفاظ على الذكر وحاجة الجميع إليه

15
  • اللهمّ صلّ على محمّد وآله محمّد.