المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالورد و الذكر
التوضيح
تبيّن هذه المحاضرة أنّ للذكر والاشتغال به بدلاً من الدنيا أربعة معان أو مراتب:
الأول: الاعتزال والرهبانيّة والتفرّغ للذكر وهو يتنافى مع شموليّة الإسلام.
الثاني: تقسيم الوقت بين العمل والعبادة، وهو داني المستوى ويستبعد عن كلام الإمام.
المعنى الثالث: ملاحظة رضا الله أثناء العمل.
الرابع: امتلاك ملكة الرؤية التوحيديّة ورؤية الله في البائع والمشتري وفي كلّ شيء.
ثمّ ختمت المحاضرة بمواعظ وأحاديث حول كيفيّة التعامل مع الدنيا والعمل فيها. كما بيّنت في الأثناء ضرورة تحقيق الأمن السياسيّ والاقتصادي والأخلاقيّ في المجتمع الإسلاميّ لتحقيق التكامل متعرّضة إلى فريضة الحجاب ودورها في تحقيق الأمن الأخلاقي، مناقشة المذهبين الديموقراطي والليبرالي.
هو العليم
معاني الذكر ومراتبه
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٢
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
لا تشغلني عن وردي!
قال الإمام الصادق عليه السلام في هذا الحديث لعنوان البصريّ:
"مَعَ ذلكَ لي أورادٌ في كُلِّ ساعَةٍ مِن آناءِ اللَيلِ والنَّهارِ، فَلا تَشغَلني عَن وِردي"
وقد تقدّم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال في خطبة له حول الآية الشريفة: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة}۱: وإنَّ لِلذِّكرِ لَأهلًا أخذوهُ مِنَ الدّنيا بَدَلًا، فَلَم تَشغَلهُم تِجارَةٌ و لا بَيعٌ عَنهُ.٢
معاني ومراتب الذكر وعدم الانشغال عنه بالدنيا
يمكن أن نتصوّر تباعًا كيف يمكن للإنسان أن ينشغل بالذكر بدلاً من الدنيا ضمن عدّة معان:
المعنى الأول: الاعتزال والرهبانيّة والتفرّغ للذكر
فالمعنى الأول هي أنّ المراد من الدنيا هو الاشتغال بالكسب والتجارة والانشغال بالمسائل الدنيويّة والماديّة؛ بمعنى أنّ أهل الذكر هم جماعة كالرهبان الذين هم في الأديرة والكنائس، همّهم الذكر، وليس لهم أيّ اهتمام بالمسائل الدنيويّة، فهذه الجماعة بدلاً من أن تمضي نحو الاكتساب تجلس في المنزل وتذكر الله، وبدلاً من أن تتزوّج تشتغل دائمًا بالعبادة متّخذة مسلك الرهبانية.
محاكمة المعنى الأول: منافٍ لشموليّة الإسلام
وهذا الطريق ليس ممدوحًا في الإسلام، لأنّه يتنافى مع شموليّة الإسلام، فالإسلام دين متكفّل بالسعادة الدنيويّة والأخرويّة للناس، وكون هذه المرتبة من الذكر ممدوحة سيتعارض مع الهدف الغائي للإسلام.
فالإسلام دين قد اهتمّ بالمسائل العباديّة وبالمسائل السیاسيّة للإنسان، وبعبارة أخرى الإسلام دين الكمال وليس فيه عبادة وسياسة، فنحن أصحاب تلك المقولة: "ديانتنا عين سياستنا، وسياستنا عين ديانتنا." أجل، فلو أردنا أن نفسّر كلام المرحوم المدرّس بأنّ مراده منه أنّ الإسلام دين الكمال وفي هذا الكمال يوجد كلّ شيء، فعندها يمكن أن نجد معنى صحيحًا لهذه الجملة.
كمال الإسلام هو بوجود جميع الظروف التي تبلغ كافّةُ الاستعدادات في ظلها إلى الكمال.
حاجة الإنسان إلى الأمن السياسيّ والاقتصادي والأخلاقيّ للوصول إلى الكمال
لا شكّ أنّ الإنسان يحتاج إلى الأمن لكي يصل إلى هدفه الغائيّ الكماليّ، فلو لم يكن في المدينة التي يعيش فيها السالك أمان فكيف يمكنه أن يعبد ويطوي الطريق إلى الله؟! ما دام يمكن أن يطرق اللصّ بابه وليس هناك من يمنعه، فكيف يمكنه أن يستيقظ في الليل من نومه ويصلّي صلاة الليل٣؟! فالأمان مفقود في المدينة التي يكون المسؤولون متواطئین فيها مع اللصوص، يقتلون إنسانًا وليس هناك من يحاكِم، يُغار على المنازل وليس هناك من يسأل، يؤذي الجار جاره وليس هناك من يمنع. جاء في رواية عن الإمام الباقر عليه السلام: قال أبو جعفر عليه السلام : "إنّ سمُرة بن جندب كان له عذق٤ في حائط٥ رجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاريّ فيه الطريق إلى الحائط، فكان يأتيه فيدخل عليه ولا يستأذن، فقال: إنّك تجيء وتدخل ونحن في حال نكرَه أن ترانا عليه، فإذا جئت فاستأذن حتّى نتحرّز، ثمّ نأذن لك وتدخل، قال: لا أفعل هو مالي أدخل عليه ولا أستأذن٦، فأتى الأنصاريُّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله فشكى إليه وأخبره، فبعث إلى سمرة فجاءه ، فقال له: استأذن عليه، فأبى وقال له مثل ما قال للأنصاري، فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وآله أن يشتري منه بالثمن، فأبى عليه وجعل يزيده فيأبى أن يبيع، فلما رأى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وآله قال له: لك عذق في الجنة، فأبى أن يقبل ذلك فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله الأنصاري أن يقلع النخلة فيلقيها إليه، وقال: لا ضرر ولا إضرار " .۷و۸
إنّ قاعدة لا ضرر ولا ضرار هذه هي قانون الإسلام، وتأمين الأمان لأجل الوصول إلى الكمال هو ضرورة للمجتمع الإسلاميّ. وهذا الأمان لا بدّ أن يكون في ظلّ القانون، ولا بدّ لهذا القانون أن يكون متكفّلاً بكافّة الجوانب الأمنيّة (السياسيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة).
الحجاب والأمن الأخلاقيّ
فلو أجاز الإسلام للنساء أن تخرج إلى الشوارع مكشوفة الرؤوس بشكل وقح، فإنّ الأمن الأخلاقيّ سيُهدّد بالخطر، وفي حالة كهذه لا يمكن للسالك أن يتكامل، وبناء على ذلك لن يتحقّق الهدف الغائيّ في مجتمع كهذا.
في النظام السابق كان وضع بلدنا بنحو يجعل الإنسان عاجزًا عن تحقيق ضمانات لنفسه وعائلته ف المسائل الأخلاقيّة ، أفهل تلك الحالة أفضل أم أن لا يرى الإنسان بحسب الظاهر على الأقلّ وقاحة وقبحًا؟! في ظلّ أيّ الظروف يمكن للإنسان أن يسير بنحو أفضل ويذكر الله وأن يكون له تركيز في صلاته؟! فمن ينعكس في ذهنه وخياله من الصباح حتّى المساء ألف مشهد كيف يمكن أن يستيقظ في منتصف الليل وينفي الخواطر؟!
لقد شاهدت في سفرتي الأخيرة إلى لبنان مناظر ومسائل تعجّبت منها كثيرًا، ولا يمكن مقارنتها بالسفرة التي كانت قبل سنة، وكان من الواضح أنّ يد الصهيونيّة والاستعمار تعمل في هذه المنطقة بشكل عجيب؛ فقد كانت المسائل بنحو لا تحتاج معه إلى تفكير، وكلّ إنسان يدرك أنّ هناك أمورًا أخرى توجد هذه القضايا.
عندما رأى عدد من الناس مظاهر الفساد هذه قد وصلت حتّى إلى مدينة مثل صور التي سكّانها من الشيعة، وأنّ هذا الأمر يهدّدهم، لم يجلسوا منتظترین وبدؤوا بالعمل بأنفسهم. فمثلاً رأينا في الشارع صورة قبيحة، وفي اليوم التالي حين مررنا كنّا نرى أنّها قد دهنت وغطّيت. فبعد أن مضت على ذلك مدّة ورأى الاستعمار أنّ هؤلاء الشباب يتمتّعون بالغيرة والحميّة ألغى ذلك من تلك المدينة.
فلماذا يقوم هؤلاء الشبّان بذلك؟ لأنّه في مثل تلك الظروف إذا خرجت زوجةُ رجلٍ أو ابنه أو ابنته من المنزل فلا يمكنه أن يحافظ عليهم أخلاقيًّا، ومن جهة أخرى لا يمكنه أن يمنعهم من الذهاب إلى كلّ الأماكن، فلو أنّ امرءًا بذل غاية جهده ليقتلع ما يوجب الفساد والانحراف الأخلاقيّ من منزله، فإنّه لا يمكنه أن يصلح المجتمع.
الحاجة إلى الأمن السياسيّ والاقتصادي
أمّا الأمن السياسيّ، فلو أنّ الدولة الإسلاميّة لم تكن ذات أمن سياسيّ لما بقي للإنسان أيّ هدوء في فكره.
ولو لم تكن ذات أمن اقتصاديّ وفي كلّ يوم ترتفع أسعار السلع ثمّ تنخفض، فإنّ على الناس أن يبذلوا كافّة قواهم الذهنيّة وقدراتهم واستعداداتهم على موضوع معيشتهم وسيفقدون بالتالي كلّ هدوئهم.
فأين موضع تلك الروايات التي تقول: على الإنسان أن يعمل من الصباح حتّى الظهر وأن يهتمّ بنفسه في بقيّة النهار۱ ؟! أين موضع تلك الروايات التي تقول: المؤمن والمسلم هو الذي إذا أمّن رزق يومه فلا ينبغي أن يفكّر بغده٢؟! هل الروايات التي وردت في كتب الحديث حول مسألة التجارة تتوافق مع مجمتع اليوم؟! هل قال النبيّ ذلك لنفسه؟!
لا أمن اقتصاديًّا في هذا العصر، فلو أراد تاجر أن يقوم بعمل فهو لا يعلم على أيّ حال سيكون في الغد، فيمكن أن يغيّر قانون وتفنى جميع أمواله.
وبصورة عامّة، إذا أراد إنسان أن يبلغ باستعداداته التي أودعها الله فيه إلى الفعليّة، فلا بدّ أن تكون ظروف المجتمع الذي هو فيه معينة ومساعدة له. فلو أنّ تلك الظروف كانت على النقيض من استعداداته فلا يمكن أن يصل إلى هدفه.
ومن هنا فعلى الحكومة الإسلاميّة أن تهيئ الأمن وسائر الظروف والقوانين المرتبطة بالحكومة العادلة من أجل الذين يريدون أن يصلوا إلى الكمال. إن كان الوصول إلى الكمال والفعليّة حقًّا فطريًّا ومسلّمًا للإنسان، فلا بدّ أن تُهيّأ كافّة الظروف لهذا الإنسان، ولو قال ملايين الناس: نحن لا نريد تلك الظروف.
المذهبان الديموقراطيّ والليبرالي يبيحان حرمان الناس من حقهم في الكمال
وهنا تثار علامات الاستفهام حول مسألة الديموقراطيّة (التي هي في نظر أكثر الناس أمر جيّد) ومسألة الليبراليّة (التي هي بمعنى الحريّة وحركة الناس على أساس الرغبات التي لا حدّ لها).
واللطيف هو أنّ الليبراليّين أنفسهم لا يعلمون ما هو معنى الليبراليّة التي يريدونها، فإن كان مرادهم هو الحركة بغير حدود ولو تعارضت رغبات الفرد مع رغبات الآخرين فحينها حتّى رغبة الليبراليّين أنفسهم في مجتمع من المجتمعات تستدعي اقتلاع ذلك الفرد؛ لأنّه كما أنّه هو يريد الوصول إلى رغباته فإنّ الآخر أيضًا يريد ذلك، ويتعارض الاثنان، ولذلك فإنّ مجرّد تقديم هذا الطرح يؤدّي إلى نفي صاحبه وانعدامه.
أمّا لو كان المراد هو تحقّق الرغبات الشخصيّة ضمن حدود عدم التعارض مع الآخرين، فإنّ سؤالنا لهذه المدرسة هو: ما هو التعريف الممكن لعدم التعارض مع إرادة الآخرين؟ إن كان المراد هو توفّر الأمن في الجوانب الثلاثة التي تحدّثنا عنها، فهذا هو الإسلام. وإن كان المراد هو أن يتمكّن الفرد من الخروج إلى المجتمع بالطريقة التي يريدها هو، فهذه المسألة تتنافى مع مصالح الآخرين الذين يريدون أن تصل استعداداتهم إلى كمالها وفعليّتها.
فمن باب المثال، لو أنّ فردًا أراد أن يسير في الشارع ويغمض عينيه، فإنّ رأسه سيصطدم بحجر وسيقع في الحفرة، ولو فتحهما فسيقع نظره على منظر قبيح وقح يؤثّر على نفسه ويمنع من وصوله إلى الكمال، وهنا تصل هذه المدرسة إلى طريق مسدود، ولأنّ الوصول إلى الكمال حقّ طبيعيّ لكلّ فرد من أفراد المجتمع، فلا حلّ إلا بأن توافق هذه المدرسة بين نفسها وبين الإسلام.
فلو لم يرد إنسان أن يصل إلى الكمال، فلا سلطة لأحد عليه، ولكن ألا يفرض العقل والفطرة توفير تلك الظروف لمن يريد أن يصل إلى الكمال؟! إنّ الحقّ الطبيعيّ للفرد في مجلس من المجالس هو أن يتنفّس بمقدار وجوده من فضاء ذلك المجلس، فلو أنّ إنسانًا أخذ يشرب السجائر بشکل متواصل، فهذا العمل يتعارض مع إرادة الآخرين المنطقيّة، وهو عمل خاطئ من منظار العقل والمنطق. فلو أنّ هذا الإنسان شرب السجائر في فضاء الصحراء المفتوح حتّى مات، فليس لأحد عليه مأخذ؛ ولكنّه لو أراد أن يكون بين الجماعة، فليس له حقّ التصرّف بأكثر من مقدار تنفّس إنسان واحد، وفي غير ذلك سيكون مؤاخذًا.
ولو أراد إنسان أن يمارس الرياضة في مكان عامّ، فلأنّ الرياضة تصرف طاقة كبيرة وتتطلّب الكثير من التنفّس، فلا بدّ أن يغادر هذا المكان الذي هو للجميع على السواء، إلى مكان آخر مفتوح.
إنّ الوصول إلى الكمال والعلم هو حقّ طبيعيّ للإنسان الذي يريد أن يكون عالمًا، فلو لم يتمكّن ابنٌ لعائلة فقيرة من الالتحاق بالمؤسّسات العلميّة، فعلى الدولة أن تهيّئ له ذلك، لا أن يختصّ الوصول إلى هذه المراتب بعدد من الأثرياء.
والدفاع عن كيان الإسلام هو حقّ ملزم لجميع أفراد المجتمع على حسب مراتب أولويّتهم. فلو أراد إنسان أن یشتری هذا الحقّ بالمال فهو مؤاخذ. فلو أراد إنسان أن يشتري حقّه في الخدمة الإجباريّة بالمال ويقول: الجنديّة للفقراء، فإنّه مؤاخذ في الإسلام وعند العقل.
وهذه المسألة دقيقة جدًّا، فلا بدّ في الإسلام أن يكون كلّ شيء في موضعه المناسب، والإسلام دين مطابق للعقل، فلو عثرتم على أدقّ القوانين العقليّة لا الوهميّة والخياليّة، فيمكنكم أن تقولوا هذا ما قاله الإسلام ثمّ تحملوا عليه حكم الإسلام، بغير إمضائي وإمضاء أمثالي. إن كان أصغر التجاوزات مرفوضًا من قبل العقل فإنّ الإسلام يردّه أيضًا.
المعنى الثاني: تقسيم الوقت بين العمل والعبادة
المعنى الثاني من كلام أمير المؤمنين عليه السلام: فلم تشغلهم عنه تجارة ولا بيع عنه. هو أنّ أهل الذكر قد رسموا لأنفسهم محورين:
المحور الأوّل: الاشتغال بشؤون الدنيا.
المحور الثاني: الاشتغال بالمسائل العباديّة.
هذه الجماعة تفتح متاجرها عند الصباح على وضوء وبذكر الله لأجل طلب الرزق الحلال والمعيشة المحلّلة، أمّا عند الظهر والغروب فإنّها تصلّي في أوّل الوقت ثمّ تمضي إلى منازلها، فهذا العمل لا يؤدّي بهم إلى الحرمان من ذكر الله، ويراعي حقّ كلٍّ من هذين الأمرين.
محاكمة المعنى الثاني: داني المستوى ويستبعد عن كلام الإمام
ورغم أنّ هذا المعنى صحيح، ولكنّه أُولى مراتب العمل للمسلم. فهل يتوقّع أن يكون الإنسان في وقت الظهر مشغولاً بالتجارة ويمضي أول وقته، ويصلّي صلاتي الظهر والعصر قبل غروب الشمس بدقيقتين؟! هذه المرتبة هي أقلّ مراتب رؤية الإنسان ومراتب الإخلاص والعبادة، ومن البعيد أن يكون كلام الإمام ناظرًا إليها.
فمثلاً هناك من يقول تعليقًا على هذه الفقرة من حديث عنوان البصريّ التي يقول فيها:
ما ملأ آدميّ وعاءًا شرًّا من بطنه۱، فإن كان ولا بدّ فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه.٢ هناك من يقول: "نحن بناء على هذه الرواية نأكل ونملأ الثلث الذي للطعام هذا. وبدلاً من الثلثين الآخرين الذين هما للشراب والهواء نأكل أيضًا؛ لأنّ الماء يفتح في النهاية طريقًا لنفسه، وأمّا النَفَس فكما يحبّ، إن شاء فليأت وإلاّ فلا! [فهل هذا الكلام مقبول؟!]
فالحاصل أنّ المسلم ينبغي أن لا يقضي كلّ أوقاته من الصباح حتّى المساء في سبيل المعيشة. بناء على ذلك، فإنّ معنى كهذا من البعيد أن يراد من عبارة الإمام: "فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه"
المعنى الثالث: ملاحظة رضا الله أثناء العمل
المعنى الثالث الذي هو أعلى من المرتبتين السابقتين هو أنّ هذه الجماعة هم رجال يراقبون الله في الأحداث، وغرضهم من السعي وراء المال هو أن يصرفوه في كمالهم، فعندما يبيعون سلعة للمشتري يلاحظون رضا الله، لا الهوى والشهوة والمنافع الماديّة والادّخار، وعندما يفتحون المتجر فإنّ هدفهم هو أن يساعدوا فقيرًا ويرفعوا حوائج الناس وأن ينتفع الناس الذين يقصدونهم، وليس غرضهم فقط أن يصلوا إلى المال. وبعبارة أخرى فإنّ أهل الذكر في تجارتهم وبيعهم يلاحظون الله أولاً وينظّمون حياتهم ويرتّبونها على أساس هذا الهدف.
المعنى الرابع: امتلاك ملكة الرؤية التوحيديّة ورؤية الله في البائع والمشتري وفي كلّ شيء
المعنى الرابع وبقرينة {وإنّ للذكر لأهلاً}، يبدو بنظري القاصر أنّه يمكن أن يكون مراد الإمام من عبارة "فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه" أنّ أهل الذكر أناس ليست وجهتهم هي الظاهر ولا الباطن، بل لا يرون تجارة ولا بيعًا، وإنّما يرون الله فحسب. هذا المعنى الأعلى والأكمل من المعاني السابقة، هو معنى نفهمه من هذه العبارة ولا نقول إنّه هو المراد منها على سبيل القطع.۱
فإذا صارت رؤية الإنسان توحيديّة فإنّه يرى البائع والمشتري واحدًا، تمامًا كما لو أخذت مالاً من أحد جيوبك ووضعته في جيب آخر فلا ينقص من مالك شيء. في المعاملة التي يكون البائع فيها والمشتري "هو"، والآخذ والمعطي فيها "هو"، ویکون "هو" المنقص والزائد، فلن يكون هناك حينها مكان للربح والخسارة.
إنّ أفرادًا كهؤلاء يرون كلّ شيء واحدًا لا تشغلهم تجارة ولابيع.
بناء على ذلك فإنّ ما نفهمه من كلام أمير المؤمنين ومن آية {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله} هو أنّ هؤلاء لا يتصوّر في حقّهم اللهو أصلاً، وقد بلغوا مرحلة لو أرادوا فيها اللهو لما استطاعوا.
أمثلة على عدم إمكان مخالفة الملكة والوجدان
يقول أحد الأصدقاء وكان يعمل قبطانًا لطائرة من طراز ۷٤۷ والتي تحمل ٥۰۰ راكبًا: "في يوم من الأيّام ذهبنا برفقة عدد من سائقي الطائرات الباكستانيّين إلى كراتشي، وكان القبطان الذي يقود الطائرة يومها باكستنيًّا، وكانت الطائرة من طراز ۷٤۷ ذات ال ٥۰۰ راكب، وحين الهبوط هبط القبطان بشكل جعل الطائرة وكأنّها تهوي من ارتفاع مائتي متر على الأرض فتمزّقت كلّ عجلاتها.
كان أحد سائقي الطائرات الموجودين في الرحلة يقول: يا فلان أنا حتّى لو قصدتُ لما استطعت الهبوط بهذا النحو أصلاً، لا أقدر على فعل كهذا."
لقد عمل هذا الرجل وفق قواعد الملاحة ونطامها حتّى صارت ملكة لديه، فلم يعد بإمكانه أن يهبط بالطائرة على خلاف هذه القواعد. وأهل الذكر الذين بلغوا هذه المرتبة لا يمكنهم أن يروا غير الله شاؤوا أم أبَوا ، فالإنسان الذي يرى كل الأموال لله يحصل على حصانة قانونيّة فلا يمكن بعد ذلك أن يبلغ إلى ذهنه ومخيّلته الضرر والخسارة، لذلك يقول في هذه الآية {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله}۱ لقد صار تفكيرهم بنحو يجعلهم حتّى لو أرادوا لما ألهتهم التجارة والبيع.
وقد كانت لي على مدى سنوات مباحثة مع المرحوم العلامة حول مسألة توحيديّة، واللطيف هو أنّه أحيانًا كان بنفسه يشرع بالحديث بدون مقدّمة حول تلك المسألة التي تحدّثنا معًا حولها قبل أربعة أشهر ولم نصل إلى نتيجة٢. وقبل وفاته بثلاثة أشهر وفي عطلة الربيع عندما كنت متشّرفًا بزيارة مشهد زرته في غرفته، كنّا جالسين حول "الكرسيّ" ٣ وربّما كان يعلم أنّا لن نراه مرّة أخرى بعد ذلك اليوم، لذلك قال فجأة: يا سيّد محسن! الأمر في المسألة التي كنّا نتحدّث حولها هو كما تقولون أنتم ولكن بهذا النحو (وبيّن خصوصيّة أخرى).
قلت: سيّدي ما دام لا يمكن أن أتصوّر غير ذلك فماذا أصنع؟
قال: نعم هو كذلك صحيح.
عندما يرى الإنسان مسألة ما فلا يمكنه أن يبدّل ذهنه، فما دمت أرى أمامي هذا الإبريق فمهما قلتم إنّه تخيّل لا يمكنني أن أردّ ما أرى.
دع الدنيا لأهلها
فربّما كان مراد أمير المؤمنين عليه السلام من كلامه حيث يقول: "وإنّ للذكر لأهلاً أخذوه من الدنيا بدلاً" هو أنّ هؤلاء الأهل الخواصّ والعدد اليسير هم أناس أخذوا الذكر بدلاً من الدنيا، وبدلاً من الخوض في مسائل الدنيا (المقايضة، النزاع مع الآخرين، التخطيط للإيقاع بالآخرين، الترفّع والترؤّس على الآخرين، والإطاحة بالآخرين والقضاء عليهم) اعتزلوا ما حولهم وتركوا الدنيا لأهلها.
كان المرحوم القاضي في البرنامج الذي أعطاه لأصدقائه في الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان يقول: ما لنا وللدنيا قد غرّتنا وشغلتنا واستهوتنا وليست لنا؟!
ما لنا وللدنيا؟! لقد غرّتنا وأسقطتنا إلى الأسفل وحطّتنا عن مقامنا وعزّتنا۱، والدنيا أدنى من أن تكون هدفًا لنا، فاتركوها لأهلها.
في يوم من الأيّام وفي جلسة من بضعة أفراد قال لنا المرحوم العلاّمة: "لا تفكّروا بالدنيا! فسواء فكّرتم بها أم لم تفكّروا فهناك عدد من الناس سيأتون ويديرونها، فاذهبوا وفكّروا بالآخرة فإنّها لا زبائن لها."
أنا أعدكم أنّكم إذا تركتم الدنيا لأهلها، ولم تأخذوا هذه الرئاسة والوزارة والنيابة والإدارة، فإنّ هناك عددًا من الناس يأتون ويأخذونها ويتولّونها، فلا تحزنوا على رئاسة هذا البلد، فأنتم ترون في دورة انتخابيّة واحدة كم ينشر من الصور وتلصق على الجدران.
يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: "الدنيا جيفة وطالبها كلاب." ٢
بالطبع إذا كان هناك إنسان واقعًا يمتلك رؤية إلهيّة ويعمل على قضاء حوائج الناس وإقرار العدالة والحكومة فالأمر مختلف.
بناء على ذلك فعلينا نحن أن نبحث عن أمور أخرى لا يبحث عنها أحد، علينا أن نفكّر في الوقت الذي سنموت فيه، ويتركنا جميع الناس ويقيمون علينا مجالس العزاء ليومين، فهناك علينا أن نجيب ولن نجد جوابًا، وهناك عقبات الواحدة تلو الأخرى.
شرح حديث النبيّ اعمل للدنيا بقدر مقامك فيها
يقول الشيخ العارف الشبليّ البغداديّ رحمة الله عليه: لقد خدمت أربعمائة أستاذ وقرأت أربعة آلاف حديث، ثمّ اخترت منها حديثًا واحدًا وكان علم الأولين والآخرين مندرجًا فيه، وذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قال لبعض أصحابه أصحابه (اعمل لدنيا بقدر مقامك فيها، واعمل لآخرتك بقدر بقائک فیها، واعمل لله بقدر حاجتك إليه، واعمل للنار بقدر صبرك عليها).٣
ففي الفقرة الأولى يقول: اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها.
فانظر هل الأعمال التي تقوم بها تعادل بقيمتها مقدار ما تبقى في الدنيا؟!
وفي الفقرة الثانية يقول: واعمل لآخرتك بقدر بقائک فیها.
فالإنسان يبقى في الدنيا ما يقارب الستين عامًا وفي الآخرة لا إلى نهاية، ومع ذلك فقد جعلنا كامل هدفنا هو الدنيا التي هي تحت الصفر لا إلى نهاية، وغفلنا بشكل كامل عن الآخرة التي لا نهاية لها ولا نوليها اعتبارًا.
ويقول الإمام المجتبى عليه السلام لجنادة: : استعدّ لسفرك قبل حلول أجلك... واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدًا. ۱ فالإنسان الذي يعلم أنّه يبقى دائمًا في هذه الدنيا لا يحزن على الأعمال التي تفوته ويقول: إن لم أقم بها اليوم فسأقوم بها غدًا.
لو أنّ الإنسان فكّر في أنّه سيموت غدًا، حينها لا يسمح أن يؤجّل لثانية واحدة فعل الخير الذي يجب أن يقوم به بل يغتنم تلك الثانية، فالسلاّك والأعاظم اغتنموا هذه اللحظة الواحدة وعلموا أنّ هذه الفرصة الذاهبة لا عوض عنها:
صوفي ابن الوقت باشد اى رفيق | *** | نيست فردا گفتن از شرط طريق ٢ |
وترجمته: الصوفيّ ابن الوقت يا رفيق | *** | وما قول "غدًا" من أدب الطريق |
تقدّم في الجلسة السابقة أن لا تتصوّروا أنّ هذه الفرصة التي قدّمها الله للإنسان هي بغير فائدة، فالله تعالى جعل مقابل كلّ ثانية من البقاء في الدنيا حصّة وجوديّة خاصّة، فإذا ما ذهبت هذه الحصّة الوجوديّة فلن يعوّض عنها شيء، والحصّة الوجوديّة للحظة التالية متعلّقة باللحظة التالية، وغدًا مرتبط بغد.
لا تتصوّروا إن عملتم في الغد عمل خير أنّكم تعوّضون بذلك عن عمل اليوم الذي قبله، ففي يوم القيامة يقولون: أنت لم تقم بهذا العمل الخيّر في يوم الجمعة، والأثر الذي تراه الآن هو من يوم السبت، أمّا سجلّ يوم الجمعة فهو خال.
حينها يحترق الإنسان من داخله أن ها قد قضيت الأيّام والساعات، فقد كان بإمكاني يوم الجمعة أن أفعل هذا الخير المعيّن، ولم أفعله وهذه الحصّة الوجوديّة قد انتهت!
هل فكّرنا يومًا أنّ هذا العمر هو أكبر نعمة أنعم الله بها علينا في هذه الدنيا ولا بديل عنها أبدًا؟! لا تتصوّروا إن فارقتم الدنيا في الستين من أعماركم وكان بإمكانكم بهذا المقدار أن تقوموا بعمل ولم تقوموا به أنّكم ستقومون به في البرزخ، فهذه الفرصة لا ترجع بعد ذلك. ولذا يقول الإمام المجتبى عليه السلام: واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدًا.
سوء ظنّ العلامة الطهراني في عمره
لقد قال المرحوم الوالد مرارًا: "لقد كنت ظنّينًا في عمري. "
ومعنى هذا الكلام هو أنّي كنت أسيء الظنّ في [نظري إلى] عمري وكنت دائمًا أفكّر أنّي ربّما أموت بعد عشر دقائق، فلو أنّ إنسانًا كان في هكذا موقع واقتلع التسويف من ذهنه بالكامل وأحسّ دائمًا أنّه في آخر الوقت فحينها لن يسمح لأيّ عمل أن يفوته.
ويقول في الفقرة الثالثة:
واعمل لله بقدر حاجتك إليه
كم نشعر نحن بالحاجة إلى الله؟ ففي مقابل تلك الجملة التي تقول: "تلك الذرة التي لا تحسب هي نحن"، ينبغي أن يقال: "من لا يحسب له حساب هو الله!" لو أنّا نكتب أعمالنا على ورقة منذ أن تشرق الشمس في الصباح وحتّى الغروب ونحسب حينها سنلتفت كم نحتاج إلى الله وكم نحتاج إلى الخلق!
وأمّا في الفقرة الرابعة فيقول: "واعمل للنار بقدر صبرك عليها."
"الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا"۱ ، فكأنّا قد أوتينا مواد مخدّرة فلم نعد ندرك شيئًا ونقوم بكلّ ما يحلو لنا، لو كنّا على وعينا لشعرنا بإحراق العمل والذي هو إحراق البعد عن الحقّ والظلمة والكدورة.
مهمّا ضُربَ المخدَّر بالإبر وأدخلوا فيه السكّين فإنّه لا يشعر، فإذا رجع إلى وعيه يجد جسمه ممزّقًا وملوّثًا بالدم، فلا يستطيع أن يحتمل من شدّة الألم فيغيب عن الوعي من جديد. عندما كانت الإبرة والمبضع تدخلان في بدنه كان مخدّرًا ولم يكن له حسّ ولا إدراك ولا بصيرة وفكرة وتعقّل، لم يكن يرى سوى محور واحد، ومهما قالوا له: هذه الأمور حقّ كان يطئطئ رأسه ولم يلتفت حتّى ارتفع النداء أنّ السيّد قد مات. ٢
أجل هذه هي حقيقة الدنيا وحقيقة الذكر، يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: وإنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها ولا تعرضوا عنها. ۱
في هذه الدنيا نفحات كهذه إن لم نتعرّض لها تمضي ولا تعود بعد ذلك، فلو حصلت بعد ذلك نفحةأخرى فهي خاصّة بوقتها وهذه الحصّة قد مضت.
يك چشم زدن غافل از آن شاه مباشیم | *** | شاید که نگاهی کند آگاه نباشیم |
لا نغفلنّ طرفة عين عن ذاك المَلِك *** فلربّما نظر إلينا ونحن غافلون فلنكن يقظين
إن شاء الله يوفّقنا الله جميعًا للطاعة والعبوديّة والتسليم والرؤية والبصيرة والتخلّي عن الذات والارتباط به، ويجعلنا تحت مقام الولاية العظمى والمطلقة لإمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف ويحفظنا من أيّ انحراف. وأن لا يبعدنا عن أهل البيت والأولياء ولا يحرمنا في الدنيا زيارتهم وفي الآخرة شفاعتهم.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.