المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
مجموعة من البحوث التفسيريّة، والفلسفيّة، والروائيّة، والتأريخيّة والاجتماعيّة في الإمامة والولاية بشكل عامّ، وفي إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين بشكل خاصّ ؛ وذلك في هيئة دروس استدلاليّة علميّة متّخذة من القرآن الكريم والروايات الواردة عن الخاصّة والعامّة، وأبحاث حليّة ونقديّة عن الولاية .
وتضمّ هذه المجموعة 270 درساً في ثمانية عشر مجلداً. وقد جري فيها مناقشة وبحث مطالب من قبيل: العصمة، الولاية التكوينيّة، لزوم الإمام الحيّ، لزوم متابعة الأعلم، ضرورة وجود الإمام للمجتمع، معنى الولاية، شرح حجّة الوداع، شرح واقعة غدير خمّ، حديث الولاية، حديث المنزلة، شرائط القيادة، علم الغيب و...
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الدَّرْسُ السَّادِسُ وَ السِّتُّونَ بَعْدَ المِائَةِ إلَى السَّبْعِينَ بَعْدَ المِائَةِ: حَوْلَ العُلُومِ الغَيْبِيَّةِ لأمِيرِ المُؤمِنيِنَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
اختصاص الله تعالى بعلم الغيب و إظهار الرسل عليه
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً.۱
يخبرنا صدر الآية أنّ الله تعالى وحده عالم الغيب، بل عالم بجميع أنواع الغيب. و خاصّة أنّه جعل الاسم الظاهر الغيب مكان الضمير، فلم يقل: فَلَا يُظْهِرُ عَلَيْهِ، بل قال: فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ. و هذا المعنى ملحوظ في الآية المذكورة. ثمّ قال: إنّه يُطْلع على غيبه كلّ من ارتضاه من أنبيائه و رسله إلى خلقه، و يمكّنه من عالم الغيب و يرفع الحجاب عن بصره. فهو تعالى يلهمه من غيبه شيئاً.
و عند ما يرفع الله عنهم الحجاب و يظهر رسله على الغيب، فإنّه يجعل عليهم فريقين من الرصد و المراقبين:
الأوّل: فريق من الملائكة يجعلهم بين أيديهم بعد الوقوف على
الغيب كي لا توسوس لهم الشياطين في أداء تلك المهمّة و إبلاغ ذلك العلم للناس، و لا تكدّر ذلك العلم الصافي الخالص بالهواجس النفسانيّة و الأهواء الشيطانيّة.
الثاني: فريق من الرصد المحافظين يجعلهم بين مصدر الوحي و التنزيل و بينهم من خلفهم قبل الوقوف على الغيب ليظلّ الوحي مصوناً من تدخّل مخلوقات العالم العلويّ خلال سيره النزوليّ في عوالمه إلى أن يصل إلى قلب الرسول. و يتكوّن هذا الفريق من ملائكة هم شركاء في إنزال الوحي و سيره في مراتبه و درجاته حتى يُبَلّغ به الرسول.
أنّ الهدف من جميع هذا المراقبات و المراقبين هو أن يتحقّق إبلاغ رسالات اولئك الرسل بنحو صائب صحيح، إذ إنّ من الواضح أنّ قوله: لِيَعْلَمَ أن قَدْ أبْلَغُوا يُشعِر بعلم الله الفعليّ لا علمه الذاتيّ. و العلم الفعليّ هو نفس تحقّق الامور الخارجيّة، و عين الواقعيّة و الحقيقة في الخارج، و ليس منفصلًا عن نفس التحقّق الخارجيّ، لأنّ علم الله بالموجودات ليس حصوليّاً، بل حضوريّاً محضاً. و معنى العلم الحضوريّ هو وجود المعلوم و تحقّقه عند العالم به. و على هذا، فمعنى لِيَعْلَمَ: لِيَتَحقَّقَ. أي: أنّ حضور هذين الفريقين من الملائكة أمام الرسل و خلفهم هو للاطمئنان على تحقّق إبلاغهم، إذ يبلّغون الناس ما يتلقّونه من الوحي.۱
إن هذا الاسلوب من الإرسال يشبه اسلوب السلاطين و الحكّام في
بعث الرسائل إلى ممثّليهم و رسلهم كي يبلّغونها الناس. فهم أوّلًا: يحافظون على رسالتهم بواسطة عدد من الحرّاس حتى تصل إلى ذوي العلاقة. و ثانياً: يجعلون الحرّاس في هذا المسير لأداء هذه المهمّة كي لا تمتدّ إليها يد التغيير و التبديل بعد وصولها، و قبل إبلاغها للناس.
و حيث ينبغي في القسم الأوّل، أعني: إرسال الله علم الغيب إلى رسله، أن لا يظهر فيه أي تصرّف و تبدّل، و كذلك الأمر في القسم الثاني المتجسّد في إبلاغ الناس علم الرسل، إذ يجب أن لا يطرأ عليه أي تغيير أيضاً. فإنّ هذا يتوقّف أوّلًا: على تلقّي الرسول الوحي و الغيب كما هو على حقيقته. ثانياً: على حفظه جيّداً بعد التلقّي الصحيح. ثالثاً: تبليغه الناس بلا زيادة و لا نقصان بعد التلقّي الصحيح و الحفظ الجيّد. و لا بدّ من توفّر هذه المراحل الثلاث من العصمة في الرسل. هذا في المرحلة الأماميّة، أو بتعبير القرآن الكريم: مِن بيْنِ يَدَيْهِ، مضافاً إلى العصمة السابقة و مرحلة الخلف، أو بتعبير القرآن: مِنْ خَلْفِهِ.
يضاف إلى ذلك، أنّ الآية تخبرنا أنّ الله قد أحصى كلّ شيء من صغير و كبير، و مُلكيّ و ملكوتيّ، و مادّيّ و معنويّ، و طبعيّ و طبيعيّ و مثاليّ. و هو عليم بمقدار ذرّاتها و هويّتها. و هو خبير مطّلع على ما عند الرسل من الامور النفسيّة و الاعتقاديّة، و المنهاج و السنّة، و المعارف اليقينيّة و العلوم الغيبيّة، و ما عند المرسَل إليهم -الناس- من قابليّات و إمكانيّات، و مواقع اجتماعيّة، و استعدادات، أنّه خبير مطّلع على ذلك كلّه. و على هذا الأساس جعل وجودهم مرضيّاً عنده، و أظهرهم على عوالم غيبه بمقدار رضاه عنهم. و ينبغي التذكير هنا بعدّة من امور:
الأوّل: أنّ جميع العلوم -و منها علم الغيب- مقصورة على الله تعالى و لا سبيل لأحد إليها، بالاستقلال و الأصالة. و أنّ كافّة العلوم التي تفضّل بها
الله علی غیره إفاضة منه جلّ شأنه. و أن لکلّ کائن من الکائنات بحسب مستواه علماً معيّناً، لكنّه بالتبعيّة و بإفاضة الله و إعطائه. و حينئذٍ لا منافاة و لا تضارب بين الآيات الكريمة التي تحصر علم الغيب بالله كالآية:
وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.۱
و الآية: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ.٢
و الآية: وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.٣ و بين الآية الكريمة، مطلع البحث، التي ترى أنّ الرسل يعلمون الغيب، و تفتح لهم الطريق إلى الغيب.
و قد ورد مثل هذا الاستقلال و التبعيّة، إمّا ذاتيّ و عرضيّ، أو أصليّ و ظلّيّ، كثيراً في القرآن الكريم كالآية: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ٤ الدالّة على الحصر، مع الآية: حتى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا.٥ و كالآية: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً،٦ مع الآية: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ.۷
و هذه الآية تجعل العزّة لرسول الله و للمؤمنين، مضافاً إلى الله تعالى.
و على ضوء ذلك، نجد أنّ علم الغيب أمر ضروريّ و حتميّ لرسل الله، و لا يغاير اختصاصه تعالى به.
الثاني: نلحظ في كثير من الآيات القرآنيّة أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله ينفي علمه بالغيب كما نقرأ في الآية: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ۱
و الآية: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.٢
و الآية: قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ.٣
هذه الآيات كلّها و ما يماثلها تخبرنا أنّ رسول الله ينفي علمه بالغيب استقلالًا لا تبعيّةً. أي: أنّ العلم للّه وحده، و أنا لم آت به مستقلًّا من عندي كما لم يمنحنيه الله تفويضاً. أنا مرآة و آية من علم الله. و علمه الاستقلاليّ تقدّس ذكره ينحصر فيه، و يتجلّى في أنا المرآة، و لذلك لا أعلم الغيب، بل لا أعلم شيئاً. فجميع علومي من الله، و تجلّت في بالمقدار الذي أراده، و في الزمان الذي شاءه. و إذا ما انطوى زمانه، فهو يعود إليه. فالمصدر هو نفسه، و المبدأ هو عينه، و المنتهى هو ذاته. و على هذا فإنّي لا أملك علماً
من عندي، كما لا أملك قدرة، و لا نفعاً، و لا ضرّاً، و لا موتاً، و لا حياة، و لا نشوراً. فكلّ هذه الصفات للّه وحده لا يشاركه فيها أحد، و مرجعها إلى الله. و العارية في هذه الحياة تُعطَى كعارية، ثمّ تعود إلى أصلها.
جاء في سورة الأعراف: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ.۱
و ورد في سورة يونس: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ.٢
معرفة الأنبياء علم الغيب الإلهيّ
الثالث: لمّا كان عموم الآية موضع بحثنا المذكورة في مطلع الكلام: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، قد تخصّصت في الرسل المرضيّين عند الله، و قد استُثنى هؤلاء الرسل من مفاد قوله: فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ بأداة الاستثناء إلَّا في قوله: إلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ، فلا مانع حينئذٍ من تخصيص سائر الأنبياء الذين هم أنبياء فحسب، و ليسوا رسلًا. و نرى في هذه الحالة أنّ الله -وفقاً للآيات القرآنيّة- أوحي إلى الأنبياء الذين هم في قبال الرسل، و أطلعهم على الغيب: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ.٣
و من الطبيعيّ أنّ هذا يتحقّق عند ما يتخصّص لفظ الرسول في قوله: مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ بالأنبياء المرسلين، و إلّا لو كان أعمّ منهم و من الأنبياء غير المرسلين، فلا حاجة إلى الاستثناء و إلى تخصيص آخر، و قوله: إلَّا مَنِ ارْتَضَى وحده يخرج جميع الأنبياء و المرسلين من قوله:
لَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ، و يذيق الجميع حلاوة علم الغيب.
و أمّا الإمام بالمعنى الذي استعمله القرآن الكريم للفظ الإمام، فإنّنا نرى من جهة أنّ الله يصف الأئمّة بالصبر و اليقين: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ.۱
و من جهة اخرى يجعل انكشاف غطاء الغيب و رؤية ملكوت السماوات و الأرض مقدّمة لبلوغ مقام اليقين: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ. (ليقرّ بوحدانيّة الله و صفاته، و يسلّم لربّ العالمين، و ينظر إلى آزر و قومه الذين يعبدون الأصنام و هم في غيّهم و ضلالهم.) وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.٢
و يؤكّد أيضاً في سورة التكاثر أنّ رؤية الجحيم و مشاهدة ملكوت جهنّم يلازمان علم اليقين، و لذلك فإنّ شروط علم اليقين كشف حجاب الغيب، و طيّ بساط الاعتبار و الكثرة، و الدخول في عالم التوحيد و وحدة ذات الحقّ. كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ.٣
و على هذا، فقد اجتاز جميع الأئمّة و سالكي سبيل معرفة الذات الأحديّة المتأسّين بهم مراحل عالم المادّة و الطبع، و قطعوا شوطاً في المنهاج القويم و الصراط المستقيم لتزكية النفس، فكان كشف الحجب الظلمانيّة و النورانيّة أمراً ضروريّاً لهم، و تحقّق لهم معنى و مفهوم قوله تعالى: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.٤ و تيسّر لهم ما عسر أو
استحال على الناس العاديّين.
الرابع: انّ المراد من الغيب في هذه الآية الكريمة هو الغيب المخفيّ الذي لا تدركه حواسّنا الظاهرة على البسيطة في هذه الحياة الدنيا، و إن كان لا يخفى على البعض الآخر الذين يدركونه بحواسّهم. مثلًا وقائع الغد غيب لنا و لكنّها شهود لمن يأتون في غضون الغد. و الإخبار عن الأشياء المشاهدة في الخارج غيب للأعمى و الأصمّ، بَيْدَ أنّه شهود للبصير و السميع.
و أنّ ما تشهده الملائكة و تعلمه في العوالم العِلْويّة غيب للساكنين في نشأة الطبيعة، إذ ينبغي أن يلاحَظَ المشهود و الغيب على أساس الظروف و النشآت التي تنال حظّها من البحث. و أنّ عالم القيامة و ما يجري على الأموات غيب على ضوء النصّ القرآنيّ، و عدّ القرآن الإيمان بالمعاد إيماناً بالغيب، مع أنّ ما يجري على الأموات من حوادث هو عين الشهود: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ.۱
الخامس: أنّ جميع الكائنات في ضوء الاصول الاعتقاديّة للإسلام و منطق القرآن هي أسماء الحقّ جلّ و علا و صفاته. و أنّ الخلقة -بمعنى إيجاد الشيء- غير منفصلة عن نطاق الذات الأحديّة و اسمها و صفتها و فعلها، و هي تعني ظهور الذات المنزّهة الظاهرة الجليّة و تجلّيها و آيتها و دلالتها. و كلّ كائن يوجد و يرتدي خلعة الوجود اسم من أسمائه تعالى. فهو الحيّ من حيث الوجود و الحياة، و هو القادر من حيث قدرة الحقّ بالحجم الذي يتّسم فيه بالقدرة. و هو العالم من حيث علم الحقّ بالقدر الذي
يستوعبه من العلم، و هكذا بالنسبة إلى سائر أسماء الباري تعالى شأنه العزيز و صفاته. فهو يكون تحت الأسماء الكثيرة و يطلق عليه السميع، و البصير، و الحكيم، و المريد، و المختار، و غيرها.
علم الإمام و الرسول عين علم ذات الحقّ
لذلك، فإنّ علم الأشخاص بالغيب الإلهيّ بإذنه تعالى لا يعني أنّهم أنفسهم صاروا عالمين بالغيب في مقابل ذات الحقّ، فيكون ذلك مغايراً للتوحيد، بل يعني أنّه عين علمه الذي ظهر فيهم حقيقةً. و هذا هو عين التوحيد. و أنّ الله لا يعطي الغير مستقلًّا مثقال حبّة من خردل من علمه اللامتناهي، و لا يمكن أن يعطيه، لأنّ هذا العطاء يستلزم نقصان علمه اللامتناهي، بل نقصان ذاته، تعالى اللهُ عَنْ ذَلِكَ. أمّا العطاء غير المستقل، فلا ينافي التوحيد، بل هو التوحيد نفسه.
إن العطاء غير المستقلّ يعني الظهور و التجليّ و الإشعاع و التألّق كالشمس التي تبسط نورها و أشعّتها في العالم، و تنشر ضوءها في كلّ مكان و على كلّ كائن اعتباراً من الذرّة حتى الدُّرّة، و من البسيطة إلى الأفلاك و المجرّات. و كلٌّ يأخذ منها النور و الحرارة فينشأ و ينمو بمقدار سعته و حجم ما يستوعبه وجوده، بَيْدَ أنّ النور لا ينفصل عن الشمس، كما أنّها لا تظلّ مشعّة إلى الأبد على الموجودات و الكائنات التي تعطيها ضوءها. فما دامت الشمس في كبد السماء، فإنّها تضيء الأشياء، و لا تهب الأشياء النور، بل لها إشعاع ذو طابع إعاريّ مؤقّت. و إذا ما حان الليل، و غاب منبع النور تحت الافق، فإنّه يأخذ معه التألّق و النور و الظهور، و يترك الأشياء خالية من نوره.
و ما ضرّ هذه الشمس التي لا تفصل النور عن نفسها، و لا ينقص نورها في نطاق ذاتها و فعلها أنّ تمنح النور بمقدار ذرّة، أو تمنحه فيشمل جميع عوالم الطبيعة و الفضاء غير المرئيّ و الكواكب التي لا حدّ و لا حصر
لها؟ فالشمس ليست بخيلة، و هي تمنح الجميع نورها، و تلقي شعاعها، و تبسطه بكلّ سخاء. بَيْدَ أنّ كلّ شيء من الأشياء يأخذ نصيبه منها حسب استعداده، فالذرّة تنال حظّها بمقدار صغرها، و هكذا بقيّة الأشياء كالجبل، و الصحراء، و السهل، و البحر، و المحيط، و الفضاء الواسع، فكلّ واحد من هذه الأشياء يأخذ نصيبه بما يتمتّع به من استيعاب، و قابليّة، و استعداد.
و يجري علم الله جلّ شأنه على هذا النسق. فالكائنات مرايا و أوعية لتجلّي علم ذاته و تألّقه. و هو تعالى غير ضنين أن يمنّ على الآخرين بعلومه في طابع الظهور و اللمعان، سواء كان شعوريّاً، بأن يمنّ بها على ذبابة، أم علميّاً بأن يمنّ بها على الناس العاديّين، و الجنّ، و الملائكة، و الحيوانات، أم علميّاً أيضاً فيفيض بها من خزانته الخاصّة على الإمام و الرسول. و إذا ما أطلع اولئك على علم الغيب، و غيب الغيب، و السرّ، و السرّ المستور، و السرّ المستسرّ، و الخزائن المخفيّة التي لا تصل إليها يد البشر و الملائكة، فهو أمر اعتياديّ، و لا ينقص من كبريائه و عظمته حتى بمقدار سمّ الخياط، بل إنّ ذلك هو عين كبريائه و عظمته و جماله المطلق، إذ يجعل كائناً من الكائنات في عوالم الإمكان مرآة لظهور جميع صفاته.
الإمام مرآة، و آية، و اسم. غاية الأمر أنّه مرآة تامّة لظهور صفات الباري، و من مفردات هذه المرآة التامّة علم الباري. وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ.۱
السادس: أنّ جميع الكائنات في عالم الطبيعة سواء كانت جماداً أم حيواناً أم إنساناً تتّصف بالوحدة على الرغم من الاختلاف الملحوظ بين
أفرادها. و بغضّ النظر عن خصوصيّات الزمان و المكان و سائر العوارض و الأعراض المؤدّية إلى تميّزها و تفرّدها و تحقّقها الخارجيّ، فإنّ ذلك الأمر الوحدانيّ موجود. و أنّ كافّة هؤلاء الأشخاص المختلفين يوجدون، و ينمون و يقطعون الطريق في مسير تكاملهم بواسطة ذلك الأمر الوحدانيّ المشترك بين الجميع.
و ذلك الأمر الوحدانيّ المنبعث من عالم الأمر و الملكوت هو الذي عبّر عنه الشرع المقدّس بمَلَك التدبير، و عبّرت عنه الفلسفة بالمُثُلِ الأفلَاطُونِيَّةِ. و برهن عليه المرحوم الملّا صدرا الشيرازيّ أعلى الله مقامه الشريف في أسفاره الأربعة، و ذكرناه نحن أيضاً في المجلس السابع عشر الوارد في الجزء الثالث من كتاب «معرفة المعاد» الصادر ضمن سلسلة دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة، و أثبتنا هناك أنّ العلوم التي يظفر بها البشر -في ضوء النظريّة الإسلاميّة- إنّما تتحقّق بواسطة ملائكة العلم. و كلّ من كان له علم، فهو يُفاض عليه عبر مَلَكِ العلم، حتى يبلغ العلم الكلّيّ للحقّ تعالى الذي يُمنَح بواسطة جبرائيل و الروح.
و كلّ إنسان يزيد علمه، يخضع لملك أقوى و أعلى حتى يبلغ درجة يُوكَّل فيها جبرائيل على علومه، و الأعلى من ذلك أنّ الروح الأمين، و مقامه واحد، و درجته أعلى من درجة جميع الملائكة المقرّبين يمسك زمام اموره. و أنّ الرسل و الأئمّة الذين يعلمون الغيب يزوَّدُونَ من قبل جبرائيل الأمين، و بعضهم يُزَوَّدُ من قبل الروح الأمين.
السابع: انّ الاستثناء الوارد في الآية التي هي مثار بحثنا: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يشمل كافّة الأقسام الخاصّة بتبليغ رسالة الرسول. أي: أنّ الله يربط قلب رسوله المرضيّ عنده بالغيب في كلّ ما يتوقّف عليه إبلاغ رسالته، سواء كان ذلك متن رسالته، كالمعارف الاعتقاديّة و الشريعة
و الأحكام و القصص و الاعتبارات و المواعظ و الحكم، أم كان من آيات رسالته و أشراطها، أم من المعجزات الدالّة على صدقه.
كما نقرأ في القرآن الكريم أنّ الله تعالى يصف الكلام الغيبيّ الذي قاله نبيّه صالح لقومه بقوله: فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ.۱
و نقرأ كلام عيسى ابن مريم على نبيّنا و آله و عليهما الصلاة و السلام الذي قاله لليهود و بني إسرائيل: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ.٢ (لا يعلم أحد بما تأكلون و ما تدّخرون غيركم).
و ما ورد في القرآن الكريم من مواعيد الأنبياء بالملاحم و الإخبار بالغيب، و قد وقع ذلك كلّه، كوعيد نوح بحدوث الطوفان، و إنذار هود، و شعيب، و لوط بوقوع العذاب.
إخبار رسول الله صلى الله عليه و آله بالغيب على لسان القرآن
و نقرأ في سورة الروم معجزة من معجزات رسول الله، و هي إخباره بانهزام الفُرس على يد الروم: الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ.
... ۱
و عن «الخرائج و الجرائح» للقطب الراونديّ روى محمّد بن الفضل الهاشميّ، عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه نظر إلى ابن هذّاب فقال: إن أنا أخبرتك أنّك ستُبتلى في هذه الأيّام بدم ذي رحم لك، لكنت مصدّقاً لي؟ قال: لا، فإنّ الغيب لا يعلمه إلّا الله تعالى. قال الإمام: أ وَ ليس أنّه يقول: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ. فرسول الله صلى الله عليه و آله عند الله مرتضى. و نحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه. فعلمنا ما كان و يكون إلى يوم القيامة.۱
و الأخبار الواردة في هذا الموضوع تفوق حدّ الإحصاء. و مفادها و مدلولها أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله أخذ علم الغيب بوحي من ربّه، و أنّ الأئمّة الطاهرين عليهم السلام أخذوه بالوراثة منه صلى الله عليه و آله. و أنّ العلوم الغيبيّة المأثورة عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و الواردة في كتب الأحاديث، و التواريخ، و التفاسير. و السِّيَر، و السنن، و التي اعترف بها الخاصّة و العامّة، و عدّوها من المسلّمات اليقينيّة كثيرة. و لمّا كانت هذه كلّها تفوق العدّ، نكتفي فيما يأتي بمختصر منها:
ذكر في «مروج الذهب» في وقائع سنة ۱۸٣ ه: حجّ هارون الرشيد في هذه السنة، و هي آخر حجّة حجّها. و لمّا انصرف منها، و اجتاز بالكوفة، قال أبو بكر بن عيّاش -و كان من علية أهل العلم-: لا يعود إلى هذا الطريق، و لا خليفة من بني العبّاس بعده أبداً.
فقيل له: أضرب من الغيب؟ قال: نعم. قيل: بوحي؟! قال: نعم. قيل: إليك؟ قال: لا، إلى محمّد صلى الله عليه و آله. و كذلك أخبر عنه أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام المقتول في هذا الموضع و أشار إلى الموضع الذي قتل فيه على عليه السلام بالكوفة.۱
إن صاحب كتاب «مروج الذهب» هو عليّ بن الحسين المسعوديّ المتوفّى سنة ٣٤٦ ه-. صنّف كتابه المذكور في حدود سنة ٣۰۰ ه. أي: ثلاثمائة و خمسون سنة قبل انقراض الدولة العبّاسيّة على يد هولاكو، و قتل المستعصم بالله الذي كان آخر حاكم عبّاسيّ. و ذكر أبو بكر بن عيّاش هذا الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام سنة ۱۸٢ ه، في أواخر القرن الثاني الهجريّ. أي ٤٦۸ سنة قبل تقويض حكومتهم و العجيب هنا أنّه خلال هذه
المدّة التي تناهز خمسة قرون لم يذهب حاكم عبّاسيّ إلى حجّ بيت الله الحرام.
الكلام الغيبيّ الذي قاله أمير المؤمنين عليه السلام لخولة الحنفيّة
و روى القطب الراونديّ في كتاب «الخرائج و الجرائح» عن دِعبل الخُزاعيّ، قال: حدّثنا الرضا عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام، قال: كنتُ عند أبي الباقر عليه السلام إذ دخل عليه جماعة من الشيعة و فيهم جابر بن يزيد فقالوا: هل رضي أبوك عليّ بن أبي طالب بإمامة الأوّل و الثاني؟ قال: اللهمّ لا. قالوا: فلم نكح من سبيهم خولة الحنفيّة إذا لم يرض بإمامتهم؟
فقال [الإمام] الباقر عليه السلام: امض يا جابر بن يزيد إلى منزل جابر بن عبد الله الأنصاريّ فقل له: إنّ محمّد بن عليّ يدعوك. قال جابر بن يزيد: فأتيتُ منزله و طرقت عليه الباب. فناداني جابر بن عبد الله من داخل الدار: اصبر يا جابر بن يزيد. فقلتُ في نفسي: من أين علم جابر بن عبد الله أنّي جابر بن يزيد، و لا يعرف الدلائل إلّا الأئمّة من آل محمّد صلى الله عليه و آله؟ و الله لأسألنّه إذا خرج إليّ. فلمّا خرج قلتُ له: من أين علمتَ أنّي جابر بن يزيد، و أنا على الباب، و أنت داخل الدار؟!
قال: أخبرني مولاي الباقر عليه السلام البارحة أنّك تُسأل عن الحنفيّة في هذا اليوم، و أنا أبعثه إليك يا جابر بكرة غدٍ و أدعوك. فقلتُ: صدقتَ.
قال [جابر بن عبد الله]: سر بنا. فسرنا جمعياً حتى أتينا المسجد. فلمّا بصر مولاي الباقر عليه السلام بنا و نظر إلينا، قال للجماعة: قوموا إلى الشيخ فاسألوه، حتى ينبّئكم بما سمع و رأى.
فقالوا: يا جابر! هل راضٍ إمامك عليّ بن أبي طالب بإمامة من تقدّم؟ قال: اللهمّ لا. قالوا: فلم نكح من سبيّهم خولة الحنفيّة إذا لم يرض
بإمامتهم؟
قال جابر: آه آه! لقد ظننتُ أنّي أموت و لا اسأل عن هذا، فالآن إذ سألتموني، فاسمعوا و عوا. حضرتُ السبيّ و قد ادخلت الحنفيّة فيمن أدخل، فلمّا نظرتْ إلى جميع الناس، عدلتْ إلى تربة رسول الله صلى الله عليه و آله، فرنّت و زفرت و أعلنتْ بالبكاء و النحيب، ثمّ نادت: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَ عَلَى أهْلِ بَيْتِكَ مِنْ بَعْدِكَ! امَّتَكَ سَبَتْنَا سَبيَ النَّوبِ وَ الدَّيْلَمِ، وَ اللهِ مَا كَانَ لَنَا إلَيْهِمْ مِنْ ذَنْبٍ إلَّا المَيْلُ إلَى أهْلِ بَيْتِكَ فحُوِّلَتِ الحَسَنَةُ سَيِّئَةً، وَ السَّيِّئَةُ حَسَنَةً، فَسُبِينَا. ثمّ التفتت إلى الناس، و قالت: لِمَ سبيتمونا و قد أقررنا بشهادة أن لا إله إلّا الله و أنّ محمّداً رسول الله؟ قال أبو بكر: منعتم الزكاة!
قالت: هب الرجال منعوكم، فما بال النسوان؟ فسكت المتكلّم كأنّما القم حجراً. ثمّ ذهب إليها خالد [بن غسّان] و طلحة يرميان في التزويج إليها، و رميا عليها ثوبيهما. فقالت: لستُ بعريانة فتكسونني. قيل: إنّهما يريدان أن يتزايدا عليكِ، فأيّهما زاد على صاحبه، أخذك من السبي.
قالت: هيهات! لا يكون هذا أبداً و لا يملكني و لا يكون لي ببعلٍ إلّا من يخبرني بالكلام الذي قلته ساعة خرجتُ من بطن امّي! فسكت الناس و نظر بعضهم إلى بعض، و ورد عليهم من ذلك الكلام ما أبهر عقولهم، و أخرس ألسنتهم، و بقي القوم في دهشة من أمرها. فقال أبو بكر: ما لكم ينظر بعضكم إلى بعض؟ قال الزبير: لقولها الذي سمعت.
فقال أبو بكر: ما هذا الأمر الذي أحصر أفهامكم. إنّها جارية من سادات قومها و لم يكن لها عادة بما لقيت و رأت، فلا شكّ أنّها داخَلها الفزع و تقول ما لا تحصيل له.
قالت: رميتَ بكلامك غير مرميّ! و الله ما داخلني فزع و لا جزع،
و و الله ما قلتُ إلّا حقّاً، و ما نطقتُ إلّا فصلًا. و لا بدّ أن يكون كذلك و حقّ صاحب هذه البنيّة، ما كذبت. ثمّ سكتت.
و أخذ خالد [بن غسّان] و طلحة ثوبيهما. و هي قد جلست ناحية من القوم فدخل عليّ بن أبي طالب عليه السلام [المسجد] فذكروا له حالها، فقال: عليه السلام: هي صادقة فيما قالت. و كان من حالها و قصّتها كيت و كيت في حال ولادتها. و قال: إنّ كلّ ما تكلّمت به في حال خروجها من بطن امّها هو كذا و كذا. و كلّ ذلك مكتوب على لوح معها. فرمت باللوح إليهم لمّا سمعت كلامه عليه السلام. فقرأوا ذلك على ما حكى عليّ بن أبي طالب عليه السلام، لا يزيد حرفاً و لا ينقص.
فقال أبو بكر [للإمام]: خُذها يا أبا الحسن. بارك الله لك فيها.
فوثب سلمان، فقال: و الله، ما لأحد هاهنا منّةٌ على أمير المؤمنين عليه السلام، بل للّه المنّة و لرسوله و لأمير المؤمنين. و الله ما أخذها [عليّ عليه السلام] إلّا لمعجزه الباهر، و علمه القاهر، و فضله الذي يعجز عنه كلّ ذي فضل.
ثمّ قام بعده المقداد فقال: ما بال أقوام قد أوضح الله لهم الطريق للهداية فتركوه، و أخذوا طريق العمى؟ و ما من قوم إلّا و تبيّن لهم فيه دلائل أمير المؤمنين [عليه السلام]!
و قال أبو ذرّ: وا عجباً لمن يعاند الحقّ! و ما من وقت إلّا و ينظر إلى بيانه. أيّها الناس، قد تبيّن لكم فضل أهل الفضل، ثمّ قال: يا فلان! أ تمنّ على أهل الحقّ بحقّهم. و هم بما في يديك أحقّ و أولى؟!
و قال عمّار: اناشدكم الله! أ ما سلّمنا على أمير المؤمنين هذا عليّ بن أبي طالب عليه السلام في حياة رسول الله بإمرة المؤمنين؟
فزجره عمر عن الكلام، فقام أبو بكر؛ فبعث عليّ عليه السلام خولة
إلى بيت أسماء بنت عميس، و قال: خذي هذه المرأة و أكرمي مثواها. فلم تزل خولة عندها إلى أن قدم أخوها، فتزوّجها عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فكان الدليل على علم أمير المؤمنين و فساد ما يورده القوم من قولهم أنّ الإمام تزوّج بها من طريق السبي. فالإمام عليه السلام تزوّج بها نكاحاً لا استرقاقاً و سبياً.
فقالت الجماعة لجابر: أنقذك الله من حرّ النار كما أنقذتنا من حرارة الشكّ.۱
و رواها السيّد هاشم البحرانيّ مفصّلًا في «مدينة المعاجز» عن كتاب «سِيَر الصحابة» بسنده المتّصل عن الباقر عليه السلام.٢
كما رواها ابن شهرآشوب في مناقبه، باب إخباره بالفتن و الملاحم، مرسلًا عن الإمام الباقر عليه السلام. و ورد فيها أنّ خالداً و طلحة لمّا طرحا عليها ثوبين، قالت: يا أيّها الناس! لستُ بعريانة فتكسوني، و لا سائلة فتتصدّقون عَلَيّ فقال الزبير: إنّهما يريدانك.
فقالت: لا يكون لي بعل إلّا من خبّرني بالكلام الذي قلته ساعة خرجت من بطن امّي. فجاء أمير المؤمنين عليه السلام و ناداها: يا خولة! اسمعي الكلام وعي الخطاب! لمّا كانت امّك حاملة بك و ضربها الطلق و اشتدّ بها الأمر، نادت: اللهمّ سلّمني من هذا المولود سالماً! فسبقت الدعوة لك بالنجاة. فلمّا وضعتك، ناديتِ من تحتها: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّداً
رَسُولُ اللهِ. يا امّاه! لم تدعين عَلَيّ و عمّا قليل سيملكني سيّد يكون لي منه ولد.
فكتبتْ امّك ذلك الكلام في لوح نحاس، فدفنته في الموضع الذي سقطتِ فيه. فلمّا كانت في الليلة التي تغيّبت امّك فيها (قبضت روحها- خ ل)، أوصت إليك بذلك. فلمّا كان وقت سبيك، لم تكن لكِ همّة إلّا أخذ ذلك اللوح، فأخذتيه و شددتيه على عضدك! هاتي اللوح فأنا صاحب اللوح! و أنا أمير المؤمنين، و أنا أبو ذلك الغلام الميمون و اسمه محمّد- إلى آخر الرواية، و فيها: فلم تزل عندها (أي عند أسماء) إلى أن قدم أخوها فَتَزَوَّجَهَا مِنْهُ وَ أمْهَرَهَا أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ تَزَوَّجَهَا نِكَاحَاً.۱
و قال ابن شهرآشوب هنا و هو ينقل هذا الخبر و سائر الأخبار الغيبيّة لأمير المؤمنين عليه السلام: و هذه كلّها أخبار بالغيب أفضى إليه النبيّ صلى الله عليه و آله ممّا أطلعه الله عزّ و علا عليه، كما قال الله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً. و لم يشحّ النبيّ صلى الله عليه و آله على وصيّه بذلك كما قال تعالى: وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ٢ و لا ضنّ عليّ عليه السلام على الأئمّة من ولده عليهم السلام. و أيضاً لا يجوز أن يخبر بمثل هذا إلّا من أقامه رسول الله صلى الله عليه و آله مقامه من بعده.٣
و لمّا كان الجدّ الأعلى لخولة حَنَفِيَّة بن لجيم، قيل لها: خولة الحنفيّة. و قيل لابنها محمّد: ابن الحنفيّة تميّزاً له عن سائر أولاد أمير المؤمنين عليه السلام و خاصّة الحسنين عليهما السلام. و إذا استثنينا الحسنين عليهما السلام، فهو أشجع أولاد الإمام و أعلمهم و أزهدهم. و كان لواء أبيه بيده يوم الجمل و صفّين.
و ذكر ابن خَلَّكان نسب امّه خولة كالآتي: خولة بنت جعفر بن قَيْس ابن مَسْلَمَة بن عبد الله بن تغلِبَة بن يَرْبُوع بن تَغْلِبَةِ بن الدُّؤل بن الحَنفِيَّة بن لجيم. و قال ابن أبي الحديد بعد هذا السرد: ابن صَعْب بن عليّ بن بكر ابن وائل.۱ و اسرت خولة في حروب الردّة أيّام أبي بكر، و سيقت إلى المدينة. و عرفنا ما جرى لها.
من الجدير ذكره أنّ حروب الردّة التي وقعت في عهد أبي بكر كانت على ضربين: الأوّل: حروب الردّة الحقيقيّة عن الإسلام، كحرب مسيلمة الكذّاب، و الأسود العنسيّ الكذّاب و طُليحة، و غيرهم. و الثاني: حروب قامت بسبب عدم انقياد أصحابها لخلافة أبي بكر.
واقع الضرب الأوّل من تلك الحروب أنّ أصحابها كانوا لا يقيمون الصلاة، و لا يؤذّنون، و لا يطبّقون سائر شعائر الدين. أمّا واقع الضرب الثاني منها فهي أنّ أصحابها كانوا يؤذّنون و يقيمون و يؤدّون الصلاة، بَيدَ أنّهم امتنعوا عن دفع الزكاة إلى الحاكم آنذاك، و كانوا يقولون: إنّ النبيّ نصب وصيّاً له، و نحن ندفع زكاتنا إلى وصيّه. و ما لم يقبل الوصيّ منّا ذلك، فإنّا لا ندفعها إلى صندوق الخليفة المزيّف المفروض. و كانت حرب
خالد بن الوليد مع قبيلة بني يربوع، و هم الحنفيّة الذين ينتمي إليهم مالك ابن نُوَيْرَة من هذا الضرب. علماً أنّ خولة الحنفيّة اسرت في هذه الحرب.
قدم مالك بن نُوَيْرة المدينة أيّام رسول الله صلى الله عليه و آله و تشرّف بالإسلام بين يديه، و طلب من رسول الله أن يوصيه. فأوصاه بأمير المؤمنين عليه السلام. و هو نفسه سمع من رسول الله إمامة أمير المؤمنين و وصايته و خلافته. و كان -من جهة اخرى- رئيس قبيلته، و شاعراً منيعاً رفيع الهمّة.
و لمّا توفّى رسول الله صلى الله عليه و آله، جاء إلى المدينة مع جماعة من بني تميم و رأى أبا بكر على منبر رسول الله، فقال له: مَنْ أرْقَاكَ هَذَا المِنْبَرَ وَ قَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَلِيَّاً وَصِيَّهُ وَ أمَرَنِي بِمُوالاتِهِ؟
فأمر أبو بكر بإخراجه من المسجد. فأخرجه قُنفُذ بن عمير، و خالد ابن الوليد. و عاد إلى قبيلته و نصح قومه الذين كانوا يريدون الامتناع عن دفع الزكاة و قال: إنّا مسلمون و قد اعتنقنا هذا الدين فتربّصوا بزكاتكم حتى نوصلها إلى وصيّ محمّد صلى الله عليه و آله.
قتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة و زناه بزوجته
فوجّه إليه أبو بكر خالد بن الوليد و قال له: أنت تعلم ما قال لنا مالك أخيراً؟ و لستُ آمن أن يفتق علينا فتقاً لا يلتئم، فاقتله.
قدم خالد البطاح فلم يجد من خالفه و قال له جنوده: رأينا هؤلاء القوم يؤذّنون و يقيمون الصلاة. و ممّن شهد على ذلك عند خالد بن الوليد أبو قُتادة الحارث بن رِبعي حليف بن سلمة، قال: أنا رأيت و سمعت صلاتهم و أذانهم. فلم يسمع كلامه. فلمّا جنّ الليل و آمنهم خالد و طلب منهم أن يضعوا أسلحتهم لأنّهم مسلمون! و ضعوا أسلحتهم على الأرض فضرب خالد أعناقهم، و كان مع مالك بن نويرة عدد من بني ثعلبة بن
يربوع، و فيهم عاصم، و عبيد، و عَرين، و جعفر. و جعل رؤوسهم أثافي لقدورهم طبخوا عليها طعامهم. و في تلك الليلة تزوّج خالد بزوجة مالك، و هي امّ تميم بنت المنهال، و كان قد رآها و فتن بجمالها. و قيل: إنّها كانت من أجمل نساء عصرها. و قال لها مالك عند قتله: أنتِ قتلتيني بعرض نفسك!
و قال أبو قتادة لخالد: قتلت مسلماً بريئاً و نزوت على امرأته في تلك الليلة، و الله لا أسير تحت لواء خالد في جيش أبداً. و ركب فرسه شادّاً إلى أبي بكر، فقدم المدينة و أخبر أبا بكر بالقصّة، فلم يقبل قوله.
و كان عمر صاحب مالك بن نويرة و حليفه في الجاهليّة فغضب لما فعل خالد، و مضى إلى أبي بكر و حرّضه على قتل خالد و رجمه، لأنّه قتل مسلماً و زنى بزوجته. فقال أبو بكر: هِيهِ يَا عُمَرُ! تَأوَّلَ وَ أخْطَأ، فَارْفَعْ لِسَانَكَ عَنْ خَالِدٍ. فقال عمر: إن لم تقتله، فاعزله من إمارة الجيش! فقال أبو بكر: لَا، يَا عُمَرُ! لَمْ أكُنْ لأشِيمَ سَيْفَاً سَلَّمهُ اللهُ عَلَى الكَافِرِينَ.
و لمّا رجع خالد، دخل المسجد و عليه قباء غشاه صدأ الحديد و قد غرز في عمامته أسهماً، فقام إليه عمر فانتزعها، فحطّمها و قال له: أ رِيَاءٌ؟ قَتَلْتَ امْرِءَاً مُسْلِماً ثُمَّ نَزَوْتَ عَلَى امْرَأتِهِ! وَ اللهِ لأرْجُمَنَّكَ بِأحْجَارِكَ. و خالد لا يكلّمه، يظنّ أنّ رأى أبي بكر مثله. و دخل على أبي بكر، فعذره أبو بكر و تجاوز عنه. و لمّا خرج خالد من عنده، التفت إلى عمر و قال: هَلُمَّ إلَيّ يَا بْنَ امَّ شَمْلَةَ. يُعرّض بذلك بعمر.
و جملة القول أنّ أبا بكر أعطى دية مالك بن نويرة من بيت المال. و يرى أصحابنا رضوان الله عليهم أنّ هذه الحادثة من مطاعن أبي بكر. و قدحوا فيها من عدّة جهات. منها: لو فرضنا أنّ مالكاً وجب قتله بمنع الزكاة، فلا ريب في إسلام النساء و الذراري. و ليس ارتداد الرجال بمنعهم
الزكاة موجباً لكفر النساء و الذراري. وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى.۱ و لو فرضنا أنّ أبا بكر عذر خالداً لقتله مالكاً، فما عذر خالد في سبي النساء و الذراري؟ و ما عذر المدافع عنه أبي بكر؟ هل يجوز غصب الفروج، و الزنا بامرأة مسلمة، و نهب أموال القوم؟
فلهذا مضافاً إلى أنّ عمر قد أقسم أن يقتصّ من خالد و يقتله إذا تقلّد أمر الحكومة، فإنّه أقسم أيضاً أن يردّ السبايا مع الأموال المنهوبة إلى أصحابها. و كذلك فعل فيما يخصّ الأموال و السبايا. أوّلًا: لم يتصرّف في حصّته من الأموال. ثانياً: جمعها مع باقي الأموال و السبايا، مع أنّ بعض النساء كنّ حوامل، و كنّ قد اشخصن إلى مناطق بعيدة كنواحي الشام و أطراف الروم، جمعها كلّها و أرجعها إلى بني ثعلبة بن يربوع.
و لكن هل اقتصّ من خالد و رجمه؟ أبداً. و من هنا نفهم أنّ عتابه أبا بكر و مؤاخذته إيّاه لقتل مالك لم تنطلق من حسّ دينيّ و شعور بالذبّ عن شريعة سيّد المرسلين، بل انطلقت من كونه صديقاً و حليفاً له في الجاهليّة.
قتل خالد سعد بنَ عُبادة و نسبته القتل إلى الجنّ
و نقول في توضيح هذه المسألة: لمّا امتنع سعد بن عُبادة،٢ رئيس الخزرج، و هم من أنصار المدينة، من بيعة أبي بكر بعد حادثة سقيفة بني ساعدة، و أراد المبايعون لأبي بكر أن يطالبوه بالبيعة، قال لهم ولده قيس:
إنّي ناصح لكم، فاقبلوا منّي. قالوا: و ما ذاك؟ قال: إنّ سعداً حلف أن لا يبايعكم. و إذا حلف، فعل. و لن يبايعكم حتى يقتل. و لن يقتل حتى يقتل معه ولده و أهل بيته. و لن يقتلوا حتى تقتل الخزرج كلّها. و لن يقتلوا حتى تقتل الأوس كلّها (ذلك أنّهما من الأنصار في مقابل المهاجرين). و لن يقتل الأوس و الخزرج، حتى تقتل اليمن كلّها. فلا تفسدوا عليكم أمراً قد كمل و استتمّ لكم. فسمعوا نصيحته و قبلوها، و لم يتعرّضوا لسعد.
ثمّ إنّ سعداً خرج من المدينة إلى الشام، فنزل في قرى غسّان من بلاد دمشق. و كان غسّان من عشيرته. و كان خروج سعد مثيراً لأنصار الخلافة، و خاصّة أنّها أقلقت الأجواء من خلال معارضة أمير المؤمنين عليه السلام و عدم بيعته هو و جميع بني هاشم و كثير من الأنصار، و الوجهاء من المهاجرين. و كان خالد بن الوليد يومئذٍ بالشام. و كان ممّن يعرف بجودة الرمي، و كان معه رجل من قريش موصوف بجودة الرمي. فاتّفقا على قتل سعد بن عبادة لامتناعه من البيعة لقريش، فاستترا ليلة بين شجر و كرم. فلمّا مرّ بهما، رمياه بسهمين، و أنشدا بيتين من الشعر و نسباهما إلى الجنّ:
نَحْنُ قَتَلْنَا سَيِّدَ الخَزْرَجِ | *** | سَعْدَ بْنَ عُبَادَه |
وَ رَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ | *** | فَلَمْ نُخْطِ فَؤَادَه |
و قرأهما ليلة بالمدينة من داخل بئر فظنّ الناس أنّهما للجنّ، و أنّ الجنّ قتلوه. و لمّا ملك عمر، و رأى خالداً يوماً في بعض بساتين المدينة، قال له: يا خالد! أنت الذي قتلت مالك بن نويرة؟ فقال خالد: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! إن كُنتُ قَتَلْتُ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ لِهَنَاتٍ كَانَتْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ، فَقَدْ قَتَلْتُ لَكُمْ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ لِهَنَاتٍ كَانَتْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ. فسُرّ عمر بكلامه و اعجب به، و قام و ضمّه إلى صدره، و قال له: أنتَ سَيْفُ اللهِ وَ سَيْفَ رَسُولِهِ.
و لم يتعرّض عمر لخالد بعد ذلك لأنّه علم أنّ قاتل سعد بن عبادة هو خالد نفسه، فجعل دم مالك بدم سعد بن عبادة، و تجاوز عن خالد، و هو الذي أقسم في أيّام أبي بكر إنّه لو ملك، لاقتصّ منه: وَ اللهِ لَئِنْ وُلِّيتُ الأمْرَ، لُاقَيِّدَنَّكَ بِهِ! و على هذا استبان ممّا ذكرناه أنّ عمر لم يدافع عن مالك بن نويرة، بل كان شريكاً في دمه. إذ لم يقتصّ في أيّام حكومته من خالد لأجل مصالحه الدنيويّة!۱
و كانت مظلوميّة مالك منذ البداية موضع بحث و احتجاج بين علمائنا و مخالفينا. و هي مذكورة في الكتب الكلاميّة و التواريخ، منها: «تاريخ الطبريّ»، و «الكامل» لابن الأثير الجَزَريّ، و «روضة الأحباب» لعطاء الله، و «نهاية العقول» للفخر الرازيّ، و «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، و «الاستيعاب» لابن عبد البرّ، و «العِقد الفريد» لابن عبد ربّه، و «المغني» للقاضي عبد الجبّار، و كتب التفتازانيّ، و القوشجيّ، و الشريف الجرجانيّ، و الشريف المرتضى في «الشافي في الإمامة»، و كتب العلّامة الحلّيّ، و كتب العلّامة المجلسيّ رحمه الله و غيرهم. و ما نقلناه هنا مختصر من الطعن
الخامس للمجلسيّ على أبي بكر، الوارد في «بحار الأنوار»،۱ مع جمل من «تاريخ الطبريّ».٢
إخبار أمير المؤمنين عليه السلام بالمغيّبات
قال الشيخ المفيد في «الإرشاد»: و الذي كان من أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الصدد (أي الإخبار بالغيب) ما لا يستطاع إنكاره إلّا مع الغباوة و الجهل و البهت و العناد. أ لا ترى إلى ما تظاهرت به الأخبار، و انتشرت به الآثار، و نقلته الكافّة عنه عليه السلام من قوله قبل قتاله الفرق الثلاث بعد بيعته: امِرْتُ بِقِتَالِ النَّاكِثِينَ وَ القَاسِطِينَ وَ المَارِقِينَ. (و المقصود من هؤلاء هم أصحاب الجمل، و أصحاب معاوية، و خوارج النهروان الذين قاتلهم في الجمل، و صفّين، و النهروان) فقاتلهم عليه السلام و كان الأمر فيما خبّر به على ما قال.٣
و قال عليه السلام لطلحة و الزبير حين استأذناه في الخروج إلى العُمرة: وَ اللهِ مَا تُرِيدَانِ العُمْرَةَ وَ إنَّمَا تُريدَانِ البَصْرَةَ. و كان الأمر كما قال.٤
و قال عليه السلام لابن عبّاس يخبره عن استئذانهما له في العُمرة: إنَّنِي أذِنْتُ لَهُمَا مَعَ عِلْمِي بِمَا قَدِ انْطَوَيَا عَلَيْهِ مِنَ الغَدْرِ وَ اسْتَظْهَرْتُ بِاللهِ عَلَيْهِمَا وَ إنَّ اللهَ تعالى سَيَرُدُّ كَيْدَهُمَا وَ يَظْفُرُنِي بِهِمَا. فكان الأمر كما قال.٥
و قال ابن شهرآشوب بعد الرواية الاولى التي قال فيها عليه السلام: وَ إنَّمَا تُرِيدَانِ البَصْرَةَ: و في رواية: إنَّمَا تُرِيدَانِ الفِتْنَةَ. و قال عليه السلام
أيضاً: لَقَدْ دَخَلَا بِوَجْهٍ فَاجِرٍ وَ خَرَجَا بِوَجْهٍ غَادِرٍ، وَ لَا ألْقَاهُمَا إلَّا في كَتِيبَةٍ، وَ أخْلَقُ بِهِمَا أنْ يُقْتَلَا.
و في رواية أبي الهَيْثَمْ بن التَّيِّهان، و عبد الله بن رافع (أنّه عليه السلام قال لهما): وَ لَقَدْ انْبِئْتُ بِأمْرِكُمَا وَ ارِيتُ مَصَارِعَكُمَا؛ فَانْطَلَقَا وَ هُوَ يَقُولُ، وَ هُمَا يَسْمَعَانِ: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ .۱
و نقل المجلسيّ رضوان الله عليه عن «المناقب» لابن شهرآشوب، عن ابن عبّاس، أنّ الإمام عليه السلام قال يوم الجمل: لَنَظْهَرَنَّ عَلَى هَذِهِ الفِرْقَةِ وَ لَنَقْتُلَنَّ هَذَينِ الرَّجُلَيْنِ. و في رواية: لَتَفْتَحُنَّ البَصْرَةَ وَ لَيأتِيَنَّكُمُ اليَوْمَ مِنَ الكُوفَةِ ثَمَانِيَةُ آلافٍ وَ بِضْعٌ وَ ثَلَاثُونَ رَجُلًا.٢ فكان كما قال. و في رواية: ستّة آلاف و خمسة و ستّون.
إخباره اويس القرنيّ و مجيء ألف رجل من الكوفة
و قال الشيخ المفيد: و قال عليه السلام بذي قار و هو جالس لأخذ البيعة: يَأتِيكُمْ مِنْ قِبَلِ الكُوفَةِ ألْفُ رَجُلٍ لَا يَزِيدُونَ رَجُلًا وَ لَا يَنقُصُونَ رَجُلًا يُبَايُعوني عَلَى المَوْتِ.
قال ابن عبّاس: فجزعتُ لذلك و خفتُ أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدوا عليه فيفسد الأمر علينا. و لم أزل مهموماً دأبي إحصاء القوم، حتى ورد أوائلهم، فجعلت احصيهم، فاستوفيت عددهم تسعمائة رجل و تسعة و تسعين رجلًا. ثمّ انقطع مجيء القوم، فقلتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ. ما ذا حمله على ما قال؟
فبينا أنا مفكّر في ذلك إذ رأيت شخصاً قد أقبل، حتى إذا دنا، فإذا هو راجل عليه قباء صوف، معه سيفه و تُرسه و إداوته، فقرب من أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: امدُدْ يَدَكَ ابَايِعْكَ.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: عَلَامَ تُبَايِعُنِي؟
قال: عَلَى السَّمْعِ وَ الطَّاعَةِ وَ القِتَالِ بَيْنَ يَدَيْكَ حتى أمُوتَ أوْ يَفْتَحَ اللهُ عَلَيْكَ.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ما اسمك؟ قال: اوَيْس. قال: أنْتَ اوَيْسُ القَرَنِيّ؟ قال: نعم.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: اللهُ أكْبَرُ، أخْبَرَنِي حَبِيبِي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أنِّي ادْرِكُ رَجُلًا مِنْ امَّتِهِ يُقَالُ لَهُ: اوَيْسُ القَرَنِيّ، يَكُونُ مِنْ حِزْبِ اللهِ وَ رَسُولِهِ، يَمُوتُ عَلَى الشَّهَادَةِ، يَدْخُلُ في شَفَاعَتِهِ مِثْلُ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ، اللهُ أكْبَرُ.
قال ابن عبّاس: فَسُرِيَ وَ اللهِ عَنِّي.۱
و قال الشيخ المفيد أيضاً: و من ذلك (أي إخباره عليه السلام بالغيب) قوله و قد رفع أهل الشام المصاحف، و شكّ فريق من أصحابه و لجأوا إلى المسالمة و دعوه إليها: وَيْلَكُمْ، إنَّ هَذِهِ خَدِيعَةٌ وَ مَا يُرِيدُ القَوْمَ القُرْآنَ لأنَّهُمْ لَيْسُوا بِأهْلِ قُرْآنٍ، فَاتَّقُوا اللهَ وَ امْضُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ في قِتَالِهِمْ، فَإن لَمْ تَفْعَلُوا تَفَرَّقَتْ بِكُمُ السُّبُلُ وَ نَدِمْتُمْ حَيْثُ لَا تَنْفَعُكُمُ النَّدَامَةُ.
فكان الأمر كما قال. و كفر القوم بعد التحكيم، و ندموا على ما فرط
منهم في الإجابة إليه، و تفرّقت بهم السبل، و كان عاقبتهم الدمار.۱
إخباره عليه السلام بقتل ذي الثديّة بالنهروان
و قال الشيخ المفيد أيضاً: و قال عليه السلام و هو متوجّه إلى قتال الخوارج: لَوْ لا أنِّي أخَافُ أنْ تَتَّكِلُوا وَ تَتْرُكُوا العَمَلَ لأخْبَرْتُكُمْ بِمَا قَضَاهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَنْ قَاتَلَ هَؤُلَاءِ القَوْمَ مُسْتَبْصِراً بِضَلَالَتِهِمْ، وَ إنَّ فِيهِمْ لَرَجُلًا مَوْذُونَ٢ اليَدِ، لَهُ ثَدْيٌ كَثَدْي المَرْأةِ، وَ هُمْ شَرُّ الخَلْقِ وَ الخَلِيقَةِ، وَ قَاتِلُهُمْ أقْرَبُ خَلْقِ اللهِ إلَى اللهِ وَسِيلَةً.٣
و لم يكن المُخْدِجُ٤ (و هو ذو الثُّدَيَّة الذي كانت إحدى يديه ناقصة و هي كالثدي في جانب صدره) معروفاً في القوم. فلمّا قتلوا جعل (أمير المؤمنين) عليه السلام يطلبه في القتلى، و يقول: وَ اللهِ مَا كَذَبْتُ وَ لَا كُذِبْتُ. حتى وُجد في القوم، فَشُقّ قميصه فكان على كتفه سلعة كثدي المرأة، عليها شعرات إذا جذبت انجذب كتفه معها. و إذا تُركت رجع كتفه
إلى موضعه. فلمّا وجده أمير المؤمنين عليه السلام، كبّر، ثمّ قال: إنَّ في هَذَا لَعِبْرَةٌ لِمَنِ اسْتَبْصَرَ.۱
قال المجلسيّ: روى ابن أبي الحديد أنّ أهل السير كافّة ذكروا أنّ عليّاً عليه السلام لمّا طحن الخوارج، طلب ذا الثُّديَّة طلباً شديداً، و قلّب القتلى ظهراً لبطن، فلم يقدر عليه، فساءه ذلك و جعل يقول: وَ اللهِ مَا كَذَبْتُ وَ لَا كُذِبْتُ! اطلبوا الرجل و إنّه لفي القوم. فلم يزل يتطلّبه حتى وجده و (هُوَ رَجُلٌ مُخْدِجُ اليَدِ كَأنَّهَا ثَدْيٌ في صَدْرِهِ).٢
و روى إبراهيم بن ديزيل في كتاب «صفيّن» عن الأعمش، عن زيد ابن وهب قال: لمّا شجر أمير المؤمنين عليه السلام الخوارج بالرماح، قال: اطلبوا ذا الثُّديَّة، فطلبوه طلباً شديداً حتى وجدوه في وهدة من الأرض تحت ناس من القتلى. فاتي به و إذا رجل على يديه مثل سبلات٣ السِّنَّوْر، فكبّر عليّ عليه السلام، و كبّر الناس معه سروراً بذلك.٤
و روى مُسْلِم الضَّبّيّ أيضاً عن حَبَّةَ العُرَنِيّ أنّ ذا الثُّديَّة كان رجلًا أسوداً منتن الريح، له ثدي كثدي المرأة، إذا مُدّت كانت بطول اليد الاخرى. و إذا تُركت اجتمعت و تقلّصت و صارت كثدي المرأة عليها شعرات مثل شوارب الهرّة.٥
فلمّا وجدوه قطعوا يده و نصبوها على رمح. ثمّ جعل أمير المؤمنين عليه السلام ينادي: صَدَقَ اللهُ وَ بَلَّغَ رَسُولُهُ. لم يزل يقول ذلك هو و أصحابه من العصر إلى أن غربت الشمس أو كادت.۱
و روى ابن ديزيل أيضاً، قال: لمّا عيل صبر عليّ عليه السلام في طلب المخدج، قال: آتوني ببلغة رسول الله صلى الله عليه و آله، فركبها، و أتبعه الناس: فرأى القتلى و جعل يقول: اقلبوا. فيقلبون قتيلًا عن قتيل حتى استخرجه، فسجد على عليه السلام شكراً.٢
و روى كثير من الناس أنّه لمّا دعا بالبغلة، قال: ائتوني بها فإنّها هادية. فوقفت به على المخدج، فأخرجه من تحت قتلى كثيرين.٣
و روى العوامّ بن حَوشَب عن أبيه، عن جدّه: يزيد بن رويم، قال: قال عليّ عليه السلام (بالنهروان): يقتل اليوم أربعة آلاف من الخوارج أحدهم ذو الثديّة، فلمّا طحن القوم، ورام استخراج ذي الثديّة، فأتعبه، أمرني أن أقطع له أربعة آلاف قصبة. (و ركب بغلة رسول الله و قال لي: اطرح على كلّ قتيل منهم قصبة).٤ فلم أزل كذلك و أنا بين يديه و هو راكب خلفي، و الناس يتبعونه، حتى بقيت في يدي واحدة.
فنظرت إليه و إذا وجهه أربد، و إذا رجله في يدي، فجذبتها، و قلتُ:
هذه رِجل إنسان! فنزل عن البغلة مسرعاً، فجذب الرِّجل الاخرى، و جرّرناه حتى صار على التراب فإذا هو المخدج. فكبّر عليّ عليه السلام بأعلى صوته، ثمّ سجد فكبّر الناس كلّهم.۱
شكّ جندب بن عبد الله و إخبار الإمام عن أهل النهروان
قال الشيخ المفيد: و روى أصحاب السيرة في حديثهم عن جُندب بن عبد الله الأزديّ أنّه قال: شهدتُ مع عليّ عليه السلام الجمل و صفّين، لا أشكّ في قتال من قاتله، حتى نزلنا النهروان. فدخلني شكّ و قلتُ: قُرَّاؤُنَا وَ خِيَارُنَا نَقْتُلُهُمْ؟ إنَّ هَذَا الأمْرَ عَظِيمٌ.
فخرجت غدوةً أمشي و معي إداوة ماء حتى برزتُ عن الصفوف، فركزت رمحي، و وضعت ترسي إليه و استترتُ من الشمس. فإنّي لجالس حتى ورد عَلَيّ أمير المؤمنين عليه السلام فقال لي: يا أخا الأزد! أ معك طهور؟! قلتُ: نعم. فناولته الإداوة.
فمضى حتى لم أره. ثمّ أقبل و قد تطهّر فجلس في ظلّ التُّرس، فإذا فارس يسأل عنه، فقلتُ: يا أمير المؤمنين! هذا فارس يريدك! قال: فأشِرْ إليه، فأشرتُ إليه، فجاء، فقال: يا أمير المؤمنين! قَدْ عَبَرَ القَوْمُ، وَ قَدْ قَطَعُوا النَّهْرَ. فقال (عليه السلام): كَلَّا ما عَبَرُوا. فقال: بَلَى وَ اللهِ لَقَدْ فَعَلُوا. قال: كَلَّا مَا فَعَلُوا. قال: فَإنَّهُ لَكَذَلِكَ. إذ جاء آخر، فقال: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! قَدْ عَبَرَ القَوْمُ. فقال الإمام: كَلَّا مَا عَبَرُوا.
قال: و الله ما جئتك حتى رأيتُ الرايات في ذلك الجانب و الأثقال. فقال الإمام: وَ اللهِ مَا فَعَلُوا وَ إنَّهُ لَمَصْرَعُهُمْ وَ مُهَرَاقُ دِمَائِهِم.
ثمّ نهض (أمير المؤمنين عليه السلام) و نهضتُ معه. فقلتُ في نفسي: الحمد للّه الذي بصّرني هذا الرجل، و عرّفني أمره. هذا أحد رجلين: إمّا رجل كذّاب جريء أو على بيّنة من ربّه، و عهد من نبيّه. اللهمّ إنّي اعطيك عهداً تسألني عنه يوم القيامة: إن أنا وجدتُ القوم قد عبروا أن أكون أوّل من يقاتله، و أوّل من يَطعنُ بالرمح في عينه. و أن كان القوم لم يعبروا، أن اقيم على المناجزة و القتال.
فدُفعنا إلى الصفوف، فوجدنا الرايات و الأثقال كما هي. قال: فأخذ (أمير المؤمنين عليه السلام) بقفاي و دفعني، ثمّ قال: يَا أخَا الأزْدِ! أ تَبَيَّنَ لَكَ الأمْرُ؟ قلتُ: أجل يا أمير المؤمنين. فقال (أمير المؤمنين عليه السلام): فَشَأنَكَ بِعَدُوِّكَ. فقتلتُ رجلًا من القوم. ثمّ قتلتُ آخر، ثمّ اختلفتُ أنا و رجل آخر أضربه و يضربني فوقعنا جميعاً، فاحتملني أصحابي فأفقتُ حين أفقتُ و قد فرغ من القوم.
قال الشيخ المفيد في ذيل هذه الرواية: و هذا حديث مشهور شائع بين نقلة الآثار، و قد أخبر به الرجل عن نفسه في عهد أمير المؤمنين عليه السلام و بعده. فلم يدفعه عنه دافع، و لا أنكر صدقه فيه مُنكرٌ. و فيه إخبار بالغيب، و إبانة عن علم الضمير و معرفة ما في النفوس. و الآية فيه باهرة لا يعادلها إلّا ما ساواها في معناها من عظيم المعجِز و جليل البرهان.۱
و ذكر ابن شهرآشوب هذا الحديث بحذافيره، و نقله المجلسيّ عنه.
و فيه أنّ جُندباً قال: رَأيْتُ أصْحَابَ النَّهْرَوَانِ وَ لَهُمْ دَوِيّ كَدَوِيّ النَّحْلِ مِنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، و فِيهِمْ أصْحَابُ البَرَانِسِ. و البرنس قلنسوة طويلة كانت تُلبَس في صدر الإسلام، و هي للمشايخ و الناس المحترمين.
و في هذا الحديث أيضاً أنّ الإمام عليه السلام قال: مصرعهم و مهراق دمائهم في هذا الجانب من النهر. و في رواية: لَا يَبْلِغُونَ إلَى قَصْرِ بُورَي بِنْتِ كِسْرَي.۱
و قال الشريف الرضي في «نهج البلاغة»: لمّا عزم الإمام عليه السلام على حرب الخوارج، و قيل له: إنّ القوم قد عبروا جسر النهروان، قال: مَصَارِعُهُمْ دُونَ النُّطْفَةِ. وَ اللهِ لَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ، وَ لَا يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ.٢
قال الشريف الرضيّ: يعني بالنطفة ماء النهر، و هي أفصح كناية عن الماء و إن كان كثيراً جمّاً. و قد أشرنا إلى ذلك فيما تقدّم عند مضيّ ما أشبهه.
كلام ابن أبي الحديد في إعجاز إخبار الإمام بالغيب
و قال ابن أبي الحديد في شرحه: هذا الخبر من الأخبار التي تكاد
تكون متواترة، لاشتهاره و نقل الناس كافّة له؛ و هو من معجزاته و أخباره المفصّلة عن الغيب.
ثمّ قال: الأخبار على قسمين:
أحدهما: الأخبار المجملة، و لا إعجاز فيها، نحو أن يقول الرجل لأصحابه: إنّكم ستنصرون على هذه الفئة التي تلقونها غداً. فإن نُصِرَ، جعل ذلك حجّة له عند أصحابه، و سمّاها معجزة. و إن لم ينصر، قال لهم: تغيّرت نيّاتكم و شككتم في قولي، فمنعكم الله نصره، و نحو ذلك من القول.
و لأنّه قد جرت العادة أنّ الملوك و الرؤساء يعدون أصحابهم بالظفر و النصر، و يُمنّونهم الدول؛ فلا يدلّ وقوع ما يقع من ذلك على إخبار عن غيب يتضمّن إعجازاً.
و القسم الثاني: الأخبار المفصّلة عن الغيوب، مثل هذا الخبر، فإنّه لا يحتمل التلبيس لتقييده بالعدد المعيّن في أصحابه و في الخوارج، و وقوع الأمر بعد الحرب بموجبه من غير زيادة و لا نقصان. و ذلك أمر إلهيّ عرفه من جهة رسول الله صلى الله عليه و آله، و عرفه رسول الله صلى الله عليه و آله من جهة الله سبحانه. و القوّة البشريّة تقصُر عن إدراك مثل هذا. و لقد كان له (لأمير المؤمنين) عليه السلام من هذا الباب ما لم يكن لغيره. و بمقتضى ما شاهد الناس من معجزاته، و أحواله المنافية لقوى البشر، غلا فيه من غلا، حتى نُسب إلى أنّ الجوهر الإلهيّ حلّ في بدنه، كما قالت النصارى في عيسى عليه السلام.
و قد أخبره رسول الله صلى الله عليه و آله بذلك، فقال: يَهْلِكُ فِيكَ رَجُلَان: مُحِبٌّ غَالٍ وَ مُبْغِضٌ قَالٍ.
و قال له تارة اخرى:
وَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ لَا أنِّي اشْفِقُ أنْ تَقُولَ طَوائِفُ مِنْ امَّتِي فِيكَ مَا قَالَتِ النصارى في ابْنِ مَرْيَمَ، لَقُلْتُ اليَوْمَ فِيكَ مَقَالًا، لَا تَمُرُّ بِمَلأٍ مِنَ النَّاسِ إلَّا أخَذُوا التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْكَ لِلبَرَكَةِ.۱
و روى ابن شهرآشوب عن ابن بطّة في «الإبانة»، و أبي داود في «السنن» عن أبي مجلد في خبر أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال في الخوارج مخاطباً أصحابه: وَ اللهِ لَا يُقْتَلُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ.
و في رواية اخرى: وَ لَا يَنْفَلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ وَ لَا يَهْلِكُ مِنَّا عَشَرَةٌ. فقُتل من أصحابه تسعة، و انفلت من أهل النهروان تسعة: اثنان إلى سجستان، و اثنان إلى عُمان، و اثنان إلى بلاد الجزيرة، و اثنان إلى اليمن، و واحد إلى مَوْزَن.٢ و الخوارج من هذه المواضع منهم.
و قال الأعثم: المقتولون من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام: رُوَيبَة بن وَبَر العجليّ، و سَعد بن خالد السبيعيّ، و عبد الله بن حَمَّاد الأرْحَبيّ، و الفيّاض بن خليل الأزديّ، و كَيْسُوم بن سَلِمَة الجُهَنيّ، و عُبَيد بن عُبَيد الخَوْلانِيّ، و جميع بن جشم الكِندِيّ، و ضَبّ بن عاصم الأسديّ.٣
إخبار الإمام بالحوادث التي ستقع بعده- إخباره بفتن بني اميّة
و نقرأ في «نهج البلاغة» خطبة للإمام عليه السلام فيها إخبار بِمُغَيَّبات كثيرة. يقول عليه السلام:
أمَّا بَعْدُ، أيُّهَا النَّاسُ! فَأنَا فَقَأتُ عَيْنَ الفِتْنَةِ، وَ لَمْ تَكُنْ لِيَجْرُأ عَلَيْهَا أحَدٌ غَيْرِي بَعْدَ أنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا، وَ اشْتَدَّ كَلَبُهَا. فَاسْألُوني قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي؟ فَوَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْألُونِي عَنْ شَيءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ السَّاعَةِ، وَ لَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَ تُضِلُّ مِائَةً إلَّا أنْبَأتُكُمْ بِنَاعِقِهَا وَ قَائِدِهَا۱ وَ سَائِقِهَا وَ مُنَاخِ رِكَابِهَا وَ مَحَطِّ رِحَالِهَا؛ وَ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أهْلِهَا قَتْلًا، وَ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً.
وَ لَوْ قَدْ فَقَدْتُمونِي وَ نَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الامُورِ، وَ حَوازِبُ الخُطُوبِ، لأطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ وَ فَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ المَسْؤولِينَ. وَ ذَلِكَ إذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ وَ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ، وَ ضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضَيْقاً تَسْتطِيلُونَ مَعَهُ أيَّامَ البَلَاءِ عَلَيْكُمْ حتى يَفْتَحَ اللهُ لِبَقِيَّةِ الأبْرارِ مِنْكُمْ. إنَّ الفِتَنَ إذَا أقْبَلَتْ شَبَّهَتْ، وَ إذَا أدْبَرَتْ نَبَّهَتْ. يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، يَحُمْنَ حَوْلَ الرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً.
ألَا إنَّ أخوَفَ الفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي امَيَّةَ، فَإنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا وَ أصَابَ البَلَاءُ مَنْ أبْصَرَ فِيهَا، وَ أخْطَأ البَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا. وَ أيْمُ اللهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي امَيَّةَ لَكُمْ أرْبَابَ سُوءٍ كَالنَّابِ الضَّرُوسِ تَعْذِمُ بِفِيهَا وَ تَخْبِطُ بِيَدِهَا وَ تَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَ تَمْنَعُ دَرَّهَا. لَا يَزَالُونَ بِكُمْ حتى لَا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إلَّا نَافِعاً لَهُمْ أوْ غَيْرَ ضَائِر بِهِمْ. وَ لَا يَزَالُ بَلَاؤُهُمْ حتى لَا يَكُونَ انْتِصَارُ أحَدِكُمْ مِنْهُمْ إلَّا كانْتِصَارِ العَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَ الصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ. تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً وَ قِطَعاً جَاهِلِيَّةً لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدَى، وَ لَا عَلَمٌ يُرَى.
نَحْنُ أهْلُ البَيْتِ۱ مِنْهَا بِمَنْجَاهٍ وَ لَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ. ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الأدِيمِ بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً، وَ يَسُوقُهُمْ عُنْفاً، وَ يَسْقِيهِمْ بِكَأسٍ مُصَبَّرَةٍ، لَا يُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ وَ لَا يُحْلِسُهُمْ إلَّا الخَوْفَ.
فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَ مَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَني مَقَاماً وَاحِداً وَ لَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ لأقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أطْلُبُ اليَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونَنِي.٢
قال ابن أبي الحديد في شرح هذه الخطبة: إنّما قال [أمير المؤمنين عليه السلام]: وَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أحَدٌ غَيْرِي، لأنّ الناس كلّهم كانوا
يهابون قتال أهل القبلة، و لا يعلمون كيف يقاتلونهم؟ هل يتبعون مولِّيهم أم لا؟ و هل يجهزون على جريحهم أم لا؟ و هل يقسمون فيئهم أم لا؟ و كانوا يستعظمون قتال من يؤذّن كأذاننا، و يصلّي كصلاتنا، و استعظموا أيضاً حرب عائشة و حرب طلحة و الزبير لمكانهم في الإسلام، و توقّف جماعتهم عن الدخول في تلك الحرب، كالأحنف بن قيس، و غيره. فلو لا أنّ عليّاً اجترأ على سلّ السيف فيها ما أقدم أحدٌ عليها.
ثمّ قال عليه السلام: سَلُوني قَبْلَ أنْ تَفْقِدُوني. روى صاحب كتاب «الاستيعاب» و هو أبو عمر محمّد بن عبد البرّ عن جماعة من الرواة و المحدّثين، قالوا: لَمْ يَقُلْ أحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: «سَلُوني» إلَّا عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ.
و روى شيخنا أبو جعفر الإسكافيّ في كتاب «نقض العثمانيّة» عن عليّ بن الجعد، عن ابن شُبْرمة، قال: لَيْسَ لأحَدٍ مِنَ النَّاسِ أنْ يَقُولَ عَلَى المِنْبَرِ: «سَلُوني» إلَّا عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. ثمّ فتح ابن أبي الحديد فصلًا في امور غيبيّة أخبر بها الإمام عليه السلام، فقال ما نصّه:
اعلم أنّ عليّاً عليه السلام قد أقسم في هذا الفصل بالله الذي نفسه بيده، إنّهم لا يسألونه عن أمر يحدث بينهم و بين القيامة إلّا أخبرهم به. و إنّه ما صحّ من طائفة من الناس يهتدي بها مائة و تضلّ بها مائة، إلّا و هو مخبر لهم -إن سألوه- برعاتها، و قائدها، و سائقها، و مواضع نزول ركابها و خيولها، و من يُقتَلُ منها قتلًا، و من يموت منها موتاً.
و هذه الدعوى ليست منه عليه السلام ادّعاء الربوبيّة، و لا ادّعاء النبوّة؛ و لكنّه كان يقول: إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله أخبره بذلك.
عدد من أخبار الإمام الغيبيّة
و لقد امتحنّا إخباره عليه السلام، فوجدناه موافقاً. فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة، كاخباره عن الضربة التي يُضربُ بها في رأسهفتخضب لحيته.
و إخباره عن قتل الحسين -ابنه- عليهما السلام، و ما قاله في كربلاء حين مروره بها.
و إخباره بملك معاوية الأمر من بعده.
و إخباره عن الحجّاج [بن يوسف الثقفيّ]، و عن يوسف بن عمر، و ما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان.
و ما قدّمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم، و صلب من يصلب، و إخباره بقتال الناكثين و القاسطين و المارقين.
و إخباره بعدّة الجيش الوارد إليه من الكوفة لمّا شخص عليه السلام إلى البصرة لحرب أهلها.
و إخباره عن عبد الله بن الزبير، و قوله فيه: خَبٌّ ضَبٌّ،۱ يَرُومُ أمْراً وَ لَا يُدْرِكهُ، يَنْصِبُ حَبَالَةَ الدِّينِ لِاصطِيَادِ الدُّنْيَا، وَ هُوَ بَعْدُ مَصْلُوبُ قُرَيْشٍ.
و كإخباره عن هلاك البصرة لحرب أهلها. و هلاكها تارة اخرى بالزنج، و هو الذي صحّفه قوم، فقالوا: بالريح.
و كإخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان، و تنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببني رزيق (بتقديم الراء المهملة على الزاي المعجمة) و هم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين و ولده، و إسحاق بن إبراهيم. و كانوا هم و سلفهم دعاة الدولة العبّاسيّة.
و كإخباره عن الأئمّة الذين ظهروا من ولده بطبرستان، كالناصر، و الداعي، و غيرهما، في قوله عليه السلام: وَ إنَّ لآلِ مُحَمَّدٍ بِالطَّالَقَانِ لَكَنْزاً سَيُظْهِرُهُ اللهُ إذَا شَاءَ. دُعَاؤُهُ حَقٌّ، يَقُومُ بِإذْنِ اللهِ فَيَدْعُو إلَى دِينِ اللهِ.
و كاخباره عن مقتل ذي النفس الزكيّة بالمدينة، و قوله: إنَّهُ يُقْتَلُ عِنْدَ أحْجَارِ الزَّيْتِ. و كقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباب حمزة: يُقْتَلُ بَعْدَ أنْ يَظْهَرَ وَ يُقْهَرُ بَعْدَ أنْ يَقْهَرَ.
و قوله فيه أيضاً: يَأتِيهِ سَهْمُ غَرْبٍ يَكُونُ فِيهِ مَنِيَّتُهُ. فَيَا بُؤْسَاً لِلرَّامي! شُلَّتْ يَدُهُ، وَ وَهَنَ عَضُدُهُ.
و كإخباره عن قتلى وَجّ،۱ و قوله فيهم: هُمْ خَيْرُ أهْلِ الأرْضِ.
و كإخباره عن المملكة العلويّة بالغرب، و تصريحه بذكر كتامة، و هم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلّم. و كقوله و هو يشير إلى أبي عبد الله المهديّ: وَ هُوَ أوَّلُهُمْ، ثُمَّ يَظْهَرُ صَاحِبُ القَيْرَوَانِ۱ الغَضُّ البَضُّ، ذُو النَّسَبِ المَحْضِ، المُنْتَجَبُ مِنْ سُلَالَةِ ذِي البَدَاءِ، المُسَجَّى بِالرِّدَاءِ.
و كان عبيد الله المهديّ أبيضاً مترفاً مشرباً بحُمرة، رخص البدن، تارّ الأطراف.٢ و ذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمّد عليهما السلام. و هو المسجّى بالرداء، لأنّ أباه الصادق عليه السلام سجّاه بردائه لمّا مات. و أدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه، ليعلموا موته، و تزول عنهم الشبهة في أمره.
و كإخباره عن بني بويه و قوله فيهم: وَ يَخْرُجُ مِنْ دَيْلَمَانَ بَنُو الصَّيَّادِ.
إشارة إليهم. و كان أبوهم صيّاد السمك يصيد منه بيده ما يتقوّت هو و عياله بثمنه. فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكاً ثلاثة،۱ و نشر ذرّيّتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم. و كقوله عليه السلام فيهم: ثُمَّ يَسْتَشْرِي أمْرُهُمْ حَتَّى يَمْلِكُوا الزَّوْرَاءَ وَ يَخْلَعُوا الخُلَفَاءَ. فقال له قائل: فكم مدّتهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: مِائَةٌ أوْ تَزِيدُ قَلِيلًا.
و كقوله فيهم: وَ المُتْرَفُ ابْنُ الأجْذَمِ، يَقْتُلُهُ ابْنُ عَمِّهِ عَلَى دِجْلَةَ. و هو إشارة إلى عِزِّ الدَّوْلَةِ بختيار بن مُعِزِّ الدَّوْلَةِ أبي الحسين. و كان مُعِزُّ الدَّوْلَةِ أقطع اليد، قطعت يده للنكوص في الحرب. و كان ابنه عِزُّ الدَّوْلَةِ بختيار مترفاً، صاحب لهو و شرب. و قتله عَضُدُ الدَّوْلَةِ فَنَّاخُسْرُو ابن عمّه بقصر الجُصّ على دجلة في الحرب، و سلبه ملكه.
و أمّا خلعهم للخلفاء، فإنّ مُعِزَّ الدَّوْلَةِ خلع المُسْتَكْفِي، و رتّب عوضه المُطِيعَ لِلَّهِ. و بَهَاءُ الدَّوْلَةِ أبو نصر بن عَضُد الدّوْلَةِ خلع الطَّائِعَ لِلَّهِ و رتّب عوضه القَادِرَ بِاللهِ. و كانت مدّة ملكهم كما أخبر به عليه السلام.
و كإخباره عليه السلام لعبد الله بن عبّاس رحمه الله تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده. فإنّ عليّ بن عبد الله لمّا ولد، أخرجه أبوه عبد الله إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فأخذه، و تفل في فيه و حنّكه بتمرة قد لاكها، و دفعه إليه، و قال: خُذْ إلَيْكَ يَا أبَا الأمْلَاكِ. هكذا الرواية الصحيحة. و هي التي ذكرها أبو العبّاس المبرّد في «الكامل» و ليست الرواية التي يذكر فيها العدد بصحيحة، و لا منقولة من كتاب معتمد عليه.
و كم له من الإخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى، ممّا لو أردنا
استقصاءه لكرّسنا له كراريس كثيرة. و كتب السير تشتمل عليها مشروحة.
سبب اعتقاد الناس بالوهيّة الإمام دون رسول الله
فإن قلتَ: لما ذا غلا الناس في أمير المؤمنين عليه السلام، فادّعوا فيه الإلهيّة لإخباره عن الغيوب التي شاهدوا صدقها عياناً. و لم يغلوا في رسول الله صلى الله عليه و آله فيدّعوا له الإلهيّة، و أخباره عن الغيوب الصادقة قد سمعوها و علموها يقيناً. و على هذا كان النبيّ أولى بذلك، لأنّه الأصل المتبوع، و معجزاته أعظم، و أخباره عن الغيوب أكثر؟!
قلتُ: إنّ الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه و آله، و شاهدوا معجزاته، و سمعوا إخباره عن الغيوب الصادقة عياناً، كانوا أشدّ آراءً، و أعظم أحلاماً، و أوفر عقولًا من تلك الطائفة الضعيفة العقول، السخيفة الأحلام الذين رأوا أمير المؤمنين عليه السلام في آخر أيّامه، كعبد الله بن سبأ و أصحابه، فإنّهم كانوا من ركاكة البصائر و ضعفها على حال مشهورة. فلا عجب عن مثلهم أن تستخفّهم المعجزات، فيعتقدوا في صاحبها أنّ الجوهر الإلهيّ قد حلّه، لاعتقادهم أنّه لا يصحّ من البشر هذا إلّا بالحلول.
و قد قيل: إنّ جماعة من هؤلاء كانوا من نسل النصارى و اليهود، و قد كانوا سمعوا من آبائهم و سلفهم القول بالحلول في أنبيائهم و رؤسائهم، فاعتقدوا فيه عليه السلام مثل ذلك.
و يجوز أن يكون أصل هذه المقالة من قوم ملحدين أرادوا إدخال الإلحاد في دين الإسلام. فذهبوا إلى ذلك. و لو كانوا في أيّام رسول الله صلى الله عليه و آله، لقالوا فيه مثل هذه المقالة، إضلالًا لأهل الإسلام، و قصداً لإيقاع الشبهة في قلوبهم. و لم يكن في الصحابة مثل هؤلاء. و لكن قد كان فيهم منافقون و زنادقة، و لم يهتدوا إلى هذه الفتنة، و لا خطر لهم مثل هذه المكيدة.
و ممّا ينقدح لي من الفرق بين هؤلاء القوم، و بين العرب الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه و آله أنّ هؤلاء من العراق و ساكني الكوفة، و طينة العراق ما زالت تنبت أرباب الأهواء و أصحاب النحل العجيبة و المذاهب البديعة. و أهل هذا الإقليم أهل بَصَر و تدقيق و نظر، و بحث عن الآراء و العقائد، و شبه معترضة في المذاهب. و قد كان منهم في أيّام الأكاسرة مثل: ماني، و دَيصان، و مزدك، و غيرهم.
و ليست طينة الحجاز هذه الطينة، و لا أذهان أهل الحجاز هذه الأذهان. و الغالب على أهل الحجاز الجفاء، و العجرفة، و خشونة الطبع. و من سكن المدن منهم كأهل مكّة، و المدينة، و الطائف، فطباعهم قريبة من طباع أهل البادية بالمجاورة. و لم يكن فيهم من قبلُ حكيم و لا فيلسوف، و لا صاحب نظر و جدل، و لا موقع شبهة، و لا مبتدع نحلة. و لهذا نجد مقالة الغلاة طارئة و ناشئة من حيث سكن عليّ عليه السلام بالعراق و الكوفة، لا في أيّام مقامه بالمدينة، و هي أكثر عمره.
ثمّ شرع ابن أبي الحديد بشرح ألفاظ الخطبة و كلماتها و عباراتها بمقدار غير قليل. و قال في شرح كلامه عن انقراض الحكومة الأمويّة: ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللهُ عَنْكُم كَتَفْرِيجِ الأدِيمِ: هذا الكلام إخبار عن ظهور المسوَّدة، و انقراض ملك بني اميّة. و وقع الأمر بموجب إخباره صلوات الله عليه، حتى لقد صدق قوله: لَقَدْ تَوَدُّ قُرَيْشٌ ... الكلام إلى آخره؛ فإنّ أرباب السير كلّهم نقلوا أنّ مروان بن محمّد (مروان الحمار، آخر حاكم أمويّ غاصب) قال يوم الزاب،۱ لمّا شاهد عبد الله بن على بن عبد الله بن عبّاس بإزائه في
صفّ خراسان: لَوَدِدْتُ أنَّ عَلِيّ بْنَ أبِي طَالِبٍ تَحْتَ هَذِهِ الرَّايَةِ بَدَلًا مِنْ هَذَا الفَتَى. و القصّة طويلة و هي مشهورة.
و هذه الخطبة ذكرها جماعة من أصحاب السير، و هي متداولة منقولة مستفيضة، خطب بها عليّ عليه السلام بعد انقضاء أمر النهروان. و فيها ألفاظ لم يوردها الشريف الرضيّ رحمه الله. من ذلك قوله عليه السلام:
وَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا غَيْرِي وَ لَوْ لَمْ أكُ فِيكُمْ مَا قُوتِلَ أصْحَابُ الجَمَلِ وَ النَّهْرَوَانِ. وَ أيْمُ اللهِ لَوْ لَا أنْ تَتَّكِلُوا فَتَدَعُوا العَمَلَ لَحَدَّثْتُكُمْ بِمَا قَضَى اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكُمْ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لِمَنْ قَاتَلَهُمْ مُبْصِراً لِضَلَالَتِهِمْ، عَارِفاً لِلْهُدَى الذي نَحْنُ عَلَيْهِ. سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي، فَإنِّي مَيِّتٌ عَنْ قَرِيبٍ أوْ مَقْتُولٌ بَلْ قَتْلًا، مَا يَنْتَظِرُ أشْقَاهَا أنْ يَخْضِبَ هَذِهِ بِدَمٍ، وَ ضَرَبَ بِيَدِهِ إلَى لِحْيَتِهِ. (قوله: عارفاً للهدى ... أي مقامات و درجات منحهم الله، و إلى أي مدى رفع مقامهم، و كرّم منزلتهم).
و منها في ذكر بني اميّة: يَظْهَرُ أهْلُ بَاطِلهَا عَلَى أهْلِ حَقِّهَا، حتى تَمْلأ الأرْضَ عُدْوَاناً وَ ظُلْماً وَ بِدَعاً إلَى أنْ يَضَعَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ جَبَرُوتَهَا، وَ يَكْسِرَ عَمَدَهَا، وَ يَنْزِعَ أوْتَادَهَا. ألَا وَ إنَّكُمْ مُدْرِكُوهَا، فَانْصُرُوا قَوْماً كَانُوا أصْحَابَ رَايَاتِ بَدْرٍ وَ حُنَيْنٍ، وَ لَا تُمَالِئُوا عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ، فَتَصْرَعَكُمُ البَلِيَّةُ وَ تَحِلَّ بِكُمُ النِّقْمَةُ.
و منها: إلَّا مِثْلَ انْتِصَارِ العَبْدِ مِنْ مَوْلَاهُ، إذَا رَآهُ أطاعَهُ، وَ إنْ تَوَارَى عَنْهُ شَتَمَهُ. وَ أيْمُ اللهِ لَوْ فَرَّقُوكُمْ تَحْتَ كُلِّ حَجَرٍ لَجَمَعَكُمُ اللهُ لِشَرِّ يَوْمٍ لَهُمْ.
إخبار الإمام عليه السلام بقيام الإمام المهديّ عليه السلام
و منها: فَانْظُرُوا أهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ! فَإنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا وَ إنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فَانْصُرُوهُمْ، فَلَيُفَرِّجَنَّ اللهُ الفِتْنَةَ بِرَجُلٍ مِنَّا أهْل البَيْتِ. بِأبِي ابْنُ خِيَرَةِ الإمَاءِ، لَا يُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ هَرْجاً هَرْجاً، مَوْضُوعاً عَلَى عَاتِقِهِ ثَمَانِيَةَ أشْهُرٍ حتى تَقُولَ قُرَيْشٌ: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ لَرَحِمَنَا. يُغْريه اللهُ بِبَنِي امَيَّةَ حتى يَجْعَلَهُمْ حُطَاماً وَ رُفَاتاً مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا .۱
ذمّ طلحة و الزبير و عائشة
فان قيل: لما ذا قال الإمام: «و لو لم أكُ فيكم، لما قوتل أهل الجمل و أهل النهروان» و لم يذكر صفّين؟
قيل: لأنّ الشبهة كانت في أهل الجمل و أهل النهروان ظاهرة الالتباس، لأنّ الزبير و طلحة موعودان بالجنّة، و عائشة موعودة أن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه و آله في الآخرة، كما هي زوجته في الدنيا. و حال طلحة و الزبير في السَّبْق و الجهاد و الهجرة معلومة. و حال عائشة في محبّة رسول الله صلّى الله عليه و آله لها و ثنائه عليها، و نزول القرآن فيها (في قصّة الإفك) معلومة. و أمّا أهل النهروان فكانوا أهل قرآن و عبادة
... ۱
و اجتهاد، و عزوف عن الدنيا، و إقبال على امور الآخرة، و هم كانوا قرّاء أهل العراق و زهّادهم. و أمّا معاوية فكان فاسقاً، مشهوراً بقلّة الدين، و الانحراف عن الإسلام. و كذلك ناصره و مظاهره على أمره عمرو بن العاص، و من اتّبعهما من طَغام أهل الشام و أجلافهم و جهّال الأعراب. فلم يكن أمرهم خافياً في جواز محاربتهم و استحلال قتالهم، بخلاف حال من تقدّم ذكره.
فإن قيل: و من هذا الرجل الموعود به الذي قال عليه السلام عنه: بأبي ابْنُ خِيَرَةِ الإمَاءِ؟ قيل: أمّا الإماميّة فيزعمون أنّه إمامهم الثاني عشر، و أنّه ابن أمَة اسمها نَرْجِس.
الإخبار بقيام إمام العصر و الزمان عليه السلام و انقراض بني اميّة
و أمّا أصحابنا فيزعمون أنّه فاطميّ يولد في مستقبل الزمان، لُامّ ولد (الأمَة التي تنجب بعد مواقعة مولاها إيّاها). و ليس بموجود الآن.
فإن قيل: فمن يكون من بني اميّة في ذلك الوقت موجوداً، حتى يقول عليه السلام في أمرهم ما قال من انتقام هذا الرجل منهم، حتى يودّوا لو أنّ عليّاً عليه السلام كان المتولّي لأمرهم عوضاً عنه؟ قيل: أمّا الإماميّة فيقولون بالرجعة، و يزعمون أنّه سيعاد قوم بأعيانهم من بني اميّة و غيرهم، إذا ظهر إمامهم المنتظر، و أنّه يقطع أيدي أقوام و أرجلهم، و يسمل عيون بعضهم، و يصلب قوماً آخرين، و ينتقم من أعداء آل محمّد المتقدّمين و المتأخّرين.
و أمّا أصحابنا فيزعمون أنّه سيخلق الله تعالى في آخر الزمان رجلًا من ولد فاطمة عليها السلام ليس موجوداً الآن، و أنّه يملأ الأرض عدلًا كما ملئت جوراً و ظلماً، و ينتقم من الظالمين، و ينكّل بهم أشدّ النكال، و أنّه لُامّ وَلَد كما قد ورد في هذا الأثر و في غيره من الآثار، و أنّ اسمه محمّد كاسم رسول الله صلى الله عليه و آله، و أنّه إنّما يظهر بعد أن يستولي على
كثير من الإسلام ملك من أعقاب بني اميّة، و هو السفيانيّ الموعود به في الخبر الصحيح.
و هو من ولد أبي سفيان بن حرب بن اميّة، و أنّ الإمام الفاطميّ يقتله و يقتل أشياعه من بني اميّة و غيرهم. و حينئذٍ ينزل المسيح عليه السلام من السماء، و تبدو أشراط الساعة، و تظهر دابّة الأرض، و يبطل التكليف، و يتحقّق قيام الأجساد عند نفخ الصور، كما نطق به الكتاب العزيز.
فإن قيل: فإنّكم قلتم فيما تقدّم: إنّ الوعد إنّما هو بالسفّاح و بعمّه عبد الله بن عليّ، و المسوّدة، و ما قلتموه الآن مخالف لذلك. قيل: إنّ ذلك التفسير هو تفسير ما ذكره الرضيّ رحمه الله من كلام أمير المؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة». و هذا التفسير هو تفسير الزيادة التي لم يذكرها الرضيّ، و هي قوله: بِأبِي ابْنُ خَيرَةِ الإمَاءِ. و قوله: لَوْ كَانَ هَذَا مِنْ وُلْدِ فَاطِمَةَ لَرَحِمَنَا. فلا مناقضة بين التفسيرين.۱
نقلنا هذا الشرح كلّه عن ابن أبي الحديد في شرحه، لأنّه وثيقة قويّة و معتبرة -من حيث السند- لمعجزات أمير المؤمنين عليه السلام و إخباره بالغيب، و إن كان ابن أبي الحديد عامّيّ المذهب، معتزليّ الاصول، شافعيّ الفروع، بَيدَ أنّ له مقاماً شامخاً حقّاً من حيث سعة الاطّلاع، و القدرة الأدبيّة، و التمكّن من العربيّة و الشعر و العلم، و الإلمام بالتأريخ و الكلام و الجدل، و حبّ أمير المؤمنين عليه السلام و عرفانه عرفاناً يفوق الوصف. اللّهُمَّ احْشُرْهُ مَعَ مَنْ يَتَولَّاهُ وَ يُحِبُّهُ، وَ أبْعِدْهُ مِمَّنْ يَتَبَرَّا مِنْهُ وَ يُبْغِضُهُ!
و ذكر المجلسيّ رضوان الله عليه في كتابه الشريف «بحار الأنوار» في
«باب معجزات كلامه من إخباره بالغائبات و علمه باللغات» هذه التفاصيل كلّها نقلًا عن «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، مع إضافاته حتى بداية قوله: إن قَلتَ، قلتُ، لفظاً بلفظ.۱
كلام العلّامة الخوئيّ في الرواية الماضية
و قال العلّامة الميرزا حبيب الله الهاشميّ الخوئيّ في شرحه على «نهج البلاغة» بعد نقله شرح ابن أبي الحديد برمّته: قال شرّاح «نهج البلاغة»: هذه الفقرات ثُمّ يُفَرِّجُ اللهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الأدِيمِ بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً وَ يَسُوقُهُمْ عُنْفاً إشارة إلى انقراض دولة بني اميّة بظهور بني العبّاس، كما هو مذكور في كتب السير و التواريخ. و لكنّ الأظهر بملاحظة الزيادات الآتية في رواية سُليم بن قيس الهلاليّ، و إبراهيم الثقفيّ في كتاب «الغارات» -و لم يذكرها السيّد الرضيّ، و لا ابن أبي الحديد- أنّها إشارة إلى ظهور السلطنة الإلهيّة و الدولة القائميّة. و على هذا يكون قول أمير المؤمنين عليه السلام: يَسُومُهُمْ خَسْفَاً إشارة إلى خسف الأرض بجيش السفيانيّ في البيداء، كما هو مرويّ في أخبار الرجعة.
و على الاستظهار، يكون كلام أمير المؤمنين عليه السلام: فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَ مَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً وَ لَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ لأقبَلَ مِنْهُمْ مَا أطْلُبُ اليَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونَنِي، الذي فسّره ابن أبي الحديد بكلام مروان بن محمّد يوم الزاب حين رأى جيش عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس، إشارة إلى ظهور الإمام المهديّ، و التمنّي الذي يتحقّق عند قيامه.
ثمّ ذكر العلّامة الخوئيّ تحت عنوان: تكملة، هذه الخطبة مع جميع إضافاتها عن العلّامة المجلسيّ، عن كتاب «الغارات» لإبراهيم بن محمّد
الثقفيّ. و له بيان عن «بحار الأنوار» أيضاً، عن كتاب سليم بن قيس الهلاليّ.۱ و من الواضح في هاتين الروايتين أنّ المراد من القائم على الظالمين و بني اميّة هو السيّد الفاطميّ ابن الأمَة، و هو نفسه المقصود في كلتا الفقرتين، لا أنّه السفّاح في موضع، و القائم عليه السلام في موضع آخر.
و جاء في رواية إبراهيم الثقفيّ و سُليم أيضاً أنّ أهل صفّين ذكروا مع أهل الجمل، و أهل النهروان: وَ لَوْ لَمْ أكُ فِيكُمْ مَا قُوتِلَ أصْحَابُ الجَمَلِ وَ لَا أهْلُ صِفِّينٍ وَ لَا أهْلُ النَّهْروَانِ.٢ ثُمّ قال الخوئيّ في التعليقة و هو يوضّح معنى الزاب: الزاب نهر بالموصل. و روى الشارح المعتزليّ ابن أبي الحديد في شرح الخطبة المائة و الرابعة أنّه لمّا نزل مروان بالزاب، جرّد من رجاله ممّن اختاره من أهل الشام، و الجزيرة، و غيرها مائة ألف فارس على مائة ألف فارح، ثمّ نظر إليهم و قال: إنَّها العُدَّةُ وَ لَا تَنْفَعُ العُدَّةُ إذَا انْقَضَتِ المُدَّةُ.
و لمّا أشرف عبد الله بن عليّ يوم الزاب في المسوّدة، و في أوائلهم البنود السود تحملها الرجال على الجمال البخت، أقبل مروان على رجل بجنبه و قال: أ لا تعرّفني من صاحب جيشهم؟ فقال: عبد الله بن محمّد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلّب. قال مروان: وَيْحَكَ! من ولد العبّاس هو؟! قال: نعم! قال: وَ اللهِ لَوَدَدْتُ أنَّ عَلِيّ بْنَ أبِي طَالِبٍ مَكَانَهُ في هَذَا الصَفِّ.
قال ذلك الرجل: تقول هذا لعليّ مع شجاعته التي ملأ الدنيا ذكرها؟!
قال مروان: وَيْحَكَ! إنَّ عَلِيَّاً عَلَيهِ السَّلَامُ مَعَ شَجَاعَتِهِ صَاحِبُ دِينٍ، وَ الدِّينُ غَيْرُ المُلْكِ.۱
إخبار الإمام عليه السلام بعدم هلاك الخوارج
و من الامور الغيبيّة التي أخبر بها أمير المؤمنين عليه السلام خبر يرتبط ببقاء الخوارج، و عدم هلاكهم جميعهم.
جاء في «نهج البلاغة»: لمّا قُتِل الخوارج، قيل له: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! هَلَكَ القَوْمُ بِأجْمَعِهِمْ. فَقَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: كَلَّا! وَ اللهِ إنَّهُمْ نُطَفٌ في أصْلَابِ الرِّجَالِ وَ قَرارَاتِ النِّسَاءِ، كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ، قُطِعَ حتى يَكُونَ آخرُهُمْ لَصُوصاً سَلَّابِينَ.
(أي: يبلغ الخوارج من الوضاعة حدّاً أنّهم لا ينهضون من أجل الحكومة و الرئاسة و لا يستندون إلى مذهب، و لا يدعون إلى عقيدة، شأنهم شأن اللصوص و الأشرار و قطّاع الطرق).
و قال عليه السلام فيهم: لَا تَقْتُلُوا الخَوَارِجَ بَعْدِي! فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الحَقَّ فَأخْطَأهُ كَمَنْ طَلَبَ البَاطِلَ فَأدْرَكَهُ. (يعني معاوية و أصحابه).٢
و قال ابن أبي الحديد بعد أن ذكر أشخاصاً كثيرين من الخوارج ولدوا بعد أمير المؤمنين عليه السلام، و لم يسلكوا طريق أسلافهم، بل كان همّهم إخافة السبيل و الفساد في الأرض، و اكتساب الأموال من غير حلّها؛ و من المشهورين برأي الخوارج الذين تمّ بهم صدق قول أمير المؤمنين عليه السلام: إنّهم نطف في أصلاب الرجال و قرارات النساء: عكرمة مولى
ابن عبّاس، و مالك بن أنَس الأصبَحي الفقيه.۱ يروي عنه أنّه كان يذكر عليّاً عليه السلام و عثمان و طلحة، و الزبير، فيقول: و الله ما اقتتلوا إلّا على الثريد الأعفَر.٢
و نُسب أبو العبّاس محمّد بن يزيد المبرّد إلى رأي الخوارج أيضاً لإطنابه في كتابه المعروف ب- «الكامل» في ذكرهم و ظهور الميل منه إليهم.٣
و قال ابن أبي الحديد في شرح كلام الامام: لا تقتلوا الخوارج بعدي :
مراده أنّ الخوارج ضلّوا بشبهة دخلت عليهم. و كانوا يطلبون الحقّ؛ و لهم في الجملة تمسّك بالدين، و محاماة عن عقيدة اعتقدوها، و إن أخطأوا فيها. و أمّا معاوية فلم يكن يطلب الحقّ. و إنّما كان ذا باطل لا يحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة. و أحواله كانت تدلّ على ذلك، فإنّه لم يكن من أرباب الدين، و لا ظهر عنه نُسُك، و لا صلاح حال. و كان مترفاً يُذهب مال الفيء في مآربه، و تمهيد ملكه، و يصانع به عن سلطانه. و كانت أحواله كلّها
مؤذنة بانسلاخه عن العدالة، و إصراره على الباطل. و إذا كان كذلك، لم يَجُز أنّ ينصُر المسلمون سلطانه، و تحارب الخوارج عليه و إن كانوا أهل ضلال، لأنّهم أحسن حالًا منه.
فإنّهم كانوا ينهون عن المنكر، و يرون الخروج على أئمّة الجور واجباً. و عند أصحابنا أنّ الخروج على أئمّة الجور واجب. و عند أصحابنا أيضاً أنّ الفاسق المتغلّب بغير شبهة يعتمد عليها لا يجوز أن ينصر على من يخرج عليه ممّن ينتمي إلى الدين، و يأمر بالمعروف، و ينهى عن المنكر بل يجب أن يُنصر الخارجون عليه، و إن كانوا ضالّين في عقيدة اعتقدوها بشبهة دينيّة دخلت عليهم، لأنّهم أعدل منه، و أقرب إلى الحقّ، و لا ريب في تلزّم الخوارج بالدين، كما لا ريب في أنّ معاوية لم يظهر عنه مثل ذلك.۱
لا يصّح ما ذكره ابن أبي الحديد من تقديم الخوارج على الفاسق المتغلّب إلّا إذا كانت الشبهة العارضة للخوارج ترتبط بالمسائل الفرعيّة. و أمّا في المسائل الاصوليّة كالتوحيد، و المعاد، و الإمامة و الولاية، فلا ريب في أنّ المؤمن بالله و المعاد، و الرسالة، و الولاية مقدّم على الخوارج، و إن
ظهر منه فسق، و لا يمكن نصر الخوارج عليه. و أمّا معاوية فقد كان أمير المؤمنين يرى عليه السلام قتاله واجباً بعده، لا قتال الخوارج، فلأنّ معاوية لم يكن له دين، و لم يعتقد بالله، و المعاد، و الإسلام. و ما آمن إلّا مكرهاً في فتح مكّة، و كان يُحسَبُ من المنافقين حقّاً.
***
و من أخبار الإمام الغيبيّة، خبره في مروان بن الحكم. فقد جاء في «نهج البلاغة»: اخذ مروان بن الحكم أسيراً يوم الجمل فاستشفع الحسن و الحسين عليهما السلام إلى أمير المؤمنين عليه السلام. فكلّماه فيه فخلّى سبيله.
و على هذا فمروان بن الحكم طليق الإمام. و في ضوء ذلك لم يكن أولاد أبي سفيان وحدهم أبناء الطلقاء، بل كان بنو مروان كافّة أبناء الطلقاء أيضاً. فاولئك طلقاء النبيّ، و هولاء طلقاء الوصيّ.
فقالا له: يبايعك يا أمير المؤمنين.
قَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: أ وَ لَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ۱ قَتْلِ عُثمَانَ؟ لَا حَاجَةَ لِي في بَيْعَتِهِ، إنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ. لَوْ بَايَعَنِي بِكَفِّهِ لَغَدَرَ بِسُبَّتِهِ. أمَا إنَّ لَهُ إمْرَةً كَلَعْقَةِ الكَلْبِ أنْفَهُ. وَ هُوَ أبُو الأكْبُشِ الأرْبَعَةِ، وَ سَتَلْقَى الامَّةُ مِنْهُ وَ مِنْ وَلَدِهِ يَوْماً أحْمَرَ.٢
قال ابن أبي الحديد: قد روى هذا الخبر من طرق كثيرة، و رويت فيه زيادة لم يذكرها صاحب «نهج البلاغة»، و هي قوله عليه السلام في مروان: يَحْمِلُ رَايَةُ ضَلَالَةٍ بَعْدَ مَا يَشِيبُ صُدْغَاهُ. وَ إنَّ لَهُ إمْرَةً ... إلى آخر الكلام.
ثمّ قال: و الأكْبُش الأربعة بنو عبد الملك: الوليد، و سليمان، و يزيد، و هشام ... و لم يل الخلافة من بني اميّة و لا من غيرهم أربعة إخوة إلّا هؤلاء؛ و كلّ الناس فسّروا الأكبش الأربعة بما ذكرناه. و عندي أنّه يجوز أن يعني به بني مروان لصُلبه، و هم: عبد الملك، و عبد العزيز، و بِشر، و محمّد، و كانوا كباشاً أبطالًا أنجاداً. أمّا عبد الملك فولي الخلافة. و أمّا بشر فولي العراق. و أمّا محمّد فولي الجزيرة. و أمّا عبد العزيز فولي مصر. و لكلّ منهم آثار مشهورة. و هذا التفسير أولى، لأنّ الوليد و إخوته أبناء ابنه، و هؤلاء بنوه لصُلبه.
و يقال لليوم الشديد يوم أحمر. و للسنة ذات الجدب: سنة حمراء. و كلّ ما أخبر به أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الكلام وقع كما أخبر به. كذلك قوله: يَحْمِلُ رَايَةَ ضَلَالَةٍ بَعْدَ مَا يَشِيبُ صُدْغَاهُ. فإنّه ولى الخلافة و هو ابن خمس و ستّين في أعدل الروايات.۱
و ذكر المجلسيّ هذه الخطبة في «بحار الأنوار»، في باب إخبار الإمام بالمغيّبات و علمه باللغات، مع كلا التفسيرين المتعلّقين ببني مروان لصُلبه، أو بني عبد الملك لصُلبه.٢
إخبار الإمام عليه السلام بحكومة معاوية في الشام
و من جملة إخبار الإمام بالغيب خطبة خطبها في معاوية و زعمه و نعيقه بالشام، و من ثمّ تحرّكه إلى الكوفة على رأس جيش جرّار. و هذه الخطبة في «نهج البلاغة». قال عليه السلام فيها:
الأوَّلُ قَبْلَ كُلِّ أوَّلٍ، وَ الآخِرُ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ. بِأوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أنْ لَا أوَّلَ لَهُ، وَ بِآخِريَّتِهِ وَجَبَ أنْ لَا آخِرَ لَهُ. وَ أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، شَهَادَةً يُوافِقُ فِيهَا السِّرُّ الإعْلَانَ وَ القَلْبُ اللِّسَانَ. أيُّهَا النَّاسُ! لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي، وَ لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَانِي، وَ لَا تَتَرَامُوا بِالأبْصَارِ عِنْدَ مَا تَسْتَمِعُونَهُ مِنِّي. فَوَ الَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَ بَرَأ النَّسَمَةَ، إنَّ الذي انَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ. مَا كَذَبَ المُبَلِّغُ (رسول الله) وَ لَا جَهِلَ السَّامِعُ (و هو أنا).
وَ لَكَأنِّي أنْظُرُ إلَى ظِلِّيلٍ نَعَقَ بِالشَّامِ وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ في ضَوَاحِي كُوفَانَ. فَإذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ، وَ اشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ، وَ ثَقُلَتْ في الأرْضِ وَطْأتُهُ. عَضَّتِ الفِتْنَةُ أبْنَاءَهَا بِأنْيَابِهَا، وَ مَاجَتِ الحَرْبُ بِأمْوَاجِهَا، وَ بَدَا مِنَ الأيَّامِ كُلُوحُهَا، وَ بَدَا مِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا.
فَإذَا أيْنَعَ زَرْعُهُ، وَ قَامَ عَلَى يَنْعِهِ، وَ هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ، وَ بَرَقَتْ بَوَارِقُهُ، عَقَدَتْ رَايَاتُ الفِتَنِ المُعْضِلَةِ وَ أقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ المُظْلِمِ وَ البَحْرِ المُلْتَطِمِ. هَذَا وَ كَمْ يَخْرِقُ الكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ، وَ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ. وَ عَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ القُرُونُ بِالقُرُونِ، وَ يُحْصَدُ القَائِمُ، وَ يُحْطَمُ المَحْصُودُ.۱
قال المجلسيّ رضوان الله عليه: قيل: المراد بالضلّيل معاوية. و قيل أيضاً: السُّفيانيّ و قال ابن أبي الحديد: المراد عبد الملك بن مروان، لأنّ
هذه الصفات كانت فيه أتمّ منها في غيره، لأنّه أقام بالشام حين دعا إلى نفسه، و هو معنى نعيقه. و فحصت راياته بالكوفة تارة حين شخص بنفسه إلى العراق، و قتل مصعباً. و تارة لمّا استخلف الامراء على الكوفة، كأخيه بشر بن مروان و غيره، حتى انتهى الأمر إلى الحجّاج، و هو زمان اشتداد شكيمة عبد الملك و ثقل وطأته.
و حينئذٍ صعب الأمر جدّاً، و أقبلت الفتن واحدة تلو الاخرى. إذ اصطدم بالخوارج، و حارب عبد الرحمن بن الأشعث. و لمّا كمل أمر عبد الملك، هلك. و عقدت رايات الفتن المعضلة بعده كحروب أولاده مع بني المهلّب، و مع زيد بن عليّ عليه السلام. و مثل الفتن الواقعة بالكوفة أيّام يوسف بن عمر، و خالد القسريّ، و عمر بن هُبَيرة، و غيرهم. و ما حدث في عهدهم من ضروب الفساد و الظلم، و ذهاب النفوس، و تضييع الأموال.۱
و قد قيل: إنّ الإمام كنّى عن معاوية و ما حدث في أيّامه من الفتن، و ما حدث بعده من فتنة يزيد، و عبيد الله بن زياد، و واقعة الحسين عليه السلام. و الأوّل أرجح، لأنّ معاوية في أيّام أمير المؤمنين عليه السلام كان قد نعق بالشام، و دعاهم إلى نفسه. و الكلام يدلّ على إنسان ينعق فيما بعد. أ لا تراه يقول: لَكَأنِّي أنْظُرُ إلَى ضِلِّيلٍ قَدْ نَعِقَ بِالشَّامِ.٢
و قال المجلسيّ بعد أن فسّر كلمات هذه الخطبة: سيأتي كثير من الأخبار في كتاب «الفتن» للبُرْسيّ، من كتاب «مشارق أنوار اليقين».
إخبار الإمام عليه السلام بجلب جنازة من اليمن
و روى عن الأصبغ بن نُباتة أنّه قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يوماً جالساً في نجف الكوفة، فقال لمن حوله: مَنْ يَرَى مَا أرى؟ فقالوا: وَ مَا تَرَى يَا عَيْنَ اللهِ النَّاظِرَةَ في عِبَادِهِ؟
فقال عليه السلام: أرى بعيراً يحمل جنازة و رجلًا يسوقه و رجلًا يقوده، و سيأتيكم بعد ثلاثة أيّام. فلمّا كان اليوم الثالث، قدم البعير و الجنازة مشدودة عليه، و رجلان معه. فسلّما على الإمام و على الجماعة. فقال لهما أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن حيّاهم: مَن أنتم؟ و مِن أين أقبلتم؟ و مَن هذه الجنازة؟! و لما ذا قدمتم؟!
فقالوا: نحن من اليمن. و أمّا الميّت فأبونا. و إنّه عند الموت أوصى إلينا فقال: إذا غسّلتموني و كفّنتموني و صلّيتم عَلَيّ، فاحملوني على بعيري هذا إلى العراق فادفنوني هناك بنجف الكوفة!
فقال لهما أمير المؤمنين عليه السلام: هل سألتماه لما ذا؟ فقالا: أجل قد سألناه، فقال: يُدْفَنُ هُنَاكَ رَجُلٌ لَوْ شَفَعَ في يَوْمِ القِيَامَةِ لأهْلِ المَوْقِفِ لَشُفِّعَ. فقام أمير المؤمنين عليه السلام و قال: صَدَق؛ أنَا وَ اللهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ.۱
إخبار الإمام عليه السلام بفتنة صاحب الزنج
و من الأخبار الغيبيّة للإمام عليه السلام خبر يتعلّق بصاحب الزنج الذي عبّأ جيشاً نحو البصرة، و قتل الناس، و دمّر الدور. و منها خبر في وصف الأتراك الذين ارتكبوا مذابح جماعيّة بحقّ الناس.
أمّا صاحب الزنج، فقد قال عليه السلام في «نهج البلاغة» ضمن وصف الملاحم و الوقائع التي تحدث في البصرة: يَا أحْنَفُ، كَأنِّي بِهِ وَ قَدْ
سَارَ بِالجَيْشِ الذي لَا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ، وَ لَا لَجَبٌ، وَ لَا قَعقَعَةُ لُجُمٍ، وَ لَا حَمْحَمَةُ خَيْلٍ، يُثِيرُونَ الأرْضَ بِأقْدَامِهِمْ كَأنّها أقْدَامُ النَّعَامِ (يُومِئُ بِذَلِكَ إلَى صَاحِبِ الزَّنْجِ. ثُمَّ قَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ:)
وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ العَامِرَةِ وَ الدُّورِ المُزَخْرَفَةِ التي لَهَا أجْنِحَةٌ كَأجْنِحَةِ النُّسُورِ، وَ خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الفِيلَةِ، مِنْ اولَئِكَ الَّذِينَ لَا يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ، وَ لَا يُفْتَقَدُ غَائِبُهُمْ. أنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَ قَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَ نَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا.۱
قال المجلسيّ: قوله عليه السلام: «يثيرون الأرض»؛ لأنّ أقدامهم في الخشونة كحوافر الخيل. و قيل: كناية عن شدّة وطئهم الأرض ليلائم قوله: «لا يكون له غبار».
و أمّا قوله عليه السلام: «كأنّها أقدام النعام»؛ لمّا كانت أقدام الزنج في الأغلب قصاراً عراضاً منتشرة الصدر مفرّجات الأصابع، فأشبهت أقدام النعام. و أجنحة الدور التي شبّهها بأجنحة النسور رواشنها و ما يعمل من الأخشاب و البواري بازرة عن السقوف لوقاية الحيطان و غيرها من الأمطار و شعاع الشمس. و خراطيمها ميازيبها التي تطلى بالقار تكون نحواً من خمسة أذرع (مترين و نصف تقريباً) تدلى من السطوح حفظاً للحيطان. و أمّا قوله عليه السلام: «لا يُندب قتيلهم»؛ فقيل: إنّه وصف لهم بشدّة البأس و الحرص على القتال، و قيل: لأنّهم كانوا عبيداً غرباء لم يكن لهم أهل و ولد و عشيرة. و قيل: «لا يفتقد غائبهم»، وصف لهم بالكثرة، و إنّهم
إذا قتل منهم قتيل، سدّ مسدّه غيره.۱
و تحدّث ابن أبي الحديد بالتفصيل عن تاريخ صاحب الزنج و ظهوره و هزيمته.٢ قال: فأمّا صاحب الزنج هذا فإنّه ظهر في فرات البصرة سنة خمس و خمسين و مأتين رجل زعم أنّه عليّ بن محمّد بن أحمد بن عيسى ابن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فتبعه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ في البصرة. و أكثر الناس يقدحون في نسبه و خصوصاً الطالبيّين (أبناء أبي طالب سواء كانوا فاطميّين أم سائر العلويّين و غير العلويّين) ... و جمهور النسّابين اتّفقوا على أنّه من عبد القيس، و أنّه عليّ بن محمّد بن عبد الرحيم، و امّه أسديّة من أسد بن خزيمة، جدّها محمّد بن حكيم الأسديّ من أهل الكوفة، أحد الخارجين مع زيد بن عليّ بن الحسين عليه السلام على هشام بن عبد الملك. فلمّا قتل زيد، هرب فلحق بالري، و جاء إلى القرية التي يقال لها و رزنين، فأقام بها مدّة. و بهذه القرية ولد عليّ بن محمّد صاحب الزنج، و بها منشؤه. و كان أبو أبيه المسمّى عبد الرحيم رجلًا من عبد القيس، كان مولده بالطالقان، فقدم العراق، و اشترى جارية سنديّة، فأولدها محمّداً أباه.
إلى أن قال: و قد ذكر المسعوديّ في كتابه المسمّى «مروج الذهب» أنّ أفعال عليّ بن محمّد صاحب الزنج تدلّ على أنّه لم يكن طالبيّاً، و تصدّق ما رُمي به من دعوته في النسب. لأنّ ظاهر حاله كان ذهابه مذهب الأزارقة (فرقة من فرق الخوارج) في قتل النساء، و الأطفال،
و الشيخ الفاني، و المريض. و قد روى أنّه خطب مرّة، فقال في أوّل خطبته: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَ اللهُ أكْبَرُ، اللهُ أكْبَرُ، لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ. و كان يرى الذنوب كلّها شركاً. و من الناس من يطعن في دينه و يرميه بالزندقة و الإلحاد، و هذا هو الظاهر من أمره، لأنّه كان متشاغلًا في بدايته بالتنجيم و السحر و الأصْطُرْلَاب.۱
و ذكر أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ أنّ عليّ بن محمّد شخص من سامرّاء، و كان يعلّم الصبيان بها، و يمدح الكتاب، و يستميح الناس في سنة تسع و أربعين و مائتين إلى البحرين، فادّعى بها أنّه عليّ بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العبّاس بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و دعا الناس بهَجَر إلى طاعته.٢
إلى أن قال: و ذكر عنه أنّه عند مصيره إلى البادية، أوهم أهلها أنّه يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب.٣
إلى أن قال: ثمّ صار إلى بغداد، فأقام بها سنة، و انتسب في هذه السنة إلى محمّد بن أحمد بن عيسى بن زيد.٤
إلى أن قال: و انتسب صاحب الزنج في هذه الأيّام إلى محمّد بن محمّد بن زيد بن عليّ بن الحسين، بعد انتسابه الذي كان إلى أحمد بن عيسى بن زيد. و ذلك لأنّه بعد إخرابه البصرة، جاء إليه جماعة من
العلويّة الذين كانوا بالبصرة، و أتاه فيمن أتاه منهم قوم من ولد أحمد بن عيسى بن زيد. فلمّا خافهم ترك الانتساب إلى أحمد بن عيسى، و انتسب إلى محمّد بن زيد.۱ ثمّ انتقل إلى يحيى بن زيد، و هو كاذب لأنّ الإجماع واقع على أنّ يحيى بن زيد مات و لم يعقب، و لم يولد له إلّا بنت واحدة ماتت، و هي ترضع.٢
إلى أن قال ابن أبي الحديد: ذكر عليّ بن الحسين المسعوديّ في «مروج الذهب» أنّ هذه الوقعة بالبصرة، هلك فيها من أهلها ثلاثمائة ألف إنسان. و أنّ عليّ بن أبان المهلّبيّ بعد فراغه من الوقعة، نصب منبراً في الموضع المعروف ببني يشكُر، صلى فيه يوم الجمعة، و خطب لعليّ بن محمّد صاحب الزنج، و ترحّم بعد ذلك على أبي بكر، و عمر، و لم يذكر عثمان و لا عليّاً عليه السلام في خطبته. و لعن أبا موسى الأشعريّ، و عمرو ابن العاص، و معاوية ابن أبي سفيان. قال المسعوديّ: و هذا يؤكّد ما ذكرناه و حكيناه من رأيه، و إنّه كان يذهب إلى قول الأزارقة.٣
إخبار الإمام عليه السلام بغارة التتر و جنكيزخان
و أمّا جيش الأتراك المقصود به جيش جنكيز خان التتريّ، فقد قال في «نهج البلاغة» بعد كلامه السابق: كَأنِّي أرَاهُمْ قَوْماً كَأنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطَرَّقَةُ، يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَ الدِّيبَاجَ، وَ يَعْتَقِبُونَ الخَيْلَ العِتَاقَ. وَ يَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ حتى يَمْشِيَ المَجْرُوحُ عَلَى المَقْتُولِ، وَ يَكُونَ المُفْلِتُ أقَلَّ مِنَ المَأسُورِ.
(فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أصْحَابِهِ: لَقَدْ اعْطِيتَ يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنِين عِلْمَ الغَيْبِ! فَضَحِكَ عَلَيهِ السَّلَامُ وَ قَالَ لِلرَّجُلِ (وَ كَانَ كَلْبِيّاً): يَا أخَا كَلْبٍ! لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ، وَ إنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ، وَ إنَّمَا عِلْمُ الغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ مَا عَدَّدَ اللهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مَا في الأرْحَامِ وَ مَا تَدْرِي نَفسٌ مَا ذَا تَكْسِبُ غَداً وَ مَا تَدْرِي نَفسٌ بِأيّ أرْضٍ تَمُوتُ إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبيرٌ]- الآيَةُ.۱ فَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا في الأرْحَامِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ انْثَى، وَ قَبِيحٍ أوْ جَمِيلٍ، وَ سَخِيّ أوْ بَخِيلٍ، وَ شَقِيّ أوْ سَعِيدٍ، وَ مَنْ يَكُونُ في النَّارِ حَطَباً أوْ في الجِنَانِ لِلنَّبيِّينَ مُرَافِقَاً. فَهَذَا عِلْمُ الغَيْبِ الذي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللهُ. وَ مَا سِوَى ذَلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللهُ نَبِيَّهُ فَعَلَّمَنِيهِ وَ دَعَا لِي بِأنْ
يَعِيَهُ صَدْرِي وَ تَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي.۱
قال المجلسيّ رضوان الله عليه بعد هذا الكلام الذي نقله في باب معجزات كلامه عليه السلام من إخباره بالغائبات: ضحكه عليه السلام إمّا من السرور بما آتاه الله من العلم أو للتعجّب من قول القائل. ثمّ قال: و انطباقها على قصص جنكيز خان و أولاده لا يحتاج إلى بيان.٢
و تحدّث ابن أبي الحديد حديثاً وافياً عن فتنة التتر و جنكيز خان في شرحه لهذه الخطبة.٣ و قال في تفرّد الله تعالى بعلم هذه الأشياء الخمسة النازلة في الآية المباركة:
روى أنّ إنساناً قال لموسى بن جعفر عليه السلام: إنّي رأيت الليلة في منامي أنّي سألتك: كم بقي من عمري؟ فرفعتَ يدك اليُمنى، و فتحتَ أصابعها في وجهي مشيراً إليّ، فلم أعلم خمس سنين، أم خمسة أشهر، أم خمسة أيّام! فقال: و لا واحدة منهنّ، بل ذاك إشارة إلى الغيوب الخمسة التي استأثر الله تعالى بها في قوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ- الآية.
فإن قلتَ: لِمَ ضحك أمير المؤمنين عليه السلام لمّا قال له الرجل: لقد اوتيتَ علم الغيب. و هل هذا إلّا زهو في النفس، و عُجب بالحال؟
قلتُ: قد رُوى أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله ضحك في مناسب هذه الحال، لمّا استسقى فسُقي و أشرف درور المطر. فقام إليه الناس فسألوه أن يسأل الله تعالى أن يحبسه عنهم. فدعا صلى الله عليه و آله،
و أشار بيده إلى السحاب، فانجاب حول المدينة كالإكليل، و هو يخطب على المنبر، فضحك حتى بدت نواجذه، و قال: أشْهَدُ أنِّي رَسُولُ اللهِ.
و سرّ هذا الأمر أنّ النبيّ أو الوليّ إذا حدثت عنده نعمة الله سبحانه، أو عرف الناس و جاهته عند الله، فلا بدّ أن يسرّ بذلك. و قد يحدث الضحك من السرور، و ليس ذلك بمذموم إذا خلا من التَّيه و العُجْب، و كان محض السرور و الابتهاج، و قد قال تعالى في صفة أوليائه: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.۱
فإن قلتَ: فإنّ من جملة العلوم الخمسة: وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً، و قد أعلم الله تعالى نبيّه بامور يكسبها في غده نحو قوله: ستفتح مكّة، و أعلم نبيُّه وصيَّهُ بما يكسبه في غده، نحو قوله له: سَتُقَاتِلُ بَعْدِيَ النَّاكِثِينَ ...- الخبر.
قلتُ: المراد بالآية أنّه لا تدري نفس جميع ما تكسبه في مستقبل زمانها. و ذلك لا ينفي جواز أن يعلم الإنسان بعض ما يكسبه في مستقبل زمانه.٢
إخبار الإمام عليه السلام بالفتن التي تقع في آخر الزمان
و من كلمات أمير المؤمنين عليه السلام الجارية مجرى الخطبة: الخطبة المائة من «نهج البلاغة»:
وَ ذَلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللهُ فِيهِ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ لِنِقاشِ الحِسَابِ وَ جَزَاءِ الأعْمَالِ، خُضُوعاً قِيَاماً، قَدْ ألْجَمَهُمُ العَرَقُ، وَ رَجَفَتْ بِهِمْ الأرْضُ. فَأحْسَنُهُمْ حَالًا مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً وَ لِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً.
و يتعلّق هذا المقدار من كلامه عليه السلام بيوم القيامة.
قال المجلسيّ: و بعد هذا، كلامه عليه السلام في فتنة آخر الزمان أو فتنة صاحب الزنج، إذ قال:۱ فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ المُظْلِمِ، لَا تَقُومُ لَهَا قَائِمَةٌ، وَ لَا تُرَدُّ لَهَا رَايَةٌ، تَأتِيكُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً، يَحْفِزُهَا قَائِدُهَا، وَ يُجْهِدُهَا رَاكِبُهَا. أهْلُهَا قَوْمٌ شَدِيدٌ كَلَبُهُمْ، قَلِيلٌ سَلَبُهُمْ يُجَاهِدُهُمْ في سَبِيلِ اللهِ قَوْمٌ أذِلَّةٌ عِنْدَ المُتَكِبِّرِينَ، في الأرْضِ مَجْهُولُونَ، وَ في السَّمَاءِ مَعْرُوفُونَ.
فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ جَيْشٍ مِنْ نِقَمِ اللهِ لَا رَهَجَ لَهُ وَ لَا حِسَّ، وَ سَيُبْتَلَى أهْلُكِ بِالْمَوْتِ الأحْمَرِ وَ الجُوعِ الأغْبَرِ.٢
قال ابن أبي الحديد: المراد من الجيش الذي «لا رَهَجَ له و لا حسّ» الجَدْب و الطاعون يصيب أهلها. و «الموت الأحمر» الوباء و «الجوع الأغبر» كناية عن الجوع و المَحْل. و سمّي الموت الأحمر لشدّته، و منه الحديث: كُنَّا إذَا احْمَرَّ البَأسُ اتَّقَيْنَا بِرَسُولِ اللهِ. و وصف الجوع بأنّه أغبر، لأنّ الجائع يرى الآفاق كأنّ عليها غبرة و ظلاماً.
و فسّر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزنج، و هو بعيد لأنّ جيشه كان ذا حسّ و رهَج، و لأنّه أنذر البصرة بهذا الجيش عند حدوث تلك الفتن، أ لا تراه قال: فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذَلِكَ؟ و لم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة على الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام.٣
إخبار الإمام عليه السلام بانقراض الأمويّين على أيدي أعدائهم
و من إخباره عليه السلام بالغيب خطبته التي يشكو فيها من بني اميّة، و يَعِد بانقراضهم. و هذه الخطبة في «نهج البلاغة». قال عليه السلام بعد أن بيّن بعثة رسول الله محمّد صلى الله عليه و آله شهيداً و بشيراً و نذيراً:
فَالأرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ، وَ أيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ، وَ أيْدِي القَادَةِ عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ، وَ سُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مُسَلَّطَةٌ، وَ سُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ. ألَا وَ إنَّ لِكُلِّ دَمٍ ثَائِراً، وَ لِكُلِّ حَقٍّ طَالِباً، وَ إنَّ الثَّائِرَ في دِمَائِنَا كَالحَاكِمِ في حَقِّ نَفْسِهِ وَ هُوَ اللهُ الذي لَا يُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ، وَ لَا يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ. فَاقْسِمُ بِاللهِ يَا بَنِي امَيَّةَ عَمَّا قَلِيلٍ لَتَعْرِفُنَّهَا في أيْدِي غَيْرِكُمْ وَ في دَارِ عَدُوِّكُمْ- الخطبة.۱
قال ابن أبي الحديد في شرحه: قوله عليه السلام: سُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مُسَلَّطَةٌ، وَ سُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ، كأنّه كان يرمز إلى ما سيقع من قتل الحسين عليه السلام و أهله. و كأنّه عليه السلام يشاهد ذلك عياناً، و يخطب عليه و يتكلّم على الخاطر الذي سنح له، و الأمر الذي كان أخبر به.
ثمّ أقسم عليه السلام و خاطب بني اميّة و صرّح بذكرهم أنّهم ليعرفنّ الدنيا عن قليل في أيدي غيرهم و في دورهم، و أنّ الملك سينزعه منهم أعداؤهم، و وقع الأمر بموجب إخباره عليه السلام. فإنّ الأمر بقي في أيدي بني اميّة قريباً من تسعين سنة؛ ثمّ عاد إلى البيت الهاشميّ (بني العبّاس)، و انتقم الله تعالى منهم على أيدي أشدّ الناس عداوة لهم.٢
إخبار الإمام عليه السلام بحكومة الحجّاج بن يوسف
و من إخباره عليه السلام بالغيب كلامه حول ظهور الحجّاج بن يوسف الثقفيّ و انتقامه. فقد قال عليه السلام ضمن خطبة له في «نهج البلاغة»:
وَ لَوَدِدْتُ أنَّ اللهَ فَرَّقَ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ ألْحَقَنِي بِمَنْ هُوَ أحَقُّ بِي مِنْكُمْ. قَوْمٌ وَ اللهِ مَيَامِينُ الرَّأي، مَرَاجِيحُ الحِلْمِ، مَقَاوِيلُ بِالحَقِّ، مَتَارِيكُ لِلْبَغْي، مَضَوْا قُدُماً عَلَى الطَّرِيقَةِ، وَ أوْجَفُوا عَلَى المَحَجَّةِ، فَظَفَرُوا بِالعُقبَى الدَّائِمَةِ وَ الكَرَامَةِ البَارِدَةِ.
أمَا وَ اللهِ لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ غُلَامُ ثَقِيفٍ، الذَّيَّالُ المَيَّالُ، يَأكُلُ خَضِرَتَكُمْ وَ يُذيِبُ شَحْمَتَكُمْ. إيهٍ أبَا وَ ذَحَةَ.۱ (كأنّ الإمام عليه السلام هنا يرى غلام ثقيف أمامه و يخاطبه).
قال الشريف الرضيّ بعد هذه الخطبة: الوذحة: الخنفساء (حشرة سوداء، لها أيدٍ و أقدام طويلة و كبيرة، بطيئة السير جدّاً، و تجمع النجاسة فتصنع منها شكلًا كرويّاً). و هذا القول يومئ به إلى الحجّاج، و له مع الوذحة حديث ليس هذا موضع ذكره.
قال ابن أبي الحديد في شرحه: إيهٍ: كلمة يستزاد بها من الفعل. تقديره: زد و هات أيضاً ما عندك. و ضدّها إيهاً، أي: كُفّ و أمسك. ثمّ قال: قال السيّد الرضيّ رحمه الله: الوَذَحة الخنفساء. و لم أسمع هذا من شيخ من أهل الآداب. و ما وجدته في كتاب من كتب اللغة. و لا أدري من أين نقل الرضيّ رحمه الله ذلك!
ثمّ إنّ المفسّرين بعد [السيّد] الرضيّ رحمه الله قالوا في قصّة هذه
الخنفساء وجوهاً، منها: إنّ الحجّاج رأي خنفساء تدبّ إلى مصلّاه، فطردها، فعادت، ثمّ طردها فعادت. فأخذها بيده، و حذف بها، فقرصته قرصاً و رمَتْ يده منه ورماً كان فيه حتفه. قالوا: و ذلك لأنّ الله تعالى قتله بأهون مخلوقاته، كما قتل نمرود بن كنعان بالبقّة التي دخلت في أنفه، فكان هلاكه.
و منها: إنّ الحجّاج كان إذا رأى خُنفساء تدبّ قريبة منه، يأمر غلمانه بإبعادها. و يقول: هَذِهِ وَذَحَةٌ مِنْ وَذَحِ الشَّيْطَانِ. تشبيهاً لها بالبعرة. و كان مغرى بهذا القول. و الوَذَح: ما يتعلّق بأذناب الشاة من أبعارها فيجفّ.
و منها: إنّ الحجّاج قال و قد رأى خنفساوات مجتمعات: وا عجبا لمن يقول: إنّ الله خلق هذه! قيل: فمن خلقها؟ قال: الشيطان. إنّ ربّكم لأعظم شأناً أن يخلق هذه الوَذَح. فنُقل قوله هذا إلى الفقهاء، في عصره، فأكفروه.
و منها: إنّه كان مِثْفاراً (فيه داء الابْنَة). و كان يمسك الخنفساء حيّةً ليشفي بحركتها في الموضع حكاكه. قالوا: و لا يكون صاحب هذا الداء إلّا شائناً مبغضاً لأهل البيت. قالوا: و لسنا نقول: كلّ مبغض فيه هذا الداء، و إنّما قلنا: كلّ من فيه هذا الداء فهو مبغض.
قالوا: و قد روى أبو عمر الزاهد -و لم يكن من الشيعة- في أماليه و أحاديثه عن السيّاريّ، عن أبي خُزَيمة الكاتب، قال مَا فَتَّشْنَا أحَداً فِيهِ هَذَا الدَّاءُ إلَّا وَجَدْنَاهُ نَاصِبِيَّاً. قال أبو عمر: و أخبرني العطافي من رجاله، قالوا: سئل جعفر بن محمّد عليه السلام عن هذا الصنف من الناس، فقال: رحم منكوسة يؤتى و لا يأتي و ما كانت هذه الخصلة في ولي الله تعالى قط و لا تكون أبدا و إنما تكون في الكفار و الفساق و الناصبين للطاهرين. و كان أبو جهل عمرو بن هشام المخزوميّ من القوم. و كان أشدّ الناس
عداوة لرسول الله صلى الله عليه و آله. قالوا: و لذلك قال له عُتبة بن ربيعة يوم بدر: يا مُصَفِّرَ إسْتِهِ.
فهذا مجموع ما ذكره المفسّرون، و ما سمعته من أفواه الناس في هذا الموضع. و يغلب على ظنّي أنّه [عليه السلام] أراد معنى آخر. و ذلك أنّ عادة العرب أن تكنّى الإنسان إذا أرادت تعظيمه بما هو مظنّة التعظيم، كقولهم: أبو الهَول، و أبو المِقدام، و أبو المِغوار. فإذا أرادت تحقيره و الغضّ منه، كنّته بما يستحقَر و يستهان به، كقولهم في كنية يزيد بن معاوية: أبو زنَّة، يعنون القرد. و كقولهم في كنية سعيد بن حفص البخاريّ المحدّث: أبو الفار. و كقولهم للطُّفيليّ: أبو لُقمة. و كقولهم لعبد الملك: أبو الذبّان لبَخرَه. و كقول ابن يسّام لبعض الرؤساء: أبو جَعْر (الخنفساء)، و أبو النَّتْن، و أبو الدَّفْر، و أبو البعر.
فلمّا كان أمير المؤمنين عليه السلام يعلم من حال الحجّاج نجاسته بالمعاصي و الذنوب التي لو شوهدت بالبصر، لكانت بمنزلة البعر الملتصق بشعر الشاء، كنّاه: أبو وَذَحَة. و يمكن أيضاً أن يكنّيه بذلك لدمامته في نفسه، و حقارة منظره، و تشويه خلقته. فإنّه كان قصيراً، دميماً، نحيفاً، أخفش العينين معوجّ الساقين، قصير الساعدين، مجدور الوجه، أصلع الرأس، فكنّاه الإمام بأحقر الأشياء، و هو البعرة.
و قد روى قوم هذه اللفظة بصيغة اخرى، فقالوا: إيهٍ أبَا وَدَجَة. قالوا: واحدة الأوداج، كنّاه بذلك لأنّه كان قتّالًا يقطع الأوداج بالسيف. و رواه قوم: أبَا وَحرَةَ. و هي دويبّة تشبه الحِرباء۱ قصيرة الظهر، شبّهه
بها.
و هذا و ما قبله ضعيف، و ما ذكرناه نحن أقرب الى الصواب.۱
و قال ابن شهرآشوب: قال أمير المؤمنين عليه السلام لأهل البصرة: إنْ كُنْتُ قَدْ أدَّيْتُ لَكُمُ الأمَانَةَ وَ نَصَحْتُ لَكُمْ بِالغَيْبِ، وَ اتَّهْتُمُونِي فَكَذَّبْتُمُونِي فَسَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَى ثَقِيفٍ. قَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: رَجُلٌ لَا يَدَعُ لِلَّهِ حُرْمَةً إلَّا انْتَهَكَهَا، يَعْنِي الحَجَّاجَ.٢
و روى المجلسيّ عن «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، عن عثمان ابن سعيد، عن يحيى التَّيْميّ، عن الأعمش قال: حدّثني إسماعيل بن رجاء، قال: قام أعشى باهلة -و هو غلام يومئذٍ حَدَث- إلى أمير المؤمنين عليه السلام، و هو يخطب، و يذكر الملاحم، فقال: يا أمير المؤمنين! ما أشبه هذا الحديث بحديث خرافة! فقال عليه السلام: إنْ كُنْتَ آثِماً فِيما قُلْتَ يَا غُلَامُ فَرَمَاكَ اللهُ بِغُلَامِ ثَقِيفٍ. ثُمَّ سَكَتَ.
فقال رجل، فقال: و من غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟ قال: غُلَامٌ يَمْلِكُ بَلْدَتَكُمْ هَذِهِ، لَا يَتْرُكُ لِلَّهِ حُرْمَةً إلَّا انْتَهَكَهَا، يَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الغُلَامِ بِسَيْفِهِ.
قالوا: كم يملك يا أمير المؤمنين؟ قال: عِشْرِينَ إنْ بَلَغَهَا. قالوا: فَيُقتل قتلًا أم يموت موتاً؟ قال: بل يموت حتف أنفه بِداء البطن، يثقب سريره لكثرة ما يخرج من جوفه.
قال إسماعيل بن رجاء: فو الله لقد رأيتُ بعيني أعشى باهلة، و قد احضر في جملة الأسرى الذين اسِروا من جيش عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث بين يدي الحجّاج. فقرّعه و وبّخه، و استنشده شِعره الذي يحرّض فيه عبد الرحمن على الحرب. ثمّ ضرب عنقه في ذلك المجلس.۱
و أشار سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام إلى هذا الغلام الثقفيّ في ختام خطبته المعروفة و العجيبة التي خطبها يوم عاشوراء إذ دعا على اولئك القوم بأن يسلّط الله عليهم غلام ثقيف. قال عليه السلام: اللَهُمَّ احْبِسْ عَنْهُمْ قَطْرَ السَّماءِ، وَ ابْعَثْ عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، وَ سَلِّطْ عَلَيْهِمْ غُلَامَ ثَقِيفٍ فَيَسُومَهُمْ، كَأساً مُصَبَّرَةً، فَإنَّهُمْ كَذَّبُونَا وَ خَذَلُونا، وَ أنْتَ رَبُّنَا عَلَيْكَ تَوكَّلْنَا و إلَيْكَ أنَبْنَا وَ إلَيْكَ المَصِيرُ.٢
تولّى الحجّاج بن يوسف أمر الكوفة من قبل عبد الملك بن مروان. و قتل الناس بسيفه البتّار، و أحرق الاخضر و اليابس. و بلغ عدد المقتولين في عهده الذي دام عشرين سنة مائة و عشرين ألفاً. و كان عدد السجناء يوم هلاكه خمسين ألفاً من الرجال، و ثلاثين ألفاً من النساء.٣
***
و من جملة إخبار الإمام عليه السلام بالغيب ما ذكره ابن شهرآشوب، و نقله المجلسيّ عنه أيضاً.
قال حُذَيْفَة بن اليمان لأمير المؤمنين عليه السلام في زمن عثمان: إنّي و الله ما فهمتُ قولك، و لا عرفت تأويله حتى بلغت ليلتي أتذكّر ما قلت لي بالحرّة (فرسخ عن المدينة) و إنّي مُقيل: كَيْفَ أنْتَ يَا حُذَيْفَةُ إذَا ظَلَمَتِ العُيُونُ العَيْنَ؟ و النبيّ صلى الله عليه و آله بين أظهرنا. و لم أعرف تأويل كلامك إلّا البارحة، رأيتُ عتيقاً (أبا بكر)، ثمّ عمر، تقدّما عليك، و أوّل اسمهما عين.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يَا حُذَيْفَةُ! نَسِيتَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ حَيْثُ مَالَ بِهَا إلَى عُثْمَانَ. و أوّل اسمه عين.
و في رواية أنّه عليه السلام قال له: وَ سَيُضَمُّ إلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ العَاصِ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ آكِلَةِ الأكْبَادِ. فَهؤلاءِ العُيُونُ المُجْتَمِعَةُ عَلَى ظُلْمِي.۱
و كنتُ قد رأيتُ قديماً في كتاب «قصص العلماء» للتنكابنيّ أنّ المؤلّف نقل عن المرحوم الميرزا محمود نظام العلماء التبريزيّ حديثاً نصّه: لَعَنَ اللهُ العُيُونَ فَإنَّهَا ظَلَمَتِ العَيْنَ الوَاحِدَةَ.
و هذا الحديث كان من جملة الأسئلة التي وجّهها المرحوم نظام العلماء إلى السيّد على محمّد الباب رئيس الفرقة البابيّة في المجلس الذي عقد بتبريز مع بقيّة العلماء و المشايخ لمحاكمة الشخص المذكور. فسكت و لم يجد جواباً، كما عجز عن جواب سائر الأسئلة التي طرحها عليه.٢
و أنا أيضاً كلّما فكّرتُ في هذا الحديث، لم يخطر ببالي شيء، إلى
أن وجدتُه في «المناقب» فعرفتُ كم هو سهل و يسير. أمّا السبب في عدم فهمي إيّاه فهو أنّ هذا الحديث من الرموز، و ما لم يعرف الإنسان مفتاح الرمز، فلا يمكنه حلّ الرمز. و أمّا السبب الذي دعا المرحوم نظام العلماء أن يختار للباب هذا السؤال، فهو أنّ الباب كان يزعم أنّه باب مدينة العلم، و لذلك ينبغي أن يعرف جميع أسرار الملكوت و رموزه و إشاراته. فاختار له هذا الحديث الذي لا يحلّ رمزه بمسألة من المسائل العلميّة و الأدبيّة و الاجتماعيّة ما لم يسبق الذهن إلى الرمز المذكور، حتى إذا أجاب مدّعى باب العلم، يستبين أنّه مطّلع على بواطن الامور، و إلّا فلا. بَيدَ أنّه لمّا قال: لا أعلم، فقد اتّضح أنّه كاذب.
إخبار الإمام عليه السلام ببقاء معاوية بعده
و روى ابن شهرآشوب عن عبد الرزّاق، عن أبيه، عن مينا مولى عبد الرحمن بن عوف، قال: سمع عليّ عليه السلام ضوضاء في عسكره، فقال: ما هذا؟ فقيل: قُتِل معاوية، فقال: كَلَّا وَ رَبِّ الكَعْبَةِ، لَا يُقْتَلُ حتى تَجْتَمِعَ عَلَيْهِ الامَّةُ.
قالوا له: يا أمير المؤمنين! فلم نقاتله؟ قال: ألْتَمِسُ العُذْرَ بَيْنِي وَ بَيْنَ اللهِ.۱
و روى ابن شهرآشوب أيضاً عن النضر بن شميل، عن عوف، عن مروان الأصفر، قال: قدم راكب من الشام و عليّ عليه السلام بالكوفة، فنعى معاوية. فادخل على عليّ عليه السلام، فقال له: أنت شهدتَ موته؟ قال: نعم، و حثوته عليه. قال: إنّه كاذب.
قيل: و ما يدريك يا أمير المؤمنين أنّه كاذب؟ قال: إنّه لا يموت
حتى يعمل كذا و كذا أعمالًا عملها في سلطانه. فقيل له: فَلِمَ تقاتله؟ قال: لِلْحُجَّةِ.۱
و ذكر ابن شهرآشوب أيضاً عن «المحاضرات» للراغب الإصفهانيّ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: لَا يَمُوتُ ابْنُ هِنْدٍ حتى يُعَلِّقَ الصَّلِيبَ في عُنقِهِ. و قد رواه الأحنف بن قيس، و الأعثم الكوفيّ، و أبو حيّان التوحيديّ، و أبو الثلّاج، و جماعة آخرون. فكان كما قال عليه السلام.٢
إخبار الإمام عليه السلام ببيعة ثمانية نفر ضبّاً
و روى ابن شهرآشوب أيضاً عن إسحاق بن حسّان، بإسناده عن الأصبغ بن نُباتة، قال: أمرنا أمير المؤمنين عليه السلام بالمسير من الكوفة إلى المدائن. فسرنا يوم الأحد، و تخلّف عنّا عمرو بن حريث، و الأشعث ابن قيس، و جرير بن عبد الله البَجَلِيّ مع خمسة نفر، فخرجوا إلى مكان بالحيرة يقال له: الخورنق٣ و السدير.٤ فبينا هم جلوس و هم يتغدّون، إذ خرج عليهم ضبّ، فاصطادوه. فأخذه عمرو بن حريث؛ فبسط كفّه، فقال: بايعوا هذا أمير المؤمنين. فبايعه الثمانية ثمّ أفلتوه و ارتحلوا و قالوا: إنّ عليّ بن أبي طالب يزعم أنّه يعلم الغيب، فقد خلعناه و بايعنا مكانه
ضبّاً. فقدموا المدائن يوم الجمعة، فدخلوا المسجد، و أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على المنبر، فقال عليه السلام: إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله أسرّ إلى حديثاً كثيراً في كلّ حديث باب يفتح كلّ باب ألف باب. إنّ الله تعالى يقول في كتابه العزيز: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ.۱
و أنا اقسم بالله ليبعثنّ يوم القيامة ثمانية نفر من هذه الامّة إمامهم ضبّ. و لو شئتُ أن اسمّيهم لفعلتُ.
فتغيّرت ألوانهم، و ارتعدت فرائصهم، و كان عمرو بن حريث ينتفض كما تنتفض السعفة جبناً و فرقاً.٢
***
و روى عن الحسن بن عليّ عليه السلام في خبر أنّ الأشعث بن قيس الكنديّ بني في داره مئذنة، فكان يرقى إليها إذا سمع الأذان في أوقات الصلوات في مسجد جامع الكوفة، فيصيح من على مئذنته: يَا رَجُلُ! إنَّكَ لَكَاذِبٌ سَاحِرٌ. و كان أبي يسمّيه: عُنُقُ النَّارِ. و في رواية: عُرْفُ النَّارِ. فسئل عن ذلك، فقال: إنّ الأشعث إذا حضرته الوفاة، دخل عليه عنق من النار ممدودة من السماء، فتحرقه، فلا يدفن إلّا و هو فحمة سوداء.
فلمّا توفّى، نظر سائر من حضر إلى النار، و قد دخلت عليه كالعنق الممدود من السماء إلى الأرض حتى أحرقته و هو يصيح و يدعو بالويل و الثبور.٣
***
و روى أبو الجوائز الكاتب عن عليّ بن عثمان، عن المظفّر بن حسن الواسطي السلّال، عن الحسن بن ذكردان، و كان ابن ثلاثمائة و خمس و عشرين سنة قال: رأيتُ عليّاً عليه السلام في النوم، و أنا في بلدي، فخرجتُ إليه إلى المدينة، فأسلمتُ على يده، و سمّاني الحسن. و سمعتُ منه أحاديث كثيرة، و شهدتُ معه مشاهده كلّها. فقلتُ له يوماً من الأيّام: يا أمير المؤمنين! ادعُ الله لي.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا فارسيّ! إنّك ستُعمِّر، و تُحملُ إلى مدينة يبنيها رجل من بني عمّي العبّاس تُسمّى في ذلك الزمان: بغداد، و لا تصل إليها. تموت بموضع يقال له: المدائن. فكان كما قال ليلة دخل المدائن مات.۱
روى مسعدة بن اليسع عن الصادق عليه السلام في خبر أنّ أمير المؤمنين عليه السلام مرّ بأرض بغداد، فقال: ما تُدعى هذه الأرض؟ فقالوا: بغداد. قال: نعم، تبني هاهنا مدينة و ذكر وصفها.٢
و يقال: إنّه وقع من يده سوط، فسأل عن أرضها، فقالوا: بغداد. فأخبر أنّه يبني ثمّ مسجد يقُال له: مسجد السَّوْط.٣
إخبار الإمام عليه السلام بطول عمر أبي الدنيا
و جاء في «تاريخ بغداد» أنّه قال المفيد أبو بكر الجرجانيّ: ولد أبو الدُّنيا في أيّام أبي بكر، و أنّه قال: إنّي خرجت مع أبي للقاء أمير المؤمنين عليه السلام. فلمّا صرنا قريباً من الكوفة، عطشنا عطشاً شديداً. فقلتُ لوالدي: اجلس حتى أدور لك الصحراء فلعلّي أقدر على ماء. فقصدتُ إليه، فإذا أنا ببئر شبه الركيّة أو الوادي (بئر واسعة الفوهة أو
حفرة بين جبلين). فاغتسلتُ و شربت منه حتى رويت. ثمّ جئتُ إلى أبي، فقلتُ: قم، فقد فرّج الله عنّا، و هذه عين ماء قريب منّا. و مضينا، فلم نر شيئاً. فلم يزل يضطرب حتى مات و دفنتُه.
و جئتُ إلى أمير المؤمنين عليه السلام، و هو خارج إلى صفّين، و قد اخرِجَتْ له البغلة. فجئتُ و مسكتُ له بالركاب، و التفتَ إليّ. فانكببتُ اقبِّل الركاب، فشجّت في وجهي شجّة، قال أبو بكر المفيد: و رأيتُ الشجّة في وجهه واضحة. ثمّ سألني (أمير المؤمنين عليه السلام) عن خبري، فأخبرته بقضيّتي. فقال: عين لم يشرب منها أحد إلّا و عمَّر عمراً طويلًا. فأبشر، فإنّك ستعمّر، و سمّاني المُعَمَّر. و هو الذي يُدعى بالأشَجّ.
و ذكر الخطيب: أنّه قدم بغداد في سنة ثلاثمائة، و كان معه شيوخ من بلده، فسألوا عن هذا الرجل. فقالوا: هو مشهور عندنا بطول العمر، و قد بلغني أنّه مات في سنة سبع و عشرين و ثلاثمائة. و نحو ذلك ذكر شيخنا في «الأمالي» (أمالي الطوسيّ) وفاته.۱
***
و روى ابن شهرآشوب عن الأعمش بروايته عن رجل من هَمْدان، قال: كنّا مع عليّ عليه السلام بصفّين، فهزم أهل الشام ميمنة العراق. فهتف بهم مالك الأشتر ليتراجعوا. فجعل أمير المؤمنين عليه السلام يقول لأهل الشام: يَا أبَا مُسْلِمٍ خُذْهُمْ، ثلاث مرّات. فقال الأشتر: أ وَ ليس أبو مسلم معهم؟ قال: لستُ اريد الخولانيّ. و إنّما اريد رجلًا يخرج في آخر الزمان من المشرق يهلك الله به أهل الشام، و يسلب عن بني اميّة
ملكهم.۱
و من الواضح أنّ مراد الإمام عليه السلام هو أبو مسلم الخراسانيّ الذي نهض في خراسان بدعم العلويّين و أهل بيت رسول الله. و قضى على الأمويّين.
إخبار الإمام عليه السلام عن أهل إصفهان، و تحدّثه بلغتهم
و روى في «الخرائج و الجرائح» لابن الراونديّ، عن ابن مسعود أنّه قال: كنتُ قاعداً عند أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد رسول الله، إذ نادى رجل: من يدلّني على من آخذ منه علماً؟
قلتُ له: يا هذا، هل سمعت قول النبيّ صلى الله عليه و آله: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا؟ فقال: نعم. قلتُ: و أين تذهب و هذا عليّ بن أبي طالب؟! فانصرف الرجل، و جثا بين يديه، فقال له الإمام: من أي البلاد أنتَ؟ قال: من إصفهان. قال له: اكتب: أمْلَى عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ: أنَّ أهْلَ إصْفَهَانَ لَا يَكُونُ فِيهِمْ خَمْسُ خِصَالٍ: السَّخَاوَةُ، وَ الشَّجَاعَةُ، وَ الأمَانَةُ، وَ الغيرَةُ، وَ حُبُّنَا أهْلَ البَيْتِ.
قال الرجل: زدني يا أمير المؤمنين. فقال أمير المؤمنين عليه السلام بلسان إصفهان: «اروت اين وِسِ» أي: اليوم حسبك هذا.
قال المجلسيّ بعد ذكر هذا الحديث: كان أهل إصفهان في ذلك الزمان إلى أوّل استيلاء الدولة القاهرة الصفويّة أدام الله بركاتهم من أشدّ النواصب. و الحمد للّه الذي جعلهم أشدّ الناس حبّاً لأهل البيت عليهم السلام، و أطوعهم لأمرهم، و أوعاهم لعلمهم، و أشدّهم انتظاراً لفرجهم. حتى أنّه لا يكاد يوجد من يتّهم بالخلاف في البلد. و لا في شيء من قراه
القريبة أو البعيدة. و ببركة هذه الدولة تبدّلت الخصال الأربع فيهم أيضاً. رزقنا الله و سائر أهل هذه البلاد نصر قائم آل محمّد عليه السلام، و الشهادة تحت لوائه. و حشرنا معهم في الدنيا و الآخرة.۱
إخبار الإمام عليه السلام عن مسجد براثا
و روى ابن شهرآشوب عن الحارث الأعور (الهمدانيّ)، و عمرو بنالحريث، و أبي أيّوب عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه لمّا رجع من وقعة الخوارج، نزل يُمْنَي السواد (القسم الأيمن من أرض العراق). فقال له راهب [كان هناك]: لا ينزل هاهنا إلّا وصيّ نبيّ يقاتل في سبيل الله. فقال عليّ عليه السلام: فَأنَا سَيِّدُ الأوْصِيَاءِ، وَصِيّ سَيِّدِ الأنْبِيَاءِ.
قال [الراهب]: فَإذاً أنْتَ أصْلَعُ قُرَيْشٍ وَصِيّ مُحَمَّدٍ. خُذ عَلَيّ الإسلام فإنّي وجدتُ في الإنجيل نعتك، و أنت تنزل مسجد براثا ببيت مريم و أرض عيسى.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: فاجلس يا حُباب! قال [الراهب]: و هذه دلالة اخرى. ثمّ قال [أمير المؤمنين عليه السلام]: فانزل يا حُباب من هذه الصومعة. و ابن هذا الدير مسجداً. فبنى حُباب الدير مسجداً. و لحق أمير المؤمنين [عليه السلام] إلى الكوفة، فلم يزل بها مقيماً، حتى قتل أمير المؤمنين [عليه السلام]، فعاد حُباب إلى مسجده ببراثا.
و في رواية أنّ الراهب قال: قرأتُ أنّه يصلّي في هذا الموضع إيليا وصيّ البار قُليطا محمّد نبيّ الامّيين الخاتم لمن سبقه من أنبياء الله و رسله -في كلام كثير-: فَمَنْ أدْرَكَهُ فَلْيَتَّبِعِ النُّورَ الذي جَاءَ بِهِ. (القصد من النور المذكور هو أمير المؤمنين عليه السلام). ألا و إنّه يغرس في آخر الأيّام
بهذه البقعة شجرة لا يفسد ثمرها.
و في رواية زاذان قال أمير المؤمنين عليه السلام: و من أين شُربك؟ قال: من دجلة. قال: و لِمَ لَمْ تحفر عيناً تشرب منها؟ قال: قد حفرتها و خرجت مالحة. قال: فاحتفر الآن بئراً اخرى. فاحتفرَ الراهب، فخرج ماؤها عذباً. فقال: يا حُباب! ليكن شربُك من هاهنا. و لا يزال هذا المسجد معموراً. فإذا خرّبوه و قطعوا [ال] نخلة، حلّت بهم (أو بالناس) داهية.
و في رواية محمّد بن القيس: فأتى أمير المؤمنين عليه السلام موضعاً من تلك الملبّة۱ فركلها برجله، فانبجست عين خرّارة فقال: هذه عين مريم. ثمّ قال: فاحتفِروا هاهنا سبعة عشر ذراعاً (قَرابة ثمانية أمتار و نصف)، فاحتفَروا، فإذا صخرة بيضاء، فقال: هاهنا وضعت مريم عيسى من عاتقها، و صلّت هاهنا. فنصب أمير المؤمنين عليه السلام الصخرة، و صلى إليها، و أقام هناك أربعة أيّام.
و في رواية الباقر عليه السلام [أنّ أمير المؤمنين عليه السلام] قال: هذه عين مريم التي انبعت لها. و اكشفوا هاهنا سبعة أذرع، فكشف، فإذا صخرة بيضاء- الخبر. و في رواية: هذا الموضع المقدّس صلى فيه الأنبياء. و قال أبو جعفر [الباقر] عليه السلام: و لقد وجدنا أنّه صلى فيه قبل عيسى. و في رواية: صلى فيه [إبراهيم] الخليل.
و روى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام صاح: يا بئر! -بالعبرانيّ- قرب إليّ. فلمّا عبر [الإمام] من المسجد، و كان فيه عوسج و شوك عظيم، فانتضى سيفه، و كسح ذلك كلّه، و قال: إنّ هاهنا قبر نبيّ من أنبياء الله.
و أمر الشمس أن ارجعي، فرجعتْ. و كان معه ثلاثة عشر رجلًا من أصحابه. فأقام القبلة بخطّ الاستواء و صلى إليها.
و أنشد العونيّ في وصف مسجد براثا و خصوصيّاته قائلًا:
وَ قُلْتَ: بَرَاثَا كَانَ بَيْتاً لِمَرْيَمٍ | *** | وَ ذَاكَ ضَعِيفٌ في الأسَانِيدِ أعْوَجُ |
وَ لَكِنَّهُ بَيْتٌ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمٍ | *** | وَ لِلأنْبِيَاءِ الزُّهْرِ مَثْوَى وَ مَدْرَجُ |
وَ لِلأوْصِيَاءِ الطَّاهِرِينَ مَقَامُهُمْ | *** | عَلَى غَابِرِ الأيَّامِ وَ الحَقُّ أبْلَجُ |
بِسَبْعِينَ مُوصى بَعْدَ سَبْعِينَ مُرْسَلٍ | *** | جِبَاهُهُمْ فِيهَا سُجُوداً تَشَحَّجُ |
وَ آخِرُهُمْ فِيهَا صَلَاةً إمَامُنَا | *** | عَلِيّ بِذَا جَاءَ الحَدِيثُ المُنَهَّجُ۱ |
أخبار غيبيّة في شقّ الأرض و انبجاس الماء في طريق صفين
و من جملة إخبار الإمام عليه السلام بالغيب حادثة وقعت مع راهب نصرانيّ في طريق صفّين إذ فلق الإمام صخرة فانبجس منها الماء. و نقل كبار أهل السير و التأريخ و الحديث هذه القضيّة، كما ذكرها الخطيب في «تأريخ بغداد». و نحن ذكرناها أيضاً في الجزء الرابع، الدرس ٤٦ إلى ٥۱ من كتابنا هذا: «معرفة الامام».٢ و ننقلها فيما يأتي بنحو مفصّل عن «الإرشاد» للمفيد رحمه الله تعالى:
قال المرحوم المفيد: فصلٌ: و من ذلك (أي من إخباره عليه السلام بالغائبات) ما رواه أهل السير، و اشتهر الخبر به في العامّة و الخاصّة، حتى
نظمه الشعراء، و خطب به البلغاء، و رواه الفهماء و العلماء من حديث الراهب بأرض كربلاء، و الصخرة. و شهرته تُغنى عن تكلّف إيراد الإسناد له.
و ذلك أنّ الجماعة روت أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا توجّه إلى صفّين، لحق أصحابه عطش شديد و نفد ما كان عندهم من الماء. فأخذوا يميناً و شمالًا يلتمسون الماء، فلم يجدوا له أثراً. فعدل بهم أمير المؤمنين عليه السلام عن الجادّة، و سار قليلًا، فَلاحَ لهم دَيْرٌ في وسط البرّيّة، فسار بهم نحوه، حتى إذا صار في فِنائه، أمر من نادى ساكنه بالاطّلاع إليهم. فنادوه، فاطّلع.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: هل قُرب قائمك هذا ماء يتغوّث به هؤلاء القوم؟ فقال [الراهب]: هيهات. بيني و بين الماء أكثر من فرسخين، و ما بالقرب منّي شيء من الماء، و لو لا أنّني اوتى بماء يكفيني كلّ شهر على التقصير، لتلفتُ عطشاً.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أسمعتم ما قال الراهب؟ قالوا: نعم، أ فتأمرنا بالمسير إلى حيث أومأ إليه لعلّنا ندرك الماء و بنا قوّة! فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا حاجة بكم إلى ذلك. و لوى عنق بغلته نحو القبلة، و أشار لهم إلى مكان يقرب من الدير، فقال: اكشفوا الأرض في هذا المكان. فعدل منهم جماعة إلى الموضع فكشفوه بالمساحي، فظهرت لهم صخرة عظيمة تلمع.
فقالوا: يا أمير المؤمنين، هنا صخرة لا تعمل فيها المساحي. فقال لهم: إنّ هذه الصخرة على الماء. فإن زالت عن موضعها، وجدتم الماء، فاجتهدوا في قلعها فاجتمع القوم و راموا تحريكها، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلًا، و استصعبت عليهم.
فلمّا رآهم عليه السلام قد اجتمعوا و بذلوا الجهد في قلع الصخرة، فاستصعبت عليهم، لوى عليه السلام رجله عن سرجه حتى صار على الأرض، ثمّ حَسَرَ عن ذراعيه، و وضع أصابعه تحت جانب الصخرة فحرّكها، ثمّ قلعها بيده و دحا بها أذرعاً كثيرة. فلمّا زالت عن مكانها، ظهر لهم بياض الماء، فبادروا إليه فشربوا منه. فكان أعذب ماء شربوا منه في سفرهم و أبرده و أصفاه.
فقال لهم [الإمام]: تزوّدوا و ارتووا. ففعلوا ذلك. ثمّ جاء إلى الصخرة فتناولها بيده و وضعها حيث كانت. و أمر أن يعفى أثرها بالتراب. و الراهب ينظر من فوق ديره. فلمّا استوفى علم ما جرى، نادي: أيُّهَا النَّاسُ! أنْزِلُونِي فاحتالوا في إنزاله. فوقف بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام، فقال له: يا هذا أنْتَ نَبِيّ مُرْسَلٌ؟ قال: لا. قال: فَمَلَكٌ مُقَرَّبٌ؟ قال: لا. قال: فَمَنْ أنْتَ؟
قال: وَصِيّ رَسُولِ اللهِ مُحَمَّد بْنِ عَبْدِ اللهِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ. قال: ابسُطْ يدكَ اسلمُ للّه تبارك و تعالى على يديك. فبسط أمير المؤمنين عليه السلام يده، و قال له: اشهَدِ الشَّهادتين.
إسلام الراهب لمشاهدته معجزات الإمام عليه السلام
فقال [الراهب]: أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَ أشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، وَ أشْهَدُ أنَّكَ وَصِيّ رَسُولِ اللهِ وَ أحَقُّ النَّاسِ بِالأمْرِ مِنْ بَعْدِهِ.
فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام عليه شرائط الإسلام، ثمّ قال: مَا الذي دَعَاكَ إلَى الإسْلَامِ بَعْدَ طُولِ مُقَامِكَ في هَذَا الدَّيْرِ عَلَى الخِلافِ؟
فقال: اخْبرك يا أمير المؤمنين إنّ هذا الدير بُني على طلب قالع هذه الصخرة و مُخرج الماء من تحتها. و قد مضى عالَم قبلي فلم يدركوا ذلك. و قد رزقنيه الله عزّ و جلّ. إنّا نجد في كتاب من كتبنا و نأثُرُ عن علمائنا أنّ
في هذا الصقع عيناً عليها صخرة لا يعرف مكانها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ. و أنّه لا بدّ من وليّ للّه يدعو إلى الحقّ آيته معرفة مكان هذه الصخرة و قدرته على قلعها. و إنّي لمّا رأيتُكَ قد فعلتَ ذلك، تحقّقتُ ما كنّا ننتظره و بلغتُ الامنية منه. فأنا اليوم مسلم على يدك، و مؤمن بحقّك، و مولاك (أي: اقِرّ بولايتك على نفسي و شئوني).
و لمّا سمع ذلك أمير المؤمنين عليه السلام بكى حتى اخضلّت لحيته من الدموع، و قال: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي لَمْ أكُنْ عِنْدَهُ مَنْسِيّاً. الحَمْدُ لِلَّهِ الذي كُنْتُ في كُتُبِهِ مَذْكُوراً.
ثمّ دعا الناس فقال لهم: اسمعوا ما يقول أخوكم هذا المسلم. فسمعوا حالته، و كثر حمدهم للّه و شكرهم على النعمة التي أنعم بها عليهم في معرفتهم بحقّ أمير المؤمنين عليه السلام. ثمّ ساروا و الراهب بين يديه في جملة أصحابه حتى لقي أهل الشام. و كان الراهب من جملة من استشهد معه. فتولّى عليه السلام الصلاة عليه، و دفنه، و أكثر من الاستغفار له. و كان إذا ذكره يقول: ذَاكَ مَوْلَايَ (أي مَن عندي ولايته، فلا حجاب بيني و بينه إلّا من ماهيّة و إنِّيّة ذاتي و ذاته).۱
ذكر الشيخ المفيد هذا الخبر بنفس الألفاظ التي نقلناها، ثمّ قال:
و في هذا الخبر ضروب من المعجز: أحدها: علم الغيب، و الثاني: القوّة التي خرق العادة بها، و تميّز بخصوصيّتها من الأنام، مع ما فيه من ثبوت البشارة به في كتب الله الاولى. و ذلك مصداق قوله تعالى: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ.۱
قصيدة الحميريّ في القصّة الماضية
و في ذلك قال إسماعيل بن محمّد الحميريّ رحمه الله في قصيدته البائيّة المذهّبة:
وَ لَقَدْ سَرَى فِيمَا يَسِيرُ بِلَيْلَةٍ | *** | بَعْدَ العِشَاءِ بِكَرْبِلَا في مَوْكِبِ |
حتى أتى مُتَبتِّلًا في قَائِمٍ | *** | ألْقَى قَوَاعِدَهُ بِقَاعٍ مُجْدِبِ |
يَأتِيهِ لَيْسَ بِحَيْثُ يَلْقَى عَامِراً | *** | غَيْرَ الوُحُوشِ وَ غَيْرِ أصْلَعَ أشْيَبِ |
فَدَنَى فَصَاحَ بِهِ فَأشْرَفَ مَاثِلًا | *** | كَالنَّسْرِ فَوْقَ شَظِيَّةٍ مِنْ مَرْقَبِ |
هَلْ قُرْبَ قَائِمِكَ الذي بَوَّأتَهُ | *** | مَاءٌ يُصَابُ فَقَالَ: مَا مِنْ مَشْرَبِ |
إلَّا بِغَايَةِ فَرْسَخَيْنِ وَ مَنْ لَنَا | *** | بِالمَاءِ بَيْنَ نُقى وَ رِقيّ سَبْسَبِ |
فَثَنَى الأعِنَّةَ نَحْوَ وَعْثٍ فَاجْتَلَى | *** | مَلْسَاءَ تَبْرُقُ كَاللُّجَيْنِ المَذْهَبِ |
قَالَ اقْلِبُوهَا إنَّكُمْ إنْ تَقْلِبُوا | *** | تُرْوَوْا وَ لَا تُرْوَوْنَ إنْ لَمْ تُقْلَبِ |
فَاعْصَوْ صَبُوا في قَلْعِهَا فَتَمنَّعَتْ | *** | مِنْهُمْ تَمَنُّعَ صَعْبَةٍ لَمْ تُرْكَبِ |
حتى إذَا أعيَتْهُمُ أهْوَي لَهَا | *** | كَفّاً مَتَى تَرِدِ المَغَالِبَ تُغْلَبِ |
فَكَأنَّهَا كُرَةٌ بِكَفِّ حِزَوَّرٍ | *** | عَبَلَ الذِّرَاعِ دَحَى بِهَا في مَلْعَبِ |
فَسَقَاهُمُ مِنْ تَحْتِهَا مُتَسَلْسِلًا | *** | عَذْباً يَزِيدُ عَلَى الألَذِّ الأعْذَبِ |
حتى إذَا شَرِبُوا جَمِيعاً رَدَّهَا | *** | وَ مَضَى فَخَلَتْ مَكَانَهَا لَمْ يُقْرَبِ٢ |
هَلَّا وَقَفْتَ عَلَى المَكَانِ المُعْشِبِ | *** | بَيْنَ الطَّوَيْلِعِ فَاللّوى مِنْ كَبْكَبِ |
يَمْحَوْ وَ يُثْبِتُ مَا يَشَاءُ وَ عِنْدَهُ | *** | عِلْمُ الكِتَابِ وَ عِلْمُ مَا لَمْ يُكْتَبِ |
لمّا سار أمير المؤمنين عليه السلام من الكوفة إلى صفّين اختار طريقاً يَبَساً، لا طريقاً مائيّاً بمحاذاة شطّ الفرات. فلهذا عطش جنوده. هذا من جهة، و من جهة اخرى لمّا كان طريق الكوفة إلى الشام يمرّ من كربلاء، لذلك حدثت قصّة الراهب و الصخرة و عين الماء في هذا المكان. و على ضوء هذا كلّه، نظم السيّد الحميريّ قصيدته.
و قال السيّد الحميريّ بعد هذه الأبيات:
أعْنِي ابْنَ فَاطِمَةَ الوَصِيّ وَ مَنْ يَقُلْ | *** | في فَضْلِهِ وَ فَعَالِهِ لَمْ يَكْذِبِ |
لَيْسَتْ بِبَالِغةٍ عَشِيرَ عَشِيرِ مَا | *** | قَدْ كَانَ أُعْطَاهُ مَقَالَةُ مُطْنِبِ |
صِهْرُ الرَّسُولِ وَ جَارُهُ في مَسْجِدٍ | *** | طُهْرٍ بِطَيْبَةَ لِلرَّسُولِ مُطَيَّبِ۱ |
قال الشيخ المفيد في «الإرشاد» بعد نقله أبياتَ الحميريّ: و زاد فيها ابن ميمون قوله:
وَ آيَاتُ رَاهِبهَا سَرِيرَةُ مُعْجِزٍ | *** | فِيهَا وَ آمَنَ بِالوَصِيّ المُنْجِبِ |
وَ مَضَى شَهِيداً صَادِقاً في نَصْرِهِ | *** | أكْرِمْ بِهِ مِنْ رَاهِبٍ مُتَرَهِّبِ |
أعْنِي ابْنَ فَاطِمَةَ الوَصِيّ وَ مَنْ يَقُلْ | *** | في فَضْلِهِ وَ فَعَالِهِ لَمْ يَكْذِبِ |
رَجُلًا كِلَا طَرَفَيْهِ مِنْ سَامٍ وَ مَا | *** | حَامٌ لَهُ بَأبٍ وَ لَا بَأبِ أبِ |
مَنْ لَا يَفِرُّ وَ لَا يُرَى في مَعْرَكٍ | *** | إلَّا وَ صَارِمُهُ الخَضِيبُ المَضْرَبِ۱ |
إخبار الإمام بمشاركة حبيب بن جمار في حرب الحسين عليه السلام
و كذلك قال الشيخ المفيد: و ممّا رواه الحسن بن محبوب، عن ثابت الثماليّ، عن أبي إسحاق السبيعيّ، عن سويد بن غفلة أنّ رجلًا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين! إنّي مررت بوادي القُرَى فرأيتُ خالد بن عُرفُطَة قد مات بها.٢ فاستغفر له. فقال عليه السلام: إنّه لم يمت، و لا يموت حتى يقود جيش ضلالة، صاحب لوائه حبيب بن جمار.٣
فقام إليه رجل من تحت المنبر، فقال: يا أمير المؤمنين، و الله إنّي لك شيعة، و إنّي لك محبّ. قال الإمام: وَ مَنْ أنْتَ؟ قال: أنَا حَبِيبُ بْنُ جمار. قال: إيَّاكَ أنْ تَحْمِلَهَا، وَ لَتَحْمِلَنَّهَا فَتَدْخُلَ بِهَا مِنْ هَذَا البَابِ- وَ أوْمَأ بِيَدِهِ إلَى بَابِ الفِيلِ (أحد أبواب مسجد الكوفة)-.
فلمّا مضى أمير المؤمنين عليه السلام، و مضى [الإمام] الحسن عليه السلام بعده، و كان من أمر [الإمام] الحسين عليه السلام و من ظهوره ما كان، بعث ابن زياد بعمر بن سعد إلى الحسين عليه السلام، و جعل خالد بن عُرفطة على مقدّمته، و حبيب بن جمار صاحب رايته. فسار بها [خالد] حتى دخل المسجد من باب الفيل.
و هذا أيضاً خبر مستفيض لا يتناكره أهل العلم و الرواة للآثار. و هو منتشر في أهل الكوفة، ظاهر في جماعتهم لا يتناكره منهم اثنان. و هو من المعجز الذي ذكرناه.۱
و رواه بهذا المضمون ابن شهرآشوب في مناقبه عن أبي الفرج الإصفهانيّ في «أخبار الحسن»،٢ و أيضاً رواه المجلسيّ في «بحار الأنوار» عن الأعمش، و ابن محبوب عن الثماليّ و السبيعيّ، و كلّهم عن سويد بن غفلة، و كذلك رواه أبو الفرج الإصفهانيّ في «أخبار الحسن».٣
و رواه المجلسيّ أيضاً في «بحار الأنوار» بمضمون آخر عن «الاختصاص» للشيخ المفيد، و «بصائر الدرجات» للصفّار، فقد روى عن هذين العالمين الجليلين، عن عبد الله بن محمّد، عن ابن محبوب، عن أبي حمزة، عن سويد بن غفلة أنّه قال:
أنا عند أمير المؤمنين عليه السلام إذ أتاه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين! جئتك من وادي القرى، و قد مات خالد بن عرفطة. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّه لم يمت. فأعادها عليه. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لم يمت. و الذي نفسي بيده لا يموت. فأعادها عليه الثالثة. و أجابه الإمام نفس الجواب.
فقال الرجل: سبحان الله! اخبرك أنّه مات و تقول: لم يمت. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: و الذي نفسي بيده لا يموت حتى يقود جيش ضلالة يحمل رايته حبيب بن جمار. فسمع بذلك حبيب، فأتاه، فقال له: اناشدك في و أنّي لك شيعة، و قد ذكرتني بأمر، لا و الله ما أعرفه من نفسي. فقال له: إنْ كُنْتَ حَبِيبَ بْنَ جَمارٍ لَتَحْمِلَنَّهَا. فولّى حبيب. و قال الإمام مرّة اخرى: إنْ كُنْتَ حَبِيبَ بْنَ جمارٍ لَتَحْمِلَنَّهَا.
قال أبو حمزة الثماليّ راوي هذا الخبر عن سويد بن غفلة: و الله ما مات حتى بعث عمر بن سعد إلى الحسين بن عليّ عليه السلام، و جعل خالد بن عرفطة على مقدّمته، و حبيب صاحب رايته.
و قال المجلسيّ بعد بيان هذا الخبر: رواه ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» عن كتاب «الغارات» لابن هلال الثقفيّ، عن ابن محبوب، عن الثماليّ، عن سويد بن غفلة.۱
و من هنا نفهم ما ورد في السِيَر و التواريخ و الأحاديث من أنّ قاتلي سيّد الشهداء عليه السلام كانوا من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام الكوفيّين كحجّار بن أبجُر، و شَبَث بن رِبعي، و محمّد بن الأشعث، و غيرهم. و كان كلّ منهم يقود أربعة آلاف جنديّ. و تحرّكوا بجيشهم البالغ ثلاثين ألفاً لحرب الحسين صلوات الله عليه، و عبّئوا أنفسهم من أجل حطام الدنيا، و جوائز يزيد، و ابن زياد، و رئاسة مؤقّتة زائلة في مصر من الأمصار، و أمثال ذلك. و أراقوا دم بضعة المصطفى في صحراء كربلاء ظالمين له، و ناهضين بوجه الحقّ و التوحيد و العدالة. و أعمتهم زخارف الدنيا الخدّاعة و طبعت على سمعهم و أبصارهم و أفئدتهم حتى نسوا جميع الخطب التي خطبها إمام المتّقين و سيّد الأوّلين و الآخرين أمير المؤمنين عليه السلام، و إخباره بالغائبات، و جهاده للّه و دينه. حقّاً حُبُّ الشَّيءِ يُعْمِي وَ يُصِمُّ. فمن أحبّ شيئاً، فإنّ عينه تعمى عن رؤية غيره، و اذُنَه تصمّ عن سماع سواه، و لا يعد يدرك إلّا مطلوبه و مقصوده، و يختم بيده على قلبه و بصيرته، و يحبس نفسه في غار الشيطان المظلم الدامس، و مطمورة الجنّ، و هوى النفس الأمّارة.
و لعلّ حبيب بن جمار الذي جاء عند أمير المؤمنين عليه السلام كان يومئذٍ صادقاً فيما ادّعاه من تشيّعه، و لم يَدُر في خلده، و لم يَجُل في ظنّه أنّه سيحمل يوماً على كتفه راية يزيد و عمر بن سعد. بَيدَ أنّ الربّ الحكيم يفتن الناس و يبتليهم حتى تظهر بواطنهم، و تنكشف خفيّاتهم و ما
يخبّئون في سويداء قلوبهم، ممّا قد يعزب عنهم أنفسهم. و عندئذٍ يُساق إلى الجنّة من كان أهلًا لها، و يساق إلى جهنّم من كان أهلًا لها.
و كان البراء بن عازب من صحابة رسول الله صلى الله عليه و آله، و من أنصار أمير المؤمنين عليه السلام، و كان حيّاً يوم استشهد أبو عبد الله الحسين عليه السلام بَيدَ أنّه لم يرفده و لم ينصره، فعاش متحسّراً حتى مماته، و لكن هل يغني التحسّر شيئاً! و ما على المؤمن إلّا أن يكون بصيراً واعياً مغتنماً للفرصة في المواقف المطلوبة.
روى الشيخ المفيد، و ابن شهرآشوب عن إسماعيل بن صبيح، عن يحيى بن المساور العابد، عن إسماعيل بن زياد أنّ عليّاً عليه السلام قال للبراء بن عازب يوماً: يَا بَرَاءُ! يُقْتَلُ ابْنِيَ الحُسَيْنُ وَ أنْتَ حَيّ لَا تَنْصُرُهُ.
فلمّا قُتِل الحسين عليه السلام، كان البراء بن عازب يقول: صدق و الله أمير المؤمنين على بن أبي طالب. قُتل الحسين، و لم أنصره. ثمّ يظهر الحسرة على ذلك و الندم.۱
***
و كذلك روى الشيخ المفيد في «الإرشاد» عن عثمان بن قيس العامريّ، عن جابر بن الحرّ، عن جُوَيْرية بن مسهر العبديّ،٢ أنّه قال: لمّا توجّهنا مع أمير المؤمنين عليه السلام إلى صفّين فبلغنا طفوف كربلاء، وقف عليه السلام ناحيةً من المعسكر، ثمّ نظر يميناً و شمالًا و استعبر، ثمّ قال: هَذَا وَ اللهِ مُنَاخُ رِكَابِهِمْ وَ مَوْضِعُ مَنِيَّتِهِمْ. فقيل له: يا أمير المؤمنين!
ما هذا الموضع؟ قال: هَذَا كَرْبَلَاءُ، يُقْتَلُ فِيهِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. ثمّ سار.
و كان الناس لا يعرفون تأويل ما قال حتى كان من أمر [أبي عبد الله] الحسين بن عليّ عليهما السلام و أصحابه بالطفِّ ما كان، فعرف حينئذٍ من سمع مقاله مصداق الخبر فيما أنبأهم به. و كان ذلك من علم الغيب و الخبر بالكائن قبل كونه. و هو المعجز الظاهر و العلم الباهر حسب ما ذكرناه.۱
و كان جويرية بن مُسهر العَبْديّ من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام. و هو رجل عظيم الشأن جليل القدر. علّمه الإمام علم المنايا و البلايا. و كان له قلب نيّر و ضمير متألّق تنعكس فيه مخبّآت المستقبل.
و كان أمير المؤمنين عليه السلام يحبّه كثيراً حتى بلغ مبلغاً كان فيه من أخصّ خواصّه. و ارتفع الحجاب و البينونيّة بينه و بين الإمام. استشهد قبل واقعة كربلاء إذ قطعت يده و رجله، و صُلب في حُبّ و ولاية سيّد الأحرار أمير المؤمنين عليه السلام. و قال المفيد في «الإرشاد» و هو يتحدّث عن معجزات الإمام و إخباره بالغائبات:
إخبار الإمام عليه السلام بمقتل جويرية
و من ذلك ما رواه العلماء أنّ جويرية بن مسهر وقف على باب القصر (قصر الإمارة) بالكوفة. فقال: أين أمير المؤمنين عليه السلام؟ فقيل له: نائم. فنادي:
أيُّهَا النَّائِمُ اسْتَيْقِظْ! فَوَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُضْرَبَنَّ ضَرْبَةً عَلَى رَأسِكَ تُخْضَبُ مِنْهَا لِحْيَتُكَ، كَمَا أخْبَرْتَنَا بِذَلِكَ مِنْ قَبْلُ.
فسمعه أمير المؤمنين عليه السلام، فنادي: أقْبِلْ يَا جُوَيْرِيَةُ حتى احَدِّثَكَ بِحَدِيثِكَ. فأقبل جويرية.
فقال عليه السلام: وَ أنْتَ وَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُعْتَلَنَّ إلَى العُتُلِّ الزَّنِيمِ وَ لَيَقْطَعَنَّ يَدَكَ وَ رِجْلَكَ ثُمَّ لَتُصْلَبَنَّ تَحْتَ جِذْعِ كَافِرٍ.۱
فمضى على ذلك الدهر، حتى وُلِّي زياد [بن أبيه] في أيّام معاوية، فقطع يده و رجله، ثمّ صلبه إلى جذع ابن مُكَعْبَر، و كان جذعاً طويلًا، فكان
جويرية تحته. [فلهذا عبّر عنه الإمام بقوله: ليصلبنّك تحت جذع ...۱].
إخبار الإمام عليه السلام بواقعة كربلاء
و روى ابن شهرآشوب عن أبي حفص عمر بن محمّد الزيّات في خبر أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال للمسيِّب بن نجيّة: يَأتِيكُمْ رَاكِبُ الدَّغِيلَةِ يَشُدُّ حَقْوَهَا بِوَضِينِها، لَمْ يَقْضِ تَفَثاً مِنْ حَجٍّ وَ لَا عُمْرَةٍ فَيَقْتُلُوهُ. يُرِيدُ الحُسَيْنَ عَلَيهِ السَّلَامُ.٢
قال المجلسيّ في شرح هذه العبارة: الدغيلة: الدغل و المكر و الفساد. أي: يركب مكر القوم و يأتي لما وعدوه خديعة. و يحتمل أن يكون تصحيف الرعيلة، و هي القطعة من الخيل القليلة، و الوضين بطان منسوج يشدّ به الرحل على البعير كالحزام للسرج. و شَدَّ حَقْوَهَا به كناية عن الاهتمام بالسير و الاستعجال فيه. و عَدَمُ قَضَاءُ التَّفَث إشارة إلى أنّ الحسين عليه السلام لم يتيسّر له الحجّ، بل أحلّ و خرج من مكّة يوم التروية.٣
و ذكر ابن شهرآشوب أيضاً عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه خاطب أهل الكوفة فقال لهم:
كَيْفَ أنْتُمْ إذَا نَزَلَ بِكُمْ ذُرِّيَّةُ نَبِيِّكُمْ فَعَمدتُمْ إلَيْهِ فَقَتَلْتُمُوهُ؟ قَالُوا: مَعَاذَ اللهِ لَئِنْ أتَانَا اللهُ في ذَلِكَ لَنَبْلُوَنَّ عُذْراً. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
هُمْ أوْرَدُوهُ في الغُرُورِ وَ غَرَّرُوا | *** | أرَادُوا نَجَاةً لَا نَجَاةٌ وَ لَا عُذْرُ۱ |
و كذلك روى ابن شهرآشوب عن «المُسنَد» للموصليّ، عن عبد الله ابن يحيى، عن أبيه أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا حاذى نينوى و هو منطلق إلى صفّين، نادي:
اصْبِرْ أبَا عَبْدِ اللهِ بِشَطِّ الفُرَاتِ. فَقُلْتُ: وَ مَا ذَا؟ فَذَكَرَ مَصْرَعَ الحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلَامُ بِالطَّفِّ.٢
و جاء في كتاب «الشافي في الأنساب» أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا قال هذا الكلام بأرض نينوى، قال أحد أصحابه: فطلبتُ ما اعلِمُ به الموضعَ، فما وجدتُ غير عظم جمل. فرميتُه في الموضع. فلمّا استُشهد الحسين عليه السلام، وجدتُ العظم في مصارع أصحابه.٣
و ذكر المجلسيّ في «بحار الأنوار» ج ٩، ص ٥٩٢، طبعة الكمبانيّ، عن «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، عن نصر بن مزاحم بسنده المتّصل عن عروة البارقيّ أنّه قال: جئت إلى سعد بن وهب فسألته عن حديث حدّثناه عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال: نعم، بعثني مخنف بن سليم إلى عليّ عليه السلام عند توجّهه إلى صفّين. فأتيته بكربلاء، فوجدته يشير بيده و يقول: هَا هُنَا هَا هُنَا.
فقال له رجل: و ما ذاك يا أمير المؤمنين؟
فقال: ثَقَلُ آلِ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ تَنْزِلُ هَا هُنَا، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْكُمْ وَ وَيْلٌ لَكُمْ مِنْهُمْ.
فقال له الرجل: ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ فقال: ويل
لهم منكم: تقتلونهم؟ و ويل لكم منهم: يدخلكم الله بقتلهم إلى النار.
قال نصر: و قد رُوي هذا الكلام على وجه آخر، أنّه قال: فَوَيْلٌ لَكُمْ مِنْهُمْ، وَ وَيْلٌ لَكُمْ عَلَيْهِمْ.
فقال الرجل: أمّا ويلٌ لكم منهم، فقد عرفناه، فويل لكم عليهم ما معناه؟
قال: ترونهم يُقتلون لا تستطيعون نصرتهم!
و كذلك روى نصر بن مزاحم عن سعيد بن حكيم العبسيّ، عن الحكم الحسن بن كثير، عن أبيه أنّ عليّاً عليه السلام أتى كربلاء، فوقف بها. فقيل له: يا أمير المؤمنين هذه كربلاء.
فقال: ذاتُ كربٍ و بَلا. ثمّ أومأ بيده إلى مكان فقال: هَا هُنَا مَوْضِعُ رِحَالِهِمْ وَ مُنَاخُ رِكَابِهِمْ. ثمّ أومأ بيده إلى مكان آخر فقال: هَا هُنَا مُرَاقُ دِمَائِهِمْ. ثمّ مضى إلى سَابَاطَ.۱
و روى ابن أبي الحديد أيضاً في «شرح نهج البلاغة» عن نصر بن مزاحم في كتاب «صفّين» بسنده عن هرثمة بن سليم أنّه قال: غزونا مع عليّ صفّين. فلمّا نزل بكربلاء، صلى بنا. فلمّا سلّم، رفع إليه من تربتها فشمّها، ثمّ قال: وَاهاً لَكِ يَا تُرْبَةُ! ليُحْشَرَنَّ مِنْكِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.٢
فلمّا رجع هرثمة من غزاته إلى امرأته جرداء بنت سمير -و كانت من شيعة عليّ عليه السلام- حدّثها هرثمة فيما حدّث، فقال لها: ألا اعجبك من صديقكِ أبي حسن؟ قال: لمّا نزلنا كربلاء، أخذ حفنة من تربتها و شمّها و قال: وَاهاً لَكِ أيَّتُهَا التُّرْبَةُ لَيُحْشَرَنَّ مِنْكِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. و ما علمه بالغيب؟
فقالت المرأة له: دَعْنَا مِنْكَ أيُّهَا الرَّجُلُ، فَإنَّ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ لَمْ يَقُلْ إلَّا حَقَّاً.
قال سمير: فلمّا بَعثَ عبيدُ الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين عليه السلام، كنت في الخيل التي بعث إليهم. فلمّا انتهيتُ إلى الحسين عليه السلام و أصحابه، عرفت المنزل الذي نزلنا فيه مع على عليه السلام، و البقعة التي رفع إليه من تربتها و القول الذي قاله. فكرهت مسيري، فأقبلتُ على فرسي حتى وقفتُ على الحسين عليه السلام و سلّمت عليه و حدّثته بالذي سمعتُ من أبيه في هذا المنزل.
فقال الحسين عليه السلام: أ مَعَنَا أمْ عَلَيْنَا؟
قلتُ: يا بن رسول الله! لا معك و لا عليك. تركتُ ولدي و عيالي
أخاف عليهم من ابن زياد.
فقال الحسين عليه السلام: فَتَوَلَّ هَرَباً حتى لَا تَرَى مَقْتَلَنَا. فَوَ الذي نَفْسُ الحُسَيْنِ بِيَدِهِ لَا يَرَى اليَوْمَ مَقْتَلَنَا أحَدٌ ثُمَّ لَا يُعِينُنَا إلَّا دَخَلَ النَّارَ.
قال هرثمة: فأقبلتُ في الأرض اشتدّ هرباً حتى خفي عَلَيّ مقتلهم.۱
روى الراوندي في «الخرائج و الجرائح» عن الإمام الباقر عليه السلام، عن أبيه أنّه قال: مرّ عليّ عليه السلام بكربلاء. فقال لمّا مرّ به أصحابه و قد اغرورقت عيناه يبكي:
هَذَا مُنَاخُ رِكَابِهِمْ، وَ هَذَا مُلْقَى رِحَالِهِمْ، هَا هُنَا مُرَاقُ دِمائِهِمْ. طُوبَى لَكِ مِنْ تُرْبَةٍ عَلَيْهَا تُرَاقُ دِمَاءُ الأحِبَّةِ.٢
قال الباقر عليه السلام: خرج عليّ عليه السلام يسير بالناس حتى إذا كان بكربلاء على ميلين أو ميل، تقدّم بين أيديهم حتى طاف بمكان يقال له المقذفان فقال:
قُتِلَ فِيهَا مِائَتَا نَبِيّ وَ مِائَتَا سِبْطٍ كُلُّهُمْ شُهَدَاءُ، وَ مُنَاخُ رُكَّابٍ وَ مَصَارِعُ عُشَّاقٍ، شُهَدَاءُ لَا يَسْبِقُهُمْ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ، وَ لَا يَلْحَقُهُمْ مَنْ بَعْدَهُم.٣
و روى عن «عيون أخبار الرضا» بالأسانيد الثلاثة عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه، عن أمير المؤمنين صلوات الله عليهم أنّه قال:
كَأنِّي بِالقُصُورِ قَدْ شُيِّدَتْ حَوْلَ قَبْرِ الحُسَيْنِ. وَ كَأنِّي بِالمَحَامِلِ تَخْرُجُ مِنَ الكُوفَةَ إلَى قَبْرِ الحُسَيْنِ. وَ لَا تَذْهَبُ اللَّيَالِي وَ الأيَّامُ حتى يُسَارُ
إلَيْهِ مِنَ الآفَاقِ. وَ ذَلِكَ عِنْدَ انْقِطَاعِ مُلْكِ بَنِي مَرْوانَ.۱
و لا غرو من بكاء أمير المؤمنين عليه السلام عند مروره بكربلاء و نينوى، فقد بكى قبله رسول الله صلى الله عليه و آله على الحسين عليه السلام، و دفع إلى امِّ سلمة قارورة فيها تربة الحسين، و قال لها: إذا صار ما في القارورة دماً عبيطاً، فاعلمي أنّ ولدي الحسين قد قتل. و سبق رسول الله في البكاء على الحسين عليه السلام أنبياء الله الماضون كآدم، و نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى عليهم السلام. كما بكت عليه ملائكة السماء.
قصيدة القاضي الجليس في واقعة كربلاء
و قال القاضي الجليس أحد شعراء القرن السادس، و اسمه أبو المعالي عبد العزيز بن حسين بن حُباب الأغلبيّ، في قصيدة له:
لَهْفِي لِقَتْلَى الطَّفِّ إذْ | *** | خَذَلَ المُصَاحِبُ وَ العَشِيرُ |
وَ وَافَاهُمُ في كَرْبَلَا | *** | يَوْمٌ عَبُوسٌ قَمْطَرِيرُ |
دَلَفَتْ لَهُمْ عُصَبُ الضَّلَالِ | *** | كَأنَّمَا دُعِيَ النَّفِيرُ |
عَجَباً لَهُمْ لَمْ يَلْقَهَمْ | *** | مِنْ دُونِهِمْ قَدْرٌ مُبِيرُ |
أ يُمَارُ فَوْقَ الأرْضِ فَيْضٌ | *** | دَمِ الحُسَيْنِ وَ لَا تَمُورُ؟ |
أ تَرَى الجِبَالَ دَرَتْ وَ لَمْ | *** | تَقْذِفْهُمُ مِنْهَا صُخُورُ؟ |
أمْ كَيْفَ إذْ مَنَعُوهُ وِرْدَ | *** | المَاءِ لَمْ تَغُرِ البُحُورُ؟ |
حَرُمَ الزُّلالُ عَلَيْهِ لَمَّا | *** | حُلِّلَتِ لَهُمُ الخُمُورُ٢ |
و له قصيدة ذات عشرين بيتاً، منها الأبيات الآتية التي نتبرّك بذكرها و نختم عندها بحثنا:
حُبِّي لآلِ رَسُولِ اللهِ يَعْصِمُنِي | *** | مِنْ كُلِّ إثْمٍ وَ هُمْ ذُخْرِي وَ هُمْ جَاهِي |
يَا شِيعَةَ الحَقِّ قُولِي بِالوَفَاءِ لَهُمْ | *** | وَ فَاخِرِي بِهِمُ مَنْ شِئْتِ أوْ بَاهِى |
إذَا عَلَقْتِ بِحَبْلٍ مِنْ أبِي حَسَنٍ | *** | فَقَدْ عَلَقْتِ بِحَبْلٍ في يَدِ اللهِ |
حَمَى الإلَهُ بِهِ الإسْلَامَ فَهُوَ بِهِ | *** | يُزْهَى عَلَى كُلِّ دِينٍ قَبْلَهُ زَاهِ |
بَعْلُ البَتُولِ وَ مَا كُنَّا لِتَهْدِيَنَا | *** | أئِمَّةٌ مِنْ نَبِيّ اللهِ لَوْ لَا هِي |
نَصَّ النَّبِيّ عَلَيْهِ في الغَدِيرِ فَمَا | *** | زَوَاهُ إلَّا ظَنِينٌ دِينُهُ وَاهِ۱ |
الدَّرْسُ الحَادِيَ وَ السَّبْعُونَ بَعْدَ المِائَةِ إلَى الثَالِث وَ السَّبْعِينَ بَعْدَ المِائَةِ: عِلْمُ أمِيرِ المُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالمَنايَا وَ البَلَايَا وَ الأعْمَارِ وَ المَلَاحِمَ وَ الفِتَنِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
تفسير الآيات الاولى من سورة العلق
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.۱
جاء في تفسير «الصافي» نقلًا عن «تفسير القمّيّ» أنّ هذه السورة أوّل سورة نزلت على النبيّ صلى الله عليه و آله و سلّم. إذ هبط جبرئيل عليه صلى الله عليه و آله، فقال: يَا مُحَمَّدُ! اقْرَأ. فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: و ما أقرأ؟ قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . يَعْنِي خَلَقَ نُورَكَ القَدِيمَ قَبْلَ الأشْيَاءِ.٢
و قال سماحة استاذنا العلّامة الطباطبائيّ أفاض الله علينا من بركات رمسه في تفسيره: مفعول اقْرَأ محذوف. و قوله بِاسْمِ رَبِّكَ الباء متعلّق بمقدّر نحو مفتتحاً أو مبتدأً أو با قرأ، و الباء للملابسة. (أي: اقرأ بتلقّي ما
يوحيه إليه ملك الوحي مبتدأً أو مفتتحاً أو ملابساً اسم ربّك الذي خلقك).
و في قوله: رَبِّكَ الذي خَلَقَ إشارة إلى قصر الربوبيّة في الله عزّ اسمه. و هو توحيد الربوبيّة المقتضية لقصر العبادة فيه. فانّ المشركين كانوا يقولون: إنّ الله سبحانه ليس له إلّا الخلق و الإيجاد. و أمّا الربوبيّة، و هي الملك و التدبير، فلمقرّبي خلقه من الملائكة و الجنّ و الإنس، فدفعه الله بقوله: رَبِّكَ الذي خَلَقَ الناصّ على أنّ الربوبيّة و الخلق له وحده. و قوله: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ الباء للسببيّة. أي: علّم القراءة أو الكتابة بواسطة القلم ... و الكلام مسوق لتقوية نفس النبيّ صلى الله عليه و آله و إزالة القلق و الاضطراب عنها حيث امر بالقراءة و هو امّيّ لا يكتب و لا يقرأ، كأنّه قيل: اقرأ كتاب ربّك الذي يوحيه إليك و لا تخف، و الحال أنّ ربّك الأكرم الذي علّم الإنسان القراءة بواسطة القلم الذي يخطّ به. فهو قادر على أن يعلّمك قراءة كتابه و أنت امّيّ، و قد أمرك بالقراءة و لو لم يقدرك عليها لم يأمرك بها.
ثمّ عمّم سبحانه النعمة فذكر تعليمه للإنسان ما لم يعلم فقال: عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ. و فيه مزيد من تقوية لقلب النبيّ صلى الله عليه و آله و تطييب لنفسه ... و قرأتَ الكتاب: إذا جمعتَ الحروف و الكلمات بضمّ بعضها إلى بعض في الذهن و إن لم تتلفّظ بها. (و إنّما يحصل هذا الضمّ في الذهن فحسب). و المراد به الأمر بتلقّي ما يوحيه إليك ملك الوحي من القرآن.۱
و على هذا، إنّ جميع علوم رسول الله صلى الله عليه و آله كانت
بواسطة ملائكة الوحي. و قراءتها تعني تثبيتها في الذهن و القلب، و العمل بمقتضاها.
و علّم رسول الله صلى الله عليه و آله وصيَّه أمير المؤمنين عليه السلام ما كان يعرفه من العلوم. أي: علّمه تلك المعاني النوريّة و المدركات القدسيّة العالية التي اوحيت إليه صلى الله عليه و آله بواسطة أعظم مَلَك من ملائكة الله تعالى، و هو جبرائيل أو الروح. و ذكر أمير المؤمنين عليه السلام ذلك في آخر الخطبة القاصعة، فقال:
وَ لَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مِنْ لَدُنْ كَانَ فَطِيماً أعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكَارِمِ وَ مَحَاسِنِ أخْلَاقِ العَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ. وَ لَقَدْ كُنْتُ أتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الفَصِيلِ أثَرَ امِّهِ. يَرْفَعُ لِي في كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأمُرُنِي بِالاقْتِدَاءِ بِهِ. وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ في كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ۱ فَأرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي. وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ في الإسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ خَدِيجَةَ وَ أنَا ثَالِثُهُما. أرَى نُورَ الوَحْيُ وَ الرِّسَالَةِ، وَ أشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ.
وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الوَحْيُ علَيْهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: هَذَا الشَّيْطَانُ أيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ. إنَّكَ تَسْمَعُ مَا أسْمَعُ وَ تَرَى مَا أرَى إلَّا أنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ وَ لَكِنَّكَ وَزيرٌ، وَ إنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ.۱
شدّة اتّصال أمير المؤمنين برسول الله صلى الله عليه و آله
قال ابن أبي الحديد في شرح هذه الفقرات: روى الطبريّ في تاريخه بسنده عن المنهال بن عُمَر، و عن عبد الله بن عبد الله، قال: سمعتُ عليّاً عليه السلام يقول: أنَا عَبْدُ اللهِ، وَ أخُو رَسُولِهِ، وَ أنَا الصِّدِّيقُ الأكْبَرُ، لَا يَقُولُهَا بَعْدِي إلَّا كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، صَلَّيْتُ قَبْلَ النَّاسِ بِسَبْعِ سِنِينَ.٢
و في غير رواية الطبريّ: أنَا الصِّدِّيقُ الأكْبَرُ وَ الفَارُوقُ الأوَّلُ، أسْلَمْتُ قَبْلَ إسْلَامِ أبِي بَكْرٍ وَ صَلَّيْتُ قَبْلَ صَلَاتِهِ بِسَبْعِ سِنِينَ.٣
و قال ابن أبي الحديد هنا: كأنّه عليه السلام لم يرتض أن يذكر عمر، و لا رآه أهلًا للمقايسة بينه و بينه، و ذلك لأنّ إسلام عمر كان متأخّراً.٤
و ذكر قائلًا: روى الفضل بن عبّاس قال: سألتُ أبي عن ولد رسول الله صلى الله عليه و آله الذكور، أيّهم كان رسول الله صلى الله عليه و آله له أشدّ حبّاً؟ فقال: عليّ بن أبي طالب عليه السلام. فقلتُ له: سألتك عن بنيه! فقال: إنّه كان أحبّ عليه من بنيه جميعاً و أرأف، ما رأيناه زايله يوماً من الدهر منذ كان طفلًا، إلّا أن يكون في سفر لخديجة، و ما رأينا أباً أبرّ بابن منه لعليّ، و لا ابناً أطوع لأبٍ من عليّ له.٥
و روى الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين عليه السلام قال: سمعتُ
زيداً أبي يقول: كان رسول الله صلى الله عليه و آله يمضغ اللحمة و التمرة حتّى تلين، و يجعلهما في فم عليّ عليه السلام و هو صغير في حجره. و كذلك كان أبي عليّ بن الحسين عليه السلام يفعل بي. و لقد كان يأخذ الشيء من الورك و هو شديد الحرارة، فيبرّده في الهواء، أو ينفخ عليه حتى يبرد، ثمّ يلقمنيه، أ فيشفق عَلَيّ من حرارة لقمة و لا يشفق عَلَيّ من النار؟ لو كان أخي إماماً بالوصيّة كما يزعم هؤلاء، لكان أبي أفضى بذلك إليّ و وقانى من حرّ جهنّم.۱
و روى أنّ بعض أصحاب أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام سأله عن قول الله عزّ و جلّ: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً، فقال عليه السلام: يوكّل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم، و يؤدّون إليه تبليغهم الرسالة، و وكّل بمحمّدٍ صلى الله عليه و آله و سلّم مَلَكاً عظيماً منذ فُصل عن الرضاع يرشده إلى الخيرات و مكارم الأخلاق، و يصدّه عن الشرّ و مساوئ الأخلاق، و هو الذي كان يناديه: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، يَا رَسُولَ اللهِ، و هو شابٌّ لم يبلغ درجة الرسالة بعدُ، فيظنّ أنّ ذلك من الحجر و الأرض، فيتأمّل، فلا يرى شيئاً.٢
لقد تكفّل رسول الله صلى الله عليه و آله بشؤون مولى الموحّدين و أمير المؤمنين عليه السلام منذ ولادته، و وضعه أبو طالب و فاطمة بنت أسد في حجر رسول الله، و تلا هو عليه السلام سورة «المؤمنون»، و لم يتولّ النبيّ شئونه الظاهريّة و البدنيّة فحسب، بل تولّى شئونه المعنويّة و الروحيّة و نموّه العقليّ بنحو أكمل و أتمّ، و علّمه العلوم الغيبيّة و أطلعه على
الضمائر و الخواطر و الحوادث و الوقائع الماضية و الحاضرة و القادمة، و الواقعة في كلّ مكان. و من الواضح أنّ تعليم مثل هذه العلوم ليس كتعليم العلوم الظاهريّة التي يكون الذهن مركزها، إذ تنقل الموضوعات إلى الذهن تدريجيّاً بواسطة الذاكرة و القوّة المفكّرة و الواهمة و الحسّ المشترك، ثمّ تخزن و يحافظ عليها. لا، ليس كذلك، بل يتحقّق تعليمها من خلال تصفية الباطن و تنوير البصيرة، إذ يرتفع حجاب الزمان و المكان في الجملة عبر تحصيل التجرّد، و ينظر الإنسان إلى الوقائع و الحوادث من وراء هذين التعيّنينِ و التقييدينِ، و يشاهد ما كان و ما يكون و ما هو كائن ثابتاً و حاضراً.
و من الطبيعيّ أنّ مقام الإمام أعلى ممّا ذكرناه. فهو قد بلغ مقام التجرّد المطلق. و بالجملة، رُفعت الحجب المعنويّة أيضاً من أمام بصيرته، و اجتاز الحجب العقليّة و النفسيّة، و انتهت أسفاره الأربعة، فهو لا يحيط بعالم الطبع و المثال فحسب، بل يحيط بعالم العقل و النفس و الموجودات العقلانيّة. بَيدَ أنّ هذا القدر من كشف الحجب المثاليّة و البر زخيّة التي تستلزم الاطّلاع على ضمائر العالم و مغيّباته موجود فيه. فهو حاضر في كلّ مكان، و يراقب جميع الأشياء.
معنى علم المنايا و البلايا و الأعمار و الملاحم و الفتن
و كان أمير المؤمنين عليه السلام قائماً على هذه الذروة من عَلَم العِلْم، مستشرفاً العالَم بعين بصيرته، مخصوصاً بذلك من قبل خاتم الأنبياء صلوات الله عليه. و رفع كثيراً من خاصّته و حواريّيه المخلصين الأحمّاء إلى هذه الدرجة. و من هؤلاء جُوَيْرِيَة بْنِ مُسهِرٍ العَبْدِيّ الذي مرّ ذكره، و منهم رُشَيْد الهَجَريّ، و مِيثم التَّمَّار، و حبيب بن مظاهر الأسديّ، و كان لهؤلاء جميعهم علم المنايا و البلايا و الأعمار و الفتن و الملاحم.
و المنايا جمع مَنِيَّة، و هي الموت و مفارقة الدنيا. و من كان له هذا
العلم، فهو مطّلع على آجال الناس، و يعلم أين و متى يموتون.
و البلايا جمع بَلِيَّة، و هي المصيبة و المحنة. و من كان له حظّ من هذا العلم، فهو مطّلع على الحوادث و الوقائع التي تستدعي الاختبار، و ترد فيها المصائب كالزلزلة، و الطوفان، و الغرق، و الحرق، و انتشار الأمراض كالوباء، و الطاعون، و الحوادث و المصائب النازلة بالناس.
و الأعمار جمع عَمْر، و هو الحياة. و العُمْر و العُمُر بمعنى واحد. و من كان له نصيب من هذا العلم، فهو مطّلع على أعمار الناس و حدّها و أسباب طول العمر و قصره.
و الملاحم جمع مَلْحَمَة، و هي الموقعة العظيمة و القتل في الحرب. و من كان عارفاً بهذا العلم، فهو خبير بالحوادث المهمّة التي تجري في العالم، و الحروب و مواصفاتها و زمانها و مكانها، و من يقتل فيها، و من يسلم، و نتائجها، و أسبابها بنحو تامّ، أو تبعاً لسعة مدركاته المثاليّة و ضيقها.
و الفتن جمع فِتْنَة، و جاءت بمعنى الاختبار، و الضلال، و الكفر، و الفضيحة، و الشدّة، و الجنون، و العبرة، و المرض، و العذاب، و المال، و الأولاد، و اختلاف الناس في الآراء و الأفكار، و وقوع حوادث القتل بينهم. و من كانت له حصيلة من هذا العلم، فهو مطّلع على كيفيّة الاختبار الإلهيّ و أثره، و كذلك هو مطّلع على كفر الناس و ضلالتهم و فضيحتهم، و على ما يعسر من الامور، و ضروب المرض و العذاب، و أسباب اختلاف الناس في صنع القرار و تدبير شئونهم.
و يمكن أن يحصل المرء على قسم من هذه العلوم، و ربّما تجتمع كلّها عند أحد. كما يمكن أن تكون قليلة و مجملة عند البعض، أو توجد لديه في بعض الأحيان. و قد تتهيّأ للبعض بنحو تامّ و كبير و في جميع
الأوقات و الظروف و الأحوال. و كانت لأمير المؤمنين عليه صلوات المصلّين هذه العلوم كافّة بكلّ أقسامها، و بنحو متواصل في الدرجة العليا من الاطّلاع و الإحاطة كما يُستشفُّ ذلك من كلماته. و يُلمس من شرح الوقائع التي نقلتها كتب التأريخ و السيرة و الحديث في أحواله و سلوكه.
و من ذلك ما ذكره الشيخ المفيد في «الإرشاد» عن الوليد بن حارث و غيره من رجال العامّة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا بلغه ما صنعه بُسر بن أرطاة باليمن قال: اللَهُمَّ إنَّ بُسْراً قَدْ بَاعَ دِينَهُ بِالدُّنْيَا، فَاسْلُبْهُ عَقْلَهُ وَ لَا تُبْقِ لَهُ مِنْ دِينِهِ مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ عَلَيْكَ رَحْمَتَكَ. أي: في الجملة لا تُبق له دينه و خذ كلّ ما عنده!
فبقي بُسر حتى اختلط فكان يدعو بالسيف. فاتُّخذ له سيف من خشب، فكان يضرب به حتى يغشى عليه. فإذا أفاق، قال: السيف السيف. فيُدفع إليه فيضرب به، فلم يزل ذلك دأبه حتى مات.۱
إخبار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بأمر لعنه
و من ذلك ما استفاض عنه عليه السلام من قوله: إنَّكُمْ سَتُعْرضُونَ مِنْ بَعْدِي عَلَى سَبِّي، فَسُبُّونِي فَإنْ عُرِضَ عَلَيْكُمُ البَرَاءَةُ مِنِّي فَلَا تَبَرَّءُوا مِنِّي، فَإنِّي وُلِدْتُ عَلَى الإسْلَامِ. فَمَنْ عُرِضَ عَلَيْهِ البَرَاءَةُ مِنِّي فَلْيَمْدُدْ عُنُقَهُ. (و يقل: ها هو عنقي فاضربوه و لا أتبرّأ من عليّ). فَمَنْ تَبَرَّأ مِنِّي فَلَا دُنْيَا لَهُ وَ لَا آخِرَةَ.٢
و على هذا الأساس ورد في رواية سُفيان بن عُيَيْنَة عن طاووس اليمانيّ أنّه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لحُجر البدريّ: يَا حُجْرُ!
كَيْفَ بِكَ إذَا اوقِفْتَ عَلَى مِنْبَرِ صَنْعَاءَ وَ امِرْتَ بِسَبِّي وَ البَرَاءَةِ مِنِّي؟ فقال حجر: أعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذَلِكَ.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: وَ اللهِ إنَّهُ كَائِنٌ، فَإذَا كَانَ ذَلِكَ فَسُبَّنِي وَ لَا تَتَبَرَّأ مِنِّي، فَإنَّهُ مَنْ تَبَرَّأ مِنِّي في الدُّنْيَا بَرِئْتُ مِنْهُ في الآخِرَةِ.
قال طاووس اليمانيّ: أخذ الحجّاج بن يوسف الثقفيّ حجراً و أمره أن يسبّ عليّاً. فصعد المنبر و قال: أيُّهَا النَّاسُ! إنَّ أمِيرَكُمْ هَذَا أمَرَنِي أنْ ألْعَنَ عَلِيَّاً، ألَا فَالْعَنُوهُ لَعَنَهُ اللهُ.۱
و من ذلك ما رواه الوليد بن الحارث أيضاً عن الإمام عليه السلام أنّه قال: أيُّهَا النَّاسُ! إنِّي دَعْوُتُكُمْ إلَى الحَقِّ فَتَوَلَّيْتُمْ عَنِّي، وَ ضَرَبْتُكُمْ بِالدّرَّةِ فَأعْيَيْتُمُونِي، أمَا إنَّهُ سَيَلِيكُمْ مِنْ بَعْدِي وُلَاةٌ لَا يَرْضَوْنَ مِنْكُمْ بِهَذَا حتى يُعَذِّبُوكُمْ بِالسِّيَاطِ وَ الحَديدِ. إنَّهُ مَنْ عَذَّبَ النَّاسَ في الدُّنْيَا عَذَّبَهُ اللهُ في الآخِرَةِ. وَ آيَةُ ذَلِكَ أنْ يَأتِيكُمْ صَاحِبُ اليَمَنِ حتى يَحِلَّ بَيْنَ أظْهُرِكُمْ فَيَاخُذُ العُمَّالَ وَ عُمَّالَ العُمَّالِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ.٢
قال الشيخ المفيد: فكان الأمر في ذلك كما قال.٣
***
و ورد في الأمثال أنّه روى عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه أثنى عليه رجل متّهم [في تشيّعه و ولايته]، فقال عليه السلام:
أنَا دُونَ مَا تَقُولُ، وَ فَوْقَ مَا تَظُنُّ في نَفْسِكَ.۱
و أنشد الناشي قائلًا:
لَهُ في كُلِّ وَجْهٍ سِمَةٌ تُنْبِئُ عَنِ العَقْدِ | *** | فَتَسْقِى الرِّجْسَ بِالغَيّ وَ تُحْظِى البِرَّ بِالرُّشْدِ٢ |
إخباره عليه السلام بمقتل حُجر بن عديّ
و جاء في كتاب «المعرفة و التأريخ» للنسويّ أنّه قال: قال رزين الغافقيّ: سمعتُ عليّ بن أبي طالب عليه السلام يقول: يَا أهْلَ العِرَاقِ! سَيُقْتَلُ مِنْكُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ بِعَذْرَاءَ،٣ فقُتل حُجر [بن عديّ] و أصحابه [بعذراء].٤
و كان حُجْر بن عديّ الكِنْديّ الكوفيّ من أعاظم أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، و من أبدالهم، و كان مشهوراً في العرب بكياسته و زهده و عبادته. قيل: كان يصلّي في اليوم و الليلة ألف ركعة. و تحدّث عنه أصحاب التراجم و الرجال مفصّلًا. منهم: ابن الأثير في «اسد الغابة». و فيما يأتي شيء من سيرته و خصوصيّاته نقلًا عن كتاب «الاستيعاب» لابن عبد البرّ الأندلسيّ:
كان حُجر بن عديّ الكنديّ من فضلاء الصحابة و صغر سنّه عن كبارهم. و كان على كندة يوم صفّين. و كان على الميسرة يوم النهروان.
و لمّا ولّى معاوية زياداً [ابن أبيه] العراق و ما وراءه، و أظهر من الغلظة و سوء السيرة ما أظهر، خلعه حجر و لم يخلع معاوية. و تابعه جماعة من أصحاب على عليه السلام و شيعته. و حصبه حجر يوماً في تأخير الصلاة هو و أصحابه.
فكتب فيه زياد إلى معاوية، فأمره أن يبعث به إليه. فبعث به إليه مع وائل بن حجر الحضرميّ في اثني عشر رجلًا كلّهم في الحديد. فقتل معاوية منهم ستّة و استحيا ستّة. و كان حُجر بن عديّ ممّن قُتل.
فبلغ ما صنع بهم زياد إلى عائشة فبعثت إلى معاوية عبد الرحمن بن الحارث بن هشام [و قالت له]: الله الله في حُجْر وَ أصْحَابِهِ. فوجده عبد الرحمن قد قُتل هو و خمسة من أصحابه. فقال عبد الرحمن لمعاوية: أين عزب عنك حلم أبي سفيان في حجر و أصحابه؟ أ لا حبستهم في السجون و عرضتهم للطاعون؟ فقال معاوية: حين غاب عنّي مثلك من قومي.
قال عبد الرحمن: و الله، لا تعدّ لك العرب حلماً بعد هذا أبداً و لا رأياً. قتلتَ قوماً بعث بهم إليك اسارى من المسلمين. قال معاوية: فما أصنع؟ كتب إلى فيهم زياد يشدّد أمرهم و يذكر أنّهم سيفتقون عَلَيّ فتقاً لا يرقع.
ثمّ قدم معاوية المدينة فدخل على عائشة. فكان أوّل ما بدأته به قتل حجر في كلام طويل جرى بينهما. ثمّ قال: فدعيني و حجراً حتى نلتقي عند ربّنا.
و الموضع الذي قُتل فيه حُجر بن عديّ و من قتل معه من أصحابه يعرف بمرج عذراء ... فلمّا قدّم للقتل، قال: دعوني اصلّي ركعتين، فصلّاهما خفيفتين ... ثمّ قال لمن حضر من أهله: لا تطلقوا عنّي حديداً،
و لا تغسلوا عنّي دماً فإنّي مُلاقٍ معاوية على الجادّة.
و قال مبارك بن فضالة: سمعتُ الحسن [البصريّ] يقول و قد ذكر معاوية و قتل حجراً و أصحابه: وَيْلٌ لِمَنْ قَتَلَ حُجْراً وَ أصْحَاب حُجْرٍ.
و قال أحمد: قلتُ ليحيى بن سليمان: أ بَلَغَكَ أنَّ حُجْراً كَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ؟ قَالَ: نَعَم، وَ كَانَ مِنْ أفَاضِلِ أصْحَابِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ.
و روينا عن سعيد المَقْبُرِيّ، قال: لمّا حجّ معاوية، جاء المدينة زائراً، فاستأذن على عائشة، فأذنت له. فلمّا قعد، قالت له: يا معاوية! أ أمنتَ أن اخبئ لك من يقتلك بأخي محمّد بن أبي بكر؟ فقال: بيت الأمان دخلتُ. قالت: يا معاوية! أ ما خشيتَ الله في قتل حجر و أصحابه؟ قال: إنّما قتلهم من شهد عليهم.
و عن مسروق بن الأجدع قال: سمعت عائشة تقول: أمَا وَ اللهِ لَوْ عَلِمَ مُعَاوِيَةُ أنَّ عِنْدَ أهْلِ الكُوفَةِ مَنْعَةً مَا اجْتَرَأ عَلَى أنْ يَأخُذَ حُجْرَاً وَ أصْحَابَهُ مِنْ بَيْنِهُمْ حتى يَقْتُلَهُمْ بِالشَّامِ، وَ لَكِنَّ ابْنَ آكِلَةِ الأكْبَادِ. (هند آكلة الأكباد زوجة أبي سفيان، و امّ معاوية، أكلت كبد حمزة سيّد الشهداء في غزوة احد) عَلِمَ أنَّهُ قَدْ ذَهَبَ النَّاسُ. أمَا وَ اللهِ إنْ كَانُوا لِجُمْجُمَةِ العَرَبِ عِزَّاً وَ مَنْعَةً وَ فِقْهَاً. لِلَّهِ دَرُّ لُبَيْدٍ حَيْثُ يَقُولُ:
ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ في أكْنَافِهِمْ | *** | وَ بَقِيتُ في خَلَفٍ كَجِلْدِ الأجْرَبِ |
لَا يَنْفَعُونَ وَ لَا يُرَجَّى خَيْرُهُمْ | *** | وَ يُعَابُ قَائِلُهُمْ وَ إنْ لَمْ يَشْغَبِ |
(أي: أنّ الذين ماتوا من الماضين كانوا كالحيوان الصحيح السالم البدين و كنتُ اواصل حياتي بفضلهم، و لكنّ الباقين ليسوا أصحّاء، و ليسوا أهل بُدنة، فهم كجلد البعير و الثور الأجرب، فلا ينتفع بهم).
و لمّا بلغ الربيع بن زياد الحارثيّ من بني الحارث بن كعب، و كان
فاضلًا جليلًا، و كان عاملًا لمعاوية على خراسان و كان الحسن بن أبي الحسن كاتبه؛ فلمّا بلغه قتل معاوية حجر بن عديّ، دعا الله عزّ و جلّ فقال: اللهمّ إن كان للربيع عندك خير فاقبضه إليك و عجّل. فلم يبرح من مجلسه حتى مات. و كان قتل معاوية لحجر بن عديّ سنة إحدى و خمسين.۱
إخباره عليه السلام بالحوادث التي ستقع بعده
و ممّا أخبر به أمير المؤمنين عليه السلام من الفتن الواقعة بعده أنّه لمّا رأى عجز الناس في الكوفة عن القيام بالحقّ، قام خطيباً فيهم فقال: مَعَ أي إمَامٍ بَعْدِي تُقَاتِلُونَ؟ وَ أي دَارٍ بَعْدَ دَارِكُمْ تَمْنَعُونَ؟ أمَا إنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلًّا شَامِلًا وَ سَيْفاً قَاطِعاً وَ أثَرَةً قَبِيحَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ عَلَيْكُمْ سُنَّةً.٢
و قال لأهل الكوفة: أمَ إنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ رَحِيبُ البُلْعُومِ، مُنْدَحِقُ البَطْنِ، يَأكُلُ مَا يَجِدُ، وَ يَطْلُبُ مَا لَا يَجِدُ، فَاقْتُلُوهُ، وَ لَنْ تَقْتُلُوهُ. ألَا وَ إنَّهُ سَيَأمُرُكُمْ بِسَبِّي وَ البَرَاءَةِ مِنِّي. أمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي، وَ أمَّا البَرَاءَةُ مِنِّي فَلَا تَتَبَرَّءُوا مِنِّي، فَإنِّي وُلِدْتُ عَلَى الفِطْرَةِ، وَ سَبَقْتُ إلَى الإسْلَامِ وَ الهِجْرَةِ- يعني معاوية.٣
و ذكر محمود الزمخشريّ في كتاب «الفائق» قول أمير المؤمنين عليه السلام: إنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ امُوراً مُتَمَاحِلَةً رُدُحاً وَ بَلَاءً مُبْلِحاً.۱
و قال ابن الأثير الجزريّ: الرَّدْح: الثَّقْل. يقال: امْرَأةٌ رَدَاحٌ، أي: ثَقِيلَةُ الكَفلَ. و منه حديث عليّ عليه السلام: إنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ امُوراً مُتَمَاحِلَةً رُدُحَاً. المتماحلة يعني المتطاولة. و رُدُح الثقيلة العظيمة، واحدها رَدَاح، يعني الفتن. و رُوي: إنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنَاً مُرْدِحَةً. أي: مثقلة. و قيل: مغطّية على القلوب، من أردحتُ البيت إذا سترتُه.٢
و قال ابن الأثير أيضاً: المَحْل بمعنى الدفاع و الجدال و المكر و الشدّة. و منه حديث عليّ عليه السلام: إنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ امُوراً مُتَماحِلَةً. أي: فتناً طويلة المدّة. و المتماحل من الرجال: الطويل.٣
و قال أيضاً: البَلْح: الشدّة التي ترهق الرجل فلم يقدر أن يتحرّك. و منه حديث عليّ عليه السلام: إنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَناً وَ بَلَاءً مُكْلِحاً مُبْلِحاً. أي: مُعيياً بحيث يسلب الرجل قدرته.٤
و قال كذلك: ورد الكَلْح في حديث عليّ عليه السلام: إنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ
فِتنَاً وَ بَلَاءً مُكْلِحاً مُبْلِحاً. و الكُلُوح: العُبُوس. يقال: كَلَحَ الرَّجُلُ وَ أكْلَحَهُ الهَمُّ.۱
إن هذه الكلمات كلّها تشير إلى ظهور زمان عَسِر عصيب جدّاً. الإسلام فيه مضيّع مغارٌ عليه. و أنّ التوحيد و العرفان و الولاية و الصدق، كلّ اولئك جريمة لا تغتفر. و من الواضح أنّ في كلامه إشارة إلى الحكومة الأمويّة التي تمثّلت بمعاوية و يزيد و مروان و بني مروان. و كانت عصورهم من أشدّ العصور و أهلكها إذ ضُيّق فيها على اولي البصائر و الضمائر الحيّة و العواطف الصادقة.
إخباره عليه السلام بمواصفات بني العبّاس
و من جملة إخباره عليه السلام خبر تحدّث فيه عن حكومة بني اميّة و بني العبّاس، و أشار فيه إلى بعض المواصفات و المعالم التي كان عليها عدد من الحكّام العبّاسيّين كرأفة حاكمهم الأوّل عبد الله السفّاح، و فتك ثانيهم، و هو المنصور، و عظمة سلطان خامسهم، و هو هارون الرشيد،
و دهاء سابعهم و علمه، و هو المأمون، و شدّة بغض عاشرهم و عدائه لأهل البيت، و هو المتوكّل، و ذكّر بقتله من قبل ابنه. و ألمح إلى كثرة عناء خامس عشرهم و هو المعتمد، ذلك أنّه ابتُلى بمحاربة صاحب الزنج. و أشار إلى إحسان سادس عشرهم إلى العلويّين، و هو المعتضد، و ذكر قتل الحاكم الثامن عشر منهم، و هو المقتدر، و نبّه على سيطرة أولاده الثلاثة على السلطة، و هم الراضي، و المطيع، و المتّقي، كما هو مسطور في التأريخ.
قال ابن شهرآشوب في مناقبه: و من خطبة له عليه السلام: وَيْلُ هَذِهِ الامَّةِ مِنْ رِجَالِهِمْ، الشَّجَرَةِ المَلْعُونَةِ التي ذَكَرَهَا رَبُّكُمْ تعالى، أوَّلُهُمْ خَضْرَاءُ وَ آخِرُهُمْ هَزْمَاءُ. ثُمَّ تَلِى بَعْدَهُمْ أمْرَ امَّةِ مُحَمَّدٍ رِجَالٌ: أوَّلُهُمْ أرْأفُهُمْ، وَ ثَانِيهِمْ أفْتَكُهُمْ، وَ خَامِسُهُمْ كَبْشُهُمْ، وَ سَابِعُهُمْ أعْلَمُهُمْ، وَ عَاشِرُهُمْ أكْفَرُهُمْ يَقْتُلُهُ أخَصُّهُمْ بِهِ، وَ خَامِسُ عَشَرِهِمْ كَثِيرُ العَنَاءِ قَلِيلُ الغِنَاءِ، وَ سَادِسُ عَشَرِهِمْ أقْضَاهُمْ لِلذِّمَمِ وَ أوْصَلُهُمْ لِلرَّحِمِ. كَأنِّي أرَى ثَامِنُ عَشَرِهِمْ تُفْحَصُ رِجْلَاهُ في دَمِهِ بَعْدَ أنْ يَأخُذَ جُنْدُهُ بِكَظَمِهِ، مِنْ وُلْدِهِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ سِيَرتُهُمْ سِيرَةُ الضُّلَّالِ. وَ الثَّانِي وَ العِشْرُونَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ الهَرِمُ تَطُولُ أعْوَامُهُ وَ تَوافِقُ الرَّعِيَّةَ أيَّامُهُ. السَّادِسُ وَ العِشْرُونَ مِنْهُمْ يَشْرُدُ المُلْكُ مِنْهُ شُرُودَ المُنْفَتِقِ، وَ يَعْضُدُهُ الهَزْرَةُ المُتَفَيْهِقُ، لَكَأنِّي أرَاهُ عَلَى جِسْرِ الزَّوْرَاءِ قَتِيلًا. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ «وَ أنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ».۱
يشير الإمام عليه السلام في مستهلّ خطبته إلى سلاطين بنى اميّة الذين عبّر عنهم القرآن الكريم بالشجرة الملعونة. و لمّا كانت حكومة
معاوية -و هو أوّلهم- ذات قدرة و سيطرة و عيش رغيد لهم، لذلك سمّاها الشجرة الخضراء. و لمّا كانت حكومة آخرهم، و هو مروان الحمار، قد أتى عليها الدهر فظهر فيها التصدّع و الانكسار و الثغرات، لذا أطلق عليها عنوان الشجرة الهزماء. ثمّ ينقل لنا عليه السلام مواصفات الملوك العبّاسيّين، كما عرضناها آنفاً، فيصل إلى الثامن عشر منهم و هو المُقْتَدِر. فلمّا فرّ مؤنس الخادم من عسكره، و أتى الموصل، و استولى عليه، و جمع جيشاً، و رجع، و حارب المقتدر في بغداد، و هزم عسكره، و قُتل المقتدر في المعركة، و استولى على الحكومة من بعده ثلاثة من أولاده، لهذا ذكره الإمام عليه السلام بقوله: كأنّي أرى ثامن عشرهم تُفْحَصُ رِجلاه في دمه بعد أن يأخذ جنده بكظمه، من وُلده ثلاثة رجال سيرتهم سيرة الضُّلّال.
و الثاني و العشرون منهم الشيخ الهرم تطول أعوامه و توافق الرعيّة أيّامه. قال المجلسيّ هنا في شرح هذه الخطبة: الثاني و العشرون من بني العبّاس هو المُكْتَفِي بِاللهِ عَبْدُ اللهِ، ادّعى الخلافة بعد مضيّ إحدى و أربعين من عمره في سنة ثلاث و ثلاثين و ثلاثمائة. و استولى أحمد بن بَابَوَيْه على بغداد في سنة أربع و ثلاثين و ثلاثمائة. و أخذ المكتفي و سمل عينيه، و توفّي المكتفي في سنة ثمان و ثلاثين و ثلاثمائة. و قيل: كانت أيّام خلافته سنة و أربعة أشهر. و على هذا يحتمل أنّ يكون لفظ (الثاني و العشرين) من خطأ المؤرّخين أو رواة الحديث بأن يكون في الأصل الخامس و العشرون أو السادس و العشرون. فالأوّل هو القادر بالله أحمد بن إسحاق و قد عمّر ستّاً و ثمانين سنة. و كانت مدّة حكومته إحدى و أربعين سنة. و الثاني هو القائم بأمر الله، كان عمره ستّاً و سبعين سنة، و حكومته أربعاً و أربعين سنة و ثمانية أشهر.
و قال المجلسيّ بعد عرض الاحتمالات الاخري: و يحتمل أن يكون
المراد بالسادس و العشرين المُسْتَعْصِم بالله فإنّه قُتل، و شرد الملك منه شرود المنفتق حتى ضاع كلّه شيئاً فشيئاً. و اعتراه الغبن و الخسران من جميع الجهات بنحو واسع (يَشْرُدُ المُلْكُ مِنْهُ شُرُودَ المُنْفَتِقِ وَ يَعْضُدُهْ الهَزْرَةُ المُتَفَيْهِقُ). و كان المستعصم آخر الحكّام العبّاسيّين. و إنّما عبّر عنه الإمام بالسادس و العشرين مع كونه السابع و الثلاثين منهم لكونه السادس و العشرين من عظمائهم لعدم استقلال كثير منهم، و كونهم مغلوبين للملوك و الأتراك.۱
إخباره عليه السلام بخراب المدن و غارة المغول
و من هذه الخطبة: سَيَخْرِبُ العِرَاقُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَكْثُرُ بَيْنَهُمَا الجَرِيحُ وَ القَتِيلُ -يَعْنِي طُرْلِيكَ وَ الدّوَيْلِمَ- لَكَأنِّي اشَاهِدُ بِهِ دِمَاءَ ذَوَاتِ الفُرُوجِ بِدِمَاءِ أصْحَابِ السُّرُوجِ. وَيْلٌ لإهْلِ الزَّوْرَاءِ مِنْ بَنِي قَنْطُورَةَ.٢
نقل المجلسيّ في شرحه عن الجزريّ ما نصّه: في حديث حُذيفة: يُوشِكُ بِنُو قَنْطُورَاءَ أنْ يُخْرِجُوا أهْلَ العِرَاقِ مِنْ عِرَاقِهِمْ -وَ يُرْوَي: أهْلَ البَصْرَةِ مِنْهَا- كَأنِّي بِهِمْ خُنْسُ الانُوفِ، خُزْرُ العُيُونِ، عِرَاضُ الوُجُوهِ.٣
قيل: إنّ قَنْطُورَاءَ كانت جارية لإبراهيم الخليل عليه السلام. ولدت له أولاداً منهم الترك و الصين. و منه حديث عمرو بن العاص: يوشك بَنُو قَنْطُورَاء أن يُخرجوكم من أرض البصرة. و حديث أبي بكرة: إذا كان آخر الزمان جاء بَنُو قَنْطُورَاء.٤
و من هذه الخطبة: لَكَأنِّي أرَى مَنْبَتَ الشِّيحِ (نبات معطّر) عَلَى ظَاهِرِ
أهْلِ الحِضَّةِ قَدْ وَقَعَتْ بِهِ وَقْعَتَانِ يَخْسَرُ فِيهَا الفَرِيقَانِ- يَعْنِي وَقْعَةَ المُوصِلِ -حتى سُمِّي بَابَ الأذَانِ. وَ وَيْلٌ لِلطِّينِ مِنْ مُلَابَسَةِ الأشْرَاكِ. وَ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ مُخَالَطَةِ الأتْرَاكِ. وَيْلٌ لُامَّةِ مُحَمَّدٍ إذَا لَمْ تَحْمِلْ أهْلَهَا البُلْدَانُ، وَ عَبَرَ بَنُو قَنْطُورَةَ نَهْرَ جَيْحَانَ، وَ شَرَبُوا مَاءَ دِجْلَةَ، وَ هَمُّوا بِقَصْدِ البَصْرَةِ وَ الإيلَةِ. وَ أيْمُ اللهِ لَتَعْرَفُنَّ بَلْدَتَكُمْ حتى كَأنِّي أنْظُرُ إلَى جَامِعِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ أوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ.۱
و جاء في رواية «بحار الأنوار»: وَ أيْمُ اللهِ لَتَغْرِقَنَّ بَلْدَتُكُمْ -إلى آخره.٢
***
و قال ابن شهرآشوب في مناقبه: روى قتادة عن سعيد بن المسيّب أنّه سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها،٣ فقال عليه السلام في خبر طويل انتخبنا منه: تخرب سمرقند و جاح، و خوارزم، و أصفهان، و الكوفة من التُّرك. و همدان، و الري من الديلم. و طبريّة، و المدينة، و فارس بالقحط و الجوع. و مكّة من الحبشة. و البصرة، و بلخ من الغرق، و السند من الهند. و الهند من تبّت. و تبّت من الصين. و بذشجان، و صاغاني، و كرمان، و بعض الشام بسنابك الخيل و القتل. و اليمن من الجراد و السلطان. و سجستان و بعض الشام بالزنج. و شامان بالطاعون. و مرو بالرمل. و هرات
بالحيّات. و نيسابور من قبل انقطاع الخير و البركة. و آذربايجان بسنابك الخيل و الصواعق. و بُخارى بالغرق و الجوع. و الحلم و بغداد يصير عاليها سافلها.۱
إخباره عليه السلام بمواصفات مدينة الزوراء
و من جملة إخبار أمير المؤمنين عليه السلام بالمغيّبات و الملاحم ما ذُكر في خطبته اللؤلؤيّة. و هذه الخطبة من خطبه المهمّة سلام الله عليه. نقلها الشيخ الأجلّ عليّ بن محمّد بن عليّ الخزّاز الرازيّ القمّيّ في كتاب «كفاية الأثر في النصوص على الأئمّة الاثني عشر»٢ بسنده المتّصل عن عليّ بن حسن بن مندة، عن محمّد بن الحسين الكوفيّ المعروف بأبي الحكم، عن إسماعيل بن موسى بن إبراهيم، عن سليمان بن حبيب، عن
شريك، عن حكيم بن جبير، عن إبراهيم النخعيّ، عن علقمة بن قيس، قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام على منبر الكوفة، خطبته اللؤلؤيّة فقال فيما قال في آخرها: ألَا وَ إنِّي ظَاعِنٌ عَنْ قَرِيبٍ وَ مُنْطَلِقٌ إلى المَغيبِ، فَارتَقِبُوا الفِتْنَةَ الأمَوِيَّةَ وَ المَمْلَكَةَ الكِسْرَوِيَّةَ، وَ إمَاتَةَ مَا أحْيَاهُ اللهُ، وَ إحْيَاءَ مَا أمَاتَهُ اللهُ، وَ اتَّخِذُوا صَوَامِعَكُمْ بُيُوتَكُمْ، وَ عَضُّوا عَلَى مِثْلِ جَمْرِ الغَضَا، وَ اذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً فَذِكْرُهُ أكْبَرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
ثُمَّ قَالَ: وَ تُبْنَى مَدِينَةٌ يُقَالُ لَهَا الزَّوْرَاءُ بَيْنَ دِجْلَةَ وَ دُجَيْلٍ وَ الفُرَاتِ. فَلَوْ رَأيْتُمُوهَا مُشَيَّدَةً بِالجِصِّ وَ الآجُرِّ، مُزَخْرَفَةً بِالذَّهَبِ وَ الفِضَّةِ وَ اللَّازِوَرْدِ المُسْتَسْقَى وَ المَرْمَرِ وَ الرُّخَامِ۱ وَ أبْوَابِ العَاجِ وَ الأبْنُوسِ وَ الخِيمِ وَ القُبَابِ وَ السِّتَاراتِ وَ قَدْ عُلِيَتْ بِالسَّاجِ وَ العَرْعَرِ وَ الصَّنَوْبَرِ وَ الشَّبِّ وَ شُيِّدَتْ بِالقُصُورِ، وَ تَوَالَتْ عَلَيْهَا مُلْكُ بَنِي شَيْصَبَانَ: أرْبَعَةٌ وَ عِشْرونَ مَلِكاً عَلَى عَدَدِ سِنِي المُلْكِ «كد»، فِيهُمُ السَّفَّاحُ وَ المِقْلَاصُ وَ الجَمُوعُ وَ الخَدُوعُ وَ المُظَفَّرُ وَ المُؤَنَّثُ وَ النَّظَّارُ وَ الكَبْشُ وَ المُتَهَوِّرُ وَ العَشَّارُ وَ المُضْطَلِمُ وَ المُسْتَصْعَبُ وَ العَلَّامُ وَ الرَّهْبَانِيّ وَ الخَلِيعُ وَ السَّيَّارُ وَ المُتْرَفُ وَ الكَدِيدُ وَ الأكْتَبُ وَ المُتْرَفُ وَ الأكْلَبُ وَ الوَثِيمُ وَ الظَّلَّامُ وَ العَيْنُوقُ. (و هم بالترتيب: السفّاح، و المنصور، و المهدي، و الهادي، و الرشيد، و الأمين محمّد بن زبيدة، و المأمون، و المعتصم، و الواثق، و المنتصر، و المستعين، و المعتزّ، و المعتمد، و المعتضد، و المتَّقي، و المقتدر، و القاهر، و الراضي، و المكتفي، و المطيع.)
وَ تُعْمَلُ القُبَّةُ الغَبْرَاءُ ذَاتُ الفَلَاةِ الحَمْرَاءِ، وَ في عَقِبِهَا قَائِمُ الحَقِّ
يُسْفِرُ عَنْ وَجْهِهِ بَيْنَ الأقَالِيم كَالقَمَرِ المُضِيءِ بَيْنَ الكَوَاكِبِ الدُّرِّيَّةِ. ألَا وَ إنَ لِخُرُوجِهِ عَلَامَاتٍ عَشْر: أوَّلُهَا طُلُوعُ الكَوْكَبِ ذِي الذَّنَبِ وَ يُقَارِبُ مِنَ الحَادِي، وَ يَقَعُ فِيهِ هَرْجٌ وَ مَرْجٌ وَ شَغَبٌ، وَ تِلْكَ عَلَامَاتُ الخِصْبِ، وَ مِنَ العَلَامَةِ إلَى العَلَامَةِ عَجَبٌ. فَإذَا انْقَضَتِ العَلَامَاتُ العَشْرُ إذْ ذَاكَ يَظْهَرُ بِنَا القَمَرُ. وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ الإخْلَاصِ لِلَّهِ عَلَى التَّوْحِيدِ.۱
قال المجلسيّ في شرح هذا الخبر: الشَّيْصَبَانُ اسم الشيطان. و بنو العبّاس هم أشراك الشيطان. و إنّما عدّهم أربعة و عشرين مع كونهم سبعة و ثلاثين لعدم الاعتناء بمن قلّ زمان ملكه و ضعف سلطانه منهم.٢
و قال عليّ بن محمّد الخزّاز الرازيّ الذي نقل الرواية في كتابه إلى هذا الموضع: فقام إليه رجل يقال له: عامر بن كثير، فقال: يا أمير المؤمنين! لقد أخبرتنا عن أئمّة الكفر و خلفاء الباطل، فأخبرنا عن أئمّة الحقّ و ألسنة الصدق بعدك.
قال: نعم، إنّه لعهد عهده إليّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم أنّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً، تسعة من صلب الحسين. و لقد قال لي رسول الله: لمّا عُرج بي إلى السماء، نظرت إلى ساق العرش فإذا فيه مكتوب: لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، أيَّدْتُهُ بِعَلِيّ، وَ نَصَرْتُهُ بِعَلِيّ. و رأيت اثني عشر نوراً، فقلتُ: يا ربّ! أنوار من هذه؟ فنوديتُ:
يا محمّد! هذه أنوار الأئمّة من ذرّيّتك.
[قال أمير المؤمنين عليه السلام]: قلتُ: يا رسول الله! أ فلا تسمّيهم لي؟! قال: نعم، أنتَ الإمام و الخليفة بعدي، تقضي دَيني و تنجز عِداتي. و بعدك ابناك الحسن و الحسين. بعد الحسين ابنه عليّ زين العابدين، و بعده ابنه محمّد يدعى بالباقر. و بعد محمّد ابنه جعفر يدعى بالصادق، و بعد جعفر ابنه موسى يدعى بالكاظم، و بعد موسى ابنه عليّ يُدعى بالرضا، و بعد عليّ ابنه محمّد يُدعى بالزكيّ، و بعد محمّد ابنه عليّ يدعى بالنقيّ، و بعد عليّ ابنه الحسن يدعى بالأمين، و القائم من ولد الحسن سميّي و أشبه الناس بي، يَمْلُاهَا قِسْطاً وَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَ ظُلْماً- (الحديث).۱
إخباره عليه السلام بمقتل بعض أصحابه
و من ذلك، قال ابن شهرآشوب: قال أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة القصّيّة: العَجَبُ كُلُّ العَجَبِ بَيْنَ جُمَادَى وَ رَجَبٍ. و قوله عليه السلام: وَ أي عَجَبٍ أعْجَبُ مِنْ أمْوَاتٍ يَضْرِبُونَ هَامَاتِ الأحْيَاءِ.٢
لقد أخبر الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بمقتل ثلّة من أصحابه، منهم: حُجر بن عَديّ، و رُشَيْد الهَجَريّ، و كُمَيْل بن زياد [النَّخَعيّ]، و ميثَم التَّمَّار و محمّد بن أكْتَم، و خالد بن مسعود، و حبيب بن مَظاهر، و جُوَيْرِيَة ابن مُسْهِر، و عمرو بن الحَمِق، و قنبر، و مُذَرَّع،٣ و غيرهم. و وصف قاتليهم و كيفيّة قتلهم.٤
و قال الشيخ المفيد في «الإرشاد»: و من ذلك ما رواه عبد العزيز بن
صهيب، عن أبي العالية قال: حدّثني مُزَرَّع بن عبد الله، قال: سمعتُ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: أمْ وَ اللهِ لَيُقْبِلَنَّ جَيْشٌ حتى إذَا كَانَ بِالبَيْدَاءِ خُسِفَ بِهِمْ.
[قال أبو العالية:] فقلتُ له: إنّك لتحدّثني بالغيب؟ قال: احْفَظْ مَا أقُولُ لَكَ؛ وَ اللهِ لَيَكُونَنَّ مَا أخْبَرَنِي بِهِ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَ لَيُؤْخَذَنَّ رَجُلٌ فَلَيَقْتُلَنَّ وَ ليُصلَبَنَّ بَيْنَ شُرْفَتَيْنِ مِنْ شُرَفِ هَذَا المَسْجِدِ.
قال أبو العالية: قلتُ له: إنّك لتحدّثني بالغيب؟ قال مزرّع: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ المَأمُونُ عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ.
قال أبو العالية: فَمَا أتَتْ عَلَيْنَا جُمُعَةٌ حتى اخِذَ مُزَرَّعٌ فَقُتِلَ وَ صُلِبَ بَيْنَ الشُّرْفَتَيْنِ. قَالَ: وَ قَدْ كَانَ حَدَّثَنِي بِثَالِثَةٍ فَنَسِيتُهَا.۱
روى ابن شهرآشوب هذا الحديث في مناقبه.٢ و رواه المجلسيّ في «بحار الأنوار» عن «شرح نهج البلاغة» لابن أبي الحديد، عن أبي داود الطيالسيّ، عن سليمان بن زريق، عن عبد العزيز بن صهيب، عن أبي العالية، عن مزرّع. و قال ابن أبي الحديد في آخره: أقول: حديث الخسف بالجيش قد خرّجه البخاريّ، و مسلم في الصحيحين عن امِّ سَلِمَة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: يَعُوذُ قَوْمٌ بِالبَيْتِ حتى إذَا كَانُوا بِالبَيْداءِ خُسِفَ بِهِمْ.
قالت امّ سلمة: فقلتُ: يا رسول الله لعلّ فيهم المكره أو الكاره. فقال: يخسف بهم. و لكن قال: يحشرون -أو قال: يبعثون- على نيّاتهم
يوم القيامة.
قال الراويّ: فسئل أبو جعفر محمّد بن عليّ، أ هي بيداء من الأرض؟ فقال: كَلَّا؛ و اللهِ إنَّهَا بَيْدَاءُ المَدِينَةِ. أخرج البخاريّ بعضه، و أخرج مسلم الباقي.۱
إخباره عليه السلام باستشهاد عمرو بن الحَمِق الخزاعيّ
قال ابن أبي الحديد في ذيل الخطبة: فَقُمْتُ بِالأمْرِ حِينَ فَشِلُوا، وَ تَطلَّعْتُ حِينَ تَقَبَّعُوا.٢ ضمن فصل في الأخبار الواردة في معرفة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام بالامور الغيبيّة: روى محمّد بن عليّ الصوّاف عن الحسين بن سفيان، عن أبيه، عن شَمير بن سَدير الأزديّ. قال: قال عليّ عليه السلام لعَمْرِو بْنِ الحَمِقِ الخُزاعِيِّ: أين نزلتَ يا عمرو؟ قال: في قومي. قال: لا تنزلنّ فيهم. قال: أ فأنزل في بني كنانة جيراننا؟ قال: لا. قال: أ فأنزل في ثقيف؟
قال [أمير المؤمنين عليه السلام]: فَمَا تَصْنَعُ بِالمَعَرَّةِ وَ المَجَرَّةِ؟ قال: و ما هما؟ قال: عنقان من نار، يخرجان من ظهر الكوفة. يأتي أحدهما على تميم و بكر بن وائل. فقلّما يفلت منه أحد. و يأتي العنق الآخر، فيأخذ على الجانب الآخر من الكوفة، فقلّ من يصيب منهم، إنّما يدخل الدار، فيحرق البيت و البيتين.
قال عمرو: فأين أنزل؟ قال: أنزل في بني عمرو بن عامر، من.
الأزد.
فقال قوم حضروا هذا الكلام: مَا نَرَاهُ إلَّا كَاهِناً يَتَحَدَّثُ بِحَدِيثِ الكَهَنَةِ.
[فالتفت أمير المؤمنين عليه السلام إلى عمرو] فقال: يَا عَمْرُو! و إنَّكَ لَمَقْتُولُ بَعْدِي، وَ إنَّ رَأسَكَ لَمَنْقُولٌ، وَ هُوَ أوَّلُ رَأسٍ يُنْقَلُ في الإسْلَامِ. وَ الوَيْلُ لِقَاتِلِكَ! أمَا إنَّكَ لَا تَنْزِلُ بِقَوْمٍ إلَّا أسْلَمُوكَ بِرُمَّتِكَ، إلَّا هَذَا الحَيّ مِنْ بَنِي عَمْرو بْنِ عَامِرٍ مِنَ الأزْدِ فَإنَّهُمْ لَنْ يُسْلِمُوكَ وَ لَنْ يَخْذُلُوكَ.
قال [راوي الرواية شمير بن سَدير]: فوالله ما مضت الأيّام حتى تنقّل عمرو بن الحمق في أيّام معاوية في بعض أحياء العرب خائفاً مذعوراً حتى نزل في قومه من بني خزاعة فأسلموه، فقُتل، و حُمل رأسه من العراق إلى معاوية بالشام، و هو أوّل رأس حُمل في الإسلام من بلد إلى بلد.۱
إخباره عليه السلام باستشهاد كميل بن زياد
و قال الشيخ المفيد في «الإرشاد»: و من ذلك ما رواه جرير عن المغيرة، قال: لمّا وُلّي الحجّاج، طلب كُميل بن زياد، فهرب منه، فحرم قومه عطاءهم. فلمّا رأى كميل ذلك، قال: أنا شيخ كبير و قد نفد عمري، لا ينبغي أن أحرم قومي عطاءهم. فخرج، فدفع بيده إلى الحجّاج. فلمّا رآه، قال له: لقد كنت أحبُّ أن أجد عليك سبيلًا. فقال له كُميل: لا تصرف عَلَيّ أنيابك، و لا تهدم عَلَيّ. فو الله ما بقي من عمري إلّا مثل كواسل الغبار، فَاقْضِ مَا أنْتَ قَاضٍ، فَإنَّ المَوْعِدَ لِلَّهِ، وَ بَعْدَ القَتْلِ
الحِسَابُ، وَ لَقَدْ خَبَّرَنِي أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلَامُ أنَّكَ قَاتِلي.
قال: فقال له الحجّاج: الحُجَّةُ عَليكَ إذَنْ. فقال له كميل: ذَاكَ إذَا كَانَ القَضَاءُ إلَيْكَ. قال الحجّاج: بلى، قد كنتَ فيمن قتل عثمان بن عفّان. اضربوا عنقه، فَضُرِبت عُنُقُه.
قال المفيد: و هذا خبر رواه نَقَلَة العامّة عن ثقاتهم، و شاركهم في نقله الخاصّة و مضمونه من باب ما ذكرناه من المعجزات و البراهين البيّنات.۱
***
و قال الشيخ المفيد أيضاً: و من ذلك ما رواه أصحاب السيرة من طرق مختلفة أنّ الحجّاج بن يوسف الثقفيّ قال ذات يوم: احبُّ أن اصيبَ رجلًا من أصحاب أبي تراب فأتقرّب إلى الله بدمه! فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه.
فبعث [الحجّاج] في طلبه، فاتي به، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم. قال: أبو هَمْدان؟ قال: نعم. قال: مولى عليّ بن أبي طالب؟ قال: الله مولاي، و أمير المؤمنين عليّ وليّ نعمتي.
قال الحجّاج: ابرأ من دينه. قال: فإذا برئتُ من دينه، تدلّني على دين غيره أفضل منه؟
قال الحجّاج: إنّي قاتلك، فاختر أي قتلة أحبّ إليك؟ قال قنبر: قد صيّرتُ ذلك إليك. قال: و لِمَ؟ قال: لأنّك لا تقتلني قتلةً إلَّا قتلتُك مثلها. و لقد خبّرني أمير المؤمنين عليه السلام أنّ منيّتي تكون ذَبحاً ظلماً بغير حقّ. فأمر به الحجّاج فذُبح.
قال الشيخ المفيد: و هذا أيضاً من الأخبار التي صحّت عن
أمير المؤمنين عليه السلام بالغيب و حصلت في باب المعجز القاهر و الدليل الباهر، و العلم الذي خصّ الله به حُحَجَه من أنبيائه و رسله و أوصيائه عليهم السلام. و هو لاحق بما قدّمناه.۱
و روى ابن أبي الحديد عن محمّد بن موسى العنزي أنّه قال: كان مَالِكُ بْنُ ضَمْرَة الرُّؤَاسِيّ من أصحاب عليّ عليه السلام، و ممّن استبطن من جهته علماً كثيراً. و كان أيضاً قد صحب أبا ذرّ الغفاريّ، فأخذ من علمه.
و كان يقول في أيّام بني اميّة: اللَهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي أشْقَى الثَّلَاثَةِ. فيقال له: و ما الثلاثة؟ فيقول: رَجُلٌ يُرْمَى مِنْ فَوْقِ طَمَارٍ، وَ رَجُلٌ تُقْطَعُ يَدَاهُ وَ رِجْلَاهُ وَ لِسَانُهُ وَ يُصْلَبُ، وَ رَجُلٌ يَمُوتَ عَلَى فِرَاشِهِ. فكان من الناس من يهزأ به، و يقول: هذا من أكاذيب أبي تُراب. قال العنزيّ: و كان الذي رُمي به من طَمار هَانِئُ بْنُ عُرْوَة، و الذي قُطع و صُلِب رُشَيْدُ الهَجَرِيّ، و مات مَالِكٌ على فراشه.٢
و روى ابن أبي الحديد أيضاً عن إبراهيم الثقفيّ، عن إبراهيم بن العبّاس النَّهْدِيّ، عن مبارك البَجَليّ، عن أبي بكر بن عيّاش، عن المجالد، عن الشعبيّ، عن زياد بن النضر الحارثيّ، قال: كنتُ عند زياد، و قد اتيَ برشيد الهَجَريّ، و كان من خواصّ أصحاب عليّ عليه السلام.
فقال له زياد: ما قال خليلك لك إنّا فاعلون بك؟ قال: تَقْطَعُونَ يَدَيّ وَ رِجْلَيّ وَ تَصْلبُونَنِي. فقال زياد: أمَا وَ اللهِ لُاكَذِّبَنَّ حَدِيثَهُ. خَلُّوا سَبِيلَهُ.
فلمّا أراد رشيد أن يخرج، قال زياد: ردّوه لا نجد شيئاً أصلح ممّا قال لك صاحبك، إنّك لا تزال تبغي لنا سوءاً إن بقيت! اقطَعُوا يَدَيْهِ وَ رِجْلَيْهِ.
فقطعوا يديه و رجليه، و هو يتكلّم، فقال: اصْلُبُوهُ خَنْقاً في عُنُقِهِ. فقال رشيد: قد بقي لي عندكم شيء قاله مولاي، ما أراكم فعلتموه. فقال زياد: اقْطَعُوا لِسَانَهُ.
و لمّا أخرجوا لسانه ليُقطع، قال: نفِّسُوا عنّي أتكلّم كلمة واحدة، فنفَّسُوا عنه، فقال: هذا و الله تصديق خبر أمير المؤمنين. أخبرني بقطع لساني. فقطعوا لسانه و صلبوه.۱
إخباره عليه السلام بكيفيّة استشهاد ميثم التمّار
و كذلك روى ابن أبي الحديد عن إبراهيم الثقفيّ في كتاب «الغارات» عن أحمد بن الحسن الميثميّ قال: كان ميثم التمّار مولى عليّ عليه السلام عبداً لامرأة من بني أسد، فاشتراه عليّ عليه السلام منها و أعتقه، و قال له: ما اسمك؟ فقال: سالم. فقال عليه السلام: إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله أخبرني أنّ اسمك الذي سمّاك به أبوك في العجم مِيثَم. فقال: صدق الله و رسوله، و صدقتَ [يا أمير المؤمنين]! فهو و الله اسمي. قال: فارجع إلى اسمك، ودع سالماً، فنحن نكنّيك به، فكنّاه أبا سالم. قال [الراوي أحمد بن الحسن الميثميّ]: و قد كان أطلعه عليّ عليه السلام على علم كثير، و أسرار خفيّة من أسرار الوصيّة، فكان ميثم يحدّث ببعض ذلك، فيشكّ فيه قوم من أهل الكوفة، و ينسبون عليّاً عليه السلام في ذلك إلى المخرقة [اختلاق الكذب] و الإيهام و التدليس، حتى قال له [أمير المؤمنين عليه
السلام] يوماً بمحضرٍ من خلقٍ كثير من أصحابه، و فيهم الشاكّ و المخلِص: يَا مِيثَمُ! إنَّكَ تُؤْخَذُ بَعْدِي وَ تُصْلَبُ، فَإذَا كَانَ اليَوْمُ الثَّانِي ابْتَدَرَ مُنْخُراكَ وَ فَمُكَ دَمَاً حتى تُخْضَبَ لِحْيَتُكَ. فَإذَا كَانَ اليَوْمَ الثَّالِثُ طُعِنْتَ بِحَرْبَةٍ يُقْضَى عَلَيْكَ، فَانْتَظِرْ ذَلِكَ. و الموضع الذي تصلب فيه على باب دار عمرو بن حريث. إنّك لعاشر عشرة أنت أقصر هم خشبة، و أقربهم من المطهرة -يعني الأرض- و لُارينّك النخلة التي تصلب على جِذعها. ثمّ أراه إيّاها بعد ذلك بيومين.
فكان ميثم يأتيها، فيصليّ عندها، و يقول: بُورِكْتِ مِنْ نَخْلَةٍ، لَكِ خُلِقْتُ، وَ لِي نَبَتِّ. و لم يزل يتعاهدها بعد قتل عليّ عليه السلام، حتى قطعت، فكان يرصد جذعها، و يتعاهده، و يتردّد إليه، و يبصره. و كان يلقى عمرو بن حريث، فيقول له: إنّي مجاورك فأحسن جواري. فلا يعلم عمرو ما يريد، فيقول له: أ تُريد أن تشتري دار ابن مسعود، أم دار ابن حكيم؟
قال [أحمد بن الحسن الميثميّ] و حجّ ميثم في السنة التي قُتل فيها، فدخل على امّ سلمة رضي الله عنها، فقالت له: من أنتَ؟ قال: عراقيّ. فاستنسبَتهُ. فذكر لها أنّه مولى عليّ بن أبي طالب عليه السلام. فقالت: أنت هَيْثَمٌ؟ قال: بَلْ أنَا مَيْثَمٌ. فقالت: سُبْحَانَ اللهِ، وَ اللهِ لَرُبَّمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ يُوصِي بِكَ عَلِيَّاً في جَوْفِ اللَّيْلِ.
فسألها [ميثم] عن الحسين بن عليّ عليه السلام فقالت: هو في حائط [بُستان] له. قال: أخبريه أنّي أحببتُ السلام عليه، و نحن ملتقون عند ربّ العالمين إن شاء الله. و لا أقدر اليوم على لقائه، و اريد الرجوع.
فدعت امّ سلمة بِطيِب، فطيّبت لِحيَتَهُ فقال لها: أمَا إنَّهَا سُتُخْضَب بِدَمٍ. فقالت: من أنبأك هذا؟ قال: أنْبَأنِي سَيِّدي. فبكت، و قالت له: إنَّهُ
لَيْسَ بِسَيِّدِكَ وَحْدَكَ، هُوَ سَيِّدِي وَ سَيِّدُ المُسْلِمِينَ أجْمَعِينَ.
ثمّ ودّعَتْهُ، فقدم الكوفة. فاخذ و ادخل على عبيد الله بن زياد. و قيل له: هذا كان من آثرِ الناس عند أبي تراب. قال عبيد الله: وَيْحَكُمْ هَذَا الأعْجَمِيّ؟ قالوا: نعم. فقال له عبيد الله: أين ربّك؟ قال: بالمرصاد.
قال عبيد الله: قد بلغني اختصاص أبي تراب لك. قال: قد كان بعض ذلك، فما تريد؟ قال: و إنّه يقال إنّه قد أخبرك بما سيلقاك. قال: نعم، إنّه أخبرني.
قال عبيد الله: ما الذي أخبرك أنّي صانع بك؟ قال ميثم: أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة. و أنا أقصرهم خشبة، و أقربهم من المطهرة. قال عبيد الله: لُاخالفنّه.
قال [ميثم]: وَيْحَكَ! كيف تخالفه؟ إنّما أخبر عن رسول الله صلى الله عليه و آله، و أخبر رسول الله عن جبرائيل، و أخبر جبرائيل عن الله. فكيف تخالف هؤلاء؟ أما و الله لقد عرفتُ الموضع الذي اصلب فيه أين هو من الكوفة، و أنّي لأوّل خلق الله الجم في الإسلام بلجام، كما يُلجَم الخيل. فحبسه و حبس معه المختار بن أبي عبيدة الثَّقفيّ. فقال ميثم للمختار و هما في حبس ابن زياد: إنّك تُفلِت و تخرج ثائراً بدم الحسين عليه السلام، فتقتل هذا الجبّار الذي نحن في سجنه، و تطأ بقدمك هذا على جبهته و خدّيه.
فلمّا دعا عبيد الله بن زياد بالمختار ليقتله، طلع البريد بكتاب يزيد ابن معاوية إلى عبيد الله بن زياد، يأمره بتخلية سبيله. و ذاك أنّ اخته كانت تحت عبد الله بن عمر بن الخطّاب. فسألت بعلها أن يشفع فيه إلى يزيد فشفع، فأمضى شفاعته، و كتب بتخلية سبيل المختار على البريد. فوافى البريد، و قد اخرج ليضرب عنقه، فاطلق.
و أمّا ميثم، فاخرج بعده ليُصلَب. و قال عبيد الله: و الله لأمضينّ حكم أبي تراب فيه، فلقيه رجل، فقال له: مَا كَانَ أغْنَاكَ عَنْ هَذَا يَا مَيْثَمُ؟ فتبسّم، و قال: لَهَا خُلِقْتُ، وَ لِي غُذِّيَتْ.
و لمّا رفع على الخشبة، اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حريث. فقال عمرو: لقد كان يقول لي: إنّي مجاورك. و كان يأمر جاريته كلّ عشيّة أن تكنس تحت خشبته و ترشّه، و تجمّر بالمجمر تحته.
فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم، و مخازي بني اميّة، و هو مصلوب على الخشبة. فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد. فقال: ألجموه. فالجم فكان أوّل خلق الله الجم في الإسلام. فلمّا كان في اليوم الثاني، فاضت منخراه و فمه دماً. فلمّا كان في اليوم الثالث، طُعن بحربة فمات. و كان قتل ميثم قبل قدوم الحسين عليه السلام كربلاء بعشرة أيّام.۱
لقد مرّ بنا أنّ هذه الضروب من الأخبار بالغيب التي ظهرت من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام لم تكن أخباراً محضة فحسب أخبر بها الإمام عليه السلام، بل كانت تنمّ عن صفاء بصيرة المخبَرين و نقاء ضمائرهم و أذهانهم بسبب تعليم الإمام و تربيته و تزكيته لهم، فكانوا
واقفين على كلّ أمر، و كانوا يشاهدون في تلك المرآة حوادث المستقبل التي لم تقع بعد، فيخبروا بها. و بلغ الأمر عند بعضهم مبلغاً أنّهم اشتهروا به كرُشَيْد الهَجَريّ الذي كان يقال له: رُشَيْدُ البَلَايَا.
و كان أمير المؤمنين عليه السلام محيطاً بهذه الامور جميعها. و عُجن علمه الحضوريّ في جميع الأحوال بنفسه الشريفة و امتزج بها. و صار بحكم غريزته و صفاته الأوّليّة و الذاتيّة، صلوات الله عليه.
***
و قال عليه السلام في «نهج البلاغة»: أرْسَلَهُ دَاعِيَاً إلَى الحَقِّ وَ شَاهِداً عَلَى الخَلْقِ، فَبَلَّغَ رِسَالاتِ رَبِّهِ غَيْرَ وَانٍ وَ لَا مُقَصِّرٍ، وَ جَاهَدَ في اللهِ أعْدَاءَهُ غَيْرَ وَاهِنٍ وَ لَا مُعَذِّرٍ، إمَامُ مَنِ اتَّقَى، وَ بَصَرُ مَنِ اهْتَدَى.
و قال في جملتها: لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُهُ إذاً لَخَرَجْتُمْ إلَى الصُّعُدَاتِ تَبْكُونَ عَلَى أعْمَالِكُمْ، وَ تَلْتَدِمُونَ عَلَى أنْفُسِكُمْ، وَ لَتَرَكْتُمْ أمْوَالَكُمْ لَا حَارِسَ لَهَا وَ لَا خَالِفَ عَلَيْهَا، وَ لَهَمَّتْ كُلَّ امْرِيءٍ نَفْسُهُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِهَا، وَ لَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ مَا ذُكِّرْتُمْ، وَ أمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ، فَتَاهَ عَنْكُمْ رَأيُكُمْ، وَ تَشَتَّتَ عَلَيْكُمْ أمْرُكُمْ۱- إلى آخر الخطبة.٢
إخباره باستشهاده عليه السلام
و من جملة الأخبار التي أخبر بها أمير المؤمنين عليه السلام إخباره بقتله و خضب لحيته من دم رأسه. و يمكننا أن نعدّ هذا الخبر في جملة الأخبار المتواترة، إذ لا نجد كتاباً في التأريخ و السيرة و الحديث إلّا ذكره،
سواءً كان للشيعة أم للعامّة، أو كان للمؤالف أم للمخالف.روى الشاذ كونيّ عن حمّاد، عن يحيي، عن ابن عتيق، عن ابن سيرين أنّه قال: إنْ كَانَ أحَدٌ يَعْرِفُ أجَلَهُ فَعَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السَّلَامُ.۱
قال الشيخ المفيد في «الإرشاد»: و من ذلك (أي من جملة معجزات أمير المؤمنين عليه السلام و إخباره بالغيب) ما تواترت به الروايات من نعيه عليه السلام نفسه قبل وفاته، و الخبر عن الحادث في قتله، و أنّه يخرج من الدنيا شهيداً بضربة في رأسه يخضب دمها لحيته، و كان الأمر في ذلك كما قال.
فمن اللفظ الذي رواه الرواة في ذلك قوله عليه السلام: وَ اللهِ لَتُخْضَبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ- وَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأسِهِ وَ لِحْيَتِهِ.٢
و قوله أيضاً: وَ اللهِ لَيَخْضِبَنَّهَا مِنْ فَوْقِهَا- وَ أوْمَأ إلَى شَيْبَتِهِ.٣
[و قوله عليه السلام]: مَا يَحْبِسُ أشْقَاهَا أنْ يَخْضِبَهَا مِنْ فَوْقِهَا بِدَمٍ؟٤
و قوله عليه السلام: مَا يَمْنَعُ أشْقَاهَا أنْ يَخْضِبَهَا مِنْ فَوْقِهَا بِدَمٍ؟٥
و قوله عليه السلام: أتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ وَ هُوَ سَيِّدُ الشُّهُورِ وَ أوَّلُ السَّنَةِ، وَ فِيهِ تَدُورُ رَحَى السُّلْطَانِ، ألَا وَ إنَّكُمْ حَاجُّوا العَامِ صَفّاً وَاحِداً، وَ آيَةُ ذَلِكَ أنِّي لَسْتُ فِيكُمْ.٦
و كان بعض أصحابه يقولون: إنّه ينعى إلينا نفسه. فضُرب عليه السلام في ليلة تسع عشرة. و مضى في ليلة إحدى و عشرين من ذلك الشهر.
و منها ما رواه الثقات عنه أنّه كان عليه السلام يفطر في شهر رمضان ليلة عند الحسن، و ليلة عند الحسين، و ليلة عند عبد الله بن عبّاس، لا يزيد على ثلاث لقم. فقال له أحد ولديه -الحسن أو الحسين عليهما السلام- في ذلك، فَقَالَ: يَا بُنَيّ، يَأتِي أمْرُ اللهِ وَ أنَا خَمِيصٌ. إنَّمَا هِيَ لَيْلَةٌ أوْ لَيْلَتَانِ- فَاصِيبَ مِنَ اللَّيْلِ.۱
و منها ما رواه أصحاب الآثار أنّ جُعْدَةَ بْنَ بَعْجَة -رجلًا من الخوارج- قال لأمير المؤمنين عليه السلام: اتَّقِ اللهَ يَا عَلِيّ! فَإنَّكَ مَيِّتٌ. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: بَلْ وَ اللهِ مَقْتُولٌ قَتْلًا ضَرْبَةً عَلَى هَذِهِ تُخْضَبُ هَذِهِ -وَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأسِهِ وَ لِحْيَتِهِ- عَهْدٌ مَعْهُودٌ، وَ قَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى.٢
و [منها] قوله عليه السلام في الليلة التي ضربه الشقيّ في آخرها، و قد توجّه إلى المسجد، فصاح الإوزُّ في وجهه، فطردهنّ الناس عنه، فقال: اتّرُكُوهُنَّ فَإنَّهُنَّ نَوَائِحُ۱.
و روى ابن شهرآشوب في مناقبه عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ عليّاً عليه السلام أمر أن يُكتَبَ له [اسم] من يدخل الكوفة. فكُتب له اناسٌ و رفعت أسماؤهم في صحيفة فقرأها، فلمّا مرّ على اسم ابن ملجم، وضع إصبعه على اسمه ثمّ قال: قَاتَلَكَ اللهُ، قَاتَلَكَ اللهُ. و لمّا قيل له: إذا علمتَ أنّه يقتلك، فَلِم لا تقتله؟ قال: إنّ الله تعالى لا يعذّب العبد حتى تقع منه المعصية. و تارة يقول: إذا قتلتُه، فمن يقتلني؟!٢
و ذكر ابن شهرآشوب أيضاً عن الصفوانيّ في «الإحن و المحن»، عن الأصبغ بن نُباتة أنّه قال: سَمِعْتُ عَلِيَّاً عَلَيهِ السَّلَامُ قَبْلَ أنْ يُقْتَلَ بِجُمُعَةٍ يَقُولُ: ألَا مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ فَلْيَدْنُ مِنِّي. لَا تَقْتُلُوا غَيْرَ قَاتِلِي، ألَا لَا الْفِيَنَّكُمْ غَدَاً تُحِيطُونَ النَّاسَ بِأسْيَافِكُمْ تَقُولُونَ: قُتِلَ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ.٣
و خصّص ابن حجر الهيتميّ في الباب التاسع من كتاب «الصواعق المحرقة» للأخبار الواردة في استشهاد الإمام عليه السلام. و ذكر أخباراً جمّة عن مصادر موثوقة عند العامّة في إخبار الإمام باستشهاده، و تعيين الليلة التي ضُرب فيها، و خضب لحيته بدم رأسه. و هي خليقة بالمطالعة
و الإمعان حقّاً.۱
و ورد هذا الموضوع مفصّلًا في ترجمة «تاريخ الأعثم الكوفيّ» إذ ذُكر فيه كيفيّة استشهاد الإمام عليه السلام و إخباره بذلك على نحو مفصّل.
و روى ابن الأثير الجزريّ في كتاب «اسد الغابة» عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ: مَنْ أشْقَى الأوَّلِينَ؟ قُلْتُ: عَاقِرُ النَّاقَةِ. قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَمَنْ أشْقَى الآخِرِينَ؟ قُلْتُ: لَا عِلْمَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: الذي يَضْرِبُكَ عَلَى هَذَا- وَ أشَارَ إلَى يَافُوخِهِ (اليافوخ موضع في مقدّمة الرأس بين العظم الواقع في مقدّمة الرأس و عظم المخّ. و هذا الموضع ليّن عند الأطفال. و إذا ما وضعت عليه اليد، انغمست فيه). وَ كَانَ يَقُولُ: وَدِدْتُ أنَّهُ قَدِ انْبَعَثَ أشْقَاكُمْ فَخَضَبَ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ- يَعْنِي لِحْيَتَهُ مِنْ دَمِ رَأسِهِ.٢
و كذلك روى ابن الأثير عن أبي الطُّفِيل انَّ عَلِيَّاً جَمَعَ النَّاسَ لِلْبَيْعَةِ. فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ المُرَادِيّ، فَرَدَّهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: مَا يَحْبِسُ أشْقَاهَا؟ فَوَ اللهِ لَيَخْضِبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ. ثُمَّ تَمَثَّلَ:
اشْدُدْ حَيَازِيمَكَ لِلْمَوْتِ | *** | فَإنَّ المَوْتَ لَاقِيكَا |
وَ لَا تَجْزَعْ مِنَ القَتْلِ | *** | إذَا حَلَّ بِوَادِيكَا۱ |
و قال ابن سعد في «الطبقات» بعد ذكر الحديث الأخير عن أبي الطفيل: و زاد غير أبي نعيم فضل بن الدُّكَين في هذا الحديث بهذا الإسناد عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قوله: وَ اللهِ! إنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيّ الامِّي صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ إلَيّ.٢
و كذلك روى ابن سعد بسنده عن محمّد بن سيرين أنّ عليّ بن أبي طالب قال لابن ملجم:
اريدُ حِبَاءَهُ وَ يُرِيدُ قَتْلِي | *** | عَذِيرَكَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادِ٣ |
و قال ابن الجزريّ في «النهاية»: جاء في حديث عليّ عليه السلام أنّه
فَإنَّ الدِّرْعَ وَ البَيْضَةَ | *** | يَوْمَ الرَّوْعِ يَكْفِيكَا |
كَمَا أضْحَكَكَ الدَّهْرُ | *** | كَذَاكَ الدَّهْرُ يُبْكِيكَا |
فَقَدْ أعْرِفُ أقْوَاماً | *** | وَ إنْ كَانُوا صَعَالِيكَا |
مَصَارِيعَ إلَى النَّجْدَةِ | *** | لِلْغَيّ مَتَارِيكَا |
قال و هو ينظر إلى ابن ملجم: عذيرك من خليلك من مراد يقال: عذيرك من فلان بالنصب، أي: هات من يعذرك فيه. و فعيل هنا بمعنى اسم الفاعل.
و روى ابن سعد أيضاً بسنده عن أبي مِجلَز قال: جاء رجل من مراد إلى عليّ و هو يصلّي في المسجد، فقال: احترس فإنّ ناساً من مُراد يريدون قتلك. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إنَّ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مَلَكَيْنِ يَحْفَظَانِهِ مِمَّا لَمْ يُقَدَّرْ، فَإذَا جَاءَ القَدَرُ خَلَّيَا بَيْنَهُ وَ بَيْنَهُ. وَ إنَّ الأجَلَ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ.۱
و روى بسنده عن عُبيدة أنّه قال: قال عليّ عليه السلام: مَا يَحْبِسُ أشْقَاكُمْ أنْ يَجِيءَ فَيَقْتُلَنِي؟ اللَهُمَّ قَدْ سَئِمْتُهُمْ وَ سَئِمُونِي، فَأرِحْهُمْ مِنِّي وَ أرِحني مِنْهُمْ.٢
و روى بسنده عن عبد الله بن سَبْع قال: سمعتُ عليّاً عليه السلام يقول: لَتُخْضَبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ. فَمَا يُنْتَظَرُ بِالأشْقَى؟ قَالوا: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِين فَأخْبِرْنَا بِهِ نُبِيرُ عِتْرَتَهُ. فَقَالَ: إذَنْ تَقْتُلُوا بِي غَيْرَ قَاتِلِي.٣
و روى بسنده عن امّ جعفر: سريّة عليّ بن أبي طالب قالت: إنّي لأصبّ على يَدي عَلِيّ الماء إذ رفع رأسه، فأخذ بلحيته فرفعها إلى أنفه فقال: وَاهاً لَكِ لِتُخْضَبِنَّ بِدَمٍ. قَالَتْ: فَاصِيبَ يَوْمَ الجُمُعَةِ.٤
اريدُ حِباءَهُ وَ يُرِيدُ قَتْلِي | *** | عَذِيركَ مِنْ خَلِيلِكَ مِنْ مُرَادِ |
و روى ابن سعد أيضاً بسنده عن محمّد بن الحنفيّة قال: دخل علينا ابن ملجم و أنا و حسن، و حسين جلوس في الحمّام. فلمّا دخل كأنّهما اشمأزّا منه، و قالا: مَا أجْرَأكَ تَدْخُلُ عَلِيْنَا! قال ابن الحنفيّة: قلتُ لهما: دعاه عنكما فَلَعَمْرِي مَا يُرِيدُ بِكُمَا أحْشَمَ مِنْ هَذَا. فلمّا كان يوم اتي به أسيراً، قال ابن الحنفيّة: ما أنا اليوم بأعرف به منّي يوم دخل علينا الحمّام.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنَّهُ أسِيرٌ فَأحْسِنُوا نُزُلَهُ وَ أكْرِمُوا مَثْوَاهُ، فَإنْ بَقِيتُ قَتَلْتُ أوْ عَفَوْتُ. وَ إنْ مُتُّ فَاقْتُلُوهُ قِتْلَتِي. وَ لَا تَعْتَدُوا إِنَّ
اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ .۱
و روى سبط ابن الجَوزيّ في كتاب «تذكرة خواصّ الامّة» عن أحمد بن حنبل في «المسند» بسنده المتّصل عن فُضالة بن أبي فُضالة الأنصاريّ، و كان أبو فضالة من أهل بدر قال: خرجتُ مع أبي عائداً لعليّ بن أبي طالب من مرض أصابه قبل منيّته، فقال له أبي: مَا يُقِيمُكَ هَا هُنَا بَيْنَ أعْرَابِ جَهِينَةَ؟ تَحَمَّلْ إلَى المَدِينَةِ فَإنْ أصَابَكَ أجَلُكَ وَلِيَكَ أصْحَابُكَ وَ أصْحَابُ القُرْآنِ، وَ صَلُّوا عَلَيْكَ. فقال عليّ عليه السلام: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ عَهِدَ إلَيّ أنْ لَا أمُوتَ حتى تُخْضَبَ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ- أي: لِحْيَتُهُ مِنْ دَمِ هَامَتِهِ. [و] قُتل أبو فُضالة مع عليّ عليه السلام بصفّين.٢
و قال سبط ابن الجَوْزيّ: أنشد عليّ عليه السلام قبيل قتله بأيّام:
تِلْكُمْ قُرَيْشٌ تَمَنَّانِي لِتَقْتُلَنِي | *** | فَلَا وَ رَبِّكَ لَا فَازُوا وَ لَا ظَفَرُوا |
فَانْ بَقِيتُ فَرَهْنٌ ذِمَّتِي لَهُمُ | *** | وَ إنْ عُدِمْتُ فَلَا يَبْقَى لَهُمْ أثَرُ |
وَ سَوْفَ يُورِثُهُمْ فَقْدِى عَلَى وَجَلٍ | *** | ذُلَّ الحَيَاةِ بِمَا خَانُوا وَ مَا غَدَرُوا٣ |
و قال ابن شهرآشوب في «المناقب»: رُوي أنّه جرح عَمْرُو بن عَبْدُ ودّ رأس عليّ عليه السلام يوم الخندق، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه و آله فشدّه و نفث فيه و قال: أيْنَ أكُونُ إذَا خُضِبَ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ؟۱
و نقل المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار»، في باب إخبار الرسول بشهادته و إخباره بشهادة نفسه أخباراً كثيرة عن «عيون أخبار الرضا» و «أمالي الصدوق» و «أمالي الشيخ الطوسيّ» و «خصال الصدوق»، و «الإرشاد» للشيخ المفيد، و «بصائر الدرجات» للصفّار، و «مناقب آل أبي طالب» لابن شهرآشوب، و «تذكرة الخواصّ» و «الخرائج و الجرائح» للراونديّ، و «كشف الغمّة»، و «فرحة الغريّ»، و هي أخبار حقيقةٌ بالإمعان و إنعام النظر.٢ و من هذه الأخبار خبر رواه عن «كنز جامع الفوائد» عن أبي طاهر المقلّد بن غالب، عن رجاله بإسناده المتّصل إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام و هو ساجد يبكي حتى علا نحيبه و ارتفع صوته بالبكاء. فقلنا: يا أمير المؤمنين! لقد أمرضنا بكاؤك و أمضّنا و أشجانا، و ما رأيناك قد فعلت مثل هذا الفعل قطّ فقال عليه السلام:
كُنْتُ سَاجِداً أدْعُو رَبِّي بِدُعَاءِ الخَيْرَاتِ في سَجْدَتِي فَغَلَبْتَنِي عَيْنِي، فَرَأيْتُ رُؤْياً هَالَتْنِي وَ قَطَعْتَنِي: رَأيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَائِماً وَ هُوَ يَقُولُ: يَا أبَا الحَسَنِ! طَالَتْ غَيْبَتُكَ فَقَدِ اشْتَقْتُ إلَى رُؤْيَاكَ، وَ قَدْ أنْجَزَ لِي رَبِّي مَا وَعَدَنِي فِيكَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! وَ مَا الذي أنْجَزَ لَكَ في؟ قَالَ: أنْجَزَ لِي فِيكَ وَ في زَوْجَتِكَ وَ ابْنَيكَ وَ ذُرِّيَّتِكَ في الدَّرَجَاتِ العُلَى في عِلِّيِّينَ! قُلْتُ: بِأبِي أنْتَ وَ امِّي يَا رَسُولَ اللهِ فَشِيعَتُنَا؟ قَالَ: شِيعَتُنَا مَعَنَا، وَ قُصُورُهُمْ بِحِذَاءِ قُصُورِنَا، وَ مَنَازِلُهُمْ مُقَابِلُ مَنَازِلِنَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ!
فَمَا لِشِيعَتِنَا في الدُّنْيَا؟ قَالَ: الأمْنُ وَ العَافِيَةُ. (أي: الأمن مِن إغواء الشيطان و العافية عن هلاك الدين و الإيمان) قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ عِنْدَ المَوْتِ؟ قَالَ: يُحَكَّمُ الرَّجُلُ في نَفْسِهِ وَ يُؤْمَرُ مَلَكُ المَوْتِ بِطَاعَتِهِ. قُلْتُ: فَمَا لِذَلِكَ حَدٌّ يُعْرَفُ؟ قَالَ: بَلَى، إنَّ أشَدَّ شِيعَتِنَا لَنَا حُبَّاً يَكُونُ خُرُوجُ نَفْسِهِ كَشَرَابِ أحَدِكُمْ في يَوْمِ الصَّيْفِ المَاءَ البَارِدَ الذي يَنْتَقِعُ بِهِ القُلُوبُ. وَ إنَّ سَائِرَهُمْ كَمَا يَغْبِطُ أحَدُكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ كَأقَرِّ مَا كَانَتْ عَيْنُهُ بِمَوْتِهِ.۱
قال ابن شهرآشوب: ذكر أبو بكر مَرْدَوَيْه في كتاب «فضائل أمير المؤمنين»، و أبو بكر الشيرازيّ في كتاب «نزول القرآن» أنّ سعيد بن المسيّب قال: كان عليّ بن أبي طالب يقرأ إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها، قال: فَوَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُخْضَبَنَّ هَذِهِ مِنْ هَذِهِ- وَ أشَارَ إلَى لِحْيَتِهِ وَ رَأسِهِ.٢
و قال ابن شهرآشوب أيضاً: و روى الثعلبيّ و الواحديّ باسنادهما عن عمّار، و عن عثمان بن صُهَيب، عن الضحّاك، و روى ابن مردويه بإسناده عن جابر بن سمرة؛ و عن صهيب و عن عمار و عن ابن عديّ و عن الضحّاك؛ و الخطيب في التاريخ عن جابر بن سمرة؛ و روى الطبريّ، و الموصليّ عن عمّار، و روى أحمد بن حنبل عن الضحّاك أنّه قال النبيّ صلى الله عليه و آله: يَا عَلِيّ! أشْقَى الأوَّلِينَ عَاقِرُ النَّاقَةِ، وَ أشْقَى الآخرِينَ قَاتِلُكَ.۱
كيفيّة استشهاده عليه السلام
و قال ابن شهرآشوب: و كان عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ التَّجوبِيّ عداده من مراد.٢ قال ابن عبّاس: كان من ولد قدّار عاقر ناقة صالح، و قصّتهما واحدة، لأنّ قدّار عشق امرأة يقال لها رباب كما عشق ابن ملجم قطاماً.٣
ثمّ قال: [و قال] أبو مخنف الأزديّ، و ابن راشد، و الرفاعيّ، و الثقفيّ جميعاً: إنّه اجتمع نفر من الخوارج بمكّة فقالوا: إنّا شرينا أنفسنا للّه. فلو أتينا أئمّة الضلال و طلبنا غرّتهم فأرحنا منهم البلاد و العباد.
فقال عبد الرحمن بن ملجم: أنا أكفيكم عليّاً. و قال الحجّاج بن
عبد الله السعديّ الملقّب بالبَرَك: أنا أكفيكم معاوية. و قال عمرو بن بكر التميميّ: أنا أكفيكم عمرو بن العاص، و اتّعدوا التاسع عشر من شهر رمضان، ثمّ تفرّقوا.
فدخل ابن ملجم الكوفة، فرأى رجلًا من الخوارج من أهل التيم، تيم الرباب عند قَطَام التيميّة. و كان أمير المؤمنين عليه السلام قتل أباها الأخضر [التيميّ] و أخاها الأصبغ بالنهروان. فشغف بها ابن ملجم و خطبها. فأجابته بمهر ذكره العبديّ في شعر له، إذ قال:
فَلَمْ أرَ مَهْراً سَاقَهُ ذُو سَمَاحَةٍ | *** | كَمَهْرِ قَطَامٍ مِنْ فَصِيحٍ وَ أعْجَمِ |
ثَلَاثَة آلَافٍ وَ عَبْدٍ وَ قِيْنَةٍ | *** | وَ ضَرْبِ عَلِيّ بِالحُسَامِ المُسَمَّمِ |
فَلَا مَهْرَ أغْلَى مِنْ عَلِيّ وَ إنْ غَلَا | *** | وَ لَا قَتْلَ إلَّا دُونَ قَتْلِ ابْنِ مُلْجَمِ۱ |
فقبل ابن ملجم ذلك، و قال: ويحك! من يقدر على قتل عليّ و هو فارس الفرسان، و مغالب الأقران، و السبّاق إلى الطعان؟ و أمّا المال، فلا بأس عَلَيّ منه. (و لمّا اقترحت قطام أن يكون القتل فتكاً و غيلة، أعلمها ابن ملجم بطويّته و قال: ما أتيتُ الكوفة إلّا لقتل عليّ) قال: أقبلُ.
فبعثت قطام إلى وردان بن مجالد التميميّ، و سألته معونة ابن ملجم
فلم أر مهراً ساقه ذو سماحة | *** | كمهر نظام بيّن غير معجم |
ثلاثة آلافٍ و عبد و قينة | *** | و ضرب عليّ بالحسام المصمّم |
فلا مهر أعلى من عليّ و إن علا | *** | و لا فتك إلّا دون قتلِ ابن ملجم |
و استعان ابن ملجم بشبيب بن بَجَرة، فأعانه. و أعانه رجل من وكلاء عمرو بن العاص بخطٍّ فيه مائة ألف درهم، فجعله مهرها.
فأطعمت قطام لهما [ليلة التاسع عشر] اللوزينج و الجوزينق (طعام يصنع باللوز و الجوز) و سقتهما الخمر العُكبري. فنام شبيب، و تمتّع ابن ملجم معها. ثمّ قامت فأيقظتهما، و عصّبت صدورهما بحرير. و تقلّدا سيفيهما و كمنا لعليّ مقابل السدّة. و حضر الأشعث بن قيس لمعونتهما، فقال لابن ملجم: النَّجاء، النَّجاء لحاجتك فقد ضحك الصبح [و فضحك].
فأحسّ حُجر بن عديّ، (و كان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام) بما أراد الأشعث، فقال له: قتلتَه يا أشعث؟ و خرج مبادراً ليمضي إلى أمير المؤمنين، فدخل [أمير المؤمنين] المسجد، فسبقه ابن ملجم، فضربه [على مفرقه] بالسيف.۱
و قال ابن شهرآشوب: أنشد الإمام الحسن عليه السلام في رثاء أبيه قائلًا:
أيْنَ مَنْ كَانَ لِعِلْمِ المُصْطَفَى لِلنَّاسِ بَابَا؟ | *** | أيْنَ مَنْ كَانَ إذَا مَا قَحَطَ النَّاسُ سَحَابَا؟ |
أيْنَ مَنْ كَانَ إذَا نُودِيَ في الحَرْبِ أجَابَا؟ | *** | أيْنَ مَنْ كَانَ دُعَاهُ مُسْتَجَاباً وَ مُجَابَا؟٢ |
و روى عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنّه قال: مَنْ زَارَ عَلِيَّاً بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَهُ الجَنَّةُ.٣
و جاء عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: مَنْ تَرَكَ زِيَارَةَ أمِيرِ المُؤمِنِينَ لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إلَيْهِ، أ لَا تَزُورُونَ مَنْ تَزُورُهُ المَلَائِكَةُ وَ النَّبِيُّونَ؟۱
و عنه عليه السلام أيضاً: إنَّ أبْوَابَ السَّمَاءِ لَتُفْتَحُ عِنْدَ دُعَاءِ الزَّائِرِ لأميرِ المُؤْمِنينَ، فَلَا تَكُنْ عِنْدَ الخَيْرِ نَوَّامَاً.٢
أبيات شعريّة منظومة فيه عليه السلام
و قال ابن مدلّل:
زِرْ بِالغَرِيّ العَالِمِ الرَّبَّانِي | *** | عَلَمَ الهُدَى وَ دَعَائِمَ الإيمَانِ |
وَ قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا خَيْرَ الوَرَى | *** | يَا أيُّهَا النَّبَا العَظِيمُ الشَّانِ |
يَا مَنْ عَلَى الأعْرَافِ يُعْرَفُ فَضْلُهُ | *** | يَا قَاسِمَ الجَنَّاتِ وَ النِّيرَانِ |
نَارٌ تَكُونُ قَسِيمَهَا يَا عُدَّتِي | *** | أنَا آمِنٌ مِنْهَا عَلَى جُثْمَانِي |
وَ أنَا مُضَيْفُكَ وَ الجِنَانُ لي القِرَى | *** | إذْ أنْتَ أنْتَ مُوَرِّدُ الضِّيفَانِ٣ |
و كُتب على مشهده عليه السلام:
هَذَا وَلِيّ اللهُ في أرْضِه | *** | فِي جَنَّةِ الخُلْدِ وَ آلائِهِ |
لَا يَقْبَلُ اللهُ لَهُ زَائِرَاً | *** | لَمْ يَبْر مِنْ سَائِرِ أعْدَائِهِ٤ |
و قال ابن رُزّيك:٥
كَأنِّي إذْ جَعَلْتُ إلَيْكَ قَصْدِي | *** | قَصَدْتُ الرُّكْنَ بِالبَيْتِ الحَرَامِ |
وَ خُيِّلَ لِي بِأنِّي، في مَقَامِي | *** | لَدَيْهِ بَيْنَ زَمْزَمَ وَ المَقَامِ |
أيَا مَولَايَ ذِكْرُكَ في قُعُودِي | *** | وَ يَا مَوْلَايَ ذِكْرُكَ في قِيَامِي |
وَ أنْتَ إذَا انْتَبَهْتُ سَمِيرُ فِكْرِي | *** | كَذَلِكَ أنْتَ انْسِي في مَنَامِي |
وَ حُبُّكَ إنْ يَكُنْ قَدْ حَلَّ قَلْبِي | *** | وَ في لَحْمِي اسْتَكَنَّ وَ في عِظَامِي |
فَلَوْ لَا أنْتَ لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتِي | *** | وَ لَوْ لَا أنْتَ لَمْ يُقْبَلْ صِيَامِي |
عَسَى أُسْقَى بِكَأسِكَ يَوْمَ حَشْرِي | *** | وَ يَبْرَدُ حِينَ أشْرَبُهَا اوامِي۱ |
الدَّرْسُ الرَّابِعُ وَ السَّبْعُونَ بَعْدَ المِائَةِ إلَى السَّادِسِ وَ السَّبْعِينَ بَعْدَ المِائَةِ: العُلُومُ المُخْتَلِفَةُ وَ المُتَنَوِّعَةُ التي ظَهَرَتْ مِنْ أمِيرِ المُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَام
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
و نصفها الأوّل هو قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا (افسحوا كي يجلس شخص آخر) يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ.۱
قال سماحة الاستاذ العلّامة الفقيد الطباطبائيّ أفاض الله علينا من بركات نفسه في تفسيره: التفسّح الاتّساع و كذا الفسح. و المجالس جمع مجلس اسم مكان. و الاتّساع في المجلس أن يتّسع الجالس ليسع المكان غيره؛ و فسح الله له أن يوسع له في الجنّة.
و الآية تتضمّن أدباً من آداب المعاشرة. و يستفاد من سياقها أنّهم كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه و آله فيجلسون ركاباً
لا يدع لغيرهم من الواردين مكاناً يجلس فيه، فادّبوا بقوله: «إذا قيل لكم تفسّحوا» إلى آخره. و الحكم عامّ و إن كان مورد النزول مجلس النبيّ صلى الله عليه و آله.
و قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يتضمن أدباً آخراً ... و النشوز عن المجلس أن يقوم الإنسان عن مجلسه ليجلس فيه غيره إعظاماً له و تواضعاً لفضله. و المعني: و إذا قيل لكم: قوموا ليجلس مكانكم من هو أفضل منكم في علم أو تقوى، فقوموا.
تفسير الآية: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ ...
و قوله: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ لا ريب في أنّ لازم رفعه تعالى درجة عبد من عباده مزيد قربه منه تعالى. و هذا قرينة عقليّة على أنّ المراد بهؤلاء الذين اوتوا العلم العلماء من المؤمنين (لا كلّ عالم و إن كان لا يؤمن بالله و رسوله).
فتدلّ الآية على انقسام المؤمنين إلى طائفتين: مؤمن؛ و مؤمن عالم. و المؤمن العالم أفضل. و قد قال تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.
و يتبيّن بذلك أنّ ما ذكر من رفع الدرجات في الآية مخصوص بالذين اوتوا العلم. و يبقى لسائر المؤمنين درجة واحدة من الرفع. و يكون التقدير: يرفع الله الذين آمنوا منكم درجة و يرفع الذين اوتوا العلم منكم درجات.
و في الآية من تعظيم أمر العلماء و رفع قدرهم ما لا يخفى. و أكّد [الله تعالى] الحكم بتذييل الآية بقوله: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.۱
لا يرتاب العلماء و أهل الخبرة و لا يمارون في العلوم المختلفة
و المتنوّعة التي ظهرت من أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. فإنّنا نجد في كتب السِيَر و التواريخ و الأحاديث و التفاسير و السُّنَن و الفقه و القضاء و الطبّ و النجوم و الفلكيّات و كتب الاقتصاد و المعاملات و المسائل الرياضيّة و العلوم الإلهيّة و الحكمة و العرفان و التزكية و الأخلاق، و حتى في العلوم العربيّة و الأدبيّة و الفصاحة و البلاغة و النحو و العروض و غيرها مسائل قد طرحت، و لم يعرضها إلّا أمير المؤمنين عليه السلام، إذ لم تُعهَد قبله. و كلّ من جاء بعده، فقد أخذ منه و رجع إليه و اقتبس من أنوار علومه.۱
و هذا المقام نستفيد ممّا عرضه ابن أبي الحديد في مقدّمة «شرح نهج البلاغة»، و ابن شهرآشوب في «مناقب آل أبي طالب».
كلام ابن أبي الحديد في أنّ جميع العلوم تنتهى إلى أمير المؤمنين
أمّا ابن أبي الحديد فقد تحدّث في مقدّمته عن الفضائل الخَلقيّة و الخُلقيّة للإمام، و عدّ منها علومه، و نصّ على أنّه كان مبتكر هذه العلوم و المبتدئ بها. و قال بعد سرده فضائل أمير المؤمنين عليه السلام:
وَ مَا أقُولُ في رَجُلٍ تُعْزَى إلَيْهِ كُلُّ فَضِيلَةٍ وَ تَنْتَهِي إلَيْهِ كُلُّ فِرْقَةٍ، وَ تَتَجاذَبُهُ كُلُّ طَائِفَةٍ؟ فَهُوَ رَئِيسُ الفَضَائِلِ وَ يَنْبُوعُهَا، وَ أبُو عُذْرِهَا، وَ سَابِقُ مِضْمَارِهَا، وَ مُجَلِّي حَلْبَتِهَا. كُلُّ مَنْ بَزَغَ فِيهَا بَعْدَهُ، فَمِنْهُ أخَذَ، وَ لَهُ اقْتَفَى، وَ عَلَى مِثَالِهِ احْتَذَى.٢
ثمّ قال: و قد عرفتَ أنّ أشرف العلوم هو العلم الإلهيّ، لأنّ شرف
العلم بشرف المعلوم، و معلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم. و من كلامه عليه السلام اقتُبس، و عنه نُقِل، و إليه انتهى، و منه أبتدأ. فإنّ المعتزلة -الذين هم أهل التوحيد و العدل و أرباب النظر، و منهم تعلّم الناس هذا الفنّ- تلامذته و أصحابه. لأنّ كبيرهم و اصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمّد ابن الحنفيّة، و أبو هاشم تلميذ أبيه، و أبوه تلميذ أمير المؤمنين عليه السلام.۱
و أمّا الأشعريّة، فإنّهم ينتمون إلى أبي الحسن عليّ بن [إسماعيل بن] أبي بشر الأشعريّ، و هو تلميذ أبي عليّ الجُبائيّ. و أبو عليّ أحد مشايخ المعتزلة؛ فالأشعريّة ينتهون بأخَرَةٍ إلى استاذ المعتزلة و معلّمهم، و هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
و أمّا الإماميّة و الزيديّة فانتماؤهم إليه ظاهر.
و من العلوم، علم الفقه، و أمير المؤمنين عليه السلام أصله و أساسه، و كلّ فقيه في الإسلام، فهو عيال عليه، و مستفيد من فقهه.
أمّا أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف، و محمّد و غيرهما، فأخذوا عن أبي حنيفة، و أمّا الشافعيّ، فقرأ على محمّد بن الحسن، فيرجع فقهه أيضاً إلى أبي حنيفة. و أمّا أحمد بن حنبل، فقرأ على الشافعيّ، فيرجع فقهه
أيضاً إلى أبي حنيفة. و أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمّد عليه السلام، و قرأ جعفر على أبيه عليه السلام، و ينتهي الأمر إلى عليّ عليه السلام.
و أمّا مالك بن أنس، فقرأ على ربيعة الرأي، و قرأ ربيعة على عِكرمة، و قرأ عِكرمة على عبد الله بن عبّاس، و قرأ عبد الله بن عبّاس على عليّ بن أبي طالب عليه السلام. و إن شئتَ، رددتَ إليه فقه الشافعيّ بقراءته على مالك، كان لك ذلك. فهؤلاء الفقهاء الأربعة.
و أمّا فقه الشيعة، فرجوعه إليه ظاهر. و أيضاً فإنّ فقهاء الصحابة كانوا: عمر بن الخطّاب، و عبد الله بن عبّاس، و كلاهما أخذ عن عليّ عليه السلام. أمّا ابن عبّاس، فظاهر. و أمّا عمر، فقد عرف كلّ أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه و على غيره من الصحابة، و قوله غير مرّة: لَوْ لَا عَلِيّ لَهَلَكَ عُمَرُ. و قوله: لَا بَقِيتُ لِمُعْضَلَةٍ لَيْسَ لَهَا أبُو الحَسَنِ. و قوله: لَا يُفتِيَنَّ أحَدٌ في المَسْجِدِ وَ عَلِيّ حَاضِرٌ. فقد عُرِف بهذا الوجه أيضاً انتهاء الفقه إليه عليه السلام.
و قد روت العامّة و الخاصّة قوله صلى الله عليه و آله: أقْضَاكُمْ عَلِيّ و القضاء هو الفقه، فهو -إذاً- أفقهُهم.
و روى الكلّ أيضاً أنّه عليه السلام قال له (أي لعليّ) و قد بعثه إلى اليمن قاضياً:
اللَهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَ ثَبِّتْ لِسَانَهُ.
قال (أمير المؤمنين عليه السلام): فَمَا شَكَكْتُ بَعْدَهَا في قَضَاءٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ. و هو عليه السلام الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستّة أشهر. و هو الذي أفتى في الحامل الزانية.۱ و هو الذي قال في [المنبريّة]: صَارَ ثُمْنُهَا
تُسْعاً.۱
و لو فكّر الفَرَضيّ في هذه المسألة فكراً طويلًا، لاستُحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنّك بمن قاله بديهة، و اقتضبه ارتجالًا.
و من العلوم: علم تفسير القرآن. و عنه اخذ، و منه فُرِّع. و إذا رجعت إلى كتب التفسير، علمتَ صحّة ذلك، لأنّ أكثره عنه و عن عبد الله بن عبّاس. و قد علم الناس حال ابن عبّاس في ملازمته له، و انقطاعه إليه، و أنّه تلميذه و خرّيج مدرسته. و قيل له: أيْنَ عِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ ابْنِ عمّك؟ فقال: كَنِسْبَةِ قَطْرَةٍ مِنَ المَطَرِ إلَى البَحْرِ المُحِيطِ.
و من العلوم، علم الطريقة و الحقيقة، و أحوال التصوّف. و قد عرفتَ أنّ أرباب هذا الفنّ في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون، و عنده يقفون. و قد صرّح بذلك الشِّبليّ، و الجُنيد، و سَرِيّ، و أبو يزيد البِسطاميّ، و أبو محفوظ معروف الكرخيّ، و غيرهم. و يكفيك دلالة على ذلك الخِرقة التي هي شعارهم إلى اليوم، و كونهم يسندونها بإسناد متّصل إلى أمير المؤمنين عليه السلام.٢
و من العلوم، علم النحو و العربيّة. و قد علم الناس كافّة أنّه هو الذي ابتدعه و أنشأه، و أملى على أبي الأسود الدؤليّ جوامعه و اصوله. من جملتها: الكَلَامُ كُلُّهُ ثَلَاثَةُ أشْيَاءَ: اسْمٌ، و فِعْلٌ، و حَرْفٌ.
و من جملتها: تقسيم الكلمة إلى معرفة، و نكرة. و تقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع و النصب و الجر و الجزم. و هذا يكاد يلحق بالمعجزات، لأنّ القوّة البشريّة لا تفي بهذا الحصر، و لا تنهض بهذا الاستنباط.۱
تقدّم الإمام عليه السلام في الفصاحة و البلاغة
ثمّ عرض ابن أبي الحديد شرحاً لفضائل الإمام عليه السلام، إلى أن قال:
و أمّا الفصاحة، فهو عليه السلام إمام الفصحاء و سيّد البلغاء. و في كلامه قيل: دُونَ كَلَامِ الخَالِقِ وَ فَوْقَ كَلَامِ المَخْلُوقِ. و منه تعلّم الناس الخطابة و الكتابة. قال عبد الحميد بن يحيي: حَفِظْتُ سَبْعِينَ خُطْبَةً مِنْ خُطَبِ الأصْلَعِ، فَفَاضَتْ ثُمَّ فَاضَتْ.
و قال ابن نُباتة: حَفِظْتُ مِنَ الخِطَابَةِ كَنْزاً لَا يَزِيدُهُ الإنْفَاقُ إلَّا سَعَةً وَ كَثْرَةً، حَفِظْتُ مِائَةَ فَصْلٍ مِنْ مَوَاعِظِ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ.
و لمّا قال مِحْفَن بنُ أبي مِحْفَن لمعاوية: جِئْتُكَ مِنْ عِنْدِ أعْيى النَّاسِ، قال له: ويْحَكَ كَيْفَ يَكُونُ أعْيَا النَّاسِ؟ فَوَ اللهِ مَا سَنَّ الفَصَاحَةَ لِقُرَيْش غَيْرُهُ.
و يكفي هذا الكتاب «نهج البلاغة» الذي نحن شارحوه دلالة على أنّه لا يُجَارَى في الفصاحة، و لا يبارَى في البلاغة. و حسبك أنّه لم يدوّن لأحد من فصحاء الصحابة العُشر، و لا نصف العُشر ممّا دُوِّن له. و كفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب «البيان و التبيين» و في غيره من كتبه.۱
ثمّ قال ابن أبي الحديد بعد شرح مشبع تناول فيه سماحة أخلاق الإمام، و زهده، و عبادته:
و أمّا قراءة عليّ القرآن و اشتغاله به، فهو المنظور إليه في هذا الباب. اتّفق جميع العلماء و الفقهاء من العامّة و الخاصّة على أنّه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله، و لم يكن غيره يحفظه. ثمّ هو
أوّل من جمعه.
نقلوا كلّهم أنّه تأخّر عن بيعة أبي بكر. فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنّه تأخّر مخالفة للبيعة، بل يقولون: تشاغل بجمع القرآن. فهذا يدلّ على أنّه أوّل من جمع القرآن، لأنّه لو كان مجموعاً في حياة رسول الله صلى الله عليه و آله، لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته صلى الله عليه و آله.
و إذا رجعتَ إلى كتب القراءات، وجدتَ أئمّة القرّاء كلّهم يرجعون إليه، كأبي عمرو بن العلاء، و عاصم بن أبي النَّجود، و غيرهما. لأنّهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السُّلَمِيّ القارئ. و أبو عبد الرحمن كان تلميذه، و عنه أخذ القرآن. فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضاً، مثل كثير ممّا سبق.۱
هذه مطالب ذكرها ابن أبي الحديد في مقدّمة شرحه على «نهج البلاغة» في سياق عدّه سائرَ فضائل الإمام عليه السلام.
و أمّا ابن شهرآشوب: فقد عقد فصلًا في كتابه «مناقب آل أبي طالب» تحت عنوان: في المسابقة بالعلم. و أحصى فيه العلوم التي كان أمير المؤمنين عليه السلام سبّاقاً فيها. قال: أ فلا يكون (عليّ عليه السلام) أعلم الناس، و كان مع النبيّ صلى الله عليه و آله في البيت و المسجد، يكتب وحيه و مسائله، و يسمع فتاواه، و يسأله؟
و روى أنّه كان رسول الله صلى الله عليه و آله إذا نزل عليه الوحي ليلًا لم يصبح حتى يخبر به عليّاً عليه السلام. و إذا نزل عليه الوحي نهاراً لم يُمسِ حتى يخبر به عليّاً. و من المشهور إنفاقه الدينار قبل مناجاة
الرسول، و سأله عن عشر مسائل، فتح له منها ألف باب، فتح كلّ باب ألف باب. و في ذلك قال الشريف الرضيّ:۱
يَا بَنِي أحْمَدَ انَادِيكُمُ اليَوْمَ | *** | وَ أنْتُمْ غَدَاً لِرَدِّ جَوَابِي |
ألْفَ بَابٍ أُعطِيتُم ثُمَّ أفْضَى | *** | كُلُّ بَابٍ مِنْهَا إلَى ألْفِ بَابِ |
لَكُمُ الأمْرُ كُلُّهُ وَ إلَيْكُمْ | *** | وَ لَدَيْكُمْ يُؤُولُ فَصْلُ الخِطَابِ٢ |
و من عجيب أمره عليه السلام في هذا الباب أنّه لا شيء من العلوم إلّا و أهلة يجعلون عليّاً عليه السلام قدوة، فصار قوله قبلة في الشريعة يتوجّه إليها كلّ الناس.
جَمْعُ القرآن من قِبَل الإمام عليه السلام
كان أمير المؤمنين عليه السلام جامع القرآن
سُمع القرآن من عليّ عليه السلام. ذكر الشيرازيّ في «نزول القرآن»، و أبو يوسف يعقوب في تفسيره عن ابن عبّاس في قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يحرّك شفتيه عند الوحي ليحفظه، و قيل له: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ يَعْنِي بِالقُرْآنِ لِتَعْجَلَ بِهِ مِنْ قَبْلِ أنْ يُفْرَغَ بِهِ مِنْ قَرَاءَتِهِ عَلَيْكَ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ .٣
قال [ابن عبّاس]: ضمن الله محمّداً صلى الله عليه و آله أن يجمع القرآن بعد رسول الله صلى الله عليه و آله عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال ابن عبّاس: فجمع الله القرآن في قلب عليّ عليه السلام. و جمعه عليّ عليه السلام بعد موت رسول الله صلى الله عليه و آله بستّة أشهر.
و في أخبار أبي رافع: إنَّ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ قَالَ في مَرَضِهِ
الَّذِي تُوُفِّي فِيهِ لِعَلِيٍّ: يَا عَلِيّ! هَذَا كِتَابُ اللهِ، خُذْهُ إلَيْكَ. فَجَمَعَهُ عَلِيّ في ثَوْبٍ فَمَضَى إلَى مَنْزِلِهِ، فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ جَلَسَ عَلِيّ فَألَّفَهُ كَمَا أنْزَلَهُ اللهُ وَ كَانَ بِهِ عَالِماً.
و حدّثني أبو العلاء العطّار، و الموفّق خطيب خوارزم في كتابيهما بالإسناد عن عُليّ بن رباح۱ أنَّ النَّبِيّ أمَرَ عَلِيَّاً بِتَألِيفِ القُرْآنَ، فَألَّفَهُ وَ كَتَبَهُ.
و روى جَبَلة بن سُحَيم٢ عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: لَوْ ثُنِيَتْ لِيَ الوَسَادَةُ وَ عُرِفَ لِي حَقِّي لأخْرَجْتُ لَهُمْ مُصْحَفَاً كَتَبتُهُ وَ أمْلَاهُ عَلَيّ رَسُولُ اللهِ.
و رويتم أيضاً (أنتم العامّة) أنَّهُ إنَّمَا أبْطَأ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ عَنْ بَيْعَةِ أبِي بَكْرٍ لِتَألِيفِ القُرْآنِ.
و روى أبو نُعَيم في «حلية الأولياء»، و الخطيب في «الأربعين» بالإسناد عن السُّدّيّ، عن عبد خير، عن عليّ عليه السلام أنّه قال: لَمَّا قُبِضَ
رَسُولُ اللهِ أقْسَمْتُ -أوْ حَلَفْتُ- أنْ لَا أضَعَ ردَايَ عَنْ ظَهْرِي حتى أجْمَعَ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ. فَمَا وَضَعْتُ رِدَايَ حتى جَمَعْتُ القُرْآنَ.
و في أخبار أهل البيت عليهم السلام أنَّهُ آلَى أنْ لَا يَضَعَ رِدَاءَهُ عَلَى عَاتِقِهِ إلَّا لِلصَّلَاةِ حتى يُؤَلِّفَ القُرْآنَ وَ يَجْمَعَهُ. فَانْقَطَعَ عَنْهُمْ مُدَّةً إلَى أنْ جَمَعَهُ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمْ بِهِ في إزَارٍ يَحْمِلُهُ وَ هُمْ مُجْتَمِعُونَ في المَسْجِدِ، فَأنْكَرُوا مَصِيرَهُ بَعْدَ انْقِطَاعٍ مَعَ البَتِهِ،۱ فَقَالُوا: الأمْرُ مَا٢ جَاءَ بِهِ أبُو الحَسَنِ.
فَلَمَّا تَوَسَّطَهُمْ، وَضَعَ الكِتَابَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ قَالَ: إنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: إنِّي مُخَلِّفٌ فِيكُمْ مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا: كِتَابَ اللهِ، وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي، وَ هَذَا الكِتَابُ وَ أنَا العِتْرَةُ.
فَقَامَ إلَيْهِ الثَّانِي فَقَالَ لَهُ: إن يَكُنْ عِنْدَكَ قُرْآنٌ، فَعِنْدَنَا مِثْلُهُ، فَلَا حَاجَةَ
قد أصبح الناس علينا ألبا | *** | فالناس في جنبٍ و كنّا جنبا |
لَنَا فِيكُمَا، فَحَمَلَ عَلَيهِ السَّلَامُ الكِتَابَ وَ عَادَ بِهِ بَعْدَ أنْ ألْزَمَهُمُ الحُجَّةَ.
و في خبر طويل عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّهُ حَمَلَهُ وَ وَلَّى رَاجِعاً نَحْوُ حُجْرَتِهِ وَ هُوَ يَقُولُ: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ .۱ وَ لِهَذَا قَرَأ ابْنَ مَسْعُودٍ: إنَّ عَلِيَّاً جَمَعَهُ وَ قَرَأ بِهِ فَإذَا قَرَأهُ فَاتَّبِعُوا قِرَاءَتَهُ.
قال الناشئ:
جَامِعُ٢ وَحْي اللهِ إذْ فَرَّقَهُ | *** | مَنْ رَامَ جَمْعَ آيَةٍ فَمَا ضَبَطْ |
أشْكَلَهُ لِشَكْلِهِ بِجَهْلِهِ | *** | فَاسْتُعْجِبَتْ٣ أحْرُفُهُ حِينَ نَقَطْ |
و قال العونيّ:
لَمَّا رَأى الأمْرَ قَبِيحَ المَدْخَلِ | *** | حَرَّدَ في جَمْعِ الكِتَابِ المُنْزَلِ |
و قال الصاحب:
هَلْ مِثْلَ جَمْعِكَ لِلْقُرْآنِ تَعْرِفُهُ | *** | لَفْظاً وَ مَعْنَى وَ تَأوِيلًا وَ تَبْيينا٤ |
و قال الخطيب منيح:
حُبُّ النَّبِيّ وَ أهْلِ البَيْتِ مُعْتَمَدِي | *** | إذِ الخُطُوبُ أسَاءَتْ رَأيَهَا فِينَا |
عَلِيّ جَامِعُ القُرْآنَ جَمْعَاً | *** | يُقَصِّرُ عَنْهُ جَمْعُ الجَامِعِينَا |
فأمّا ما روى أنّه جمعه أبو بكر، و عمر، و عثمان، فانّ أبا بكر قال لمّا التمسوا منه جمع القرآن: كَيْفَ أفْعَلُ شَيْئاً لَمْ يَفْعَلُهُ رَسُولُ اللهِ وَ لَا أمَرَنِي بِهِ؟ ذكره البخاريّ في صحيحه.
و ادّعى عليّ أنّ النبيّ أمره بالتأليف. ثمّ إنّهم أمروا زيد بن ثابت، و سعيد بن العاص، و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، و عبد الله بن الزبير بجمعه. فالقرآن يكون جمع هؤلاء جميعهم.۱
***
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم القراءات
و من العلوم التي تقدّم فيها عليّ على الجميع: علم القراءات. و ظهر علماء القراءات في هذا المجال. روى أحمد بن حنبل، و ابن بطّة، و أبو يَعْلى في مصنّفاتهم عن الأعمش، عن أبي بكر بن عيّاش في خبر طويل أنّه قرأ رجلان ثلاثين آية من سورة الأحقاف، فاختلفا في قراءتهما، فقال ابن مسعود: هذا الخلاف ما أقرأه. فذهب بهما إلى النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله. فغضب و عليّ عليه السلام عنده. فقال عليّ عليه السلام: رَسُولُ اللهِ يَأمُرُكُمْ أنْ تَقْرَءُوا كَمَا عُلِّمْتُمْ. و هذا دليل على علم عليّ عليه السلام بوجوه القراءات المختلفة. و روى أنّ زيداً لمّا قرأ: التابوت، قال عليّ عليه السلام: اكتبه التابوت، فكتبه كذلك.
و القرّاء السبعة إلى قراءته عليه السلام يرجعون. فأمّا حمزة، و الكسائيّ فيعوّلان على قراءة عليّ عليه السلام و ابن مسعود. و ليس مصحفهما مصحف ابن مسعود. فهما إنّما يرجعان إلى عليّ عليه السلام
و يوافقان ابن مسعود فيما يجري مجرى الإعراب. و قد قال ابن مسعود: مَا رَأيْتُ أحَداً أقْرَأ مِنْ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ لِلقُرْآنِ.
و أمّا نافع، و ابن كثير، و أبو عمرو، فمعظم قراءاتهم ترجع إلى ابن عبّاس، و ابن عبّاس قرأ على ابيّ بن كعب، و عليّ. و الذي قرأه هؤلاء القرّاء يخالف قراءة ابيّ، فهو إذاً مأخوذ عن عليّ عليه السلام.
و أمّا عاصم، فقرأ على أبي عبد الرحمن السُّلَميّ. و قال أبو عبد الرحمن: قرأت القرآن كلّه على عليّ بن أبي طالب. فقالوا: أفصح القراءات قراءة عاصم لأنّه أتى بالأصل، و ذلك أنّه يُظهر ما أدغمه غيره، و يحقّق من الهمز ما ليّنه غيره، و يفتح من الألفات ما أماله غيره.
و العدد الكوفيّ في القرآن منسوب إلى عليّ عليه السلام. و ليس في الصحابة من يُنسب إليه العدد غيره عليه السلام. و إنّما كتب عدد ذلك كلّ مِصر عن بعض التابعين.
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم التفسير
و منهم: المفسّرون كعبد الله بن عبّاس، و عبد الله بن مسعود، و ابيّ ابن كعب، و زيد بن ثابت. و هم معترفون له عليه السلام بالتقدّم.۱
و ورد في تفسير النقّاش أنّ ابن عبّاس قال: جُلُّ مَا تَعَلَّمْتُ مِنَ التَّفْسِيرِ مِنْ عَلِي بْنِ أبِي طَالِبٍ وَ ابْنِ مَسْعُودٍ. إنَّ القُرْآنَ انْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أحْرُفٍ، مَا مِنْهَا إلَّا وَ لَهُ ظَهْرٌ وَ بَطْنٌ. وَ إنَّ عَلِيّ بْنَ أبِي طَالِبٍ عَلِمَ الظَّاهِرَ وَ البَاطِنَ.
و جاء في «الفضائل» للعكبريّ أنّ الشعبيّ قال: مَا أحَدٌ أعْلَمَ بِكِتَابِ اللهِ بَعْدَ نَبِيّ اللهِ مِنْ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ.
و في «تاريخ البلاذريّ»، و «حِلْيَة الأولياء»: قال عليّ عليه السلام: وَ اللهِ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ إلَّا وَ قَدْ عَلِمْتُ فِيمَا نَزَلَتْ وَ أيْنَ نَزَلَتْ، أ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أوْ بِنَهَارٍ نَزَلَتْ، في سَهْلٍ أوْ جَبَلٍ؟ إنَّ رَبِّي وَهَبَ لِي قَلْبَاً عَقُولًا وَ لِسَاناً سَؤُولًا.۱
و ورد في «قوت القلوب»: قال عليّ عليه السلام: لَوْ شِئْتُ لأوْقَرْتُ
سَبْعِينَ بَعِيرَاً في تَفْسِيرِ فَاتِحَةِ الكِتَابِ.۱
و لمّا وجد المفسّرون قوله عليه السلام، لم يرجعوا إلى قول غيره في
و لو كنت بي من نقطة الباء خفضة | *** | . .. (البيت)، |
التفسير. و سأله ابن الكوّاء، و هو على المنبر: مَا الذَّارِياتِ ذَرْواً ؟ فقال: الرِّيَاحُ. فقال: وَ مَا فَالْحامِلاتِ وِقْراً ؟ فقال: السَّحَابُ. فقال: وَ مَا فَالْجارِياتِ يُسْراً ؟ فقال: الفُلْكُ. فقال: مَا فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ؟ فقال: المَلَائِكَةُ. فالمفسّرون كلّهم على قوله عليه السلام.۱
هذه الآيات في أوّل سورة الذاريات: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ، فَالْحامِلاتِ وِقْراً ، فَالْجارِياتِ يُسْراً ، فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً ، إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ ، وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ.٢
قال العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه الزكيّة في التفسير: الذَّارِياتِ جمع الذَّارِيَة من قولهم: ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ تَذْرُوهُ ذَرْوَاً إذا أطارته. و الوِقْرُ بالكسر فالسكون ثقل الحمل في الظهر أو في البطن. و في الآيات إقسام بعد إقسام يفيد التأكيد بعد التأكيد للمقسم عليه و هو الجزاء على الأعمال. فقوله: وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً إقسام بالرياح المثيرة للتراب.
و قوله: فَالْحامِلاتِ وِقْراً بالفاء المفيدة للتأخير و الترتيب معطوف على الذَّارِيَاتِ و إقسام بالسحب الحاملة لثقل الماء، و قوله: فَالْجارِياتِ يُسْراً عطف عليه و إقسام بالسفن الجارية في البحار بيُسر و سهولة. و قوله: فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً عطف على ما سبقه و إقسام بالملائكة الذين يعملون بأمره فيقسمونه باختلاف مقاماتهم. فانّ أمر ذي العرش بالخلق و التدبير واحد. فاذا حمله طائفة من الملائكة على اختلاف أعمالهم، انشعب الأمر و تقسّم بتقسّمهم. ثمّ إذا حمله طائفة هي دون الطائفة الاولى، تقسّم ثانياً بتقسّمهم، و هكذا حتى ينتهي إلى الملائكة المباشرين للحوادث الكونيّة الجزئيّة
فينقسم بانقسامها و يتكثّر بتكثّرها.
و الآيات الأربع -كما ترى- تشير إلى عامّة التدبير حيث ذكرت انموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البرّ، و هو الذَّارِياتِ ذَرْواً. و انموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في البحر، و هو فَالْجارِياتِ يُسْراً. و انموذجاً ممّا يدبّر به الأمر في الجوّ، و هو فَالْحامِلاتِ وِقْراً. و تمّم الجميع بالملائكة الذين هم وسائط التدبير، و هم فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً.
فالآيات في معنى أن يقال: اقسم بعامّة الأسباب التي يتمّم بها أمر التدبير في العالم إنّ كذا كذا، و قد ورد من طرق الخاصّة و العامّة عن عليّ عليه أفضل السلام تفسير الآيات الأربع بما تقدّم.۱
و روى ابن كثير الدمشقيّ في تفسيره عن شعبة بن الحجّاج، عن السمّاك، عن خالد بن عرعرة، و كذلك روى بسند آخر عن شعبة، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل أنّهم سمعوا عليّ بن أبي طالب، و ثبت أيضاً من طرق اخرى غير هذين السندين، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب أنّه صعد منبر الكوفة فقال: لَا تَسْألُونِي عَنْ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ تعالى وَ لَا عَنْ سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ إلَّا أنْبَأتُكُمْ بِذَلِكَ.
فقام إليه ابن الكوّاء، و قال: يا أمير المؤمنين! ما معنى قوله تعالى: وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً؟ فقال عليّ رضي الله عنه: الرِّيحُ. فقال: ما معنى فَالْحامِلاتِ وِقْراً؟ فقال عليّ رضي الله عنه: السَّحَابُ. قال: فما معنى فَالْجارِياتِ يُسْراً؟ قال عليّ رضي الله عنه: السُّفن. قال: فما معنى فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً؟ قال عليّ رضي الله عنه: المَلَائِكَةُ.٢
و أخرج السيوطيّ في تفسير «الدرّ المنثور» تفسير هذه المعاني الأربعة في الآيات الأربع عن عليّ بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة و السلام عن عبد الرزّاق، و الفريابيّ، و سعيد بن منصور، و الحارث بن أبي اسامة، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و ابن الأنباريّ في «المصاحف» و الحاكم و صحّحه، و البيهقيّ في «شعب الإيمان» من طرق مختلفة.۱
قصّة جَلد صُبَيْغ بن عَسَل و منعه من السؤال عن القرآن
قصّة صُبَيغ بن عَسَل و عمر في هذه الآية
و أخرج السيوطيّ، و ابن كثير، عن البزّاز، و الدار قطنيّ في «الأفراد»، و ابن مردويه، و ابن عساكر عن سعيد بن المسيّب قال: جاء صُبَيْغ التميميّ إلى عمر بن الخطّاب فقال: أخبرني عن الذَّارِياتِ ذَرْواً. قال: هي الرياح، و لو لا أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم يقوله ما قلتُه. قال: فأخبرني عن فَالْحامِلاتِ وِقْراً. قال: هي الرياح: و لو لا أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم يقوله ما قلتُه. قال: فأخبرني عن فَالْجارِياتِ يُسْراً. قال: هي السفن، و لو لا أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم يقول ما قلتُه. قال: فأخبرني عن فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً. قال: الملائكة، و لو لا أنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه [و آله] و سلّم يقوله ما قلتُه.
ثمّ أمر به، فضُرب مائة، و جُعل في بيت. فلمّا برأ، دعاه فضربه مائة اخرى و حمله على قتب، و نفاه إلى البصرة، و كتب إلى أبى موسى الأشعريّ: امنع الناس من مجالسته، فلم يزالوا كذلك حتى أتى أبا موسى فحلف له بالأيمان المغلّظة ما يجد في نفسه ممّا كان يجد شيئاً. فكتب (أبو موسى) في ذلك إلى عمر، فكتب عمر: ما أخاله إلّا قد صدق. فخلِ
بينه و بين مجالسة الناس.۱
و أخرج السيوطيّ عن الفريابيّ، عن الحسن قال: سأل صُبَيْغ بن عسل التميميّ عمر بن الخطّاب عن الذَّارِياتِ ذَرْواً، و وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً، و وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً. فقال له عمر: اكشف رأسك. فإذا له ضفيرتان. فقال عمر: و الله لو وجدتُك محلوقاً، لضربتُ عنقك. ثمّ كتب إلى أبي موسى الأشعريّ أن لا يجالسه مسلم و لا يكلّمه.٢
إن سؤال صُبَيْغ عمر، و ضربه بجريد النخل و عراجينه حتى جرح بدنه و ورم كالدُّمَّل، ثمّ حبسه حتى برأ، و ضربه مرّة اخرى بعراجين النخل، و سائر جزئيّات القضيّة من المسلّمات في التأريخ. و قال ابن كثير في ذيل هذه الرواية التي نقلناه أخيراً عنه: ذكر الحافظ ابن عساكر هذه القضيّة في ترجمة صُبَيْغ مفصّلًا.
و نقل العلّامة الأمينيّ هذه القضيّة في باب نوادر الأثر في علم عمر تحت عنوان: اجتهاد الخليفة في السؤال عن مشكلات القرآن، و ذلك بعبارات و مضامين مختلفة تتحدّث كلّها عن قضيّة واحدة. و رواها الأمينيّ عن «سنن الدارميّ»، و «تاريخ ابن عساكر»، و «سيرة عمر» لابن الجوزيّ، و «تفسير ابن كثير»، و «الإتقان» للسيوطيّ، و «كنز العمّال» نقلًا عن الدارميّ، و نصر المقدسيّ، و الأصفهانيّ، و ابن الأنباريّ، و الكانيّ، و ابن عساكر. و رواها أيضاً عن تفسير «الدرّ المنثور»، و «فتح الباري»، و «الفتوحات المكّيّة»، و فيها أنّ سليمان بن يسار روى أنّ رجلًا يقال له: صبيغ، قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن. فأرسل إليه عمر، و قد أعدّ له
عراجين۱ النخل، فقال: مَن أنت؟ قال: أنا عبد الله صُبَيغ. فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه و قال: أنا عبد الله عمر. فجعل يضربه ضرباً حتى دميَ رأسه. فقال صُبَيغ: يا أمير المؤمنين! حسبك، قد ذهب الذي كنتُ أجد في رأسي.
و عن نافع مولى عبد الله أنّ صُبَيْغ العراقيّ جعل يسأل عن أشياء من القرآن في أجناد المسلمين، حتى قدم مصر. فبعث به عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطّاب. فلمّا أتاه الرسول بالكتاب فقرأه، فقال: أين الرجل؟ فقال الرسول: في الرحل. قال عمر: أبصر أن يكون ذهب فتصيبك منّي العقوبة الموجعة. فأتاه به.
فقال عمر: تسأل مُحْدِثاً! فأرسل عمر إلى رطائب من جريد فضربه بها حتى ترك ظهره دبرة، ثمّ تركه حتى برأ. ثمّ عاد له، ثمّ تركه حتى برأ. فدعا به ليعود له، قال صُبَيْغ: إن كنت تريد قتلي، فاقتلني قتلًا جميلًا. و إن كنت تريد أن تداويني، فقد و الله برئت.
فأذِنَ له عمر إلى أرضه، و كتب إلى أبي موسى الأشعريّ أن لا يجالسه أحد من المسلمين. فاشتدّ ذلك على الرجل، فكتب أبو موسى إلى عمر: أن قد حسنت توبته. فكتب عمر أن يأذن الناس بمجالسته.
و عن السائب بن يزيد قال: اتي عمر بن الخطّاب فقيل: يا أمير المؤمنين! إنّا لقِينا رجلًا يسأل عن تأويل مشكل القرآن، فقال عمر: اللَهُمَّ مَكِّنِّي مِنْهُ. فبينما عمر ذات يوم جالساً يُغدي الناس، إذ جاء (الرجل) و عليه ثياب و عمامة صفدي حتى إذا فرغ، قال: يا أمير المؤمنين!
وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ، فَالْحامِلاتِ وِقْراً؟
فقال عمر: أنت هو؟ فقام إليه و حسر عن ذراعيه، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته.
فقال: و الذي نفس عمر بيده لو وجدتك محلوقاً لضربت رأسك. ألبسوه ثياباً و احملوه على قتب و أخرجوه حتى تقدموا به بلاده. ثمّ ليقم خطيب، ثمّ يقول: إنّ صبيغاً ابتغى العلم فأخطأه. فلم يزل صُبيغ وضيعاً في قومه حتى هلك، و كان سيّد قومه.۱
و عن أنس: أنّ عمر بن الخطّاب جلد صُبيغاً الكوفيّ في مسألة عن حرف من القرآن حتى اضطربت الدماء في ظهره.
و عن الزُّهْريّ: أنّ عمر جلد صُبيغاً لكثرة مساءلته عن حروف القرآن حتى اضطربت الدماء في ظهره.
قال الغزّاليّ في «إحياء العلوم» ج ۱، ص ٣۰: و [عمر] هو الذي سدّ باب الكلام و الجدل، و ضرب صبيغاً بالدرّة لما أورد عليه سؤالًا في تعارض آيتين في كتاب الله و هجره، و أمر الناس بهجره- انتهى.
و صبيغ هذا هو صُبَيْغ بن عَسَل. و يقال: ابن عَسيل. و يقال: صبيغ ابن شريك من بنى عسيل.٢
إن العامّة يسوّغون فعل عمر بقولهم: إنّ صبيغاً سأل عن متشابه القرآن، و قد ورد النهى عن هذا السؤال. فلهذا أدّبه عمر بالضرب،
و الحبس، و التعذيب، و النفي، و نهي الناس عن مجالسته.
و ذكر السيوطيّ في «الإتقان» روايتين في هذا الموضوع عن صُبيغ ضمن الباب المتعلّق بعدم جواز العمل بمتشابهات القرآن: الاولي: رواية الدارميّ عن سليمان بن يسار و قد ذكرناها في هذا البحث. الثانية: رواية نافع مولى عبد الله، و قد أوردناها بعد الرواية الاولى، و عرضها السيوطيّ بقوله: وَ في رِوَايةٍ.۱
و قال ابن كثير بعد رواية سعيد بن المسيِّب التي ننقلها عنه: قصّة صُبَيغ بن عَسَل مشهورة مع عمر، وَ إنَّمَا ضَرَبَهُ لأنَّهُ ظَهَرَ لَهُ مِنْ أمْرِهِ فِيمَا يَسْألُ تَعَنُّتَاً وَ عِنَادَاً. وَ اللهُ أعْلَمُ.٢
منع عمر المسلمين من البحث في الآيات القرآنيّة
لقد منع عمر الناس من السؤال عن معاني القرآن و مفاهيمه، و كان يقول: على الناس أن يقرأوا ظاهر القرآن. و كذلك حظر عليهم ذكر الأحاديث و سنّة رسول الله صلى الله عليه و آله و سيرته. و أمر ولاته و عمّاله في الأمصار أن ينهوا الناس عن الخوض في الأحاديث النبويّة. و كلّ من كان ينقل حديثاً عن رسول الله، لم يسلم منه. و كانت درّته قويّة، و سريعة في ضربتها بحيث لم تدع لأحد مجالًا للسؤال، ذلك لأنّها لم تعرف من تقع عليه، و لا تشخّص الرأس، و الوجه، و العنق، و الجذع. و مسكين هو السائل، فما إن يسأل عن مسألة، حتى يضرب بالدرّة فيتورَّمَ رأسُه، و ينزف الدم من أنفه و فمه.
و قال ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»: دِرَّةُ عُمَرَ أهْيَبُ مِنْ
سَيْفِ الحَجَّاجِ.۱
و قد علمنا أنّ عبد الله بن عبّاس كان يريد سؤال عمر عن معنى الآية الآتية و مصداقها: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما، و لم يزل حريصاً على ذلك، بَيدَ أنّه لم يجرأ حتى رافقه في سفر. فأخذ منه الإبريق في الطريق ليسكب على يده الماء فيتوضّأ. فاغتنم الفرصة، فقال: يا أمير المؤمنين! من هما المرأتان المقصودتان في هذه الآية: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ؟ قال ابن عبّاس: فتأمّل عمر -كأنّه كره ما سألته عنه- ثمّ رفع رأسه و قال: حفصة و عائشة.٢
و كذلك علمنا في مسألة العول أنّ ابن عبّاس لمّا بيّن هذه المسألة لزُفَر و أوضح له أنّ العول باطل و خطأ، قال له زُفر: هلّا قلتَ هذا و عمر حيّ؟ قال: إنَّما كُنْتُ أهِيبُهُ.٣
و استغرق منع بيان الأحاديث النبويّة قرناً من الزمان. و كان نقلها محظوراً يومئذٍ. لما ذا ...؟ و ما أعظم المصيبة التي ألمّت بالامّة الإسلاميّة من جرّاء ذلك!
إن كتاب الله (القرآن الكريم) نزل للتلاوة و التدبّر و فهم معانيه
و مفاهيمه. و ما أكثر الآيات التي أمرتنا بالتدبّر في القرآن، و حذّرتنا بشدّة من عدم فهمه! فإذا فقد الإنسان الحقّ في فهم القرآن و حُظر عليه السؤال عن مدلوله و مراده، فما ذا يغنيه هذا الكتاب؟ و هذا الكتاب كتاب عمل، و العمل بدون علم محال، فكيف يتيسّر العمل بالقرآن و التصرّف في ضوء تعالى مه بدون فهمه و استيعابه؟
إن الآيات المتشابهات جمّة في القرآن الكريم، و لكنّها للناس أيضاً. و لم يرد في القرآن لغو و عبث و خطأ. و كلّ ما في الأمر أنّنا ينبغي أن نُرجع الآيات المتشابهة إلى الآيات المحكمة. و عندئذٍ نظفر بمعناها و مفهومها منها. و نُصِّب الراسخون في العلم من قِبَل الشارع الأقدس لهذا الأمر. و هم يعرفون معاني المتشابهات، و يبيّنون للناس الحقيقة من خلال إرجاعها إلى المحكمات.
و لو قُدّر أنّ الآيات المتشابهات لا يفهمها أحد إلّا الله، و أنّ أهل العلم و الراسخين في المعارف قد حُرموا فهمها، فانّ جميع محتوى القرآن سيصبح خالياً من هذه الآيات المتشابهة حقّاً، بينما نحن نعلم أنّ القرآن هو مجموعة الآيات المحكمة و الآيات المتشابهة.
و من الطبيعيّ أنّ عمر لم يفهم معاني الآيات المتشابهة، بل لم يفهم بعض الآيات المحكمة، و لا ينتظر أحد منه أن يفهم ذلك. و كلّ امرئٍ له شاكلته. و له استيعابه و قابليّته الخاصّة. و لكن يا حسرتا هنا على جلوس هذا الشخص في مجلس النبيّ الأعظم و تربّعه على أريكة الوحي و الإلهام و الولاية و الكتاب و هذه الامور الباطنيّة؟ و هو الذي لا علم له بظواهر القرآن، و لا جواب عنده يجيب به مراجعيه، و قد جلس مكان اللسان المعبّر الفصيح البليغ، أعني صاحب الولاية أمير المؤمنين عليه السلام الذي هو الأهل هذا المنصب، و المتربّي في هذه المدرسة، و الراضع
من ثدي الوحي و الفهم و الدراية و العلم، و القائل: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي، و المترنّم بكلامه: لَوْ ثُنِيَت لِيَ الوِسَادَةُ. و كان جواب عمر للناس إسكاتهم و إخراسهم بدرّته، و نهرهم عن السؤال و الكلام و البحث و الرواية.
و كان لا يعرف معنى قوله تعالى: وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً ، فَالْحامِلاتِ وِقْراً، فعجز عن جواب صُبَيغ و خجل و افتضح، فلهذا انهال عليه بدرّته. و لم يرد في الروايات المأثورة في هذا المجال أنّ عمر قال إنّ معنى الذَّارِياتِ الرياح، و معنى فَالْحامِلاتِ السُّحُب، أو أنّه قال: لو لم يقله رسول الله ما قلته. و ما جاء من عبارات -في حديث السيوطيّ و ابن كثير منقولًا عن سعيد بن المسيّب- موضوعٌ من قبل الراوي الذي أراد أن يغطّي على جهل الخليفة و ينتحل له عذراً يسوّغ فيه ضربات درّته المنهالة على صبيغ.
و نصّ ابن كثير في بيان هذا الحديث على أنّه حديث مرفوع. ثمّ قال: قال أبا بكر البزّاز: فأبو بكر بن أبي سُبَرَة ليّن، و سعيد بن سلام ليس من أصحاب الحديث ثمّ قال: قلتُ: فهذا الحديث ضعيف رفعه.۱
و لا يعرف كتاب الله إلّا من جاء به و خليفته الذي حمله إلى المسجد ملفوفاً بقطعة من القماش، و قال لتلك الجماعة: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم:
إنّي مخلّف فيكم الثقلين: كتاب الله، و عترتي. فهذا كتاب الله، و أنا عترة رسول الله.
فقام عمر و قال: إذا كان عندك كتاب الله، فعندنا مثله، فلهذا لا حاجة بنا إليكما (الكتاب و العترة). فأرجع أمير المؤمنين عليه السلام
الكتاب معه و قال: سوف لن تراه إلى يوم القيامة.۱
حديث الثقلين و عدم افتراق الإمام عن القرآن
و لا يُعقل وجود كتاب الله على الأرض، و تكليف الناس بالعمل به ما لم يكن هناك مدرّس و معلّم يعلم ظاهره و باطنه و محكمه و متشابهه. و من الضروريّ تلازم وجود الثَّقَلَينِ: الكتاب و العترة، الكتاب و الإمام البرّ العالم به.
و روى الشيعة و العامّة عن رسول الله صلى الله عليه و آله بسند متواتر، بل يفوق التواتر أنّه قال: إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي -أوْ أهْلَ بَيْتِي- وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.٢
و خصّص آية الله العلّامة: مير حامد حسين اللكهنويّ الهنديّ النيسابوريّ رضوان الله عليه الجزء الثاني عشر من كتابه الشريف و البديع: «عبقات الأنوار» للبحث حول هذا الحديث المبارك، و قسمه إلى قسمين: جعل الأوّل للبحث في سنده، و الثاني للبحث في دلالته.
و لا ريب أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو حامي القرآن و حافظ المحكمات و المتشابهات، و العالم بالمطلق و المقيّد، و الناسخ و المنسوخ. و هو الذي أجاب ابن الكوّاء على المنبر أمام آلاف الناس بلا وجل. و هو الذي فتح باب الجدل و الكلام، و دعا الملاحدة و الزنادقة إلى النقاش، و ناظر علماء اليهود و النصارى و الجثالقة من الذين كانوا في الطراز الأوّل منهم، و ألزمهم و عطفهم إلى الإسلام. و دِرّته لسانه، و منطقه. تلك الدرّة التي تبتسم، و تتفتّح كالزهرة، و تُدخل الناس الملحدين في الدين، لا الدرّة التي تنفّر المتديّنين من الدين و تكرههم على الفرار.
و ينبغي للناس أن يرجعوا إليه، و يلوذوا بجنبه، و يعرضوا عليه مشاكلهم و أسئلتهم بلا خوف و لا رعب و لا تحفّظ. و كان على صُبَيغ أن يكون كأصحاب أمير المؤمنين عليه السلام و أتباعه و شيعته، فيقصده لرفع مشاكله العلميّة، و يأخذ منه الجواب التامّ الوافي الشافي، و يروي غليله من معدن الولاية، و منهل العلم و المعرفة. و لقد أخطأ إذ قصد مائدة غيره
و صَبوحَه،۱ و شبع منها. فلهذا كانت تلك الصفعات المتوالية الماحقة الساحقة على رأسه ذي الضفائر من اللوازم لا تبارح تلك المائدة. و قد أشفق الله عليه إذ كان رأسه غير محلوق، و إلّا لقطع، و اشخص إلى ديار العدم.
إن ما كتبه عمر إلى أبي موسى الأشعريّ حقّ، إذ قال له: إنَّ صُبَيْغَاً قَدِ ابْتَغَى العِلْمَ وَ أخْطَأهُ. إنّه ابتغى العلم بَيدَ أنّه لم يعرف كيف يحصل عليه، و من أين يأخذه، و لأيّ معلّم و أميرٍ للمؤمنين يتوجّه؟ هل يتوجّه لشخصٍ لقّبه المغيرة بن شعبة: أمير المؤمنين، و أمر الناس مجازاً و اعتباراً أن ينادوه بهذا اللقب و يخاطبوه به؟ أو يتوجّه لأمير المؤمنين الحقيقيّ الذي لقّبه الرسول الأكرم به من الله، و وضعه و ساماً لأسد الولاية، و أمر المسلمين و المسلمات كافّة يوم غدير خُمّ أن يخاطبوه ب-: أمير المؤمنين، و يسلّموا عليه بهذا اللقب قائلين: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أميرَ المُؤْمِنِينَ.
و أنّ عمر و أبا بكر أنفسهما قالا له: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، بَخٍ بَخٍ لَكَ يَا عَلِيّ، أصْبَحْتَ وَ أمْسَيْتَ مَوْلَايَ وَ مَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَ مُؤْمِنَةٍ.
و تستبين لنا جيّداً هنا -لا مفهوماً و على حمل الأوّلي الذاتيّ بل مصداقاً و على حمل الشائع الصناعيّ- صيحات أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين و استغاثاته في خطبه و مواعظه بخاصّة في خطب «نهج البلاغة» و لسان حاله يقول: أيّها الناس هلمّوا إلينا، و خذوا منّا، فانّ العلم و المعرفة و النور و السرور و الحبور و الحياة الأبديّة السرمديّة عندنا. لا تيمّموا غيرنا فتبوءُوا صفر اليدين خائبين خاسرين، مُرهَقين مُنهكين، أخلِياء الوفاض، فاقدي رصيد أعماركم، و تصلون إلى السراب بدل أن
تصلوا إلى الماء المعين. و في نهاية المطاف تضيّعون أعماركم و ما وهبكم الله حيث ينبغي عليكم الرحيل من هنا العالم بعد أن هِمتُم بموجود مظلم قبيح عفن.
و نعود إلى كلام ابن شهرآشوب في بيان سبق أمير المؤمنين عليه السلام كافّة الناس في جميع العلوم. يقول: و جهلوا تفسير قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ،۱ فقال له رجل: هو أوّل بيتٍ، قَالَ: لَا، قَدْ كَانَ قَبْلَهُ بُيُوتٌ وَ لَكِنَّهُ أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ مُبَارَكاً فِيهِ الهُدَى وَ الرَّحْمَةُ وَ البَرَكَةُ. وَ أوَّلُ مَنْ بَنَاهُ إبْرَاهِيمُ، ثُمَّ بَنَاهُ قَوْمٌ مِنَ العَرَبِ مِنْ جُرْهُمَ، ثُمَّ هُدِمَ فَبَنَتْهُ قُرَيْشٌ.٢
و إنّما استُحسن قول ابن عبّاس فيه لأنّه أخذ منه عليه السلام.٣ و قال أحمد في مسنده: لمّا تُوفّي النبيّ صلى الله عليه و آله، كان ابن عبّاس ابن عشر سنين، و كان قرأ المُحكَم يعني المفصّل.٤ و قال الصاحب بن عبّاد:
هَلْ مِثلُ عِلْمِكَ لَوْ زَلُّوا وَ إنْ وَهَنُوا | *** | وَ قَدْ هُدِيتَ كَمَا أصْبَحْتَ تَهْدِينَا؟ |
تقدّم الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في علم الفقه
و من جملة العلوم: علم الفقه. و لقد ظهر فقهاء في الإسلام كان أمير المؤمنين عليه السلام أفقههم، لكنّه لم يظهر عن جميعهم ما ظهر منه. ثمّ إنّ جميع فقهاء الأمصار إليه يرجعون و من بحر فقهه يغترفون. أمّا أهل
الكوفة و فقهاؤهم سفيان الثوري، و الحسن بن صالح بن حيّ، و شريك بن عبد الله، و ابن أبي ليلى. و هؤلاء يفرّعون المسائل من الاصول و يقولون: هذا القياس قول عليّ بن أبي طالب. و يترجمون الأبواب (الفقهيّة) بذلك.
و أمّا أهل البصرة و فقهاؤهم الحسن و ابن سيرين، و كلاهما كانا يأخذان عمّن أخذ عن عليّ عليه السلام. و ابن سيرين يفصح بأنّه أخذ عن الكوفيّين، و عن عُبيدة السمعانيّ، و هو أخصّ الناس بعليّ عليه السلام.
و أمّا أهل مكّة، فانّهم أخذوا فقههم عن ابن عبّاس، و عن عليّ عليه السلام. و قد أخذ ابن عبّاس معظم علمه عنه عليه السلام.
و أمّا أهل المدينة فعنه عليه السلام أخذوا. و قد صنّف الشافعيّ كتاباً مفرداً في الدلالة على اتّباع أهل المدينة لعليّ عليه السلام، و عبد الله. و قال محمّد بن الحسن الفقيه: لَوْ لَا عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ مَا عَلِمْنَا حُكْمَ أهْلِ البَغي (إذ لا ينبغي أسرهم، و الإجهاز على جريحهم، و ابتزاز أموالهم). و لمحمّد بن الحسن كتاب في الفقه يشتمل على ثلاثمائة مسألة في قتال أهل البغي بناءً على فعله عليه السلام.
و ورد في مسند أبي حنيفة أنّ هشام بن الحكم قال: قال الصادق عليه السلام لأبي حنيفة: من أين أخذتَ القياس؟ قال: من قول عليّ بن أبي طالب، و زيد بن ثابت. حين شاهدهما عمر في الجدّ مع الإخوة (في باب الإرث) فقال له عليّ عليه السلام:
لَوْ أنَّ شَجَرَةً انْشَعَبَ مِنْهَا غُصْنٌ وَ انْشَعَبَ مِنَ الغُصْنِ غُصْنَانِ، أيُّمَا أقْرَبُ إلَى أحَدِ الغُصْنَيْنِ: أ صَاحِبُهُ الذي يَخْرُجُ مَعَهُ أمِ الشَّجَرَةُ؟
فقال زيد (بن ثابت): لَوْ أنَّ جَدْوَلًا انْبَعَثَ فِيهِ سَاقِيَةٌ، فَانْبَعَثَ مِنَ
السَّاقِيَةِ سَاقِيَتَانِ، أيُّمَا أقْرَبُ: أحَدُ السَّاقِيَتَيْنِ إلَى صَاحِبِهِمَا أمِ الجَدْوَلُ؟۱
نرى هنا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام و زيد بن ثابت أرادا أن يقيما له برهاناً يتلخّص في أنّه لمّا كان تقسيم الميراث بين أرحام الميّت
و أقربائه على أساس قرابتهم منه، فانّ من مات و ليس له أولاد و أب و امّ، و لكن له جدّ و أخ، فلا يُعطى الجدُّ الميراثَ كلّه، إذ إنّ للأخ أن يرث أيضاً، و هو أقرب إلى المتوفّى من الجدّ. و إذا أعطينا جدّه نصيبه من الإرث، فلا بدّ أن نعطي أخاه نصيبه أيضاً. و حينئذٍ يصل الميراث إلى الجدّ و الإخوة، لا إلى الجدّ وحده. و قبل عمر كلامهما، و عند ما راجعوه في إرث المتوفّى الذي ترك جدّاً و أخاً، أفتى بأنّهما يرثان معاً، و ذلك على خلاف رأي أبي بكر الذي كان يقول: الجدّ يرث فحسب.
و قال الشيخ الطوسيّ في كتاب «الخلاف»: إذا كان الورثة هم أخ لأب و امّ، و أخ لأب، و جدّ، فالمال بين الأخ للأب و الامّ، و الجدّ نصفان: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ. و يسقط الأخ من جهة الأب. و اختلف الصحابة فيها، فذهب أبو بكر و من تابعه إلى أنّ المال للجدّ، و يسقطان معاً. و ذهب عمر و ابن مسعود إلى أنّ المال بين الأخ للأب و الامّ، و بين الجدّ نصفان و يسقط الأخ للأب.۱
و قال الشيخ محمّد حسن النجفيّ في كتاب «جواهر الكلام»: لا خلاف بيننا [نحن الشيعة] في أنّ الجدّ، و إن علا، يقاسم الإخوة لصدق اسم الجدّ، فضلًا عن أولادهم. بل عن بعض العامّة سقوط كلالة الأبوين أو الأب مع الجدّ، و إن تواترت نصوصنا بخلافه -إلى أن قال- و على كلّ حال، فلو اجتمعا، أي الأدنى و إن بعد مع الإخوة، شاركهم الأدنى و سقط الأبعد من غير فرق بين اتّحاد الجهة و اختلافها. فلا يرث (الجدّ) الأعلى للأب و لو كانَ ذَكَراً مع (الجدّ) الأدنى للُامّ و لو كان انثى، و كذا العكس.٢
و من جملة العلوم التي فاق بها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام غيره علم حساب مقدار الميراث. و يسمّى صاحب هذا العلم فرضيّاً، و جمعه (فرضيّون). و كان الإمام صلوات الله عليه أشهر الفرضيّين في هذا العلم. فقد جاء في فضائل أحمد بن حنبل أنّ عبد الله قال: إنَّ أعْلَمَ أهْلِ المَدِينَةِ بِالفَرَائِضِ عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ.
و قال الشَّعْبيّ: مَا رَأيْتُ أفْرَضَ مِنْ عَلِيّ وَ لَا أحْسَبَ مِنْهُ. ثمّ نقل الشعبيّ سؤال الشخص الذي سأل الإمام و هو يخطب على المنبر، إذ سأله عن رجل مات و ترك امرأة و أبوين و ابنتين، كم نصيب المرأة، فقال عليه السلام بلا توقّف: صَارَ ثُمْنُهَا تُسْعَاً.۱ و عرفت هذه المسألة بالمسألة المنبريّة.
و من ذلك المسألة الديناريّة، و فيها أنّ الإمام خرج من منزله و وضع قدمه في الركاب، فجاءته امرأة و قالت له: مات أخي و ترك ستمائة دينار، و أعطونيّ ديناراً واحداً من هذا المبلغ فأنصفني و أعطني حقّي. فعدّ الإمام مقداراً من الورثة في ذهنه الوقّاد على الفور، و أثبت لها أنّ نصيبها ليس أكثر من دينار، ثمّ ركب و مضى عليه السلام.
تقدّمه عليه السلام في علمي الروايات، و الجدل و الكلام
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم الروايات (علم الحديث)
و من جملة العلوم: علم الحديث. و أنّ أصحاب الحديث الذين رووا عن رسول الله صلى الله عليه و آله بلا واسطة نيّف و عشرون رجلًا، منهم: ابن عبّاس، و ابن مسعود، و جابر الأنصاريّ، و أبو أيّوب، و أبو هريرة،
و أنس، و أبو سعيد الخُدريّ، و أبو رافع، و غيرهم. و كان عليّ بن أبي طالب عليه السلام أسبقهم و أتقنهم و آمنهم لأنّه أكثرهم رواية و أتقنهم حجّة، و هو مأمون الباطن لقول رسول الله صلى الله عليه و آله: عَلِيّ مَعَ الحَقِّ.
و ذكر الترمذيّ و البلاذريّ أنّه قِيلَ لِعَليٍّ: مَا بَالُكَ أكْثَرُ أصْحَابِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ حَدِيثَاً؟ قَالَ: كُنْتُ إذَا سَألْتُهُ أنْبَأنِي، وَ إذَا سَكَتُّ عَنْهُ ابْتَدَأنِي.
و ورد في كتاب ابن مردويه أنّه قال: كُنْتُ إذَا سَألْتُ اعْطِيتُ، وَ إذَا سَكَتُّ ابْتُدِيتُ.
و قال محمّد الإسكافيّ:
حِبْرٌ عَلِيمٌ بِالَّذِي هُوَ كَائِنٌ | *** | وَ إلَيْهِ في عِلْمِ الرِّسَالَةِ يُرْجَعُ |
أصْفَاهُ أحْمَدُ مِنْ خَفِيّ عُلُومِهِ | *** | فَهُوَ البَطِينُ مِنَ العُلُومِ الأنْزَعُ |
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في
علم الكلام و الجدل و البحث الفلسفيّ
و من جملة العلوم: علم الكلام. و قد ظهر المتكلّمون في هذا الموضوع، و أمير المؤمنين عليه السلام هو الأصل في علم الكلام. و قال رسول الله صلى الله عليه و آله: عَلِيّ رَبَّانِيّ هَذِهِ الامَّةِ. و في الأخبار: أنَّ أوَّلَ مَنْ سَنَّ دَعْوَةَ المُبْتَدِعَةِ بِالمُجَادِلَةِ إلَى الحَقِّ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ.
و قد ناظره الملاحدة في (ما زعموه من) مناقضات القرآن. و أجاب مشكلات مسائل الجاثليق حتى أسلم. و نقل أبو بكر بن مردويه في كتابه عن سفيان أنّه قال: مَا حَاجَّ عَلِيّ أحَداً إلَّا حَجَّهُ.
و لمّا قال له رأس الجالوت (كبير علماء اليهود): لم تلبثوا بعد نبيّكم إلّا ثلاثين سنة حتى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف، قال عليه السلام:
وَ أنْتُمْ لَمْ تَجِفَّ أقْدَامُكُمْ مِنْ مَاءِ البَحْرِ حتى قُلْتُمْ لِمُوسَي: اجْعَلْ لَنَا إلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ.
و أرسل إليه أهل البصرة كُليباً الجرميّ بعد يوم الجمل ليزيل الشبهة عنهم في أمره فذكر له ما علم أنّه على الحقّ. ثمّ قال له: بايع. فقال كُلَيْب: إنّي رسول لقوم فلا احدث حدثاً حتى أرجع إليهم.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أ رَأيْتَ لَوْ أنَّ الَّذِينَ وَرَاءَكَ بَعَثُوكَ رَائِداً تَبْتَغِي لَهُمْ مَسَاقِطَ الغَيْثِ، فَرَجَعْتَ إلَيْهِمْ فَأخْبَرْتَهُمْ عَنِ الكَلإ وَ المَاءِ؟ قَالَ: فَامْدُدْ إذاً يَدَكَ.۱
إن الذين وراءك بعثوك لتجد لهم في الصحراء الجافّة القاحلة أرضاً خضراء تهطل فيها الأمطار فتخبرهم ليأتوها و يحطّوا رحالهم فيها
و يسكنوها. و أنتَ وجدتَ مثل هذه الأرض و رجعتَ إليهم لتخبرهم عن مكان الماء و العلف و العشب. فإذا شربتَ ماءً قبل رجوعك إليهم، و ألقيت رحلك هناك، فهل ارتكبتَ جرماً أو قمتَ بعمل صحيح؟ إنّ إرسالك كإرسال رائدٍ يفتّش عن الماء و الكلأ في الصحراء، فإذا بلغ الماء، شرب منه فوراً و أنقذ حياته، ثمّ رجع إلى قومه يخبرهم عن الماء و الكلأ و يهديهم إلى ذلك المكان. قال كُليب: فوالله ما استطعتُ أن أمتنع عند قيام الحجّة عَلَيّ، فبايعتُه عليه السلام.۱
و من كلام الإمام الحكميّ و الفلسفيّ قوله عليه السلام: أوَّلُ مَعْرِفَةِ اللهِ تَوْحِيدُهُ، وَ أصْلُ تَوْحِيدِهِ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ- إلى آخر الخبر.
و ما أطنب المتكلّمون في اصول الدين و أطالوا إنّما هو زيادة لتلك الجمل و شرح لتلك الاصول، فالإماميّة يرجعون إلى الإمام الصادق عليه السلام في هذه المعاني، و هو إلى آبائه الكرام. أمّا المعتزلة و الزيديّة، فانّ ما عندهم من هذه الامور يرويه لهم القاضي عبد الجبّار بن أحمد، عن أبي عبد الله الحسين البصريّ، عن أبي إسحاق عبّاس، و هذان عن أبي هاشم الجبّائيّ، عن أبيه أبي عليّ، عن أبي يعقوب الشحّام، عن أبي هُذيل العلّاف، عن أبي عثمان الطويل عن واصل بن عطاء، عن أبي هاشم عبد الله بن محمّد بن عليّ، عن أبيه محمّد ابن الحنفيّة، عن أمير المؤمنين عليه السلام.
و قال الورّاق القمّيّ:
عَلِيّ لِهَذَا النَّاسِ قَدْ بَيَّنَ الذي | *** | هُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ لَمْ يَتَوَجَّمَ |
عَلِيّ أعَاشَ الدِّينَ وَفَّاهُ حَقَّهُ | *** | وَ لَوْلَاهُ مَا أُفْضَى إلَى عُشْرِ دِرْهَمِ |
تقدّمه عليه السلام في علم النحو
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم النحو
و من جملة العلوم: علم النحو و برز فيه علماء، و عليّ عليه السلام مؤسّس علم النحو و واضعه، ذلك أنّ علماء النحو رووا هذا العلم عن الخليل بن أحمد بن عيسى بن عمرو الثقفيّ، عن عبد الله بن إسحاق الحضرميّ، عن أبي عمرو بن العلاء، عن ميمون الأفرن، عن عنبسة الفيل، عن أبي الأسود الدُّؤَليّ، عن أمير المؤمنين عليه السلام.
و السبب في ذلك أنّ قريشاً يزوّجون بالأنباط،۱ فوقع فيما بينهم أولاد، ففسد لسانهم، حتى أنّ بنتاً لخويلد الأسديّ كانت متزوّجة برجل من الأنباط فقالت: إنَّ أبَوَيّ مَاتَ وَ تَرَكَ عَلَيّ مَالٌ كَثِيرٌ. (تريد أنّ أبويها ماتا و تركا لها مالًا كثيراً). و هذه الجملة لحن، و الصحيح: أنَّ أبَوَيّ مَاتَا وَ تَرَكَا لِي مَالًا كَثِيراً. فلمّا علم الإمام فساد لسانها، أسّس النحو.
و روى أنّ أعرابيّاً سمع سوقيّاً يقرأ: إنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولِهِ. فشجّ رأسه، فخاصمه إلى أمير المؤمنين عليه السلام. فسأله عن سبب شجّ رأسه، فقال الأعرابيّ: إنّه كفر بالله في قراءته. فقال عليه السلام: إنّه لم يتعمّد ذلك.٢
و روى أيضاً أنّ أبا الأسود كان في بصره سوء، و له بنت تقوده إلى عليّ عليه السلام، فقالت: يَا أبَتَاه! مَا أشَدَّ حَرُّ الرَّمْضَاءِ، تريد التعجّب (و هذا لحن، و الصحيح أن تقول: يَا أبَتَاهْ! الرَّمْضَاءُ مَا أشَدَّ حَرَّهَا، أو تقول: مَا أشَدَّ حَرَّ الرَّمْضَاءِ!) فنهاها عن مقالتها، و أخبر أمير المؤمنين عليه السلام بذلك، فأسّس علم النحو.
و روى كذلك أنّ أبا الأسود كان يمشي خلف جنازة. فقال له رجل: مَنِ المُتَوَفِّي؟ (و هو يريد: مَنِ المُتَوَفَّي؟) فقال: اللهُ. ثمّ أخبر عليّاً عليه السلام بذلك، فأسّس علم النحو.
و على كلّ وجه، كتب أمير المؤمنين عليه السلام اصول علم النحو في رسالة و أعطاها أبا الأسود و قال له: مَا أحْسَنَ هَذَا النَّحْوَ! احْشُ لَهُ بِالمَسَائِلِ. فَسُمِّيّ نَحْوَاً.۱
قال ابن سلام: كان ما في الرقعة قوله: الكَلَامُ ثَلَاثَةُ أشْيَاءَ: اسْمٌ، وَ فِعْلٌ، وَ حَرْفٌ جَاءَ لِمَعْنَى. فَالاسْمُ مَا أنْبَأ عَنِ المُسَمَّى، وَ الفِعْلُ مَا أنْبَأ عَنْ حَرَكَةِ المُسَمَّى، وَ الحَرْفُ مَا أوْجَدَ مَعْنَى في غَيْرِهِ.
و كتب أمير المؤمنين عليه السلام بعد ذلك: كَتَبَ عَلِيّ بْنُ أبُو طَالِبٍ. فعجز النحويّون و علماء البلاغة و الأدب عن ذلك (إذ كيف كتب: أبو طالب، بينما ينبغي أن يكتب: أبي طالب). فقال بعضهم: أبو طالب اسمه كنيته. و قال بعض آخر: هذا تركيب مثل درّاحنا، و حضر موت. و قال الزمخشريّ في «الفائق»: تُرك في حال الجرّ على لفظه في حال الرفع، لأنّه اشتهر بذلك، و عُرّف. فجرى مجري المثل الذي لا يتغيّر.
تقدّمه عليه السلام في علم الخطابة
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم الخطابة
و من جملة العلوم: علم الخطابة. و كان أمير المؤمنين عليه السلام أخطب الخطباء.۱ أ لا ترى إلى خطبه مثل خطبة التوحيد، و الشقشقيّة، و الهداية، و الملاحم، و اللؤلؤة، و الغرّاء، و القاصعة، و الافتخار، و الأشباح، و الدرّة اليتيمة، و الأقاليم، و الوسيلة، و الطالوتيّة، و النخيلة، و السليمانيّة، و الناطقة، و الدامغة، و الفاضحة، بل «نهج البلاغة» الذي جمعه الشريف الرضيّ، و كتاب «خطب أمير المؤمنين عليه السلام» عن إسماعيل بن مهران السكونيّ، عن زيد بن وهب أيضاً؟
و قال الحِمْيَريّ:
مَنْ كَانَ أخْطَبَهُمْ وَ أنطَقَهُمْ وَ مَنْ | *** | قَدْ كَان يَشْفِي حَوْلَهُ البُرَحَاء |
مَنْ كَانَ أنْزَعَهُمْ مِنَ الإشْرَاكِ أوْ | *** | لِلْعِلْمِ كَانَ البَطْنُ مِنْهُ خَفَّاء |
مَنْ ذَا الَّذِي امِرُوا إذَا اخْتَلَفُوا بِأنْ | *** | يَرْضَوا بِهِ في أمْرِهِمْ قَضَّاء |
مَنْ قِيلَ لَوْلَاهُ وَ لَوْ لا عِلْمُهُ | *** | هَلَكُوا وَ عَاثُوا فِتْنَةً صَمَّاء٢ |
بيت الرسالة و النبوّة و الذين | *** | نعدّهم لذنوبنا شفعاء |
مَنْ كَان أعلمهم و أقضاهم و من | *** | جعل الرعيّة و الرُّعاة سواء |
مَن كان باب مدينة العلم الذي | *** | ذكر النزول و فسّر الأنباء |
تقدّمه عليه السلام في علم الفصاحة و البلاغة
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم الفصاحة و البلاغة
و من جملة العلوم، علم الفصاحة و البلاغة. و أمير المؤمنين عليه السلام أوفر الفصحاء و البلغاء حظّاً فيه. قال الشريف الرضيّ: أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة و موردها، و منشأ البلاغة و مولدها. و منه ظهر مكنونها، و عنه اخذت قوانينها.
و قال الجاحظ في كتاب «الغُرّة»: كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى معاوية: غَرَّكَ عِزُّكَ، فَصَارَ قُصَارَ ذَلِكَ ذُلُّكَ، فَاخْشَ فَاحِشَ فِعْلِكَ، فَعَلَّكَ تَهْدِي بِهَذَا (بِهُدى- ظ).۱
و قال أمير المؤمنين عليه السلام: مَنْ آمَنَ أ مِنَ.
و روى الكلينيّ عن أبي صالح، و أبو جعفر بن بابويه بإسناده عن الإمام الرضا عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام أنّه اجتمعت الصحابة فتذاكروا
أنّ الألف أكثر دخولًا في الكلام. فارتجل أمير المؤمنين عليه السلام الخطبة المونِقة التي أوّلها: حَمِدْتُ مَنْ عَظُمَتْ مِنَّتُهُ، وَ سَبَغَتْ نِعْمَتُهُ، وَ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ، وَ تَمَّتْ كَلِمَتُهُ، وَ نَفَذَتْ مَشِيَّتُهُ، وَ بَلَغَتْ قَضِيَّتُهُ- إلى آخرها.۱
ثمّ ارتجل عليه السلام خطبة اخرى من غير نقط، و أوّلها: الحَمْدُ لِلَّهِ أهْلِ الحَمْدِ وَ مَأوَاهُ، وَ لَهُ أوْكَدُ الحَمْدِ وَ أحْلَاهُ، وَ أسْرَعُ الحَمْدِ وَ أسْرَاهُ، وَ أطْهَرُ الحَمْدِ وَ أسْمَاهُ، وَ أكْرَمُ الحَمْدِ وَ أوْلَاهُ- إلى آخرها.٢
قال ابن شهرآشوب: و قد أوردتُ الخطبتين في كتاب «المخزون المكنون».
و من كلامه عليه السلام: تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا، فَإنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ.٣
و قوله عليه السلام: مَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإنَّمَا يَقْبِضُ عَنْهُمْ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ وَ تُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أيْدٍ كَثِيرَةٌ.
و قوله عليه السلام أيضاً: وَ مَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ المَوَدَّةَ.
و قوله عليه السلام: وَ مَنْ جَهِلَ شَيئاً عَادَاهُ. فالإنسان عدوّ مجهولاته.
و مثل هذا الكلام قوله تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ.۱
و قوله عليه السلام: المَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ، فَاذَا تَكَلَّمَ ظَهَرَ. و مثله قوله تعالى: وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.٢
و قوله عليه السلام: قِيمَةُ كُلِّ امْرِءٍ مَا يُحْسِنُ.٣ و مثله قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ.٤
و قوله عليه السلام: القَتْلُ يُقِلُّ القَتْلَ.٥ و مثله قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي
الْقِصاصِ حَياةٌ.۱
تقدّمه عليه السلام في علم الشعر و العَروض و الوعظ
تقدُّم أمير المؤمنين عليه السلام في الشعر
و من جملة العلوم، علم إنشاء الشعر. و كان أمير المؤمنين عليه السلام أشعر الشعراء. و ذكر الجاحظ في كتاب «البيان و التبيين» و في كتاب «فضائل بني هاشم»، و أيضاً البلاذريّ في كتاب «أنساب الأشراف» أن عليا أشعر الصحابة و أفصحهم و أخطبهم و أكتبهم.
و في تاريخ البلاذريّ كان أبو بكر يقول الشعر، و عمر يقول الشعر، و عثمان يقول الشعر، و كان عليّ عليه السلام أشعر الثلاثة.
تقدُّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم العَروض
و من جملة العلوم: علم العروض. و ظهر العروضيّون، و خرج علم العروض من دار عليّ عليه السلام. و رُويَ أنّ الخليل بن أحمد أخذ رسم العروض عن رجل من أصحاب محمّد بن عليّ الباقر أو عليّ بن الحسين عليهما السلام، فوضع لذلك اصولًا.
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في العربيّة و اللغة و الاشتقاق
و من جملة العلوم، علم العربيّة. و خرج العلماء فيها من رياضه، و كان عليه السلام أحكمهم و أتقنهم.
روى ابن الحريريّ البصريّ في كتاب «درّة الغوّاص»، و ابن فيّاض في «شرح الأخبار» أنّ الصحابة قد اختلفوا في المَوْءُودَةِ، فقال لهم عليّ عليه
السلام: إنَّها لَا تَكُونُ مَوْءُودَة حتى يَأتِيَ عَلَيْهَا الثَّارَاتُ السَّبْعُ.۱ فقال له عمر: صدقتَ أطال الله بقاك.
و أراد الإمام عليه السلام بذلك المراحل المبينة في قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى آخر الآيات الواردة.٢ و على ضوء هذا
الاستشهاد، أشار الإمام إلى أنّه إذا استهلّ بعد الولادة ثمّ دُفن، فقد وُئِدَ.
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم الوعظ
و من جملة العلوم، علم الوعظ. فقد ظهر وعّاظ، و ليس لأحد من الأمثال و العبر و المواعظ و الزواجر ما له، نحو قوله: مَنْ زَرَعَ العُدْوَانَ حَصَدَ الخُسْرَانَ. و قوله: مَنْ ذَكَرَ المَنِيَّةَ نَسِيَ الامنِيَّةَ. و قوله: مَنْ قَعَدَ بِهِ العَقْلُ قَامَ بِهِ الجَهْلُ. و قوله: يَا أهْلَ الغُرُورِ مَا أبْهَجَكُمْ بِدَارٍ خَيْرُهَا زَهِيدٌ، وَ شَرُّهَا عَتِيدٌ، وَ نَعِيمُهَا مَسْلُوبٌ، وَ عَزِيزُهَا مَنْكُوبٌ، وَ مُسَالِمُهَا مَحْرُومٌ، وَ مَالِكُهَا مَمْلُوكٌ، وَ تُرَاثُهَا مَتْرُوكٌ.
و صنّف عبد الواحد الآمديّ كتاب «غرر الحكم و درر الكلم» في غرر كلامه عليه السلام.۱
تقدّمه عليه السلام في علم الفلسفة و الحكمة
تقدُّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم الفلسفة و الحكمة
و من العلوم، علم الفلسفة و الحكمة. و كان أمير المؤمنين عليه السلام أرجح الفلاسفة و الحكماء. و من كلامه في هذا المجال: أنَا النُّقْطَةُ أنَا الخَطُّ، أنَا الخَطُّ أنَا النُّقْطَةُ، أنَا النُّقْطَةُ وَ الخَطُّ.۱
و قال جماعة في تفسير هذه الجمل و بيانها: القدرة هي الأصل، و الجسم حجاب القدرة، و الصورة حجاب الجسم. لأنّ النقطة هي الأصل، و الخطّ حجابه و مقامه، و الحجاب غير الجسد الناسوتيّ.
و سُئِل عن العالَم العلويّ، فقال:
صُوَرٌ عَارِيَةٌ عَنِ المَوَادِّ، عَالِيَةٌ عَنِ القُوَّةِ وَ الاسْتِعْدَادِ، تَجَلَّى لَهَا فَأشْرَقَتْ، وَ طَالَعَها فَتَلألأتْ، وَ ألْقَى في هُوِيَّتِهَا مِثَالَهُ فَأظْهَرَ فِيهَا أفْعَالَهُ. وَ خَلَقَ الإنْسَانَ ذَا نَفْسٍ نَاطِقَةٍ إنْ زَكَّاهَا بِالعِلْمِ فَقَدْ شَابَهَتْ جَوَاهِرَ أوَائِلِ عِلَلِهَا، وَ إذَا اعْتَدَلَ مِزَاجُهَا وَ فَارَقَتِ الأضْدَادَ فَقَدْ شَارَكَ بِهَا السَّبْعَ الشِّدَادَ.٢
و قال ابن سينا: لَمْ يَكُنْ شُجَاعاً فَيْلَسُوفاً قَطُّ إلَّا عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
و قال الشريف الرضي: من سمع كلامه لا يشكّ أنّه كلامُ من قبع في كَسر بيتٍ أو انقطع في سفح جبل لا يسمع إلّا حسّه، و لا يرى إلّا نفسه، و لا يكاد يوقن بأنّه كلام من يتغمّس في الحرب، مصلتاً سيفه فيقطّ الرقاب و يجدّل الأبطال، و يعود به ينطف دماً، و يقطر مُهَجاً، و هو مع ذلك زاهد الزهّاد، و بدل الأبدال. و هذه من فضائله العجيبة و خصائصه التي جمع بها بين الأضداد.۱
و قال السوسيّ:
وَ في كَفِّهِ سَبَبُ المَوْتِ الوَفِيّ فَمَنْ | *** | عَصَاهُ مَدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ السَّبَبِ |
علوّ اوست به جائى كه اختر از پروين | *** | فشانده در قدمش جمله لولوئى منثور |
زهى به علم ازل في البديهه حل كرده | *** | نكات دفتر تورات و مشكلات زبور |
كجا شوند به صد قرن ديگران چون او | *** | ستاره ما جهانتاب كى شود به مرور |
في فِيهِ سَيْفٌ حَكَاهُ سَيْفُ رَاحَتِهِ | *** | سِيَّانَ ذَاكَ وَ ذَا في الخَطْبِ وَ الخُطَبِ |
لَوْ قَالَ لِلحَيّ مُتْ لَمْ يَحْمِيَ مِنْ رَهَبٍ | *** | أوْ قَالَ لِلْمَيْتِ عِشْ مَا مَاتَ مِنْ رُعُبِ |
أوْ قَالَ لِلَّيْلِ كُنْ صُبْحَاً لَكَانَ وَ لَوْ | *** | لِلشَّمْسِ قَالَ اطْلُعِي بِالَّليْلِ لَمْ تَغِبِ |
أوْ مَدَّ كَفّاً إلَى الدُّنْيَا لِيَقْلِبَهَا | *** | هَانَتْ عَلَيْهِ بِلَا كَدٍّ وَ لَا تَعَبِ |
ذَاكَ الإمام الذي جِبْرِيلُ خَادِمُهُ | *** | إنْ نَابَ خَطْبٌ نِيبَ عَنْهُ وَ لَا يَنُبِ |
وَ عِزْرَائيلُ مِطْوَاعٌ لَهُ فَمَتَى | *** | يَقُلْ أمِتْ ذَا يُمِتْ أوْ هِبْهُ لِي يَهَبِ |
رِضْوَانُ رَاضٍ بِهِ مَوْلَى وَ مَالِكُ | *** | مَمْلُوكٌ يُطِيعَانِهِ في كُلِّ مُنْتَدَبِ |
تقدّمه عليه السلام في علم الهندسة و الرياضيّات
تقدُّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم الهندسة و الرياضيّات
و من جملة العلوم، علم الهندسة و المحاسبات الرياضيّة، و ظهر فيه مهندسون كان أمير المؤمنين عليه السلام أعلمهم. و نقل ابن شهرآشوب هنا قصّة الرجلين اللذين كانا جالسين في زمن عمر، فمرّ بهما عبدٌ مقيّد. فقال أحدهما: إنّ لم يكن وزن قيده كذا فامرأتى طالق. و حلف الآخر مثل حلف صاحبه بخلاف المقدار الذي ذكره. فارتفعا إلى عمر، فقال لهما: اعتزلا نساءكما. ثمّ بعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فحدّد كيفيّة وزن القيد، و بعد ذلك ذكر قصّة الرجل الذي كان قد حلف على وزن الفيل،
و بين الطريقة التي وزن بها الإمامُ الفيلَ، و كلّ اولئك جعل عمر يتعجّب.۱
ثمّ قال ابن شهرآشوب: وَ يُقَالُ: وَضَعَ كَلَكاً وَ عَمِلَ المِجْدَافَ وَ أجْرَى عَلَى الفُرَاتِ أيَّامَ صِفِّينَ. الكَلَك مركب يُركب في أنهار العراق. و المجداف خشبة طويلة مبسوطة أحد الطرفين.
تقدّمه عليه السلام في علم النجوم
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم النجوم
و من جملة العلوم، علم النجوم. و كان أمير المؤمنين عليه السلام أكيس المنجّمين. قال سعيد بن جُبَير:٢ استقبل أمير المؤمنين عليه السلام
دهقان -و في رواية قيس بن سعد أنّه مزجان بن شاشوا (في النسخة البدل: «مرخان بن شاسوا)- استقبله من المدائن إلى جسر بوران، فقال له: يا أمير المؤمنين! تناحستِ النجوم الطالعات، و تناحست السعود بالنحوس. فاذا كان مثل هذا اليوم، وجب على الحكيم الاختفاء. و يومك هذا يوم صعب قد اقترن فيه كوكبان، و انكفى فيه الميزان، و انقدح من بُرجك النيران، و ليس الحرب لك بمكان.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أيُّهَا الدِّهْقَانُ المُنْبِئُ بِالآثَارِ المَخَوِّفُ (المُحَذِّرُ- خ ل) مِنَ الأقْدَارِ، مَا كَانَ البَارِحَةَ صَاحِبُ المِيزَانِ؟ وَ في أي بُرْجٍ كَانَ صَاحِبُ السَّرَطَانِ؟ وَ كَمِ الطَّالِعُ مِنَ الأسَدِ (المَطَالِعِ- خ ل)؟ وَ السَّاعَاتُ مِنَ الحَرَكَاتِ (المُحَرَّكَاتِ- خ ل)؟ وَ كَمْ بَيْنَ السَّرَارِي وَ الذَّرَارِي؟
قال الدهقان: سأنظر إلى الاصطرلاب (اصطُلّاب- خ ل). (و في «الاحتجاج»: و أومأ بيده إلى كُمّه و أخرج منه اصطرلاباً ينظر فيه).
فتبسّم أمير المؤمنين عليه السلام و قال له: وَيْلَكَ يَا دِهْقَانُ؛ أنْتَ مُسَيِّرُ الثَّابِتَاتِ؟ أمْ كَيْفَ تَقْضِي عَلَى الجَارِيَاتِ؟ وَ أيْنَ سَاعَاتُ الأسَدِ مِنَ المَطَالِعِ؟ وَ مَا الزُّهْرَةُ مِنَ التَّوَّابِعِ۱ وَ الجَوَامِعِ؟ وَ مَا دَوْرُ السَّرَارِي
المُحَرَّكَاتُ؟ وَ كَمْ قَدْرُ شُعَاعِ المُنِيرَاتِ؟ وَ كَمِ التَّحْصِيلُ بِالغَدَواتِ؟ (من أذان الصبح إلى طلوع الشمس).
قال الدهقان: لا علم لي بذلك يا أمير المؤمنين. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: يَا دِهْقَانُ! هَلْ نَتَجَ عِلْمُكَ أنِ انْتَقَلَ بَيْتُ مَلِكِ الصِّينِ! وَ احْتَرَقَتْ دُورٌ بِالزَّنْجِ؟ وَ خَمَدَ بَيْتُ نَارِ فَارِسَ؟ وَ انْهَدَمَتْ مَنَارَةُ الهِنْدِ؟ وَ غَرَقَتْ سَرَانَدِيبُ؟ وَ انْقَضَّ حِصْنُ الأنْدَلُسِ؟ وَ نَتَجَ (فَتَحَ- خ ل) بُتْرُكُ الرُّومِ بِالرُّومِيَّةِ؟
و في رواية: البَارِحَةَ وَقَعَ بَيْتٌ بِالصِّينِ، وَ انْفَرَجَ بُرْجُ مَاجِينَ، وَ سَقَطَ سُورُ سَرَانَدِيبَ، وَ انْهَزَمَ بِطْرِيقُ الرُّومِ بِأرْمَنِيَّةَ، وَ فُقِدَ دَيَّانُ اليَهُودِ بِإيلَةَ، وَ هَاجَ النَّمْلُ بِوَادِي النَّمْلِ، وَ هَلَكَ مَلِكُ إفْرِيقِيَّةِ. أ كُنْتَ عَالِمَاً بِهَذَا؟ قَالَ:
لَا، يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ.
و في رواية: أظُنُّكَ حَكَمْتَ بِاخْتِلَافِ المُشْتَرِي وَ زُحَلُ إنَّمَا أنَارَ لَكَ في الشَّفَقِ، وَ لَاحَ لَكَ شُعَاعُ المِرِّيخُ في السَّحَرِ، وَ اتَّصَلَ جِرْمُهُ بِجِرمِ القَمَرِ.
ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السلام: البَارِحَةَ سَعَدَ سَبْعُونَ ألْفَ عَالَمٍ، وَ وُلِدَ في كُلِّ عَالَمٍ سَبْعُونَ ألْفاً. وَ اللَّيْلَةَ يَمُوتُ مِثْلُهُمْ وَ هَذَا مِنْهُمْ -وَ أوْمَى بِيَدِهِ إلَى سَعْدِ بْنِ مَسْعَدَةَ الحَارِثِيّ وَ كَانَ جَاسُوسَاً لِلْخَوَارِجِ في عَسْكَرِهِ- فَظَنَّ المَلْعُونُ أنَّهُ يَقُولُ: خُذُوهُ، فَاخِذَ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ. فَخَرَّ الدِّهْقَانُ سَاجِدَاً. فَلَمَّا أفَاقَ، قَالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ: أ لَمْ ارَوِّكَ مِنْ عَيْنِ التَّوْفِيقِ؟ قَالَ: بَلَى. فَقَالَ: أنَا وَ صَاحِبِي لَا شَرْقِيُّونَ وَ لَا غَرْبِيُّونَ، نَحْنُ نَاشِئَةُ القُطْبِ وَ أعْلَامُ الفُلْكِ.
أمَّا قَوْلُكَ انْقَدَحَ مِنْ بُرْجِكَ النِّيرَانُ، فَكَانَ الوَاجِبُ أنْ تَحْكُمَ بِهِ لِي لَا عَلَيّ. أمَّا نُورُهُ وَ ضِيَاؤُهُ فَعِنْدِي، وَ أمَّا حَرِيقُهُ وَ لَهَبُهُ فَذَهَبَ عَنِّي. وَ هَذِهِ مَسْألَةٌ عَمِيقَةٌ احْسِبْهَا إنْ كُنْتَ حَاسِبَاً.۱ فَقَالَ الدِّهْقَانُ: أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ وَ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وَ أنَّكَ عَلِيّ وَلِيّ اللهِ.٢
تقدّمه عليه السلام في علم الحساب و الكيمياء
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم الحساب
و من جملة العلوم، علم الحساب و كان أمير المؤمنين عليه السلام أوفر العلماء نصيباً.
[قال] ابن أبي ليلى: إنّ رجلين تغدّيا في سفر و مع أحدهما خمسة
أرغفة، و مع الآخر ثلاثة. فجاء شخص ذلك و و اكلها، فأعطاهما ثمانية دراهم عوضاً. فاختصما و ارتفعا إلى أمير المؤمنين عليه السلام. فقال: هذا أمر فيه دناءة، و الخصومة فيه غير جميلة و الصلح أحسن. فأبى صاحب الثلاثة إلّا مُرّ القضاء و قال: احكم بيننا بالقضاء الحتميّ و تعيين المقدار الحقيقيّ.
فقال الإمام: إذا كنت لا ترضى إلّا بمُرّ القضاء، فانّ لك واحد من ثمانية، و لصاحبك سبعة. أ ليس كان لك ثلاثة أرغفة و لصاحبك خمسة؟
قال: بلى.
قال: فهذه أربعة و عشرون ثلثاً. أكلتَ منه ثمانية، و الضيف ثمانية. فلمّا أعطا كما الثمانية الدراهم، كان لصاحبك سبعة و لك واحد.۱
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم الكيمياء
و من جملة العلوم، علم الكيمياء. و كان أمير المؤمنين عليه السلام أكثر أصحاب الكيمياء حظّاً فيه. و قد سئل عليه السلام عن هذه الصنعة، فَقَالَ: هِيَ اخْتُ النُّبُوّةِ، وَ عِصْمَةُ المُرُوَّةِ، وَ النَّاسُ يَتَكَلَّمُونَ فِيهَا بِالظَّاهِرِ، وَ أنِّي لأعْلَمُ ظَاهِرَهَا وَ بَاطِنَهَا. هِيَ وَ اللهِ مَا هِيَ إلَّا مَاءٌ جَامِدٌ، وَ هَوَاءٌ رَاكِدٌ، وَ نَارٌ جَائِلَةٌ، وَ أرْضٌ سَائِلَةٌ.
و سئل عليه السلام في أثناء خطبته: هل الكيمياء كانت؟ فقال: كانت و هي كائن. فقيل: من أي شيء؟ فقال: إنَّهَا مِنَ الزّئْبَقِ الرَّجْرَاجِ، وَ الاسْرُبِ وَ الزَّاجِ، وَ الحَدِيدِ المُزْعَفَر، وَ زِنْجَارِ النُّحَاسِ الأخْضَرِ الخَوَرِ (الحبور- خ ل) إلَّا تَوَقَّفَ عَلَى عَابِرِهِنَّ.
فقيل له: فهمنا لا يبلغ ذلك. فَقَالَ: اجْعَلُوا البَعْضَ أرْضاً، وَ اجْعَلُوا البَعْضَ مَاءً، وَ أفْلِحُوا الأرْضَ بِالمَاءِ، وَ قَدْ تَمَّ.
فقيل له: زدنا يا أمير المؤمنين. فَقَالَ: لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِ، فَإنَّ الحُكَمَاءَ القُدَمَاءَ مَا زَادُوا عَلَيْهِ كَيمَا يَتَلَاعَبَ بِهِ النَّاسُ.۱
تو به غير علم عشق ار دل نهى | *** | سنگ استنجا به شيطان مىدهى |
لوح دل از فضلة شيطان بشوى | *** | أي مدرّس درس عشقى هم بگوي |
و قال ابن رَزّيك أبو الطَّلايع:
عَلِيّ الذي قَدْ كَانَ نَاظِرُ قَلْبِهِ | *** | يُرِيهِ عَيَاناً مَا وَرَاءَ العَوَاقِبِ |
عَلِيّ الذي قَدْ كَانَ أفْرَسَ مَنْ عَلَا | *** | عَلَى صَهَواتِ الصَّافِنَاتِ الشَّوَارِبِ |
(و تتميّز هذه الخيول على أمثالها، و أنّ امتطاءَها أعسر من امتطاء غيرها).
تقدّمه عليه السلام في علم الطبّ
تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم الطبّ
روى عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول:
إذَا كَانَ الغُلَامُ مُلْتَاثَ الادْرَةِ، صَغِيرَ الذَّكَرِ، سَاكِنَ النَّظَرِ، فَهُوَ مِمَّنْ يُرْجى خَيْرُهُ، وَ يُؤْمَنُ شَرُّهُ. وَ إذَا كَانَ الغُلَامُ شَدِيدَ الادْرَةِ، كَبِيرَ الذَّكَرِ، حَادَّ النَّظَرِ، فَهُوَ مِمَّنْ لَا يُرْجَى خَيْرُهُ، وَ لَا يُؤْمَنُ شَرُّهُ.
و عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضاً: أنّه قال: يعيش الولد لستّة أشهر و لسبعة و لتسعة و لا يعيش لثمانية أشهر.
و عنه عليه السلام: لبن الجارية و بولها يخرج من مثانة امّها. و لبن الغلام يخرج من العضدين و المنكبين.
و عنه أيضاً: يشبّ الصبي كلّ سنة أربع أصابع بأصابع نفسه.
و سأل رجل أمير المؤمنين عليه السلام عن الولد: ما باله تارة يشبه أباه و امّه، و تارة يشبه خاله و عمّه؟ فقال للحسن عليه السلام: أجبه.
فقال الإمام الحسن عليه السلام: أمّا الولد، فانّ الرجل إذا أتى أهله بنفس ساكنة و جوارح غير مضطربة، اعتلجت النطفتان كاعتلاج المتنازعين. فان علت نطفة الرجل نطفة المرأة، جاء الولد يشبه أباه. و إذا
علت نطفة المرأة نطفة الرجل، يشبه امّه.
و إذا أتاها بنفس منزعجة و جوارح مضطربة غير ساكنة، اضطربت النطفتان فسقطتا عن يمنة الرحم و يسرته، فان سقطت عن يمنة الرحم سقطت على عروق الأعمام و العمّات. فأشبه أعمامه و عمّاته. و إن سقطت عن يسرة الرحم، سقطت على عروق الأخوال و الخالات، فأشبه أخواله و خالاته. فقام الرجل و هو يقول:
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ.۱
و رُوي أنّ هذا الرجل هو الخضر.
و سئل النبيّ الأكرم: كيف تؤنّث المرأة و كيف يذكّر الرجل؟ فقال: يلتقي الماءان، فاذا علا ماء المرأة ماء الرجل، انثت. و إن علا ماء الرجل ماء المرأة، اذكرت.
تقدُّم أمير المؤمنين عليه السلام في علم الاقتصاد و المعاملة
و من جملة العلوم، علم المعاملة على طريق السوقيّة و مجرى المعاملات و المقايضات. و يعترف التجّار و السوقيّة أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الأصل في علومهم. و لا يوجد لغيره إلّا اليسير حتى قال مشايخهم: لو تفرّغ عليّ عليه السلام إلى إظهار ما علم من علومنا، لأغنى في هذا الباب.
إحاطة أمير المؤمنين عليه السلام بالتوراة
و من فرط حكمته عليه السلام ما روى عن اسامة بن زيد، و أبي رافع في خبر أنّ جبرئيل عليه السلام نزل على النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله،
فقال: يا محمّد! ألا ابشّرك بخبيئةٍ لذرّيّتك، فحدّثه بشأن التوراة أنّه قد وجدها رهط من أهل اليمن بين حجرين أسودين، و سمّاهم له. فلمّا قدموا على رسول الله، قال لهم: كما أنتم حتى اخبركم بأسمائكم و أسماء آبائكم، و أنتم وجدتم التوراة، و قد جئتم بها معكم. فدفعوها إليه و أسلموا. فوضعها النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله عند رأسه، ثمّ دعا الله باسمه، فأصبحت عربيّة ففتحها و نظر فيها، ثمّ رفعها إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام و قال:
هَذَا ذِكْرٌ لَكَ وَ لِذُرِّيَّتِكَ مِنْ بَعْدِي.
و روى عن أمير المؤمنين عليه السلام في قوله تعالى: رُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ،۱ بعث الله نبيّاً أسوداً لم يقصّ علينا قصّته.
و كتب معاوية إلى أبي أيّوب الأنصاريّ: أمَّا بَعْدُ؛ فَحَاجَيْتُكَ (فَحُجَّيْتُكَ- خ ل) بِمَا لَا تَنْسَى شَيْبَاءُ. قال أمير المؤمنين عليه السلام: أخْبَرَهُ أنَّهُ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَ أنَّ مَنْ قُتِلَ عِنْدَهُ مِثْلُ الشَّيْبَاءَ لَا تَنْسَى قَاتِلَ بِكْرَهَا وَ لَا أبَا مُخَدِّرِهَا (مُحَذِّرِهَا- خ ل) أبَدَاً.٢
علم أمير المؤمنين عليه السلام بلغة الحيوانات و الملائكة
و من وفور علمه عليه السلام أنّه عبّر منطق الطير و الوحوش و الدوابّ. روى زرارة عن الصادق عليه السلام أنّه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ كَمَا عُلِّمَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ عَلَيهِ السَّلَامُ، وَ كُلِّ دَابَّةٍ في بَرٍّ أوْ بَحْرٍ.۱
و روى عن ابن عبّاس أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: صياح الديك: اذْكُرُوا اللهَ يَا غَافِلِينَ. و صهيل الفرس: اللَهُمَّ انْصُرْ عِبَادَكَ المُؤْمِنِينَ عَلَى عِبَادِكَ الكَافِرِينَ. و نهيق الحمار: أنْ يَلْعَنَ العَشَّارِينَ۱،
از آن خسرو كه جمشيدش بود نام | *** | نوشته ديدم اين خط بر لب بام |
كه بايد در خدا جوئى چو پرگار | *** | به گرد خويشتن زد روز و شب گام |
رسد چون نقطة أوّل به آخر | *** | يكى گردد همه آغاز و انجام |
بجوى اين را ز جانى در دساتير | *** | كز آن خسرو رقم شد دور أيّام |
بگو جم كيست آن كس مرغ و ماهى | *** | به افسون از هنرمندى كند رام |
دم پير من است آن كز فسونش | *** | خروس عرش نيز افتاده در دام |
دل پير من است آن سحر مسحور | *** | كه گه پر جوش، گاهى هست آرام |
اگر حق را هزار اسماء حسنى است | *** | بود جمع آن هزار اندر يكى نام |
بگو كاوّل على، آخر على بود | *** | بگو باطن على، ظاهر على بود |
و ينهق في عين الشيطان. و نقيق الضفدع: سُبْحَانَ رَبِّيَ المَعْبُودِ المُسَبَّحِ في لُجَجِ البِحَارِ. و أنيق القبّرة (عصفورة خاصّة تتّخذ من الجبال و الصحاري منزلًا لها غالباً): اللَهُمَّ الْعَنْ مُبْغِضِي آلِ مُحَمَّدٍ.
قال العبديّ:
وَ عَلَّمَكَ الذي عَلَّمَ البَرَايَا | *** | وَ ألْهَمَكَ الذي لَا يَعْلَمُونَا |
فَزَادَكَ في الوَرَى شَرَفاً وَ عِزَّاً | *** | وَ مَجْدَاً فَوْقَ وَصْفِ الوَاصِفِيَنَا |
و روى سعيد بن ظريف عن الصادق عليه السلام، و روى أبو امامة الباهليّ كلاهما عن النبيّ الأكرم في خبر طويل -و اللفظ لأبي امامة- أنّ الناس دخلوا على النبيّ صلى الله عليه و آله و هنّؤوه بمولود رزقه الله به. ثمّ قام رجل في وسط الناس، فقال: بأبي أنت و امّي يا رسول الله، رأينا من عليّ عجباً في هذا اليوم.
قال النبيّ صلى الله و آله: و ما رأيتم؟
قالوا: أتيناك لنسلّم عليك و نهنّئك بمولودك الحسين فحجبنا عنك و أعلمنا أنّه هبط عليه مائة و أربعة و عشرون ألف مَلَك، فعجبنا من إحصائه و عدّه الملائكة.
فأقبل رسول الله صلى الله عليه و آله بوجهه إلى عليّ مبتسماً و قال: ما علّمك أنّه هبط عَلَيّ مائة و أربعة و عشرون ألف ملك؟
قال عَلِيّ عليه السلام: بأبي أنت و امّي يا رسول الله سمعت مائة و أربعة و عشرين ألف لغة فعلمتُ أنّهم مائة و أربعة و عشرون ألف مَلَك.
قال رسول الله صلى الله عليه و آله:
زَادَكَ اللهُ عِلْماً وَ حِلْمَاً يَا أبَا الحَسَنِ.
و روى الزمخشريّ في كتاب «الفائق» أنّ شُريح القاضي سُئل عن امرأة طُلّقت فذكرت أنّها حاضت ثلاث حيضات في شهر واحد.
فقال شُريح: إن شهدت ثلاث نسوة من بطانة أهلها أنّها كانت تحيض قبل طلاقها في كلّ شهر، فالقول قولها.
فقال عليّ عليه السلام: قالون (فالون- خ ل) أي: أصبتَ (بالروميّة). و هذا إذا اتُّهمت المرأة (أي: الحاجة إلى الشهادة عند الاتّهام بالكذب، و لا حاجة إليها في غير الاتّهام).
و روى في «بصائر الدرجات» عن سعد القمّيّ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام نزل قَطْقَطا عند مجيئه إلى النهروان، فاجتمع إليه أهل بادوريا فشكوا ثقل خراجهم، و كلّموه بالنبطيّة فقالوا: لنا جيران أوسع أرضاً منّا و أقلّ خراجاً. فأجابهم عليه السلام بالنبطيّة قائلًا: زعرا وطائه من زعرا
رباه. و معناه بالعربيّة: دُخْنٌ صَغِيرٌ خَيْرٌ مِنْ دُخْنٍ كَبِيرٍ.۱
و روى أنّه قال عليه السلام لابنة يزدجرد: ما اسمكِ؟ قالت: جهان بانويه. فقال عليه السلام: بل اسمك شهر بانويه، و أجابها بالعجميّة.
تفسيره عليه السلام صوت الناقوس
تفسير أمير المومنين عليه السلام صوت الناقوس
فسّر أمير المؤمنين عليه السلام صوت الناقوس.
روى صاحب كتاب «مصباح الواعظ» و جمهور أصحابنا عن الحارث الأعور، و زيد بن صُوحان، و صَعْصَعَة بن صُوحان، و النراء بن سيرة، و الأصبغ بن نباتة، و جابر بن شَرَحْبيل، و محمود بن الكوّاء أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال: يَقُولُ الناقوس: سُبْحَانَ اللهِ حَقَّاً حَقَّاً، إنَ المَوْلَى صَمَدٌ يَبْقَى، يَحْلُمُ عَنَّا رِفْقَاً رِفْقَاً، لَوْ لَا حِلْمُهُ كُنَّا نَشْقَى.
حَقَّاً حَقَّاً صِدْقَاً صِدْقَاً، إنَّ المَوْلَى يُسَائِلُنَا، وَ يُوَافِقُنَا وَ يُحَاسِبُنَا، يَا مَوْلَانَا لَا تُهْلِكُنَا، وَ تَدَارَكْنَا وَ اسْتَخْدِمْنَا، وَ اسْتَخْلصَنَا حِلْمُكَ عَنَّا، قَدْ جَرَّانَا عَفْوُكَ عَنَّا، إنَّ الدُّنْيَا قَدْ غَرَّتْنَا وَ اشْتَغَلَتْنَا، وَ اسْتَلَهتْنَا وَ اسْتَغْوَتْنَا، يَا بْنَ الدُّنْيَا جَمْعَاً جَمْعَاً، يَا بْنَ الدُّنْيَا مَهْلًا مَهْلًا.
يَا بْنَ الدُّنْيَا دَقَّاً دَقَّاً، تُفْنِى الدُّنْيَا قَرْناً قَرْناً، مَا مِنْ يَوْمٍ يَمْضِي عَنَّا، إلَّا يَهْوِى مِنَّا رُكْنَاً، قَدْ ضَيَّعْنَا دَارَاً تَبْقَى، وَ اسْتَوْطَنَّا دَارَاً تَفْنَى، تُفْنِى الدُّنْيَا
قَرْنَاً قَرْنَاً، كُلًّا مَوْتَاً كُلًّا مَوْتَاً، كُلًّا مَوْتَاً كُلًّا دَفْنَاً، كُلًّا فِيهَا مَوْتَاً كُلًّا فَنَاءً كُلًّا فِيهَا مَوْتَاً، نَقْلًا نَقْلًا دَفْنَاً دَفْنَاً، يَا بْنَ الدُّنْيَا مَهْلًا مَهْلًا، زِنْ مَا يَأتِي وَزْناً وَزْناً، لَوْ لَا جَهْلِي مَا إنْ كَانَتْ عِنْدِي الدُّنْيَا إلَّا سِجْنَاً، خَيْرَاً خَيْرَاً شَرّاً شَرَّا، شَيئاً شَيئاً حُزْنَاً حُزْنَاً، مَا ذَا مَنْ ذَا كَمْ ذا أم ذَا، هَذَا أسْنَى، تَرْجُو تَنْجُو، تَخْشَى تَرْدَى، عَجِّلْ قَبْلَ المَوْتِ الوَزْنَا، مَا مِنْ يَوْمٍ يَمْضِي عَنَّا، إلَّا أوْهَنَ مِنَّا رُكْنَاً، إنَّ المَوْلَى قَدْ أنْذَرَنَا إنَّا نُحْشَرُ غُرْلًا بُهْمَاً.
قال الراونديّ: ثمّ انقطع صوت الناقوس،۱ فسمع الديرانيّ ذلك و أسلم و قال: إنّي وجدتُ في الكتاب أنّ في آخر الأنبياء من يفسّر ما يقول الناقوس.٢
أجمعوا: أنّ خِيَرَة الله من خلقه هم المتّقون لقوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقاكُمْ۱ ثمّ أجمعوا على أنّ خيرة المتّقين الخاشعون، لقوله تعالى: وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، إلى قوله: مُنِيبٍ.٢
ثمّ أجمعوا على أنّ أعظم الناس خشية العلماء لقوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ.٣
و أجمعوا على أنّ أعلم الناس أهداهم إلى الحقّ و أحقّهم أن يكون متّبعاً و لا يكون تابعاً لقوله: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى.٤
و أجمعوا على أنّ أعلم الناس بالعدل أدلّهم عليه و أحقّهم أن يكون مُتَّبَعاً و لا يكون تابعاً لقوله: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ.٥
فدلّ كتاب الله و سنّة نبيّه و إجماع الامّة على أنّ أفضل هذه الامّة بعد نبيّها عليّ عليه السلام.٦
جوابه عليه السلام عن أسئلة ملك الروم
و فتح سبط بن الجوزيّ فصلًا في كتابه «تذكرة خواصّ الامّة» في كلام عمر بن الخطّاب: أعُوذُ بِاللهِ مِنْ مُعْضَلَةٍ لَيْسَ لَه أبُو حَسَنٍ. و في الروايات المنقولة عنه بهذا المضمون. ثمّ روى عن أحمد بن حنبل في «الفضائل» بسنده عن ابن المسيِّب قال: كان عمر بن الخطّاب يقول: أعوذ بالله من
مُعضَلةٍ ليس لها أبو حسن.
قال ابن المسيّب: و لهذا القول سبب، و هو أنّ ملك الروم كتب إلى عمر يسأله عن مسائل فعرضها على الصحابة، فلم يجد عندهم جواباً. فعرضها على أمير المؤمنين عليه السلام، فأجاب عنه في أسرع وقت بأحسن جواب.
أمّا المسائل: فقد ذكر ابن المسيّب كتاب ملك الروم، و عرض المسائل كلّها إلى أن بلغ قوله: و عن صوت الناقوس ما ذا يقول؟
ثمّ بيّن ابن المسيّب جواب أمير المؤمنين عليه السلام المفصّل، إذ أجاب عنها جميعها حتى بلغ صوت الناقوس، فقال: يقول: طَقَّاً طَقَّاً، حَقَّاً حَقَّاً، مَهْلًا مَهْلًا، عَدْلًا عَدْلًا، صِدْقَاً صِدْقَاً، إنَّ الدُّنْيَا قَدْ غَرَّتْنَا وَ اسْتَهْوَتْنَا. تَمْضِي الدُّنْيَا قَرْنَاً قَرْنَاً، مَا مِنْ يَوْمٍ يَمْضِي عَنَّا، إلَّا أوْهَي مِنَّا رُكْنَاً، إنَّ المَوْلَى قَدْ أخْبَرْنَا، إنَّا نَرْحَلُ فَاسْتَوْطَنَّا ... إلى آخر المسائل.
قال ابن المسيّب: فلمّا قرأ قيصر الكتاب قال: ما خرج هذا الكلام إلّا من بيت النبوّة. ثمّ سأل عن المجيب، فقيل له: هذا جواب ابن عمّ محمّد صلّى الله عليه و آله، فكتب إليه:
سَلَامٌ عَلَيْكَ. أمَّا بَعْدُ: فقد وقفتُ على جوابك، و علمتُ أنت من أهل بيت النبوّة، و معدن الرسالة. و أنت موصوف بالشجاعة و العلم. و اوثر أن تكشف لي عن مذهبكم، و الروح التي ذكرها الله في كتابكم، في قوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي.۱
فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السلام: أمَّا بَعْدُ: فَالرُّوحُ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ، وَ لُمْعَةٌ شَرِيفَةٌ مِنْ صَنْعَةِ بَارِيهَا، وَ قُدْرَةِ مُنْشِئِهَا، أخْرَجَهَا مِنْ خَزَائِنِ مُلْكِهِ
وَ أسْكَنَها في مُلْكِهِ، فَهِيَ عِنْدَهُ لَكَ سَبَبٌ، وَ لَهُ عِنْدَكَ وَدِيعَةٌ فَإذَا أخَذْتَ مَا لَكَ عِنْدَهُ، أخَذَ مَا لَهُ عِنْدَكَ. وَ السَّلَامُ.۱
أبيات الميرزا حبيب الله الخراسانيّ في مدح الإمام عليه السلام
و ها نحن نختم بحثنا عند هذه النقطة، حريّ بنا أن نذكر أبياتاً شعريّة للمرحوم آية الله الحاجّ الميرزا حبيب الله الخراسانيّ متبرّكين بالمقام الأقدس لمولى الموحّدين أمير المؤمنين عليه السلام:
امروز كه روز دار و گير است | *** | مى ده كه پياله دلپذير است |
از جام و سبو گذشت كارم | *** | وقت خم و نوبت غدير است |
برد از نگهى دلِ همه خلق | *** | آهوى تو سخت شيرگير است٢ |
در عشوة آن دو آهوى چشم | *** | گر شير فلك بود، اسير است |
در چنبر آن دو هندوى زلف | *** | خورشيد سپهر دستگير است |
مى نوش كه چرخ پير امروز | *** | از ساغر خود پياله گير است |
امروز به امر حضرت حق | *** | بر خلق جهان على أمير است |
امروز به خلق گردد اظهار | *** | آن سرّ نهان كه در ضمير است |
آن پادشه ممالك جود | *** | در مُلك وجود، بر سرير است |
چندانكه به مدح او سروديم | *** | يك نُكته ز صد نگفته بوديم٣ |
اللهمّ صلّ و سلّم على المصطفى محمّد، و المرتضى عليّ، و البتول فاطمة، و السبطين الحسن و الحسين، و صلّ على زين العبّاد عليّ، و الباقر محمّد، و الصادق جعفر، و الكاظم موسى، و الرضا عليّ، و التقيّ محمّد، و النقيّ عليّ، و الزكيّ العسكريّ الحسن، و صلّ على المهديّ الهاديّ صاحب العصر و الزمان و خليفة الرحمن و قاطع البرهان و سيّد الإنس و الجانّ صلوات الله و سلامه عليه و عليهم أجمعين، و العن أعداءَهم و ظالميهم و معانديهم و مبغضيهم و غاصبي حقوقهم و منكري فضائلهم و مناقبهم أبد الآبدين و دهر الداهرين. آمين ربّ العالمين.
الدَّرْسُ السَّابِعُ وَ السَّبْعونَ بَعْدَ المِائَةِ إلَى الثَّمَانِينَ بَعْدَ المِائَةِ: أمِيرُ المُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمٌ بِالتَّوْرَاةِ وَ الإنْجِيلِ وَ هُوَ القَائِلُ: «سَلُونِي»
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
لم يكن أحد عارفاً بالقرآن بعد رسول الله كأمير المؤمنين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ ، وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ، بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ.۱
و كذلك (يكون الإسلام للّه، و تصديق كتبه و رسله) ... فالذين آتيناهم الكتاب، و هم أهل الكتاب (اليهود و النصارى، و هؤلاء بحسب طبعهم يؤمنون بالله و كتبه و رسله) ...
و على هذا فحقيقة القرآن ليست بكلام يجري على اللسان، و لا بكلمات تكتب خطّيّاً، بل هو آيات بيّنات في صدور اولي العلم. و صدور اولي الألباب كنز الذخائر و دفينة النفائس لعلوم القرآن و حكمه و معارفه.
و قد أجمعت الامّة على أنّ صدور الصحابة و التابعين و المخَضرمين و سائر العلماء الإلهيّين و الحكماء الربّانيّين و أولياء الله، حتى الأنبياء السابقين و الأوصياء الماضين لم تكن كصدر أمير المؤمنين عليه السلام في سعته و قابليّته لحمل العلوم و المعارف الباطنيّة و الأسرار السبحانيّة و خفايا و رموز النبوّة و الولاية. و كأنّ القرآن عُجن بوجوده، و اختمر بجبلّته و طينته، و انطوت حقيقة القرآن في حقيقة وجوده.۱
قال ابن شهرآشوب: روى ابن أبي البُخْتَريّ من ستّة طرق، و ابن المفضّل من عشر طرق، و إبراهيم الثقفيّ من أربعة عشر طريقاً منهم: عديّ بن حاتم، و الأصبغ بن نُباتة، و علقمة بن قيس، و يحيى بن امّ الطويل، و زَرّ بن حُبَيش، و عَباية بن ربعيّ، و عَباية بن رفاعة، و أبو الطُّفيل أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال بحضرة المهاجرين و الأنصار، و أشار إلى صدره:
كَيْفَ مُلِئَ عِلْمَاً؟ لَوْ وَجدتُ لَهُ طَالِباً. سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي. هَذَا سَفَطُ۱ العِلْمِ، هَذَا لُعَابُ رَسُولِ اللهِ، هَذَا مَا زَقَّنِي رَسُولُ اللهِ زَقَّاً، فَاسْألُونِي فَانَّ عِنْدِي عِلْمَ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ.
أمَا وَ اللهِ لَوْ ثُنِيَتْ لِيَ الوِسَادَةُ٢ ثُمَّ اجْلِسْتُ عَلَيْهَا، لَحَكَمْتُ بَيْنَ أهْلِ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ، وَ بَيْنَ أهْلِ الإنْجِيلِ بِانجِيلِهِمْ، وَ بَيْنَ أهْلِ الزَّبُورِ بِزَبُورِهِمْ، وَ بَيْنَ أهْلِ الفُرْقَانِ بِفُرْقَانِهِمْ، حتى يُنَادِيَ كُلُّ كِتَابٍ بِأنَّ عَلِيَّاً قَضَى بِحُكْمِ اللهِ في.
وَ في رِوَايَةٍ: حتى يُنْطِقَ اللهُ التَّوْرَاةَ وَ الإنْجِيلَ. وَ في رِوَايَةٍ: حتى يَزْهَرَ كُلُّ كِتَابٍ مِنْ هَذِهِ الكُتُبِ وَ يَقُولُ: يَا رَبِّ إنَّ عَلِيَّاً قَضَى بِقَضَائِكَ.
ثُمَّ قَالَ: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الذي فَلَقَ الحَبَّةَ وَ بَرَأ النَّسَمَةَ
لَوْ سَألْتُمُونِي عَنْ آيَةٍ آيَةٍ في لَيْلَةٍ انْزِلَتْ أوْ في نَهَارٍ انْزِلَتْ؟ مَكِّيَّهَا وَ مَدَنِيِّهَا؟ وَ سَفَرِيِّهَا وَ حَضَرِيِّهَا؟ نَاسِخِهَا وَ مَنْسُوخِهَا؟ وَ مُحْكَمِهَا وَ مُتَشَابِهِهِا؟ وَ تَأوِيلِهَا وَ تَنْزِيلِهَا؟ لأخْبَرْتُكُمْ.
و قال ابن العوديّ:
وَ مَنْ ذَا يُسَامِيهِ بِمَجْدٍ وَ لَمْ يَزَلْ | *** | يَقُولُ: سَلُونِي مَا يَحِلُّ وَ يَحْرُمُ |
سَلُونِي فَفِي جَنْبَيّ عِلْمٌ وَرِثْتُهُ | *** | عَنِ المُصْطَفَى مَا فَاتَ مِنِّي بِهِ الفَمُ |
سَلُونِي عَنْ طُرْقِ السَّمَاوَاتِ إنَّني | *** | بِهَا عَنْ سُلُوكِ الطُّرْقِ في الأرْضِ أعْلَمُ |
وَ لَوْ كَشَفَ اللهُ الغِطَا لَمْ أزِد بِهِ | *** | يَقِينَاً عَلَى مَا كُنْتُ أدْرِي وَ أفْهَمُ |
فتح ألف باب من العلم لأمير المؤمنين عليه السلام
و روى أبو نُعَيم الحافظ الأصفهانيّ باسناده عن زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السلام قال: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهِ ألْفَ بَابٍ، يُفْتَحُ كُلُّ بَابٍ إلَى ألْفَ بَابٍ.
و قد روى أبو جعفر بن بابويه هذا الخبر في «الخصال» من أربعة و عشرين طريقاً، و سعد بن عبد الله القمّيّ في «بصائر الدرجات» من ستّة و ستّين طريقاً.
و جاء عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: كَانَ في ذُؤَابَةِ سَيْفِ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ صَحِيفَةٌ صَغِيرَةٌ هِيَ الأحْرُفِ التي يَفْتَحُ كُلُّ حَرْفٍ ألَفَ حَرْفٍ، فَمَا خَرَجَ مِنْهَا حَرْفَانِ حتى السَّاعَةِ.
و في رواية أنّ عليّاً عليه السلام دفع تلك الصحيفة إلى الحسن عليه السلام. فقرأ منها حروفاً. ثمّ أعطاها الحسين عليه السلام، فقرأها أيضاً.
ثمّ أعطاها محمّد ابن الحنفيّة فلم يقدر على أن يفتحها.
و قال أبو القاسم البُستيّ: و ذلك نحو أن يقول: الرِّبَا في كُلِّ مَكِيلٍ في العَادَةِ أي مَوْضِعٍ كَانَ وَ في كُلِّ مَوْزُونٍ.
و نحو أن يقول: يَحِلُّ مِنَ البَيْضِ كُلُّ مَا دَقَّ أعْلَاهُ وَ غَلُظَ أسْفَلُهُ.
و نحو أن يقول: يَحرُمُ مِنَ السِّبَاعِ كُلُّ ذِي نَابٍ، وَ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَ يَحِلُّ البَاقِي.
و كذلك قول الصادق عليه السلام: كُلُّ مَا غَلَبَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ أمْرِهِ فَاللهُ أعْذَرُ لِعَبْدِهِ.
قال الحِميَريّ:
حَدَّثَهُ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ | *** | ألْفَ حَدِيثٍ مُعْجِبٍ حَاجِبِ |
كُلُّ حَدِيثٍ مِنْ أحَادِيثِهِ | *** | يَفْتَحُ ألْفَ عُدَّةِ الحَاسبِ |
فَتِلْكَ وَفَّتْ ألْفَ بَابٍ لَهُ | *** | فِيهَا جِمَاعُ المُحْكَمِ الصَّائِبِ۱ |
و قال أيضاً:
وَ كَفَاهُ بِألْفِ ألْفِ حَدِيثٍ | *** | قَدْ وَ عَاهُنَّ مِنْ وَحْيِ مَجِيدِ |
مُحَمَّدٌ خَيْرُ بَنِي غَالِبِ | *** | وَ بَعْدَهُ ابْنِ أبِي طَالِبِ |
هَذَا نَبِيّ وَ وَصِيّ لَهُ | *** | وَ يُعْزَلُ العَالَمُ في جَانِبِ |
و قال كذلك:
قَدْ وَعَاهَا في مَجْلِسٍ بِمَعَانِيهَا | *** | وَ أسْبَابِهَا وَ وَقْتِ الحُدُودِ۱ |
عَلِيّ أميرُ المؤمِنِينَ أخُو الهُدَى | *** | وَ أفْضَلُ ذِي نَعْلٍ وَ مَنْ كَانَ حَافِيا |
أسَرَّ إلَيْهِ أحْمَدُ العِلْمَ جُمْلَةً | *** | وَ كَانَ لَهُ دُونَ البَرِيَّةِ وَاعِيَا |
وَ دَوَّنَهُ في مَجْلِسٍ مِنْهُ وَاحِدٍ | *** | بِألْفِ حَدِيثٍ كُلُّهَا كَانَ هَادِيَا |
وَ كُلُّ حَدِيثٍ مِنْ اولَئِكَ فَاتِحٌ | *** | لَهُ ألْفَ بَابٍ فَاحْتَوَاهَا كَمَاهِيَا٢ |
و روى أبان بن تَغْلِب، و الحسين بن معاوية، و سليمان الجعفريّ، و إسماعيل بن عبد الله بن جعفر كلّهم عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام أنّه قال: لمّا حضر رسول الله صلى الله عليه و آله الممات، دخل عليه عليّ عليه السلام، فأدخل رأسه معه، ثمّ قال: يَا عَلِيّ! إذَا أنَا مِتُّ فَغَسِّلْنِي وَ كَفِّنِي، ثُمَّ أقْعِدْنِي وَ سَايِلْنِي وَ اكْتُبْ.
و في «تهذيب الأحكام» بهذا اللفظ: فَخُذْ بِمَجَامِعِ كَفَنِي وَ أجْلِسْنِي ثُمَّ اسْألْنِي عَمَّا شِئْتَ، فَوَ اللهِ لَا تَسْألُنِي عَنْ شَيءٍ إلَّا أجَبْتُكَ فِيهِ.
و جاء في رواية أبي عوانة بإسناده: قَالَ عَلِيٌّ: فَفَعَلْتُ فَأنْبَأنِي بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ.٣
وارث السيف و العمامة و الرا | *** | ية مطويّة و ذات القيود |
بِآلِ محمّدٍ عُرف الصوابُ | *** | و في أبياتهم نزل الكتابُ |
و هم حجج الإله على البرايا | *** | بهم و بجدّهم لا يُسترابُ |
طعامُ سيوفهم مُهج الأعادي | *** | و فيضُ دمِ الرقاب لها شرابُ |
و لا سيّما أبا حسنٍ عليّاً | *** | له في العلم مرتبة تُهابُ |
إذا نادت صوارمُهُ نفوساً | *** | فليس لها سوى نعمٍ جوابُ |
و بين سنانه و الدرع صُلحٌ | *** | و بين البيض و البيض اصطحابُ |
هو النبأ العظيم و فلك نوح | *** | و باب الله و انقطع الخطابُ |
عليّ الدُّرُّ و الذهب المصفّي | *** | و باقي الناس كلّهم ترابُ |
هو البكّاء في المحراب ليلًا | *** | هو الضحّاك إذا اشتدّ الضرابُ |
بآل محمّد عُرفَ الصوابُ | *** | و في أبياتهم نزل الكتابُ |
كأنّ سنان ذابله ضميرٌ | *** | فليس عن القلوب له ذهابُ |
و صارمه كبيعته بخُمٍ | *** | معاقده من القوم الرقابُ |
و روى جميع بن عمير التيميّ عن عائشة في خبر أنّها قالت: و سَالَتْ نَفْسُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ في كَفِّهِ (كفّ عليّ عليه السلام) ثُمَ رَدَّهَا في فِيهِ.
و بلغني عن الصفوانيّ أنّه قال: حدّثني أبو بكر بن مهرويه بإسناده إلى امّ سلمة في خبر، قالت: كنتُ عند النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله، فدفع إليّ كتاباً فقال: من طلب هذا الكتاب منكِ ممّن يقوم بعدي، فادفعيه إليه! ثمّ ذكرت قيام أبي بكر، و عمر، و عثمان، و أنّهم ما طلبوه.
و قالت: فلمّا بويع عليّ عليه السلام، نزل عن المنبر، و مرّ، و قال لي: يا امّ سلمة هاتي الكتاب الذي دفعه إليكِ رسول الله صلى الله عليه و آله. فقلتُ له: أنتَ صاحبه؟ فقال: نعم. فدفعته إليه. و سئل عليّ عليه السلام: ما كان في الكتاب؟ قال: كُلُّ شَيءٍ دُونَ قِيَامِ السَّاعَةِ.
و في رواية ابن عبّاس: فلمّا قام عليّ عليه السلام بأمر الخلافة، أتاها و طلب الكتاب، ففتحه و نظر فيه فقال: هَذَا عِلْمُ الأبَدِ.
و قال الصادق عليه السلام: يَمُصُّونَ الثِّمَادَ وَ يَدَعُونَ النَّهْرَ العَظِيمَ. (الثماد جمع الثَّمْد، و هو الماء القليل و النزّ۱ الذي يتجمّع في الشتاء و ينضب في الصيف).
فسئل عن معنى ذلك، فقال: عِلْمُ النَّبِيِّينَ بِأسْرِهِ أوْحَاهُ اللهُ إلَى مُحَمَّدٍ، فَجَعَلَ مُحَمَّدٌ ذَلِكَ كُلَّهُ عِنْدَ عَلِيّ، وَ كَانَ عَلَيهِ السَّلَامُ يَدَّعِي في العِلْمِ دَعْوَى مَا سُمِعَتْ قَطُّ مِنْ أحَدٍ.
تقرير الإمام عليه السلام حول علمه
و روى حنش الكنانيّ أنّه سمع عليّاً يقول: وَ اللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالاتِ وَ تَصْدِيقِ العِدَاتِ وَ تَمَامِ الكَلِمَاتِ.
و قوله عليه السلام: إنَّ بَيْنَ جَنْبَيّ لَعِلْماً جَمَّاً لَوْ أصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً، شاهد على ذلك.
و قوله أيضاً: لَوْ كُشِفَ الغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً.
و روى عن سلمان أنّ عليّاً قال: عِنْدِي عِلْمُ المَنَايَا وَ البَلَايَا وَ الوَصَايَا و الأنْسَابُ (تُعرف به الأنساب)، وَ فَصْلُ الخِطَاب (و به يتميّز الحقّ عن الباطل بنحو جازم)، وَ مَوْلِدُ الإسْلَامِ وَ مَوْلدُ الكُفْرِ (و به يتّضح المخلوق من فطرة الإسلام، و المخلوق من فطرة الكفر)، وَ أنَا صَاحِبُ المِيسَمِ (حديدة أو شيء آخر يُوسَم به و يُختم و يُكْوَى. و بواسطة هذا المِيسَم يسم الإمام المنافقين و المنكرين و الظالمين يوم القيامة بعلامة جهنّم ليعرفوا أنّهم من أهلها)، وَ أنَا الفَارُوقُ الأكْبَرُ (أنا أكبر فاصل و مميّز بين السعادة و الشقاء، و أهل الجنّة و أهل النار، و الحقّ و الباطل، و الإيمان و الكفر)، وَ دَوْلَةُ الدُّوَلِ (أي: موضع الانقلابات و التغييرات). فَسَلُونِي عَمَّا يَكُونُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَ عَمَّا كَانَ قَبْلِي وَ عَلَى عَهْدِي وَ إلَى أنْ يُعْبَدَ اللهُ.
قال ابن المُسَيِّب: مَا كَانَ في أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ أحَدٌ يَقُولُ: سَلُونِي، غَيْرُ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ.۱
و قال ابن شُبْرُمة: مَا أحَدٌ قَالَ عَلَى المِنْبَرِ: سَلُونِي، غَيْرُ عَلِيّ.
قوله: «سلوني» يرتبط بحقائق القرآن و باطنه لا بظاهره
و قال الله تعالى: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ.۱ و قال: وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ.٢ و قال أيضاً: وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.٣ فإذا كان ذلك غير موجود في ظاهره، فهل يكون موجوداً إلّا في تأويله؟
كما قال تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.٤ (أي الحقائق الباطنيّة و تأويل القرآن) و هو الذي عني عليه السلام بقوله: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي.
و لو كان قد عنى به ظاهره، ففي الامّة كثير يعلم ذلك و لا يخطئ فيه حرفاً. و لم يكن علي عليه السلام ليقول من ذلك على رؤوس الأشهاد ما يعلم أنّه لا يصحّ من قوله، و أنّ غيره يساويه فيه، أو يدّعي على شيءٍ منه معه. فاذا ثبت أنّه لا نظير له عليه السلام في العلم، صحّ أنّه أولى بالإمامة. قال ابن حمّاد:
قُلْتَ سَلُونِي قَبْلَ فَقْدِي إنَّ لِي | *** | عِلْمَاً وَ مَا فِيكُمْ لَهُ مُسْتَوْدَعُ |
وَ كَذَاكَ لَوْ ثُنِى الوَسَادُ حَكَمْتُ | *** | بِالكُتُبِ التي فِيهَا الشَّرَائِعُ تُشْرَعُ |
و قال العونيّ:
وَ كَمْ عُلُومٍ مَقَفَلَاتٍ في الوَرَى | *** | قَدْ فَتَحَ اللهُ بِهِ أقْفَالَهَا |
حَرَّمَ بَعْدَ المُصْطَفَى حَرَامَهَا | *** | كَمَا أحَلَّ بَيْنَهُمْ حَلَالَهَا |
وَ كَمْ بِحَمْدِ اللهِ مِنْ قَضِيَّةٍ | *** | مُشْكِلَةٍ حَلَّ بِهِمْ إشكَالَهَا |
حتى أقَرَّتْ أنْفُسُ القَوْمِ بِأنْ | *** | لَوْ لَا الوَصِيّ ارْتَكَبَتْ ضَلَالَهَا |
و قال العونيّ أيضاً:
وَ مَنْ رَكِبَ الأعْوَادَ يَخْطُبُ في الوَرَى | *** | وَ قَالَ: سَلُونِي قَبْلَ فَقْدِي لُافْهِمَا |
و قال ابن حمّاد:
هَلْ سَمِعْتُمْ بِقَائِلٍ قَبْلَهُ | *** | قَالَ: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِ |
و له أيضاً:
سَلُونِي أيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ فِقْدَانِي | *** | فَعِنْدِي عِلْمُ مَا كَانَ وَ مَا يَأتِي وَ مَا يَأنِي |
شَهِدْنَا أنَّكَ العَالِمُ في عِلْمِكَ رَبَّانِي | *** | وَ قُلْتَ الحَقَّ يَا حَقُّ وَ لَمْ تَنْطِقْ بِبُهْتَانِ |
و له كذلك:
مَن قَالَ بِالبَصْرَةِ لِلنَّاسِ سَلُونِي | *** | مِنْ قَبْلِ أنْ افْقَدَ مِنْ طُرْقِ السَّمَاء |
و قال زيد المرزكيّ:
مَدِينَةُ العِلْمِ عَلِيّ بَابُهَا | *** | وَ كُلُّ مَنْ حَادَ عَنِ البَابِ جَهَلْ |
أمْ هَلْ سَمِعْتُمْ قَبْلَهُ مِنْ قَائِلٍ | *** | قَالَ: سَلُونِي قَبْلَ إدْرَاكِ الأجَلْ |
و أنشد شاعر آخر قائلًا:
قَالَ: اسْألُونِي قَبْلَ فَقْدِي وَ ذَا | *** | إبَانَةٌ عَنْ عِلْمِهِ البَاهِرِ |
لَوْ شِئْتُ أخْبَرْتُ بِمَنْ قَدْ مَضَى | *** | وَ مَا بَقِي في الزَّمَنِ الغَابِر۱ |
و روى ابن شهرآشوب أيضاً عن مقاتل بن سليمان، عن الضحّاك، عن ابن عبّاس في تفسير الآية الشريفة: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ٢ أنّه قال: كَانَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ يَخْشَى اللهَ وَ يُرَاقِبُهُ وَ يَعْمَلُ بِفَرائِضِهِ وَ يُجَاهِدُ في سَبِيلِهِ.
و روى الصفوانيّ في كتاب «الإحن و المحن» عن الكَلبيّ، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس قال: لَحْمَ، اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللهِ. عسق، عِلْمُ عَلِيّ سَبَقَ كُلَّ جَمَاعَةٍ وَ تعالى عَنْ كُلِّ فِرْقَةٍ.٣
و خاطب الزاهيّ أمير المؤمنين عليه السلام واصفاً بحر علمه الموّاج المتلاطم فقال:
مَا زِلْتَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ مُنْفَرِدَاً | *** | بَحْرَاً يَفِيضُ عَلَى الوُرَّادِ أزْخُرُهُ |
أمْوَاجُهُ العِلْمُ وَ البُرْهَانُ لُجَّتُهُ | *** | وَ الحِلْمُ شَطَّاهُ وَ التَّقْوَى جَوَاهِرُهُ٤ |
*** |
(فإذا ماج البحر، تألّق ذلك العلم و الوضوح و البرهان و أبرز حقيقته). و حلمك و صبرك كجانبي البحر، إذ يحفظان بحر العلم و المعرفة المتلاطم الزخّار (و لا يدعان مياهه تنساب منه، فتطغى كثرة العلم، و ينفلت الزمام، و يُفرض على الناس كلام فوق طاقتهم، أو تُحسم امورهم بالسيف).
و إنّ ما يُعدّ من جواهر هذا البحر و أشيائه النفيسة، و ما يحصل منه من جوهرة ثمينة هو التقوى و العصمة و الطهارة التي يُتْحَفُ بها عالم الإنسانيّة.
أجل، إنّ ما اثِر عن الإمام في العلوم الإلهيّة و المعارف السبحانيّة
و وحدة ذات الحقّ تعالى و تقدّس، و كشف رموز العالم و أسراره العجيبة، سواء كان في «نهج البلاغة» أم في سائر الكتب، على درجة عالية من العظمة و الفخامة، و له مرتبته السامقة الرفيعة البالغة ذروة العلوّ و الرفعة بحيث حيّر العقول. و لم يكن أحد قبل الإمام و بعده يباريه في درجته أو يفاضله. و ننقل فيما يأتي عدداً من الأخبار في هذا الموضوع:
خطبة الإمام و قوله: «سلوني»
الأوّل: حديث ذِعْلب الذي رواه الشيخ الصدوق عن أحمد بن الحسن القطّان، و عليّ بن أحمد بن محمّد بن عِمران الدقّاق، و هما روياه عن أحمد بن يحيى بن زكريّا القطّان، و هو رواه عن محمّد بن العبّاس، و هذا رواه عن محمّد بن أبي السَّرِيّ، و محمّد نقله عن أحمد بن عبد الله بن يونس، عن سعد الكِنانيّ، عن الأصبغ بن نُباتة قال: لمّا جلس عليّ عليه السلام في الخلافة و بايعه الناس، خرج إلى المسجد متعمّماً بعمامة رسول الله صلى الله عليه و آله، لابساً بردة رسول الله صلى الله عليه و آله، متنعّلًا نعل رسول الله صلى الله عليه و آله، متقلّداً سيف رسول الله صلى الله عليه و آله، فصعد المنبر، فجلس عليه متمكّناً، ثمّ شبّك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه، ثمّ قال:
يَا مَعْشَرَ النَّاسِ! سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي، هَذَا سَفَطُ (نوع من الزنبيل أو الجوالق يوضع فيه الحِمل) العِلْمِ، هَذَا لُعَابُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ، هَذَا مَا زَقَّنِي رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ زَقَّاً زَقَّاً، سَلُونِي فَإنَّ عِنْدِي عِلْمَ الأوَّلِينَ وَ الآخِرِينَ. أمَا وَ اللهِ لَوْ ثُنِيَتْ لِيَ الوِسَادَةُ فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا لأفْتَيْتُ أهْلَ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ حتى تَنْطِقَ التَّوْرَاةُ
فَتَقُولَ: صَدَقَ عَلِيّ، مَا كَذَبَ، لَقَدْ أفْتَاكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ في.
وَ أفْتَيْتُ أهْلَ الإنْجِيلِ بِإنْجِيلِهِمْ حتى يَنْطِقُ الإنْجِيلُ فَيَقُولَ: صَدَقَ عَلِيّ، مَا كَذَبَ، لَقَدْ أفْتَاكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ في.وَ أفْتَيْتُ أهْلَ القُرْآنِ بِقُرْآنِهِمْ حتى يَنْطِقَ القُرْآنُ فَيَقُولَ: صَدَقَ عَلِيّ، مَا كَذَبَ، لَقَدْ أفْتَاكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ في، وَ أنْتُمْ تَتْلُونَ القُرْآنَ لَيْلًا وَ نَهَارَاً.۱ (و القرآن كتاب يعنيكم و أنتم تشتغلون به و تأنسون إليه) فَهَلْ فِيكُمْ أحَدٌ يَعْلَمُ مَا نَزَلَ فِيهِ؟
وَ لَوْ لَا آيَةٌ في كِتَابِ اللهِ لأخْبَرْتُكُمْ بِمَا كَانَ وَ بِمَا يَكُونُ وَ مَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَ هِيَ هَذِهِ الآيَةُ: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ .٢ (أصل الكتب و المقدّرات و القضاء الذي لا يقبل التبديل و التغيير).
ثمّ قال: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ اللهِ الذي فَلَقَ الحَبَّةَ وَ بَرَأ النَّسَمَةَ لَوْ سَألْتُمُونِي عَنْ أيَةٍ في لَيْلٍ انْزِلَتْ أوْ في نَهَارٍ انْزِلَتْ؟ مَكِّيِّهَا وَ مَدَنِيِّهَا؟ سَفَريِّهَا وَ حَضَرِيِّهَا؟ نَاسِخِهَا وَ مَنْسُوخِهَا؟ مُحْكَمِهَا وَ مُتَشَابِهِهَا؟ وَ تَأوِيلِهَا وَ تَنْزِيلِهَا؟ لأخْبَرْتُكُمْ.
سؤالُ ذِعْلِب الإمامَ حولَ رؤية الله
فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالَ لَهُ ذِعلِبٌ، وَ كَانَ ذَرِبَ اللِّسَانِ، بَلِيغَاً في الخُطَبِ، شُجَاعَ القَلْبِ، فَقَالَ: لَقَدِ ارْتَقَى ابْنُ أبِي طَالِبٍ مِرْقَاةً صَعْبَةً،
لُاخجِّلَنَّهُ اليَوْمَ لَكُمْ في مَسْألَتِي إيَّاهُ.
فَقَالَ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ! لَمْ أكُنْ بِالَّذِي أعْبُدُ رَبّاً لَمْ أرَهُ. قَالَ: فَكَيْفَ رَأيْتَهُ؟ صِفْهُ لَنَا.
قَالَ: وَيْلَكَ! لَمْ تَرَهُ العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأبْصَارِ وَ لَكِنْ رَأتْهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ. وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ! إنَّ رَبِّي لَا يُوصَفُ بِالبُعْدِ (و لا يمكن أن يقال له: بعيد)، وَ لَا بِالحَرَكَةِ، وَ لَا بِالسُّكُونِ (لا يمكن أن يقال له: متحرّك أو ساكن)، وَ لَا بِالقِيَامِ قِيَامَ انْتِصَابٍ، وَ لَا بِجِيئَةٍ وَ لَا بِذَهَابٍ (و لا يمكن أن يقال له: قائم، و جائي و ذاهب)، لَطِيفُ اللَّطَافَةِ لَا يُوصَفُ بِالُّلطْفِ، عَظِيمُ العَظَمَةِ لَا يُوصَفُ بِالعِظَمِ (و لا يمكن أن يقال له: عظيم)، كَبِيرُ الكِبْرِيَاءِ لَا يُوصَفُ بِالكِبَرِ (و لا يمكن أن يقال له: كبير)، جَلِيلُ الجَلَالَةِ لَا يُوصَفُ بِالغِلَظِ، رؤُوفُ الرَّحْمَةِ لَا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ،۱ مُؤْمِنٌ لَا بِعَبادَةٍ، مُدْرِكٌ
لَا بِمِجَسَّةٍ، قَائِلٌ لَا بِاللَّفْظِ.
هُوَ في الأشْيَاءِ عَلَى غَيْرِ مُمَازَجَةٍ (فتشتبه الخالقيّة و المخلوقيّة)، خَارِجٌ مِنْهَا عَلَى غَيْرِ مُبَايَنَةٍ (و يظهر الانقطاع من حيث القيام الوجوديّ و الذاتيّ بينها)، فَوْقَ كُلِّ شَيءٍ فَلَا يُقَالُ: شَيءٌ فَوْقَهُ، وَ أمَامَ كُلِّ شَيءٍ فَلَا يُقَالُ: لَهُ أمَامٌ. دَاخِلٌ في الأشْيَاءِ لَا كَشَيْءٍ في شَيْءٍ دَاخِلٍ، وَ خَارِجٌ مِنْهَا لَا كَشَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ.
فخرّ ذِعلب مغشيّاً عليه، ثمّ قال: تاللهِ ما سمعتُ بمثل هذا الجواب. و الله لاعدتُ إلى مثلها.
كلام الإمام عليه السلام في جواب الأشعث حول المجوس
ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السلام: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي. فقام إليه الأشعث بن قيس، فقال: يا أمير المؤمنين! كيف يؤخذ من المجوس الجِزية و لم ينزل عليهم كتاب، و لم يُبعث إليهم نبيّ؟
قال عليه السلام: بلى يا أشعث؛ قد أنزل الله عليهم كتاباً و بعث إليهم رسولًا. حتى كان لهم مَلِكٌ سكر ذاتَ ليلةٍ فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها، فلمّا أصبح تسامع به قومه، فاجتمعوا إلى بابه، فقالوا: أيّها الملك! دنّست علينا ديننا و أهلكته، فاخرج نطهِّرْك و نُقِم عليك الحدّ. فقال لهم: اجتمعوا و اسمعوا كلامي، فان يكن لي مخرج ممّا ارتكبتُ، و إلّا فشأنكم.
فاجتمعوا، فقال لهم: هل علمتم أنّ الله لم يخلق خلقاً أكرم عليه من أبينا آدم و امّنا حوّاء؟ قالوا: صدقتَ أيّها الملك. قال: أ فليس قد زوّج بنيه
من بناته و بناته من بنيه؟ قالوا: صدقتَ أيّها الملك، هذا هو الدين (فلا إشكال في نكاح المحارم و البنت و الامّ و الاخت). فتعاقدوا على ذلك
(و منذ ذلك الحين تزوّجوا بمحارمهم).۱
و على هذا الأساس محا الله ما في صدورهم من العلم، و رفع عنهم الكتاب. فهم كفرة يدخلون النار بلا حساب، و المنافقون أشدّ حالًا منهم.
قال الأشعث: و الله ما سمعتُ بمثل هذا الجواب. و الله لاعدتُ إلى مثلها أبداً.
جواب الإمام عليه السلام للسائل الذي طلب النجاة من النار
ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السلام: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي. فقام إليه رجل من أقصى المسجد متوكّئاً على عصاه، فلم يزل يتخطّى الناس حتى دنا منه عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين! دلّني على عمل إذا عملتُه نجّاني الله من النار.
قَالَ لَهُ: اسْمَعْ يَا هَذَا ثُمَّ افْهَمْ ثُمَّ اسْتَيْقِنْ. قَامَتِ الدُّنْيَا بِثَلَاثَةٍ: بِعَالِمٍ مُسْتَعْمِلٍ لِعِلْمِهِ، وَ بَغَنِيّ لَا يَبْخَلُ بِمَالِهِ عَلَى أهْلِ دِينِ اللهِ، وَ بِفَقِيرٍ صَابِرٍ، فَاذَا كَتَمَ العَالِمُ عِلْمَهُ، وَ بَخِلَ الغَنِيّ، وَ لَمْ يَصْبِرِ الفَقَيرُ، فَعِنْدَهَا الوَيْلُ وَ الثُّبُورُ، وَ عِنْدَهَا يَعْرِفُ العَارِفُونَ بِاللهِ أنَّ الدَّارَ قَدْ رَجَعَتْ إلَى بَدْئِهَا، أي: الكُفْرِ بَعْدَ الإيمَانِ.
أيُّهَا السَّائِلُ! فَلَا تَغْتَرَّنَّ بِكَثْرَةِ المَسَاجِدِ وَ جَمَاعَةِ أقْوَامٍ أجْسَادُهُمْ مُجْتَمِعَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى. أيُّهَا السَّائِلُ! إنَّمَا النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: زَاهِدٌ وَ رَاغِبٌ وَ صَابِرٌ. فَأمَّا الزَّاهِدُ فَلَا يَفْرَحُ بِشَيءٍ مِنَ الدُّنْيَا أتَاهُ وَ لَا يَحْزَنُ عَلَى شَيءٍ
مِنْهَا فَاتَهُ. وَ أمَّا الصَّابِرُ فَيَتَمَنَّاهَا بِقَلْبِهِ، فَانْ أدْرَكَ مِنْهَا شَيْئاً، صَرَفَ عَنْهَا نَفْسَهُ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ سُوءٍ عَاقِبَتِهَا. وَ أمَّا الرَّاغِبُ فَلَا يُبَالِي مِنْ حِلٍّ أصَابَهَا أمْ مِنْ حَرَامِ.
قال له ذلك السائل: يا أمير المؤمنين! فما علامة المؤمن في ذلك الزمان؟ قَالَ: يَنْظُرُ إلَى مَا أوْجَبَ اللهُ عَلَيهِ مِنْ حَقٍّ فَيَتَوَلَّاهُ وَ يَنْظُرُ إلَى مَا خَالَفَهُ فَيَتَبَرَّا مِنْهُ وَ إنْ كَانَ حَمِيمَاً قَرِيبَاً.
قال السائل: صدقت و الله يا أمير المؤمنين. ثمّ غاب الرجل فلم نره، فطلبه الناس، فلم يجدوه، فتبسّم أمير المؤمنين عليه السلام على المنبر، ثمّ قال: ما لكم؟ هذا أخي الخضر عليه السلام.۱
كلام الحسنين عليهما السلام و روايتهما حديثين في علم عليّ
ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السلام: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي. فلم يقم إليه أحد. فحمد الله و أثنى عليه، و صلى عليه نبيّه صلى الله عليه و آله، ثمّ قال للحسن عليه السلام: يَا حَسَنُ! قُمْ فَاصْعَدِ المِنْبَرَ فَتَكَلَّمْ بِكَلَامٍ لَا تَجْهَلُكَ قُرَيْشٌ مِنْ بَعْدِي فَيَقُولُونَ: إنَّ الحَسَنَ بْنَ عَلِيّ لَا يُحْسِنُ شَيئاً.
فقال الحسن عليه السلام: يا أبتِ كيف أصعد و أنت في الناس تسمع
و ترى؟ قال له: بأبي و امّي اواري نفسي عنك و أسمع و أرى و أنت لا تراني.
فصعد الإمام الحسن عليه السلام المنبر فحمد الله بمحامد بليغة شريفة، و صلى على النبيّ صلى الله عليه و آله صلاة موجزة، ثمّ قال: أيُّهَا النَّاسُ! سَمِعْتُ جَدِّي رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ يَقُولُ: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا، وَ هَلْ تُدْخَلُ المَدِينَةُ إلَّا مِنْ بَابِهَا!
قال هذا، ثمّ نزل فوثب إليه عليّ عليه السلام فحمله و ضمّه إلى صدره. ثمّ قال للحسين عليه السلام: يا نور عيني! اصعد المنبر و تكلّم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون: إنّ الحسين بن عليّ لا يبصر شيئاً، و ليكن كلامك تبعاً لكلام أخيك.
فصعد الإمام الحسين عليه السلام المنبر فحمد الله و أثنى عليه، و صلى على نبيّه صلى الله عليه و آله صلاة موجزة، ثمّ قال: مَعَاشِرَ النَّاسِ! سَمِعْتُ جَدِّي رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ هُوَ يَقُولُ: إنَّ عَلِيَّاً هُوَ مَدِيَنةُ هُدَى، فَمَنْ دَخَلَهَا نَجَا، وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ.
فوثب إليه عليّ عليه السلام، فضمّه إلى صدره و قبّله، ثمّ قال: مَعَاشِرَ النَّاسِ! اشْهَدُوا أنَّهُمَا فَرْخَا رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ وَدِيعَتُهُ التي اسْتَوْدَعَنِيهَا وَ أنَا أسْتَوْدِعُكُمُوهَا مَعَاشِرَ النَّاسِ، وَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ سَائِلُكُمْ عَنْهُمَا.۱
خطبة الإمام عليه السلام في التوحيد جواباً على سؤال ذِعلِب
الثاني: حديث ذِعلب أيضاً، و قد رواه الشيخ الصدوق أيضاً عن عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقّاق رحمه الله، عن محمّد بن
أبي عبد الله الكوفيّ، عن محمّد بن إسماعيل البرمكيّ، عن الحسين بن الحسن، عن عبد الله بن داهر، عن الحسين بن يحيي الكوفيّ، عن قُثم بن قتادة، عن عبد الله بن يونس، عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: بَيْنَا أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيهِ السَّلَامُ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِ الكُوفَةِ، إذْ قَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ: ذِعْلِبٌ ذَرِبُ اللِّسَانِ، بَلِيغٌ في الخِطَابِ، شُجَاعُ القَلْبِ. فَقَالَ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ؟ مَا كُنْتُ أعْبُدُ رَبّاً لَمْ أرَهُ. قَالَ: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! كَيْفَ رَأيْتَهُ؟
قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ! لَمْ تَرَهُ العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأبْصَارِ وَ لَكِنْ رَأتْهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ. وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ! إنَّ رَبِّي لَطِيفٌ اللَّطَافَةِ (أي: أنّه لطيف بالنسبة إلى معنى اللطافة و مفهومها) فَلَا يُوصَفُ بِاللُّطْفِ (بل هو أعلى من اللطف، و خالق اللطف)، عَظِيمُ العَظَمَةِ (أي: هو عظيم بالنسبة إلى معنى العظمة و مفهومها) لَا يُوصَفُ بالعِظَمِ (بل هو يفوق العظمة، و هو خالق العظمة و موجدها)، كَبِيرُ الكِبْرِيَاءِ (أي: هو كبير بالنسبة إلى معنى الكبرياء و مفهومها مع سعة مفادها) لَا يُوصَفُ بِالْكِبَرِ (بل هو أعلى من الكبرياء، و هو خالق الكِبر)، جَلِيلُ الجَلَالَةِ (أي: هو جليل بالنسبة إلى معنى الجلال و مفهومه مع إطلاقه و عمومه) لَا يُوصَفُ بِالغِلَظِ.
قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ فَلَا يُقَالُ: شَيءٌ قَبْلَهُ. وَ بَعْدَ كُلِّ شَيءٍ فَلَا يُقَالُ: شَيءٌ بَعْدَهُ. شَائِي الأشْيَاءِ لَا بِهِمَّةٍ، دَرَّاكٌ لَا بِخَدِيعَةٍ. هُوَ في الأشْيَاءِ كُلِّهَا غَيْرُ مُتَمَازِجٍ بِهَا وَ لَا بَائِنٌ عَنْهَا. ظَاهِرٌ لَا بِتَأوِيلِ المُبَاشَرَةِ، مُتَجَلٍّ لَا بِاسْتِهْلَالِ رُؤْيَةٍ، بَائِنٌ لَا بِمَسَافَةٍ، قَرِيبٌ لَا بِمُدَانَاةٍ، لَطِيفٌ لَا بِتَجَسُّمٍ، مَوْجُودٌ لَا بَعْدَ عَدَمٍ، فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَارٍ، مُقَدِّرٌ لَا بِحَرْكَةٍ، مُرِيدٌ لَا بِهَمَامَةٍ، سَمِيعٌ لَا بِآلَةٍ، بَصِيرٌ لَا بِأدَاةٍ، لَا تَحْوِيهِ الأمَاكِنُ، وَ لَا تَصْحَبَهُ الأوْقَاتُ، وَ لَا تَحُدُّهُ الصِّفَاتُ، (من العلم و القدرة و الحياة و ما يتفرّع منها) وَ لَا تَأخُذُهُ
السِّنَاتُ. (لا يغفل لحظة واحدة).
سَبَقَ الأوْقَاتُ كَوْنُهُ، وَ العَدَمَ وُجُودُهُ، وَ الإبْتِدَاءَ أزَلُهُ، بِتَشْعِيرِهِ المَشَاعِرَ عُرِفَ أنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ، وَ بَتَجْهِيرِهِ الجَوَاهِرَ (الطبائع و الجبلّات و الكائنات الموضوعة لعروض العوارض) عُرِفَ أنْ لَا جَوْهَرَ لَهُ، وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الأشْيَاءِ عُرِفَ أنْ لَا ضِدَّ لَهُ، وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الأشْيَاءِ عُرِفَ أنْ لَا قَرِينَ لَهُ.
ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ، وَ الجَسْوَ بِالبَلَلِ، وَ الصَّرْدَ بِالحَرُورِ،۱ مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا، مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا، دَالَّةً بِتَفْرِيقِهَا عَلَى مُفَرِّقِهَا، وَ بِتَألِيفِهَا عَلَى مُؤَلِّفِهَا، وَ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَ جَلَّ: وَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ٢ (و اعلموا أنّ هذا العالم الفسيح المخلوق من ذَكَرٍ و انثى هو تحت عناية الله تعالى)٣ فَفَرَّقَ بِهَا بَيْنَ قَبْلٍ وَ بَعْدٍ لِيُعْلَمَ أنْ لَا قَبْلَ لَهُ وَ لَا بَعْدَ.
شاهدة بغرائزها على أن لا غريزة لمغرزها (هو خالق الغريزة)، مخبرة بتوقيتها أن لا و قت لموقتها.
حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه غير خلقه. (نفس مخلوقيّتها و إنّيّتها حجاب) كان ربا إذ لامربوب، و إلها إذ لا مألوه، و عالما إذ لا معلوم، و سميعا إذ لا مسموع.
ثُمَّ أنْشَأ يَقُولُ:
وَ لَمْ يَزَلْ سَيِّدِي بِالحَمْدِ مَعْرُوفَا | *** | وَ لَمْ يَزَلْ سَيِّدِي بِالجُودِ مَوْصُوفَا |
وَ كُنْتَ۱ إذْ لَيْسَ نُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ | *** | وَ لَا ظَلَامٌ عَلَى الآفَاقِ مَعْكُوفَا |
وَ رَبُّنَا بِخِلَافِ الخَلْقِ كُلِّهِمْ | *** | وَ كُلِّ مَا كَانَ في الأوْهَامِ مَوْصُوفَا |
فَمَنْ يُرْدِهُ عَلَى التَّشْبِيهِ مُمْتَثِلًا | *** | يَرْجِعْ أخَا حَصَرٍ بِالعَجْزِ مَكْتُوفَا |
وَ في المَعَارِجِ يَلْقَى مَوْجُ قُدْرَتِهِ | *** | مَرْجَاً يُعَارِضُ طَرْفَ الرُّوحِ مَكْفُوفَا |
فَاتْرُكْ أخَا جَدَلٍ في الدِّينِ مُنْعَمِقاً | *** | قَدْ بَاشَرَ الشَّكَّ فِيهِ الرَّأي مَأوُوفَا |
وَ اصْحَبْ أخَا ثِقَةٍ حُبَّاً لِسَيِّدِه | *** | وَ بِالكَرَامَاتِ مِنْ مَوْلَاهُ مَحْفُوفَا |
أمْسَى دَلِيلَ الهُدَى في الأرْضِ مُنْتَشِرَاً | *** | وَ في السَّمَاءِ جَمِيلَ الحَالِ مَعْرُوفَا |
لمّا سمع ذِعلب وصف أمير المؤمنين عليه السلام هذا، خَرّ مغشيّاً عليه، ثمّ أفاق، و قال: ما سمعتُ بهذا الكلام و لا أعود إلى شيء من ذلك.
و قال المرحوم الصدوق -أبو جعفر محمّد بن عليّ بن حسين بن بابويه القمّيّ- قال مصنّف هذا الكتاب: في هذا الخبر ألفاظ قد ذكرها الإمام الرضا عليه السلام في خطبته. و هذا تصديق قولنا في الأئمّة عليهم السلام: إنّ علم كلّ واحد منهم مأخوذ عن أبيه حتى يتّصل ذلك بالنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله.۱
خطبه عليه السلام في التوحيد
الثالث: الخطبة الاولى من خطب «نهج البلاغة»:
الحَمْدُ لِلَّهِ الذي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ القَائِلُونَ، وَ لَا يُحْصِى نَعْمَاءَهُ العَادُّونَ، وَ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ المُجْتَهِدُونَ، الذي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الهِمَمِ، وَ لَا يَنَالُهُ غَوْصُ الفِطَنِ، الذي لَيْسَ لِصَفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ، وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ، وَ لَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ، وَ لَا أجَلٌ مَمْدُودٌ. فَطَرَ الخَلائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ نَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أرْضِهِ.
أوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ، وَ كَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإخْلَاصُ لَهُ، وَ كَمَالُ الإخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أنَّهَا غَيْرُ المَوْصُوفِ، وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ. (و هذه الغيريّة توجب التعدّد و التركيب في ذاته المقدّسة. تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً).
فَمَنْ وَصَفَ اللهَ سُبْحَانَهُ (و مدحه بصفة زائدة على الذات ممّا يلزم المحدوديّة بحدّ الصفة و مفهومها المشخّص و المنحصر بها) فَقَدْ قَرَنَهُ، وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ، وَ مَنْ ثَنَّاه فَقَدْ جَزَّأهُ، وَ مَنْ جَزَّأهُ فَقَدْ جَهِلَهُ، وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أشَارَ إلَيْهِ (لأنّ الإشارة من لوازم الممكنات التي تحتاج إلى جهة)، وَ مَنْ
أشَارَ إلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ، وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ (و هو واحد لا بعدد، لأنّ كلّ واحد عدد محدود و مركّب. و الحدّ و التركيب في الذات الأحديّة يستلزمان الفقر و الاحتياج)، وَ مَنْ قَالَ: فِيمَ: فَقَدْ ضَمَّنَهُ، وَ مَنْ قَالَ: عَلَامَ؟ فَقَدْ أخْلَى مِنْهُ.
كَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ، مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ، مَعَ كُلِّ شَيءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ (لا بنحو الحلول و الاتّحاد، بل بنحو الوجود الأصيل و الواجب و الاستقلاليّ مع الوجود التبعيّ و المجازيّ و الظلّيّ)، وَ غَيْرُ كُلِّ شَيءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ. فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الحَرَكَاتِ وَ الآلَةِ (بل هو يريد و يبلغ مراده بنفس الإرادة و المشيئة القاهرة بدون حركة و استعمال آلةٍ)، بَصِيرٌ إذْ لَا مَنْظُورَ إلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ (أي: أنّ بصيرته ليست بالإبصار الحسّيّ حتى تحتاج إلى منظور إليه حسّيّ. هو بصير بالذات لا بآلة بصريّة)، مُتَوَحِّدٌ إذْ لَا سَكَنَ يَسْتَأنِسُ بِهِ وَ لَا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ ... إلى آخر الخطبة.۱
الرابع: الخطبة الثالثة و الستّون من خطب «نهج البلاغة»:
الحَمْدُ لِلَّهِ الذي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالًا، فَيَكُونَ أوَّلًا قَبْلَ أنْ يَكُونَ آخِراً، وَ يَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أنْ يَكُونَ بَاطِناً (لأنّ جميع أوصاف الله هي صفات ذاته، و صفاته واجبة أيضاً بوجوب ذاته. و لمّا لا تتغيّر ذاته و لا تتبدّل بسبب وجوب الوجود، فكذلك أوصافه لا تتغيّر و لا تتبدّل و لا تزول و لا تتدرّج. و لا تتقدّم صفة من صفاته على صفة اخرى، و لا تتأخّر عنها أيضاً، هو الأوّل كما هو الآخر، و هو الآخر كما هو الأوّل. و أوّليّته و آخريّته و أزليّته و أبديّته شيء واحد، و ظهوره و بطونه واحد).
كُلُّ مُسَمَّى بِالوَحْدَةِ غَيْرُهُ قَلِيلٍ (الله كثير مع وحدته، لأنَّ كلّ موجود غير الله الواحد، هو وحده بلا معين و لا شريك و لا ناصر، و هو حقير -طبعاً- لضعفه، و لا اعتبار و لا شأن له لعدم وجود المعاضد و المعاون. أمّا وحدة الله، فهي علوّ ذاته المقدّسة المنزّهة عن التركيب، و معناها بساطة وجوده و إطلاقه و سعته و تفرّده في العظمة و القدرة و الحياة، و فناء جميع الموجودات و اندكاك كافّة الكائنات في ذاته المقدّسة. و على هذا، فالوحدة في غير الله وحدة عدديّة تستلزم التقليل و النقص، و كمالها بالتكثير و الاعتبار الزائد. و الوحدة في الله توجب سعة الوجود و العموميّة و التكثير. و على هذا القياس تكون سائر أوصافه).
وَ كُلُّ عَزِيزٍ غَيْرُهُ ذَلِيلٌ. وَ كُلُّ قَوِيّ غَيْرُهُ ضَعِيفٌ. وَ كُلُّ مَالِكٍ غَيْرُهُ مَمْلُوكٌ. وَ كُلُّ عَالِمٍ غَيْرُهُ مُتَعَلِّمٌ. وَ كُلُّ قَادِرٍ غَيْرُهُ يَقْدِرُ وَ يَعْجِزُ. وَ كُلُّ سَمِيعٍ غَيْرُهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الأصْوَاتِ وَ يُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَ يَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا. وَ كُلُّ بَصِيرٍ غَيْرُهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيّ الألْوَانِ، وَ لَطِيفِ الأجْسَامِ، (و الله هو الذي عنده جميع الأصوات: قويّها و ضعيفها، و كبيرها و صغيرها متساوية. و كافّة الألوان و الأجسام، خفيّها و ظاهرها، و لطيفها و غليظها متساوية أيضاً).
وَ كُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرُهُ بَاطِنٌ، وَ كُلُّ بَاطِنٍ غَيْرُهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ (لأنّ كلّ موجود وجوده بعناية الله كرمه. فهو في ذاته و ماهيّته مخفيّ و باطن. أمّا وجود الحقّ تعالى فهو مخفيّ في حال ظهوره الذي شمل العوالم كلّها، و هو ظاهر في حال بطونه و خفائه: يا باطناً في ظُهوره، و يا ظاهراً في بطونه).
لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ، وَ لَا تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ، وَ لَا اسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ (الذي يحاول المحاربة و المنازعة)، وَ لَا شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ، وَ لَا ضِدٍّ مُنَافِرٍ، وَ لَكِنْ خَلَائِقُ مَرْبُوبُونَ، وَ عِبَادٌ دَاخِرُونَ.
لَمْ يَحْلُلْ في الأشْيَاءِ فَيُقَال: هُوَ فِيهَا كَائِنٌ، وَ لَمْ يَنَأ عَنْهَا فَيُقَال: هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ. لَمْ يُؤدْهُ خَلْقُ مَا ابْتَدَأ، وَ لَا تَدْبِيرُ مَا ذَرَأ، وَ لَا وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ، وَ لَا وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَ قَدَّرَ، بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَ عِلْمٌ مُحْكَمٌ وَ أمْرٌ مُبْرَمٌ، المأمُولُ مَعَ النِّقَمِ، وَ المَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ.۱
الخامس: الخطبة الخمسون و المائة في «نهج البلاغة»:
الحَمْدُ لِلَّهِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ، وَ بِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أزَلِيَّتِهِ، (إذ إنّ الحوادث ينبغي أن تنتهي بالواجب حتماً، و إلّا تستلزم الدَّور و التسلسل. و وجوب وجود الدليل على الأزليّة و السرمديّة. و لذلك فانّ ظهور الحوادث دليل على أزليّته) وَ بِاشْتِبِاهِهِمْ عَلَى أنْ لَا شِبْهَ لَهُ.
لَا تَسْتَلِمُهُ المَشاعِرُ، (لأنّ شرط المحسوس وقوعه في جهة و ناحية، و الله ليس في جهة، و هو محيط بكلّ مكان) وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ. (حُجُب إنّيّات الموجودات من عالم الملك و الملكوت لا تستطيع أن تستره) لِافْتِرَاقِ الصَّانِعِ وَ المَصْنُوعِ، وَ الحَادِّ وَ المَحْدُودِ، وَ الرَّبِّ وَ المَرْبُوبِ.
و كذلك الحمد للّه الأحَدِ لَا بِتَأوِيلِ عَدَدٍ، (أي: أنّ العدد (٢) في مقابل ذلك محال ليس في الوجود و التحقّق، بل في الفرض و التصوّر. و هذه الوحدة وحدة بالصرافة، إذ ينتهي إليه كلّ ما يُفرض غيره بواسطة عمومه و شموله) وَ الخَالِقِ لَا بِمَعْنَى حَرَكَةٍ وَ نَصَبٍ، وَ السَّمِيعِ لَا بِأدَاةٍ، وَ البَصِيرِ لَا بِتَفْرِيقِ آلَةٍ (و هي نشر النور و تفريق الأمواج البصريّة من العين)، وَ الشَّاهِدِ لَا بِمُمَاسَّةٍ، وَ البَائِنِ لَا بِتَراخِي مَسَافَةٍ، وَ الظَّاهِرِ لَا بِرُؤْيَةٍ، وَ البَاطِنِ لَا بِلَطَافَةٍ. بَانَ مِنَ الأشْيَاءِ بِالقَهْرِ لَهَا وَ القُدْرَةِ عَلَيْهَا، وَ بَانَتِ الأشْيَاءُ
مِنْهُ بِالخُضُوعِ لَهُ وَ الرُّجُوعِ إلَيْهِ.
مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ، وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ، وَ مَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أبْطَلَ أزَلَهُ (إذ لا بدّ من تحرّي المعدودات في المحدودات، و لمّا كان وجود الحدّ يناقض وجوب و جوده و أزليّته. لهذا من قال بعدّ الباري تعالى، فقد أبطل وجوب وجوده، و من ثمّ أزليّته و سرمديّته). وَ مَنْ قَالَ: كَيْفَ؟ فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ. وَ مَنْ قَالَ: أيْنَ؟ فَقَدْ حَيَّزَهُ. عَالِمٌ إذْ لَا مَعْلُومٌ. وَ رَبٌّ إذْ لَا مَرْبُوبٌ. وَ قَادِرٌ إذْ لَا مَقْدُورٌ۱ (صفاته الذاتيّة كالعلم، و القدرة، و الربوبيّة من ذاته. و لذلك، فهذه الحقائق موجودة في ناحية الذات بحقيقتها، و إن لوحظ متعلّقها من معلوميّة الموجودات و مقدوريّتها و مربوبيّتها في مراتب واطئة).
السادس: الخطبة الحادية و الستّون و المائة من «نهج البلاغةّ»:
الحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ العِبَادِ، وَ سَاطِحِ المِهَادِ، وَ مُسِيلٍ الوِهَادِ، وَ مُخْصِبِ النِّجَادِ. لَيْسَ لأوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ، وَ لَا لأزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ. هُوَ الأوَّلُ لَمْ يَزِلْ، وَ البَاقِي بِلَا أجَلٍ (لأنّه قديم بِقِدَم ذاتيّ و دهريّ و زمانيّ). خَرَّتْ لَهُ الجِبَاهُ، وَ وَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ. حَدَّ الأشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا (بدون حدّ و قيد) لَا تُقَدِّرُهُ الأوْهَامُ بِالحُدُودِ وَ الحَرَكَاتِ، وَ لَا بِالجَوَارِحِ وَ الأدَوَاتِ.
لَا يُقَالُ لَهُ: مَتَى؟ (لأنّه ليس في زمان، بل الزمان ذاته مخلوقه و المحاط به من قِبَلِه) وَ لَا يُضْرَبُ لَهُ أمَدٌ بِحَتَّى (لأنّ هذه الكلمة لتعيين النهاية و الغاية، و الله لا غاية له و هو محيط بالغايات و الأزمنة)، الظَّاهِرُ لَا يُقَالُ: مِمَّا؟ (إذ إنّه ليس ممكن الوجود، و ليس له مادّة و مدّة)، وَ البَاطِنُ لَا يُقَالُ: فِيمَا؟ (ذلك أنّه ليس له مادّة و محلّ و مكان)، لَا شَبَحٌ فَيَتقَضَّى،
وَ لَا مَحْجُوبٌ فَيُحْوى. لَمْ يَقْرُبْ مِنَ الأشْيَاءِ بِالتِصَاقٍ، وَ لَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ. لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ، وَ لَا كُرُورِ لَفْظَةٍ، وَ لَا ازْدِلَافُ رَبْوَةٍ (اقتراب محلّ مرتفع)، وَ لَا انْبِسَاطُ خُطْوَةٍ في لَيْلٍ دَاجٍ وَ لَا غَسَقٍ سَاجٍ، يَتَفَيَّا عَلَيْهِ القَمَرُ المُنِيرُ، وَ تَعْقُبُهُ الشَّمْسُ ذَاتُ النُّورِ في الافُولِ وَ الكُرُورِ، وَ تَقَلُّبِ الأزْمِنَةِ وَ الدُّهُورِ مِنْ إقْبَالِ لَيْلٍ مُقْبِلٍ، وَ إدْبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ. (في جميع هذه الليالي المظلمة التي تتعاقب و تتخالف إلى أبد الدهر بهذه الوسيلة، لا يخفى على الله -حتى في لحظة واحدة- شيء مختصر منها و لو بقدر لحظة و خطوة).
قَبْلَ كُلِّ غَايَةٍ وَ مُدَّةٍ وَ كُلِّ إحْصَاءٍ وَ عِدَّةٍ (هو أزَلُ الآزال و أبد الآباد و هو السرمد على الإطلاق). تعالى عَمَّا يَنْحَلُهُ المُحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ الأقْدَارِ، وَ نِهَايَاتِ الأقْطَارِ، وَ تَأثُّلِ المَسَاكِنِ، وَ تَمَكُّنِ الأمَاكِنِ. فَالحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ، وَ إلَى غَيْرِهِ مَنْسُوبٌ.
لَمْ يَخْلُقِ الأشْيَاءَ مِنْ اصُولٍ أزَلِيَّةٍ، وَ لَا أوَائِلَ أبَدِيَّةٍ. (بل أوجد الموجودات من عدم محض و كَتْم العدم) بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأقَامَ حَدَّهُ، وَ صَوَّرَ مَا صَوَّرَ فَأحْسَنَ صُورَتَهُ. (بلا مادّة و أصل كان موجوداً من قبل) لَيْسَ لِشَيءٍ مِنْهُ امْتِنَاعٌ، وَ لَا لَهُ بِطَاعَةِ شَيءٍ انْتِفَاعٌ. عِلْمُهُ بِالأمْوَاتِ المَاضِينَ كَعِلْمِهِ بالأحْيَاءِ البَاقِينَ، وَ عِلْمُهُ بِمَا في السَّمَاوَاتِ العُلَى كَعِلْمِهِ بِمَا في الأرَضِينَ السُّفْلَى.۱
السابع: الخطبة الرابعة و الثمانون و المائة من خطب «نهج البلاغة»:
مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ، وَ لَا حَقِيقَتَهُ أصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ (لأنّ مثلَ كلّ شيء إمّا مثله في ذاته أو في بعض أجزائه أو صفاته. و الله تعالى لا مثل له و لا شريك
في ذاته، و إلّا كان محتاجاً إلى مميّز من خارج ذاته يميّزه عن الشريك. و ليس له مثل في الأجزاء، لأنّه ليس جزءاً أساساً، و إلّا كان مركّباً، و التركيب من صفات الإمكان، و هو تعالى واجب. و ليس له مثل في الصفات، لعدم اتّصافه بصفات زائدة على الذات). وَ لَا إيَّاهُ عَنَي مَنْ شَبَّهَهُ، وَ لَا صَمَدَهُ (قَصَدَهُ) مَنْ أشَارَ إلَيْهِ وَ تَوَهَّمَهُ. (لأنّه ليس له جهة، و هو منزّه من كلّ إشارة حسّيّة أو وهميّة أو عقليّة لعدم إحاطة الحسّ و الوهم و العقل بكُنه ذاته المقدّسة من كلّ حيثيّة) كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ، وَ كُلُّ قَائِمٍ في سِوَاهُ مَعْلُولٌ. فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ، مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ، غَنِيّ لَا بِاسْتَفَادَةٍ. لَا تَصْحَبُهُ الأوْقَاتُ. (لأنّ الوقت و الزمان معلولان له، و في مرتبة أوطأ) وَ لَا تَرْفِدُهُ الأدَوَاتُ. سَبَقَ الأوْقَاتَ كَوْنُهُ، وَ العَدَمَ وُجُودُهُ، وَ الابْتِدَاءَ أزَلُهُ.
بِتَشْعِيرِهِ المَشَاعِرَ عُرِفَ أنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ. (إذ إنّ تشعير المشاعر و الحواسّ تجهيزها و إعدادها و منحها الاستعداد بكيفيّة إذا دخلتها الموادّ تنفعل انفعالًا خاصّاً يقال له: الإحساس. و لهذا فكلّ حسّ من الحواسّ منفعل دائماً. أي: هو في حالة القبول. و الله فاعل لا منفعل. أمّا كَونُهُ فاعلًا فلأنّا قلنا: شعّر المشاعر و جعل فيها الإحساس، و لذلك لا يمكن أن يكون منفعلًا من مصنوعاته). وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الامُورِ عُرِفَ أنْ لَا ضِدَّ لَه. (لأنّه إذا كانت له طبيعة تضادّ شيئاً، فانّ ما أوجده من الموجودات ينحصر في الأشياء التي توافق و تلائم تلك الطبيعة لا أنّها تضادّها و تنافرها. إنّ خلق الأشياء المتضادّة دليل على عدم وجود ضدّ له) وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الأشْيَاءِ عُرِفَ أنْ لَا قَرِينَ لَهُ. ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ، وَ الوُضُوحَ بِالبُهْمَةِ، وَ الجُمُودَ بِالبَلَلِ، وَ الحَرُورَ بِالصَّرَدِ (الحرّ بالبرد). مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعادِيَاتِهَا، (كالماء و النار) مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا، مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا، مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا.
لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ، (إنّ أي حدٍّ من الحدود و القيود في الملك و الملكوت بالمعنى الأعمّ، أي: عالم الطبع و الحسّ و المثال و العقل، و الناسوت و الملكوت بالمعنى الأخصّ و الجبروت، حتى الأسماء و الصفات بحدودها لا بحقائقها، أي: اللاهوت، كلّ ذلك لا يستوعبه و لا يحويه، و لا يحدّ وجودَه البحت البسيط الدائم السرمديّ. حتى أنّ اسم «لا يزال» و اسم الوجود البسيط هو اسم و تعبير. و أنّ ذاته المقدّسة فوق كلّ اسم و رسم، و فوق كلّ ما ينطبق عليه مفهوم الاسم) وَ لَا يُحْسَبُ بِعَدٍّ، وَ إنَّمَا تَحُدُّ الأدَوَاتُ أنْفُسَهَا، (كالحواسّ و المدركات الفكريّة و الذهنيّة) وَ تُشِيرُ الآلَةُ إلَى نَظَائِرِهَا (و ذاته المقدّسة أسمى و أعلى من كلّ ضرب من ضروب التحديد بالأدوات الفكريّة و الآلات النفسيّة و العقليّة) مَنَعَتْها «مُنْذُ» القِدَمِيَّةَ (إنّ ما نقوله في الموجودات: إنّها وُجدت منذ ذلك الزمان (مُنْذ وُجِدَ) يمنع قِدَمَهَا و يدلّ على حدوثها. أمّا «الله» تعالى، فلا يمكن أن يقال له: كان «منذ» ذلك الزمان)، وَ حَمَتْهَا «قَدْ» الأزَلِيَّةَ، (و ما نقوله: إنّ الموجود الفلانيّ (قد وُجِدَ) في وقت قريب لتقريب تناهى الزمان يزيل أزليّته. على عكس الخالق جلّ و علا إذ لا يقال له: قَدْ وُجِدَ) وَ جَنَّبَتْهَا «لَوْ لَا» التَّكْمِلَةَ. (و أنّ قولنا: لو لا خالق الموجودات، ما وُجِدَت (لو لا خالقه ما وُجِدَ) يسلب كمالها، و يختم على ناصيتها بختم النقصان. على عكس الباري تعالى، فانّه كامل بذاته، و وجوده ليس من غيره، و لا يقال له: لو لا فلانٌ مَا وُجِدَ). بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ، وَ بِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ العُيُونِ. لَا يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ وَ الحَرَكَةُ، (و لا يمكن أن يقال له: ساكن و متحرّك) وَ كَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أجْرَاهُ؟ وَ يَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أبْدَاهُ، وَ يُحْدِثُ فِيهِ مَا هُوَ أحْدَثَهُ؟ إذَاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ، وَ لَتَجَزَّأ كُنْهُهُ، (لأنّ الأجسام قابلة للتجزئة و الانقسام) وَ لَامْتَنَعَ مِنَ الأزَلِ مَعْنَاهُ، وَ لَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إذْ وُجِدَ لَهُ أمَامٌ، وَ لَالْتَمَسَ التَّمَامَ
إذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ، (لتصل قواه إلى الفعليّة) وَ إذَاً لَقَامَتْ آيَةُ المَصْنُوعِ فِيهِ، وَ لَتَحَوَّلَ دَلِيلًا بَعْدَ أنْ كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ. (بعد أن كان وجوده الأقدس مدلولًا عليه بالموجودات و الأشياء و الممكنات، فاذا الموضوع ينقلب فيصبح هو نفسه دليلًا على صانع و خالق). وَ خَرَجَ بِسُلْطَانِ الامْتِنَاعِ مِنْ أنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ في غَيْرِهِ.
الَّذِي لَا يَحُولُ، وَ لَا يَزُولُ، وَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الافُولُ، وَ لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً، (إنّ التولّد -مهما كان- يستلزم الإمكان و المحدوديّة، سواء كان عن طريق التناسل المعروف، أم كان بواسطة النموّ كتولّد النباتات من العناصر، أم كان عن طريق الإيجاد و الإخراج من الذات. لذلك فانّ الذين يرون وجود الله محدوداً بوجود الأشياء و الممكنات، و يعتقدون بوجود الأصالة و الاستقلال في الموجودات، و لو على نحو مختصر و مجمل، يحسبون الموجودات منحازة و منفصلة عن الحقّ تعالى، و يخالون أنّ المتولّدات منه تعالى، و إن لم يصرّحوا بهذا التولّد. و أنّ إيجاد الموجودات ليس على نحو الوجود الاستقلاليّ، لا في الذات، و لا في الصفة، و لا في الفعل، بل هو ظهور ذات الحقّ فقط في مجال الإمكان و مظاهره، و وجودها تبعيّ و ظلّيّ و غير استقلاليّ في مقابل و جود ذات الحقّ الذي هو و جود أصيل و حقيقيّ و استقلاليّ. و أنّ وجود الممكنات ظهور، و إيجاد الحقّ تعالى إظهار وجود ذاته لا غير، فتأمّل) وَ لَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً. جَلَّ عَنِ اتَّخَاذِ الأبْنَاءِ، وَ طَهُرَ عَنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ. لَا تَنَالُهُ الأوْهَامُ فَتُقَدرَهُ، وَ لَا تَتَوَهَّمُهُ الفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ، وَ لَا تُدْرِكُهُ الحَوَاسُّ فَتَحُسَّهُ، وَ لَا تَلْمِسُهُ الأيْدِي فَتَمَسَّهُ. لَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ، وَ لَا يَتَبَدَّلُ بِالأحْوَالِ، وَ لَا تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَ الأيَّامُ، وَ لَا يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَ الظَّلَامُ، وَ لَا يُوصَفُ بِشَيءٍ مِنَ الأجْزَاءِ، وَ لَا بِالجَوَارِحِ وَ الأعْضَاءِ، وَ لَا بِعَرَضٍ مِنَ الأعْرَاضِ، وَ لَا بِالغَيْرِيَّةِ
وَ الأبْعَاضِ، وَ لَا يُقَالُ: لَهُ حَدٌّ وَ نِهَايَةٌ، وَ لَا انْقِطَاعٌ وَ لَا غَايَةٌ، وَ لَا أنَّ الأشْيَاءَ تَحْوِيِهِ فَتُقِلَّهُ (تسيطر عليه فترفعه) أوْ تُهْوِيهِ (تُسقِطُه)، أوْ أنَّ شَيئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ أوْ يُعَدِّلَهُ.
لَيْسَ في الأشْيَاءِ بِوَالِجٍ، وَ لَا عَنْهَا بِخَارِجٍ. يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ وَ لَهَواتٍ، وَ يَسْمَعُ لَا بِخُروقٍ وَ أدَوَاتٍ. يَقُولُ وَ لَا يُلْفِظُ، وَ يَحْفَظُ وَ لَا يَتَحَفَّظُ، وَ يُرِيدُ وَ لَا يُضْمِرُ، يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ، وَ يُبْغِضُ وَ يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ. يَقُولُ لِمَنْ أرَادَ كَوْنَهُ: «كُنْ» فَيَكُونَ، لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ، وَ لَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ؛ وَ إنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أنْشَأهُ وَ مَثَّلَهُ، (كالقرآن و جميع الكائنات و الموجودات التي هي كلماته) لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً، (فيكون حادثاً) وَ لَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إلَهَاً ثَانِيَاً.
لَا يُقَالُ: كَانَ بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجْرِي عَلَيْهِ الصِّفَاتُ المُحْدَثَاتُ، وَ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ فَصْلٌ، وَ لَا لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِي الصَّانِعُ وَ المَصْنُوعُ، وَ يَتَكَافَا المُبْتَدِئُ (المُبْتَدِعُ) وَ البَدِيعُ.
خَلَقَ الخَلائِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ، وَ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، وَ أنْشَأ الأرْضَ فَأمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ، وَ أرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ، وَ أقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ، وَ رَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ، وَ حَصَّنَهَا مِنَ الأوَدِ و الاعْوِجَاجِ، وَ مَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَ الانْفِرَاجِ. أرْسَى أوْتَادَهَا، وَ ضَرَبَ أسْدَادَهَا، (أقام الجبال في كلّ إقليم بما يناسبه من أجل حفظه) وَ اسْتَفَاضَ عُيُونَهَا، وَ خَدَّ أوْدِيَتَهَا. فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ، وَ لَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ. هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَ عَظَمَتِهِ، وَ هُوَ البَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَ مَعْرَفَتِهِ، وَ العَالِي عَلَى كُلِّ شَيءٍ مِنْهَا بِجَلَالِهِ وَ عِزَّتِهِ. لَا يُعْجِزُهُ شَيءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ، وَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ، وَ لَا يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسبِقَهُ، وَ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ.
خَضَعَتِ الأشْيَاءُ لَهُ وَ ذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ، لَا تَسْتَطِيعُ الهَرَبَ مِنْ
سُلْطَانِهِ إلَى غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَ ضَرِّهِ، وَ لَا كُفوَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ، وَ لَا نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيهِ. هُوَ المِفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا حتى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا. (و تُسْتَبْدَلُ صفحة عالم العدم بصفحة عالم الوجود بمظاهرها و ظواهرها) وَ لَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأعْجَبَ مِنْ إنْشَائِهَا وَ اخْتِرَاعِهَا. وَ كَيْفَ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَ بَهَائِمِهَا، وَ مَا كَان من مُراحِهَا (ما اخذ إلى حظيرته ليلًا) وَ سَائِمِهَا (التي تُطلق و ترعى في المراتع) وَ أصْنَافِ أسْنَاخِهَا وَ أجْنَاسِهَا، وَ مُتَبَلِّدَةِ امَمِهَا وَ أكْيَاسِهَا عَلَى إحْدَاثِ بِعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إحْدَاثِهَا، وَ لَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إلَى إيجَادِهَا، وَ لَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا في عِلْمِ ذَلِكَ وَ تَاهَتْ، وَ عَجَزَتْ قُوَاهَا وَ تَنَاهَتْ، وَ رَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً عَارِفَةً بِأنَّهَا مَقْهُورَةٌ، (و مغلوبة بقوّة الله و سيطرة سلطانه) مُقِرَّةً بِالعَجْزِ عَنْ إنْشَائِهَا، مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إفْنَائِهَا. (لأنّ إفناءها أيضاً بأساب هي بِيَدِ الله، فاذا لم يَشَأ، لم تستطع أن تُهيّئ الأسباب، و يمكن أن يفيض الله تعالى على تلك البعوضة بقدرة تساوي قدرة أهل الدنيا كلّهم، و تغلبهم بها).
وَ إنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا شَيءِ مَعَهُ، كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتَدِائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا بِلَا وَقْتٍ وَ لَا مَكَانٍ، وَ لَا حِينٍ وَ لَا زَمَانٍ. عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الآجَالُ وَ الأوْقَاتُ، وَ زَالَتِ السِّنُونَ وَ السَّاعَاتُ، فَلَا شَيءَ إلَّا اللهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ الذي إلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الامُورِ.
بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا، وَ بِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا. وَ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى الامْتِنَاعِ دَامَ بَقَاؤُهَا. لَمْ يَتَكَاءَدْهُ (لم يعسر عليه) صُنْعُ شَيءٍ مِنْهَا إذْ صَنَعَهُ، وَ لَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا خَلَقَهُ وَ بَرَأهُ، وَ لَمْ يُكَوّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ، وَ لَا خَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَ نُقْصَانٍ، وَ لَا لِلاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِر، (شبيه له قويّ منازع) وَ لَا لِلاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثاوِرٍ، (ضدّ يخاصم و يعاند) وَ لَا لِلازْدِيَادِ بِهَا في مُلْكِهِ، وَ لَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ في شِرْكِهِ،
وَ لَا لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فَأرَادَ أنْ يَسْتَأنِسَ إلَيْهَا.
ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينَها، لَا لِسَأمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ في تَصْرِيفِهَا وَ تَدْبِيرِهَا، وَ لَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إلَيْهِ، وَ لَا لِثِقْلِ شَيءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ. لَمْ يُمِلَّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوهُ إلَى سُرْعَةِ إفْنَائِهَا، لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ، وَ أمْسَكَهَا بِأمْرِهِ، وَ أتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ، ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إلَيْهَا، وَ لَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا، وَ لَا لانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إلَى حالِ اسْتِئْنَاسٍ، وَ لَا حَالِ جَهْلٍ وَ عَمى إلَى حَالِ عِلْمٍ وَ التِمَاسٍ؛ وَ لَا مِنْ فَقْرٍ وَ حَاجَةٍ إلَى غِنًى وَ كَثْرَةٍ، وَ لَا مِنْ ذُلٍّ وَ ضَعَةٍ إلَى عِزٍّ وَ قُدْرَةٍ.۱
تمّت هذه الخطبة المباركة هنا، و لمّا كانت تحتوي على موضوعات رائعة سامقة جدّاً، فقد أتينا عليها كلّها مع بعض التوضيحات. قال الشريف الرضيّ جامع «نهج البلاغة»: تجمع هذه الخطبة من اصول العلم ما لا تجمعه خطبة.٢
الثامن: جواب أمير المؤمنين عليه السلام لأعرابيّ يوم الجمل في معنى التوحيد: روى الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن بابويه القمّيّ في كتاب «التوحيد» و كتاب «الخصال» بسند متّصل، و في كتاب «معاني الأخبار» بسند متّصل آخر، و كلا السندين عن المقدام بن شُرَيحْ بن هانئ، عن أبيه أنّ أعرابيّاً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فقال:
يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! أ تَقُولُ: إنَّ اللهَ وَاحِدٌ؟ قَالَ: فَحَمَلَ النَّاسُ عَلَيْهِ،
قَالُوا: يَا أعْرَابِيّ! أ مَا تَرَى مَا فِيهِ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ مِنْ تَقَسُّمِ القَلْبِ؟ (أي سؤالٍ هذا في تلك الجلبة و هجوم الهموم و الغموم؟) فَقَالَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيهِ
السَّلَامُ: دَعوُهُ فَانَّ الذي يُرِيدُهُ الأعْرَابِيّ هُوَ الذي نُرِيدُهُ مِنَ القَوْمِ. (أصحاب الجمل).ثُمَّ قَالَ: يَا أعْرَابِيّ! إنَّ القَوْلَ في أنَّ اللهَ وَاحِدٌ عَلَى أرْبَعَةِ أقْسَامٍ: فَوَجْهَانِ مِنْهَا لَا يَجُوزَانِ عَلَى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ، وَ وَجْهَانِ يَثْبُتَانِ فِيهِ.
فَأمَّا اللَّذَانِ لَا يَجُوزَانِ عَلَيْهِ، فَقُولُ القَائِلِ: وَاحِدٌ يَقْصِدُ بِهِ بَابَ الأعْدَادِ. فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ، لأنَّ مَا لَا ثَانِيَ لَهُ لَا يَدْخُلُ في بَابِ الأعْدَادِ. أ مَا تَرَى أنَّهُ كَفَرَ مَنْ قَالَ: ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ؟ (الأب، و الابن، و رُوحُ القُدُس. أو الذات، و العلم، و الحياة) وَ قَوْلُ القَائِلِ: هُوَ وَاحِدٌ مِنَ النَّاسِ، يُرِيدُ بِهِ النَّوْعَ مِنَ الجِنْسِ.۱ فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، لأنَّهُ تَشبِيهٌ، وَ جَلَّ رَبُّنَا عَنْ ذَلِكَ وَ تعالى.
وَ أمَّا الوَجْهَانِ اللَّذَانِ يَثْبُتَانِ فِيهِ: فَقَوْلُ القَائِلِ: هُوَ وَاحِدٌ لَيْسَ لَهُ في الأشْيَاءِ شِبْهٌ، كَذَلِكَ رَبُّنَا. وَ قَوْلُ القَائِلِ: إنَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ أحَدِيّ المَعْنَى، يَعْنِي بِهِ أنَّهُ لَا يَنْقَسِمُ في وُجُودٍ وَ لَا عَقْلٍ وَ لَا وَهْمٍ. كَذَلِكَ رَبُّنَا عَزَّ وَ جَلَّ.٢
التاسع: كلام الإمام -على ما نقل الشيخ المفيد في «الإرشاد»- في وجوب المعرفة بالله تعالى، و التوحيد له، و نفي التشبيه عنه، و الوصف لعدله، و صنوف الحكمة و الدلائل. فقد روى أبو بكر الهُذليّ، عن الزهريّ، و عيسى بن يزيد، عن صالح بن كيسان أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال في الحثّ على معرفة الله تعالى و التوحيد له:
أوَّلُ عِبَادَةِ اللهِ مَعْرِفَتُهُ، وَ أصْلُ مَعْرِفَتِهِ تَوْحِيدُهُ، وَ نِظَامُ تَوْحِيدِهِ نَفْي التَّشْبِيهِ عَنْهُ.۱ جَلَّ عَنْ أنْ تَحِلَّهُ الصِّفَاتُ، لِشَهَادَةِ العُقُولِ أنَّ كُلَّ مَنْ حَلَّتْهُ الصِّفَاتُ مَصْنُوعٌ، وَ شَهَادَةِ العُقُولِ أنَّهُ جَلَّ وَ عَلَا صَانِعٌ لَيْسَ بِمَصْنُوعٍ.
بِصُنْعِ اللهِ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ، وَ بِالعُقُولِ يُعْتَقَدُ مَعْرِفَتُهُ، وَ بِالنَّظَرِ تَثْبُتُ حُجَّتُهُ. جَعَلَ الخَلْقِ دَلِيلًا عَلَيْهِ فَكَشَفَ بِهِ عَنْ رُبُوبِيَّتِهِ. هُوَ الوَاحِدُ الفَرْدُ في أزَلِيَّتِهِ، لَا شَرِيكَ لَهُ في إلَهِيَّتِهِ، وَ لَا نِدَّ لَهُ في رُبُوبِيَّتِهِ. بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الأشْيَاءِ المُضَادَّةِ، عُلِمَ أنْ لَا ضِدَّ لَهُ، وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الامُورِ المُقْتَرِنَةِ، عُلِمَ أنْ لَا قَرِينَ لَهُ. في كَلَامٍ طَوِيلٍ يَطُولُ بِإثْبَاتِهِ الكِتَابُ.٢
و ذكر الشيخ المفيد بعد هذا الكلام أيضاً أنّ ممّا حفظ عنه عليه السلام في نفي التشبيه عن الله تعالى ما رواه الشعبيّ، قال: سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلًا يقول: وَ الذي احْتَجَبَ بِسَبْعٍ طِبَاقٍ، فعلاه بالدِّرّة، ثمّ قال له: وَيْلَكَ! إنَّ اللهَ أجَلُّ مِنْ أنْ يَحْتَجِبَ عَنْ شَيءٍ، أوْ يَحْتَجَبَ عَنْهُ شَيءٌ.
سُبحَانَ الذي لَا يَحْوِيهِ مَكَانٌ، وَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ في الأرْضِ وَ لَا في السَّمَاءِ.
فقال الرجل: أ فأكفّر عن يميني، يا أمير المؤمنين؟ قال: لَا، إنَّكَ لَمْ تَحْلِفْ بِاللهِ فَتَلْزِمَكَ كَفَّارَةُ الحَنْثِ، وَ إنَّمَا حَلَفْتَ بِغَيْرِهِ.۱
العاشر: كلامه عليه السلام في خطبة اخرى أحدثت انقلاباً حقّاً بعباراتها الموجزة في عرض التوحيد الخالص، و عدم تعدّد ذات الحقّ تعالى. و ذكر الشيخ الطبرسيّ هذه الخطبة في «الاحتجاج» فقال: قال عليه السلام:
دَلِيلُهُ آيَاتُهُ، وَ وُجُودُهُ إثْبَاتُهُ، وَ مَعْرَفِتُهُ تَوْحِيدُهُ، وَ تَوْحِيدُهُ تَمِييزُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَ حُكْمُ التَّمِييزِ بَيْنُونَةُ صِفَةٍ لَا بَيْنُونَةُ عُزْلَةٍ. إنَّهُ رَبٌّ خَالِقٌ غَيْرُ مَرْبُوبٍ مَخْلُوقٍ، كُلُّ مَا تُصُوِّرَ فَهُوَ بِخَلَافِهِ.
ثمّ قال عليه السلام: لَيْسَ بِإلَهٍ مَنْ عُرِفَ بِنَفْسِهِ. هُوَ الدَّالُّ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَ المُؤدِّيّ بِالمَعْرِفَةِ إلَيْهِ.٢
الحادي عشر: الخطبة الثالثة و الثمانون و المائة من خطب «نهج البلاغة»:
الحَمْدُ لِلَّهِ الذي لَا تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ، وَ لَا تَحْوِيهِ المَشَاهِدُ، وَ لَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ، وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ، الدَّالُّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ، وَ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ، وَ بِاشتِبَاهِهِمْ عَلَى أنْ لَا شِبْهَ لَهُ. الذي صَدَقَ في مِيعَادِهِ، وَ ارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ، وَ قَامَ بِالقِسْطِ في خَلْقِهِ، وَ عَدَلَ عَلَيْهِمْ في حُكْمِهِ.
مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الأشْيَاءِ عَلَى أزَلِيَّتِهِ، وَ بِمَا وَ سَمَهَا بِهِ مِنَ العَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ، وَ بِمَا اضْطَرَّهَا إلَيْهِ مِنَ الفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ.
وَاحِدٌ لَا بِعَدِدٍ، وَ دَائِمٌ لَا بِأمَدٍ، وَ قَائِمٌ لَا بِعَمَدٍ.
تَتَلَقَّاهُ الأذْهَانُ لَا بِمُشَاعَرَةٍ، وَ تَشْهَدُ لَهُ المَرَائِي لَا بِمُحَاضَرَةٍ. لَمْ تُحِطْ بِهِ الأوْهَامُ، بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا (إذ إنّ معرفة الله تتمّ عبر هذه الأفكار)، وَ بِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا (ذلك أنّ القوى الوهميّة عاجزة عن إدراك المعاني الكلّيّة و المجرّدات، بما فيها واجب الوجود المجرّد من جميع الجهات)، وَ إلَيْهَا حَاكَمَهَا (لأنّ الأوهام جميعها حائرة في معرفته، معترفة بعدم إمكانها، مذعنة بعجزها و حقارتها أمام عظمته و علوّ شأنه و رفعته). لَيْسَ بِذِي كِبَرٍ امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيَماً، وَ لَا بِذِي عِظَمٍ تَنَاهَتْ بِهِ الغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيدَاً، بَلْ كَبُرَ شَأناً، وَ عَظُمَ سُلْطَاناً- الخطبة.۱
الثاني عشر: رواية رواها الشيخ الصدوق في «معاني الأخبار» بسنده المتّصل عن عمر بن عليّ بن أبي طالب، عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله:
التَّوْحيدُ ظَاهِرُهُ في بَاطِنِه، وَ بَاطِنُهُ في ظَاهِرِهِ. ظَاهِرُهُ مَوْصُوفٌ لَا يُرَى، وَ بَاطِنُهُ مَوْجُودٌ لَا يَخْفَى، يُطْلَبُ بِكُلِّ مَكَانٍ، وَ لَمْ يَخْلُ مِنْهُ مَكَانٌ طَرْفَةَ عَيْنٍ. حَاضِرٌ غَيْرُ مَحْدُودٍ، وَ غَائِبٌ غَيْرُ مَفْقُودٍ.٢
هذه الأحاديث الأثنا عشر تمثّل نموذجاً من الأحاديث المأثورة عن
أئمّة الشيعة في توحيد الذات الإلهيّة المقدّسة. و أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو فاتح هذا الباب، و حلّال هذه المسألة للُامّة، إذ بيّن للناس بمنطقهِ البليغِ التوحيدَ الذي منحه الحقُّ سبحانه و تعالى خاتمَ أنبيائه صلى الله عليه و آله.
توضيح و تفسير التوحيد الحقّ الحقيقيّ لذات الحقّ تعالى
و مجمل هذه الحقيقة هو أنّ الذات الإلهيّة المقدّسة تامّة، بل فوق التمام، و ما لا يتناهى بما لا يتناهى، أي: هي غير متناهية أزلًا و أبداً و سرمداً و وجوداً و سعة و عموماً و إطلاقاً و اسماً و صفة و فعلًا. و لا تخضع لحدّ و قيد و قياس بأيّ وجه من الوجوه. و ما يلزم هذا الوجود هو الوجوب و الوحدة. و الوحدة أعظم صفة من صفات الله عزّ شأنه، و هي ليست من سنخ الوحدات العدديّة، و النوعيّة، و الجنسيّة و ما شابهها ممّا تتّصف به الممكنات، بل هي الوحدة الحقّة الحقيقيّة المعبَّر عنها بالوحدة بالصِّرافة. أي: الوحدة التي يستحيل مع وجودها فرض إمكان تعدّدها، و كلّ ما يُفْرَضُ في قبالها، يعود إليه نفسه. و أنّ ما تستلزمه هذه الوحدة هو تشخّص الوجود و الأصالة و الثبوت، التي هي عين الوجود و التحقّق.
فلهذا، أنّ وجوده المقدّس على درجة من السعة و الإطلاق و عدم التناهي بالحدود، بحيث إنّه حاضر في كلّ مكان، و مراقب في كلّ زمان، و هو مع الموجودات كلّها، وَ بَأسْمَائِكَ التي مَلأتْ أرْكَانَ كُلِّ شَيءٍ ... وَ بِنُورِ وَجْهِكَ الذي أضَاءَ لَهُ كُلُّ شَيءٍ.۱
و لا يمكن فرض شيء في مكان و زمان لا يكون فيه حاقّ وجوده و لبّ ثبوته، و إلّا ينعزل منه، و يُحَدُّ وجوده به. و ذات الله بوحدتها
و بساطتها موجودة مع كلّ شيء. وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ.۱ و كلّ شيءٍ قائم به، و حاضر عنده.
و الله تعالى لا يغيب عن شيء، و لا يغيب عنه شيء، و لا يفقد منه شيء، و لا يخلو منه مكان و لو بقدر غمضة عين. هو في كلّ مكان، و هو محيط بكلّ شيء. وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.٢ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ.٣
إن وجود الموجودات أوّلا و بالذات قائم به، و ثانياً و بالعرض من أجله. و لقد طُبع على ناصيتها بختم الإمكان، و إنّها لمعلولة و مخلوقة و ضعيفة و فقيرة و عاجزة و إنّ وجود الله البحت و البسيط و المطلق قوام الموجودات بأسرها، و الأصل الأصيل للأشياء برمّتها. هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.٤
إن الأوصاف التي تتّصف بها الذات الإلهيّة كالحياة، و العلم، و القدرة هي مفاهيم يدركها العقل، و يثبت برهانها لذاته. و هذه المفاهيم بما هي مفاهيم محدودة و متمايزة فيما بينها، و لا سبيل لها في ذاته، و إلّا يلزم التركيب و الكثرة في ذاته، و تجتمع الصفات المتضادّة و المتعدّدة فيها.
و شأن المفهوم الكلّيّة و الكثرة، و لو ضممنا إليها ألف قيد، فلا يخرج عن الكثرة و المفهوم. مثلًا لو قلنا: علمه كبير و لا يتناهى، فهو مفهوم. و لو قلنا: علمه ليس كعلم سائر الموجودات، فهو أيضاً مفهوم و مثار الكثرة. فتكثير القيود لا يصنع منه شخصاً خارجيّاً، و لا يفصله عن الكثرة
و المفهوم. و أنّ مصداق هذه المفاهيم في الخارج، إذ هي الوجود الخارجيّ للأسماء و الصفات، محدودة و متمايزة بعنوانها، و لا مكان لها في الذات الإلهيّة، و ليس لها سبيل إلى تلك الذروة العالية، حتى تحوز عنوان الصفات و الكثرة. نعم، إذا فقدت صفة العلم و الحياة و القدرة و ما شابهها كثرتَها، و خَلُصَت من الحدود، أي: صارت حقيقة العلم بدون مفهومه و حدّه، و حقيقة الحياة بدون مفهومها و حدّها، و حقيقة القدرة بدون مفهومها و حدّها، فحينئذٍ أصبحت حقيقة واحدة هي نفس الذات، و عين العلم، و عين الحياة، و عين القدرة. لذلك لا صفة للذات في باطنها، و أنّ ما فيها هو عينها.
و سرّ هذا المطلب هو أنّ شأن المفهوم التناهي و المحدوديّة. و كلّ مفهوم منعزل عن المفهوم الآخر. فمفهوم العلم -و إن كان لا يتناهى- هو غير مفهوم القدرة، و مفهوم كلّ منهما هو غير مفهوم الحياة. و لذلك فهذه الأسماء و الصفات۱ كانت محدودة، و هي غير ذات الحقّ. و على الرغم من أنّها كلّها لا تتناهى، لكنّها لمّا كانت لها صبغة الغيريّة، فهي ما دون الذات، و في درجة أوطأ.
إن ما في الذات هو حاقّ العلم الذي هو ما فوق حدّه المفهوميّ، و حاقّ القدرة و الحياة الذي هو ما فوق حدّه المفهوميّ أيضاً. و في ذات الحيّ العليم القدير بساطة محضة و وحدة محضة. و هذه المفاهيم اندكّت و اضمحلّت و فنيت هناك، و فقدت حدودها بواسطة عظمتها و سيطرتها
و قدرتها و بساطتها المحضة و وحدتها الصافية الخالصة. و هناك تكون الحياة عين الذات، و العلم و القدرة عين الذات، و العلم عين القدرة، و القدرة عين الحياة، و كلّ واحدة من الصفات هي عين الصفات الاخرى.
و على أساس سعة ذاته هذه، و بساطته و عموميّته و إطلاقه الوجوديّ هذا، لا يمكن أن نتصوّر مكاناً و زماناً ليس فيهما الله الأحد بوجوده و وحدته و نوره و حياته و علمه و قدرته. إذ لا سبيل إلى تجزئة وجوده الأقدس و تكثيره، و لا تغاير و لا تمايز بين ظاهره و باطنه. فظاهره في باطنه، و باطنه في ظاهره. و إنّ اختلاف الظاهر و الباطن يعود إلى الحدّ الذي يفصل بينهما. و إذا رفعنا هذا الحدّ الذي هو في الله اعتباريّ لا حقيقيّ، يكونان شيئاً واحداً.
من هذا المنطلق هو موجود بوجوده في جميع الأشياء، بَيدَ أنّ عنوان الولوج و الدخول لا يعني الحلول و الاتّحاد. إذ لا معنى للثنائيّة هنا، و لا نلحظ إلّا التوحيد فحسب، بمعنى السعة الوجوديّة للتوحيد و تحقّقه، و هو ليس في الأشياء بسبب محدوديّة إنّيَّتها و ماهيّتها. و هذا هو المقصود من دُرر كلم أمير المؤمنين عليه السلام، إذ إنّ بينونته من الأشياء هي بينونة الصفة، لا بينونة العزلة.
أجل، إنّ هذا الضرب من تفسير التوحيد مختصّ بالقرآن الكريم و خاتم الأنبياء و المرسلين صلى الله عليه و آله أجمعين، و لم يُؤثَر عن سائر الكتب السماويّة و الأنبياء السابقين. و هذا هو أعظم أمر يدلّ على أشرفيّة القرآن و أفضليّة النبيّ الأعظم بالنسبة إلى سائر الكتب و الأنبياء.
و قال غوستاف لوبون الفرنسيّ في كتاب «حضارة العرب»: «إنّ التوحيد الذي أتى به نبيّ الإسلام محمّد أعلى و أرقى من توحيد عيسى المسيح».
لقد أخذ أمير المؤمنين عليه السلام حاقّ التوحيد و حقيقته من النبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله، و رسّخ ذلك في صُقع وجوده بقدم الثبات و سير العوالم اللامتناهية، و بلغ أعلى ذروة من مقام الإنسان الكامل، و إنّ التعابير التي أطلقها على الذات الأحديّة المقدّسة و صفاتها في هذه الخطب كلّها وجدانيّاته و مشاهداته الباطنيّة و السرّيّة، و مدركاته الحضوريّة و مكاشفاته الحقّة الحقيقيّة و علومه السرمديّة، إذ يرفع عنها الحجاب كالشمس المتألّقة، و يعرّف الناسَ محبوبه و معشوقه و مولاه.
كلام العلّامة الطباطبائيّ حول خطب الإمام عليه السلام في التوحيد
و قام سماحة استاذنا الأكرم العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله تعالى عليه بتفسير و توضيح بعض هذه الخطب في تفسير «الميزان» بنحو مفصّل.۱ ثمّ ذكر بعدها في بحث تاريخيّ قائلًا: القول بأنّ للعالم صانعاً، ثمّ القول بأنّه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكّري هذا النوع (البشريّ) تهديه إليه فطرته المركوزة فيه، حتى أنّ الوثنيّة المبنيّة على الإشراك، إذا أمعنّا في حقيقة معناها وجدناها مبنيّة على أساس توحيد الصانع، و إثبات شفعاء عنده ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى،٢ و إن انحرفت بعد عن مجراها، و آل أمرها إلى إعطاء الاستقلال و الأصالة لآلهة دون الله.
و الفطرة الداعية إلى توحيد الإله، و إن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة و الكبرياء ذاتاً و صفة، غير أنّ إلفة الإنسان و أنّه في ظرف حياته بالآحاد العدديّة من جانب، و بلاء الملّيّين بالوثنيّين و الثنويّين و غيرهم لنفي تعدّد الآلهة من جانب آخر سجّل عدديّة الوحدة، و جعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه.
و لذلك ترى المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديمة و اليونان و الإسكندريّة و غيرهم ممّن بعدهم يعطي الوحدة العدديّة، حتى صرّح بها مثل الشيخ الرئيس ابن سينا في كتاب «الشفاء». و على هذا المجرى يجري كلام غيره ممّن بعده إلى حدود الألف من الهجرة النبويّة. و أمّا أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطي أزيد من الوحدة العدديّة أيضاً في حين أنّ هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامّة؛ فهذا ما يتحصّل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة.
فالذي بيّنه القرآن الكريم من معنى التوحيد، فهو أوّل خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أنّ أهل التفسير و المتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة و التابعين، ثمّ الذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث و كتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثراً من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، و لا بسلوك استدلاليّ. و لم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلّا ما ورد في كلام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصّة. فانّ كلامه هو الفاتح لبابها، و الرافع لسترها و حجابها على أهدى السبيل و أوضح طريق من البرهان، ثمّ ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميّين بعد الألف الهجريّ،۱ و قد صرّحوا بأنّهم إنّما استفادوه من كلامه عليه السلام.
و هذا هو السرّ في اقتصارنا في البحث الروائيّ السابق على نقل نماذج
من غرر كلامه عليه السلام، لأنّ السلوك في هذه المسألة و شرحها من مسلك الاحتجاج البرهانيّ لا يوجد في كلام غيره عليه السلام ... و الجميع مبنيّة على صرافة الوجود و أحديّة الذات جلّت عظمته.
ثمّ ذكر العلّامة رضوان الله عليه في الهامش قائلًا: و للناقد البصير و المتدبّر المتعمّق أن يقضي عجباً من ما صدر من الهفوة من عدّة من العلماء الباحثين۱ حيث ذكروا أنّ هذه الخطب العلويّة الموضوعة في «نهج البلاغة» موضوعة دخيلة، و قد ذكر بعضهم أنّها من وضع الشريف الرضي رحمه الله.٢
و ليت شعري: كيف يسع للوضع و الدسّ أن يتسرّب إلى موقف
علميّ دقيق لم يقو بالوقوف عليه أفهام العلماء حتى بعد ما فتح عليه السلام بابه و رفع ستره قروناً متمادية إلى أن وفّق لفهمه بعد ما سير في طريق الفكر المترقّي مسير ألف سنة، و لا أطاق حمله غيره من الصحابة، و لا التابعون.
بل كلام هؤلاء الرامين بالوضع ينادي بأعلى صوته إنّهم كانوا يظنّون أنّ الحقائق القرآنيّة و الاصول العلميّة العالية ليست إلّا مفاهيم مبتذلة عامّيّة، و إنّما تتفاضل باللفظ الفصيح و البيان البليغ.۱
ذكرنا هذا النموذج هنا ليستبين أنّ ما جاء في الخطب و الروايات ليس مطالب مبتذلة عامّيّة، بل إنّ كثيراً منها يحتاج إلى فهم قويّ و برهان قويم. و من هذا المنطلق كان استاذنا سماحة العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه الزكيّة يرى أنّ تقوية الفكر و تصحيح القياس، و عموماً تعلّم المنطق و الفلسفة، أشياء ضروريّة؛ و كان يعتقد أنّ الفلسفة حلّالة العُقَد و الدليل الوحيد في هذا الباب قبل الرجوع إلى هذه الخزائن العلميّة و الدفائن الملكوتيّة لأهل البيت عليهم السلام.
و عند هذه النقطة نختم بحثنا في توحيد ذات الأحد المقدّس سبحانه و تعالى في ضوء هذه الخطب الثمينة العصماء، و اكتفينا ببحث مجمل حولها. و سيأتي بحث استدلاليّ مفصّل حول الوحدة الإلهيّة الحقّة الحقيقيّة، و الإفادة المفصّلة من هذه الخطب المباركة في كتابنا «اللهشناسي» (= معرفة الله) من دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة بِحَوْلِ اللهِ وَ قُوَّتِهِ، وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ.
و نعود الآن إلى كلام الإمام عليه السلام: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي،
و قوله الآخر: لَوْ ثُنِيَتْ لِيَ الوِسَادَةُ، و بشأن الكلام الأوّل، روى العلّامة البحرانيّ في «غاية المرام» عن طريق العامّة سبع روايات عن «مسند أحمد بن حنبل»، و الخوارزميّ، و الحمّوئيّ، و ابن أبي الحديد، و غيرهم،
و روى عن طريق الخاصّة سبع روايات أيضاً عن الصدوق في «الأمالي» و غيره، و تفسير محمّد بن عبّاس بن مروان، و «الأمالي» للشيخ الطوسيّ، و محمّد بن الحسن الصفّار في «بصائر الدرجات»، و الشيخ المفيد في «الأمالي».۱ و بشأن الكلام الثاني، روى فيه أربع روايات عن طريق العامّة، عن الخوارزميّ و ابن المغازليّ، و الحمّوئيّ، و روى تسع عشرة رواية عن طريق الخاصّة، عن الكلينيّ في «الكافي»، و المفيد في «الاختصاص»، و الصفّار في «بصائر الدرجات»، و الشيخ الطوسيّ في «الأماليّ».٢
و كان عبد الله بن الكوّاء أحد الخوارج الذين قُتلوا في النهروان. و عند ما كان في عداد أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، كان يسأله أسئلة في غير سَدَد ليؤذيه و يحرجه، متربّصاً صدور زلّة منه، حتى يتّخذها مستمسكاً للتشهير به و الإرجاف عليه.
جواب الإمام عليه السلام عن أسئلة عبد الله بن الكوّاء
و روى الشيخ الطبرسيّ عن الأصبغ بن نُباتة أنّه قال: كنتُ جالساً عند أمير المؤمنين عليه السلام، فجاء ابن الكوّاء فقال: يا أمير المؤمنين! من البيوت في قول الله عزّ و جلّ: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها.٣
(فأجابه الإمام جواباً وافياً). ثمّ سأل عن معنى قوله تعالى: وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ۱ (فأجاب الإمام أيضاً جواباً كافياً).٢
و عن الأصبغ بن نُباتة في رواية اخرى قال: سأل ابن الكوّاء أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أخبرني عن بصير بالليل و بصير بالنهار؟ و عن أعمى بالليل و أعمى بالنهار؟ و عن أعمى بالليل بصير بالنهار؟ و عن أعمى بالنهار بصير بالليل؟
فقال له: وَيْلَكَ! سَلْ عَمَّا يَعْنِيكَ وَ لَا تَسْألَ عَمَّا لَا يَعْنِيكَ. (ثمّ أجابه الإمام جواباً تامّاً) قال في آخره: وَيْلَكَ يَا بنَ الكَوَّاء! فَنَحْنُ بَنُو أبِي طَالِبٍ، بِنَا فَتَحَ اللهُ الإسْلَامَ وَ بِنَا يَخْتِمُهُ.
قال الأصبغ: لمّا نزل أمير المؤمنين عليه السلام من المنبر، تبعتُه، فقلتُ يا سيّدي يا أمير المؤمنين قوّيت قلبي بما بيّنتَ. فقال لي أمير المؤمنين عليه السلام:
يَا أصْبَغُ! مَنْ شَكَّ في وَلَايَتِي فَقَدْ شَكَّ في إيمَانِهِ، وَ مَنْ أقَرَّ بِوَلَايَتِي فَقَدْ أقَرَّ بِوَلَايَةِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ. وَلَايَتِي مُتَّصِلَةٌ بِوَلَايَةِ اللهِ كَهَاتَيْنِ -وَ جَمَعَ بَيْنَ إصْبَعَيه- يَا أصْبَغَ! مَنْ أقَرَّ بِوَلَايَتِي فَقَدْ فَازَ، وَ مَن أنْكَرَ وَلَايَتِي فَقَدْ خَابَ وَ خَسِرَ وَ هَوَى في النَّارِ، وَ مَنْ دَخَلَ في النَّارِ لَبِثَ فِيهَا أحْقَابَاً.٣
و روى الطبرسيّ أيضاً عن الأصبغ قال: خطبنا أمير المؤمنين عليه السلام على منبر الكوفة، فحمد الله و أثنى عليه، ثمّ قال: أيُّهَا النَّاسُ!
سَلُونِي فَإنَّ بَيْنَ جَوَانِحِي عِلْمَاً جَمَّاً. فقام إليه ابن الكوّاء فقال: يا أمير المؤمنين! الذَّارِياتِ ذَرْواً؟۱ قال: الرياح. قال: ما فَالْحامِلاتِ
وِقْراً؟ قال: السحاب. قال ما فَالْجارِياتِ يُسْراً؟ قال: السفن. قال: ما فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً؟ قال: الملائكة. قال: يا أمير المؤمنين؛ وجدتُ كتاب الله ينقض بعضه بعضاً.
قال الإمام: ثَكِلَتْكَ امُّكَ يَا بْنَ الكَوَّاء، كِتَابُ اللهِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضَاً وَ لَا يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضَاً، فَسَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ.
قال: يا أمير المؤمنين؛ سمعته يقول: رَبُّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ.٢ و قال في آية اخرى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ.٣ و قال في آية اخرى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ.٤
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ثكلتك امّك يا ابن الكوّاء، هذا المشرق و هذا المغرب. و أمّا قوله: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ فانّ مشرق الشتاء على حدة، و مشرق الصيف على حدة. أ ما تعرف بذلك من قُرب الشمس و بُعدها؟ و أمّا قوله: رَبُّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ فانّ لها ثلاثمائة و ستّين برجاً تطلع كلّ يوم من برج و تغيب في آخر، فلا تعود إليه إلّا من قابلٍ في ذلك اليوم.
قال: يا أمير المؤمنين! كم بين موضع قدمك إلى عرش ربّك؟ قال: ثكلتك امّك يا ابن الكوّاء! سل متعلّماً، و لا تسأل متعنّتاً. من موضع قدمي
إلى عرش ربّي أن يقول قائل -مخلصاً-: لا إلَهَ إلَّا اللهُ. قال: يا أمير المؤمنين! فما ثواب من قال: لا إله إلّا الله؟ قال: من قال: لا إله إلّا الله مخلصاً طمست ذنوبه، كما يطمس الحرف الأسود من الرقّ الأبيض.
فان قال ثانية: لا إله إلّا الله -مخلصاً- خُرقت أبواب السماوات و صفوف الملائكة، حتى يقول الملائكة بعضها لبعض: اخشعوا لعظمة الله. فإذا قال ثالثة: لا إله إلّا الله -مخلصاً- تنته دون العرش، فيقول الجليل: اسكني فو عزّتي و جلالي لأغفرنّ لقائلك بما كان فيه. ثمّ تلا الإمام هذه الآية: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ.۱ يعني: إذا كان عمله صالحاً، ارتفع قوله و كلامه.
قال: يا أمير المؤمنين! أخبرني عن قوس قزح. قال: ثَكِلَتْكَ امُّكَ! لا تقل: قوس قزح، فانّ قزحاً اسم شيطان، و لكن قل: قوس الله إذَا بَدَتْ يَبْدُو الخَصْبُ وَ الرِّيفُ.
(يواصل ابن الكوّاء أسئلته هنا، فيسأل عن المجرّة، و عن المحو الذي يكون في القمر، و عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله كأبي ذرّ الغفاريّ، و سلمان الفارسيّ، و حُذيفة بن اليمان، و عمّار بن ياسر، و عن الإمام نفسه، و يسمع منه جواباً كافياً و وافياً).
ثمّ قال: يا أمير المؤمنين! أخبرني عن قول الله عزّ و جلّ: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.٢
قال: كفرة أهل الكتاب، اليهود و النصارى، و قد كانوا على الحقّ
فابتدعوا في أديانهم، و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.
ثمّ نزل عن المنبر، و ضرب بيده على منكب ابن الكوّاء، ثمّ قال: يا ابن الكوّاء؛ و ما أهل النهروان منهم ببعيد. فقال: يا أمير المؤمنين! ما أريدُ غيرك، و لا أسأل سواك. قال الأصبغ بن نُباتة: فرأينا ابن الكوّاء يوم النهروان. فقيل له: ثكلتك امّك، بالأمس تسأل أمير المؤمنين عمّا سألته، و أنت اليوم تقاتله، فرأينا رجلًا حمل عليه فطعنه فقتله.۱
و روى الشيخ الطبرسيّ عن الإمام الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان ذات يوم جالساً في الرحبة، و الناس حوله مجتمعون، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين! أنت بالمكان الذي أنزلك الله به، و أبوك معذّب في النار؟
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: مَه؛ فضّ الله فاك، و الذي بعث
محمّداً بالحقّ نبيّاً لو شفع أبي في كلّ مذنب على وجه الأرض، لشفعه الله فيهم. أبي معذّب في النار و ابنه قسيم الجنّة و النار؟! و الذي بعث محمّداً بالحقّ نبيّاً، إنّ نور أبي يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلائق كلّهم إلّا خمسة أنوار: نور محمّد صلى الله عليه و آله، و نوري، و نور الحسن، و نور الحسين، و نور تسعة من ولد الحسين، فانّ نوره من نورنا، خلقه الله تعالى قبل أن يخلق آدم عليه السلام بألفي عام.۱
و ذكر ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» أنّ عبد الرحمن بن اذينةَ الغَنَويّ روى عن أبيه اذَيْنة بن مُسْلَمة أنّه قال: ذهبت عند عمر بن الخطّاب و قلت: من أين أعتمر؟ قال: امض إلى عليّ و اسأله ... ثمّ ساق الحديث، و فيه أنّ عمر قال له: مَا أجِدُ لَكَ إلَّا مَا قَالَ عَلِيّ.٢
و في «الاستيعاب» أيضاً بسنده المتّصل عن سعيد بن المسيِّب أنّه قال: مَا قَالَ أحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَقُولُ: سَلُونِي غَيْرُ عَلِيّ بْنِ أبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ.٣
و ذكر ابن عساكر في «تاريخ دمشق» روايتين بسنده المتّصل عن ابن شِبرَمَة أنّه قال: مَا كَانَ أحَدٌ عَلَى المِنْبَرِ يَقُولُ: سَلُونِي عَنْ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ إلَّا عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ.٤
مواطن عديدة نطق الإمام عليه السلام فيها بقوله: «سلوني»
و كذلك رواية عن سعيد بن المسيِّب بهذا المضمون،۱ و رواية عن عمير بن عبد الله أنّه قال: خَطَبَنَا عَلِيّ (بْنُ أبِي طَالِبٍ) عَلَى مِنْبَرِ الكُوفَةِ فَقَالَ: أيُّهَا النَّاسُ! سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي، فَبَيْنَ الجَنْبَينِ مِنِّي عِلْمٌ جَمٌّ.٢
و ذكر أيضاً رواية بسنده المتّصل عن خالد بن عرعرة قال: أتيتُ الرحبة فاذا أنا بنفر جلوس قريب من ثلاثين أو أربعين رجلًا، فقعدتُ فيهم، فخرج علينا عليّ، فما رأيته أنكر أحداً من القوم غيري، فقال: ألَا رَجُلٌ يَسْألُني فَيَنْتَفِعَ وَ يَنْفَعَ نَفْسَهُ؟٣
و روى محبّ الدين الطبريّ عن أبي الطفيل أنّه قال: كنتُ عند عليّ و هو يقول: سَلُونِي، فَوَ اللهِ لَا تَسْألُونِي عنْ شَيءٍ إلَّا أخْبَرْتُكُمْ. وَ سَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللهِ، فَوَ اللهِ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَ أنَا أعْلَمُ أ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أمْ بِنَهَارٍ أمْ في سَهْلٍ أمْ في جَبَلٍ.٤ (أخرجه أبو عمر).
و رواه ابن حَجَر العَسْقَلَانيّ عن وهب بن عبد الله، عن أبي الطفيل بهذا اللفظ: كَانَ عَلِيّ يَقُولُ: سَلُونِي، سَلُونِي، سَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللهِ تعالى فَوَ اللهِ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَ أنَا أعْلَمُ أنَزَلَتْ بِلَيْلٍ أوْ نَهَارٍ.٥
عن عبد العزيز الجَلوديّ في كتاب «الخطب» قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام فقال: سَلُونِي فَإنِّي لَا اسْألُ عَنْ شَيءٍ دُونَ العَرْشِ إلَّا أجَبْتُ فِيهِ لَا يَقُولُهَا بَعْدِي إلَّا جَاهِلٌ مُدَّعٍ أوْ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ. فقام رجل من جانب مجلسه، و في عنقه كتاب كأنّه مصحف. و هو رجل آدم ضرب، أي: خفيف اللحم، طُوال، جعد الشعر كأنّه من مهوّدة العرب فقال
رافعاً صوته: أيُّهَا المُدَّعِي مَا لَا يَعْلَمُ، وَ المُقَلِّدُ مَا لَا يَفْهَمُ، أنَا السَّائِلُ فَأجِبْ.
فوثب إليه أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام و شيعته من كلّ ناحية فهمّوا به، فنهرهم عليّ عليه السلام فقال لهم: دَعُوهُ وَ لَا تَعْجَلُوهُ فَإنَ الطَّيْشَ لَا يَقُومُ بِهِ حُجَجُ اللهِ وَ لَا بِهِ تَظْهَرُ بَرَاهِينُ اللهِ.
ثمّ التفت إلى الرجل و قال: سَلْ بِكُلِّ لِسَانِكَ وَ مَا في جَوَانِحِكَ فَإنِّي اجِيبُكَ. ثمّ سأله الرجل عن مسائل فأجابه أمير المؤمنين عليه السلام، فحرّك الرجل رأسه و قال: أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ، وَ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ.۱
و نقرأ في «نهج البلاغة» خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام قال في آخرها: إنَّ أمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لَا يَحْمِلُهُ إلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيمَانِ وَ لَا يَعِي حَدِيثَنَا إلَّا صُدُورٌ أمِينَةٌ وَ أحْلَامٌ رَزِينَةٌ. أيُّهَا النَّاسُ! سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي، فَلأنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الأرْضِ، (أنا بعالم الملكوت و الأنوار و المجرّدات و طرق الصلاح و طيّ الطريق إلى لقاء الله أعلم منّي بعالم الملك و المادّة و الطبع و كيفيّة جمع الأموال و غير ذلك) قَبْلَ أنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ (بحيث لا يمكن دفعها) تَطَا في خِطَامِهَا، وَ تَذْهَبُ بِأحْلَامِ قَوْمِهَا.٢
قال ابن أبي الحديد في شرحه حول كلام الإمام: إنَّ أمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا عَبْدٌ امْتَحَنَ اللهُ تعالى قَلْبَهُ لِلإيْمَانِ: هذه من ألفاظ القرآن العزيز. قال تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى.٣
و قال بعد شرح مختصر: و هذه الكلمة قد قالها أمير المؤمنين عليه السلام مراراً، و وقفتُ في بعض الكتب على خطبته من جملتها:
إن قُرَيْشاً طَلَبَتِ السَّعَادَةَ فَشَقِيَتْ، وَ طَلَبَتِ النَّجَاةَ فَهَلَكَتْ، وَ طَلَبَتِ الهُدَى فَضَلَّتْ. أ لَمْ يَسْمَعُوا -وَيْحَهُمْ- قَوْلَهُ تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ۱ (أي: نلحق بهم ذرّيّتهم و نجعلهم في درجتهم، مع أنّ أعمالهم على حالها). فَأيْنَ المَعْدِلُ وَ المَنْزَعُ عَنْ ذُرِّيَّةِ الرَّسُولِ الَّذِينَ شَيَّدَ اللهُ بُنْيَانَهُمْ فَوْقَ بُنْيَانِهِمْ، وَ أعْلَى رُؤُوسَهُمْ فَوقَ رُؤُوسِهِمْ، وَ اخْتَارَهُمْ عَلَيْهِمْ؟
ألَا إنَّ الذُّرِّيَّةَ أفْنَانٌ أنَا شَجَرَتُهَا، وَ دَوْحَةٌ أنَا سَاقُهَا، وَ إنِّي مِنْ أحْمَدَ بِمَنْزِلَةِ الضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ. كُنَّا ظِلَالًا تَحْتَ العَرْشِ قَبْلَ خَلْقِ البَشَرِ، وَ قَبْلَ خَلْقِ الطِّينَةِ التي كَانَ مِنْهَا البَشَرُ أشْبَاحاً عَالِيَةً، لَا أجْسَامَاً نَامِيَةً.
إن أمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَعْرِفُ كُنْهَهُ إلَّا ثَلَاثَةٌ: مَلَكٌ مُقَرَّبٌ أوْ نَبِيّ مُرْسَلٌ أوْ عَبْدٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإيَمَانِ. فَاذَا انْكَشَفَ لَكُمْ سِرٌّ، أوْ وَضَحَ لَكُمْ أمْرٌ فَاقْبَلُوهُ وَ إلَّا فَاسْكُتُوا تَسْلَمُوا، و رُدُّوا عِلْمَنَا إلَى اللهِ فَإنَّكُمْ في أوْسَعِ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَ الأرْضِ.
و قال في كلام الإمام: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي: أجمع الناس كلّهم على أنّه لم يقل أحد من الصحابة و لا أحد من العلماء: سلوني، غير عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
ذكر ذلك ابن عبد البرّ المحدّث في كتاب «الاستيعاب». و قال: المراد من قوله: فَلأنَا أعْلَمُ بِطُرُقِ السَّمَاءِ مِنِّي بِطُرُقِ الأرْضِ، ما اختصّ به من
العلم بمستقبل الامور، و لا سيّما في الملاحم و الدول. و قد صدّق هذا القول عنه ما تواتر عنه من الإخبار بالغيوب المتكرّرة لا مرّة و لا مائة مرّة حتى زال الشكّ و الريب في أنّه إخبار عن علم، و أنّه ليس على طريق الاتّفاق. و قد ذكرنا كثيراً من ذلك فيما تقدّم من هذا الكتاب.
و قد تأوّله قوم على وجه آخر قالوا: أراد: أنا بالأحكام الشرعيّة و الفتاوى الفقهيّة أعلم منّي بالامور الدنيويّة، فعبّر عن تلك بطرق السماء لأنّها أحكام إلهيّة، و عبّر عن هذه بطرق الأرض لأنّها من الامور الأرضيّة. و الأوّل أظهر، لأنّ فحوى الكلام و أوّله يدلّ على أنّه المراد.
ثمّ نقل ابن أبي الحديد هنا حكاية لطيفة و ظريفة عن بعض وعّاظ بغداد في زمان الناصر لدين الله: أبي العبّاس أحمد بن المستضيء بالله، جاء فيها أنّ الواعظ المذكور زعم أشياء على المنبر، فتصدّى له رجل من شيعة بغداد و اسمه أحمد بن عبد العزيز الكزّيّ، و كان عارفاً بالعلم ففضحه. و ختم ابن أبي الحديد موضوعه بذكر هذه القضيّة.۱
و نقل ابن أبي الحديد عن القاضي عبد الجبّار، في سياق عرضه الطعن الأوّل من مطاعن عمر التي دحضها القاضي عبد الجبّار في كتاب «المغني»، و أثبتها الشريف المرتضى في كتاب «الشافي» عند تفنيده ردود القاضي، نقل عنه أنّه كان يقرّ بحديث: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي، و حديث إنَّ هَاهُنَا عِلْمَاً جَمَّاً، و حديث لَوْ ثُنِيَتْ لِيَ الوِسَادَةُ لَحَكَمْتُ بَيْنَ أهْلِ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ وَ بَيْنَ أهْلِ الإنْجِيلِ بِإنجِيلِهِمْ وَ بَيْنَ أهْلِ الزَّبُورِ بِزَبُورِهِمْ وَ بَيْنَ أهْلِ القُرآنِ بِقُرْآنِهِمْ، و حديث كُنْتُ إذَا سَألْتُ اجِبْتُ، وَ إذَا سَكَتُّ
ابْتُدِيتُ، و قد ذكرها و عدّها من مسلّمات التأريخ و الحديث.۱
فضيحة قتادة بعد قوله: سلوني
أجل، أراد كثير من الأشخاص بعد أمير المؤمنين عليه السلام أن يتشدّقوا بقولهم:
سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي، وَ سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ، و نظائرهما، لكنّهم افحموا و ادينوا.
فقد روى الزمخشريّ في «الكشّاف» عن قتادة أنّه لمّا دخل الكوفة، التفّ عليه الناس، فقال: سَلُوا عَمَّا شِئْتُمْ. فقال أبو حنيفة و كان شابّاً: سلوه عن النملة التي كلّمت سليمان أ ذكراً كانت أم انثى؟ فسألوه، فافحم.
فقال أبو حنيفة: كانت انثى. فقيل: كيف لك ذلك؟ قال: لأنّ الله عزّ و جلّ قال: قالَتْ نَمْلَةٌ، و لو كانت ذكراً لقال: قَالَ نَمْلَةٌ. قال أحمد: لا أدري العجب منه أم من أبي حنيفة أن يثبت ذلك عنه، و ذلك أنّ النملة كالحمامة و الشاة تقع على الذكر و على الانثى، لأنّه اسم جنس. يقال: نملة ذكر، و نملة انثى كما يقولون: حَمَامَةٌ ذَكَرٌ، وَ حَمَامَةٌ انثَى، وَ هُوَ وَ هِيَ.٢
و نقل المجلسيّ رضوان الله عليه في «بحار الأنوار» عن ابن الحاجب في بعض تصانيفه أنّه قال: إنّ تأنيث مثل الشاة و الحمامة و النملة من الحيوانات تأنيث لفظيّ. و لذلك كان قول من زعم أنّ النملة في قوله تعالى قالَتْ نَمْلَةٌ انثى لورود تاء التأنيث في «قالت» و هما الجوازان، يكون مذكّراً في الحقيقة، و ورود تاء التأنيث كورودها في فعل المؤنّث اللفظيّ.
و لذا قيل: إفْحَامُ قَتَادَةَ خَيْرٌ مِنْ جَوَابِ أبِي حَنِيفَةَ. ثمّ قال المجلسيّ: هذا (كلام ابن الحاجب) هو الحقّ، و قد ارتضاه الرضيّ رضي الله عنه و غيره. و الحمد للّه الذي فضح من أراد أن يدّعي رتبة أمير المؤمنين عليه السلام بهذه البضاعة من العلم، هذا الناصبيّ الآخر الذي أراد أعوانه إثبات علوّ شأنه بأنّه تكلّم في بدو شبابه بمثل ذلك (سلوني).۱
و نقل المجلسيّ رحمه الله عن كتاب «الصراط المستقيم» للبياضيّ العامليّ، و غيره من الكتب أنّ ابن الجوزيّ قال يوماً على المنبر: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي. فسألته امرأة عمّا روى أنّ عليّاً عليه السلام سار من المدينة إلى المدائن في ليلة فجهز سلمان و كفّنه و دفنه و رجع، فقال: رُوي ذلك. قالت: فعثمان ثَمَّ ثلاثة أيّام منبوذاً في المزابل، و عليّ عليه السلام حاضر. قال: نعم.
قالت: فقد لزم الخطأ لأحدهما (إمّا عليّ بن أبي طالب أو عثمان). فقال: إن كنتِ خرجتِ من بيتك بغير إذن زوجكِ فعليكِ لعنة الله، و إلّا فَعَلَيْهِ. فقالت: خرجت عائشة إلى حرب عليّ عليه السلام بإذن النبيّ صلى الله عليه و آله أو لا؟٢ فانقطع و لم يُحِرْ جواباً.٣
عجز عمر في المسائل العلميّة
و نقل العلّامة الأمينيّ رحمة الله عليه خطبة عن عمر في الجابية قال فيها: من أراد أن يسأل عن القرآن، فليأت ابيّ بن كعب. و من أراد أن يسأل عن الحلال و الحرام، فليأت معاذ بن جبل. و من أراد أن يسأل عن الفرائض، فليأت زيد بن ثابت. و من أراد أن يسأل عن المال، فليأتني فإنّي له خازن. و في لفظ: فإنّ الله تعالى جعلني خازناً و قاسماً. ثمّ نقل سند هذا الحديث بنحو مفصّل من ثلاثة طرق. و ذكر كتب علماء العامّة التي أوردته ك- «سنن البيهقيّ» و «مستدرك الحاكم» و «العقد الفريد»، و غيرها. و قال بعد ذلك:
في هذه الخطبة الثابتة المرويّة عن الخليفة بطرق صحيحة كلّ رجالها ثقات، و صحّحها الحاكم، و الذهبيّ اعترف بأنّ المنتهي إليه في العلوم الثلاثة اولئك النفر المذكورين فحسب، و ليس للخليفة إلّا أنّه خازن مال الله. و هل ترى من المعقول أن يكون خليفة رسول الله صلى الله عليه و آله على امّته في شرعه و دينه و كتابه و سنّته و فرائضه فاقداً لهاتيك العلوم؟ و يكون مرجعه فيها لفيفاً من الناس كما تُنبئ عنه سيرته؟
فعلامَ هذه الخلافة؟ و هل تستقرّ بمجرّد الأمانة؟ و ليست بعزيزة في امّة محمّد صلى الله عليه و آله و ما وجه الاختصاص به! نعم، وقع النصّ عليه ممّن سبقه في الخلافة على غير طريقة القوم في الخليفة الأوّل.
و شتّان بين هذا القائل، و بين من لم يزل يعرض نفسه لعويصات المسائل و مشكلات العلوم، فيحلّها عند السؤال عنها من فوره، و يرفع عقيرته على صهوات المنابر بقوله سلام الله عليه: سَلُونِي قَبْلَ أنْ
لَا تَسْألُونِي، وَ لَنْ تَسْألُوا بَعْدِي مِثْلِي.۱
المضامين المتفاوتة للروايات المأثورة في «سلوني»
و قوله عليه السلام: لَا تَسْألُونِي عَنْ آيَةٍ في كِتَابِ اللهِ تعالى وَ لَا سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ إلَّا أنْبَأتُكُمْ بِذَلِكَ.٢
و قوله عليه السلام: سَلُونِي، وَ اللهِ لَا تسألُونِي عَنْ شَيءٍ يَكُونُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ إلَّا أخْبَرْتُكُمْ، وَ سَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللهِ، فَوَ اللهِ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَ أنَا أعْلَمُ أ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أمْ بِنَهَارٍ في سَهْلٍ أمْ في جَبَلٍ.٣ و قوله عليه السلام: ألَا رَجُلٌ يَسْألُ فَيَنْتَفِعَ وَ يَنْفَعَ جُلَسَاءَهُ؟٤
و قوله عليه السلام: وَ اللهِ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ إلَّا وَ قَدْ عَلِمْتُ فِيمَ انْزِلَتْ، وَ أيْنَ انْزِلَتْ، إنَّ رَبِّي وَهَبَ لِي قَلْبَاً عَقُولًا، وَ لِسَاناً سُؤُولًا.٥
و قوله عليه السلام: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي، سَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللهِ، وَ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَ أنَا أعْلَمُ حَيْثُ انْزِلَتْ بِحَضِيضِ جَبَلٍ أوْ سَهْلِ أرْضٍ. وَ سَلُونِي عَنِ الفِتَنِ، فَمَا مِنْ فِتْنَةٍ إلَّا وَ قَدْ عَلِمْتُ مَنْ كَسَبَهَا وَ مَنْ يُقْتَلُ
فِيهَا.۱
و قوله عليه السلام: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي، فَانَّمَا بَيْنَ الجَوَانِحِ مِنِّي عِلْمٌ جَمٌّ. هَذَا سَفَطُ العِلْمِ، هَذَا لُعَابُ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ، هَذَا مَا زَقَّنِي رَسُولُ اللهِ زَقَّاً زَقَّاً. فَوَ اللهِ لَوْ ثُنِيَتْ لِيَ الوِسَادَةُ فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا، لأفْتَيْتُ أهْلَ التَّوْرَاةِ بِتَوْرَاتِهِمْ، وَ أهْلَ الإنْجِيلِ بِانْجِيلِهِمْ، حَتَّى يُنْطِقُ اللهُ التَّوْرَاةَ وَ الإنْجِيلَ فَيَقُولَانِ: صَدَقَ عَلِيّ قَدْ أفْتَاكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ في وَ أنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أ فَلَا تَعْقِلُونَ؟
قال أمير المؤمنين عليه السلام هذا الكلام و هو على منبر الكوفة، و عليه مدرعة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم، و هو متقلّد بسيفه، و متعمّم بعمامته صلى الله عليه و آله و سلّم، فجلس على المنبر، و كشف عن بطنه، و أشار إلى العلم المذخور فيها.
و قال سعيد بن المسيِّب: لَمْ يَكُنْ أحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ يَقُولُ: سَلُونِي إلَّا عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ.٢ وَ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْألَةٍ يَكُونُ فِيهَا كَالسِّكَّةِ المُحْمَاةِ وَ يَقُولُ:٣
إذَا المُشْكِلَاتُ تَصَدَّيْنَ لِي | *** | كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ |
فَانْ بَرِقَتْ في مَخِيلِ الصَّوَابِ | *** | عَمْيَاءُ لَا يَجْتَلِيهَا البَصَرْ |
مُقَنَّعَةً بِغُيُوبِ الامُورِ | *** | وَضَعْتُ عَلَيْهَا صَحِيحَ الفِكَرْ |
لِسَاناً كَشِقْشِقَةِ الأرْحَبِيّ | *** | أوْ كَالحُسَامِ اليَمَانِيّ الذَّكَرْ |
وَ قَلْبَاً إذَا اسْتَنْطَقَتْهُ الفُنُونُ | *** | أبَرَّ عَلَيْهَا بِوَاهٍ دُرَرْ |
وَ لَسْتُ بِإمَّعَةٍ۱ في الرِّجَالِ | *** | يُسَائِلُ هَذَا وَ ذَا مَا الخَبَرْ |
وَ لَكِنَّنِي مِذْرَبُ الأصْغَرَيْنِ | *** | ابينُ مَعَ مَا مَضَى، مَا غَبَرْ٢ |
لفت نظر
لم أر في التأريخ قبل مولانا أمير المؤمنين عليه السلام من عرض نفسه لمعضلات المسائل و كراديس الأسئلة، و رفع عقيرته بجأشٍ رابط بين الملأ العلمي بقوله: سَلُونِي، إلّا صنوه النبيّ الأعظم صلى الله عليه و آله و سلّم، فإنّه كان يكثر من قوله: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ. و قوله: سَلُونِي، سَلُونِي. و قوله: سَلُونِي، وَ لَا تَسْألُونِي عَنْ شَيءٍ إلَّا أنْبَأتُكُمْ بِهِ.٣ فكما
ورث أمير المؤمنين عليه السلام علمه صلى الله عليه و آله و سلّم ورث مكرمته هذه و غيرها، و هما صنوان في المكارم كلّها.
الأشخاص الذين قال كلّ منهم: سلوني، و افتضحوا
و ما تفوّه بهذا المقال أحد بعد أمير المؤمنين عليه السلام إلّا و قد فُضح و وقع في ربيكة، و أماط بيده الستر عن جهله المطبق، نظير:
۱- إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزوميّ القرشيّ و الي مكّة و المدينة و الموسم لهشام بن عبد الملك. حجّ بالناس سنة ۱۰۷، و خطب بمنى، ثمّ قال: سَلُونِي، فَأنَا ابْنُ الوَحِيدِ، لَا تَسْألُوا أحَداً أعْلَمُ مِنِّي. فقام إليه رجل من أهل العراق، فسأله عن الاضْحِيَّةِ أ واجبة هي؟ فما درى أي شيء يقول له، فنزل عن المنبر.۱
٢- مقاتل بن سليمان. قاتل إبراهيم الحربيّ: قعد مقاتل بن سليمان فقال: سَلُونِى عَمَّا دُونَ العَرْشِ إلَى لَوَايَانَا.٢ فقال له رجل: آدم حين حجّ، مَن حلق رأسه؟ فقال له: ليس هذا من عملكم، و لكنّ الله أراد أن يبتليني بما أعجبتني نفسي.٣
٣- قال سُفيان بن عُيينة: قال مقاتل بن سليمان يوماً: سَلُونِي عَمَّا دُونَ العَرْشِ. فقال له إنسان: يا أبا الحسن! أ رأيتَ الذرّة أو النملة (الذرّة: النملة الصغيرة) أمعاؤها في مقدّمها أو مؤخّرها؟ فبقي الشيخ لا يدري ما يقول له. قال سفيان: فظننت أنّها عقوبة عوقب بها.
٤- قال موسى بن هارون الحمّال: بلغني أنّ قتادة قدم الكوفة فجلس في مجلسٍ له، و قال: سَلُونِي عَنْ سُنَنِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ حتى اجِيبَكُمْ. فقال جماعة لأبي حنيفة: قم إليه فسله. فقام إليه، فقال: ما تقول يا أبا الخطّاب في رجل غاب عن أهله، فتزوّجت امرأته، ثمّ قدم زوجها الأوّل فدخل عليها و قال: يا زانية، تزوّجتِ و أنا حيّ؟ ثمّ دخل زوجها الثاني، فقال لها: تزوّجتِ يا زانية و لكِ زوج؟ كيف اللعان؟
فقال قتادة: قد وقع هذا؟
فقال له أبو حنيفة: و إن لم يقع، نستعدّ له.
فقال له قتادة: لا اجيبكم في شيءٍ من هذا، سلوني عن القرآن.
فقال له أبو حنيفة: ما تقول في قوله عزّ و جلّ: قَالَ ٱلَّذِي عِندَهُۥ عِلم مِّنَ ٱلكِتَٰبِ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ، من هو؟
قال قتادة: هذا رجل من ولد عمّ سليمان بن داود كان يعرف اسم الله الأعظم.
فقال أبو حنيفة: أ كان سليمان يعلم ذلك الاسم؟
قال: لا.
قال أبو حنيفة: سبحان الله، و يكون بحضرة نبي من الأنبياء من هو أعلم منه؟
قال قتادة: لا اجيبكم في شيء من التفسير، سلوني عمّا اختلف الناس فيه.
فقال له أبو حنيفة: أ مؤمن أنتَ؟ قال قتادة: أرجو.
قال له أبو حنيفة: فهلّا قلت كما قال إبراهيم فيما حكى الله عنه حين قال له: أ وَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قَالَ: بَلَى؟
قال قتادة: خذوا بيدي، و الله لا دخلتُ هذا البلد أبداً.۱
٥- حكاية سؤال أبي حنيفة قتادةَ عن نملة سليمان أ كانت ذكراً أم انثى، و قد مرّ ذكرها.
٦- قال عبيد الله بن محمّد بن هارون: سمعتُ الشافعيّ: بمكّة يقول: سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ احَدِّثْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ. فقيل: يا أبا عبد الله! ما تقول في محرم قتل زنبوراً؟
قال: وَمَآ ءَاتَىٰكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ.٢
و روى المجلسيّ عن «جامع الأخبار» أنّ رجلًا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: جئتُكَ لأسأل عن أربع مسائل، فقال عليه السلام: سل و إن كانت أربعين.
قَالَ أخْبِرْنِي: مَا الصَّعْبُ وَ مَا الأصْعَبُ؟ وَ مَا القَرِيبُ وَ مَا الأقْرَبُ! وَ مَا العَجَبُ وَ مَا الأعْجَبُ؟ وَ مَا الوَاجِبُ وَ مَا الأوْجَبُ؟
فقال عليه السلام: الصعب المعصية، و الأصعب فوت ثوابها. و القريب كلّ ما هو آت، و الأقرب هو الموت. و العجب هو الدنيا، و غفلتنا فيها أعجب، و الواجب هو التوبة، و ترك الذنوب هو الأوجب.
و قيل: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام و قال: جئتك من سبعين فرسخاً لأسألك عن سبع كلمات. فقال: سل ما شئت. فقال الرجل: أي شَيءٍ أعْظَمُ مِنَ السَّمَاءِ؟ وَ أي شَيءٍ أوْسَعُ مِنَ الأرْضِ؟ وَ أي شَيءٍ أضْعَفُ مِنَ اليَتِيمِ؟ وَ أي شَيءٍ أحَرُّ مِنَ النَّارِ؟ وَ أي شَيءٍ أبْرَدُ مِنَ
الزَّمْهَرِيرِ؟ وَ أي شَيءٍ أغْنَى مِنَ البَحْرِ؟ وَ أي شَيءٍ أقْسَى مِنَ الحَجَرِ.۱
فقال عليه السلام: البهتان على البريء أعظم من السماء. و الحقّ أوسع من الأرض. و نمائم الوشاة أضعف من اليتيم. و الحرص أحرّ من النار. و حاجتك إلى البخيل أبرد من الزمهرير. و البدن القانع أغنى من البحر. و قلب الكافر أقسى من الحجر.
قال في كتاب «الصراط المستقيم»: روى قاسم بن سلام عن أبي بكر أنّه قال على منبر المدينة: أعِينُونِي وَ قَوِّمُونِي.٢ و من المعلوم أنّ المحتاج إلى الرعيّة أحوج إلى الإمام. و أين ذلك من قول عليّ عليه السلام: سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي؟ أورده شارح «المصابيح» و غيره.٣
و في «الغدير»: أخرج الخطيب في رواة مالك، و البيهقيّ في «شعب الإيمان»، و القرطبيّ في تفسيره باسناد صحيح عن عبد الله بن عمر قال: تعلّم عمر سورة البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلمّا ختمها، نحر جَزوراً.٤
قصور عمر و عجزه عن إدراك المسائل العلميّة
و نحن ذكرنا في الجزء الحادي عشر من كتابنا هذا: «معرفة الإمام» أنّ عمر كان لا يفهم معنى الكلالة. و قد راجع النبيّ الأكرم مراراً و لم يفهم
حتى قال له النبيّ صلى الله عليه و آله: إنِّي أظُنُّكَ تَمُوتُ قَبْلَ أنْ تَعْلَمَ ذَلِكَ. و لمّا طلب من ابنته حفصة أن تسأله صلى الله عليه و آله، قال لها النبيّ: مَا أرَى أبَاكِ يَعْلَمُهَا. و قوله: مَا أرَاهُ يُقِيمُهَا.۱
و أورد العلّامة الأمينيّ في «الغدير» أيضاً أنّ مسلماً أخرج في صحيحه عن عبيد بن عمير أنّ أبا موسى (الأشعريّ) استأذن على عمر ثلاثاً، فكأنّه وجده مشغولًا، فرجع، فقال عمر: أ لم تسمع صوت عبد الله ابن قيس؟ ائذنوا له. فدُعي به. فقال: ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: إنّا كنّا نؤمر بهذا (نؤمر بالاستئذان، و إذا لم يؤذن لنا، نرجع) قال عمر: لتقيمنّ على هذا بيّنة، أو لأفعلنّ (و في لفظ: فو الله لاوجعنّ ظهرك و بطنك. و في لفظ الطحاويّ: و الله لأضربنّ بطنك و ظهرك، أو لتأتينّي بمن يشهد لك).
فخرج (أبو موسى) فانطلق إلى مجلس من الأنصار، فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلّا أصغرنا. فقام أبو سعيد (الخُدريّ) فقال (لعمر): كنّا نؤمر بهذا. فقال عمر: خَفِيَ عَلَيّ هَذَا مِنْ أمْرِ رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ. ألْهَانِي عَنه الصَّفْقُ بِالأسْوَاقِ.٢
قال أمير المؤمنين عليه السلام في موضعين من «نهج البلاغة»: آل محمّد الذين ينبغي للناس أن يرجعوا إليهم هُمْ عَيْشُ العِلْمِ وَ مَوْتُ الجَهْلِ. أي: هم حياة العلم، و موت الجهل حقّاً و حقيقة، و بكلّ ما للكلام من معنى. أمّا الموضع الأوّل، فهو الخطبة (۱٣۷) و فيها: هُمْ عَيْشُ العِلْمِ وَ مَوْتُ الجَهْلِ إلى آخر الخطبة۱ التي نذكرها في الهامش. و أمّا الثاني، فهو الخطبة (۱٤٥) التي قال في آخرها:
وَ اعْلَمُوا أنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حتى تَعْرِفُوا الذي تَرَكَهُ، وَ لَنْ تَأخذُوا بِمِيثَاقِ الكِتَابِ حتى تَعْرِفُوا الذي نَقَضَهُ، وَ لَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حتى تَعْرِفُوا الذي نَبَذَهُ. فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدَ أهْلِهِ، فَانَّهُمْ عَيْشُ العِلْمِ وَ مَوْتُ الجَهْلِ. هُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ، وَ صَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ، وَ ظَاهِرِهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ. لَا يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ، وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ.٢
سأل رجل ذات يوم متعجّباً: كيف ناوأ حملة لواء الغصب و مدّعو
الخلافة مثل هذا الرجل الذي مُلئ علماً و حكمة من قرنه إلى أخمص قدمه؟
فأجابه عالم في المجلس من فوره أنّ هذا الأمر واضح و طبيعيّ جدّاً، لأنّ الإمام عليه السلام نفسه قال: النَّاسُ أعْدَاءُ مَا جَهِلُوا.۱
و عند ما نجد الجهل بشقّيه المركّب و البسيط عند مخالفينا، و نلاحظ العلم الوجدانيّ و الحضوريّ و الحصوليّ عند آل محمّد بنحو أتمّ و بكلّ ضروبه، فانّ عداء المخالفين قائم على أساس الحقد و الضغن و الحسد و حبّ الرئاسة، إذ لا يتمكّنون من العلم، و يصرّون على جهلهم. و قال أمير المؤمنين عليه السلام في الديوان المنسوب إليه:
لَا فَضْلَ إلَّا لأهْلِ العِلْمِ إنَّهُمُ | *** | عَلَى الهُدَى لِمَن إسْتَهْدَى أدِلَّاءُ |
وَ قِيمَةُ المَرْءِ مَا قَدْ كَانَ يُحْسِنُهُ | *** | وَ الجَاهِلُونَ لأهْلِ العِلْمِ أعْدَاءُ |
فَقُمْ بِعِلْمٍ وَ لَا تَبْغِي لَهُ بَدَلًا | *** | النَّاسُ مَوْتَى وَ أهْلُ العِلْمِ أحْيَاءُ٢ |
الناس من جهة التمثال أكفاء | *** | أبوهم آدم و الامُّ حوّاء |
فان يكن لهم من أصلهم شرفٌ | *** | يُفاخرون به فالطين و الماء |
و إن أتيتَ بفخرٍ من ذوي نسبٍ | *** | فانّ نسبتَنا جودٌ و علياءُ |
و إنّما امّهاتُ النَّاس أوعيةٌ | *** | مستَوْدعاتٌ و للأحساب آباء |
بنونا بنو أبنائنا و بناتنا | *** | بنوهنّ أبناء الرجال الأباعدِ |
إن حبّ النفس ذاتيّ و غريزيّ. فاذا كان امرؤ عالماً، فهو يحبّ ذاته و علمه. و من الطبيعيّ أنّه ينهض لتقويض أركان الجهل، و يشدّ عُقَدَ مآزره لمكافحته، إذ يمثّل امّ الفساد، و ينبوع الرذائل و الآثام كلّها. أمّا إذا كان جاهلًا، فهو أيضاً يحبّ ذاته و جهله، و لمّا كان يرى نفسه محور الكمال و مركز الأصالة، فانّه يخال مخالفيه ناقصين حتى لو كانوا في الدرجة العليا من العلم و الدراية، و يهبّ لقطع دابرهم، و يرى وجودهم النورانيّ الطاهر دامساً و ملوّثاً.۱
حَسَدُوا الفَتَى إذْ لَمْ يَنَالُوا فَضْلَهُ | *** | فَالنَّاسُ أعْدَاءٌ لَهُ وَ خُصُومُ |
و في الجهل قبل الموت موت لأهله | *** | و أجسادهم قبل القبور قبورُ |
و إنّ امرئً لم يُحيَ بالعلم ميّتٌ | *** | و ليس له حتى النشور نُشورُ |
و لا تصحب أخا جهلٍ و إيّاك و إيّاه | *** | فكم من جاهلٍ أردى حكيماً حين آخاهُ |
يُقاسُ المرءُ بالمرء إذا ما هو ما شاهُ | *** | و للشيء من الشيء مقاييسُ و أشباهُ |
كَضَرَائِرِ الحَسْنَاءِ قُلْنَ لِوَجْهِهَا | *** | حَسَدَاً وَ بُغْضَاً إنَّهُ لَدَمِيمُ |
يَا سَائِلِي عَنْ عَلِيّ وَ الذي فَعَلُوا | *** | بِهِ مِنَ السُّوءِ مَا قَالُوا وَ مَا عَمِلُوا |
لَمْ يَعْرِفُوهُ فَعَادُوهُ لِمَا جَهِلُوا | *** | و النَّاسُ كُلُّهُمْ أعْدَاءُ مَا جَهِلُوا۱ |
معرفة الإمام أسمى وسيلة لبلوغ التوحيد
إن معرفة الإمام أسمى مقام إنسانيّ في طريق الوصول إلى منزلة
توحيد ذات الحقّ، و هي سبيل السعادة الوحيد. أمّا عدم المعرفة، فإنّها تؤدّي إلى الانطماس في غار النفس الأمّارة، و طامورة الشيطان المظلمة و وساوسه، و من ثمّ الانتهاء إلى الشقاء.
اللهمّ بحقّ الصالحين و المتيّمين في سبيلك، و بحقّ الطاهرين و المخلَصين في طريق معرفتك و لقاء ذاتك الأحديّة المقدّسة، مُنّ علينا و على سائر طلّاب معرفة أسماء و صفات جمالك و جلالك و كمالك و أحديّتك بعرفان اولئك العظماء، أئمّة طريق السلام و سُبُل المعرفة بالأخصّ قِوام هذه الشجرة الطيّبة و جذرها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل الصلاة و السلام.
هر سو كه دويديم همه سوى تو ديديم | *** | هر جا كه رسيديم سر كوى تو ديديم |
هر قبله كه بگزيد دل از بهر عبادت | *** | آن قبلة دل را خم ابروى تو ديديم |
هر سرو روان را كه در اين گلشن دهر است | *** | بر رسته به بستان و لب جوى تو ديديم |
از باد صبا بوى خوشت دوش شنيديم | *** | با باد صبا قافلة بوى تو ديديم۱ |
روى همه خوبان جهان بهر تماشا | *** | ديديم ولى آينه روى تو ديديم |
٢در ديدة شهلاى بتان همه عالم | *** | كرديم نظر، نرگس جادوى تو ديديم |
تا مِهر رخت بر همه ذرّات بتابيد | *** | ذرّات جهان را به تك و پوى تو ديديم |
در ظاهر و باطن به مجاز و به حقيقت | *** | خلق دو جهان را همه رو سوى تو ديديم |
هر عاشق ديوانه كه در جملگى توست | *** | بر پاى دلش سلسلة موى تو ديديم |
سر حلقة رندان خرابات مغان را | *** | دل در شكن حلقة گيسوى تو ديديم |
از مغربى أحوال مپرسيد كه ما را | *** | سودا زدة طرّة هندوى تو ديديم٣ |
اللهمّ بحقّ المصطفى محمّد، و المرتضى عليّ، و البتول فاطمة، و السبطين الحسن و الحسين، و بحقّ زين العابدين عليّ، و الباقر محمّد،
و الصادق جعفر، و الكاظم موسى، و الرضا عليّ، و التقيّ محمّد، و النقيّ عليّ، و الزكيّ العسكريّ الحسن، و بحقّ المهديّ الهاديّ صاحب الزمان و خليفة الرحمن و قاطع البرهان و إمام الإنس و الجانّ، صلواتك عليهم أجمعين، وفّقنا لما تُحبُّ و يُرضيك، و أبْعِدْنا عمّا يُبغضك و يقليك، و اجعلنا من المؤمنين الموقنين، بمحمّد نبيّك، و بعليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين، و بالأئمّة الطيّبين الطاهرين من ذرّيّته، و اجعلنا من الموقنين برجعتهم، و من المنتظرين لأمرهم و دولتهم. اللهمّ العن الذين بدّلوا دينك، و سخروا بإمامك، و غيّروا سنّتك و شريعتك. اللهمّ العن أعداء آل محمّد أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.
للّه الحمد و له الشكر إذ تمّ هذا الجزء من كتاب «معرفة الإمام» و هو الجزء الثاني عشر من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة، و ذلك يوم العاشر من شهر جمادى الاولى سنة ثمان و أربعمائة و ألف من الهجرة قبل الغروب بساعة و نصف، في مدينة مشهد المقدّسة الطيّبة، على ثاويها آلاف الصلاة و السلام و التحيّة و الإكرام بمحمّد و آله الطاهرين.
و أنا الفقير إلى رحمة ربّه السيّد محمّد الحسين الحسينيّ
الطهرانيّ عفا الله عنه و عن جرائمه و آثامه