المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
المجموعة معرفة الإمام
التوضيح
مجموعة من البحوث التفسيريّة، والفلسفيّة، والروائيّة، والتأريخيّة والاجتماعيّة في الإمامة والولاية بشكل عامّ، وفي إمامة وولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمّة المعصومين سلام الله عليهم أجمعين بشكل خاصّ ؛ وذلك في هيئة دروس استدلاليّة علميّة متّخذة من القرآن الكريم والروايات الواردة عن الخاصّة والعامّة، وأبحاث حليّة ونقديّة عن الولاية .
وتضمّ هذه المجموعة 270 درساً في ثمانية عشر مجلداً. وقد جري فيها مناقشة وبحث مطالب من قبيل: العصمة، الولاية التكوينيّة، لزوم الإمام الحيّ، لزوم متابعة الأعلم، ضرورة وجود الإمام للمجتمع، معنى الولاية، شرح حجّة الوداع، شرح واقعة غدير خمّ، حديث الولاية، حديث المنزلة، شرائط القيادة، علم الغيب و...
بسم الله الرحمن الرحيم
الدَّرْسُ السَّادِسُ وَ الثَّلاثُونَ بَعْدَ المِائَةِ إلى الحَادِي وَ الارْبَعِينَ بَعْدَ المِائَةِ: حديث المنزلة: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة اللهَ على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ، قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي ، وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ، وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً ، إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً ، قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى.۱
خاطب الله موسى قائلًا: اذهب إلى فرعون! لأنّه طغى بكفره و عناده. فقال له موسى: ربِّ؛ (ها أنت بعثتني بهذه المهمّة) مُنَّ عَلَيّ بشرح الصدر (لئلّا أسأم، و لكي أصبر أمام جفاء الناس و إنكارهم) و يسّر لي عملي (و سهّل لي حزونة المشاكل التي تعترض هذه الرسالة)! و احلل عقدة لساني ليفهموا كلامي و يعوه. و كذلك اجعل لي وزيراً من أهلي؛ كي يعينني! و هو أخي هارون؛ أشدد به أزري! و أشركه معي في أمر الرسالة و الالتزام! حتّى نسبّحك و نمجّدك و نقدّسك دائماً و باستمرار، و نذكرك كثيراً! إنّك كنت بنا و بأحوالنا حقّاً بصيراً، فقال الله لموسى: قد اوتيتَ كلَّ ما طلبته يا موسى.
طلب موسى من الله الوزارة و النبوّة لأخيه هارون
تدور هذه الآيات المباركة حول موسى و أخيه هارون على نبيّنا و آله و عليهما الصلاة و السلام. و لكي ينجح موسى في تبليغ الرسالة و أداء الأمانة الإلهيّة في بعثه إلى قوم مشركين: فرعون المجرم المحترف، و وزيره هامان، و سائر العادين الذين كانوا معه، و كافّة القوم الذين اتّبعوا شهواتهم و ميولهم النفسانيّة، كان طلبه من الله هو أن يُشرك معه أخاه هارون في أمر النبوّة و الرسالة، و ينصبه في مقام النبوّة و الرسالة، لكي يسيرا معاً في هذا الطريق، و يتلقّيا الوحي من الله، و يتعاضدا في تبليغ الرسالة.
و كان لموسى مقام النبوّة و الرئاسة العامّة على بني إسرائيل و الأسباط؛ و كلّف بإرشاد و هداية الفراعنة و الأقباط؛ و كان لهارون مقام النبوّة و الوزارة، و فوّض إليه إعانة أخيه على اموره.
و بصورة عامّة، ليتعاونا و يتآزرا كلاهما كلمة كلمة، و خطوة خطوة، و يداً بيد؛ ليتلقّيا معاً الوحي من الله، أحدهما بوصفه أميراً، و الثاني وزيراً.
و لكي يسبّحا الله كثيراً و ينزّهاه و يقدّساه، و يطهّراه، من شوائب الفقر و الفاقة، و الحاجة إلى امور عالم الكثرة، و الاستمداد من الأشياء، و المصالح الذاتيّة في الامور، و يذكرا الله كثيراً، لأنّه سبحانه بصير بأحوال العباد، مطّلع على نهجهم و مسلكهم، خبير بنيَاتهم و سرائرهم.
و جاء الخطاب من الله لموسى عليه السلام: قد اجيب دعاؤك، و نُفّذ مرادك، و لقد جعلنا أخاك هارون شريكاً لك في أمر النبوّة، و صيّرناه معينك و ناصرك و وزيرك في أمر الإمارة و الولاية! فاذهبا إلى فرعون الطاغي و ادعواه إلى دين التوحيد و السير على صراط الاستقامة و العدالة! و ورد تعيين هارون في منصب الوزارة صريحاً في القرآن الكريم من خلال قوله
تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً.۱
و نفس هذا الأمر المتعلّق بموسى، و إنابته الى الله، و دعائه لاستخلاف هارون، و قضاء حاجته بنصب هارون أخيه في مقام النبوّة و الخلافة و الوزارة، نجده عند الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، و إنابته إلى الله، و دعائه لاستخلاف عليّ بن أبي طالب عليه السلام، و قضاء حاجته بنصب عليّ في مقام الخلافة و الوزارة و الولاية و الوصاية و الاخوّة.٢
دعاء النبيّ لشفاء عليّ صلوات الله عليهما
و روى سُليم بن قَيْس عن المقداد بن الأسود، في جواب سؤال سأله به سُلَيم عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: كنّا نسافر مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قبل أن يأمر نساءه بالحجاب؛ و كان عليّ عليه السلام يخدم رسول الله، ليس له خادم غيره؛ إلى أن قال: كان رسول الله يقوم و يصلّي [في جوف الليل].
فأخذت عليّاً عليه السلام الحمّى [الشديدة] ليلة فأسهرته، فسهر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لسهره. فبات ليله مرّة يصلّي، و مرّة يأتي عليّاً عليه السلام يسلّيه، و ينظر إليه.
حتّى أصبح، فلما صلّى بأصحابه الغداة، قال: اللَهُمَّ اشْفِ عَلِيَّاً وَ عَافِهِ فَإنَّهُ قَدْ أسْهَرَني مِمَّا بِهِ مِنَ الوَجَعِ.
فعوفي [عليّ عليه السلام بعد دعاء رسول الله]، فكأنّما نشط من عقال ما به من علّة. ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: أبْشِرْ يَا أخِي. قال ذلك و أصحابه حوله يسمعون.
فقال عليّ عليه السلام: بَشَّرَكَ اللهُ بِخَيْرٍ يَا رَسُولَ اللهِ وَ جَعَلْني فِداكَ.
قال: إنِّي لَمْ أسْألِ اللهَ شَيئاً إلَّا أعْطَانِيهِ! وَ لَمْ أسْألْ لِنَفْسي شَيْئاً إلَّا سَألْتُ لَكَ مِثْلَهُ! إنِّي دَعَوْتُ اللهَ أنْ يُوَاخِيَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ فَفَعَلَ.
وَ سَألْتُهُ إذا ألْبَسَنِي ثَوْبَ النُّبُوَّةِ وَ الرِّسَالَةِ أن يُلْبِسَكَ ثَوْبَ الوَصيَّةِ وَ الشَّجَاعَةِ، فَفَعَلَ.
وَ سَألْتُهُ أنْ يَجْعَلَكَ وَصِيِّي، وَ وَارثِي، وَ خازِنَ عِلْمِي، فَفَعَلَ.
وَ سَألْتُهُ أن يَجْعَلَكَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هَارُونَ مِنْ موسى وَ أنْ يَشُدَّ بِكَ أزْرِي وَ يُشْرِكَكَ في أمْرِي فَفَعَلَ؛ إلَّا أنَّهُ لَا نبَيّ بَعْدي، فَرَضِيتُ الحديث۱.
و روى الحاكم الحسكانيّ بسنده المتّصل عن أنس بن مالك [أنّ] النبيّ [الأكرم] صلّى الله عليه و آله و سلّم بعث مصدّقاً إلى قوم، فعدوا على المصدّق، فقتلوه. فبلغ ذلك النبيّ، فبعث عليّاً. فقتل المقاتلة و سبى الذرّيّة. فبلغ ذلك النبيّ فسرّه. فلمّا بلغ عليّ أدنى المدينة، تلقّاه رسول الله فاعتنقه، و قبّل بين عينيه، و قال: بِأبي أنْتَ وَ امِّي مَنْ شَدَّ اللهُ عَضُدِي بِهِ كَمَا شَدَّ عَضُدَ موسى بِهَارُونَ٢. و هذا الكلام مأخوذ من القرآن إذ خاطب الله موسى: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ٣.
دعاء النبيّ لتكون جميع الكمالات لعليّ عليه السلام بما فيها النبوّة
و أخرج العلّامة الأمينيّ عن «المناقب» لأحمد بن حنبل، و «الرياض النضرة» ج ٢، ص ۱٦٣، عن أسماء بنت عميس قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يَقُولُ: اللَهُمَّ إنِّي أقُولُ كَمَا قَالَ أخِي موسى: اللهم اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي: أخِي عَلِيَّاً اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً ، إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً٤.
و نظير هذا المفاد الذي استثنى أمير المؤمنين عليه السلام من النبوّة
و بيّن لنا أنّ أحداً من الناس لا يفوقه، و أنه متّصف بجميع الصفات الكمالية و المناصب الإلهيّة، حديث رواه أبو نعيم الأصفهانيّ بسنده المتّصل عن مَعَاذ بن جَبَل، قال:
قَالَ النَّبِيّ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: يَا عَلِيّ! أخْصِمُكَ بِالنُّبُوَّة وَ لَا نُبُوَّةَ بَعْدَي! وَ تَخْصِمُ النَّاسَ بِسَبْعٍ! وَ لَا يُحَاجُّكَ فِيهَا أحَدٌ مِنْ قُرَيشٍ!
أنْتَ أوَّلُهُمْ إيمَانَاً بِاللهِ! وَ أوْفَاهُمْ بِعَهْدِ اللهِ! وَ أقْوَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ! وَ أقْسَمُهُمْ بِالسَّوِيَّةِ! وَ أعْدَلُهُمْ في الرَّعِيَّةِ! وَ أبْصَرُهُمْ بِالقَضِيَّةِ! وَ أعْظَمُهُمْ عِنْدِ اللهِ مَزِيَّةً!۱.
و نلاحظ هنا أن رسول الله قد استثنى بصراحة الإمام عليّ بن أبي طالب من النبوّة فقط، و لكن اعتبره أعلى و أرفع من كلّ ما في الكون، و خصّه بجميع الكمالات إلّا النبوّة. و على هذا فالإمام عليّ عليه السلام حائز جميع الصفات و المناصب، لأنّ معنى كلامه صلّى الله عليه و آله: أوفاهم بعهد الله و أقومهم بأمر الله و أبصرهم بالقضيّة و أعدلهم في الرعيّة و أقسمهم بالسويّة و أعظمهم عند الله مَزِيّةً، قائم على أساس كماله و سعة وجود نفسه و إحاطته النورنيّة و الإلهيّة التي منحها إيّاه ربّه سبحانه و تعالى، و رفعه إلى هذه الدرجة و المقام.
و كذلك روى أبو نعيم الأصفهانيّ بسنده المتّصل الآخر عن سعيد بن المُسَيِّب، عن أبي سعيد الخُدري، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه و آله
و سلّم لِعَلِيّ -وَ ضَرَبَ بَيْنَ كِتْفَيْهِ- يَا عَلِيّ! لَكَ سَبْعُ خِصَالٍ لَا يُحَاجُّكَ فِيهِ أحَدٌ يَوْمَ القِيَامَة! أنْتَ أوَّلُ المُؤْمِنِينَ بِاللهِ إيمَانَاً! وَ أوْفَاهُمْ بِعَهْدِ اللهِ! وَ أقْوَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ! وَ أرْأفُهُمْ بِالرَّعِيَّةِ! وَ أقْسَمُهُمْ بِالسَّوِيَّةِ! وَ أعْلَمُهُمْ بِالقَضيَّةِ! وَ أعْظَمُهُمْ مَزِيَّةً يَوْمَ القِيَامَةِ۱.
كانت وزارة الإمام عليّ و خلافته منذ اليوم الأوّل لنبوّة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم
و نلاحظ في الحديث أيضاً أنّه لم يعتبر عليّاً أفضل من قريش فحسب، بل أفضل من جميع الخلائق يوم القيامة أيضاً. و لذا قال في آخره: قيمتك و مزيّتك أعظم من الجميع يوم القيامة.
و قد قال رسول الله هذا الكلام، و هو يضرب بيده على ظهر عليّ.
و على أساس وحدة النفس هذه، و اتّحاد روح رسول الله و روح أمير المؤمنين، الذي كان قائماً منذ اليوم الأوّل الذي كُلِّف فيه رسول الله بدعوة عشيرته و قبيلته، و ذلك قبل أن يُكَلَّف بالتبليغ العامّ، و الإعلان العامّ، و قبل أن تنزل الآية: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ٢.
و حين نزلت الآية الشريفة: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ٣، و امر النبيّ بدعوة كبار بني هاشم و رجالهم، و قال لعليّ: اطبخ لنا رِجل شاةٍ! و أحضر لنا قعباً من لبن! و ادع أربعين من بني عبد المطّلب، و كان عددهم بهذا المقدار آنذاك!
و دعا عليّ عليه السلام بني عبد المطّلب كافّة؛ و أكلوا كلّهم من ذلك الطعام، و شبعوا؛ و شربوا جميعهم من ذلك القعب، و ارتووا؛ خاطبهم النبيّ
الأكرم قائلًا: يا قوم! بُعثت إليكم و إلى العرب و الناس كافّة بالنبوّة! و هذا حمل ثقيل، و هذه مهمّة عظيمة. أيّكم يؤازرني في أمر الرسالة هذا؟ و يعينني عليه؟ و هو أخي، و وصيّي، و خليفتي في امّتي، و ولييّ كلّ مؤمن بعدي؟ فلم يجبه أحد. فقام عليّ، و قال: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ.
و أجلسه الرسول، إذ كان طفلًا لم يبلغ الحلم؛ ثمّ كرّر دعوته قائلًا: أيُّكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى أنْ يَكُونَ أخِي وَ صَاحِبِي وَ وَارِثِي وَ وَلِيَّكُمْ بَعْدِي؟! و لم يجبه أحد، و قام عليّ و قال: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ!
فقال الرسول: اجلس. ثمّ كرّر دعوته ثالثاً قائلًا: أيُّكُمْ يَنْتَدِبُ أنْ يَكُونَ أخِي، وَ وَزِيرِي، وَ وَصِيِّي، وَ خَليِفَتِي في امَّتِي، وَ وَلِيّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي؟!
و لم يجبه أحد، و قام عليّ، و قال: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ!
فأخذ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم رأس عليّ في حجره، و ألقى في فمه من بصاقه، و قال: اللَهُمَّ امْلأ جَوْفَهُ عِلْمَاً وَ فَهْمَاً وَ حُكْمَاً! و قال: إنَّ هَذَا أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَليِفَتِي فِيكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أطِيعُوا!۱.
ثمّ قال لعمّه أبي طالب: يَا أبَا طَالِبٍ! اسْمَعِ الآنَ لِابْنِكَ! وَ أطِعْ! فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ مِنْ نَبِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى!
و خلاصة الأمر فإنَّ الواضح من هذا الموضوع أنّ النبيّ هو الذي أعدّ ذلك المجلس ليعيّن له ناصراً و معيناً، و وزيراً، و أخاً، و مواسياً في المحن، و البلايا و الشدائد، و ثقل عبء النبوّة، و تبليغ الرسالة في حياته، و حراسة الوحي الإلهيّ، و حفظ دين الله، و إمامة الامّة الإسلاميّة بعد مماته.
تماماً كما أنّ موسى رأى نفسه وحيداً على أثر الخطاب الإلهيّ،
و شعر أنّه محتاج إلى أخ مثل هارون، ليكون له عضداً و مؤازراً، و شريكاً في حمل أعباء النبوّة و أداء الرسالة إلى فرعون و الفراعنة، فكذلك رسول الله، رأى نفسه وحيداً على أثر الوحي الإلهيّ في حمل الرسالة و إبلاغها إلى سكّان العالم و المشركين و الكفّار، و كذلك في الصراع العلميّ و العمليّ ضدّ المناوئين و المنافقين و طلّاب الدنيا الذين كانوا دائماً سدّاً محكماً و حصناً حصيناً للحؤول دون نيل الأنبياء أهدافهم. و أعلن أنّه يريد خليفةً، و وزيراً، و معيناً، و ناصراً، و أخاً له يؤازره في هذا الأمر، و يشاركه في أداء الرسالة، و يكون حاميه و وزيره و أخاه في شتّى المشاكل و البلايا و المصائب و المحن، و عراقيل المتعدّين و المتجاوزين، و الصراع مع الجائرين و الظالمين، و قطع دابر الفاجرين و المجرمين، و إيصال نداء التوحيد إلى آذان المستضعفين و المغلوبين على أمرهم، و أسرى النفس الأمّارة، و طواغيت الزمان. و يرافقه خطوة خطوة في السرّاء و الضرّاء، و الليل و النهار، و السلم و الحرب. و يحمل عبء الخلافة و الإمامة و الوزارة كما حمل صلّى الله عليه و آله عبء الرسالة. و يكون معه في كافّة مراحل و منازل السير المعنويّ و الروحيّ.
و في ذلك اليوم نُصب عليّ من قبل الله سبحانه و تعالى في مقام الإمامة و الولاية و الخلافة و الوراثة و الاخوّة. فنبوّة رسول الله غير منفصلة عن ولاية عليّ؛ و اقيم الإسلام منذ اليوم الأوّل على قاعدتي النبوّة و الإمامة؛ و رُفِعَ السقف على هاتين الدعامتين؛ و أنّه لينهار إذا كان على قاعدة واحدة دون اخرى، و يتصدّع و يتشذّر، و لا يبقى منه إلّا الاسم.
إنّ النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم لم يَدعُ عشيرته و قومه إلى الإسلام فحسب، و ذلك أنّ قبول أصل الإسلام لم يكن مهمّاً لكثير منهم؛ كما أنّ حمزة اعتنق الإسلام، و أصبح من طلائع المسلمين السبّاقين في هذا
الطريق. و كان إسلام أبي طالب خفية، و كانت مساعدته للنبيّ إلى درجة أنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم سمّى العام الذي توفي فيه هو و خديجة: عام الحُزْن لشدّة الحزن الذي نزل به؛ و اعتنق العبّاس الإسلام أيضاً.
و إنّما كانت دعوة النبيّ في ذلك المجلس لطلب الوزير، و قبول المعاون، و الخليفة، و الوصيّ في كافّة الشؤون المتعلّقة بالامّة الإسلاميّة. و لمّا كان قبول هذا الأمر عسيراً جدّاً، و قاصماً للظهر، فلهذا صمت الجميع، و امتنعوا عن الإقرار به.
اجتماع نبوّة النبيّ و وزارة عليّ عليه السلام معاً
و قد تحدّثنا مفصّلًا عن آية الإنذار و حديث العشيرة في المجلس الخامس من الجزء الأوّل، من هذا الكتاب؛ و عرضنا مدارك متقنة و قويّة في دلالة هذا الحديث المبارك و سنده، فلهذا أحجمنا هنا عن ذكر المدارك، و دللنا على وجود لفظ: وَ خَليفَتِي فِيكُمْ في ذلك الحديث، و هو ما يثّاقل منه العامّة.
رواية سُلَيمْ حول حديث العشيرة و آية الإنذار
و نذكر فيما يأتي أيضاً فقرات ممّا يستخلص من حديث العشيرة عن بعض المصادر الاخرى:
تحدّث سُلَيْم بن قيس عن الحوار الذي جرى بين معاوية و قيس بن سعد بن عبادة -في سفر معاوية إلى الحجّ و دخوله المدينة بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام، و بعد صلح الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أو بعد استشهاده- و انتفاض قيس في تلك المناظرة، و استدلاله على بطلان خلافه معاوية و حقّانيّة عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام؛ و أدان معاوية. و ذكر سُليم أنّ من جملة ما قاله قيس بن سعد لمعاوية:
إنّ الله بعث محمّداً صلّى الله عليه و آله و سلّم رحمة للعالمين. فبعثه إلى الناس كافّة، و إلى الجنّ و الإنس، و الأحمر، و الأسود، و الأبيض، اختاره لنبوّته؛ و اختصّه برسالته.
و كان أوّل من صدّقه، و آمن به ابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام.
و أبو طالب عمّه يذبّ عنه، و يمنعه، و يبعد عنه الأخطار، و يهتمّ في حفظه و حراسته، و يحول بين كفّار قريش و بين أن يردعوه، أو يؤذوه، أو يحولوا دون دعوته؛ فأمره أن يبلّغ رسالة ربّه.
و لم يزل النبيّ ممنوعاً من ضيم قريش و أذاهم، حتّى مات عمّه أبو طالب؛ و أمر ابنه عليّاً. بمؤازرته؛ فوازره و نصره؛ و جعل نفسه دونه في كلّ شديدة و كلّ ضيق، و كلّ خوف. و اختصّ الله بذلك عليّاً عليه السلام من بين قريش؛ و أكرمه من بين جميع العرب و العجم.
و جمع رسول الله جميع بني عبد المطّلب؛ فيهم أبو طالب، و أبو لهب. و هم يومئذٍ أربعون رجلًا؛ فجمعهم رسول الله، و خادمه عليّ؛ و رسول الله في حجر عمّه أبي طالب.
فَقَالَ: أيُّكُمْ يَنْتَدِبُ أنْ يَكُونَ أخِي، وَ وَزِيرِي، وَ وَصِيِّي، وَ خَلِيفَتِي في امَّتِي، وَ وَلِيّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي؟! فسَكَتَ القَوْمُ حتّى أعَادَهَا ثَلَاثَاً.
فَقَالَ عَلِيّ عَلِيهِ السَّلَامُ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ صلّى الله عَلَيْكَ!
فَوَضَعَ رَأسَهُ في حِجْرِهِ وَ تَفَلَ في فِيهِ، وَ قالَ: اللَهُمَّ امْلأ جَوْفَهُ عِلْمَاً وَ فَهْمَاً وَ حُكْمَاً. ثمَّ قَالَ لأبِي طَالِبٍ: يَا أبَا طَالِبٍ! اسْمَعِ الآنَ لِابْنِكَ وَ أطِعْ فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ مِنْ نَبِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى الحديث۱.
و في «غاية المرام» عن محمّد بن عبّاس بن ماهيار، في «تفسير
القرآن فيما نَزَلَ في أهلِ البيت» عليهم السلام، بسنده المتّصل عن محمّد بن عبد الله بن أبي رافع۱، غلام رسول الله، عن أبيه، عن جدّه أبي رافع، قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم جميع بني عبد المطّلب في الشِّعْب، و كان بنو عبد المطّلب (جدّ رسول الله) أربعين رجلًا؛ و طبخ لهم رِجل شاةٍ، و فتّ لهم الخبز، و صبّ عليه المرق؛ و قدّم لهم ذلك الثريد٢ و اللحم. فأكلوا جميعهم و شبعوا.
ثمّ سقاهم عسّاً واحداً فشربوا كلّهم منه حتّى رووا. فقال أبو لهب: و الله إنّ منّا لنفراً يأكل الرجل منهم الجفنة، فما تكاد تشبعه؛ و يشرب الفرق فما يرويه. و إنّ ابن أبي كبشة (لقب كان يذكره أبو لهب لرسول الله) دعانا فجمعنا على رِجل شاة، و عسّ من لبن فشبعنا و روينا منهما. إنّ هذا لهو السحر المبين.
ثمّ دعاهم رسول الله، فقال: إنّ الله تبارك و تعالى أمرني بقوله: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَ رَهْطَكَ الْمُخْلَصْيِنَ.
و أنتم رهطي المخلصين و عشيرتي الأقربين! و إنّ الله لم يبعث رسولًا إلّا جعل من أهله أخاً و وزيراً و وارثاً و وصيّاً. فَأيُّكُمْ يَقُومُ يُبايِعُني أنَّهُ أخي وَ وَزيري، وَ وارثي دُونَ أهْلي، وَ وَصيّي وَ خَليفَتي في أهْلي،
وَ يَكونُ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، غَيْرَ أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟!
فسكت القوم.
و قال النبيّ: و الله ليقومنّ قائمكم، أو يكون في غيركم، ثمّ لتندمنّ.
قال أبو رافع: فقام عليّ أمير المؤمنين عليه السلام، و هم ينظرون كلّهم إليه، فبايعه، و أجابه إلى ما دعاه.
فقال له النبيّ: ادن منيّ يا عليّ! فدنا منه. فقال: افتح فاك! ففتح فاه. فمجّ فيه من ريقه؛ و تفل فيه بين كتفيه، و بين ثدييه.
فقال أبو لهب للنبيّ: لبئس ما حبوتَ به ابن عمّك! إذ جاءك فملأتَ فاه بزاقاً۱!
فقال النبيّ: بَلَى! مَلأتُهُ عِلْمَاً وَ حُكْمَاً وَ فِقْهَاً.٢
روايات الحاكم الحسكانيّ في حديث العشيرة و آية الإنذار
و روى الحاكم الحسكانيّ، عن أبي القاسم القرشيّ بسنده المتّصل عن عبد الله بن عبّاس، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام. قال: لمّا انزلت هذه الآية: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ على رسول الله، دعاني رسول الله صلّى الله عليه و آله، فقال: يا عليّ! إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، و عرفت أنّي مهما أمرتهم بهذا الأمر، أرى منهم ما أكرهُ!
فصمتُّ حتّى جاءني جبرئيل، فقال: يَا مُحَمَّدُ! إنّك إن لم تفعل ما امرتَ به، يعذّبك ربّك، فاصنع ما بدا لك!
يا عليّ! اصنع لنا صاعاً من طعام! و اجعل لي فيه رِجْلَ شاةٍ؛ و املأ لنا عُسّاً من لبن؛ ثمّ اجمع لي بني عبد المطّلب حتّى أكلّمهم، و ابلّغهم ما امرت به. و يستطرد في الحديث إلى أن يقول:
فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبْ! إنِّي وَ اللهِ مَا أعْلَمُ بِأحَدٍ مِنَ العَرَبِ جَاءَ قَوْمَهُ بِأفْضَلَ مِمَّا جِئْتُكُمْ بِهِ! إنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِأمْرِ الدُّنْيا وَ الآخِرَةِ؛ وَ قَدْ أمَرَنِيَ اللهُ أنْ أدْعُوَكُمْ إلَيْهِ.
فَأيُّكُمْ يُوَازِرُنِي عَلَى أمْرِي هَذَا، على أنْ يَكُونَ أخِي وَ وَصِيِّي وَ وَلِيِّي وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ؟
فأحجم القوم عنها جميعاً.
فقلت و إنّي لأحدثهم سنّاً، و أرمضهم عيناً، و أعظمهم بطناً، و أحمشهم ساقاً۱: أنَا يَا نَبِيّ اللهِ؛ أكُونُ وَزِيرَكَ عَلَيهِ!
فقام القوم يضحكون، و يقولون لأبي طالب: قَدْ أمَرَكَ أنْ تَسْمَعَ وَ تُطِيعَ لِعَليّ!٢
و روى الحاكم الحسكانيّ أيضاً عن ابن فنجويه بسنده المتّصل عن البراء بن عازب قال: لمّا نزلت الآية: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، جمع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بني عبد المطّلب؛ و سرد القصّة، إلى أن قال: فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! إنِّي أنَا النَّذِيرُ إلَيْكُمْ مِنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ البَشيِرُ لِمَا يَجيءُ بِهِ أحَدُكُمْ، جِئْتُكُمْ بِالدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ، فَأسْلِمُوا وَ أطِيعُونِي تَهْتَدُوا!
وَ مَنْ يُوَاخِينِي [مِنْكُمْ] وَ يُوَازِرُنِي؛ وَ يَكُونُ وَلِيِّي وَ وَصِيِّي بَعْدِي وَ خَليفَتِي في أهْلِي وَ يَقْضِي دَيْنِي؟!
فسكت القوم [كلّهم]؛ و أعاد ذلك ثلاثاً؛ كلّ ذلك يسكت القوم، و يقول عليّ: [قلتُ]: أنا! فقال [النبيّ]: أنت! فقام القوم و هم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمَّرَهُ عليك۱.
و نقل الشيخ الطبرسيّ هذه الرواية نفسها بدون ذكر السند، و ذلك في تفسير الآية المباركة؛ و قال أيضاً: أورده الثعلبيّ في تفسيره٢.
روايات ابن عساكر حول حديث العشيرة
و نقل ابن عساكر الدمشقيّ ثماني روايات حول آية الإنذار، و جمع العشيرة، و إقامة عليّ عليه السلام في الوزارة، و ذلك في الجزء الأوّل من كتاب أمير المؤمنين عليه السلام، من رقم ۱٣٥ إلى ۱٤٢.
و ذكر الرواية ۱٣٥ بسنده المتّصل عن سالم، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام؛ و بعد بيان القضيّة، قال رسول الله في آخرها: مَنْ يُوَازِرُنِي عَلَى مَا أنَا عَلَيْهِ وَ يُبَايِعُنِي عَلَى أنْ يَكُونَ أخِي وَ لَهُ الجَنَّةُ؟
قلتُ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ! وَ إنِّي لأحْدَثُهُمْ سِنَّاً وَ أحْمَشُهُمْ سَاقَاً. فسكت القوم ثمّ قالوا: يا أبا طالب! أ لا ترى ابنك؟ قال أبو طالب: دعوه، فلن يألو من ابن عمّه خيراً۱.
و نقل الرواية ۱٣٦ بسنده المتّصل عن ربيعة بن ناجذ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم دعا بني عبد المطّلب، و ذكر الرواية بالإعجاز الذي حصل في ذلك المجلس إذ شبع الجميع من رِجْل الشاةِ، و ارتووا من قعب اللبن دون أن ينقص منهما شيء؛ ثمّ قال النبيّ:
يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! إنِّي بُعِثْتُ إلَيكُمْ خَاصَّةً وَ إلى النَّاسِ عَامَّةً وَ قَدْ رَأيْتُمْ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ مَا رَأيْتُمْ! فَأيُّكُمْ يُتَابِعُنِي على أنْ يَكُونَ أخِي وَ صَاحِبِي؟! يقول عليّ عليه السلام: لم يقم إليه أحد؛ فقمت إليه، و كنت أصغر القوم. قال: فقال [رسول الله]: اجلس! و فعل [رسول الله] ثلاث
مرّات كذلك؛ و أنا في كلّ ذلك أقوم إليه، فيقول لي: اجلس حتّى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي [للبيعة]۱.
و روى الرواية ۱٣۷ بسنده المتّصل عن عبّاد بن عبد الله الأسديّ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قريشا، ثمّ قال: لَا يُؤَدِّي أحَدٌ عَنِّي دَيْنِي إلَّا عَلِيّ٢.
و نقل الرواية ۱٣۸ بسند متّصل آخر عن عبّاد بن عبد الله الأسديّ أيضاً، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: لمّا نزلت الآية: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، دعا رسول الله رجالًا من أهل بيته، و بعد بيان شبعهم من رِجل الشاة، و ارتوائهم من قعب اللبن، قال لهم:۱۰
عَلِيّ يَقْضِي دَيْنِي٣؛ وَ يُنْجِزُ مَوْعِدِي٤.
و أخرج الرواية ۱٣٩ بسند متّصل آخر عن عبّاد بن عبد الله، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: يا عليّ! اجمع بني هاشم؛ و طبخت صاعاً من الطعام و شاة ثلاث مرّات، و أعددت قعباً من لبن. و كانوا يأكلون و يشبعون؛ و قالوا مرّتين: ما رأينا كاليوم في السحر! و في الثالثة بَدَرَهُم
رسول الله بالكلام، فقال: أيُّكُمْ يَقْضِي دَيْنِي وَ يَكُونُ خَليِفَتِي وَ وَصِيِّي مِنْ بَعْدِي؟!
قال: فسكت العبّاس مخافة أن يحيط ذلك أي [دَين رسول الله] بماله؛ فأعاد رسول الله الكلام على القوم؛ و سكت العبّاس [أيضاً] مخافة أن يحيط ذلك بماله. فأعاد رسول الله الكلام الثالثة. قال [أمير المؤمنين عليه السلام]: و إنِّي يومئذٍ لأسوأهم هيئة، إنِّي يَوْمَئِذٍ أحْمَشُ السَّاقَيْنِ؛ أعْمَشُ العَيْنَيْنِ، ضَخْمُ البَطْنِ؛ فقلت: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ!
قال النبيّ: أنْتَ يَا عَلِيّ! أنْتَ يَا عَلِيّ!!۱
و نقل الرواية ۱٤۰ بسنده المتّصل، عن عبد الله بن عبّاس، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام. و هذه الرواية بعباراتها نفسها هي الرواية التي ذكرناها عن الحاكم الحَسْكانيّ أولًا.٢
و أخرج الرواية ۱٤۱ بسنده المتّصل عن أبي رافع. و هذه الرواية عينها هي الرواية التي نقلناها سابقاً عن كتاب «غاية المرام» عن محمّد بن عبّاس بن ماهيار، عن تفسير القرآن فيما نزل في أهل البيت عليهم السلام.٣
و ذكر الرواية ۱٤٢ بسنده المتّصل عن عمر بن عليّ بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ أبي طالب، عن أبيه، عن عليّ بن الحسين، عن أبي رافع، قال: كنت قاعداً بعد ما بايع الناس أبا بكر فسمعت أبا بكر يقول
للعبّاس:
انْشِدُكَ اللهِ! هَلْ تَعْلَمُ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ جَمَعَ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ وَ أوْلَادَهُمْ، وَ أنْتَ فِيهِمْ، وَ جَمَعَكُمْ دُونَ قُرَيشٍ. فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! إنَّهُ لَمْ يَبْعَثِ اللهُ نَبِيَّاً إلَّا جَعَلَ لَهُ مِنْ أهْلِهِ أخاً وَ وَزِيرَاً وَ وَصِيّاً وَ خَلِيفَةً في أهْلِهِ! فَمَنْ مِنْكُمْ يُبَايِعُنِي عَلَى أنْ يَكُونَ أخِي، وَ وَزِيرِي، وَ وَصِيِّي، وَ خَلِيفَتِي في أهْلِي؟! فَلَمْ يَقُمْ مِنْكُمْ أحَدٌ!
فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! كُونُوا في الإسْلَامِ رُؤُوسَاً وَ لَا تَكُونُوا أذْنَاباً. وَ اللهِ لَيَقُومَنَّ قَائِمُكُمْ، أوْ لَتَكُونَنَّ في غَيْرِكُمْ ثُمَّ لَتَنْدَمُنَّ!
فَقَامَ عَلِيّ مِنْ بَيْنِكُمْ فَبايَعَهُ على مَا شَرَطَ لَهُ وَ دَعَاهُ إلَيْهِ.
أ تَعْلَمُ هَذَا لَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ؟! قَالَ: نَعَمْ۱
رواية أحمد بن حنبل حول حديث العشيرة
و روى أحمد بن حنبل بسنده عن المنهال، عن عبّاد بن عبد الله الأسديّ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: لمّا نزلت الآية: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، جمع النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أهل بيته؛ فاجتمع ثلاثون شخصاً منهم، فأكلوا، و شربوا، قال: فقال لهم:
مَنْ يَضْمَنُ عَنِّي دَيْني، وَ مَوَاعِيدي؛ وَ يَكُونُ مَعِي في الجَنَّةِ؛ وَ يَكُونُ خَلِيفَتِي في أهْلِي؟! فَقَالَ رَجُلٌ لَمْ يُسَمِّهِ شَرِيكٌ: يَا رَسُولَ اللهِ! أنْتَ كُنْتَ بَحْرَاً مَنْ يَقُومُ بِهَذَا؟! قَالَ: ثمَّ قَالَ الآخَرُ قَالَ: فَعَرَضَ ذَلِكَ على أهْلِ بَيْتِهِ، فَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أنَا٢.
ذكر ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» في ذيل كلام الإمام في الخطبة القاصعة: أنَا وَضَعْتُ في الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ العَرَبِ، وَ كَسَرْتُ نَواجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ، قال: روى عن جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام قال:
كَانَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ يَرَى مَعَ رَسُولِ اللهُ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَبْلَ الرِّسَالةِ الضَّوءَ وَ يَسْمَعُ الصَّوْتَ؛ وَ قَالَ لَهُ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ: لَوْ لا أنِّي خَاتَمُ الأنْبِيَاءِ لَكُنْتَ شَرِيكاً في النُّبُوَّةِ! فَإنْ لَا تَكُنْ نَبِيّاً فَإنَّكَ وَصِيّ نَبِيّ وَ وَارِثُهُ! بَلْ أنْتَ سَيِّدُ الأوْصِيَاءِ وَ إمَامُ الأتْقِيَاءِ!
ثمّ نقل ابن أبي الحديد قصّة آية الإنذار و حديث العشيرة عن الطبريّ في تأريخه بنحو مفصّل، و هو ما أوردناه في الجزء الأوّل من كتابنا هذا: «معرفة الإمام» في المجلس الخامس، عن الطبريّ. و كذلك أوردناه في هذا الجزء في أوّل رواية الحاكم الحسكانيّ. و فيه تصريح على أنّ النبيّ قال: هَذَا أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أطيِعُوا!
ثمّ قال: و يدلّ على أنّه وزير رسول الله من نصّ الكتاب و السنّة قول الله تعالى: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.
و قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في الخبر المجمع على روايته
بين سائر فرق الإسلام: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
و على هذا أثبت النبيّ لعليّ جميع مراتب و مقامات هارون من موسى. فإذاً هو وزير رسول الله، و شادّ أزره؛ و لو لا أنّه خاتم النبيّين، لكان شريكاً في أمره.
الروايات الواردة حول حديث العشيرة
و روى أبو جعفر الطبريّ أيضاً في تاريخه أنّ رجلًا قال لعليّ عليه السلام:
يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! بِمَ وَرِثْتَ ابْنَ عَمِّكَ دُونَ عَمِّكَ؟!
فقال عليّ عليه السلام: هاؤُم! ثلاث مرّات حتّى اشرأبَّ الناس، و نشروا آذانهم، ثمّ قال:
جمع رسول الله صلّى الله عليه و آله بني عبد المطّلب بمكّة، و هم رهطه، كلّهم يأكل الجَذَعَة، و يشرب الفِرْق۱، فصنع مُدّاً من طعام، حتّى أكلوا و شبعوا، و بقي الطعام كما هو، كأنّه لم يمسّ. ثمّ دعا بغُمَر٢، فشربوا و رووا، و بقي الشراب كأنّه لم يشرب؛ ثمّ قال: يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! إنِّي بُعِثْتُ إلَيكُمْ خَاصَّةً؛ وَ إلى النَّاسِ عَامَّةً، فأيُّكُمْ يُبَايِعُنِي على أنْ يَكُونَ أخِي وَ صَاحِبِي وَ وَارِثِي؟! فلم يقم إليه أحد، فقمت إليه، و كنت من أصغر القوم. فقال النبيّ: اجلس. ثمّ قال ذلك ثلاث مرّات؛ كلّ ذلك أقوم إليه، فيقول: اجلس، حتّى كان في الثالثة، فضرب بيده على يدي فعند ذلك ورثت ابن
عمّي دون عمّي۱.
و روى الملّا عليّ المتّقي عن ابن مَرْدَوَيْه قصّة دعوة بني عبد المطّلب في تفسير آية الإنذار، إلى أن قال: ثُمَّ قَالَ لَهُمْ وَ مَدَّ يَدَهُ مَنْ يُبَايِعُنِي على أنْ يَكُونَ أخِي، وَ صَاحِبِي، وَ وَلِيَّكُمْ مِنْ بَعْدِي؟! و أنا يومئذ أصغر القوم، عظيم البطن و مددت يدي و قلت: أنَا ابَايِعُكَ! فبايعني رسول الله على ذلك. قال: و ذلك الطعام أنا صنعته٢.
و نلاحظ في هذا الحديث أنّه و إن لم يرد فيه لفظ: خَلِيفَتِي، و لكن ورد لفظ: وَ وَلِيَّكُمْ مِنْ بَعْدِي. و لا شكّ أنّ المراد من الولاية هنا منصب الإمامة و الخلافة لسببين: الأوّل: قرينة تشكيل ذلك المجلس، و حضور الأعمام و بني عبد المطّلب، و دعوة النبيّ تلك، إذ لا مناسبة لأيّ معنى آخر هنا غير هذا المعنى. الثاني: قرينة: مِنْ بَعْدِي، إذ إنّ إمامة أمير المؤمنين عليه السلام و خلافته كانت بعد رسول الله. و أمّا سائر أقسام الولاية و معانيها منحصرة بما بعد وفاة الرسول الأعظم فليست له بزعم الخصم.
و نقل ابن أبي الحديد عن شيخه أبي جعفر الإسكافيّ٣ أنّه قال: و قد
روى في الخبر الصحيح أنّ النبيّ كلّف عليّاً في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام و انتشارها بمكّة أن يصنع له طعاماً، و أن يدعو له بني عبد المطّلب. فصنع له الطعام، و دعاهم له. فخرجوا ذلك اليوم، و لم ينذرهم صلّى الله عليه و آله و سلّم لكلمة قالها عمّه أبو لهب؛ فكلّفه في اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام، و أن يدعوهم ثانية، فصنعه، و دعاهم فأكلوا.
ثمّ كلّمهم صلّى الله عليه و آله فدعاهم إلى الدين، و دعا عليّاً معهم لأنّه من بني عبد المطّلب؛ ثمّ ضمن لمن يؤازره منهم و ينصره على قوله أن يجعله أخاه في الدين، و وصيّه بعد موته، و خليفته من بعده. فأمسكوا كلّهم و أجابه عليّ وحده، و قال: أنَا أنْصُرُكَ على مَا جِئْتَ بِهِ؛ وَ اوازرُكَ وَ ابَايِعُكَ.
فقال لهم [النبيّ] لمّا رأى منهم الخذلان، و منه النصر؛ و شاهد منهم المعصية، و منه الطاعة؛ و عاين منهم الإباء، و منه الإجابة:
هَذَا أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي.
فقاموا يسخرون، و يضحكون، و يقولون لأبي طالب: أطِعِ ابْنَكَ! فَقَدْ أمَّرَهُ عَلَيْكَ۱.
و كم أرى من المناسب هنا أن أنقل حكايتين لطيفتين و ظريفتين في هذا الموضوع. و هما في كتاب «المناقب» لابن شهرآشوب. قال: ذكر ذلك ابن عبد ربّه في «العقد الفريد» بل روته الامّة بأجمعها عن أبي رافع و غيره
أنّ عليّاً نازع العبّاس إلى أبي بكر في بُرد النبيّ أو ردائه، و سيفه، و فرسه. فقال أبو بكر: أيْنَ كُنْتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ حِيْنَ جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ وَ أنْتَ أحَدُهُمْ فَقَالَ: أيُّكُمْ يُوَازِرُنِي فَيَكُونَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي في أهْلِي وَ يُنْجِزَ مَوْعِدِي وَ يَقْضِي دَينِي؟
فقال له العبّاس: فَمَا أقْعَدَكَ مَجْلِسَكَ هَذَا؟ تَقَدَّمْتَهُ وَ تَأمَّرْتَ عَلَيهِ؟
فقال أبو بكر: أ غَدْرَاً يَا بنِي عَبْدِ المُطَّلِب؟
أمّا الحكاية الثانية فقد قال متكلّم لهارون الرشيد: اريد أن اقرّر هشام بن الحكم بأنّ عليّاً كان ظالماً. فقال له هارون: إن فعلت فلك كذا و كذا! و أمر به. فلمّا حضر، قال المتكلّم لهشام: يا أبا محمّد! روت الامّة بأجمعها أنّ عليّاً نازع العبّاس إلى أبي بكر في بُرد النبيّ أو ردائه و سيفه و فرسه. قال: نعم! قال المتكلّم: فأيّهما الظالم لصاحبه؟ فخاف هشام من الرشيد (لأنّ العبّاس جدّه) فقال: لم يكن فيهما ظالم. قال المتكلّم: فيختصم اثنان في أمر و هما محقّان؟ قال: نعم. اختصم الملكان إلى داود في النعاج و ليس فيهما ظالم، و إنما أرادا أن ينبّهاه على الحكم؛ كذلك عليّ و العبّاس تحاكما إلى أبي بكر في ميراث رسول الله ليعرّفاه ظلمه۱.
تحريف علماء العامّة و إسقاطهم مناصب عليّ في يوم العشيرة
أجل إنّ العامّة و متعصّبيهم جهدوا في إخفاء الحقائق، و إظهار الأباطيل ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، و أغضَوا عن هذا الحديث المبارك الذي يمثّل نصّاً صريحاً على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام و خلافته بلا فصل، إذ ذكروا بعض فقراته في كتبهم، و أحجموا عن ذكر فقراته الاخرى.
و ذكرنا في الدرس الخامس من دروس الجزء الأوّل من كتابنا هذا
«معرفة الإمام» أنّ الحلبيّ الذي روى هذا الحديث في سيرته، قد بلغ به إلىقوله: قَالَ عَلِيّ: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَ أنَا أحْدَثُهُمْ سِنَّاً، وَ سَكَتْ القَوْمُ.
و لم يقل شيئاً عن سؤال النبيّ، و جوابه المتعلّق بمقامات أمير المؤمنين، و حذف قوله صلّى الله عليه و آله: على أنْ يَكُونَ أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي و كذلك جوابه صلّى الله عليه و آله: فَأنْتَ أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَليِفَتِي مِنْ بَعْدِي. و بلغ به الخزي أن قال: أضاف بعضهم كلمة أخِي وَ وَصِيِّي وَ وَارِثِي، وَ وَزِيرِي، وَ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي۱.
و على الرغم من أنّ الطبريّ ذكر في تاريخه جملة: وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ٢ بَيْدَ أنّه أورد هذا الحديث بحذافيره سنداً و متناً في تفسيره؛ و نقل جميع القصّة بنحو مفصّل، إلّا أنّه وضع لفظ كذا و كذا مكان وَصِيِّي وَ خَليِفَتِي فِيكُمْ٣، فمسخ الحديث و شوّه صورته بهذا العمل.
و عبارته هي: قَالَ: فَأيُّكُمْ يُوَازِرُنِي على هَذا الأمْرِ على أنْ يَكُونَ أخِي وَ كَذَا وَ كَذا. و قال أيضاً في كلام رسول الله الأخير: ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا أخِي وَ كَذَا وَ كَذَا.
و تبعاً لهذه الجناية و الخيانة، أورد ابن كثير الدمشقيّ أيضاً في «البداية و النهاية»٤ و كذلك في تفسيره٥ لفظ كَذَا وَ كَذَا بدل لفظ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي فِيكُمْ.
لاحظوا هؤلاء الأعلام في التأريخ، و الحديث، و التفسير كيف تجنّوا
على الأجيال البشريّة و أعقابها و أخلافها عبر هذه السرقات المكشوفة؟ و كيف حجبوا وجه الحقيقة؟ إنّهم أرادوا وضع مذهب مزيّف في مقابل مذهب أهل البيت عبر الأساليب الملتوية المتمثّلة بالتزوير و الخداع و الحيلة.
و رأينا جنايات محمّد حسنين هيكل، وزير المعارف السابق في مصر و رئيس تحرير صحيفة «الأهرام» في الطبعة الاولى من كتابه: «حياة محمّد» و كذلك في الطبعة الثانية۱.
و نستخلص من هنا أنّ أهل السنّة يعتقدون بحكّام الجور. و التثريب على هؤلاء الرجال من حملة لواء العلم، و هؤلاء الرؤساء الدينيّين و الوطنيّين الذين قلّدوا اولئك الجانين في أفكارهم و آرائهم وفقاً للقانون الطبيعيّ: النَّاسُ على دِينِ مُلُوكِهِمْ٢.
تحريف علماء اليهود لكلام الله
وهنا تنطبق الآيات الواردة في ذمّ علماء اليهود و النصارى -الذين حرّفوا التوراة و الإنجيل، و سحقوا الحقّ و الحقيقة من أجل الرئاسة و التحكّم في رقاب عوامّ الناس- على علماء العامّة تماماً.
ورد في القرآن الكريم عن اليهود قوله تعالى:
وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ۱.
«و اذكر عند ما قلنا ادخلوا هذه القرية (بيت المقدس)! و كلوا ما شئتم من نعمها الكثيرة الطيّبة! و ادخلوا الباب سجّداً! و قولوا: اللهمّ اغفر ذنوبنا، حتّى نغفر خطاياكم و نزيد المحسنين!
و بعد خطابنا هذا، بدّل الظالمون كلام الله و حكمه غير ما قيل لهم، فأنزلنا عليهم من السماء أشياء قد أزعجتهم و آذتهم بسبب ظلمهم و عصيانهم و مخالفتهم و انحرافهم و فسقهم!»
و ورد قريب من هذا المضمون أيضاً:
وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ٢.
و ورد أيضاً عن تغيير و تبديل الكلمات و العبارات التي تخلّ بالمعنى الأصليّ و المقصود الحقيقيّ قوله:
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا٣.
و قال في بني إسرائيل الذين جعل لهم اثني عشر نقيباً، و أمرهم بالصلاة و الزكاة و الإيمان بالأنبياء، ثمّ وعدهم بالجنّة، و عدّ كفران هذه النعم ضلالة عن الصراط المستقيم، إذ نقضوا الميثاق:
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ۱.
و لمّا نقض بنو إسرائيل ميثاقهم، لعنّاهم و أبعدناهم من رحمتنا، و جعلنا قلوبهم قاسية (بحيث إنّ المواعظ و الوعد و الوعيد لم تؤثّر فيهم) إنّهم يحرّفون كلام الله عن موضعه. و نسوا قسطاً مهمّاً من الحظّ الذي ذكّروا به على أثر كلمات التوراة و كلام الله؛ و لا تزال تطّلع على الخونة منهم إلّا قليلًا منهم.
فاعف عنهم! و اصفح عن خطاياهم إنّ الله يحبّ المحسنين.
و قال في بني إسرائيل أيضاً:
أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ٢.
هل تنتظرون معاشر المسلمين أن يعتنق اليهود دينكم، و يؤمنوا بالله لمصلحتكم، و قد كان فريق منهم قد سمعوا كلام الله ثمّ حرّفوه من بعد ما عقلوه و هم يعلمون حقيقة معناه.
إنّ هذه الآيات و إن كانت نزلت في اليهود، و لكنّ روحها تشمل جميع الذين يحرّفون آيات الله مهما كان دينهم و قوميّتهم. و تعمّ العلماء
و الرؤساء الذين يغيّرون في كلمات الله و القوانين و الآداب و التقاليد الإلهيّة؛ أو يحاولون إسقاط لفظ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي أو خَلِيفَتِي فِيكُمْ أو خَلِيفَتِي و أمثالها من أجل تغيير الإمارة و الخلافة عن مقرّها المُستقرّ و مكانها المكين: قطب العالم و إمام زمانه: مولى الموالى أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين، ثمّ تحويلها إلى أمثال أبي بكر، و عمر، و عثمان، و معاوية، و هلم جرّاً إلى سلسلة ملوك بني اميّة و بني العبّاس.
ما أعظمها من خيانة! و ما أشدّه من ذنب لا يغتفر! أي استباق هذا في القرآن للقرآن نفسه؟ و أي ضرب هذا من النفع للدين و الشريعة؟ و ما هو هذا النمط من حماية البشر و البشريّة؟
كلام أبي جعفر الإسكافيّ في تحريف الروايات الواردة في عليّ عليه السلام
ينقل الشارح المعتزليّ ابن أبي الحديد كلاماً لُاستاذه و شيخه أبي جعفر الإسكافيّ في تفضيل مولى الموالى أمير المؤمنين عليه صلوات الله الملك القيّوم ردّاً على كتاب «العثمانيّة» للجاحظ. و هو جدير بالإمعان و التدقيق. و بعد أن أبطل ابن أبي الحديد على لسان الإسكافيّ أدلّة الجاحظ في أفضليّة أبي بكر و سبقه إلى الإسلام، و أثبت أنّ الروايات الواردة في هذا المجال موضوعة، نقل في ختام حديثه مطلباً هو كالآتي:
قال شيخنا أبو جَعْفَر الإسْكَافِيّ: لو لا ما غلب على الناس من الجهل و حبّ التقليد، لم نحتج إلى نقض ما احتجّت به العثمانيّة، فقد علم الناس كافّة أنّ الدولة و السلطان لأرباب مقالتهم؛ و عرف كلّ أحد علوّ أقدار شيوخهم و علمائهم و أمرائهم، و ظهور كلمتهم، و قهر سلطانهم و ارتفاع التقيّة عنهم و الكرامة؛ و الجائزة لمن روى الأخبار و الأحاديث في فضل أبي بكر.
و ما كان من تأكيد بني اميّة لذلك؛ و ما ولّده المحدّثون من الأحاديث طلباً لما في أيديهم، فكانوا لا يألون جهداً في طول ما ملكوا أن يُخْمِلوا
ذكر عليّ عليه السلام و ولده، و يطفئوا نورهم، و يكتموا فضائلهم، و مناقبهم، و سوابقهم، و يحملوا على شتمهم و سبّهم و لعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم، مع قلّة عددهم و كثرة عدوّهم.
فكانوا بين قتيل، و أسير، و شريد، و هارب، و متخفٍّ ذليل، و خائف مترقّب، حتّى أنّ الفقيه و المحدّث و القاضي و المتكلّم ليُتقدّم و يُتوعّد بغاية الإيعاد و أشدّ العقوبة، ألّا يذكروا شيئاً من فضائلهم.
و لا يرخّصوا لأحد أن يُطيف بهم، و حتّى بلغ من تقيّة المحدّث أنّه إذا ذكر حديثاً عن عليّ عليه السلام، كنّى عن ذكره، فقال: قال رجل من قريش، و فعل رجل من قريش، و لا يذكر عليّاً عليه السلام و لا يتفوّه باسمه.
ثمّ رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله، و وجّهوا الحيل و التأويلات نحوها، من خارجيّ مارق، و ناصب حَنِق، و ثابت على مسبّتهم، و ناشئ معاند، و منافق مكذّب، و عثمانيّ حسود، يعترض فيها و يطعن، و معتزليّ قد نقض في الكلام، و أبصر علم الاختلاف، و عرف الشبه، و مواضع الطعن، و ضروب التأويل. قد التمس الحيل في إبطال مناقب عليّ؛ و تأوّل مشهور فضائله.
فمرّة يتأوّل فضائل عليّ بما لا يحتمل؛ و مرّة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض.
سبّ أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر ثمانين سنة
و لا يزداد مع ذلك إلّا قوّة و رفعة، و وضوحاً و استنارة. و قد علمت أنّ معاوية و يزيد و من كان بعدهما من بني مروان أيّام ملكهم -و ذلك نحو ثمانين سنة- لم يَدَعُوا جهداً في حمل الناس على شتمه و لعنه، و إخفاء فضائله، و ستر مناقبه و سوابقه.
اللعن و التحريف جعلا مقام أمير المؤمنين أسطع و ألمع من ذي قبل
روى خالد بن عبد الله الواسطيّ، عن حصين بن عبد الرحمن، عن
هلال بن يَسَاف، عن عبد الله بن ظالم، قال: لمّا بويع لمعاوية، أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليّاً عليه السلام. فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفَيْل: أ لا ترون إلى هذا الرجل الظالم يأمر بلعن رجل من أهل الجنّة؟!
روى سليمان بن داود، عن شُعْبة، عن الحُرّ بن الصبّاح، قال: سمعت عبد الرحمن بن الأخنس يقول: شهدت المُغِيرة بن شعبة خطب فذكر عليّاً عليه السلام، فنال منه.
روى أبو كُرَيب، قال: حدّثنا أبو اسامة، قال: حدّثنا صدقة بن المثنّى النخعيّ، عن رياح بن الحارث، قال: بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأكبر، و عنده ناس إذ جاءه رجل يقال له: قَيْس بن عَلْقَمَة، فاستقبل المغيرة، فسبّ عليّاً عليه السلام.
روى محمّد بن سعيد الأصفهانيّ، عن شريك، عن محمّد بن إسحاق، عن عمرو بن عليّ بن الحسين، عن أبيه عليّ بن الحسين عليه السلام، قال: قال لي مروان بن الحكم:
مَا كَانَ في الْقَوْمِ أدْفَعُ عَنْ صَاحِبِنَا (عثمان) مِنْ صَاحِبِكُمْ! (عليّ) قُلْتُ: فَمَا بَالُكُمْ تَسُبُّونَهُ عَلَى الْمَنَابِرِ؟! قال إنَّهُ لَا يَسْتَقيُمُ لَنَا الأمْرُ إلَّا بِذَلِكَ۱.
روى مالك بن إسماعيل أبو غَسَّان النَّهْدِيّ، عن ابن أبي سَيْف، قال:
خطب مروان، و الحسن عليه السلام جالس فنال من عليّ عليه السلام. فقال الحسن عليه السلام: وَيْلَكَ يَا مَرْوَانُ! أ هَذَا الذي تَشْتُمُ، شَرُّ النَّاسِ؟! قَالَ: لَا، وَ لَكِنَّهُ خَيْرُ النَّاسِ.
و روى أبو غسّان أيضاً، قال: قال عمر بن عبد العزيز: كَانَ أبي يَخْطُبُ فَلَا يَزَالُ مُسْتَمِرَّاً في خُطْبَتِهِ؛ حتّى إذَا صَارَ إلى ذِكْرِ عَلِيّ وَ سَبِّهِ تَقَطَّعَ لِسَانُهُ وَ اصْفَرَّ وَجْهُهُ وَ تَغَيَّرَتْ حَالُهُ، فَقُلْتُ لَهُ في ذَلِكَ.
فَقَالَ: أ وَ قَدْ فَطَنْتَ لِذَلِكَ! إنَّ هَؤُلَاءِ لَوْ يَعْلَمُونَ مِنْ عَلِيّ مَا يَعْلَمُهُ أبُوكَ مَا تَبِعَنَا مِنْهُمْ رَجُلٌ.
و روى أبو عثمان، قال: حدّثنا أبو اليقظان، قال: قام رجل من ولد عثمان إلى هشام بن عبد الملك يوم عَرَفة، فقال: إنَّ هَذَا يَوْمٌ كَانَتِ الخُلَفَاءُ تَسْتَحِبُّ فِيهِ لَعْنَ أبي تُرَابٍ.
و روى عمرو بن القنّاد، عن محمّد بن فُضَيل، أنّ أشعث بن سَوّار، قال: سبّ عديّ بن أرطاة عليّاً عليه السلام على المنبر، فبكى الحسن البصريّ و قال: لَقَدْ سُبَّ هَذَا اليَوْم رَجُلٌ إنَّهُ لأخُو رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ في الدُّنْيا وَ الآخِرَةِ.
و روى عديّ بن ثابت، عن إسماعيل بن إبراهيم، قال: كنت أنا و إبراهيم بن يزيد جالسين في الجمعة ممّا يلي أبواب كندة، فخرج المغيرة فخطب، فحمد الله، ثمّ ذكر ما شاء أن يذكر، ثمّ وقع في عَلِيّ عليه السلام، فضرب إبراهيم على فخذي أو ركبتي، ثمّ قال: أقْبِلْ عَلَيّ! فحدّثني! فإنّا لسنا في جمعة! أ لا تسمع ما يقول هذا؟!
و روى عبد الله بن عثمان الثَّقفيّ، قال: حدّثنا ابن أبي سيف، قال: قال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبير لولده: لَا تَذْكُرْ يَا بُنَيّ عَلِيَّاً إلَّا بِخَيْرٍ فَإنَّ بَني امَيَّةَ لَعَنُوهُ عَلَى مَنَابِرِهِمْ ثَمانِيْنَ سَنَةً فَلَمْ يَزِدْهُ اللهُ بِذَلِكَ إلَّا رِفْعَةً. إنَّ
الدُّنْيَا لَمْ تَبْنِ شَيْئاً قَطُّ إلَّا رَجَعَتْ عَلَى مَا بَنَتْ فَهَدَمَتْهُ. وَ إنَّ الدِّينَ لَمْ يَبْنِ شَيْئاً قَطُّ وَ هَدَمَهُ۱.
و روى عثمان بن سعيد، قال: حدّثنا مُطّلب بن زياد، عن أبي بكر بن عبد الله الأصبهانيّ، قال: كان دعيّ لبني اميّة لا يزال يشتم عليّاً عليه السلام، فلمّا كان يوم جمعة، و هو يخطب الناس، قال: وَ اللهِ إنْ كَانَ رَسُولُ اللهِ لَيَسْتَعْمِلُهُ وَ إنَّهُ لَيَعْلَمُ مَا هُوَ؛ وَ لَكِنَّهُ كَانَ خَتَنَهُ.
و قد نعس سعيد بن المسيّب ففتح عينيه، ثمّ قال: و يحكم! ما قال هذا الخبيث! رأيت القبر انصدع و رسول الله صلّى الله عليه و آله يقول: كَذِبْتَ يَا عَدُوَّ اللهِ.
و روى القَنَّاد قال: حدّثنا أسباط بن نَصْر الهَمْدانيّ، عن السُّدّيّ، قال: بينما أنا بالمدينة عند أحجار الزيت، إذ أقبل راكب على بعير؛ فوقف، فسبّ عليّاً عليه السلام؛ فخفّ به الناس ينظرون إليه، فبينما هو كذلك إذ أقبل سعد بن أبي وقّاص، فقال: اللهمّ إن كان سبّ عبداً لك صالحاً، فَأرِ المسلمين خزيه، فما لبث أن نَفَرَ به بعيره فسقط، فاندقّت عنقه.
و روى عثمان بن أبي شيبة، عن عبد الله بن موسى، عن فُطْر بن خليفة، عن أبي عبد الله الجدليّ، قال: دخلت على امّ سلمة رحمها الله فقالت لي: أ يُسَبُّ رسول الله فيكم و أنتم أحياء؟!
قلت: و أنّى يكون هذا؟!
قالت: أ ليس يسبّ عليّ عليه السلام و من يحبّه؟!
و روى العبّاس بن بكّار الضبّيّ، قال: حدّثني أبو بكر الهُذَليّ، عن الزُّهريّ، قال: قال ابن عبّاس لمعاوية: أ لَا تَكُفُّ عَنْ شَتْمِ هَذَا الرَّجُلِ؟!
قال معاوية: مَا كُنْتُ لأفْعَلَ حتّى يَرْبُوَ عَلَيْهِ الصَّغِيرُ وَ يَهْرَمُ فِيهِ الكَبِيرُ.
فلمّا وُلِّيَ عُمَرُ بن عبد العزيز كفّ عن شتمه؛ فقال الناس: تَرَكَ السُّنَّةَ.
و قد روى ابن مسعود (إمّا موقوفاً عليه أو مرفوعاً۱)قال: كَيْفَ أنْتُمْ إذَا شَمَلَتْكُمْ فِتْنَةٌ يَرْبُو عَلَيْهَا الصَّغِيرُ وَ يَهْرَمُ فِيهَا الكَبِيرُ، يَجْرِي عَلَيْهَا النَّاسُ فَيَتَّخِذُونَهَا سُنَّةً، فَإذَا غُيِّرَ مِنْهَا شَيءٌ، قيلَ: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ!
بدعة الحكّام تصبح بين الناس سنّة تدريجيّاً
بعد ذلك قال أبو جعفر الإسكافيّ: و قد تعلمون أنّ بعض الملوك ربّما أحدثوا قولًا، أو ديناً لهوي فيحملون الناس على ذلك؛ حتّى لا يعرفوا غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجّاج بن يوسف الثقفيّ بقراءة عثمان، و ترك قراءة عبد الله بن مسعود، و أبي بن كعب، و توعّد على ذلك بدون ما صنع هو و جبابرة بني اميّة و طغاة مروان بِوُلْد عليّ عليه السلام و شيعته، و إنّما كان سلطانه نحو عشرين سنة.
فما مات الحجّاج، حتّى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان، و نشأ أبناؤهم و لا يعرفون غيرها، لإمساك الآباء عنها؛ و كفّ المعلّمين عن تعليمها؛ حتّى لو قرأت عليهم قراءة ابن مسعود، و أبي ما عرفوها، و لظنّوا بتأليفها الاستكراه و الاستهجان، لإلف العادة و طول الجهالة، لأنّه إذا
استولت على الرعيّة غلبة الحكّام و الرؤساء، و طالت عليهم أيّام التسلّط، و شاعت فيهم المخافة، و شملتهم التقيّة، اتّفقوا على التخاذل و التساكت. فلهذا لا تزال الأيّام تأخذ من بصائرهم و تنقص من ضمائرهم، و تنقض من مرائرهم، حتّى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنّة التي كانوا يعرفونها.
و لقد كان الحجّاج بن يوسف، و من ولّاه كعَبد الملك بن مَرْوان، و الوليد، و من كان قبلهما و بعدهما من فراعنة بني اميّة على إخفاء محاسن عليّ عليه السلام و فضائله و فضائل ولده و شيعته، و إسقاط أقدارهم، أحرص منهم على إسقاط قراءة ابن مَسْعُود و ابن كعب، لأنّ تلك القراءات لا تكون سبباً لزوال ملكهم، و فساد أمرهم، و انكشاف حالهم؛ و في اشتهار فضل عليّ عليه السلام و ولده و إظهار محاسنهم بوارُهم، و تسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم؛ فحرصوا و اجتهدوا في إخفاء فضائله عليه السلام و حملوا الناس على كتمانها و سترها.
و مع ذلك أبي الله أن يزيد أمره و أمر ولده إلّا استنارة و إشراقاً، و حبّهم، إلّا شغفاً و شدّة، و ذكرهم إلّا انتشاراً و كثرة، و حجّتهم إلّا وضوحاً و قوّة، و فضلهم إلّا ظهوراً، و شأنهم إلّا علوّاً، و أقدارهم إلّا إعظاماً، حتّى أصبحوا بإهانتهم إيّاهم أعزّاء؛ و بإماتتهم ذكرهم أحياء، و ما أرادوا به و بهم من الشرّ تحوّل خيراً.
(و من هذا المنطلق)، انتهى إلينا من ذكر فضائله و خصائصه و مزاياه و سوابقه ما لم يتقدّمه السابقون، و لا ساواه فيه القاصدون، و لا يلحقه الطالبون. و لو لا أنّها كانت كالقبلة المنصوبة في الشُّهرة، و كالسُّنن المحفوظة في الكثرة، لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد، إذا كان
الأمر كما وصفناه۱.
لقد أسهبنا في الحديث نوعاً ما عن تجبّر حكّام الجور و تفرعنهم و سلطتهم القاهرة التي فُرضت على الناس من قبل العلماء و الخطباء، و جهد أصحابها في تحريف فضائل و مناقب أمير المؤمنين عليه و على آله أفضل صلوات المصلّين. و ذلك كي يتّضح لقرّاء العلوم و المعارف الإسلاميّة، و الباحثين عن سبل السلام مدى المحاولات المحمومة التي بذلت في إخفاء اسم الإمام و أثره. حتّى أنّهم لم يكتفوا بمحو فضائل و مناقب أمير المؤمنين و أهل البيت عليهم السلام، بل اختلقوا فضائل و نسبوها إلى أبي بكر، و عُمَر، و عثمان، و معاوية. و كان الخطباء يقرأون ذلك على المنابر في الجُمَع و الأعياد، و يغسلون أدمغة الناس كي لا تدرك الحقائق.
و لنتطرّق الآن إلى وزارة الإمام عليه السلام و ولايته و خلافته المستفادة من الآية الشريفة.
الروايات الواردة في تطبيق الآية: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي
نقل الحكام الحسكانيّ في كتابه المناقبيّ النفيس: «شواهد التنزيل» ثماني روايات تحت عنوان ما نزل في أمير المؤمنين عليه السلام في الآية: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. و فيما يأتي بعضها:
روى بسنده المتّصل عن حُذَيفة بن اسيد قال: أخَذَ النَّبِيّ بِيَدِ عَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ؛ فَقَالَ: أبْشِرْ وَ أبْشِرْ! إنَّ موسى دَعَا رَبَّهُ أنْ يَجْعَلَ لَهُ وَزيِراً مِنْ أهْلِهِ هَارُونَ؛ وَ إنِّي أدْعُو رَبِّي أنْ يَجْعَلَ لي وَزيرَاً مِنْ أهْلِي عَلِيّ أخِي!
اشْدُدَ بِهِ ظَهْرِي وَ أشْرِكْهُ في أمْرِي!۱
و روى بسنده المتّصل الآخر عن أسماء بنت عُمَيْس قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول: اللَهُمَّ إنِّي أقُولُ كَمَا قَالَ أخِي موسى: اللهم اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي عليا أخي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً!
و رواه أيضاً الصبّاح بن يحيى المزنيّ عن الحرث كما في كتاب العيّاشيّ، و كتاب فرات. و رواه أيضاً حصين عن أسماء٢.
و روى بسنده المتّصل عن أنس بن مالك أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: إنَّ أخِي، وَ وَزيِرِي، وَ خَلِيفَتِي في أهْلِي، وَ خَيْرَ مَنْ أتْرُكُ بَعْدِي، يَقْضِي دَيْنِي، وَ يُنْجِزُ مَوعُودِي عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ.۱
و روى ابن المغازليّ بسنده المتّصل عن عِكْرَمَة، عن ابن عبّاس قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بيدي و أخذ بيد عليّ، فصلّى أربع ركعات، و رفع يده إلى السماء، فقال: اللَهُمَّ سَألَكَ موسى بْنُ عِمْرانَ وَ إنَّ مُحَمَّدَاً سَألَكَ أنْ تَشْرَحَ لي صَدْرِي وَ تُيَسِّرَ لي أمْرِي وَ تُحَلِّلَ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَ اجْعَلْ لي وَزِيرَاً مِنْ أهْلِي عَلِيَّاً اشْدُدْ بِهِ أزْرِي وَ أشْرِكْهُ في أمْرِي!
قال ابن عبّاس: سمعت منادياً ينادي: يا أحمد! قد اوتيت ما سألتَ٢!
فقال النبيّ: يا أبا الحسن! ارفع يدك إلى السماء و ادع ربّك و سله، يعطيك!
فرفع عليّ يده إلى السماء و هو يقول: اللَهُمَّ اجْعَلْ لي عِنْدَكَ عَهْداً وَ اجْعَلْ لي عِنْدَك وُدَّاً.
فأنزل الله على نبيّه: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ
لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا۱.
فتلاها النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم على أصحابه فعجبوا من ذلك عجباً شديداً، فقال النبيّ صلّى الله عليه و آله: مِمَّ تعجبون؟! إنّ القرآن أربعة أرباع: فربع فينا أهل البيت خاصّة [و ربع في أعدائنا]، و ربع حلال و حرام، و ربع فضائل و أحكام وَ اللهُ أنْزَلَ في عَلِيّ كَرَائِمَ القُرْآنِ٢.
أشعار الشعراء في فضل وزارة أمير المؤمنين عليه السلام
و قال ديك الجنّ في «الكاملة»:
إن النَّبِيّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ | *** | وَ الخَيْرُ مَا فَاهَ بِهِ الرَّسُولُ |
إنَّكَ مِنَّي يَا أخِي وَ يَا عَلى | *** | بِحَيْثُ مِنْ موسى وَ هَارُونَ النَّبِيّ |
لَكِنَّهُ لَيْسَ نَبِيّ بَعْدِي | *** | فَأنْتَ خَيْرُ العَالَمِينَ عِنْدِي٣ |
و قال ابن مكّيّ:
أ لَمْ تَعْلَمُوا أنَّ النَّبِيّ مُحَمَّداً | *** | بِحَيْدَرَةٍ أوْصَى وَ لَمْ يَسْكُنِ الرَّمْسا |
وَ قَالَ لَهُمْ وَ القَوْمُ في خُمِّ حُصَّرَاً | *** | وَ يَتْلُوا الذي فِيهِ وَ قَدْ هَمَسُوا هَمْسا |
عَلِيّ كَزِرِّي مِنْ قَمِيصِي وَ إنَّهُ | *** | نَصِيرِي وَ مَنِّي مِثْلُ هَارُونَ مِن مُوسَى۱ |
و قال العونيّ:
هَذَا أخِي مَوْلاكُمُ وَ إمَامُكُمْ | *** | وَ هُوَ الخَليفَةُ إنْ لَقيْتُ حِمَامَا |
مِنِّي كَمَا هَارُونَ مِنْ موسى | *** | فَلَا تَألُوا لِحَقِّ إمَامِكُمْ إعْظَامَا |
إنْ كَانَ هَارُونُ النَّبِيّ لِقَوْمِهِ | *** | مَا غَابَ موسى سَيِّداً وَ إمَامَا |
فَهُوَ الخَليفَةُ وَ الإمَامُ وَ خَيْرُ مَنْ | *** | أمْضَى القَضَاءَ وَ خَفَّفَ الأقَلَامَا٢ |
و قال العونيّ أيضاً:
أ مَا رُوِيتَ يَا بَعيدَ الذِّهْنِ | *** | مَا قَالَهُ أحْمَدُ كَالمُهَنِّى |
أنْتَ كَهَارُونَ لِمُوسَى مِنِّي | *** | إذْ قَالَ موسى لأخِيهِ اخْلُفْنِي |
فَاسْألْهُم لِمْ خَالَفُوا الوَصِيَّا٣
و قال ابن الأطْيَس:
مَنْ قَالَ فِيهِ المُصْطَفَى مُعْلِنَا | *** | أنْتَ لَهُ الحَوْضُ لَدَى الحَشْرِ |
أنْتَ أخِي أنْتَ وَصِيِّي كَمَا | *** | هَارُونَ مِنْ موسى في الأمْرِ۱ |
و قال منصور النمريّ:
رَضِيتُ حُكْمَكَ لَا أبْغِي بِهِ بَدَلًا | *** | لأنَّ حُكْمَكَ بِالتَّوْفِيقِ مَقْرُونُ |
آلُ الرَّسُولِ خِيَارُ النَّاسِ كُلِّهِم | *** | وَ خَيْرُ آلِ رَسُولِ اللهِ هَارُونُ٢ |
و قال أبان اللاحقيّ:
أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا | *** | الخَالِقُ الرَّازِقُ الكَبِيرُ |
مُحَمَّدٌ عَبْدُهُ وَ رَسُولُ | *** | جَاءَ بِحَقٍّ عَلَيْهِ نُورُ |
وَ إنَّ هَارُونَ مُرْتَضَانَا | *** | في العِلْمِ مَا إنَّ لَهُ نَظِيرُ۱ |
و قال الصاحب بن عبَّاد:
وَ صَيَّرَهُ هَارُونَهُ بَيْنَ قَوْمِهِ | *** | كَهَارُونَ موسى فَابْحَثُوا وَ تَتَدَلُّوا٢ |
و قال الصاحب أيضاً:
حَالُهُ حَالُ هَارُونَ | *** | لِمُوسَى فَافْهَمَاها٣ |
و قال زيد بن عليّ بن الحسين عليه السلام:
وَ مِنْ شَرَفِ الأقْوَامِ يَوْماً تُرَابُهُ | *** | فَإنَّ عَلِيَّاً شَرَّفَتْهُ المَنَاقِبُ |
وَ قَولُ رَسُولِ اللهِ وَ الحَقُّ قَوْلُهُ | *** | وَ إنْ رَغَمَتْ مِنْهُ انُوفٌ كَوَاذِبُ |
بأنَّكَ مِنِّي يَا عَلِيّ! مُعَالِناً | *** | كَهَارُونَ مِنْ موسى أخٌ لي وَ صَاحِبُ٤ |
و قال الصنوبريّ:
أ لَيْسَ مَنْ حَلَّ مِنْهُ في اخُوَّتِهِ | *** | مَحَلَّ هَارُونَ مِنْ موسى بْنِ عِمْرَانِ٥ |
و قال ابن شهرآشوب أيضاً: أورد أبو بكر الشيرازيّ في كتابه المسمّى «فيما نَزَلَ مِنَ القُرآنِ في أمير المؤمنين» عن مقاتل، عن عطاء في تفسير الآية: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، قال:
كَانَ في التَّورَاةِ: يَا موسى إنِّي اخْتَرْتُكَ، وَ وَزِيرَاً هُوَ أخُوكَ يَعْنِي هَارُونَ لأبِيكَ وَ امِّكَ! كَمَا اخْتَرْتُ لِمُحَمَّدٍ إلْيَا هُوَ أخُوهُ وَ وَزِيرُهُ وَ وَصِيُّهُ و الخَلِيفَةُ مِنْ بَعْدِهِ. طُوبَى لَكُمَا مِنْ أخَوَيْنِ! وَ طُوبَى لَهُمَا مِنْ أخَوَيْنِ؛ إلْيَا أبُو السِّبْطَينِ الحَسَنِ وَ الحُسَيْنِ وَ مُحْسِنٍ الثَّالِثِ مِنْ وُلْدِهِ كَمَا جَعَلْتُ لأخِيكَ هَارُونَ شُبَّراً وَ شُبَّيْراً وَ مُشَبِّراً۱.
و ورد في تفسير القطّان، و وكيع بن الجَرّاح، و عطاء الخراسانيّ، و أحمد في «الفضائل» أنّ ابن عبّاس قال: سمعت أسماء بنت عُمَيْس تقول: سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول:
اللَهُمَّ إنِّي أقُولُ كَمَا قَالَ موسى بْنُ عِمْرَانَ: اللَهُمَّ اجْعَلْ لي وَزيِراً مِنْ أهْلِي يَكُونُ لي صِهْرَاً وَ خَتَنَاً.
و روى السَّمعَانيّ في «فضائل الصحابة» بإسناده عن مَطَر، عن أنَس أنَّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: إنَّ خَلِيلِي وَ وَزِيرِي وَ خَليفَتِي في أهْلِي وَ خَيْرَ مَنْ أتْرُكَ بَعْدِي، مَنْ يُنْجِزُ مَوْعِدِي، وَ يَقْضِي دَيْنِي عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ٢.
و في أمالى أبي الصَّلْت الأهوازيّ بإسناده عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: إنَّ أخِي، وَ وَزِيرِي، وَ وَصِيِّي، وَ خَلِيفَتِي
في أهْلِي عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ. و في خبرٍ: أنْتَ الإمَامُ بَعْدِي، وَ الأمِيرُ، وَ أنْتَ الصَّاحِبُ بَعْدِي، وَ الوَزِيرُ، وَ مَا لَكَ في امَّتِي مِنْ نَظِيرٍ۱.
وَ الوَزِيرُ مِنَ الوَزَرِ، وَ هُوَ المَلْجَا، وَ بِهِ سُمِّيَ الجَبَلُ العَظِيمُ. وَ مِنَ الأوْزَارِ، وَ هِيَ الأمْتِعَةُ وَ الأسْلِحَةُ، لأنَّهُ مُقَلِّدُ خَزَائِنِ المَلِكِ. وَ مِنَ الوِزْرِ الذي هُوَ الذَّنْبُ، لأنَّهُ يَتَحَمَّلُ أثْقَالَ المَلِكِ. وَ مِنَ الأزْرِ، وَ هُوَ الظَّهْرُ مَعْنَاهُ اشْدُدْ بِه ِ ظَهْرِي٢.
و قال ابن الحجّاج:
أنَا مَوْلَى مُحَمَّدٍ وَ عَلِيّ | *** | و الإمَامَيْنِ شُبَّرٍ و شُبَيْرِ |
أنَا مَوْلَى وَزِيرَ أحْمَدَ يَا مَنْ | *** | قَدْ حَبَا مُلْكَهُ بِخَيْرِ وَزِيرِ٣ |
و قال الحميريّ:
وَ كَانَ لَهُ أخاً وَ أمِينَ غَيْبٍ | *** | عَلَى الوَحْيِ المُنزَّل حِينَ يُوحَى |
وَ كَانَ لأحْمَدَ الهَادِي وَزِيرَاً | *** | كَمَا هَارُونَ كَانَ وَزِيرَ مُوسَي٤ |
و قال الاستاذ أبو العبّاس الضَّبِّيّ:
لِعَلِيّ الطُّهْرِ الشَّهِيرِ مَجْدٌ أنَافَ عَلَى ثَبير | *** | صِنْوُ النَّبِيّ مُحَمَّدٍ وَ وَصِيُّهُ يَوْمَ الغَدِيرِ٥ |
و قال شاعر آخر:
مَنْ كَانَ صَاهَرَهُ وَ كَانَ وَزِيرَهُ | *** | وَ أبَا بَنِيهِ مُحَمَّدَاً مُخْتَارا٦ |
معنى الوزير مستفاد من حديث المنزلة
و قال علاء الدين أبو المكارم السِّمنانيّ البياضيّ المكّيّ المتوفّى في
سنة ۷٣٦ ه في كتاب «العروة الوثقي»: و قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السلام و سلام الملائكة الكرام: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن موسى إلَّا أنّه لَا نَبِيّ بَعْدِي. و قال في غدير خمّ بعد حجّة الوداع على ملأ من المهاجرين و الأنصار آخذاً بكتفه: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ. اللَهُمَ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ. و هذا حديث متّفق على صحّته.
و على هذا صار سيّد الأولياء، و كان قلبه على قلب محمّد عليه التحيّة و السلام.
و إلى هذا المعنى أشار ... أبو بكر صاحب غار النبيّ صلّى الله عليه و آله حين بعث أبا عبيدة بن الجرّاح إلى عليّ لاستحضاره للبيعة بقوله: يَا أبَا عُبَيْدَةَ! أنْتَ أمِينُ هَذِهِ الامَّةِ أبْعَثُكَ إلى مَنْ هُوَ في مَرْتَبَةِ مَنْ فَقَدْنَاهُ بِالأمْسِ، يَنْبَغِي أنْ تَتَكَلَّمَ عِنْدَهُ بِحُسْنِ الأدَبِ۱.
و قال أبو مشكور محمّد بن عبد السعيد بن محمّد الكشيّ السالميّ الحنفي في «التَّمهيد في بَيان التَّوحيدِ»: قالت الروافض: الإمامة منصوصة من قبل النبيّ لعليّ بن أبي طالب بدليل أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم جعله وصيّاً لنفسه، و جعله خليفة من بعده حيث قال: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي!
ثمّ هارون عليه السلام كان خليفة موسى عليه السلام، فكذلك عليّ خليفة رسول الله.
هذا من جهة، و من جهة اخرى، إنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله جعله وليّاً للناس لمّا رجع من مكّة و نزل في غدير خمّ؛ فأمر النبيّ أن يجمع رحال الإبل، فجعلها كالمنبر و صعد عليها فقال: أ لَسْتُ أوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ
أنْفُسِهِمْ؟! فَقَالُوا: نَعَمْ! فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ، فَعَلِيّ مَوْلَاهُ! اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ! وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ. و الله جلّ جلاله يقول:
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ. و هذه الآية نزلت في شأن عليّ، و هي تدلّ على أنّه كان أولى الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
و قال في الجواب عمّا ذكر بعد بيان أدلّة الشيعة: و أمّا قول الشيعة إنّ النبيّ جعله وليّاً، قلنا: أراد به في وقته، يعني بعد عثمان، و في زمن معاوية، و نحن كذا نقول. و كذا الجواب عن قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا - الآية.
فنقول: إنّ عليّاً رضيّ الله عنه كان وليّاً و أميراً بهذا الدليل في أيّامه و وقته، و هو بعد عثمان. و أمّا قبل ذلك، فلا۱. تلاحظون أنّ هذا الرجل لم يستطع أن يشكّك في صحّة سند هذه الأدلّة أو في دلالتها على ولاية الإمام و إمامته قطّ، فحملها على معنى لو قيل للناشئين، لعرفوا بطلانه بوضوح.
بيان بعض أعلام العامّة في حديث المنزلة
و روى الشيخ سليمان القُنْدُوزيّ الحنفي عن كتاب «مودّة القربي»، عن أنس بن مالك مرفوعاً أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: إنَّ اللهَ اصْطَفَانِي عَلَى الأنْبِيَاءِ فاخْتَارَنِي وَ اخْتَارَ لي وَصِيّاً، وَ اخْتَرْتُ ابْنَ عَمِّي وَصِيِّي، يُشَدُّ عَضُدِي كَمَا يُشَدُّ موسى بِأخِيهِ هَارُونَ، وَ هُوَ خَلِيفَتِي وَ وَزِيرِي، وَ لَو كَانَ بَعْدِي نَبِيّ لَكَانَ عَلِيّ نَبِيَّاً، وَ لَكِنْ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي٢.
و كذلك نقل مير سيّد عليّ الهمدانيّ في كتاب «مَودّة القُرْبى» عن أبي موسى الحميديّ أنّه قال:
كنت مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و أبو بكر، [و عمر]، و عثمان، و عليّ. فالتفت (رسول الله) إلى أبي بكر، فقال: يا أبا بكر! (إنّ) هذا الذي تراه وزيري في السماء؛ و وزيري في الأرض؛ يعني: عليّ بن أبي طالب. (يا أبا بكر)، إن أحببتَ أن تلقى الله و هو عنك راضٍ، فأرضِ عليّاً! فإنّ رضاه رضا الله و غضبه غضب الله۱.
و في المودّة السابعة عن الإمام الصادق، عن آبائه عليهم السلام: لَقَدْ قَالَ النَّبِيّ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لِعَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ في عَشَرَةِ مَوَاضِعَ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَي٢.
و كذا في «ينابيع المودّة» عن أحمد بن حَنْبَل في مسنده، بسنده عن عَطِيَّة العَوْفيّ، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال لعليّ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي٣.
و أخرج أحمد بن حَنْبل أيضاً عن سعد بن أبي وقّاص، و عن أسماء بنت عُمَيْس، و عن سعيد بن زيد الترمذيّ، عن سعيد بن المسيِّب، عن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال لعليّ عليه السلام: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى. و قال أحمد بن حنبل: هذا
حديث صحيح۱.
و أخرج عن موفّق بن أحمد الخوارزميّ بسنده، عن مخدوج بن زيد الهاني، و بسند آخر عن يحيى، و مجاهد أنّهما رويا عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال: هَذَا عَلِيّ لَحْمُهُ لَحْمِي وَ دَمُهُ دَمِي وَ هُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي٢.
و روي عن أحمد بن حَنْبَل، و موفّق بن أحمد بسنديهما عن زيد بن أبي أوفى أنّه قال: دخلتُ على رسول الله صلّى الله عليه و آله في مسجده، و قد آخى بين أصحابه. فقال عليّ عليه السلام: يا رسول الله! فعلتَ بأصحابك! و ما فعلتَ بي! فقال [رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم]: وَ الذي بَعَثَنِي بِالحَقِّ نَبِيَّاً أخَّرْتُكَ لِنَفْسِي فإنَّكَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! فَأنْتَ أخِي وَ وَارِثِي! وَ أنْتَ مَعِي في قَصْرِي في الجَنَّةِ مَعَ ابْنَتِي فَاطِمَةَ وَ أنْتَ رَفِيقِي! ثُمَّ قَرَأ: إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ المُتَحَابُّونَ في اللهِ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ٣.
و أخرجها ابن المغازليّ و الحمّوئيّ عن زيد بن أرقم٤.
و روى أبو المؤيّد موفّق بن أحمد الخوارزميّ المكّيّ بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: يَا عَلِيّ!
إنَّهُ يَحِلُّ لَكَ في المَسْجِدِ مَا يَحِلُّ لي وَ إنَّكَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! وَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّكَ تَذُودُ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ القِيَامَةِ رِجَالًا، كَمَا يُذادُ البَعِيرُ الأجْرَبُ عَنْ الماءِ بِعَصَاً لَكَ مِنْ عَوْسَجٍ۱؛ كَأنِّي أنْظُرُ إلى مَقَامِكَ مِنْ حَوْضِي٢.
و في «زوائد مسند عبد الله بن أحمد بن حَنْبَل» عن يحيى بن عيسى، عن الأعْمَش، عن عباية الأسديّ، عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال لُامّ سَلَمَة رضي الله عنها: يَا امَّ سَلَمَة! عَلِيّ مِنِّي وَ أنَا مَنْ عَلِيّ! لَحْمُهُ مَنْ لَحْمِي، وَ دَمُهُ مِنْ دَمِي؛ وَ هُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِن موسى! يَا امَّ سَلَمَة! اسْمَعِي وَ اشْهَدِي! هَذَا عَلِيّ سَيِّدُ المُسْلمِينَ٣.
الخصال المجتمعة في أمير المؤمنين عليه السلام
و ذكر في «المناقب» عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول في عليّ خصالًا لو كانت واحدة منها في رجل اكتفى بها فضلًا و شرفاً.
قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ.
و قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: عَلِيّ مِنّي كَهَارُونَ مِنْ موسى.
و قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: عَلِيّ مِنِّي وَ أنَا مِنْهُ.
و قوله: عَلِيّ مِنِّي كَنَفْسِي؛ طَاعَتُهُ طَاعَتِي، وَ مَعْصِيَتُهُ مَعْصِيَتي.
و قوله: حَرْبُ عَلِيّ حَرْبُ اللهِ، وَ سِلْمُ عَلِيّ سِلْمُ اللهِ.
و قوله: وَليّ عَلِيّ وَليّ اللهِ، وَ عَدُوُّعَلِيّ عَدُوُّ اللهِ.
و قوله: عَلِيّ حُجَّةُ اللهِ على عِبَادِهِ.
و قوله: حُبُّ عَلِيّ إيمَانٌ وَ بُغْضُهُ كُفْرٌ.
و قوله: حِزْبُ عَلِيّ حِزْبُ اللهِ، وَ حِزْبُ أعْدَائِهِ حِزْبُ الشَّيْطانِ.
و قوله: عَلِيّ مَعَ الحَقِّ وَ الحَقُّ مَعَهُ لَا يَفْتَرِقَانِ.
و قوله: عَلِيّ قَسِيمُ الجَنَّةِ وَ النَّارِ.
و قوله: مَنْ فَارِقَ عَلِيَّاً فَقَدْ فَارَقَنِي، وَ مَنْ فَارَقَنِي فَقَدْ فَارَقَ اللهِ.
و قوله: شِيعَةُ عَلِيّ هُمُ الفَائِزُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ۱.
و ها نحن قد نقلنا هذا الحديث المبارك عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ، كما نرى من المناسب أن نذكر كلمات نطق بها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم مصدّرة بلفظ: عليّ، و رواها السيوطيّ في «الجامع الصغير». فقد أخرج السيوطيّ عن الطبرانيّ، عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال:
عَلِيّ أخِي في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ.
و عن الطبرانيّ، و ضياء عن عبد الله بن جعفر، عن رسول الله، قال:
عَلِيّ أصْلِي، وَ جَعْفَرٌ فَرْعِي.
و عن الحاكم في «المستدرك»، عن جابر بن عبد الله:
عَلِيّ إمَامُ البَرَرَةِ وَ قَاتِلُ الفَجَرَةِ، مَنْصُورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُولٌ مَنْ
خَذَلَهُ.
و عن الدارقُطْنيّ في «الأفراد»، عن عبد الله بن عبّاس، قال: قال رسول الله:
عَلِيّ بَابُ حِطَّةٍ، مَنْ دَخَلَ مِنْهُ كَانَ مُؤْمِنَاً، وَ مَنْ خَرَجَ مِنْهُ كَانَ كَافِراً.
و عن ابن عَديّ في «الكامل»، عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله: عَلِيّ عَيْبَةُ عِلْمِي.
و عن الطبرانيّ في «الأوْسَط»، و عن الحاكم في «المستدرك»، عن أمّ سَلَمَة، قالت: قال رسول الله:
عَلِيّ مَعَ القُرْآنِ و القُرْآنُ مَعَ عَلِيّ، لَنْ يَفْتَرِقَا حتّى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.
و عن مسند أحمد بن حَنْبَل، و الترمذيّ، و النسائيّ، و ابن ماجة، عن حُبشي بن جُنَادة: عَلِيّ مِنِّي وَ أنَا مِنْ عَلِيّ وَ لَا يُؤَدِّي عَنِّي إلَّا أنَا أوْ عَلِيّ.
و عن الخطيب في «تاريخ بغداد»، و عن الديلميّ في «مسند الفردوس» عن ابن عبّاس: عَلِيّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ رأسِي مِنْ بَدَنِي.
و ذكر أبو بكر المطيريّ في جزئه، عن أبي سعيد الخدريّ: عَلِيّ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
و نقل عن البيهقيّ في «فضائل الصحابة»، و عن الديلميّ في «مُسنَد الفردوس» عن أنس: عَلِيّ يَزْهَرُ في الجَنَّةِ كَكَوْكَبِ الصُّبْحِ لأهلِ الدُّنْيَا.
و روى عن المحامليّ في أماليه، عن ابن عبّاس: عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ مَوْلَى مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ.
و عن ابن عديّ في «الكامل» عن عليّ بن أبي طالب: عَلِيّ يَعْسُوبُ المُؤْمِنِينَ، وَ المالُ يَعْسُوبُ المُنَافِقِينَ.
و عن البزّاز، عن أنس: عَلِيّ يَقْضِي دَيْنِي۱.
و ذكر الإمام عبد الرءوف المناويّ، عن عبد الرزّاق في «الجامع» أنّ
رسول الله قال: أبْشِرْ يَا عَلِيّ! حَيَاتُكَ وَ مَوْتُكَ مَعِي٢.
قال المجلسيّ: و يؤيّد هذه الأخبار التي جعلته بمنزلة هارون من موسى ما رواه السيّد الرضيّ رضي الله عنه في «نهج البلاغة» في باب اختصاصه بالرسول صلّى الله عليه و آله أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم له: إنَّكَ تَسْمَعُ مَا أسْمَعُ، وَ تَرَى مَا أرَى، إلَّا أنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَ لَكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَ إنَّكَ على خَيْرٍ٣.
و قال ابن أبي الحديد في شرحه بعد نقل الأخبار المؤيّدة لذلك: و يدلّ على أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام وزير رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من نصّ الكتاب و السنّة قول الله: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.
و قول رسول الله في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي!
ذلك أنّه أثبت لعليّ جميع مراتب هارون و منازله من موسى؛ فإذاً هو
وزير رسول الله، و شادّ أزره. و لو لا أنّه خاتم النبيّين، لكان شريكاً في أمره۱. و قال ابن أبي الحديد في موضع آخر أيضاً: قال عليّ يوم الشورى:
أ فِيكُمْ أحَدٌ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلِيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي غَيْرِي؟! قَالُوا: لَا٢!
حديث المنزلة و مناقب عليّ على لسان رسول الله في فتح خيبر
و روى الكَراجكيّ في «كنز الفوائد» بسنده المتّصل عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ قال: لمّا فتح عليّ عليه السلام خيبراً، و قدم عند رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال له النبيّ:
لَوْ لا أنْ تَقُولَ فِيكَ طَائِفَةٌ مِنْ امَّتِي مَا قَالَتِ النَّصَارَى في المَسِيح ابْنِ مَرْيَمَ، لَقُلْتُ فِيكَ اليَوْمَ مَقَالًا لَا تَمُرُّ بِمَلأٍ إلَّا أخَذُوا التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْكَ وَ مِنْ فَضْلِ طَهُورِكَ فَاسْتَشْفَوا بِهِ؛ وَ لَكِنْ حَسْبُكَ أنْ تَكُونَ مِنِّي وَ أنَا مِنْكَ! تَرِثُنِي وَ أرِثُكَ!
وَ أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! وَ إنَّكَ تُبْرِيءُ ذِمَّتِي، وَ تُقَاتِلُ على سُنَّتِي! وَ إنَّكَ غَدَاً في الآخِرَةِ أقْرَبُ النَّاسِ مِنِّي! وَ إنَّكَ أوَّلُ مَنْ يَرِدُ عَلَيّ الحَوْضَ وَ إنَّكَ على الحَوْضِ خَليفَتِي! وَ إنَّكَ أوَّلُ مَنْ يُكْسَى مَعِي! وَ إنَّكَ أوَّلُ دَاخِلِ الجَنَّةِ مِنْ امَّتِي! وَ إنَّ شِيعَتَكَ على مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ مُبْيَضَّةً وُجُوهُهُمْ حَوْلي؛ أشْفَعُ لَهُمْ وَ يَكُونُونَ غَدَاً في الجَنَّةِ جِيِرَانِي! وَ إنَّ حَرْبَكَ حَرْبِي! وَ إنَّ سِلْمَكَ سِلْمِي! وَ إنَّ سَرِيرَتَكَ سَرِيرَتِي! وَ عَلَانِيَتَكَ عَلَانِيَتِي! وَ إنَّ وُلْدَكَ وُلْدِي!
وَ إنَّكَ مُنْجِزٌ عِدَاتِي! وَ إنَّكَ عَلِيّ! وَ لَيسَ أحَدٌ مِنَ الامَّةِ يَعْدِلُكَ
عِنْدِي!
وَ إنَّ الحَقَّ على لِسَانِكَ، وَ في قَلْبِكَ، وَ بَيْنَ عَيْنَيْكَ! وَ إنَّ الإيمَانَ خَالَطَ لَحْمَكَ وَ دَمَكَ، كَمَا خَالَطَ لَحْمِي وَ دَمِي! وَ إنَّهُ لَا يَرِدُ الحَوْضَ مُبْغِضٌ لَكَ! وَ لَا يَغِيبُ مُحِبٌّ لَكَ غَدَاً عَنِّي حتّى يَرِدَ عَلَيّ الحَوْضَ مَعَكَ يَا عَلِيّ!
فَخَرَّ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ سَاجِدَاً؛ ثُمَّ قَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي مَنَّ عَلَيّ بِالإسْلَام؛ وَ عَلَّمَنِي القُرْآنَ؛ وَ حَبَّبَنِي إلى خَيْرِ البَرِيَّة: خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَ سَيِّدِ المُرْسَلِينَ، إحْسَانَاً مِنْهُ إلَيّ وَ فَضْلًا مِنْهُ عَلَيّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلِيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: يَا عَلِيّ! لَوْ لا أنْتَ لَمْ يُعْرَفِ المُؤْمِنُونَ بَعْدِي۱.
إنّ الحديث النبويّ الشريف: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُون مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي المشهور بين علماء الشيعة و العامّة بحديث المنزلة هو من الأحاديث المسلّم صدورها عن رسول الله، و ذهب الفريقان إلى تواتره. و يمكن أن نعتبره في مصافّ عدّة معدودة من الأحاديث المتواترة اللفظيّة لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. و لا يلاحظ كتاب من الكتب، سواء في حقل التفسير، أو الحديث، أو التأريخ، أو السيرة، أو السنن، إلّا و قد روى صاحبه هذا الحديث عن رسول الله في مواطن عديدة من كتابه.
و نقل السيّد هاشم البَحْرانيّ في الباب الثالث و الثمانين من كتاب «غاية المرام» أحد عشر حديثاً من طريق العامّة، و في الباب الرابع و الثمانين واحداً و عشرين حديثاً من طريق الخاصّة إنَّ عَلِيَّاً عَلَيهِ السَّلَامُ وَزِيرُ رَسُولِ اللهِ وَ وَارِثُهُ. كما نقل في الباب العشرين مائة حديث من العامّة، و في الباب الحادي و العشرين سبعين حديثاً مع ذكر السند و المصدر و اتّصال الرواة على أنّ رسول الله قال لعليّ: أنْتَ منِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي!
أعيان العامّة يروون حديث المنزلة
و نكتفي فيما يأتي بذكر عدد من الأحاديث التي رواها العامّة، و عدداً من الأحاديث التي نقلها الخاصّة.
روى عبد الله بن أحمد بن حنبل بسنده المتّصل عن موسى الجُهَنيّ قال: دخلت على فاطمة عليها السلام (بنت أمير المؤمنين عليه السلام)، فقال رفيقي أبو مهدي: كم لك؟! فقلت: ستّ و ثمانون سنة! قال موسى الجهنيّ: قال رفيقي: سمعتَ من أبيك شيئاً؟! قلت: قال أبي: حدّثتني فاطمة أنّ أسماء بنت عُمَيْس حدّثتها أنّ رسول الله قال لعليّ: أنْتَ مِنِّي
بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدي۱.
و روى عبد الله بن أحمد بن حنبل بسنده المتّصل عن سعيد بن المُسيِّب، عن عامر بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وَقّاص قال إنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال لعليّ: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي!؟
قال سَعيد بن المُسَيِّب: لمّا سمعت هذا الحديث من ابن سَعْد، أحببتُ أن اشافه بذلك سعداً فلقيته، فذكرت له ما ذكره لي عامر. قلت: هل أنت سمعت من رسول الله؟! فوضع سعد إصبعيه في اذنيه و قال: استكّتا إن لم أكن سمعته من النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم٢.
و روى البُخاريّ مضمون هذا الحديث في الربع الأخير من صحيحه، بسنده المتّصل عن إبراهيم بن سعد، عن أبيه سعد بن أبي وقّاص۱.
و روى البخاريّ في صحيحه أيضاً، في الكرّاس السادس منه، و هو نصف الجزء، في الخبر الخامس، بسنده المتّصل عن مَصْعَب بن سَعْد، عن أبيه سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم خرج إلى تبوك، و استخلف عليّاً على المدينة. فقال عليّ: أ تخلفني في الصبيان و النساء؟!
فقال النبيّ: ألَا تَرضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَيْسَ نَبِيّ بَعْدِي٢!
و في «الجمع بين الصحاح الستّة» لمؤلّفه رزين، في الجزء الثالث من الثلث الأخير منه، في باب مناقب أمير المؤمنين عليه السلام، من «صحيح أبي داود» و هو كتاب «السُّنَن»؛ و «صحيح الترمذيّ» عن أبي سريحة، و زيد بن أرقم أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ. و عن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال لعليّ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! قال ابن المسيِّب: أخبرني بهذا الحديث عامر بن سعد عن أبيه، فأحببتُ أن اشافه به سعداً فلقيته، فقلتُ: أنت سمعتَ هذا من رسول الله؟!
فَوَضَعَ إصْبَعَهُ في اذُنَيْهِ فَقَالَ: نَعَمْ! وَ إلَّا فَاسْتَكَّتَا۱.
و نقل عن ابن المغازليّ الشافعيّ بسنده المتّصل عن جابر بن عبد الله أنّ رسول الله غزا غزاة و قال لعليّ: اخْلُفْنِي في أهْلِي! فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! يَقُولُ النَّاسُ: خَذَلَ ابْنَ عَمِّهِ. فَرَدَّدَهَا عَلَيهِ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي٢.
و روى عن ابن المغازليّ أيضاً بسنده المتّصل، عن مصعب بن سعد،
عن أبيه، قال: قال لي معاوية: أ تحبُّ عليّاً؟!
قَالَ سَعْدٌ: قُلْتُ: وَ كَيْفَ لَا احِبُّهُ وَ قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلِّمَ يَقُولُ لَهُ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدي؛ وَ لَقَدْ رأيْتُهُ بَارِزَاً يَوْمَ بَدْرٍ وَ جَعَلَ يُحَمْحِمُ الفَرَسُ وَ يَقُولُ:
بَازِلُ عَامَيْنِ حَديثُ سِنِّي | *** | سَنَحْنَحُ اللَّيْلِ كَأنَّي جِنِّي |
لِمِثْلِ هَذا وَلَدَتْني امِّي
قَالَ: وَ مَا رَجَعَ حتّى خُضِبَ دَماً۱.
و روى عليّ بن أحمد المالكيّ و هو من أعيان علماء العامّة في «الفصول المهمّة» عن كتاب «الخصائص»، عن العبّاس بن عبد المطّلب أنّه قال: سمعت عمر بن الخطّاب يقول: كفّوا عن عليّ بن أبي طالب إلّا بخير! فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول: في عليّ ثلاث خصال؛ وددتُ أنّ لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس؛ و ذاك أنّي كنت أنا و أبو بكر و أبو عبيدة بن الجرّاح و نفر من أصحاب رسول الله، إذ ضرب النبيّ على كتف عليّ و قال:
يَا عَلِيّ! أنْتَ أوَّلُ المُسْلِمينَ إسْلَامَاً وَ أنْتَ أوَّلُ المُؤْمِنِينَ إيمَانَاً وَ أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى! كَذَبَ مَنْ زَعَمَ أنَّهُ يُحِبُّنِي وَ هُوَ مُبْغِضُكَ!
يَا عَلِيّ! مَنْ أحَبَّكَ فَقَدْ أحَبَّنِي! وَ مَنْ أحَبَّنِي أحَبَّهُ اللهُ تعالى؛ وَ مَنْ
أحَبَّهُ اللهُ أدْخَلَهُ الجَنَّةَ! وَ مَنْ أبْغَضَكَ فَقَدْ أبْغَضَنِي! وَ مَنْ أبْغَضَنِي أبْغَضَهُ اللهُ تعالى، وَ أدخَلَهُ النَّارَ۱.
و روى ابن المغازليّ الشافعيّ بسنده عن خالد بن قيس قال: سأل رجل معاوية عن مسألة، فقال معاوية: سل عنها عليّ بن أبي طالب، فإنّه أعلم!
قال ذلك الرجل: يا أمير المؤمنين قولك فيها أحبّ إليّ من قول عليّ!
فقال معاوية: بئس ما قلت؛ و لؤم ما جئت به! لَقَدْ كَرِهْتَ رَجُلًا كَانَ رَسُولُ اللهُ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَغُرُّهُ العِلْمَ غَرّاً! وَ لَقَدْ قَالَ لَهُ رسُولُ اللهِ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! و لَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ يَسْألُهُ فَيَأخُذُ عَنْهُ؛ وَ لَقَدْ شَهِدْتُ عُمَرَ إذَا أشْكَلَ عَلَيْهِ شَيءٌ قَالَ: هَا هُنَا عَلِيّ.
قُمْ! لَا أقَامَ اللهُ رِجْلَيْكَ! وَ مَحَى اسْمَهُ مِنَ الدِّيوانِ.
وَ مَنَاقِبٌ شَهِدَ العَدُوُّ بِفَضْلِهَا | *** | وَ الفَضْلُ ما شَهِدَتْ بِهِ الأعْدَاءُ۱ |
علماء الشيعة يروون حديث المنزلة عن لسان رسول الله صلى الله على و آله و سلم
و رواه الشيخ الطوسيّ في أماليه بسنده المتّصل عن محمّد بن عمّار بن ياسر، عن أبي ذرّ الغفاريّ جُنْدب بن جُنَادة، قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قد أخذ بيد عليّ و قال:
يَا عَلِيّ! أنْتَ أخِي، وَ صَفِيِّي، وَ وَصِيِّي، وَ وَزِيرِي، وَ أمِينِي! مَكَانُكَ في حَيَاتِي وَ بَعْدَ مَوْتِي كَمَكَانِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ مَعِي! مَنْ مَاتَ وَ هُوَ يُحِبُّكَ خَتَمَ اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ بِالأمْنِ وَ الإيمَانِ! وَ مَنْ مَاتَ وَ هُوَ يُبْغِضُكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ في الإسْلَام نَصِيبٌ٢
خطبة أمير المؤمنين عليه السلام بعد معركة الجمل
و ذكر الشيخ الطبرسيّ في «الاحتجاج» أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لمّا دخل البصرة، و فرغ من معركة الجمل، قال بعض أصحابه: إنّ عليّاً لا يقسّم الفيء فينا بالسويّة، و لا يعدل في الرعيّة، و غير ذلك من المسائل التي أجاب عنها أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة خطبها؛ و هذه الخطبة مرويّة عن يَحْيى بن عبد الله بن الحسن، عن أبيه: عبد الله بن الحسن قال: لمّا دخل أمير المؤمنين عليه السلام البصرة، خطب هذه الخطبة بعد دخوله بأيّام. فقام إليه رجل و قال: يا أمير المؤمنين! أخبرني مَنْ أهل الجماعة؟! و مَنْ أهل الفرقة؟ و مَنْ أهل البدعة؟ و مَنْ أهل السُّنّة؟
قال أمير المؤمنين عليه السلام في جوابه: ويْحَكَ! أما إذا سألتني، فافهم عنّي؛ و لا عليك أن تسال عنها أحداً بعدي!
أمّا أهل الجماعة، فأنا و من اتّبعني، و إن قلّوا. و ذلك الحقّ عن أمر الله تعالى، و عن أمر رسوله! و أمّا أهل الفرقة، فهم المخالفون لي و لمن اتّبعني، و إن كثروا. أمّا أهل السنّة، فهم المتمسّكون بما سنّه الله لهم و رسوله، و إن قلّوا. و أمّا أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله و لكتابه و لرسوله، العاملون برأيهم و أهوائهم، و إن كثروا. و قد مضى منهم الفوج الأوّل و بقيت أفواج؛ و على الله قبضها، و استئصالها عن جُدَدِ الأرض.
فقام إليه عمّار بن ياسر، فقال: يا أمير المؤمنين! إنّ الناس يذكرون الفيء، و يزعمون أنّ من قاتلنا (أصحاب الجمل) فهو و ماله و ولده فيء لنا.
فقام إليه رجل من بكر بن وائل، و يدعى عبَّاد بن قيس، و كان ذا عارضة و لسان شديد، فقال: يا أمير المؤمنين! و الله ما قسمتَ بالسويّة! و لا عدلتَ في الرعيّة!
قال أمير المؤمنين: لِمَ؛ ويحك؟!
قال الرجل: لأنّك قسمتَ ما في العسكر! و تركت الأموال و النساء و الذرّيّة!
قال أمير المؤمنين عليه السلام: أيُّها الناس! من كانت به جراحة فليداوها بالسمن!
فقال عبّاد بن قَيْس: جئنا نطلب غنائمنا، فجاءنا بالتُّرَّهَات۱ (الهراء الذي ليس له معنى).
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: إن كنت كاذباً فلا أماتك الله حتّى يدركك غلام ثقيف!٢ قيل: و من غلام ثقيف؟! قال: رجل لا يدع للّه
حرمة إلّا انتهكها.
فقيل له: أ فيموت أو يقتل؟
فقال الإمام: يقصمه قَاصِمُ الجَبَّارِينَ بموت فاحش يحترق منه دبره لكثرة ما يجري من بطنه.
ثمّ قال عليه السلام: يا أخا بكر! أنت امرؤ ضعيف الرأي! أ وَ ما علمتَ أنّا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير؟! و أنّ الأموال كانت لهم قبل الفرقة؛ و تزوّجوا على رشدة، و ولدوا على فطرة! و إنّما لكم ما حوى عسكركم، و ما كان في دورهم فهو ميراث. فإن عدا أحد منهم أخذناه بذنبه؛ و إن كفّ عنّا لم نحمل عليه ذنب غيره.
يا أخا بكر! لقد حكمت فيهم بحكم رسول الله صلّى الله عليه و آله في أهل مكّة، فقسّم ما حوى العسكر، و لم يتعرّض لما سوى ذلك. و إنّما اتّبعت أثره حَذْو النَّعْلِ بِالنَّعْلِ۱.
يا أخا بكر! أ ما علمت أنّ دارَ الحَرْبِ يحلّ ما فيها؟! و أنّ دَارَ الهِجْرةِ يحرّم ما فيها إلّا بالحقّ!
فَمَهْلًا مَهْلًا رَحِمَكُم اللهُ! فإن لم تصدّقوني، و أكثرتم عَلَيّ -و ذلك أنّه تكلمّ في هذا غير واحد- فأيّكم يأخذ عائشة بسهمه؟!
و لمّا بلغ كلامه هذه النقطة، قالوا أجمعهم: يا أمير المؤمنين! أصبتَ و أخطأنا! و علمتَ و جهلنا! فنحن نستغفر الله تعالى! و نادى الناس من كلّ جانب: أصبتَ يا أمير المؤمنين! أصاب الله بك الرشاد و السداد!
فقام عبّاد، فقال: أيّها النَّاسُ! إنّكم و الله لو اتّبعتموه و أطعتموه لن يضلّ بكم عن منهل نبيّكم حتّى قيد شعرة! و كيف لا يكون ذلك، و قد استودعه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم علم المَنَايَا وَ القَضَايَا وَ فَصْلَ الخِطَاب على منهاج هارون و قال له: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! فضلًا خصّه الله به، و إكراماً منه لنبيّه حيث أعطاه ما لم يعط أحداً من خلقه.
ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السلام: انظروا رحمكم الله ما تؤمرون، فامضوا له!
فإنّ العالم أعلم بما يأتي به من الجاهل الخسيس الأخس. فإنّي حاملكم إنّ شاء الله إن أطعتموني على سبيل النجاة، و إن كانت فيه مشقّة شديدة، و مرارة عديدة. و الدنيا حلوة الحلاوة لمن اغترّ بها من الشقاوة و الندامة عمّا قليل.
حقد عائشة على عليّ عليه السلام
ثمّ إنّي أخبركم أنّ جيلًا من بني إسرائيل أمرهم نبيّهم أن لا يشربوا
من النهر، فلجّوا في ترك أمره فشربوا منه إلّا قليل منهم. فكونوا رحمكم الله! من اولئك الذين أطاعوا نبيّهم، و لم يعصوا ربّهم. وَ أمَّا عَائَشَةُ فَأدْرَكَهَا رَأيُ النِّسَاءِ؛ وَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حُرْمَتُهَا الاولَى؛ وَ الحِسَابُ على اللهِ؛ يَعْفُو عَمَّنْ يَشَاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ۱.
و نقل الملا عليّ المتّقى هذه الخطبة كلّها في «كنز العمّال»، لكنّه ذكر أنّ ذلك الرجل الذي قام و قال: أيُّهَا النَّاسُ! إنّكم و الله لو اتّبعتموه و أطعتموه، لن يضلّ بكم عن منهل نبيّكم حتّى قيد شعرة! ذلك أنّه اودع علم المَنَايَا وَ القَضَايَا وَ فَصْلَ الخِطَابِ، و أنّ النبيّ قال له: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي هو عمّار بن ياسر.
و قال: فَقَامَ عَمَّارٌ فَقَالَ: أيُّهَا النَّاسُ! و أنا أرى أنّ هذا هو الصحيح لسببين: الأوّل: أنّ تعريف أمير المؤمنين عليه السلام بهذا النحو من قبل عمّار بن ياسر ذي السوابق الحسنة أقرب إلى الصواب من تعريف رجل مجهول من قبيلة بكر اسمه عبّاد، بخاصّة أنّه قام في البداية و اعترض على الإمام بلسان سليط و نبرة حادّة. الثاني: أنّ لفظ عمَّار يشبه لفظ عبَّاد في الكتابة كثيراً، و أغلب الظنّ أنّ الناسخ قرأ (عبّاد) مكان (عمّار) في الكتابة. و كذا كتب في «الاحتجاج»، و «غاية المرام».
و ورد في «كنز العمّال» حول عائشة قوله:
وَ أمَّا عَائِشَةُ فَقَدْ أدْرَكَهَا رَأيُ النِّسَاءِ؛ وَ شَيءٌ كَانَ في نَفْسِهَا عَلَيّ يَغْلِي في جَوْفِهَا كَالمِرْجَلِ؛ وَ لَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أتَتْ بِهِ إلَيّ
لَمْ تَفْعَلْ؛ وَ لَهَا بَعْدَ ذَلكَ حُرْمَتُها الاولَى؛ وَ الحِسَابُ عَلَى اللهِ؛ يَعْفُو عَمَّن يَشَاءُ؛ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ۱.
و ذكر الشريف الرضي رحمة الله عليه هذه الفقرة من الخطبة بالنحو الآتي: وَ أمَّا فُلَانَةُ فَأدْرَكَهَا رأيُ النِّسَاءِ، وَ ضِغْنٌ غَلَا في صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ القَيْنِ؛ وَ لَوْ دُعِيَتْ لِتَنالَ مِنْ غَيْرِي مَا أتَتْ إلَيّ لَمْ تَفْعَلْ؛ وَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ حُرْمَتُهَا الاولَى وَ الحِسَابُ على اللهِ تَعَالَي٢.
أي: أنّ الحقد و الشنآن الذي وقر في صدرها عَلَيّ، و كان دائم الغليان كالحديد المنصهر في أتُّون الحِدادة هو الذي دفعها إلى ذلك العمل، إذ ركبت جَمَلها و تحرّكت تلقاء البصرة على رأس جيش قوامه اثنا عشر ألفاً؛ و رفعت لواء المعارضة، و تأمّرت على الجيش. و لو لا ضغنها عَلَيّ خاصّة، لما قامت بهذا العمل مع شخص آخر على وجه البسيطة.
تعليمات أمير المؤمنين حول كيفيّة تقسيم الغنائم في معركة الجمل
و لمّا انتهت معركة الجمل، نادى منادي أمير المؤمنين عليه السلام: أنْ لَا يُجْهَزْ على جَرِيحٍ، وَ لَا يُتْبَعْ مُوَلٍّ؛ وَ لَا يُطْعَنْ في وَجْهِ مُدْبِرٍ؛ وَ مَنْ ألْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ؛ وَ مَنْ أغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ. ثُمَّ آمَنَ الأسْوَدَ وَ الأحْمَرَ٣
و جاء في «كنز العمّال» بعد هذه الفقرات: وَ لَا يُسْتَحَلَّنَّ فَرْجٌ وَ لَا مَالٌ. وَ انْظُرُوا مَا حَضَرَ بِهِ الحَرْبُ مِنْ آنِيَةٍ فَاقْبِضُوهُ! وَ مَا كَانَ سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ؛ وَ لَا تَطْلُبُنَّ عَبْدَاً خَارِجَاً مِنَ العَسْكَرِ! وَ مَا كَانَ مِنْ دَابَّةٍ أوْ سِلَاحٍ
فَهُوَ لَكُمْ! وَ لَيْسَ لَكُمْ امُّ وَلَدٍ؛ وَ المَوَاريثُ على فَرِيضَةِ اللهِ؛ وَ أي امْرَأةٍ قُتِلَ زَوْجُهَا فَلْتَعْتَدَّ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَ عَشْرَاً.
قَالُوا: يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ! تُحِلَّ لَنَا دِمَاءَهُم؛ وَ لَا تُحِلَّ لَنَا نِسَاءَهُمْ؟!
فَقَالَ: كَذَلِكَ السِّيرَةُ في أهْلِ القِبْلَةِ! فَخَاصَمُوهُ.
قَالَ: فَهَاتُوا سِهَامَكُمْ؛ وَ اقْرَعُوا عَلَى عَائِشَةَ، فَهِيَ رَأسُ الأمْرِ وَ قَائِدُهُمْ! فَعَرَفُوا وَ قَالُوا: نَسْتَغْفِرُ اللهَ؛ فَحَمَهُمْ عَلِيّ.
وَ قَالَ عَلِيّ يَوْمَ الجَمَلِ: نَمُنُّ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَةِ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ؛ وَ نُوَرِّثُ الأبْنَاءَ مِنَ الآبَاءِ۱.
أجل، إنّ السبب الذي دعا أصحاب الإمام الذين كانوا معه في ساحة القتال إلى المطالبة بأسر نساء أصحاب الجمل جميعهنّ، و أخذ أموالهم كلّها بوصفها غنائم حربيّة و ذلك بعد انتهاء الحرب و إخماد الفتنة، هو ما شاهدوه خطأ من سيرة أبي بكر الذي كان أوّل من جلس مجلس رسول الله كخليفة له. إذ كانت سيرته قتال كلّ من امتنع عن دفع الزكاة من المسلمين، و لم يفرّق بين هؤلاء و بين المرتدّين في شبه الجزيرة العربيّة، و كان يعاملهم و سائر المشركين باسلوب واحد بعد رسول الله.
و أمّا أمير المؤمنين عليه السلام، فإنّ له مقام النبوّة لو قدّرت نبوّة بعد رسول الله، و قد طبّق حكم رسول الله عملًا بالحكم الإلهيّ و بمقتضى وزارته و ولايته الإلهيّة. أي: أنّه تعامل مع الأشخاص الذين كانوا مسلمين وفقاً لحكم الإسلام، و بوصفهم كانوا من أهل القبلة، و إن بغوا على إمام زمانهم. و حكم في أموالهم و نسائهم و ذراريهم بحكم الإسلام. فلم يأسر نساءهم، و لم ينظر إليهنّ كغنائم، فيقسّمهنّ على المسلمين المقاتلين، بل
كان لسان حاله أن يُنْظَر إليهنّ كمسلمات مات عنهنّ أزواجهنّ، فيلزمن العدّة، ثمّ يتزوّجن؛ و لم يأسر أولادهنّ. و كان العبيد و الإماء و سائر أموال المقتولين لورثتهم. و كانت الأشياء الموجودة في المعركة لا غير من الغنائم.
و أمّا قتال المشركين و المرتدّين، فلمّا كان حكم دار الحرب سارياً عليهم، فإنّ جميع أموالهم و نسائهم و ذراريهم غنائم ينبغي تقسيمها بين المسلمين.
و لمّا كان عمل الإمام عليه السلام جديداً على الجند، و اعتُبِرَ بدعة بسبب سيرة الخليفة الأوّل، لذلك بيّن لهم سلام الله عليه أنّ تلك السيرة كانت خاطئة. و أنّها كانت بدعة في دين الله. و أنّ رسول الله تعامل مع أهل مكّة الذين كانوا من أهل القبلة بمثل هذا التعامل. و هذه هي السنّة؛ و هذا هو الحكم. و أنّ الصغار لا يزرون وزر الكبار، كما لا يمكن تحميلهم ذنب الكبار. و أنّ ما كان في ساحة الحرب من سلاح و ماشية و سائر الأشياء كالآنية ... فإنّها من غنائم الحرب فحسب. و أمّا النساء فإنّهنّ حُرّات. و الأموال مصونة، و الذراري محترمون. و لا يحقّ لأحد التعرّض لهم.
و أنّ اقتراح القرعة باسم عائشة في مقابل لجّهم في مخالفة هذا الحكم أثبت أنّ كلامهم كان خاطئاً، و إلّا كيف يجوز لهم أخذ عائشة إلى بيوتهم بوصفها أسيرة حرب؟ و كيف يجوز لهم مواقعتها؟ و كيف يسوغ لهم عرضها في السوق للبيع؟
من هنا ينبغي أن نعلم أنّ الأمويّين لمّا قتلوا سيّد الشهداء عليه السلام، فإنّهم تعاملوا مع ذويه على أساس تلك السيرة الخاطئة و الأحكام الجائرة الظالمة للخليفة الأوّل أبي بكر، فسلبوا جميع أموالهم بما فيها الأموال التي كانت في الخيام، و أخذوا ذراري أهل البيت و نساءهم بوصفها
غنائم حربيّة، و سبوا زينب، و امّ كلثوم، و سائر المخدّرات الطاهرات، و أنزلوا بذلك البيت الكريم ما لا يخطر في مخيّلة أي شريف.
و من هنا، إعلم أنّه لو قيل: إنّ السهم الذي وقع في نحر عليّ الأصغر يوم عاشوراء قد خرج من سقيفة بني سَاعِدَة، و أصاب نحره، فقد صدق القائلون و أصابوا. و من يرى نفسه خليفة في مقابل أمير المؤمنين و وزارته و ولايته، و يصدر مثل هذه الأحكام الجائرة، فإنّه يحمل وزر جميع الانحرافات و الجنايات الناتجة عن غصبه الخلافة.
خشت أول چون نهد معمار كج | *** | تا ثريّا مىرود ديوار كج۱ |
ألَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى القَوْمِ الظَّالِمِينَ٢، وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ٣.
رسالة الإمام الهاديّ إلى أهل الأهواز و بيان حديث المنزلة
و من المواطن التي استُشهد فيها على حديث المنزلة استشهاد الإمام أبي الحسن عليّ بن محمّد العسكريّ٤ المشهور بالإمام عليّ النقيّ عليه السلام في كتاب بعثه إلى أهل الأهواز جواباً عن كتاب لهم كانوا قد أرسلوه إلى الإمام، و سألوه فيه عن الجبر و التفويض.
قال الإمام الهاديّ عليه السلام في هذا الكتاب: اجتمعت الامّة قاطبة
لا اختلاف بينهم في ذلك أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع فرقها. فهم في حالة الإجماع عليه مصيبون؛ و على تصديق ما أنزل الله مهتدون.
و لقول النبيّ صلّى الله عليه و آله: لَا تَجْتَمِعُ امَّتي عَلَى ضَلَالَةٍ.
فأخبر أنّ ما اجتمعت عليه الامّة و لم يخالف بعضها بعضاً هو الحقّ (و معلوم أنّ هذا الأمر مرتكز على أصل الاستناد إلى القرآن).
فهذا معنى الحديث؛ لا ما تأوّله الجاهلون؛ و لا ما قاله المعاندون.
و من إبطال حكم الكتاب و اتّباع حكم الأحاديث المزوّرة، و الروايات المزخرفة، اتّباع الأهواء المرويّة المهلكة التي تخالف نصّ الكتاب، و تحقيق الآيات الواضحات النيّرات.
و نحن نسأل الله أن يوفّقنا للصواب، و يهدينا إلى الرشاد.
ثمّ قال عليه السلام: فإذا شهد الكتاب بتصديق خبر و تحقيقه، فأنكرته طائفة من الامّة، و عارضته بحديث من هذه الأحاديث المزوّرة، صارت بإنكارها و دفعها الكتاب كفّاراً ضلّالًا.
و أصحّ خبر ما عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حيث قال:
إنِّي مُسْتَخْلِفٌ فِيكُمْ خَلِيفَتَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي! مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي! وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتّى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ.
و كذلك قال صلّى الله عليه و آله و سلّم في عبارة اخرى:
إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: كِتَابَ اللهِ وَ عِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي؛ وَ إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتّى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ! مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا!
و هذان الحديثان يترجمان لنا معنى واحداً، و يشعران بموضوع واحد.
و لمّا وجدنا شواهد هذا الحديث نصّاً في كتاب الله مثل قوله:
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ۱.
ثمّ اتّفقت روايات العلماء في ذلك لأمير المؤمنين عليه السلام أنّه تصدّق بخاتمه و هو راكع، فشكر الله ذلك له، و أنزل الآية فيه.
ثمّ وجدنا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قد أبانه من أصحابه
بهذه اللفظة: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ! اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ!
و قوله: عَلِيّ يَقْضِي دَيْنِي وَ يُنْجِزُ مَوْعِدِي وَ هُوَ خَلِيفَتِي عَلَيْكُمْ بَعْدِي.
و قوله حين استخلفه على المدينة فقال: يَا رَسُولَ اللهِ أ تُخْلِفُنِي على النِّساءِ وَ الصِّبْيَانِ؟
فقال صلّى الله عليه و آله و سلّم في جوابه:
أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي!
فعلمنا أنّ الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار، و تحقيق هذه الشواهد؛ فلزم الامّة الإقرار بها إذا كانت هذه الإخبار وافقت القرآن، و وافق القرآن هذه الأخبار.
فلمّا وجدنا هذه الأخبار موافقة لكتاب الله، و وجدنا كتاب الله لهذه الأخبار موافقاً، و عليها دليلًا، كان الاقتداء بهذه الأخبار فرضاً لا يتعدّاه إلّا أهل العناد و الفساد٢.
ثمّ شرع الإمام عليه السلام في بيان الجبر و التفويض، و قول الحقّ المتمثّل بالأمْرِ بَيْنَ الأمْرَيْنِ.
استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام بحديث المنزلة عند أبي بكر
و من موارد الاستشهاد بحديث المنزلة احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على أبي بكر بعد بيعة الناس إيّاه. و نقل الطبرسيّ هذا الاحتجاج في كتاب «الاحتجاج» عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، عن أبيه، عن جدّه، قال: لمّا كان من أمر أبي بكر و بيعة الناس له، و فعلهم بعليّ، لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط و يرى منه الانقباض. فكبر ذلك على أبي بكر، و أحبّ لقاءه، و استخراج ما عنده، و المعذرة إليه ممّا اجتمع الناس عليه، و تقليدهم إيّاه أمر الامَّةَ، و قلّة رغبته في ذلك، و زهده فيه.
فلهذا أتاه في وقت غفلة، و طلب منه الخلوة، فقال:
يَا أبَا الحَسَنِ! و الله ما كان هذا الأمر عن مواطاة منّي، و لا رغبة فيما وقعت عليه و لا حرص عليه، و لا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الامَّة، و لا قوّة لي بمال؛ و لا كثرة لعشيرة، و لا استيثار به دون غيري، فما لك تضمر عَلَيّ ما لم أستحقّه منك، و تظهر لي الكراهة لما صرت فيه و تنظر إليّ بعين الشنآن؟!
قال أمير المؤمنين عليه السلام: فما حملك عليه إذ لم ترغب فيه، و لا حرصت عليه، و لا وثقت بنفسك في القيام به؟
قال أبو بكر: حديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنَّ اللهَ لَا يَجْمَعُ امَّتِي على ضَلَالٍ. و لمّا رأيت إجماعهم، اتّبعت حديث النبيّ (و في نسخة: قول النبيّ)، و أحلت أن يكون إجماعهم على خلاف الهدى من ضلال، فأعطيتهم قود الإجابة، و لو علمت أنّ أحداً يتخلّف، لامتنعتُ.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: أما ما ذكرت من قول النبيّ صلّى الله
عليه و آله و سلّم: إنّ الله لا يجمع امّتي على ضلال؛ فكنت من الامّة، أم لم أكن؟!
قال أبو بكر: بلى، أنت من الامّة. و كذلك العصابة الممتنعة معك، من سَلْمان، و عَمّار، و المقداد، و أبي ذرّ، و ابن عُبَادَة، و مَن معه من الأنصار، كلّ من امّة رسول الله.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: فكيف تحتجّ بحديث النبيّ: إنّ الله لا يجمع امّتي على ضلال، و أمثال هؤلاء قد تخلّفوا عنك؟ و ليس للُامّة فيهم طعن، و لا في صحبة الرسول لصحبته منهم تقصير؟!
قال أبو بكر: ما علمت بتخلّفهم إلّا بعد إبرام الأمر؛ و خفتُ إن قعدت عن الأمر أن يرجع الناس مرتدّين عن الدين؛ و كان ممارستهم إن أجبتُهم أهون مئونة على الدين و إبقاء له من ضرب الناس بعضهم ببعض، فيرجعون كفّاراً؛ و علمت أنّك لست بدوني في الإبقاء عليهم! و على أديانهم!
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أجل! و لكن أخبرني عن الذي يستحقّ هذا الأمر بمَ يستحقّه؟!
اعتراف أبي بكر بميزات أمير المؤمنين و حديث المنزلة
قال أبو بكر: بالنصيحة، و الوفاء، و دفع المداهنة، و حسن السيرة، و إظهار العدل، و العلم بالكتاب و السنّة، و فصل الخطاب، مع الزهد في الدنيا، و قلّة الرغبة فيها، و انتصاف المظلوم من الظالم للقريب و البعيد! ثمّ سكت.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: و السابقة و القرابة؟!
قال أبو بكر: و السابقة و القرابة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: انشدك بالله يا أبا بكر: أ في نفسك تجد هذه الخصال أو في؟!
قال أبو بكر: بل فيك يا أبا الحسن!
و هنا يحاجّه الإمام و يناشده بكثير من السجايا و الخصال التي يختصّ بها. منها قوله: انْشِدُكَ بِاللهِ! إلى الوَزَارَةُ مَعَ رَسُولِ اللهِ؛ وَ المِثْلُ مِنْ هَارُونَ مِنْ موسى؛ أمْ لَكَ؟! قَالَ: بَلْ لَكَ!
و يُدان أبو بكر في هذا المجلس، و يُفحَم، فيقول: ابسط يدك يا أبا الحسن ابايعك، و لكن تقرّر أن تكون البيعة علناً في المسجد بعد تلك البيعة في المجلس المذكور. و تمّر ليلة على هذه الحالة، و يطّلع عمر على الأمر، فيصرف أبا بكر عن عزمه بأيّ نحو كان۱.
احتجاج أمير المؤمنين بحديث المنزلة في الشوري
و من موارد الاستشهاد بحديث المنزلة، احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام مع أصحاب الشورى في مجلسهم بعد موت عمر. و هذا الاحتجاج مفصّل؛ و فيه مناقب الإمام و فضائله الخاصّة به دون غيره، التي لا يشترك فيها أحد من المهاجرين و الأنصار؛ و هذا الاحتجاج من الاحتجاجات المعروفة و المشهورة. و نكتفي هنا بذكر مورد الحاجة إليه في الاستشهاد بحديث المنزلة، و وزارة الإمام عليه السلام. قال لهم الإمام بعد بيان فضائله و اعتراف المناوئين و إقرارهم بها:
نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ! هَلْ فِيكُمْ أحَدٌ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟! قَالُوا: لَا!
و قال: نَشَدْتُكُمْ بِاللهِ! هَلْ فِيكُمْ أحَدٌ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أنْتَ أخِي وَ وَزِيرِي وَ صَاحِبِي مِنْ أهْلِي! غَيْرِي؟!
قَالُوا: لَا!
و واصل الإمام هذه الاحتجاجات إلى أن قال: أما إذا أقررتم على أنفسكم، و استبان لكم ذلك من قول نبيِّكم، فعليكم بتقوى الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ! و أنهاكم عن سخطه! و لا تعصوا أمره! و ردّوا الحقّ إلى أهله؛ و اتّبعوا سنّة نبيّكم؛ فإنّكم إن خالفتم، خالفتم الله! فادفعوها إلى من هو أهلها! و هي له!
يقول راوى هذا الحديث و هو الإمام أبو جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السلام: لمّا انتهى كلام أمير المؤمنين عليه السلام، تغامز أصحاب الشورى فيما بينهم، و تشاوروا؛ و قالوا: قد عرفنا فضائل عليّ، و علمنا أنّه أحقّ الناس بها؛ و لكنّه رجل لا يفضّل أحداً على أحد؛ فإن ولّيتموها إيّاه، جعلكم و جميع الناس فيها شرعاً سواء، و لكن ولُّوها عثمان فإنّه يهوى الذي تهوون؛ فدفعوها إليه۱.
و نقل ابن أبي الحديد احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام يوم الشورى في «شرح نهج البلاغة»، و بلغ به إلى قوله: أ فِيكُمْ أحَدٌ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! غَيْرِي؟! قَالُوا: لا!٢.
و ذكر ابن أبي الحديد أيضاً حديث المنزلة، و آية التطهير كمثالين، عند شرح كلام الإمام لمّا بلغه اتّهام بني اميّة إيّاه بالمشاركة في دم عثمان.
و توضيح ذلك أنّه ورد في «نهج البلاغة» أنّ أمير المؤمنين عليه
السلام لمّا بلغه اتّهام بني اميّة إيّاه بالمشاركة في دم عثمان، قال:
أ وَ لَمْ يَنْهَ امَيَّةَ عِلْمُهَا بي عَنْ قَرْفي؟ أ وَ مَا وَزَعَ الجُهَّالَ سَابِقَتِي عَنْ تُهْمَتِي؟ وَ لَمَا وَعَظَهُمُ اللهُ بِهِ أبْلَغُ مِنْ لِسَانِي؛ أنَا حَجِيجُ المارِقِينَ، وَ خَصِيمُ المُرْتَابِينَ، وَ على كِتَابِ اللهِ تُعْرَضُ الأمْثَالُ؛ وَ بِمَا في الصُّدُورِ تُجَازَى العِبَادُ۱.
قال ابن أبي الحديد في شرح الفقرة الاولى: أ وَ لَمْ يَنْهُ امَيَّةَ عِلْمُهَا بي عَنْ قَرْفي:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: أ ما كان في علم بني اميّة بحالى ما ينهاهم عن [قذفي و] قرفي بدم عثمان؟ و حاله التي أشار إليها و ذكر أنّ علمهم بها يقتضي أن لا يقرفوه بذلك، هي منزلته في الدين التي لا منزلة أعلى منها، و ما نطق به الكتاب الصادق من طهارته، و طهارة بنيه و زوجته في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً٢.
و قول البنيّ [الأكرم] صلّى الله عليه و آله و سلّم: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى!
و هذه التعابير تقتضي عصمته عن الدم الحرام، كما أنّ هارون معصوم عن مثل ذلك؛ و ترادف الأقوال و الأفعال من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في أمره التي يضطرّ معها الحاضرون لها و المشاهدون إيّاها إلى أنّ مثله لا يجوز أن يسعى في إراقة دم أمير مسلم٣.
خطبة زياد في فارس، و الاستشهاد بحديث المنزلة
و من موارد الاستشهاد بحديث المنزلة كلام زياد بن سُميَّة في خطبته التي ذكرها ابن أبي الحديد كالآتي: روى عليّ بن محمّد المدائنيّ، قال: لمّا كان زمن [أمير المؤمنين] عليّ عليه السلام ولّى زياداً فارسَ أو بعض أعمال فارس. فضبطها ضبطاً صالحاً، وجبى خراجَها و حَماها؛ و عرف ذلك معاوية، فكتب إليه: أمَّا بَعْدُ! فإنّه غرّتك قِلاعٌ تأوي إليها ليلًا، كما تأوي الطير إلى و كرها! و أيم الله، لو لا انتظاري بك ما الله أعلم به، لكان لك منيّ ما قاله العبد الصالح: فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ۱.
و كتب في أسفل الكتاب شعراً، من جملته:
تَنْسَى أبَاكَ وَ قَدْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ | *** | إذْ يَخْطُبُ النَّاسَ وَ الوَالِي لَهُمْ عُمَرُ |
فلمّا ورد الكتاب على زياد، قام فخطب الناس، و قال:
العَجَبُ مِنِ ابْنِ آكِلَةِ الأكْبَادِ؛ وَ رَأسِ النِّفَاقِ! يُهْدِّدُنِي وَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ؛ وَ زَوْجُ سَيِّدَةِ نِسَاءِ العَالَمِينَ؛ وَ أبُو السِّبْطَيْنِ؛ وَ صَاحِبُ الوَلَايَةِ؛ وَ المنزلَةِ؛ وَ الإخَاءِ؛ في مِائَةِ ألْفٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَ الأنْصَارِ؛ وَ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإحْسَانٍ!
أما و الله لو تخطّى هؤلاء أجمعون إليّ، لوجدني أحمر مُخِشّاً٢ ضرّاباً
معرفة الإمام ؛ ج۱۰ ؛ ص۸۱
بالسيف.
ثمّ كتب [زياد بعد هذه الخطبة كتاباً] إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، و بعث بكتاب معاوية في كتابه. فكتب إليه [أمير المؤمنين] عليّ عليه السلام، و بعث بكتابه:
أمَّا بَعْدُ؛ فَإنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ مَا وَلَّيْتُكَ! وَ أنَا أرَاكَ أهْلًا! وَ إنَّهُ قَدْ كَانَتْ مِنْ أبي سُفْيَانَ فَلْتَةٌ في أيَّامِ عُمَرَ مِنْ أمَانِيّ التَّيْهِ وَ كَذِبِ النَّفْسِ؛ لَمْ تَسْتَوْجِبْ بِهَا مِيرَاثاً؛ وَ لَمْ تَسْتَحِقَّ بِهَا نَسَباً. وَ إنَّ مُعَاوِيَةَ كَالشَّيْطانِ الرَّجِيمِ يَأتِي المَرْءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ وَ عَنْ يَمِينِهِ وَ عَنْ شِمَالِهِ؛ فَاحْذَرْهُ، ثُمَّ احْذَرْهُ، ثُمَّ احْذَرْهُ؛ وَ السَّلَامُ۱
قصّة استلحاق معاوية زياداً بأبي سفيان
إن شرح و بيان جواب أمير المؤمنين عليه السلام لزياد بن سميّة يحتاج إلى سرد قصّة تأريخيّة. فنقول: زياد و كنيته أبو المغيرة، امّه سميّة كانت أمَة لأحد دهاقين الفرس٢، و كان يعيش في الطائف. فمرض
الدهقان، فدعا الحَرْثَ بْنَ كَلْدَة الثَّقَفِيّ و كان طبيباً ليعالجه، فعالجه، فبرأ، فوهبه سُميّة جزاءً له على علاجه، فأولدها الحرث نَفِيعَاً و نَافِعَاً. ثمّ زوّجها غلامه الروميّ عُبَيْدَاً. و في تلك الفترة سافر أبو سفيان إلى الطائف. و طلب من الخمّار أبي مَرْيَمَ السَّلُولِيّ بغياً. فأخذ إليه أبو مريم سميّة. و ولدت سميّة زياداً في السنة الاولى من الهجرة، في وقت كانت زوجة لعُبيد.
و لمّا حاصر النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم الطائف، جاء نفيع إلى النبيّ، فأعتقه، و لقّبه أبا بَكْرَة. و حينئذٍ خاف الحرث بن كلدة من ذهاب ابنه الآخر نافع إلى النبيّ، فقال له: أنْتَ وَلَدِي! و لهذا قيل لنفيع الملقّب بأبي بكرة: مَوْلَى الرَّسُول، و قيل لنافع: ابن الحَرْث، و قيل لزياد: ابن عُبَيْد. و كان هذا في وقت لم ينسب معاوية زياداً إلى أبي سفيان بعد. لكن لمّا اعتبره معاوية ابنَ أبي سفيان، و أخاه، لذا قيل له: زياد بن أبي سفيان؛ و لمّا انقرضت الدولة الأموّية، قيل لزياد: زياد بن سميّة أو زياد بن أبيه۱.
و روى ابن عبد البرّ عن هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، أنّ عمر بعث [أيّام حكومته] زياداً، [و هو غلام حَدَث] في إصلاح فساد واقع باليمن.
و لمّا رجع زياد من اليمن، خطب عند عمر خطبة لم يُسْمَع مثلها،
و عليّ عليه السلام حاضر، و أبو سفيان، و عمرو بن العاص. فقال عمرو بن العاص: للّه أبو هذا الغلام، لو كان قرشيّاً، لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان: إنّه لقريّش؛ و إنّي لأعرف الذي وضعه في رَحِم امّه! فقال عليّ عليه السلام: و من هو؟ قال أبو سفيان: أنا! فقال عليّ: مَهْلًا يَا أبَا سُفْيَانَ!
فخاطب أبو سفيان أمير المؤمنين عليه اسلام بثلاثة أبيات من الشعر مفادها أنّه لو لم يخف عمر، لبيّن قصّة تولّد هذا الفتى۱.
و روى أحمد بن يحيى البَلاذُريّ مثل هذا المضمون، و قال في آخره: قال عمرو بن العاص لأبي سفيان: فَهَلَّا تَسْتَلْحِقُهُ؟! قَالَ: أخَافُ هَذَا العَيْرَ الجَالِسَ أنْ يَخْرِقَ عَلَيّ إهَابِي.
و روى محمّد بن الواقديّ مثله أيضاً، و قال في آخر كلامه: قال عليّ عليه السلام: مَهْ يَا أبَا سُفْيَانَ! فَإنَّ عُمَرَ إلى المَسَاءَةِ سَرِيعٌ.
عرف زياد ما دار بين عليّ عليه السلام، و بين أبي سفيان فكانت في نفسه٢.
حكم رسول الله: الولد للفراش و للعاهر الحجر
يعود خوف أبي سفيان من عمر في عدم إفصاحه بأنّ زياداً منه، و أنّ نطفته انعقدت بعد أن زنى بامّه، إلى حكم رسول الله صلّى الله عليه و آله: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ. أي: أنّ الولد المولود هو لمن كانت امرأته في فراشه بعقد صحيح، أو مِلك صحيح، أو تحليل جائز. و أمّا الزاني فلا حظّ له من الولد، بل حظّه الحجر الذي يرجم به.
أي: عند ما يولد طفل من امرأة، و لا تقوم أمارة قطعيّة أو حجّة ظنّيّة
على أنّه ابن زنا، فينبغي أن نعتبره من صاحب الفراش، لا من الزاني، حتّى لو كان تولّده مشكوكاً فيه. أو يقوم ظنّ قويّ غير الحجّة على أنّ نطفة هذا الطفل من الزنا، كالتشابه في الوجه، أو قول القافَة، أو تحليل دم الطفل، و أمثال ذلك. و يتّفق الشيعة و العامّة في هذا الحكم على أنّ الزاني لا يستطيع أن يستلحق الطفل المولود منه به. و صدر هذا الحكم عن رسول الله عند ما تنازع سعد بن أبي وقّاص، و عَبد بن زَمْعَة في ولد كان من زمعة.
لمّا ذهب سَعْد بن أبي وقّاص إلى مكّة في عام الفتح، قال له أخوه عُتْبَة بن أبي وقّاص: إنّ ابن زمعة ولد من نطفتي، و هو منّي، فخذه و ائت به! فأخذه سعد في عام الفتح، و قال: هذا ابن أخي، و قد اوصيتُ به. فقام عَبْد بن زَمْعَة، و هو أخو ذلك الولد، و قال: هذا أخي، و قد ولد على فراش أبي.
فتخاصما عند رسول الله. قال سعد: يا رسول الله! هذا الغلام ابن أخي عتبة و قد عهد إليّ أنّه ابنه؛ انظر إلى شبهه. فقال عبد بن زمعة: يا رسول الله! هذا أخي، و قد ولد على فراش أبي، فهو من أولاده. فنظر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى الطفل و رأي شبهه البيّن بعتبة.
ثمّ التفت إلى عَبْد بْنِ زَمْعَة و قال: هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ! الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ. وَ احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ بِنْتَ زَمْعَةَ! قَالتْ عَائِشَةُ: فَلَمْ يَرَ سَوْدَةَ قَطُّ۱.
و كتب أمير المؤمنين عليه السلام كتاباً إلى معاوية جواباً على كتاب كان قد بعثه معاوية إليه و قال فيه: يا عليّ! نفيتَ زياد عن أبي سفيان! فقال الإمام: لم أنفه، بل نفاه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إذ قال: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَر۱.
و عند ما كتب زياد كتاباً إلى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، و أساء فيه الأدب بقوله: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن ابن فاطمة، فإنّ الإمام عليه السلام أجابه قائلًا: مِنَ الحَسَنِ ابْنِ فَاطِمَةَ إلى زِيَادِ ابْنِ سُمَيَّةَ. أمَّا بَعْدُ؛ فَإنَّ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَالَ: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ. وَ السَّلَامُ٢.
أجل، لا خلاف بين أهل الإسلام جميعهم أنّ الطفل المولود في الفراش الصحيح يعود إلى صاحب الفراش. أي: أنّ نسبه إلى ذلك الرجل الذي أولده بنكاح شرعيّ صحيح.
هذا الطفل ابنه، و هو أبوه، و إخوته من هذا النكاح هم إخوته، و كذلك علاقته بسائر الأرحام من عمّ و عمّة، و ابن عمّ، و ابن عمّة، و ابن
أخٍ، و ابن اخت، و غيرهم.
و عند ما يحوم الشكّ من خلال عدم قيام أمارة قطعيّة أو حجّة عليه، فلا رحم بين الزاني و بين هذا الطفل. فهو ليس ابنه، و ذاك ليس والده، و أبناء الزاني ليسوا إخوةً لهذا الطفل، و أخو الزاني ليس عمّه، و هكذا۱.
لقد خالف معاوية بن أبي سفيان حكم رسول الله جهراً، و أعلن أنّ زياد بن عُبَيْد هو زياد بن أبي سفيان، و هو أخوه؛ و تصاعدت موجات الاعتراض من جميع أنحاء العالم الإسلاميّ، و من صحابة رسول الله كافّة. و على الرغم من هذا كلّه، فإنّه لم يرتّب أي أثر عليه. و ارتقى منبر الشام، و أجلس زياداً على مرقاة أوطأ منه، و أعلن أنّ هذا الرجل ولد من زنا أبي، أبي سفيان، بسميّة في الطائف، فهو ابن أبي سفيان، و هو أخي. و لا يحقّ لأحد أن يسميّه زياد بن عبيد.
صدر هذا العمل من معاوية كخطّة سياسيّة أراد فيها عطف زياد إليه، لأنّه كان أمير الشام و المسلمين في تلك الأرجاء، و إذا كان زياد أخاه، فهذا يعني أنّه أخو الأمير و ابن أبي سفيان الشخصيّة العربيّة المهمّة، على عكس عبيد الذي كان غلاماً روميّاً، و لا شرف لزياد بالانتساب إليه.
بَيْدَ أنّ زياد المسكين التعس قد استساغ الانتساب إلى أبي سفيان، و اعتبر نفسه ابناً له بالزنا، و نسب إلى امّه السِّفاح، و نفى انتسابه لأبيه عُبَيْد الذي أولده على فراشه بنكاح صحيح من سميّة.
و آثر زياد بنوّة الزنا على النسب الصحيح طلباً للرئاسة. و قدّم نطفة أبي سفيان، و لو كانت نطفة سِفاح، على نطفة عُبَيْد الروميّ، و إن كانت نطفة نكاح صحيح، و اعتبر ذلك من دواعي شرفه. و كان زياد في أوّل أمره رجلًا عاقلًا لبيباً كيّساً، و من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام و أتباعه. و نُصِّب من قبله حاكماً على منطقة من مناطق فارس. و كما رأينا فإنّ معاوية عند ما كتب إليه رسالة، و هدّده فيها، جاء بين الناس و خطب فيهم، و أعلن عن استعداده التامّ لحرب معاوية؛ و اعتبر أمير المؤمنين عليه السلام صاحب الولاية المقصود في الحديث النبويّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ، و صاحب الوزارة و المنزلة: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، و صاحب الاخوّة: أنْتَ أخِي، و هو أبو السبطين: الحسن، و الحسين، و بعل فاطمة سيّدة نساء العالمين، و ابن عمّ رسول الله. و ظلّ زياد حاكماً على فارس ما دام أمير المؤمنين حيّاً؛ و لم يستطع معاوية أن يخدعه أو يكسر شوكته بالتهديد.
و يستفاد من رسالة أمير المؤمنين عليه السلام التي كتبها في جواب رسالته و جاء فيها أنّ ما صدر عن أبي سفيان في زمن عمر كان زلّة من الأماني الشيطانيّة المضلّة، و تسويلات النفس، و لا يثبت فيها نسب، و لا يُسْتَحَقُّ فيه إرث أنّ معاوية قد وجّه نظر زياد إليه في رسالته من خلال استلحاقه بأبي سفيان و بنوّته إيّاه، و أراد أن يخدعه عبر هذا الاسلوب على أنّه أخوه، و ابتغى من ذلك تحريضه على أمير المؤمنين عليه السلام.
رسالة أمير المؤمنين إلى زياد في بطلان تحقّق النسب بالزنا
روى الشريف الرضيّ تلك الرسالة في «نهج البلاغة» بقوله: و من كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه، و قد بلغه أنّ معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه:
وَ قَدْ عَرَفْتُ أنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إلَيْكَ يَسْتَزِلُّ لُبَّكَ وَ يَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ! فَاحْذَرْهُ فَإنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ، يَأتِي المُؤْمِنَ مِنْ بَيْن يَدَيْهِ؛ وَ مِنْ خَلْفِهِ وَ عَنْ يَمِينِهِ؛ وَ عَنْ شِمَالِهِ، لِيَقْتَحِمَ غَفْلَتَهُ؛ وَ يَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ.
وَ قَدْ كَانَ مِنْ أبي سُفْيَانَ في زَمَنِ عُمَرَ فَلْتَةٌ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ وَ نَزْعَةٌ مِنْ نَزَعَاتِ الشَّيْطَانِ؛ لَا يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ وَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا إرْثٌ، وَ المُتَعَلِّقُ بِهَا كَالوَاغِلِ المُدَفَّعِ، وَ النَّوطِ المُذَبْذَبِ۱.
فَلَمَّا قَرَأ زِيَادٌ الكِتَابَ؛ قَالَ: شَهِدَ بِهَا وَ رَبِّ الكَعْبَةِ وَ لَمْ تَزَلْ في نَفْسِهِ حتّى ادَّعَاهُ مُعَاوِيَةُ٢.
أي: أنّ معاوية يطلب زلل عقلك و خطأه. و يحاول أن يفلّ حدّك، أي: عزمك.
و ظهرت من أبي سفيان فلتة في كلامه أيّام عمر. و هذه الفلتة كانت من حديث النفس، و كلمة فاسدة من كلمات الشيطان (إذ قال: إنِّي أعْلَمُ مَنْ وَضَعَهُ في رَحِمِ امِّهِ، يقصد نفسه) و حركاته القبيحة التي تفسد المكلّفين. و لا يثبت بواسطة تلك الفلتة و عثرة اللسان نسب، و لا يستحقّ بها إرثٌ. و من أراد أن يثبت له نسباً عن هذا الطريق فمثله مثل من يهجم على الشرب ليشرب و هو ليس منهم، فلا يزالون يدفعونه و يحولون بينه و بين الشرب. و كذلك مثله مثل شيء شدّوه على سرج الحصان، أو رحل البعير كالكأس أو القدح و أمثالهما، فهو يتقلقل باستمرار بواسطة السرعة في
السير و الحركة. و لا يقرّ له قرار أبداً.
و لمّا قرأ زياد كتاب أمير المؤمنين عليه السلام قال: شهد عليّ بها و ربّ الكعبة، بقوله: إنّني وليد أبي سفيان و ظلّت هذه الفكرة في نفسه حتّى قطع معاوية نسبه من عُبَيْد، و نسبه إلى أبي سفيان.
و عند ما استشهد أمير المؤمنين عليه السلام، ظلّ زياد والياً على فارس. و قلق معاوية منه لأنّه كان يعرف ثباته و رسوخ مبدئه و استقامة منهجه. و خاف أن يقترب من الإمام الحسن المجتبى عليه السلام أكثر، و ينهض لمساعدته و نصرته، فلهذا كتب إليه رسالة بهذا المضمون:
رسالة معاوية النابية إلى زياد، و ردٌ زياد عليه برسالة نابية
من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عُبَيْد.
أمَّا بَعْدُ؛ فإنّك عبد قد كفرتَ النعمة، و استدعيتَ النقمة! و لقد كان الشكر أولى بك من الكفر! و إنّ الشجرة لتضرب بعِرْقِها، و تتفرّع من أصلها. إنّك -لا امّ لك بل لا أب لك- قد هلكتَ و أهلكتَ! و ظننتَ أنّك تخرج من قبضتي، و لا ينالك سلطانيّ! هيهات! ما كلّ ذي لُبّ يصيب رأيه، و لا كلّ ذي رأي ينصح في مشورته.
بالأمسِ عبدٌ، و اليوم أمير! خطّة ما ارتقاها مثلُكَ يا ابن سُميّة!
و إذا أتاك كتابي هذا، فَخُذِ الناس بالطاعة و البيعة! و أسرع الإجابة! فإنّك إن تفعل، فدمك حقنتَ! و نفسك تداركتَ! و إلّا اختطفتُكَ بأضعف ريش (بأضعف قوّة)، و نلتك بأهون سعي.
و اقسم قسماً مبروراً، ألّا اوتَى بك إلّا في زمّارة، تمشي حافياً من أرض فارس إلى الشام حتّى اقيمك في السوق، و أبيعك عبداً، و أردّك إلى حيث كنتَ فيه و خرجتَ منه! و السلام۱.
خديعة معاوية زياداً بتوجيه المغيرة بن شعبة
فلمّا ورد الكتاب على زياد، غضب غضباً شديداً، و جمع الناس، و صعد المنبر. فحمد الله. ثمّ قال: ابن آكلة الأكباد (هند)، و قاتلة أسد الله (حمزة). و ابن أبي سفيان مظهر الخلاف، و مُسِرّ النفاق، و رئيس الأحزاب؛ و من أنفق ماله في إطفاء نور الله. كتب إليّ يُرعد و يبرق عن سحابةٍ جَفْل لا ماء فيها، و عمّا قليل تصيّرها الرياح قزعاً. و الذي يدلّني على ضعفه، تهدّده قبل القدرة. يا معاوية! أ فَمِن إشفاق عَلِيّ تُنْذِر؟ و تُعْذِر؟ كلّا! و لكن اذهب إلى غير مذهب؛ و قعقع لمن رُبِّيَ بين صواعق تِهامة.
كيف أرهبه و بيني و بينه ابن بنت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و ابن ابن عمّه في مائة ألف من المهاجرين و الأنصار؟!
و الله لو أذِنَ (الإمام الحسن عليه السلام) لي فيه، أو ندبني إليه (معاوية)، لأريته الكواكب نهاراً، و لأسعطته ماء الخردل.
دونه (أي معاوية) الكلام اليوم، و الجمع غداً، و المشورة بعد ذلك إن شاء الله. قال هذا، و نزل من المنبر. و كتب إلى معاوية:
أمَّا بَعْدُ! فقد وصل إليّ كتابك يا معاوية، و فهمت ما فيه؛ فوجدتك كالغريق يغطّيه الموج، فيتشبّث بالطُّحْلُب، و يتعلّق بأرجل الضفادع، طمعاً في الحياة.
إنّما يكفر النعم، و يستدعي النقم من حادّ الله و رسوله؛ و سعى في الإرض فساداً.
فأمّا سبّك لي، فلولا حِلم ينهاني عنك، و خوفي أن ادعى سفيهاً، لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء.
و أ ما تعييرك لي بسُمَيَّة، فإن كنتُ ابن سميَّة، فأنت ابن جماعة (أي: إذا كان قد زنى رجل واحد بامِّي، و أولدني منها، فقد زنى بامّك جماعة، و أنت ابنهم!).
و أمّا زعمك أنّك تختطفني بأضعف ريش، و تتناولني بأهون سعي، فهل رأيتَ بازياً يُفزعه صغير القنابر؟! أم هل سمعت بذئب أكله خروف؟!
فامض الآن لطيَّتك! و اجتهد جهدك! فلست أنزل إلّا بحيث تكره! و لا أجتهد إلّا فيما يسوءك! و ستعلم أيّنا الخاضع لصاحبه الطالع إليه! و السلام۱.
و لمّا ورد كتاب زياد على معاوية، غمّه و أحزنه، و بعث إلى المُغيرة بن شُعْبَة، فخلا به؛ و قال: يا مغيرة! إنّي اريد مشاورتك في أمر أهمّني، فانصحني فيه، و أشر عَلَيّ برأي المجتهد؛ و كن لي، أكن لك! فقد خصصتُك بسرّي، و آثرتك على ولدي!
قال المغيرة: فما ذاك؟! و الله لتجدني في طاعتك أمضى من الماء إلى الحدور! و من ذي الرونق في كفّ البطل الشجاع!
قال معاوية: إنّ زياداً قد أقام بفارس؛ يكشّ لنا كشيش الأفاعي؛ و هو رجل ثاقب الرأي، ماضي العزيمة، جوّال الفكر، مصيب إذا رمى.
و قد خفت منه الآن ما كنتُ آمنه إذ كان صاحبه حيّاً، و أخشى ممالأته حَسَناً. فكيف السبيل إليه؟ و ما الحيلة في إصلاح رأيه؟!
قال المغيرة: أنا له إن لم أمُت! إنّ زياداً رجل يحبّ الشرف، و الذِّكر، و صعود المنابر. فلو لاطفته المسألة، و ألَنْتَ له الكتاب، لكان لك
أميل! و بك أوثق! فاكتب إليه و أنا الرسول.
فكتب معاوية إليه:
من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن أبي سفيان:
أمَّا بَعْدُ؛ فإنّ المرء ربمّا طرحه الهوى في مطارح العَطَب؛ و إنّك للمرء المضروب به المثل، قاطع الرحم، و واصل العدوّ! و حملك سوء ظنّك بي، و بغضك لي على أن عققتَ قرابتي، و قطعت رحمي، و تبتّ نسبي و حرمتي، حتّى كأنّك لست أخي، و ليس صخر بن حرب أباك و أبي. و شتّان ما بيني و بينك، أطلب بدم ابن أبي العاص۱ و أنت تقاتلني! و لكن أدركك عِرق الرخاوة من قبل النساء، فكنتَ:
كَتَارِكَةٍ بَيْضَهَا بِالعَرَاء | *** | وَ مُلْحِفَةٍ بَيْضَ اخْرَى جَنَاحَا |
و قد رأيتُ أن أعطفَ عليك، و لا أؤاخذك بسوء سعيك، و أن أصل رحمك، و أبتغي الثواب في أمرك!
فاعلم أبا المغيرة (زياد) أنّك لو خضتَ البحر في طاعة القوم فتضرب بالسيف حتّى انقطع متنه، لما ازددت منهم إلّا بعداً! فإنّ بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة إلى الثور الصريع، و قد اوثق للذبح. فارجع رحمك الله إلى أصلك، و اتّصل بقومك! و لا تكن كالموصول بريش غيره!
فقد أصبحتَ ضالّ النسب! و لعمري ما فعل بك ذلك إلّا اللجاج! فدعه عنك! فقد أصبحتَ على بيّنة من أمرك، و وضوحٍ من حجّتك!
فإن أحببتَ جانبي، و وثقت بي، فإمرة بإمرة! و إن كرهت جانبي،
و لم تثق بقولي، ففعل جميل لا عَلَيّ و لا لي؛ و السلام۱.
فرحل المغيرة بن شعبة بالكتاب حتّى قدم فارس؛ فلما رآه زياد، قرّبه و أدناه، و لطف به٢؛ فدفع إليه الكتاب. فجعل زياد يتأمّله، و يضحك.
فلمّا فرغ من قراءته، وضعه تحت قدمه؛ ثمّ قال: حسبك يا مغيرة! فإنّي أطّلع على ما في ضميرك؛ و قد قدمت من سفرة بعيدة! فقم و أرح ركابك!
قال المغيرة: أجل! فدع عنك اللجاج! يرحمك الله! و ارجع إلى قومك! وصل أخاك! و انظر لنفسك! و لا تقطع رحمك!
قال زياد: إنّي رجل صاحب أناة! ولى في أمري رويّة! فلا تعجل عَلَيّ! و لا تبدأني بشيء حتّى أبدأك!
ثمّ جمع الناس بعد يومين أو ثلاثة؛ فصعد المنبر؛ فحمد الله و أثنى عليه، ثمّ قال: أيُّهَا النَّاسُ! ادفعوا البلاء ما اندفع عنكم! و ارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم! فقد نظرتُ في امور الناس منذ قُتِل عثمانُ، و فكّرت فيهم فوجدتهم كالأضاحي، في كلّ عيد يذبحون؛ و لقد أفنى هذان اليومان الجمل و صفّين ما ينيف على مائة ألف، كلّهم يزعم أنّه طالب حقّ،
و تابع إمام، و على بصيرة من أمره.
فإن كان الأمر هكذا، فالقاتل و المقتول في الجنَّة. كلّا! ليس كذلك! و لكن أشكل الأمر، و التبس على القوم؛ و إنّي لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ؛ فكيف لامرئ بسلامة دينه؟!
و قد نظرت في أمر الناس، فوجدت إحدى العاقبتين العافية. و سأعمل في اموركم ما تحمدون عاقبته و مغبّته! فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله! ثمّ نزل.
رسالة زياد إلى معاوية و استعداده للتعاون معه
و كتب جواب الكتاب:
أمَّا بَعْدُ! فقد وصل كتابك يا معاوية مع المغيرة بن شُعْبة؛ و فهمتُ ما فيه. فالحمد للّه الذي عرّفك الحقّ، و ردّك إلى الصلة؛ و لستَ ممّن يجهل معروفاً! و لا يغفل حَسَباً!
و لو أردتُ أن اجيبك بما أوجبته الحجّة، و احتمله الجواب؛ لطال الكتاب، و كثر الخطاب!
و لكنّك إن كنتَ كتبتَ كتابك هذا عن عقد صحيح، و نيّة حسنة؛ و أردتَ بذلك برّاً، فستزرع في قلبي مودّة و قبولًا!
و إن كنتَ إنّما أردتَ مكيدةً و مكراً و فساد نيّة، فإنّ النفس تأبي ما فيه العطب!
و لقد قمت يوم قرأت كتابك مقاماً يعبأ به الخطيب المِدْرَة۱. فتركتُ من حضر؛ لا أهل ورد و لا صدر؛ كالمتحيّرين بمهمَةٍ ضلّ بهم الدليل؛
و أنا على أمثال ذلك قدير. و كتب في أسفل الكتاب:
إذَا مَعْشَرِي لَمْ يُنْصِفُونِي وَجَدْتَنِي | *** | ادَافِعُ عَنِّي الضَّيْمَ مَا دُمْتُ بَاقِيَا |
وَ كَمْ مَعْشَرٍ أعْيَتْ قَناتِي عَلَيْهِمُ | *** | فَلَامُوا وَ ألْفَوْني لَدَى العزْمِ مَاضِيَا |
وَ هَمٍّ بِهِ ضَاقَتْ صُدُورٌ فَرَحْبُهُ | *** | وَ كُنْتُ بِطِبِّي لِلرِّجَالِ مُداويَا |
ادَافِعُ بِالحِلْمِ الجَهُولَ مَكِيدَةً | *** | وَ اخْفي لَهُ تَحْتَ العِضَاةِ الدَّوَاهيَا |
فَإنْ تَدْنُ مِنِّي أدْنُ مِنْكَ وَ إنْ تَبِنْ | *** | تَجِدْنِي إذَا لَمْ تَدْنُ مِنِّي نَائِيَا |
فأعطاه معاوية جميع ما سأله، و كتب إليه بخطّ يده ما وثق به. فدخل إليه الشام؛ فقرّبه و أدناه، و أقرّه على ولايته في فارس؛ ثمّ استعمله على العراق۱.
و روى ابن أبي الحديد عن عليّ بن محمّد المدائنيّ قال: لمّا أراد معاوية استلحاق زياد، و قد قدم عليه الشام، جمع الناس، و صعد المنبر، و أصعد زياداً معه فأجلسه بين يديه على المرقاة التي تحت مرقاته.
و حمد الله و أثنى عليه، و قال: أيُّهَا النَّاسُ! إنّي قد عرفتُ نسبنا أهل
البيت في زياد؛ فمن كان عنده شهادة، فليقم بها!
فقام ناس، فشهدوا أنّه ابن أبي سفيان، و أنّهم سمعوا ما أقرّ به أبو سفيان قبل موته.
فقام أبُو مَرْيَمَ السَّلُولِيّ و كان خمّاراً في الجاهليّة فقال: أشهد يا أمير المؤمنين أنّ أبا سفيان قدم علينا بالطائف، فأتاني فاشتريت له لحماً و خمراً و طعاماً، فلمّا أكل، قال: يا أبا مريم! أصب لي بغيّاً! فخرجت فأتيت سُمَيَّة، فقلت لها: إنّ أبا سفيان ممّن قد عرفت شرفه وجوده! و قد أمرني أن اصيب له بغيّاً! فهل لكِ؟!
فقالت: نعم! يجيء الآن عبيد بغنمه (و كان راعياً)، فإذا تعشّى، و وضع رأسه، أتيته.
فرجعتُ إلى أبي سفيان، فأعلمته. فلم نلبث أن جاءت تجرّ ذيلها، فدخلتْ معه؛ فلم تزل عنده حتّى أصبحت. فقلت له لمّا انصرفت: كيف رأيت صاحبتك؟! قال: خير صاحبة، لو لا ذَفَرٌ في إبطيها. [الذَّفَر: رائحة نتنة كريهة].
فقال زياد من فوق المنبر: يا أبا مريم! لا تشتم امّهات الرجال، فتُشْتَم امُّك!
فلمّا انقضى كلام معاوية و مناشدته، قام زياد، و أنصت الناس، فحمد الله و أثنى عليه؛ ثمّ قال: أيُّهَا النَّاسُ! إنّ معاوية و الشهود قد قالوا ما سمعتم؛ و لست أدري حقّ هذا من باطله؛ و هو و الشهود أعلم بما قالوا، و إنّما عُبَيْد أب مبرور، و وال مشكور. ثمّ نزل۱.
إنّنا بحمد الله و منّته ذكرنا هنا قصّة معاوية و زياد بالنحو المتقدّم
ليتبيّن أنّ معاوية كان رجلًا متجرّئاً متهوّراً لم يرْعَوِ عن كلّ جناية و خيانة لتحقيق مآربه السياسيّة المتمثّلة بالتحكّم في رقاب المسلمين و إلصاق نفسه بأهل البيت.
إنّه استطاع تذليل زياد الذي كان رجلًا جموحاً شموساً بأساليب ما كرة. و زياد هذا كان قد كتب في رسالة يخاطب بها معاوية قائلًا: «و ستعلم أيّنا الخاضع لصاحبه، الطالع إليه!» و إذا هو يذهب إلى الشام بمكيدة معاوية، و تزوير خدينه و شريك سرّه المغيرة بن شعبة. و حضر مجلس معاوية راغباً، و وضع في عنقه طوق العبوديّة و الذلّ بمرأى الحاضرين، و جعل بنوّة الزنا لقباً يفخر به. و ظفر معاوية بامنيته عن هذا الطريق.
و من هو معاوية؟ إنّه الشخص الذي كان يقول: لا شغل لنا بكلام الناس ما لم يمسّ إمارتنا و حكومتنا.
و كان يقول: لَوْ أنَّ بَيْنِي وَ بَيْنَ النَّاسِ شَعْرَةً مَا انْقَطَعَتْ أبَدَاً.
قِيلَ لَهُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟! قَالَ: إذَا مَدُّوَهَا أرْخَيْتُهَا، وَ إذَا أرْخَوْهَا مَدَدْتُهَا۱.
جلب معاوية زياداً إلى الشام و وضع وسام الفخر ببنوّة الزنا في عنقه
و كان معاوية يرى أنّ زياداً سياسيّ محنّك و والٍ قويّ. و لو ظلّ واليا على فارس من قبل أمير المؤمنين عليه السلام، أو من قبل الإمام الحسن عليه السلام، و هو من شيعة أهل البيت و أنصارهم، لكان خطر الثورة على حكومته شديداً. و لمّا شعر بعقم تهديده زياداً، انتهج سبيلًا آخر، فناشده بصلة الرحم، و سمّاه أخاه، و ابنَ أبيه، إلى أن أوقعه في الفخّ آخر الأمر. و لم يبال بسحق الحكم الثابت لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: الوَلَدُ لِلفِرَاشِ وَ لِلعَاهِرِ الحَجَرُ، بل نسخه و أبطله بكلّ قبح و وقاحة. و أعلن على
رؤوس الأشهاد أنّ زياداً وليد من نطفة أبيه أبي سفيان؛ فهو أخوه و ابن أبي سفيان.
بينما يعلم المسلمون جميعهم أنّ الطفل المتولّد في الفراش من نكاح صحيح يعود إلى صاحب الفراش، لا إلى الشخص الزاني.
نقول هنا: أوّلًا: إنّ زنا أبي سفيان بسميّة غير ثابت. و كان ذلك الكلام قد صدر من أبي سفيان، و اعتبره أمير المؤمنين من أمَانِيّ التَّيْهِ وَ كَذِبِ النَّفْسِ. و ما يدرينا لعلّ قوله في مجلس عمر: أنَا وَضَعْتُهُ في رَحِمِ امِّهِ كان كذباً و بهتاناً. إذ عند ما أثنى عمرو بن العاص على خطبة زياد، و قال: لو كان هذا الغلام من قريش. فأراد أبو سفيان أن ينسب هذه الفضيلة إلى نفسه، و هو من قريش، و ذلك من منطلق حبّ الشرف القبليّ.
و الدليل على هذا الكلام رواية نقلها ابن أبي الحديد عن أبي عثمان. قال: كتب زياد إلى معاوية يستأذنه في الحجّ. فكتب إليه معاوية: أنّي قد أذنتُ لك، و استعملتك على الموسم، و أجزتُك بألف ألف درهم!
فبينا هو يتجهّز، إذ بلغ ذلك أبا بكرة أخاه و كان مصارماً له منذ لجلج في الشهادة على المغيرة بن شعبة أيّام عمر لا يكلّمه، قد لزمته أيمان عظيمة ألّا يكلّمه أبداً فأقبل أبو بكرة يدخل القصر يريد زياداً. فبَصُر به الحاجب، فأسرع إلى زياد قائلًا: أيُّهَا الأمِيرُ! أخوك أبو بكرة قد دخل القصر!
قال زياد: ويحك! أنت رأيته؟!
قال الحاجب: ها هو ذا قد طلع؛ و في حجر زياد بُنَيّ يلاعبه.
و جاء أبو بكرة حتّى وقف عليه، فقال للغلام:
كيف أنت يا غلام؟! إنّ أباك ركب في الإسلام عظيماً: زنَّى امَّهُ، و انتفى من أبيه. و لا و الله ما علمت سُميّة رأت أبا سفيان قطّ.
ثمّ أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك. يوافي الموسم غداً، و يوافي امّ حبيبة بنت أبي سفيان (زوجة رسول الله)۱ و هي من امّهات المؤمنين. فإن جاء يستأذن عليها، فأذنت له، فأعظم بها فِرْية على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و مصيبة! و إن هي منعته، فأعظم بها على أبيك فضيحة!
ثمّ انصرف أبو بكرة بعد أن تحدّث مع الغلام.
قال زياد: جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيراً! ساخطاً كنتَ أو راضياً! ثمّ كتب إلى معاوية: إنّي قد اعتللت عن الموسم، فليوجّه إليه أمير المؤمنين من أحبَّ. فوجّه معاوية عتبة بن أبي سفيان٢.
و ذكر ابن عبد البرّ في «الاستيعاب» لمّا ادّعى معاوية زياداً في سنة أربع و أربعين (من الهجرة) و ألحقه به أخاً، زوّج ابنته من ابنه محمّد بن زياد ليؤكّد بذلك صحّة الاستلحاق.
و كان أبو بكرة أخا زياد لُامّه، امّهما جميعاً سُمَيَّة. فحلف (أبو بكرة) ألّا يكلّم زياداً أبداً و قال: هذا زَنّى امَّهُ، و انتفى من أبيه. و لا و الله ما علمتُ سميّة رأت أبا سفيان قبل. ويلَهُ! ما يصنع بامّ حبيبة؟ أ يريد أن يراها؟ فإن حجبته، فضحته. و إن يراها، فيا لها من مصيبة يهتك من رسول الله صلّى الله عليه و آله حرمةً عظيمة.
و حجّ زياد مع معاوية؛ و دخل المدينة؛ فأراد الدخول على امّ حبيبة،
ثمّ ذكر قول أبي بكرة، فانصرف عن ذلك. و قيل: إنّ امّ حبيبة حجبته و لم تأذن له في الدخول عليها. و قيل: إنّه حجّ و لم يرد المدينة من أجل قول أبي بكرة. و إنّه قال: جزى الله أبا بكرة خيراً فما يَدَع النصيحة في حال۱.
إنّ الوثيقة التأريخيّة الوحيدة لزنا أبي سفيان بسميّة كلام أبي مريم السلوليّ. و هي شهادة رجل خمّار و فاسق. و ما يدرينا لعلّه افترى ذلك في مجلس الشام إرضاءً لمعاوية؟
و حينئذٍ تلد سميّة المسكينة طفلًا و هميّاً بعد سنين طويلة في التأريخ؛ و تتّهم بمثل هذه التهمة. يقول ابن أبي الحديد: و ممّن عيّر معاوية بهذا عبد الرحمن بن الحَكَم بن أبي العاص أخو مروان، و هو من بني اميّة. فقد دخل يوماً على معاوية مع جماعة من بني اميّة، و قال: يَا مُعَاوِيَةُ! لَوْ لَمْ تَجِدْ إلَّا الزَّنْجَ لَاسْتَكْثَرْتَ بِهِمْ عَلَيْنَا قِلَّةً وَ ذِلَّةً! فقال معاوية لمروان: أخرج عنّا هذا الخليع المتهتّك الصلف فأخرجه مروان. و شرح ذلك مفصّل.
أشعار عبد الرحمن بن الحكم في هجاء معاوية
و عبد الرحمن بن الحكم هو الذي أنشد الأبيات الآتية في هجاء معاوية و زياد:
ألَا أبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْبٍ | *** | لَقَدْ ضَاقَتْ بِمَا يَأتِي اليَدَانِ |
أ تَغْضَبُ أنْ يُقَالُ: أبُوكَ عَفٌ | *** | وَ تَرْضَى أنْ يُقَالَ: أبُوكَ زَانِ |
فأشْهَدُ أنَّ رِحْمَكَ مِنْ زِيَادٍ | *** | كَرِحْمِ الفِيلِ مِنْ وَلَدِ الأتَانِ |
وَ أشْهَدُ أنَّهَا حَمَلَتْ زِيَاداً | *** | وَ صَخْرٌ مِنْ سُمَيَّةَ غَيْرُ دَانِ۱ |
للفراش أمارة لصحّة النسب
يقول في البيت الثالث أن لا نسب و لا قرابة بين معاوية و زياد كما لا نسب بين الفيل و ولد الأتان (انثى الحمار). و يقول لمعاوية: أنت في الشرف كالفيل الضخم، و زياد في الوضاعة كولد الأتان.
ثانياً: لو فرضنا أنّ أبا سفيان زنى بسميّة، فمن أين نعلم أنّ زياداً قد صُوِّر من نطفة أبي سفيان؟ بل المورد هو المقصود من كلام رسول الله:الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ٢. أي: عند عدم وجود دليل قطعيّ عقليّ، كأن يكون الزوج قد سافر مثلًا قبل مدّة الحمل، أو كان في السجن، و حملت المرأة. و عند عدم وجود دليل قطعيّ شرعيّ، كأن تكون مدّة الحمل بين المواقعة و تولّد الطفل أقلّ من ستّة أشهر، و بصورة عامّة، عند عدم وجود حجّة عقليّة و شرعيّة، ينبغي أن يُلْحَق الطفل بصاحب الفراش فيما لو ولد من الزنا، و احتملنا ولادته بسبب الزنا. أي: يلحق بزوج تلك المرأة، لا بالزاني. و للفراش الصحيح أمارة لصحّة النسب.
ثالثاً: لو تيقّنّا أنّ زياداً كان من نطفة أبي سفيان، كأن يقوم دليل عقليّ أو حجّة شرعيّة على أنّ زياداً لا يمكن أن يكون ابن عُبَيْد، كأن تكون مدّة الحمل منذ مواقعةِ عبيدٍ سُمَيَّةَ أقلّ من ستّة أشهر، أو أكثر من مدّة الحمل المعهودة (تسعة أشهر أو عشرة أو سنة على حسب اختلاف الأقوال) أو كان عُبَيْد غائباً، و أمثال ذلك، و بصورة عامّة، لو ثبت عقلًا
و شرعاً أنّ زياداً ولد بسبب زنا أبي سفيان بامّه، فلا يمكن أن نعتبره ابناً لأبي سفيان.
حكم الإسلام الضروريّ في عدم تحقّق النسب بالزنا
ذلك أنّ النسب لا يتحقّق في الشرع الإسلاميّ بالزنا. و لا توجد علاقات بُنُوَّة بين الطفل و بين الأب أو الامّ الزانية. و لا بدّ من مواقعة شرعيّة لتحقّق البنوّة. و هذا الأمر من الامور المعلومة بل من ضروريّات الإسلام، و لا شبهة و لا تردّد فيه أبداً.
قال صاحب كتاب «جواهر الكلام»: و كيف كان فلا يثبت النسب مع الزنا إجماعاً بقسميه، بل يمكن دعوى ضروريّته فضلًا عن دعوى معلوميّته من النصوص أو تواترها فيه. فلو زنى [رجل] فانخلق من مائه ولد على الجزم، لم ينسب إليه شرعاً على وجه يلحقه الأحكام؛ و كذا بالنسبة إلى امّه۱.
و عبّرت الروايات عن هذه النطفة المنعقدة من الزنا المسلّم باللُّغْيَة أي: إنّ هذا الطفل المولود من الزنا ملغى و باطل. و قال في «مجمع البحرين»: لُغْيَة بضمّ اللام، و سكون الغين المعجمة و فتح الياء التحتانيّة هو المُلْغى، أي: الطفل المولود من الزنا٢.
يقول محمّد بن الحسن القمّيّ: كتب بعض أصحابنا على يدي إلى أبي جعفر الباقر عليه السلام يسأله عن هذه المسألة بقوله:
ما تقول في رجل فجر بامرأة، فحبلت؛ ثمّ إنّه تزوّجها بعد الحمل
فجاءت بولد، و هو أشبه خلق الله به؟!
فكتب بخطّه و خاتمه: الوَلَدُ لُغْيَةٌ لا يُورَثُ۱.
على ضوء ذلك، لا يتحقّق النسب الشرعيّ للطفل المولود من الزنا سواءً كان من طرف الأب، أم من طرف الامّ. كما لا يتحقّق عنوان النسبيّات السبع، من الامّ، و البنت، و الاخت، و العمّة، و الخالة، و بنت الأخ، و بنت الاخت بينه و بين هؤلاء، و لا توارث بينه و بينهم. و بصورة
عامّة، لا ينطبق أي حكم من الأحكام الواردة في النسب الصحيح على ولد الزنا إلّا في نكاح هذه العناوين السبعة الثابتة حرمتها، و ذلك لا من منطلق صدق عنوان الابُوَّة وَ البُنُوَّة و الاخُوَّة و أمثالها، بل من منطلق الصدق اللُّغوي للولد، الذي يتبعه في النكاح؛ فَالإنْسَانُ لَا يَنْكَحُ بَعْضُهُ بَعْضَاً.
إذاً، ينبغي أن نقول بصورة عامّة: لا يتحقّق أي حكم من أحكام النسب إلّا حرمة نكاح المحارم؛ و لا يبعد جواز النظر إلى المحارم أيضاً، لأنّ حرمة نكاح المحارم، و جواز النظر إليها شيء واحد٢.
و يمكن استفادة عدم تحقّق النسبة أيضاً من عنوان: وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ لأنّ قضيّة الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ و إن كانت تحوم حول تنازع و تخاصم صاحب الفراش و الزاني، بَيْدَ أنّ كلّ فقرة من هاتين الفقرتين مستقلّة، و تفيد حكماً منفرداً وحدها، و لها معنى يخصّها نفسها. و تشعر عبارة وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ أنّ الزاني لا حظّ له من النَّسَب و الولد، و ينبغي أن يرجم بالحجر في مقابل ادّعائه، و لا جواب له إلّا الحجر بديلًا عن الولد.
و خال البعض أنّ المراد من الحَجَر هو الرجم الذي يستحقّه الزاني الذي زنى محصناً. أي: أنّ جوابه و جزاءه الرجم، و القتل و الدفن تحت وابل الحجارة. إلّا أنّ هذا الظنّ ضعيف.
ذلك أنّ الزنا حينئذٍ يتخصّص بالزنا المحصن، و يكون القصد من العاهر: العاهر المُحْصن؛ و ينبغي تخصيص الفراش بالفراش الذي تحقّق فيه نزاع الزنا المحصن، بالاستفادة من قرينة المقابلة. و هذا التخصيص بلا وجه و لا مُخَصِّص. فالفراش باقٍ على إطلاقه، و العاهر يشمل كلّ عاهرٍ محصناً كان أو غير محصن.
و استبان من محصّل البحث في هذا القسم أيضاً عدم تحقّق أيّة رابطة
من روابط النَّسَب بين زياد و أبي سفيان حتّى لو فرضنا فقدان فراش عبيد، و تيقّنّا ولادة زياد من أبي سفيان. و حينئذٍ لا يكون معاوية أخاً لزياد.
و أنّ إعلان معاوية بنوّة زياد لأبيه أبي سفيان تمرّد مكشوف على حكم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، بل تمرّد مكشوف على الإسلام، و على شخص الرسول المبارك. و لهذا جُوبِهَ باحتجاج المسلمين كافّة.
و لم يعبأ معاوية الصفيق المتهتّك بهذا الاحتجاج. إذ ظلّ يدعو زياداً بابن أبي سفيان حتّى آخر عمره، و طلب في الخطب أن يُدعى بابن أبي سفيان. و كان يكتب في رسائله: زياد بن أبي سفيان.
و أدّى إلحاق معاوية زياداً بأبي سفيان إلى شهرة الحديث القائل: الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ. و كان هذا الكلام كسائر كلام رسول الله قد صدر في قضيّة شخصيّة كانت بين سَعْد بن أبي وقّاص و ابن زَمْعَة. و ينبغي أن يكون في عداد أخبار الآحاد ككثير من كلامه، لكنّه صار من الأحاديث المستفيضة و المشهورة بين المحدّثين و المؤرّخين. ذلك أنّ قضيّة الإلحاق، و هي من الأعمال العجيبة لمعاوية، قد وقعت في حياة كثير من الصحابة. و قد طعنوا كلّهم عليه، لأنّهم كانوا قد سمعوا هذا النصّ الصريح من رسول الله، و هذا الطعن أحد الطعون الأربعة، المعروفة بين جميع المسلمين، على معاوية. و هي:
۱ ظلمه و بغيه على أمير المؤمنين عليه السلام.
٢ قتله حجرَ بن عَدِيّ و أصحابه في مرج عذراء بدمشق، و كان حجر من صحابة النبيّ الأبرار.
٣ إلحاق زياد بأبي سفيان.
٤ نصب يزيد حاكماً على المسلمين.
قال ابن أبي الحديد: قال الحسن البصريّ: ثَلَاثٌ كُنَّ في مُعَاوِيَةَ لَوْ لَمْ تَكُنْ فيهِ إلَّا واحِدَةٌ مِنْهُنَّ لَكَانَتْ مُوبِقَةً: انْتِزاؤُهُ عَلى هَذِهِ الامَّةِ بِالسُّفَهاءِ حتّى ابْتَزَّها أمْرَهَا، وَ اسْتِلْحَاقُهُ زِيَاداً مُرَاغَمَةً لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَ لِلْعَاهِرِ الحَجَرُ»، وَ قَتْلُهُ حِجْرَ بْنَ عَدِيّ؛ فَيَا وَيْلَهُ مِنْ حِجْرٍ وَ أصْحابِ حِجْرٍ۱.
تباهي زياد ببنوّته أبي سفيان من الزنا
و من هنا يتّضح أي أشخاص رَقوا منبر النبيّ. ذلك المنبر الذي ينبغي أن يرتقيه عليّ و أولاده، و أن يكون مناراً لتعريف القرآن، و أحكام
الإسلام، و ترويج الحقّ، و القضاء على الباطل. و إذا هو محلّ لإلحاق أولاد الزنا بحكّام الجور و الظلم، و يصعد عليه أمثال معاوية ليدعوا الناس إلى إضفاء الطابع الرسميّ على الزنا؛ و تحقّقت رؤيا النبيّ الأكرم المتمثّلة بنزو القردة على منبره، و هذه القردة هم بنو اميّة. و هم الشجرة الملعونة الوارد ذكرها في القرآن الكريم:
و إذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس و الشجرة الملعونة في القرآن و نخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا٢.
أجمعت الروايات في تفسير هذه الآية المباركة على أنّ المراد من الشجرة الملعونة أي: المغضوب عليها، البعيدة من رحمة الله بنو اميّة الذين صعدوا على منبر النبيّ ثمانين سنة، و دعوا الناس إلى الضلالة.
و ليعلم ثانياً أنّ زياد بن عُبَيد -مع ما كان يتمتّع به من الشجاعة و المتانة و الرزانة و الدراية- قد رضي أن يدعو نفسه ابن أبي سفيان من
الزنا، و يتباهى بذلك حبّاً للرئاسة؛ ذلك أنّ العصر كان عصر الأمويّين. و كان معاوية بن أبي سفيان يُذكَر في الخطب و الرسائل في أرجاء العالم الإسلاميّ على أنّه أمير المؤمنين. و كان لأبي سفيان، والد مثل هذه الشخصيّة، مقام سامق و كريم عند عامّة الناس. و كان الفخر ببنوّة مثل هذا الرجل أخ السلطان و الحاكم يومئذٍ و إن كان فيه و صمة عار الزنا نقطة انعطاف في حياة زياد المتهافت على الدنيا، الطالب إيّاها، من أجل بروز و ظهور ما يخفيه في ضميره، و ما تنطوي عليه نفسه.
و زياد هذا هو الذي قال لأبي مريم السَّلوليّ من على المنبر: لا تشتم امّهات الرجال! و قال في أبيه عُبَيْد: أبٌ مَبرُورٌ وَ وَالٍ مَشْكُور. و هو الذي كان يكتب في رسائله: مِنْ زِيَادِ بْنِ أبي سُفْيَانَ إلى فُلَانٍ ... و بلغ تعدّيه و انتهاكه المنطلِق من حبّ الحكومة و الرئاسة أنّه سمّى أمير المؤمنين عليه السلام فاسقاً، و خاطب الإمام الحسن بالحسن ابن فاطمة امتهاناً له. و أساء الأدب في رسالة بعثها إلى الإمام حتّى أنّ معاوية تعجّب و غضب لمّا أرسل إليه الإمام تلك الرسالة، فأرسل إلى زياد رسالة نابية يعنّفه فيها على ما كتب به إلى الإمام الحسن عليه السلام۱.
و يتحصّل ممّا ذكرنا أنّ الإنسان ينبغي أن يراقب أعماله دائماً، و يواظب على محاسبة نفسه الأمّارة، ذلك أنّ الاختبار يكشف الذهب الخالص من الزائف. وَ عِنْدَ الامْتِحَانِ يُكْرَمُ الرَّجُلُ أوْ يُهَانُ.
خوش بود گر محك تجربه آيد به ميان | *** | تا سيه روى شود هر كه در او غشّ باشد۱ |
إنّ قصّة طلحة و الزبير مع سوابقهما، و حربهما أمير المؤمنين عليه السلام كلّ ذلك يدعو إلى التفكّر و التأمّل و التمعّن. و نقل المؤرّخون ما آل إليه عبد الله بن عبّاس الذي كان واليا على البصرة من قبل أمير المؤمنين، سرق المجوهرات من بيت المال، و فرّ إلى الحجاز، و اشترى ثلاث جوارٍ حِسان بثلاثة آلاف دينار. و ذكر المؤرّخون تعنيف أمير المؤمنين عليه السلام إيّاه و مؤاخذته له، و أجوبته التافهة بل المسيئة عن رسائل أمير المؤمنين عليه السلام. كلّ ذلك نقله المؤرّخون في كتبهم٢.
و نفهم من هذا أنّ التشيّع ليس مجرّد كلام لفظيّ و اعتراف لسانيّ. و إلّا فقد كان طلحة، و الزبير، و زياد، و ابن عبّاس من شيعة الإمام و أنصاره و لكن عند ما انهالت الصفراء، و طرق الأسماع صهيل الخيول، و همهمة الغزاة، و قعقعة رايات الرئاسة و الحكومة، فإنّهم تغيّروا، و عند ذاك يُعْرَفُ من يثبت ممّن ينهار، و تغور قدمه في حفرة الشهوات، و يلقى في جهنّم. و أنّ حبّ الرئاسة، و حسّ الاستعلاء، و الخيلاء، و التعلّق بالمال و الذهب الأحمر، و اجتماع الغواني، و سماع الأغاني، كلّ ذلك يُعمي و يُصمّ. حُبُّ الشَّيءِ يُعْمي وَ يُصِمُّ.
و كم هو لطيف و جميل تعبير القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بصورة عامّة.
لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون۱.
(و حياتك أيّها النبيّ! إنّ قوم لوط و أهل الدنيا ضالّون في سكرة الحيرة و الغفلة و أهوائهم النفسانيّة).
سجود معاوية عند ما نُعي إليه الإمام الحسن عليه السلام
يقول ابن عبد ربّه الأندلسيّ: لمّا بلغ معاوية موت (الإمام) الحسن (المجتبى) بن عليّ (بن أبي طالب)، خرّ ساجداً للّه؛ ثمّ أرسل إلى ابن عبّاس و (مَن) كان معه في الشام، فعزّاه و هو مستبشر (بموت الإمام الحسن عليه السلام).
و قال (معاوية لابن عبّاس): ابن كم سنة مات أبو محمّد (الإمام الحسن)؟
فقال (ابن عبّاس) له: سنّه كان يسمع في قريش؛ فالعجب من أن يجهله مثلك.
قال (معاوية): بلغني أنّه ترك أطفالًا صغاراً.
قال (ابن عبّاس): كلّ ما كان صغيراً يكبر؛ و إنّ طفلنا لكهل؛ و إنّ صغيرنا لكبير. ثمّ قال: ما لي أراك يا معاوية مستبشراً بموت الحسن بن عليّ؟ فو الله لا ينسأ في أجلك! و لا يسدّ حفرتك! و ما أقلّ بقاءك و بقاءنا بعده! ثمّ خرج ابن عبّاس، فبعث إليه معاوية ابنه يزيد، فقعد بين يديه، فعزّاه و استعبر لموت الحسن؛ فلمّا ذهب أتبعه ابن عبّاس ببصَره و قال: إذا ذهب آل حرب، ذهب الحلُم من الناس٢.
أجل، إنّ حديث المنزلة الذي نقلنا بعض رواياته في هذا البحث يمنح مقام الوزارة و الخلافة لأمير المؤمنين عليه السلام بالنصّ الصريح،
و يجعله كالنبيّ. و لو لم تُخْتَم النبوّة برسول الله، لحاز أمير المؤمنين منصب النبوّة أيضاً بلا شكّ و شبهة. بَيدَ أنّ كافّة المناصب من خلافة و إمارة و إمامة و وصاية و اخوّة ثابتة للإمام بمقتضى هذا الحديث.
و نقل المرحوم السيّد هاشم البَحْرانيّ في «غاية المرام» عن ابن أبي الحديد عين الاستدلال الذي أتى به الشيعة على ولاية الإمام مستنبَطاً من الآية القرآنيّة و حديث المنزلة، و قد نقله بحذافيره قائلًا:
قال ابن أبي الحديد: «و الذي يدلّ على أنّ عَلِيَّاً عَلِيْهِ السَّلَامُ وزير رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من نصّ الكتاب و السنّة قول الله تعالى:
وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي، وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي۱.
و قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام:
أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
و على هذا ثبت لأمير المؤمنين عليه السلام جميع مراتب هارون و منازله من موسى، فإذَاً عَلِيّ وَزِيرُ رَسُولِ اللهِ. و لو لا أنّه خاتم النبيّين، لكان شريكاً له في أمره انتهى كلام ابن أبي الحديد.
ثمّ قال المحدّث البحرانيّ رحمة الله عليه: انظر إلى ما رواه المخالفون في النصّ من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بعده بالنصّ المجمع على روايته بين فرق الإسلام كما ذكره ابن أبي الحديد، و ذكره غيره أيضاً. و هذا صريح من المخالفين
أنّ رسول الله ما مات حتّى نصّ على عليّ بأنّه الإمام و الخليفة و الوزير. و هذا عين ما تقوله الشيعة.
لذلك نجد أنّ إنكار النصّ من بعض المخالفين كابن أبي الحديد في بعض المواضع من شرحه على نهج البلاغة باطل، لقيام البرهان على خلافه، و اعترافه بالنصّ كما ذكرناه نحن من كلامه هذا من أنّ جميع مراتب هارون و منازله من موسى هي ثابتة لعليّ عليه السلام، ما عدا النبوّة. لأنّ رسول الله خاتم الأنبياء، و إلّا كان شريكاً له في النبوّة.
و هذا يقتضي بالصريح من النصّ على عليّ عليه السلام بالإمامة و الخلافة و الوزارة التي هي مراتب هارون من موسى. و هذا واضح بيّن لا خفاء فيه و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وَ أعُوذُ بِاللهِ سُبْحَانَهُ وَ تعالى مِنَ الضَّلَالَةِ بَعْدَ تَبَيُّنِ الهُدَى وَ الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ۱.
وصيّة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم للأنصار، و بيان حديث المنزلة
و روى في «غاية المرام» أيضاً عن السيّد الأجلّ أبي القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن طاووس في «الطرائف الثلاث و الثلاثين» في النصّ على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بالإمامة و الخلافة و الوصيّة. قال: الطرفة العاشرة في تصريح رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عند الوفاة بخلافة عليّ عليه السلام على الصغار و الكبار، و جميع أهل الأمصار بمحضر الأنصار، عن أبي الحسن موسى بن جعفر، عن أبيه عليهما السلام، قال: لمّا حضرت رسول الله الوفاة دعا الأنصار، و قال:
يَا مَعَاشِرَ الأنْصَارِ! قد حان الفراق؛ و قد دُعيت، و أنا مجيب الداعي! و قد جاورتم فأحسنتم الجوار! و نصرتم فأحسنتم النصر! و واسيتم في الأموال، و وسعتم في المسكن! و بذلتم للّه مهج النفوس! و الله مجزيكم بما
فعلتم الجزاء الأوفى.
و بقيت واحدة، و هي تمام الأمن، و خاتمة العمل، العمل معها مقرون جميعاً.
إنّي أرى أن لا أفرّق بينهما جميعاً. لو قيس بينهما بشعرة ما انقاست.
من أتى بواحدة، و ترك الاخرى، كان جاحداً للُاولى. و لا يقبل الله منه عملًا من الأعمال.
قال الأنصار: يا رسول الله! أبِنْ لنا نعرفها؛ و لا نمسك عنها فنضلّ، و نرتدّ عن الإسلام، و النعمة من الله و رسوله علينا؛ فقد أنقذناه الله بك من الهلكة! يا رسول الله! قد بلّغتَ! و نصحتَ! و أدّيتَ! و كنتَ بنا رؤوفاً رحيماً شفيقاً مشفقاً! فما هي يا رسول الله؟!
قَالَ لَهُمْ: كِتَابُ اللهِ وَ أهْلُ بَيْتِي! فَإنَّ الكِتَابَ هُوَ القُرْآنُ؛ فَفِيهِ الحُجَّةُ وَ النُّورُ وَ البُرْهَانُ؛ كَلَامُ اللهِ جَدِيدٌ غَضٌّ طَرِيّ وَ شَاهِدٌ وَ حَاكِمٌ عَادِلٌ قَائِدٌ بِحَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ وَ أحْكامِهِ يَقُومُ بِهِ غَدَاً فَيُحَاجُّ بِهِ أقْوَامَاً فَتَزِلُّ أقْدَامُهُمْ عَنِ الصِّرَاطِ.
فَاحْفَظُوا مَعاشِرَ الأنْصَارِ في أهْلَ بَيْتِي فَإنَّ اللَّطِيفَ الخَبِيرَ قَالَ: إنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حتّى يَرِدَا عَلَيّ الحَوْضَ. ألَا وَ إنَّ الإسْلَام سَقْفٌ تَحْتَهُ دِعَامَةٌ؛ وَ لَا يَقُومُ المُسَقَّفُ إلَّا بِهَا فَلَوْ أنَّ أحَدَكُمْ أتَى بِذَلِكَ السَّقْفِ مَمْدُودَاً لَا دِعَامَةَ تَحْتَهُ، لأوْشَكَ أنْ يَخِرَّ عَلَيْهِ سَقْفُهُ لَهَوَى في النَّارِ.
أيُّهَا النَّاسُ! الدِّعَامَةُ دِعامَةُ الإسْلَام، وَ ذلِكَ قَوْلُ اللهِ تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ». فَالعَمَلُ الصَّالِحُ طاعَةُ الإمَامِ وَلِيّ الأمْرِ وَ التَّمَسُّكُ بِحَبْلِ اللهِ!
ألَا فَهِمْتُمْ؟! اللهَ اللهَ في أهْلِ بَيْتِي! مَصَابِيحُ الظَّلَامِ، وَ مَعَادِنُ العِلْمِ،
وَ يَنَابِيعُ الحِكَمِ، وَ مُسْتَقَرُّ المَلَائِكَةِ؛ مِنْهُمْ وَصِيِّي، وَ أمِينِي، وَ وَارِثِي مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، ألَا هَلْ بَلَّغْتُ؟!
وَ اللهِ يَا مَعاشِرَ الأنْصَارِ! ألَا اسْمَعُوا! ألَا إنَّ بَابَ فَاطِمَةَ بَابِي؛ وَ بَيْتُهَا بَيْتِي! فَمَنْ هَتَكَهُ هَتَكَ حِجابَ اللهِ!
يقول عيسى راوي هذا الحديث عن موسى بن جعفر عليهما السلام: فَبَكَى أبُو الحَسَنِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ طَوِيلًا وَ قُطِعَ عَنْهُ بَقِيَّةُ الحَدِيثِ؛ وَ أكْثَرَ البُكَاءَ، وَ قَالَ: هُتِكَ حِجَابُ اللهِ؛ هُتِكَ وَ اللهِ حِجَابُ اللهِ؛ هُتِكَ وَ اللهِ حِجَابُ اللهِ؛ يَا امّةَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ۱.
بَيدَ أنّ الإمام الصادق عليه السلام بيّن كيفيّة هتك الحجاب، و لم يُقْطَع الحديث.
روى الطبريّ في «دلائل الإمامة» عن محمّد بن هارون بن موسى التلعكبريّ، عن أبيه، عن محمّد بن همّام، عن أحمد البرقيّ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران، عن ابن سنان، عن ابن مُسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهما السلام، قال:
قُبِضَتْ فَاطِمَةُ في جُمَادَى الآخِرَةِ يَوْمَ الثلَاثَاءِ لِثَلَاثٍ خَلَوْنَ مِنْهُ سَنَةَ إحْدَى عَشَرَ مِنَ الهِجْرَةِ؛ وَ كَانَ سَبَبُ وَفَاتِهَا أنَّ قُنْفُذَ مَوْلَى عُمَرَ نَكَزَها٢ بِنَعْلِ٣ السَّيْفِ بِأمْرِهِ؛ فَأسْقَطَتْ مُحْسِنَاً وَ مَرِضَتْ مِنْ ذَلِكَ مَرَضَاً شَدِيداً
وَ لَم يَدَعْ أحَداً ممَّنْ آذَاهَا يَدْخُلُ عَلَيْها الحديث۱.
و ذكر سليم بن قيس أنّ عمر عند ما ضغط الباب على الجدار للمرّة الثانية نَادَتْ يَا أبَتَاهْ! هَكَذَا يَفْعَلُ بِحَبِيبَتِكَ! وَ اسْتَعَانَتْ (بِفِضَّةَ) جَارِيَتِها، وَ قَالَتْ: لَقَدْ قُتِلَ مَا في بَطْنِي مِنْ حَمْلٍ٢.
و خرج أمير المؤمنين عليه السلام فألقى عليها مُلاءة٣ فأسقطت حملًا لستّة أشهر سمّاه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم محسناً - الحديث٤.
و من كان له اطّلاع على جوامع الحديث، و معرفة بكتب السير و التواريخ، فإنّه لا يشكّ أنّ عمر قد حمل الحطب إلى باب فاطمة لإحراق بيتها، و كان عمله هذا منطلقاً إمّا من الجدّ أو من التهديد٥.
خطبة الوسيلة و بيان حديث المنزلة بعد اسبوع من وفاة رسول الله
و خطب أمير المؤمنين عليه السلام في المدينة المنوّرة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عند ما فعل غاصبو الخلافة ما فعلوا، و أنزلوا بالإسلام و أهل بيت النبوّة ما أنزلوا من المصائب. و تعرف تلك الخطبة ب خطبة الوسيلة. و هي خطبة مفصّلة و في الإمام فيها و أحسن و أجمل بذكر المواعظ و النصائح و الحكم و بيان الحقيقة، و الدلالة على طريق السعادة، و التمتّع بجميع المواهب الإلهيّة الدنيويّة و الاخرويّة، الجسميّة و الروحيّة، الظاهريّة و الباطنيّة، و بيان منزلته و مرتبته و موقعه و درجته التي لا يبلغها نبيّ مرسل و ملك مقرّب. و لا يمكن أن يدور في مخيّلتهما الوصول إلى تلك الذروة العليا و السنام الأعلى.
و لو لم يكن للشيعة غير هذه الخطبة، لكفى بها في تعريف مدرسته و بيان عظمتها. و لو عرف أهل المدينة يومذاك معناها و مغزاها و حقيقتها، و تركوا شيطنة رؤسائهم، و أنكروا ذواتهم بالتضحية و الإيثار، و أجابوا دعوة الإمام، و وضعوا حكّام الجور و الامراء و الحكّام المنحرفين و المنتهكين في مواضعهم، و ولّوا الإمام عليهم، لنزلت النعمة و البركة و الرحمة و العافية و السعادة عليهم من السماء، و تفجّرت من الأرض، و غمرتهم من أربع جهات. و لاتّخذ التأريخ و الإسلام و الإمامة و القيادة طابعاً آخر. و لنظر الناس إلى أنفسهم في الجنّة. و لكن يا للأسف و الخسارة
و الضياع فإنّ الطبيعة الشرِّيرة للإنسان المتوحّش و الظالم لا تدعه يخرج من جهنّم، و يضع قدمه في مرحلة الحياة الخالدة. و قال اولئك العرب الضيّقي الافق للصدّيقة الكبرى: إنّ ما تقولينه صحيح، و هذه المقامات ثابتة لعليّ، و لكن مضت بيعتنا لهذا الرجل (أبو بكر) و لا يمكننا أن نرجع عنها۱.
و روى المرحوم محمّد بن يعقوب الكلينيّ هذه الخطبة كلّها في «روضة الكافي» عن محمّد بن عليّ بن معمر، عن محمّد بن عليّ بن عكاية التميميّ، عن الحسين بن نصر الفهريّ، عن أبي عمرو الأوزاعيّ، عن عمرو بن شمر، عن جابر بن يزيد. قال: دخلت على الإمام الباقر عليه السلام و قلت: يا ابن رسول الله! قد أوجعني و آلمني اختلاف الشيعة في آرائها و مذاهبها!
فقال الإمام: أ لا تحبّ أقفك على معنى اختلافهم من أين اختلفوا، و من أي جهة تفرّقوا؟! قلت: بلى يا ابن رسول الله! قال: فلا تختلف إذا اختلفوا!
يَا جَابِرُ! إنَّ الجَاحِدَ لِصَاحِبِ الزَّمَانِ كَالجَاحِدِ لِرَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ في أيَّامِهِ.
يا جابر: اسمع و عِ! قال جابر: إذا شئتَ٢!
قال الإمام: اسمع و عِ و بلّغ حيث انتهت بك راحلتك!
خطبة الوسيلة و بيان الانحراف عن استخلاف رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم
إنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب الناس بالمدينة بعد سبعة أيّام
من وفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و ذلك حين فرغ من جمع القرآن و تأليفه، فقال: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي مَنَعَ الأوْهَامَ أنْ تَنَالَ إلَّا وُجُودَهُ وَ حَجَبَ العُقُولَ أنْ تَتَخَيَّلَ ذَاتَهُ. و بعد الحمد البليغ و الثناء الجميل، و الصلوات على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و بيان الآيات القرآنيّة الدالّة على إمامته. قال:
فَإنَّ اللهَ تَبَارَكَ اسْمُهُ امْتَحَنَ بي عِبَادَهُ، وَ قَتَلَ بِيَدِي أضْدَادَهُ، وَ أفْنَى بِسَيْفي حُجَّادَهُ؛ وَ جَعَلَنِي زُلْفَةً لِلْمُؤمِنِيْنَ؛ وَ حِيَاضَ مَوْتٍ على الجَبَّارِينَ، وَ سَيْفَهُ على المُجْرِمِينَ؛ وَ شَدَّ بي أزْرَ رَسُولِهِ؛ وَ أكْرَمَنِي بِنَصْرِهِ وَ شَرَّفَنِي بِعِلْمِهِ؛ وَ حَبَانِي بِأحْكَامِهِ، وَ اخْتَصَّنِي بِوَصِيَّتِهِ؛ وَ اصْطَفَانِي بِخَلَافَتِهِ في امَّتِهِ، فَقَالَ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، وَ قَدْ حَشَدَهُ المُهَاجِرُونَ وَ الأنْصَارُ وَ انْغَصَّتْ بِهِمُ المَحَافِلُ:
أيُّهَا النَّاسُ! إنَّ عَلِيَّاً مِنِّي كَهَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! فَعَقَلَ المُؤمِنُونَ عَنِ اللهِ نُطْقَ الرَّسُولِ، إذْ عَرَفُونِي أنِّي لَسْتُ بِأخِيهِ لأبِيهِ وَ امِّهِ؛ كَمَا كَانَ هَارُونُ أخَا موسى لأبِيهِ وَ امِّهِ؛ وَ لَا كُنْتُ نَبِيَّاً فَاقْتَضَى نُبُوَّةً وَ لَكِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِخْلَافاً لي كَمَا اسْتَخْلَفَ موسى هَارُونَ عَلَيْهمَا السَّلَامُ، حَيْثُ يَقُولُ: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} ۱.
ثمّ سرد أمير المؤمنين قصّة حجّة الوداع و غدير خمّ و بيان حديث مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ، و نزول آية إكمال الدين و إتمام النعمة. و قال بعد بيان تسلّط الشيطان و إغوائه مفصّلًا:
حَتَّى إذَا دَعَا اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ نَبِيَّهُ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ وَ رَفَعَهُ إلَيْهِ
لَمْ يَكُ ذَلِكَ بَعْدَهُ، إلَّا كَلَمْحَةٍ مِنْ خَفْقَةٍ، أوْ وَمِيضٍ مِنْ بَرْقَةٍ إلى أنْ رَجَعُوا عَلَى الأعْقَابِ؛ وَ انْتَكَصُوا على الأدْبارِ؛ وَ طَلَبُوا بِالأوْتَارِ؛ وَ أظْهَرُوا الكَتَائِبَ، وَ رَدَمُوا البَابَ؛ وَ فَلُّوا الدِّيَارَ، وَ غَيَّرُوا آثَارَ رَسُولِ اللهِ؛ وَ رَغِبُوا عَنْ أحْكَامِهِ؛ وَ بَعُدُوا مِنْ أنْوارِهِ، وَ اسْتَبْدَلُوا بِمُسْتَخْلَفِهِ بَدِيلًا اتَّخَذُوهُ وَ كَانُوا ظَالِمِينَ.
وَ زَعَمُوا أنَّ مَنِ اخْتَارُوا مِنْ آل أبي قُحَافَةَ أوْلى بِمَقَامِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ مِمَّنِ اخْتَارَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لِمَقَامِهِ؛ وَ أنَّ مُهَاجِرَ آل أبي قُحَافَةَ خَيْرٌ مِنَ المُهَاجِرِيّ الأنْصَارِيّ الرَّبَّانِيّ نامُوسِ هاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
ألَا وَ إنَّ شَهَادَةِ زُورٍ وَقَعَتْ في الإسْلَامِ شَهَادَتُهُمْ أنَّ صَاحِبَهُمْ مُسْتَخْلَفُ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيْه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ.
و واصل الإمام خطبته حتّى بلغ قوله:
ألَا وَ إنِّي فِيكُمْ أيُّهَا النَّاسُ كَهَارُونَ في آل فِرْعَوْنَ وَ كَبَابِ حِطَّةٍ في بَنِي إسرَائِيلَ وَ كَسَفِينَةِ نُوحٍ في قَوْمِ نُوحٍ!
إنِّي النَّبَا العَظِيمُ، وَ الصِّدِّيقُ الأكْبَرُ وَ عَنْ قَلِيلٍ سَتَعْلَمُونَ مَا تُوعَدُونَ!
وَ هَلْ هِيَ إلَّا كَلُعْقَةِ الآكِلِ، وَ مَذْقَةِ الشَّارِبِ، وَ خَفْقَةِ الوَسْنَانِ؟! ثُمَّ تَلْزَمُهُمُ المَعَرَّاتُ خِزْيَاً في الدُّنْيَا وَ يَوْمَ القِيَامَةِ يُرَدُّونَ إلى أشَدِّ العَذَابِ؛ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ. فَمَا جَزَاءُ مَنْ تَنَكَّبَ مَحَجَّتَهُ؛ وَ أنْكَرَ حُجَّتَهُ وَ خَالَفَ هُدَاتَهُ، وَ حَادَ عَنْ نُورِهِ، وَ اقْتَحَمَ في ظُلَمِهِ، وَ اسْتَبْدَلَ بِالمَاءِ السَّرَابَ؛ وَ بِالنَّعيمِ العَذَابَ، وَ بِالفَوزِ الشَّقَاءَ، وَ بِالسَّرَّاءِ الضَّرَّاءِ، وَ بِالسَّعَةِ الضَّنْكَ، إلَّا جَزَاءُ اقْتِرَافِهِ وَ سُوْءِ خِلَافِهِ؛ فَلْيُوقِنُوا بِالوَعْدِ عَلى حَقيقَتِهِ! وَ لْيَسْتَيْقِنُوا بِمَا يُوعَدونَ!
يَوْمَ تَأتِي الصَّيْحَةُ بِالحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الخُرُوجِ؛ {إنا نحن نحيي و نميت
و إلينا المصير يوم تشقق الأرض عنهم سراعا ذلك حشر علينا يسير نحن أعلم بما يقولون و ما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}۱
الخطبة الطالوتيّة و استياء أمير المؤمنين عليه السلام من تقاعس الناس
و خطب أمير المؤمنين عليه السلام خطبة اخرى بالمدينة أيّام وفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. و تعرف بالخطبة الطالوتيّة لورود كلمة طالُوت فيها.
و روى الكليني هذه الخطبة أيضاً بسنده المتّصل الآخر عن أبي الهَيْثَمَ بْنِ التَّيِّهان، قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام خطب الناس، فقال: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ كَانَ حَيَّاً بِلَا كَيْفٍ. و واصل خطبته في ذكر صفات الربّ، و هي رائعة جدّاً. و يشهد الإمام فيها على وحدانيّة الله، و رسالة نبيّه محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم. حتّى بلغ قوله:
أيَّتُهَا الامَّةُ التي خُدِعَتْ فَانْخَدَعَتْ، وَ عَرَفَتْ خَدِيْعَةَ مَنْ خَدَعَهَا؛ فَأصَرَّتْ على مَا عَرَفَتْ، وَ اتَّبَعَتْ أهْواءَهَا؛ وَ ضَرَبَتْ في عَشْوَاءِ غَوَائِهَا، وَ قَدِ اسْتَبَانَ لَهَا الحَقُّ، فَصَدَّتْ عَنْهُ، وَ الطَّرِيقُ الوَاضِحُ فَتَنَكَّبَتْهُ.
أمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَ بَرَأ النَّسَمَةَ لَوِ اقْتَبَسْتُمُ العِلْمَ مِنْ مَعْدِنِهِ؛ وَ شَرِبْتُمُ المَاءَ بِعُذُوبَتِهِ؛ وَ ادَّخَرْتُمُ الخَيْرَ مِنْ مَوْضِعِهِ وَ أخَذْتُمُ الطَّرِيقَ مِنْ واضِحِهِ وَ سَلَكْتُمْ مِنَ الحَقِّ نَهَجَهُ، لَنَهَجَتْ بِكُمُ السُّبُلُ، وَ بَدَتْ لَكُمُ
الأعْلامُ؛ وَ أضَاءَ لَكُمُ الإسلام؛ فَأكَلْتُمْ رَغَدَاً، وَ مَا عَالَ فِيكُمْ عَائِلٌ؛ وَ لَا ظُلِمَ مِنْكُمْ مُسْلِمٌ وَ لَا مُعَاهِدٌ؛ وَ لكِنْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَ الظَّلَامِ؛ فَأظْلَمَتْ عَلَيْكُمْ دُنْيَاكُمْ بِرَحْبِهَا وَ سُدَّتْ عَلَيْكُم أبْوابُ العِلْمِ، فَقُلْتُمْ بِأهْوائِكُمْ وَ اخْتَلَفْتُمْ في دِينِكُمْ، فَأفْتَيْتُمْ في دِينِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَ اتَّبَعْتُمُ الغُوَاةَ فَأغْوَتْكُمْ وَ تَرَكْتُمُ الأئِمَّةَ فَتَرَكُوكُمْ.
فَأصْبَحْتُمْ تَحْكُمُونَ بِأهْوَائِكُمْ، إذَا ذُكِرَ الأمْرُ سَألْتُمْ أهْلَ الذِّكْرِ، فَإذَا أفْتَوْكُمْ قُلْتُمْ هُوَ العِلْمُ بِعَيْنِهِ، فَكَيْفَ وَ قَدْ تَرَكْتُمُوهُ، وَ نَبَذْتُمُوهُ، وَ خَالَفْتُمُوهُ!
رُوَيْدَاً عَمَّا قَلِيلٍ تَحْصُدُونَ جَمِيعَ مَا زَرَعْتُمْ! وَ تَجِدُونَ وَخِيمَ مَا اجْتَرَمْتُمْ! وَ مَا اجْتَلَبْتُمْ! وَ الَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَ بَرَأ النَّسَمَةَ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أنِّي صَاحِبُكُمْ وَ الَّذِي بِهِ امِرْتُمْ، وَ أنِّي عَالِمُكُمْ، وَ الَّذِي بِعِلْمِهِ نَجَاتُكُمْ؛ وَ وَصِيّ نَبِيِّكُمْ، وَ خِيَرَةُ رَبِّكُمْ، وَ لِسَانُ نُورِكُمْ وَ العالِمُ بِمَا يُصْلِحُكُمْ؛ فَعَنْ قَلِيلٍ رُوَيْدَاً يَنْزِلُ بِكُمْ مَا وُعِدْتُمْ وَ مَا نَزَلَ بِالامَمِ قَبْلَكُمْ وَ سَيَسْألُكُمُ اللهُ عَزَّ وَ جلَّ عَنْ أئِمَّتِكُمْ؛ مَعَهُم تُحْشَرُونَ وَ إلى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ غَدَاً تَصِيرُونَ.
أمَا وَ اللهِ لَوْ كانَ لي عِدَّةُ أصْحَابِ طَالُوتَ؛ أوْ عِدَّةُ أهْلِ بَدْرٍ، وَ هُمْ أعْدَادُكُمْ لَضَرَبْتُكُمْ بِالسَّيْفِ حتّى تَئُولُوا إلى الحَقِّ وَ تُنِيبُوا لِلصِّدْقِ؛ فَكَانَ أرْتَقَ لِلْفَتْقِ، وَ آخَذَ بِالرِّفْقِ. اللَهُمَّ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالحَقِّ وَ أنْتَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ.
و أتمّ الإمام خطبته حتّى هذا الموضع، ثمّ خرج من المسجد، فمرّ بصِيرَة۱ فيها نحو من ثلاثين شاة، فقال: لو أنّ لي رجالًا ينصحون للّه عزّ و جلّ و لرسوله بعدد هذه الشياه، لأزلت ابن آكلة الذُّبَّان عن مُلكه٢.
وصيّة النبيّ لأمير المؤمنين عليه السلام بالصبر و تحمّل أذى قريش
قال أبو هيثم بن التيهان راوي هذه الرواية: فلمّا أمسى، بايعه ثلاثمائة و ستّون رجلًا على الموت، لا يتركون نصرته. فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: اغدوا بنا إلى أحجار الزَّيت۱ دار عين أو محلّقين رؤوسكم٢.
و لبس الإمام حَلْقته أو حلق رأسه. و لم يواف من القوم محلّقاً إلّا أبو ذرّ، و المقداد، و حذيفة بن اليمان، و عمّار بن ياسر، و جاء سلمان في آخر القوم.
فقال الإمام: اللهمّ اشهد أنّ هؤلاء القوم استضعفوني كما استضعف بنو إسرائيل هارون.
اللَهُمَّ فَإنَّك تَعْلَمُ مَا نُخْفي وَ مَا نُعْلِنُ وَ مَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيءٌ في الأرْضِ وَ لَا في السَّماءِ٣ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ٤.
أما و ربّ البيت الحرام، و ربّ المفضي إلى البيت -المفضي إلى البيت يعني ماسّه بيده و هو النبيّ الأكرم- و الخفاف و الأقدام إلى التجمير
بمنى، لو لا عهد عهده إليّ النبيّ الامّيّ، لأوردتُ المخالفين خِلج المنيّة، و لأرسلت عليهم شآبيب صواعق الموت. و عن قليل سيعلمون۱.
و من هنا يستبين جيّداً أنّ سبب عدم قيام أمير المؤمنين عليه السلام لأخذ الولاية بعد وفاة رسول الله يتمثّل في وصيّة رسول الله الأكيدة له إذ أوصاه أن لا يشهر سيفه عند عدم وجود الناصر و المعين، و عند غلبة العدوّ، ذلك أنّ المعارضين مصرّون على استلاب حقوقه، و عزله عن الإمامة و الولاية. و إذا ما نشبت الحرب بين الطرفين، فسيقتل عدد كبير منهما. و حينئذٍ ينتكس الإسلام لا محالة. فلهذا ما عليه إلّا الصبر و التحمّل عند فقدان الناصر و المعين.
روى الشيخ الصدوق في كتاب «كمال الدين و تمام النعمة» عن ابن الوليد، عن ابن الحسن الصفّار، عن يعقوب بن يزيد، عن حمّاد بن عيسى، عن عمر بن اذَيْنَة، عن أبان بن أبي عيّاش، عن إبراهيم بن عمر اليمانيّ، عن سُلَيم بن قَيْس الهِلِاليّ، قال: سمعت سلمان الفارسيّ يقول: كنت جالساً بين يدي رسول الله في مرضه الذي قبض فيه، فدخلت فاطمة عليها السلام، فلمّا رأت ما بأبيها من الضعف، بكت حتّى جرت دموعها على خدّيها.
فقال لها رسول الله: ما يبكيكِ؟ قالت: يا رسول الله أخشى على نفسي و ولدي الضيعة بعدك! فاغرورقت عينا رسول الله بالبكاء، ثمّ قال: يا فاطمة! أ ما علمتِ أنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا؟ و أنّه حتم الفناء على جميع خلقه.
ثمّ فصّل الكلام حول خلق أهل البيت، و مقاماتهم و درجاتهم.
و مقامات فاطمة و درجاتها و ميزاتها التي خصّها الله بها، و منها وجود الأئمّة الأحد عشر من نسلها، و آخرهم مهديّ هذه الامّة.
ثُمَّ أقْبَلَ على عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ فَقَالَ: يَا أخِي! إنَّكَ سَتَبْقَى بَعْدِي وَ سَتَلْقَى مِنْ قُرَيْشٍ شِدَّةً مِنْ تَظَاهُرِهِمْ عَلَيْكَ وَ ظُلْمِهِمْ لَكَ! فَإنْ وَجَدْتَ أعْوَانَاً فَجَاهِدْهُمْ وَ قَاتِلْ مَنْ خَالَفَكَ بِمَنْ وَافَقَكَ! وَ إنْ لَمْ تَجِدْ أعْوَانَاً فَاصْبِرْ وَ كُفَّ يَدَك وَ لَا تُلْقِ بِهَا إلى التَّهْلُكَةِ!
فَإنَّكَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، وَ لَكَ بِهَارُونَ اسْوَةٌ حَسَنَةٌ إذِ اسْتَضْعَفَهُ قَوْمُهُ وَ كادُوا يَقْتُلُونَهُ؛ فَاصْبِرْ لِظُلْمِ قُرَيْشٍ إيَّاكَ وَ تَظَاهُرِهِمْ عَلَيْكَ فَإنَّكَ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ وَ مَنْ تَبِعَهُ؛ وَ هُمْ بِمَنْزِلَةِ العِجْلِ وَ مَنْ تَبَعَهُ. إلى آخر الحديث۱.
يتحصّل من هذه القرائن القطعيّة أنّ مناوئي عليّ و المبادرين إلى سقيفة بني ساعدة، الذين نسوا النبيّ و وفاته، و تجهيزه و تكفينه، و سارعوا إلى السقيفة طلباً للرئاسة، لم يتورّعوا عن ارتكاب أي جناية و خيانة من أجل تحقيق مآربهم، و لو أدّى ذلك إلى قتل عدد كبير من المسلمين و إراقة دمائهم؛ و ضياع الإسلام و القرآن، و محو اسم الله و رسوله.
فلهذا نرى أنّ القوم زحفوا على بيت النبوّة لأخذ البيعة من عليّ بن أبي طالب و مرافقيه الذين اعتصموا في بيت فاطمة الزهراء. و انتهك المهاجمون حرمة الزهراء، فصفعوا وجهها، و ضربوا متنها بالسوط، و ضغطوها بين الباب و الجدار، حتّى انكسر ضلعها، و سقط جنينها،
و وقعت على الأرض، ثمّ فارقت الحياة بعد مدّة. و فعلوا ما فعلوه لأنّ السيّدة الصدّيقة حالت بينهم و بين أخذ عليّ إلى المسجد للبيعة.
مرثيّة آية الله الكمبانيّ بالفارسيّة في مصيبة فاطمة الزهراء
و ما أروع ما أنشده فخر الفلاسفة و الحكماء المتألّهين و شيخ الفقهاء و العلماء المعاصرين، المرحوم الشيخ محمّد حسين الإصفهانيّ المعروف بالكمبانيّ طاب ثراه، في هذا المجال، فقال:
وَ لِلسِّياطِ رَنَّةٌ صَدَاها | *** | في مَسْمَعِ الدَّهْرِ فَما أشْجاهَا |
وَ الأثَرُ البَاقِي كَمِثْلِ الدُّمْلجِ | *** | في عَضُدِ الزَّهْرَاءِ أقْوَى الحُجَجِ |
وَ مِنْ سَوادِ مَتْنِهَا اسْوَدَّ الفَضَا | *** | يَا سَاعَدَ اللهُ الإمامَ المُرْتَضَى |
وَ لَسْتُ أدْرِي خَبَرَ المِسْمَارِ | *** | سَلْ صَدْرَهَا خَزَانَةَ الأسْرَارِ |
وَ في جَنِينِ المَجْدِ مَا يُدْمِي الحَشَا | *** | وَ هَلْ لَهُمْ إخْفاءُ أمْرٍ قَدْ فَشَا |
وَ البَابُ وَ الجِدَارُ وَ الدِّمَاءُ | *** | شُهُودُ صِدْقٍ مَا بِهِ خَفَاءُ |
لَقَدْ جَنَى الجَانِي عَلَى جَنِيْنِها | *** | فَانْدَكَّتِ الجِبَالُ مِنْ حَنِينِهَا |
وَ رَضَّ تِلْكَ الأضْلُعِ الزَّكِيَّهْ | *** | رَزِيَّةٌ مَا مِثْلُهَا رَزِيَّهْ |
وَ مِنْ نُبُوعِ الدَّمْعِ مِنْ ثَدْيَيْهَا | *** | يُعْرَفُ عَظْمُ مَا جَرَى عَلَيْهَا |
وَ جَاوَزَ الحَدَّ بِلَطْمِ الخَدِّ | *** | شَلَّتْ يَدُ الطُّغْيَانِ و التَّعَدِّي |
فَاحْمَرَّتِ العَيْنُ وَ عَيْنُ المَعْرِفَهْ | *** | تَذْرِفُ بِالدَّمْعِ على تِلْكَ الصِّفَهْ |
وَ لَا يُزيِلُ حُمْرَةَ العَيْنِ سِوَى | *** | بِيض السُّيُوفِ يَوْمَ يُنْشَرُ اللِّوَا |
فَإنَّ كَسْرَ الضِّلْعِ لَيْسَ يَنْجَبِرْ | *** | إلَّا بِصَمْصَامِ عَزِيزٍ مُقْتَدِرْ |
أ هَكَذَا يُصْنَعُ بِابْنَةِ النَّبِي | *** | حِرْصَاً عَلَى المُلْكِ فَيَا لِلْعَجَبِ۱ |
و كذلك نظم آية الله الأصفهانيّ الكمبانيّ قصيدة رائعة في رثاء السيّدة الصدّيقة سلام الله عليها. و هي قصيدة رائعة جدّاً و تحتوي على حقائق مختلفة. و هذه القصيدة مذكورة في ديوان شعره الفارسيّ. و نكتفي هنا بذكر البندين الأوّلين منها:
تا درِ بيت الحرام از آتش بيگانه سوخت | *** | كعبه ويران شد، حريم از سوز صاحبخانه سوخت |
جوهرة القدس من الكنز الخفيّ | *** | بَدَت فأبدت عاليات الأحرفِ |
شمع بزم آفرينش با هزاران اشك و آه | *** | شد چنان، كز دودِ آهش سينه كاشانه سوخت |
آتشى در بيتِ معمورِ ولايت شعله زد | *** | تا أبد زان شعله، هر معمور و هر ويرانه سوخت۱ |
آه از آن پيمانشكن كز كينه خمّ غدير | *** | آتشى افروخت تا هم خمّ و هم پيمانه٢ سوخت |
ليلى حسن قِدَم، چون سوخت از سر تا قدم | *** | همچو مجنون، عقلِ رهبر را دل ديوانه سوخت |
گلشن فرّخ فر توحيد، آن دم شد تباه | *** | كز سُمُومِ شرك، آن شاخ گل فرزانه سوخت |
گنج علم و معرفت شد طعمة أفعى صفت | *** | تا كه از بيداد دونان گوهر يكدانه سوخت |
حاصل باغ نبوّت، رفت بر باد فنا | *** | خرمنى در آرزوى خامِ آب و دانه سوخت |
كَرْكَسِ دون، پنجه زد بر روى طاوس أزل | *** | عالمى از حسرت آن جلوة مستانه سوخت٣ |
آتشى آتش پرستى در جهان أفروخته | *** | خرمن إسلام و دين را تا قيامت سوخته |
سينهاى كز معرفت گنجينه اسرار بود | *** | كى سزاوار فشارِ آن در و ديوار بود؟ |
طور سيناى تجليّ، مشعلى از نور شد | *** | سينة سيناى وحدت، مشتعل از نار بود |
نالة بانو زد أندر خرمن هستى شَرَرْ | *** | گوئى اندر طور غم، چون نخل آتشبار بود |
آنكه كردى ماهِ تابان پيش او پهلو تهى | *** | از كجا پهلوى او را تاب آن آزار بود |
گردش گردون دون بين، كز جفاى سامرى | *** | نقطة پرگار وحدت، مركز مسمار بود۱ |
صورتش نيلى شد از سيلى، كه چون سيل سياه | *** | روى گيتى٢ زين مصيبت، تا قيامت تار بود |
شهريارى شد به بند بندهاى از بندگان | *** | آنكه جبريل أمينش بندة دربار بود |
از قفاى شاه، بانو با نواى جانگداز | *** | تا توانائى به تن تا قوّت رفتار بود |
گر چه بازو خسته شد، وز كار دستش بسته شد | *** | ليك پاى همّتش بر گنبد دوّار بود |
دست بانو گر چه از دامان شه كوتاه شد | *** | ليك برگردون بلند از دست آن گمراه شد۱ |
جاء في «مروج الذهب» ما نصّه: وَ لَمَّا قُبِضَتْ فَاطِمَةُ، جَزَعَ عَلَيْهَا بَعْلُهَا عَلِيّ جَزَعَاً شَدِيداً وَ اشْتَدَّ بُكَاؤهُ، وَ ظَهَرَ أنِينُهُ وَ حَنِينُهُ، وَ قَالَ في ذَلِكَ:
لِكُلِّ اجْتِمَاعٍ مِنْ خَليلَينِ فُرْقَةٌ | *** | وَ كُلُّ الذي دُونَ المَمَاتِ قَليلُ |
وَ إنَّ افْتِقَادِي فَاطِماً بَعْدَ أحْمَدِ | *** | دَلِيلٌ على أنْ لَا يَدُومَ خَلِيلُ٢ |
الدَّرْسُ الثَّانِي وَ الأرْبَعُونَ بَعْدَ المِائَةِ إلَى الثَّامِن وَ الأرْبَعِينَ بَعْدَ المِائَةِ: المقَامَاتُ وَ المَوَاطِنُ التي خاطَبَ فِيها رَسوُلُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ أمِيرَ المُؤمنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِحَدِيثِ المَنْزِلَةِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ۱.
جاء في تفسير «مجمع البيان»: المراد من عدم اتّباع سبيل المفسدين هو أن لا تسلك طريقة العاصين! و لا تكن عوناً للظالمين! و إنّما أراد بذلك إصلاح قومه؛ و إن كان المخاطب به أخاه٢.
استخلاف موسى أخاه هارون للإمامة
و لكن قال العلّامة الطباطبائيّ في تفسير «الميزان»: و هارون نبيّ مرسل معصوم لا تصدر عنه المعصية، و لا يتأتّى منه اتّباع أهل الفساد في دينهم، و موسى أعلم بحال أخيه؛ فليس مراده نهيه عن الكفر و المعصية؛ بل أن لا يتّبع في إدارة امور قومه ما يشير إليه و يستصوبه المفسدون من القوم أيّام خلافته ما دام موسى غائباً.
و الدليل على هذا المعنى قوله: وَ أصْلِحْ فإنّه يدلّ على أنّ المراد بقوله: وَ لَا تَتَّبِعْ سَبيلَ الْمُفْسِديِنَ أن يصلح أمرهم و لا يسير فيهم سيرة هي سبيل المفسدين التي يستحسنونها و يشيرون إليه بذلك.
و من هنا يتأيّد أنّه كان في قوم موسى يومئذٍ جمع من المفسدين يفسدون و يقلبون عليه الامور و يتربّصون به الدوائر؛ فنهى موسى أخاه أن يتّبع سبيلهم فيشوّشوا عليه الأمر و يكيدوا و يمكروا به، فيتفرّق جمع بني إسرائيل و يتشتّت شملهم بعد تلك المحن و المشاكل التي كابدها في إحياء كلمة الاتّحاد بينهم۱.
ثمّ قال صاحب «مجمع البيان» فيه: و إنّما أمر موسى عليه السلام أخاه هارون بأن يخلفه و ينوب عنه في قومه مع أنّ هارون كان نبيّاً مرسلًا، لأنّ الرئاسة كانت لموسى عليه و على امّته. و لم يكن يجوز أن يقول هارون لموسى مثل ذلك. و في هذا دلالة على أنّ منزلة الإمامة منفصلة عن النبوّة و غير داخلة فيها.
و إنّما اجتمع الأمران لأنبياء مخصوصين، لأنّ هارون لو كان له القيام بأمر الامّة من حيث كان نبيّاً، لما احتاج فيه إلى استخلاف موسى إيّاه و إقامته مقامه.
و نحن نجد عين هذا الاستخلاف و تنصيب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام خليفة من قبل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في حديث المنزلة، لأنّ قول النبيّ الأعظم: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي الذي قاله في مقامات و مواطن عديدة يدلّ على أنّ مرتبة أمير المؤمنين و مقامه و منزلته من رسول الله صلّى الله عليه و آله
و سلّم هي نفس ما كان لهارون من موسى. و تدلّ هذه المنزلة بنحو مطلق و عامّ على أنّ جميع المناصب و المقامات التي كانت لهارون هي لأمير المؤمنين أيضاً، كالوصاية، و الوزارة، و الخلافة، و المشاركة في أمر التبليغ، و الاضطلاع بحمل المهمّة الخطيرة، و مسؤوليّة حفظ الدين و الامّة و حراستهما.
إن المنصب الوحيد الذي استثني من مناصب هارون هو منصب النبوّة إذ ليس لأمير المؤمنين عليه السلام هذا المنصب، و لو لم تختم النبوّة بمحمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، لاستحقّها أمير المؤمنين بعده. و لكن لمّا كان صلّى الله عليه و آله خاتم النبيّين، فلهذا لم يكن لعليّ بن أبي طالب منصب النبوّة.
لقد استقصيت حديث المنزلة: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي فوجدت أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قاله في أربعة عشر موطناً لم يرتبط أحدهما بالآخر على ما يبدو. و أراد النبيّ في هذه المواطن العديدة أن يبيّن لجميع الامّة ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام الكلّيّة و منصبه في الخلافة و الإمامة بعده، كما أراد أن يبيّن مقامه الوزاريّ في جميع الامور، و هو لا يزال على قيد الحياة.
أمّا المقام و الموطن الأوّل۱ الذي قال فيه النبيّ هذا الحديث، فقد كان عند ما عزم صلّى الله عليه و آله و سلّم على التحرّك إلى غزوة تبوك، و استخلف أمير المؤمنين على المدينة ليقوم بشؤون أهلها طول غيبته.
و روى هذا الحديث مختلف الأشخاص من صحابة رسول الله، منهم سعد بن أبي وَقَّاص الذي قال له معاوية: لم لا تسبّ عليّ بن أبي طالب؟
فأجاب قائلًا: سمعت من رسول الله أشياء في عليّ بن أبي طالب، فلن أسبّه.
و روى علماء الشيعة و العامّة في كتب التواريخ و السير هذا الحديث عن سعد بأسناد مختلفة و مضامين متنوّعة؛ و لا نجد كتاباً في أحوال عليّ بن أبي طالب أو في ترجمة سعد إلّا و تحدّث فيه صاحبه عن لقاء معاوية سعداً، و روى فيه حديث المنزلة بشأن أمير المؤمنين.
اعتراض سعد بن أبي وقّاص على معاوية في دار الندوة
و روى المؤرّخ الشهير و المحدّث الأمين المسعوديّ عن أبي جعفر محمّد بن جرير الطبريّ، عن محمّد بن حميد الرازيّ، عن أبي مجاهد، عن محمّد بن إسحاق، عن أبي نجيح، قال: لمّا حجّ معاوية، طاف بالبيت و معه سعد (بن أبي وقّاص)؛ فلمّا فرغ، انصرف معاوية إلى دَارِ النَّدْوَةِ۱، فأجلسه معه على سريره؛ و وقع معاوية في عليّ، و شرع في سبّه.
فزحف سعد ثمّ قال: أجلستني معك على سريرك، ثمّ شرعتَ في سبّ على! و الله لان يكون في خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.
و الله لئن أكون صهراً لرسول الله، و أنّ لي من الولد ما لعليّ أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.
و الله لئن يكون رسول الله قال لي ما قاله يوم خيبر: لُاعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدَاً رَجُلًا يُحِبُّهُ اللهُ وَ رَسُولُهُ، وَ يُحِبُّ اللهَ وَ رَسُولَهُ، لَيْسَ بِفَرَّارٍ يِفَتْحُ اللهُ على يَدَيْهِ. أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.
و الله لئن يكون رسول الله قال لي ما قاله في غزوة تبوك: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي أحبّ إليّ من
أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس.
(قال سعد هذه الكلمات، و نهض، و قال لمعاوية): و أيم الله لا دخلتُ لك داراً ما بقيت!
و قال المسعوديّ بعد هذه الرواية: و وجدت في وجه آخر من الروايات -و ذلك في كتاب عليّ بن محمّد بن سليمان النوفليّ في الأخبار- عن ابن عائشة و غيره، أنّ سعداً لمّا قال هذه المقالة لمعاوية و نهض ليقوم، ضَرَطَ له معاوية، و قال له: اقعد حتّى تسمع جواب ما قلت!
ما كنتَ عندي قطّ ألأم منك الآن، فهلّا نصرتَه؟ و لِمَ قعدتَ عن بيعته؟! فإنّي لو سمعتُ من النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم مثل الذي سمعتَ فيه، لكنتُ خادماً لعليّ ما عشت!
فقال سعد: و الله إنّي لأحقّ بموضعك منك!
فقال معاوية: يأبى عليك ذلك بنو عُذْرَة! و كان سعد فيما يقال رجلًا من بني عذرة. قال النوفليّ: و في ذلك يقول السيّد ابن محمّد الحِمْيَريّ:
سَائِلْ قُرَيْشاً بِهَا إنْ كُنْتَ ذَا عَمَةٍ | *** | مَنْ كَانَ أثْبَتَهَا في الدِّينِ أوْتَادَا |
مَنْ كَانَ أقْدَمَهَا سِلْمَاً وَ أكْثَرَهَا | *** | عِلْمَاً وَ أطْهَرَهَا أهْلًا وَ أوْلَادَا |
مَنْ وَحَّدَ اللهَ إذْ كَانَتْ مُكَذِّبَةً | *** | تَدْعُو مَعَ اللهِ أوْثَانَاً وَ أنْدَادَا |
مَنْ كَانَ يُقْدِمُ في الهَيْجَاءِ إنْ نَكَلُوا | *** | عَنْهَا وَ إنْ بَخِلُوا في أزْمَةٍ جَادَا |
مَنْ كَانَ أعْدَلَهَا حُكْمَاً وَ أقْسَطَهَا | *** | حِلْمَاً وَ أصْدَقَهَا وَعْدَاً وَ إيعَادَا |
إنْ يَصْدُقُوكَ فَلَمْ يَعْدُو أبَا حَسَنٍ | *** | إنْ أنْتَ لَمْ تَلْقَ لِلأبْرَارِ حُسَّادَا |
إنْ أنْتَ لَمْ تَلْقَ مِنْ تَيْمٍ أخَا صَلَفٍ | *** | وَ مِنْ عَدِيّ لِحَقِّ اللهِ جُحَّادَا |
أوْ مِنْ بَنِي عَامِرٍ أوْ مِنْ بَني أسَدٍ | *** | رَهْطِ العَبِيدِ ذَوِي جَهْلٍ وَ أوْغَادَا |
أوْ رَهْطِ سَعْدٍ وَ سَعْدٌ كَانَ قَدْ عَلِمُوا | *** | عَنْ مُسْتَقِيمِ صِرَاطِ اللهِ صَدَّادَا |
قَوْمٌ تَدَاعَوا زَنِيمَاً ثمَّ سَادَهُمُ | *** | لَوْ لا خُمُولُ بَنِي زُهْرٍ لَمَا سَادَا۱ |
يمدح السيّد الحِمْيَريّ أمير المؤمنين عليه السلام في هذه القصيدة، و يعرّض و يذمّ الذين توقّفوا عن بيعته، و قعدوا عن نصرته٢.
إذَا أتَى مَعْشَرَاً يَوْمَاً أنَامَهم | *** | إنَامَةَ الرِّيحِ في تَدْمِيرِهَا عَادَا |
الأصحاب الذين لم يبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام
و من الذين لم يبايعوا الإمام عليه السلام في خلافته الظاهريّة بعد مقتل عثمان: سَعْد بن أبي وقَّاص. و أجمعت كتب التأريخ و السِّيَر على أنّ سعداً لم يبايع الأمام.
و ورد في «سفينة البحار» في مادّة رَبَعَ عند ترجمة رَبيع بن خُثَيْم، نقلًا عن تلميذ المجلسيّ رضوان الله عليه: و هو الفاضل الخبير الميرزا عبد الله الأصفهانيّ الأفنديّ في كتاب «رياض العلماء» أنّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الذين تخلّفوا عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام كانوا سبعة، و هم: عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَر، صُهَيْبُ الرُّومِيّ غُلَامُ عُمَر، مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَة، سَعْدُ بنُ أبي وَقَّاص، سَعِيدُ بْنُ مَالِك، اسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، و سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَة. و من التابعين ثلاثة هم: رَبِيعُ بْنُ خُثَيم، مَسْروقُ بْنُ أجْدَع، وَ أسْوَدُ بْنُ زَيْدٍ۱.
كان سعد بن أبي وقّاص من المتخلفين عن بيعة أمير المؤمنين
و قال المسعوديّ في «مروج الذهب»: و قعد عن بيعته جماعة عثمانيّة لم يروا إلّا الخروج عن الأمر. منهم سعد بن أبي وقّاص، و عبد الله بن عُمَر، و بايع يزيد [بن معاوية] بعد ذلك، (ثمّ بايع) عبد الملك بن مروان؛ و منهم: قدامة بن مظعون، و أهْيَان بن صَيْفِي، و عبد الله بن سَلَام، و المُغِيرَة بن شُعْبَة الثَّقَفيّ. و ممّن اعتزل من الأنصار: كَعْب بن مَالِك، وَ حَسَّان بن ثَابِت، و كانا شاعرين، و أبو سَعِيد الخُدْرِيّ، و محمّد بن مُسْلَمَة حليف بني عبد الأشهل، [و يزيد بن ثابت، و رافع بن خُدَيْج، و النُّعْمان بن بشير۱] وَ فَضَالَة بن عُبَيْد، وَ كَعْب بن عُجْرَة، وَ مُسْلَمَة بن خَالِد في آخرين لم نذكرهم من العثمانيّة من الأنصار و غيرهم من بني اميّة و سواهم٢.
و أشار ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» طبعة بيروت ۱٣۸٥، ج ٣، ص ۱٩۱ إلى أنّه لمّا قتل عثمان، بايع جميع المهاجرين و الأنصار
أمير المؤمنين عليه السلام. و تخلّف عن البيعة من المهاجرين سعد بن أبي وقّاص، و ابن عمر، و من الأنصار، حسّان بن ثابت، و كعب بن مالك، و مَسلَمَة بن مخلَّد. و أبو سعيد الخُدريّ، و محمّد بن مَسْلَمَة، و النعمان بن بشير، و زيد بن ثابت، و رافع بن خديج، و فضالة بن عُبَيْد، و كعب بن عُجْرَة، و تخلّف عن بيعته أيضاً عبد الله بن سلام، و صُهَيب بن سنان، و سَلَمة بن سلامة بن وَقْش، و اسامة بن زيد، و قدامة بن مظعون، و المغيرة بن شعبة.
و لكن قال ابن سعد في طبقاته ج ٣، ص ٣۱: لمّا قتل عثمان و بويع لعليّ بن أبي طالب بالمدينة الغد من يوم قتل عثمان، بايعه جميع من كان في المدينة، و منهم طلحة، و الزبير، و سعد بن أبي وقّاص، و سعيد بن زيد بن عَمْرو بن نُفَيْل، و عمّار بن ياسر، و اسامة بن زيد، و سهل بن حُنَيف، و أبو أيّوب الأنصاريّ، و محمّد بن مَسلَمة، و زيد بن ثابت، و خزيمة بن ثابت، و جميع أهل المدينة. ثمّ ذكر طلحة و الزبير أنّهما بايعا كارهين غير طائعين. و خرجا إلى مكّة و بها عائشة. ثمّ خرجا من مكّة و معهما عائشة إلى البصرة يطلبون بدم عثمان.
و كان سعد بن أبي وقّاص أحد السابقين إلى الإسلام، و هو سابع من أسلم۱. و شهد بدراً، و احداً، و الخندق، و المشاهد كلّها مع رسول الله. و أبلى يوم احد بلاءً عظيماً؛ و أنّه أوّل من أراق دماً في سبيل الله؛ و أوّل من رمى بسهم في سبيل الله. و قال العامّة: هو من سادات الصحابة، و من العشرة المبشّرة، و أحد الذين شهد لهم النبيّ بالجنّة؛ و أحد الستّة أصحاب الشورى الذين أخبر عمر بن الخطّاب أنّ رسول الله توفّي، و هو عنهم
راضٍ۱.
و لكنّه مع ذلك كانت له رغبة في الخلافة يوم الشورى. ثمّ انحاز إلى عثمان قوميّاً على الرغم من احتجاجات مولى الموالى أمير المؤمنين عليه السلام و استشهاده بالنصوص الكثيرة الواضحة الماثورة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في حقّانيّته و تعيّن ولايته و إمامته و خلافته. و صوّت لمصلحة عثمان؛ و لم يبايع أمير المؤمنين عليه السلام بعد عثمان، و اعتزل و لم ينصره في الجمل و صفيّن، و النهروان.
يقول المسعوديّ: و كان سعد، و اسامة بن زيد، و عبد الله بن عمر، و محمّد بن مسلمة ممّن قعد عن عليّ بن أبي طالب [عليه السلام]، و أبَوا أن يبايعوه هم و غيرهم ممّن ذكرنا من القعّاد عن بيعته، و ذلك أنّهم قالوا: إنّها فتنة.
و منهم من قال لعليّ: أعْطِنَا سُيُوفَاً نُقَاتِلُ بِهَا مَعَكَ! فَإذَا ضَرَبْنَا بِهَا المُؤْمِنِينَ لَمْ تَعْمَلْ فِيهِمْ، وَ بَنَتْ عَنْ أجْسَادِهِمْ؛ وَ إذَا ضَرَبْنَا بِهَا الكَافِرِينَ سَرَتْ في أبْدَانِهِمْ! فَأعْرَضَ عَنْهُمْ عَلِيّ وَ قَالَ: «وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ»٢.
إن قائل هذا الكلام لأمير المؤمنين عليه السلام هو سعد بن أبي وقّاص، و يريد منه أنّ المسلمين و المؤمنين قد اختلطوا، و أنّ جنود الإمام، و جنود الجبهة المقابلة كلّهم مسلمون. و أنّه لا يستطيع أن يقاتل إلى جانب الإمام مؤازراً له، فيقتل أعداءه! و زعم أنّه يقاتل الكافرين لا المسلمين من أمثال طلحة، و الزبير، و عائشة، و أصحاب معاوية بن أبي سفيان، فهؤلاء
جميعاً مسلمون، و لا يصحّ قتل المسلم!
و ذكر كبار المؤرّخين أنّ سعد بن أبي وقّاص هو الذي تفوّه بذلك الكلام. و من هؤلاء المؤرّخين ابن سعد في طبقاته، فقد روى بسنده عن أيّوب بن محمّد أنّه قال: نُبِّئتُ أنّ سعداً كان يقول: ما أزعم أنّي بقميصي هذا أحقّ منّي بالخلافة قد جاهدت إذ أنا أعرف الجهاد. وَ لَا أبْخَعُ نَفْسِي إنْ كَانَ رَجُلٌ خَيْرَاً مِنِّي؛ لَا اقَاتِلُ حتّى تَأتُونِي بِسَيْفٍ لَهُ عَيْنَانِ وَ لِسَانٌ وَ شَفَتَانِ فَيَقُولُ: هَذَا مُؤْمِنٌ وَ هَذَا كَافِرٌ۱.
و روى ابن سعد أيضاً بسنده عن يحيى بن الحُصين [أنّه] قال: سمعت الحيّ [كانوا] يتحدّثون أنّ أبي قال لسعد: ما يَمْنَعُك من القتال؟!
قال (سعد): حتّى تجيئوني بسيف يَعْرِفُ المؤمنَ من الكافر٢.
و قال ابن عبد البرّ: و رامه ابنه عمر بن سعد أن يدعو لنفسه بعد قتل عثمان، فأبى. و كذلك رامَه أيضاً ابن أخيه هاشم بن عتبة، فلمّا أبى عليه، صار هاشم إلى عليّ [بن أبي طالب].
و كان سعد ممّن قعد و لزم بيته في الفتنة [في ثورة المصريّين و قتل عثمان]. و أمر أهله أن لا يخبروه من أخبار الناس بشيء، حتّى تجتمع الامّة على إمام.
فطمع معاوية فيه، و في عبد الله بن عمر، و محمّد بن مسلمة. فكتب إليهم يدعوهم إلى عونه على الطلب بدم عثمان. و يقول لهم: إنّ قاتله و خاذله سواء. (و إنّهم لمّا لم ينصروا عثمان، فهم بحكم قاتليه. و كفّارة جرمهم -بزعمه- أن ينهضوا لنصرته (معاوية) على عليّ بن أبي طالب).
و في نثر و نظم كتب [معاوية] به اليهم، و [قد] تركتُ ذكره. فأجابه كلّ واحد منهم بردّ عليه ما جاء به من ذلك و ينكر مقالته، و يعرّفه بأنّه ليس بأهل لما يطلبه؛ و أنّ في جواب سعد بن أبي وقّاص قال:
مُعَاوِيَ دَاؤُكَ الدَّاءُ العَيَاءُ | *** | وَ لَيْسَ لِمَا تَجيءُ بِهِ دَوَاءُ |
أ يَدْعُونِي أبُو حَسَنٍ عَلِيّ | *** | فَلَمْ أرْدُدْ عَلَيْهِ مَا يَشَاءُ |
وَ قُلْتُ لَهُ أعْطِنِي سَيْفَاً بَصِيراً | *** | تَمِيزُ بِهِ العَدَاوَةُ وَ الوَلَاءُ |
فَإنَّ الشَرَّ أصْغَرَهُ كَبِيرٌ | *** | وَ إنَّ الظَّهْرَ تُثْقِلُهُ الدِّمَاءُ |
أ تَطْمَعُ في الذي أعْيَا عَلِيَّاً | *** | على مَا قَدْ طَمِعْتَ بِهِ العَفَاءُ |
لَيَوْمٌ مِنْهُ خَيْرٌ مِنْكَ حَيَّاً | *** | وَ مَيْتَاً أنْتَ لِلْمَرْءِ الفِدَاءُ |
فَأمَّا أمْرُ عُثْمَانٍ فَدَعْهُ | *** | فَإنَّ الرَّأيَ أذْهَبَهُ البَلَاءُ۱ |
و قال ابن عبد البرّ أيضاً: قال أبو عمر: سُئِلَ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ الَّذِينَ قَعَدُوا عَنْ بَيْعَتِهِ وَ نُصْرَتِهِ وَ القِيَامِ مَعَهُ. فَقَالَ: اولَئِكَ قَوْمٌ خَذَلُوا الحَقَّ وَ لَمْ يَنْصُرُوا البَاطِلَ٢.
و قال أيضاً: بويع لعليّ عليه السلام بالخلافة يوم قتل عثمان؛ و اجتمع على بيعته المهاجرون و الأنصار؛ و تخلّف عن بيعته منهم نفر.
فلم يَهِجْهُم، و لم يكرههم، و سئل عنهم، فقال:
اولَئِكَ قَوْمٌ قَعَدُوا عَنِ الحَقِّ؛ وَ لَمْ يَقُومُوا مَعَ البَاطِلِ٣.
و قال المامقانيّ: قال الكَشيّ: وجدت في كتاب أبي عبد الله الشاذانيّ أنّه كان يقول: حدّثني جعفر بن محمّد المدائنيّ، عن موسى بن قاسم
العِجليّ، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام، عن آبائه، قال:
كَتَبَ عَلِيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إلى وَالِي المَدِينَةِ: لَا تُعْطِيَنَّ سَعْداً وَ لَا ابْنَ عُمَرَ مِنَ الفَيْءِ شَيْئاً! فَأمَّا اسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَإنِّي قَدْ عَذَرْتُهُ في اليَميِنِ التي كَانَتْ عَلَيْهِ۱
عذر سعد بن أبي وقّاص عن عدم بيعته أمير المؤمنين مرفوض
أجل، هذا موقف سعد بن أبي وقّاص، إذ أدّى به إلى الانعزال و سوء الفهم مع سوابقه المشرقة في الإسلام. و مُنيَ بالعجب و الغرور نتيجة للمكانة التي جعلها له عامّة الناس على أساس كلام رسول الله: اللَهُمَّ سَدِّدْ رَمْيَتَهُ، وَ أجِبْ دَعْوَتَهُ٢! و وجد نفسه في مقام تعذّر معه التنازل لأمير المؤمنين، و الانضواء تحت رايته. و تحوّل من التهوّر و الشجاعة النفسانيّة إلى الجبن و الوضاعة، و أسكن نفسه و أخلى وِفاضه بشبهة واهية تتمثّل في أنّ المؤمنين لا يقتتلون و أنّه ليس عنده سيف يميّز المؤمن عن الكافر.
لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام خليفة واجب الإطاعة وفقاً لبيعة المسلمين إيّاه، مضافاً إلى النصوص النبويّة الماثورة الدالّة على خلافته الحقّة و ولايته و إمارته الإلهيّة، و الجاعلة أوامره كأوامر الله و رسوله، و القاضية بوجوب طاعة أوامره و أحكامه في الحرب و السلم، في ضوء قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ٣. و كان على الإمام بحكم القرآن الكريم أن يعاقب كلّ مسلم معتد باغ
لا يبايع و لا يقرّ بالولاية، و ينوي إراقة الدماء و الفساد في الأرض، و إن كان مسلماً، أو كان عدد البغاة بالآلاف.
أ لم يقرأ سعد بن أبي وقّاص هذه الآية في القرآن الكريم، ليعلم أنّ سيف عليّ هو سيف الحقّ، و هو الفارق بين الحقّ و الباطل و المؤمن و الكافر؟
وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ۱.
على ضوء هذه الآية، يحقّ لأمير المؤمنين أن يقاتل البغاة المتمرّدين الذين لا يستسلمون للحقّ و لا يتّبعونه كمعاوية، و أصحاب الجمل، و النهروان، بعد الخطب و الرسائل و إتمام الحجج. و يقف بوجه الفساد، و ينقذ الحكومة المركزيّة من التفرقة، و يقمع المعتدين و أتباعهم، و يقرّ حكومة واحدة للُامّة الإسلاميّة في أرجاء الوطن الإسلاميّ، كما كان ذلك في عهد النبيّ.
إن سعد بن أبي وقّاص مدان في احتجاجه بحكم هذه الآية. و ليس من حقّه أن ينسب إلى أمير المؤمنين عليه السلام القتال خبط عشواء بلا مراعاة للإيمان و الكفر. و على ضوء هذه الآية القرآنيّة، يجب قتل المسلم المعتدي الذي لا يستسلم للحقّ. و أنّ قيمة الإنسان بشرف تسليمه و اتّباعه الحقّ، لا بإسلامه الظاهريّ. و للكافر المستعدّ لاتّباع الحقّ ميزة على المسلم الذي ليس كذلك. و يسمّى الإسلام إسلاماً بسبب التسليم للحقّ و الابتعاد عن الباطل.
إن سعداً الذي كان أحد السابقين إلى الإسلام، و أحد المهاجرين، و كاتب النبيّ الذي كتب كتابه إلى يهود خيبر۱، و الذي كان أكبر من عليّ بن أبي طالب عليه السلام سنّاً٢، و أحد أعضاء الشورى، لا ينبغي له أن يغتّر و يقول: أنا كذا و كذا، و لا يحضر في جيش عليّ. و هذا ليس احتياطاً، بل هو خدعة نفسانيّة تظهر على شكل انعزال؛ و هو مكيدة شيطانيّة تظهر بطابع التنسّك، و التظاهر بالصلاح، و المبيت في مسجد.
و ذلك سعد الذي كان يعرف عليّاً جيّداً، و كان مطّلعاً على سوابقه. و روى بعض الأحاديث في مدحه و فضله. فلا يحقّ له أن يقف بوجهه. أنّه على خطأ.
جواب أمير المؤمنين لسعد بن أبي وقّاص حول شهادة الإمام الحسين
روى المجلسيّ رضوان الله عليه عن «الأمالي» للصدوق بسنده عن
الأصبغ بن نباته، قال:
بَيْنَا أمير المؤمنين عَلَيهِ السَّلَامُ يَخْطُبُ النَّاسَ وَ هُوَ يَقُولُ: سَلُونِي قَبْلَ أن تَفْقِدُونِي! فَوَ اللهِ لَا تَسْألُونِي عَنْ شَيءٍ مَضَى وَ لَا عَنْ شَيءٍ يَكُونُ إلَّا نَبَّأتُكُمْ بِهِ.
فَقَامَ إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ أبي وَقَّاصٍ فَقَالَ: يَا أمير المؤمنين! أخْبِرْنِي كَمْ في رَأسِي وَ لِحْيَتِي مِنْ شَعْرَةٍ؟!
فَقَالَ لَهُ: أمَا وَ اللهِ لَقَدْ سَألْتَنِي عَنْ مَسْألَةٍ حَدَّثَنِي خَلِيلِي رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ و آلِهِ وَ سَلَّمَ: أنَكَ سَتَسْألُنِي عَنْهَا! وَ مَا في رَأسِكَ وَ لِحْيَتِكَ مِنْ شَعْرَةٍ إلَّا وَ في أصْلِهَا شَيْطأنٌ جالِسٌ! فَإنَّ في بَيْتِكَ لَسَخْلًا۱ يَقْتُلُ الحُسَيْنَ ابْنِي! وَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ يَوْمَئذٍ يَدْرُجُ بَيْنَ يَدَيْهِ٢.
أجل، أعرض سعد عن بيعة الإمام و نصرته و الانضواء تحت رايته، و مُني بطمع معاوية. و امتنع عبد الله بن عمر المتنسّك المتعنّت ذو الافق الضيّق من بيعة الإمام. و بايع يزيد بن معاوية، و عبد الملك بن مروان.
هر كه گريزد ز خراجات شاه | *** | باركش غول بيابان شود۱ |
و كان معاوية بن أبي سفيان يتوقّعه أن يسبّ عليّاً، فيؤاخذ على ذلك.
و كيف يسبّ سعد عليّاً مع سوابقه و معرفته بسوابق رفيقه صاحب الولاية، و الحائز على العلم و الفقه و القرآن و القضاء: أمير المؤمنين عليه السلام ذي السوابق عديمة المثيل. و مع معرفته بسوابق معاوية المشرك و أبيه أبي سفيان رأس الفساد و مجيّش الجيوش على الإسلام، و منبع الخيانة و الجناية، و عفريت النفاق و الازدواجيّة إذ أسلما في فتح مكّة في السنة الثامنة من الهجرة مكرهين مضطرّين؟!
فلهذا كان سعد يعيش في قصره بالعقيق على بعد عشرة أميال عن المدينة مستعليا يرقب الأوضاع مع ما واجه به معاوية من موقف حادّ، و مع سكوته عن جواب معاوية المكّار الغدّار، و مشاهدة الثورة و تشويش الأوضاع بعد استشهاد الإمام المظلوم أمير المؤمنين عليه السلام الذي لم يترك شيئاً بعد استشهاده٢، و مع استبانة مظلوميّته و صيحاته و خطبه التي
ظلّت بلا جواب.
و لمّا رأى معاوية أنّه لا يستطيع أخذ البيعة لابنه يزيد مع وجود سعد بن أبي وقّاص، و مكانته عند الناس، لهذا قتله بالسم مع سبط رسول الله الحسن المجتبى عليه السلام.
ذكر أبو الفرج الأصفهانيّ بسنده المتّصل أنّ معاوية لمّا أراد البيعة لابنه يزيد، وضع سمّاً في طعام خفية، و أطعمه الإمام الحسن عليه السلام و سعداً، فماتا منه و بين موتهما أيّام۱.
و روى بسنده الآخر أيضاً أنّه لمّا فرغ الإمام الحسن عليه السلام من خطبته، انصرف إلى المدينة فأقام بها و أراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل من أمر الحسن بن عليّ و سعد بن أبي وقّاص، فدسّ إليهما سمّاً، فماتا منه٢.
حديث ابن أبي وقّاص في فضائل أمير المؤمنين أواخر أيّام عمر
و كان سعد في الأيّام الأخيرة من حياته ينقل فضائل أمير المؤمنين عليه السلام و يحدّث بمزاياه التي اختصّ بها، و كان قد سمعها من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. و لكن ما جدوى ذلك و قد سبق السيف العَذَل إذ فُلقت هامة عليّ عليه السلام في محراب العبادة، و أنشب معاوية مخالبه الدمويّة في أقصى أرجاء البلاد، و ابيحت مكّة قتلًا و سلباً إذ أغار عليها بُسْر بن أرْطَاة، و ذبح هذا المتوحّش وَ لَدَي عبيد الله بن العبّاس. و عُدّ سبّ
عليّ و لعنه و شتمه على المنابر من الواجبات في خطبة الجمعة و العيدين في أنحاء العالم الإسلاميّ. و ما هو تأثير عدّ ابن أبي وقّاص مناقب عليّ لأبنائه و بنته۱، أو لرجلين عراقيّين٢؟
لقد تركتَ عليّاً وحده عند ما كانت السلطة ليست بيد معاوية! و خذلته و لم تنصره! و جعلته يواجه جمّاً غفيراً من المناوئين و الأعداء و طلّاب الدنيا! و الآن إذ بلغ السيل الزُّبى و تفرّق عنه جيشه، و خذله أصحابه، و أرغموا وصيّه الحسن المجتبى على بيعة طاغي زمانه بعد ما تركوه وحده بلا ناصر و لا معين، أنت جالس في قصرك بالعقيق تحدّث بمناقب عليّ! ما جدوى ذلك؟ حدّث و تكلّم بها، لكن ما نفعها و فائدتها؟ و اجلس في بيتك و اعبد، لكن أي عبادة هي؟!
و رحم الله آية الله السيّد محمود الشاهروديّ و تغمّده برضوانه، كان أحد أساتذتيّ في الفقه بالنجف الأشرف، و سمعته يقول أثناء الدرس على المنبر: ثلاثة يصيرون من أهل التنسّك الجافّ و العبادات الشكليّة الفاقدة لمعناها، وهم: ۱ طالب العلوم الدينيّة الكسول. ٢ التاجر المفلس. ٣ الحاكم المعزول.
و كان عبد الله بن عمر أيضاً يتحسّر و يتأوّه في آخر عمره على عدم نصرته أمير المؤمنين عليه السلام في قتاله الفِئَة البَاغِيَة (معاوية و من كان معه).
قال ابن عبد البرّ: روي بطرق مختلفة عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عمر أنَّهُ قَالَ: مَا آسى على شَيءٍ إلَّا أنِّي لَمْ اقَاتِلْ مَعَ عَلِيّ الفِئَةَ البَاغِيَةَ۱.
و روى الدارقطنيّ أيضاً في «المؤتَلَف و المختَلَف» بسنده عن ابن عمر قال:
مَا آسى على شَيءٍ إلَّا عَلَى ألَّا أكُونَ قَاتَلْتُ الفِئَةَ البَاغِيَةَ على صَوْمِ الهَوَاجِرِ٢.
و روى بسند آخر عنه أيضاً، قال: مَا أجِدُنِي آسى على شَيءٍ فَاتَنِي مِنَ الدُّنْيَا إلَّا أنِّي لَمْ اقَاتِلِ الفِئَةَ البَاغِيَةَ مَعَ عَلِيّ٣.
و روى بسند آخر عنه عند موته أنّه قال: مَا أجِدُ في نَفْسِي مِنْ أمْرِ الدُّنْيَا شَيْئاً، إلَّا أنِّى لَمْ اقَاتِلِ الفِئَةَ البَاغِيَةَ مَعَ عَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ٤.
و نقل بسند آخر أيضاً قوله: مَا آسي على شَيءٍ إلَّا تَرْكِي قِتَالَ الفِئَةِ
البَاغِيَةِ مَعَ عَلِيٍ۱.
و مضمون هذه الروايات و مفادها أنّه لم يأسف و يأسَ على شيء فاته من الدنيا إلّا قتال الفئة الباغية مع عليّ بن أبي طالب. بَيْدَ أنّ هذا الرجل يجلس تحت منبر الحجّاج بن يوسف الثقفيّ ليسمع خطبته و يبايع عبد الملك بن مروان. ثمّ يقتل على يد الحجّاج٢.
لقاء سعد بمعاوية، و بيان حديث المنزلة
و نقل الشيخ الطوسيّ لقاء معاوية سعداً بالمدينة. فقد روى في أماليه بسنده عن عِكْرَمَة صاحب ابن عبّاس قال: لمّا حجّ معاوية، نزل المدينة فاستؤذن لسعد بن أبي وقّاص عليه. فقال لجلسائه: إذا أذنت لسعد و جلس، فخذوا من عليّ بن أبي طالب.
فأذن له [و دخل سعد] و جلس مع معاوية على السرير. و شتم القوم أمير المؤمنين عليه السلام. فانسكبت عينا سعدٍ بالبكاء.
فقال له معاوية: ما يبكيك يا سعد؟! أ تبكي إن شتم قاتل أخيك عثمان بن عفّان؟!
قال [سعد]: و الله ما أملك البكاء؛ خرجنا من مكّة مهاجرين حتّى نزلنا هذا المسجد يعني مسجد رسول الله؛ فكان فيه مبيتنا و مقيلنا إذ اخرجنا منه و تُرك عليّ بن أبي طالب فيه فاشتدّ ذلك علينا و هُبنا نبيّ الله أن نذكر ذلك. [فلهذا] أتينا عائشة فقلنا: يَا امَّ المُؤْمِنِينَ! إنّ لنا صحبة مثل عليّ، و هجرة مثل هجرة عليّ! و إنّا قد اخرجنا من المسجد و تُرك فيه فلا يُدرى من سخط من الله أو من غضب من رسوله؟! فاذكري ذلك لرسول الله!
[قالت عائشة]: فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فقال لها: يَا عائِشَةُ! لَا وَ اللهِ مَا أنَا أخْرَجْتُهُمْ وَ لَا أنَا أسْكَنْتُهُ، بَلِ اللهُ أخْرَجَهُمْ وَ أسْكَنَهُ۱!
و غزونا خيبر فانهزم عنها ما انهزم؛ فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: لُاعطِيَّنَ الرَّايَةَ اليَوْمَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ يُحِبُّهُ اللهُ وَ رَسُولُهُ.
فدعاه [رسول الله] و هو أرمد فتفل في عينه و أعطاه الراية ففتح الله له.
و غزونا تبوك مع رسول الله فودّع عليّ النبيّ في ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ و بكى. فقال له النبيّ: ما يبكيك؟!
فقال: كيف لا أبكي و لم أتخلّف عنك في غزاة منذ بعثك الله! فما بالك تخلفني في هذه الغزاة؟!
فقال له الرسول: أ مَا تَرْضَى يَا عَلِيّ أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟! قَالَ عَلِيّ: بَلَى رَضيِتُ۱!
و قال ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»: ذكر أبو أحمد العسكريّ في كتاب «الأمالى» أنّ سعد بن أبي وقّاص دخل على معاوية عام الجماعة فلم يسلّم عليه بإمرة المؤمنين.
فقال له معاوية: لو شئت أن تقول في سلامك غير هذا لقلت!
فقال سعد: نحن المؤمنون و لم نؤمّرك كأنّك بَهَجْتَها أنّك فيها
يا معاوية! و الله ما يسرّني ما أنت فيه و إنّي هرقت محجمة دم!
قال [معاوية]: لكنّي و ابن عمّك عليّاً يا أبا إسحاق قد هرقنا أكثر من محجمة و محجمتين! هلمّ و اجلس معي على السرير!
فجلس سعد معه، فذكر له معاوية اعتزاله الحرب يعاتبه!
فقال سعد: إنّما كان مثلي و مثل الناس كيوم أصابتهم ظلمة، فقال واحد منهم لبعيره: إخْ. فأناخ حتّى أضاء له الطريق!
فقال معاوية: يا أبا إسحاق! ما في كتاب الله إخ. و إنّما فيه:
وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ۱.
فو الله ما قاتلت [الفئة] الباغية و لا المبغي عليها؛ فأفحمه.
حديث المنزلة عند تحرّك رسول الله إلى غزوة تبوك
و زاد ابن ديزيل في [كتاب] «الحنّ» زيادة ذكرها في «كتاب صفّين» قال: فقال سعد بن أبي وقّاص: أ تأمرني أن اقاتل رجلًا قال له رسول الله: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي٢؟!
فقال معاوية: من سمع هذا معك؟! قال سعد: فلان و فلان و امّ سلمة! قال معاوية: لو كنت سمعت هذا لما قاتلته۱.
و قال ابن ديزيل: حدّثني جَعْفر بن مَكِّي، قال: سألت محمّد بن سليمان بن سلمس صاحب الحجاب، و قد رأيت أنا محمّداً هذا و كانت لي به معرفة غير مستحكمة و كان ظريفاً أديباً، و قد اشتمل في الرياضيّات و الفلسفة، و لم يكن يتعصّب لمذهب بعينه. قال جعفر: سألته عمّا عنده في أمر عليّ و عثمان. فقال: هذه عدواة قديمة النسب بين بني شمس و بين بني
هاشم. و قد كان حَرْبُ بْنُ امَيَّة نافر عَبْدَ المُطَّلِبِ بْنَ هَاشِمْ. و كان أبُو سُفْيَانُ يحسد مُحَمَّدَاً و حاربه. و لم يزل البيتان متباغضين. ثمّ ساق حديثاً طويلًا إلى أن قال ما قاله رسول الله في عليّ مثل حديث خَاصِفِ النَّعْلِ۱، و حديث مَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، و حديث مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ و حديث هَذَا يَعْسُوبُ الدِّينِ و حديث لَا فَتَى إلَّا عَلِيّ، و حديث أحَبُّ خَلْقِكَ إلَيْكَ. و ما جرى هذا المجرى في الدلالة على أفضليّة عليّ و مقامه٢.
و نقل السيّد هاشم البحرانيّ في «غاية المرام» أحد عشر حديثاً عن «مسند أحمد بن حنبل»٣، و ثلاثة أحاديث عن «صحيح البخاريّ»٤، و سبعة أحاديث عن «صحيح مسلم»٥ حول حديث سعد بن أبي وقّاص
و غيره، و حول حديث المنزلة عند تحرّك رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى غزوة تبوك، أو بنحو مطلق.
و كذلك روي عن كتاب «الجمع بين الصحاح الستّة» لرزين، في الثلث الأخير من الجزء الثالث في باب مناقب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، عن «صحيح أبي داود» و «صحيح الترمذيّ»، عن أبي سريحة، و زيد بن أرقم أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: مَنْ كُنْتُ مَولَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ. و روي عن سعد بن أبي وقّاص أنّه قال: قال رسول الله: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدَي. و قال سعيد بن المسيّب: أخبرني بهذا عامر بن سعد، عن أبيه، فأحببت أن أشافه به سعداً، فلقيته، فقلت: أنت سمعت هذا من رسول الله؟! فوضع سعد إصبعه في اذُنيه، فقال: نعم و إلّا فاستكّتا۱.
و روى في «غاية المرام» أيضاً عن ابن المغازليّ في مناقبه ثلاثة و عشرين حديثاً عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، و عن إبراهيم بن سعد، و عن عائشة بنت سعد، و عن سعيد بن المُسَيِّب، عن أبي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ، و عن أنس بن مالك، و عن ابن عبّاس، و عن سعيد بن المسيّب، عن سعد، و عن عبد الله بن مسعود، و عن معاوية، و عن عمر بن الخطّاب. كلّها في حديث المنزلة عند الخروج إلى غزوة تبوك، و بنحو مطلق٢. منها ما رواه
عن سعيد بن المسيّب، عن سعد بن أبي وقّاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لعليّ: أقِمْ بِالمَديِنَةِ! قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إنَّكَ مَا خَرَجْتَ في غَزَاةٍ فَخَلَفْتَنِي! فَقَالَ النَّبِيّ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لِعَلِيّ: إنَّ المَدِينَةَ لَا تَصْلَحُ إلَّا بي أوْ بِكَ! وَ أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي!
قال سعيد: فقلت لسعد بن أبي وقّاص: أنت سمعتَ هذا من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم؟! قال: نعم! لا مرّة و لا مرّتين يقول ذلك لعليّ عليه السلام۱.
رواية عمر حول حديث المنزلة
و ذكر صاحب «الأربعين عن الأربعين» في حديثه الثاني بسنده المتّصل عن إبراهيم بن سعيد الجوهريّ وصيّ المأمون، عن المأمون بن الرشيد، عن المهدي، عن المنصور، عن أبيه، عن ابن عبّاس، قال:
سمعت عمر بن الخطّاب؛ و عنده جماعة، فتذاكروا المنافقين في الإسلام يقول: أمَّا عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ فسمعت رسول الله يقول فيه ثلاث خصال لوددتُ أنّ لي واحدة منهنّ، و كان أحبّ إليّ من الدنيا و ما فيها. كنت أنا، و أبو بكر، و أبو عبيدة و جماعة من الصحابة إذ ضرب النبيّ بيده على منكب عليّ، فقال: يَا عَلِيّ! أنْتَ أوَّلُ المُؤْمِنِينَ إيمَانَاً؛ وَ أوَّلُ المُسْلِمينَ إسْلَامَاً؛ وَ أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَي٢.
و روى عبد الله بن أحمد بن حَنْبَل عن مسند أبيه أحمد بن حَنْبَل بسنده، قال: ذُكر عليّ عند رجل و عنده سعد بن أبي وقّاص. فقال سعد: أتذكر عليّاً؟!
إنَّ لَهُ مَنَاقِبَ أرْبَعَ لأنْ تَكُونَ لي وَاحِدَةٌ أحَبُّ إلَيّ مِنْ كَذَا وَ كَذَا، وَ ذَكَرَ حُمْرَ النَّعَم: قَوْلُهُ: لأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ؛ وَ قَوْلُهُ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى؛ وَ قَوْلُهُ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيّ مَوْلَاهُ. وَ نَسِيَ سُفْيَانُ وَاحِدَةٌ۱.
سبب استخلاف أمير المؤمنين في غزوة تبوك على المدينة
و روى أحمد بن حنبل بسنده في مسنده عن ابن عبّاس، قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و خرج الناس في غزاة تبوك؛ فقال عليّ عليه السلام: أخرج معك يا رسول الله؟!
فقال له النبيّ صلوات الله عليه: لا! فبكى عليّ.
فَقَالَ لَهُ: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، إنَّهُ لَا يَنْبَغِي أنْ أذْهَبَ إلَّا وَ أنْتَ خَلِيفَتِي٢!
و روى ابن المغازليّ بإسناده، قال: لمّا خرج رسول الله إلى غزاة تبوك، خلف عليّ بن أبي طالب على أهله، و أمره بالإقامة فيهم.
فأرجف المنافقون، و قالوا: ما أخلفه إلّا استثقالًا، أو تخفيفاً منه. فلمّا قال ذلك المنافقون، أخذ عليّ بن أبي طالب عليه السلام سلاحه، ثمّ خرج إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و هو نازل بالجُرف٣، فقال: يا رسول الله! زعم المنافقون أنّك إنّما خلفتني، تستثقلني؛ أو تخفّف
منيّ!
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: كذبوا! و لكنّي خلفتك لما تركتُ ورائي! فارجع، فاخلفني في أهلي و أهلك! ألا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي. فرجع عليّ عليه السلام إلى المدينة. و مضى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بسفره۱.
أجل، علينا أن نعرف السبب الكامن وراء استخلاف رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السلام على المدينة في هذه الغزوة. و هو الذي شهد المشاهد كلّها مع رسول الله في بدر، و احد، و الأحزاب، و حُنَيْن، و غيرها بلا استثناء. و لم يشترك فيها فحسب، بل كان الفاتح الوحيد في بَدْر، و الأحزاب، و حُنَيْن، و خَيْبر، و كان الحامي الفريد لرسول الله في الأخطار و الخطوب العظيمة كاحُد.
و مبدئيّاً، ما ذا كان معنى الاستخلاف؟ و ما هو دوره الخطير في تلك المهمّة؟ و كيف كان الوضع في المدينة آنذاك، إذ قال رسول الله: يا عليّ! المدينة لا تصلح إلّا بي أو بك؟! و لما ذا نطق بتلك الجملة التأريخيّة في حديث المنزلة؟
لا بدّ لنا في البداية أن نلقي نظرة مجملة، ثمّ نظرة مفصّلة على أوضاع المدينة يومئذٍ، و نتحدّث في مجال المتطلّبات، و الكيفيّات، و العلاقات العامّة للناس وقتذاك و ذلك من أجل أن تستبين هذه الحقيقة.
نظرة مجملة على المدينة في أواخر عمر رسول الله
أمّا النظرة المجملة فنقول: كانت غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة و وقعت بين رجب و رمضان. و لم يكن الوقت بينها و بين وفاة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أكثر من سنة و نصف. و كانت
الأوضاع في المدينة تتأزّم يوماً بعد آخر بسبب وجود المنافقين و مؤامراتهم على رسول الله و المسلمين. و ازداد تصلّبهم و عنفهم على مرّ الأيّام.
و بلغ إيذاؤهم المسلمينَ و رسولَ الله درجة أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم قال فيه: مَا اوذِيَ نَبِيّ مِثْلَ مَا اوذِيتُ قَطُّ.
و تعود هذه الكلمة إلى إيذاء المنافقين كما ذهب إلى ذلك والدنا المعنويّ، و مربّينا الروحيّ، و استاذنا المعظّم: سماحة العلّامة الفقيد آية الله العظمى السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ أعلى الله مقامه الشريف.
ذلك أنّ بعض الأنبياء قد اوذوا أضعاف ما اوذي نبيّنا. فمنهم من نشر بالمنشار من وسط الشجرة. و منهم من القي في الماء المغليّ و الزيت الحارّ؛ و من الطبيعيّ أنّ نبيّنا الكريم لم يتعرّض لهذه الضروب من الأذى. بَيدَ أنّه تجرّع الغصص و عانى من المنافقين ما لم يكن مثله عند أنبياء الامم السالفة.
و عند ما نشط الإسلام، و زادت شوكة المسلمين و قدرتهم، أخذت حروب النبيّ و غزواته بالتناقص. و لم يذق تلك المرارات، و تضاءل حجم القتال مع العدوّ. و لمّا فتحت مكّة و الطائف، و هما خندقان مهمّان للمشركين و قد دمّرا، و لم يجد المشركون ملجاً آخر لهم، آمن كثير منهم بالإسلام إيماناً ظاهريّاً، بَيْدَ أنّهم كانوا مشركين باطنيّاً. و كذلك آمن كثير من أهل الكتاب بخاصّة اليهود إيماناً شكليّاً، لكنّهم ظلّوا على عقيدتهم الاولى في الباطن.
و كان هؤلاء يعيشون بين المسلمين، و قد عاشروهم، و شاركوهم في مراسمهم الدينيّة و العباديّة، و حتّى السياسيّة. بيد أنّهم كانوا في الحقيقة يضعون العقبات و العراقيل في طريقهم. و ما برحوا يثيرون الفتن و القلاقل
و الاضطرابات.
و اتّسع هذا المعنى على كرور الأيّام؛ و ازدادت تنظيمات المنافقين و تكتّلاتهم و توطّدت علاقاتهم مع المشركين و الكافرين و من كان خارج المدينة؛ و إذ بأعداء الإسلام في موقعة احُد، و بَدْر، و الأحزاب قد تقمّصوا الإسلام و تغلغلوا في صفوف المسلمين متردّدين بينهم. و حضروا في مساجدهم و محافلهم. و مارسوا أعمالهم كسائر المسلمين في الظاهر، لكنّهم كانوا في الباطن ينهجون غير سبيل رسول الله تماماً. و كان النبيّ من جهة مكلّفاً أن يقبل إسلام من يشهد الشهادتين و يعتقد بالصلاة و الزكاة ظاهريّاً، و يعدّه مسلماً، و يعامله معاملة المسلمين. و من جهة اخرى لم تكن له قدرة على مواجهة المنافقين و استئصال شوكتهم ما لم تقم حجّة شرعيّة في الظاهر، و ما لم يرتكبوا جريمة في محكمة الإسلام. فلهذا كان أمر المنافقين عويصاً، و أصبحت قضيّتهم معضلة من المعضلات التي واجهها الإسلام.
و كان أبو عامر الراهب الذي لقّبه النبيّ الأكرم بالفاسق من رؤسائهم. فهو من قساوسة النصارى بالمدينة سابقاً، و أسلم، ثمّ فرّ إلى مكّة خائفاً بسبب مؤامراته على رسول الله، و بعد فتح مكّة، هرب إلى الطائف. و بعد فتح الطائف لاذ بالفرار نحو الشام. و كان في صراع دائم مع المسلمين هناك. و تواطأ مع منافقي المدينة و مكّة؛ و كان يدعمهم و يعزّز موقفهم باستمرار، و يعدهم أنّه سيذهب إلى الروم، و يأتي إلى المدينة بجيش غفير من إمبراطور الروم، و يقضي على النبيّ و المسلمين بزعمه.
و كان منافقو المدينة و على رأسهم عبدُ اللهِ بْنُ أبي وَ جَدُّ بْنُ قَيس يمهّدان الأجواء لعودة أبي عامر إلى المدينة من خلال بثّ الأراجيف بين المسلمين، و تخويفهم بجيش الروم الجرّار، و إرعابهم بعسكر الاكَيْدِر
الذي كان يحكم دُومَة الجَنْدَل۱ التي تبعد عن المدينة كثيراً. و شاع في المدينة أيضاً أنّ هرقل سلطان الروم جاء إلى تبوك على رأس أربعين ألف مقاتل؛ و تحالف مع أربع طوائف مهمّة. و هو عازم على التوجّه إلى المدينة بأموال و أثقال و مواشٍ كثيرة لقتل المسلمين، و نهب أموالهم، و سبي نسائهم و أطفالهم. و كانوا يبثّون هذا الخبر في كلّ يوم بنحو يجعل المسلمين في خوف و قلق دائمين و يرون أنفسهم بانتظار هجوم يقوم به الجيش المذكور. و كانت هذه الامور قد غيّرت وضع المسلمين في المدينة.
و في الوقت نفسه كانت الآيات القرآنيّة تنزل بلهجة حادّة تماماً و هي تأمر المسلمين بالتعبئة العامّة، و ترغّبهم في التضحية بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله. و كان النبيّ يتحدّث إلى المسلمين علناً حول حرب الروم ليتجهّزوا و يتهيّأوا في العدّة و العدد. و تأهّب المسلمون كافّة للجهاد، و تحرّكوا مع رسول الله بجيش عظيم.
بناء المنافقين مسجداً بوصفه خندقاً لهم
و لمّا كان الجهاد يشمل المنافقين أيضاً، فكلّ واحد منهم كان يعتذر بعذر معيّن و ينعزل عن القتال، لأنّهم كانوا يدركون مشقّة الجهاد و السفر
إلى الشام. و تحرّك بعضهم من المدينة كعبد الله بن أبي الذي كان يتمتّع بشخصيّة و مكانة عظيمة. فسار مع أعوانه و أنصاره حتّى بلغ الجُرْف۱ حيث مقرّ الجيش الإسلاميّ في أوّل خروجه. و نزل إلى جانب الجيش المذكور في مكان أخفض من المكان الذي يستقرّ فيه المسلمون، و رفع علماً. و قيل: إنّ عسكره ليس أقلّ من عسكر رسول الله٢.
و لمّا تجهّز رسول الله و سار بالناس، تخلّف عبد الله بن أبي و أصحابه و رجعوا إلى المدينة؛ و كانوا يقولون: يحسب محمّد أنّ قتال الروم كقتال العرب؛ و الله سيهلكون في الطريق، و يموتون من الحرّ و انعدام الماء و الطعام؛ و و الله كأنّي أنظر إلى محمّد و أصحابه مقرّنين في الحبال٣.
و جاء المنافقون إلى رسول الله عند خروجه و قالوا: قد بنينا في حيّنا مسجداً قريباً من مسجد قبا لضعفائنا و شيوخنا. و لا نستطيع الذهاب إلى مسجد قبا في ليالى الشتاء المطيرة، و لا نريد أن نصلّي في غير جماعة؛ فنصلّي فيه؛ و إن رأيتَ أن تقصده و تفتتحه بالصلاة فيه!
كان المنافقون يكذبون. و أرادوا أن يكون مسجدهم خندقاً في مقابل المسلمين للتآمر عليهم و تفريق كلمتهم. كما أرادوه أن يكون مقرّاً مركزيّاً لاجتماعهم. و تعاقدوا مع أبي عامر الراهب على أن يعود إلى المدينة في غيبة رسول الله، و يصير إماماً للجماعة و رئيساً. و كانوا يزعمون أيضاً أنّ رسول الله يموت في سفرته هذه. و إذا ما بقي حيّاً فسيخطّطون لقتله في العقبة بواسطة اثني عشر أو أربعة عشر شخصاً منهم، و ينتهي كلّ شيء. و خطّطوا أيضاً للهجوم على نساء و ذراري النبيّ و المسلمين و قتلهم، و أسرهم، و إخراجهم من المدينة، و ذلك عند غياب النبيّ. و على هذا ينتهي عمل رسول الله في داخل المدينة و خارجها، و ينعي الإسلام ناعوه.
نصب رسول الله أمير المؤمنين خليفة على المدينة في غزوة تبوك
و كان رسول الله يعرف حالاتهم و نيّاتهم جيّداً، فرأى أنّه لا بدّ من استخلاف أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في المدينة مكانه ليحول دون فسادهم. و لا أحد يقدر على مواجهة المنافقين و إحباط مؤامراتهم إلّا عليّ بن أبي طالب؛ و بالمال فإنّه لمّا كان يعلم أنّ قتلًا لن يحدث في هذه التعبئة و أنّ الحاجة إلى قوّة عليّ البدنيّة و القلبيّة قائمة إذ هو كالأسد الغضوب يشقّ الصفوف، و يقمع العدوّ، لهذا نصبه في المدينة خليفة له.
فَأوْحَى اللهُ تعالى إلَيْهِ: يَا مُحَمَّدُ! إنَّ العَلِيّ الأعْلَى يَقْرَا عَلَيْكَ السَّلَامَ وَ يَقُولُ لَكَ: إمَّا أنْ تَخْرُجَ أنْتَ وَ يُقيِمَ عَلِيّ؛ وَ إمَّا أنْ يَخْرُجَ عَلِيّ وَ تُقِيمَ أنْتَ!
فقال رسول الله ذاك لعليّ. فقال عليّ: سمعاً و طاعة لأمر الله و أمر رسوله؛ و إن كنت احِبّ أن لا أتخلّف عن رسول الله في حال من الأحوال.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُون مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟ فقال عليّ: رضيت يا رسول الله.
فقال رسول الله: يَا أبَا الحَسَنِ! إنَّ لَكَ أجْرَ خُرُوجِكَ مَعِي في مَقَامِكَ بِالمَدِينَةِ وَ إنَّ اللهِ قَدْ جَعَلَكَ امَّةً وَحْدَكَ كَمَا جَعَلَ إبْرَاهِيمَ امَّةً، تَمْنَعُ جَمَاعَةَ المُنَافِقِينَ وَ الكُفَّارِ هَيْبَتُكَ عَنِ الحَرَكَةِ عَلَى المُسْلِمِينَ!
و لمّا خرج رسول الله من المدينة إلى معسكره و شيّعه عليّ بن أبي طالب، خاض المنافقون و قالوا: إنّما خَلَفه محمّد بالمدينة لبغضه له و ملالته منه. و ما أراد بذلك إلّا أن يبيّته المنافقون فيقتلوه و يحاربوه، فيهلكوه.
فوصل أمير المؤمنين عليه السلام إلى رسول الله و قال: تسمع ما يقولون يا رسول الله؟!
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أ مَا يَكْفِيكَ أنَّكَ جَلْدَة مَا بَيْنَ عَيْنَيّ وَ نُورُ بَصَرِي وَ كَالرُّوحِ في بَدَنِي؟!۱
و قفل أمير المؤمنين عليه السلام إلى المدينة راجعاً، و انبرى إلى صيانة المدينة و حفظها من كيد المنافقين، و اضطلع بمهمّة الحفاظ على عيال رسول الله و أهله، إلى أن عاد النبيّ و المسلمون بعد سفرهم الذي دام شهرين تقريباً.
أمَّا النظرة المفصّلة، فنقول: إنّ الأنباط و هم جمع النَّبَط كانوا من العجم القاطنين بين العراق و الشام. و كانوا يسافرون إلى المدينة في الجاهليّة و الإسلام لشراء أمتعتهم و بيعها كالدَّرْمَك٢ و الزَّيْت (دقيق القمح الأبيض و زيت الزيتون) و كانوا مصدر الأخبار التي تصل من الشام إلى
المسلمين لكثرة تردّدهم عليها فأخبروا المسلمين أنّ هِرْقِل إمبراطور الروم۱ يمتار لجيشه سنة كاملة، و قد اتّحد مع لَخْم و جُذَام و غَسَّان و عامِلَة و هم من نصارى العرب. و هو متأهّب للتحرّك نحو المدينة. و وصلت مقدّمة ذلك الجيش إلى البَلْقَاء٢ و عسكروا بها. و تخلّف هرقل نفسه في حِمْص٣.
من الطبيعيّ أنّ الامور لم تكن كذلك، و إنّما كانت إشاعة فحسبُ بثّت بين المسلمين٤.
و لمّا لم يكن للمسلمين آنذاك عدوّ أخطر و أشدّ من الروم لأنّ المسلمين كانوا يرون التجّار الذين يأتون إلى المدينة للتجارة كيف كانوا ذوي إمكانيّات و أموال و مواشي و تجهيزات كثيرة و عدد كبير فلهذا كان رسول الله يورّي في جميع غزواته و يخفي مكان الحرب ابتداءً؛ بَيدَ أنّه أعلن في هذه الغزوة أنّه عازم على حرب الروم، و ذلك من أجل أن يتهيّأ الناس و يعدّوا أسباب السفر و الخيول و الإبل و المؤن و سائر التجهيزات بنحو كافٍ و وافٍ، و يتأهّبوا لرحلة طويلة.
و كانت تلك الرحلة في حمّارة القيظ؛ و لذلك بيّن للناس أنّ عليهم أن يتحرّكوا بجيش جرّار و أموال طائلة. و أوفد مبعوثين عنه إلى مكّة و القبائل ليتأهبّوا للجهاد.
ترغيب رسول الله الناس في الجهاد في سبيل الله
و كان يحثّ الناس و يرغّبهم في جهاد الكفّار، و يأمر بجمع الصدقات و التبرّعات. حتّى جلب الناس أموالهم، و تهيّأ جيش مجهّز، حتّى اعدّت الخيوط أو السيور التي تشدّ بها فم القربة، أو التي تعلّق بها القِرَب. و أتت النساء بحليّها و جواهرها.
تقول امُّ سِنَانٍ الأسْلَمِيَّة: لقد رأيت ثوباً مبسوطاً بين يدي رسول الله فيه أسورة، و معاضد، و خلاخل، و خواتيم، و أقرطة ممّا يبعث به النساء إليه لتجهيز المسلمين.
و كان ذلك في زمان طابت فيه الثمار، و احبّت الظلال، و الناس حينئذٍ يحبّون المقام في المدينة و يكرهون الشخوص عنها.
و أخذ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يحثّ الناس على الإسراع. و ضرب عسكره بِثَنِيَّةِ الوَدِاع۱. و الناس كثير لا يجمعهم كتاب و لا يأتي عليهم إحصاء٢.
و في هذه الحال تباطأ بعض الناس في التحرّك، و أصابهم فتور، و فتنهم مناخ المدينة، و الجلوس تحت الظلل، و الفواكه التي كانت على و شك النضوج. فنزلت هذه الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ، إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ٣.
«أيّها المؤمنون ما لكم إذا قيل لكم اذهبوا في سبيل الله (لجهاد الروم) تثاقلتم. فهل رضيتم بهذه الحياة التافهة بدلًا من الحياة الآخرة؟ و ليس الاستمتاع في هذه الحياة إلّا ضئيل في مقابل الحياة الآخرة (و هي
الحياة العالية الخالدة الثمينة). و إن لم تتحرّكوا، يعذّبكم الله عذاباً أليماً و يستبدل قوماً غيركم (لنصرة دينه و إجابة دعوة نبيّه). و لن تضرّوا الله شيئاً بعدم نصركم للنبيّ. و هو على كلّ شيء قدير».
أيّها المسلمون لا تنصتوا لكلام المنافقين! و لا تقبلوا قولهم المثبِّط عن القتال! و لا تنخدعوا بألسنتهم الحداد و منطقهم الماكر! و لا تسمعوا هذيانهم و أراجيفهم إذ يقولون: ها هي الفواكه قد نضجت و ستتلف؛ و الجوّ حارّ؛ و ليس من الصحيح التحرّك نحو الروم لطول المسافة؛ و لا علم لمحمّد بأهمّيّة القتال، كما أنّه لا يدري أنّ قتال الروم ليس كقتال القبائل العربيّة. لا تسمعوا هذه الأباطيل و اعلموا: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ۱.
«إن لم تنصروه، فقد نصره الله حقّاً عند ما أخرجه الكافرون (من مكّة) و هو أحد اثنين إذ يقول لصاحبه: لا تحزن إنّ الله معنا! فأنزل الله سكينته على نبيّه، و أيّده بجنود لم تروها، و جعل كلمة الكافرين السفلى (إذ لم يقدروا أن يقبضوا عليه و يقتلوه). و كلمة الله هي العليا فحسب (إذ حفظ الله نبيّه و أوصله إلى المدينة بسلام) و للّه العزّة و التفرّد في الامور، و له مقام الإحكام (لا يغلبه شيء و لا يعتري إحكامه الفتور).
انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ٢.
قال الشيخ الطبرسيّ: قال الحسن، و مجاهد، و عِكْرِمَة، و الضحّاك و غيرهم: المراد من خفافاً و ثقالًا شبّاناً و شيوخاً. و قال ابن عبّاس، و قتادة: نشّاطاً و غير نشّاط. و قال الحكم: مشاغيل و غير مشاغيل. و قال أبو صالح: أغنياء و فقراء. و قال الفرّاء: أراد بالخفاف أهل العسرة من المال و قلّة العيال. و بالثقال: أهل الميسرة في المال و كثرة العيال. و قال أبو عمرو، و عطيّة العوفيّ: ركباناً و مشاة. و قال ابن زيد: ذا صنعة و غير ذي صنعة. و قال يمان: عزّاباً و متأهّلين.
ثمّ قال: و الوجه أن يحمل على الجميع فيقال: معناه: اخرجوا إلى الجهاد خفّ عليكم أو شقّ! على أيّة حالة كنتم لأنّ أحوال الإنسان لا تخلو من أحد هذه الأشياء۱.
و قال العلّامة الطباطبائيّ: الخفاف و الثقال جمعا خفيف و ثقيل. و الثقل بقرينة المقام كناية عن وجود الموانع الشاغلة الصارفة للإنسان عن الخروج إلى الجهاد نظير كثرة المشاغل الماليّة و حبّ الأهل و الولد و الأقرباء و الأصدقاء الذي يوجب كراهة مفارقتهم، و فقد الزاد و الراحلة و السلاح و نحو ذلك؛ و الخفّة كناية عن خلاف ذلك.
فالأمر بالنفر خفافاً و ثقالًا و هما حالان متقابلان في معنى الأمر بالخروج على أي حال، و عدم اتّخاذ شيء من ذلك عذراً يعتذر به لترك الخروج؛ كما أنّ الجمع بين الأموال و الأنفس في معنى الأمر بالجهاد بأيّ وسيلة أمكنت.
و قد ظهر بذلك أنّ الأمر في الآية مطلق لا يأبى التقييد بالأعذار التي يسقط معها وجوب الجهاد كالمرض، و العمى، و العرج، و نحو ذلك. فإنّ
المراد بالخفّة و الثقل أمر وراء ذلك۱.
منع المنافق المعروف الجدّ بن قيس قومه من الجهاد
و قال الواقديّ: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لِجَدّ بن قيس (الذي كان أحد رؤوس النفاق): أبا وهب! هل لك العامَ تخرج معنا لعلّك تحتقب من بنات الأصفر٢.
فقال الجَدُّ بْنُ قَيْس: أو تأذن لي و لا تفتنّي! فو الله، لقد عرف قومي ما أحد أشدّ عجباً بالنساء منّي؛ و إنّي لأخشى إن رأيت نساء بني الأصفر لا أصبر عنهنّ! فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و قال: قد أذنت لك.
فجاءه ابنه عبد الله بن الجدّ، و كان بدريّاً، و هو أخو مُعَاذ بن جَبَل لُامّه، فقال لأبيه: لِمَ تردّ على رسول الله مقالته؟! فو الله ما في بَنِي سَلِمَة أكثر مالًا منك! و لا تخرج (مع رسول الله)؛ و لا تحمل أحداً (أي و لا تدفع حصانك و بعيرك إلى آخر فيخرج مع رسول الله)؟!
قال (الجدّ): يا بُنيّ! ما لي و للخروج في الريح، و الحرّ، و العسرة إلى بني الأصفر؟ و الله! ما آمن خوفاً من بني الأصفر؛ و إنّي في منزلي بخُرْبَي! فأذهب إليهم فأغزوهم! إنّي و الله يا بنيّ عالم بالدوائر!
فأغلظ له ابنه، فقال: لا و الله، و لكنّه النفاق! و الله لينزلنّ على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فيك قرآن يقرأونه٣. قال: فرفع نعله
فضرب بها وجهه.
فانصرف ابنه و لم يكلّمه. و جعل الخبيث يثبّط قومه، و قال لجَبَّارِ بْنِ صَخْرٍ و نفر معه من بَنِي سَلِمَة: يا بني سلمة! لا تنفروا في الحرّ! يقول: لا تخرجوا في الحرّ زهادة في الجهاد، و شكّاً في الحقّ، و إرجافاً برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فأنزل الله عزّ و جلّ فيه:
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ۱.
و في الجدّ بن قيس نزلت هذه الآية أيضاً:
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ٢.
ذلك أنّ الكذب أوّلًا، و الشكّ في الإيمان ثانياً، و قبول دعوة النبيّ للجهاد القريب و اليسير الذي فيه غنيمة، و ردّ الجهاد البعيد و العسير، كلّ اولئك أكبر فتنة سقط فيها.
و كان هذا الرجل يزعم أنّ نساء الروم تفتنه بجمالها، و تسقطه. إنّه كان يكذب، و كان يتظاهر أنّه يتخلّص من الحرب، و يحفظ نفسه التي كان يحبّها أكثر من نفس رسول الله. و هذا اللون من التفكير أكبر فتنة ارتكس فيها.
و لمّا نزلت هذه الآية، جاء عبد الله إلى أبيه، فقال: أ لم أقل لك إنّه سوف ينزل فيك قرآن يقرأه المسلمون؟! فقال الجدّ لابنه: اسْكُت عَنِّي يَا لُكَعُ وَ اللهِ لَا أنْفَعُكَ بِنَافِعَةٍ أبَدَاً، وَ اللهِ لأنْتَ أشَدُّ عَلَيّ مِنْ مُحَمَّدٍ۱.
روي ابن هشام بسنده عن عبد الله بن حارثة، عن أبيه، عن جدّه، قال:
بلغ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّ ناساً من المنافقين يجتمعون في بيت سُوَيْلِم اليهوديّ و كان بيته عند جاسومَ يُثَبِّطون الناس في غزوة تبوك. فبعث إليهم النبيّ صلّى الله عليه و سلّم طلحة بن عُبيد الله في نفر من أصحابه و أمره أن يخرِّق عليهم بيت سُويلم.
ففعل طلحة فاقتَحم الضحّاك بنُ خليفة من ظهر البيت (و هو أحد المنافقين)، فانكسرت رجله و اقتحم أصحابه فأفلتوا٢.
خطبة رسول الله عند الخروج إلى غزوة تبوك
قال على بن إبراهيم القمّيّ: و أمر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بعسكره و ضرب في ثَنِيَّة الوَدَاع. و أمر أهل الجدة (الأغنياء) أن يعينوا من لا قوة به. و من كان عنده شيء أخرجه و حملوا و قووا و حثّوا على ذلك. و خطب رسول الله فقال: أيُّهَا النَّاسُ! إنَّ أصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ؛ وَ أوْلَى القَوْلِ كَلِمَةُ التَّقْوَى؛ وَ خَيْرُ المِلَلِ مِلَّةُ إبْرَاهِيمَ؛ وَ خَيْرُ السُّنَنِ سُنَّةُ مُحَمَّدٍ؛ وَ أشْرَفُ الحَدِيثِ ذِكْرُ اللهِ، وَ أحْسَنُ القَصَصِ هَذا القُرْآنُ؛ وَ خَيْرُ الامُورِ عَزَائِمُهَا؛ وَ شرُّ الامُورِ مُحْدَثَاتُهَا؛
وَ أحْسَنُ الهَدْى هَدْيُ الأنْبِياءِ؛ وَ أشرَفُ القَتْلِ قَتْلُ الشُّهَدَاءِ؛ وَ أعْمَى العَمَى الضَّلَالَةُ بَعْدَ الهُدَى؛ وَ خَيْرُ الأعْمَالِ مَا نَفَعَ؛ وَ خَيْرُ الهَدْى مَا اتُّبِعَ، وَ شَرُّ العَمَى عَمَى القَلْبِ؛ وَ اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى؛ وَ مَا قَلَّ وَ كَفى خَيْرٌ ممَّا كَثُرَ وَ ألْهَى؛ وَ شَرُّ المَعْذِرَةِ حِينَ يَحْضُرُ المَوْتُ؛ وَ شَرُّ النَّدَامَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَأتِي الجُمُعَةَ إلَّا نَزْرَاً، وَ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَذْكُرُ اللهَ إلَّا هَجْراً؛ وَ مِنْ أعْظَمِ الخَطَايَا اللِّسَانُ الكَذُوبُ؛ وَ خَيْرُ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ؛ وَ خَيْرُ الزَّادِ التَّقْوَى؛ وَ رَأسُ الحِكْمَةِ مَخَافَةُ اللهِ؛ وَ خَيْرُ مَا الْقِيَ في القَلْبِ اليَقِينُ؛ وَ الارْتِيابُ مِنَ الكُفْرِ؛ وَ النِّيَاحَةُ مِنْ عَمَلِ الجَاهِلِيَّةِ؛ وَ الغُلُول مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ؛ وَ السَّكَرُ جَمْرُ النَّارِ؛ وَ الشِّعْرُ مِنْ إبْلِيسَ؛ وَ الخمْرُ جِمَاعُ الإثْمِ؛ وَ النِّسَاءُ حَبَائِلُ إبْلِيسَ؛ وَ الشَّبَابُ۱ شُعْبَةٌ مِنَ الجُنُونِ؛ وَ شَرُّ المَكَاسِبِ كَسْبُ الرِّبَا؛ وَ شَرُّ المآكِلِ أكْلُ مَالِ اليَتِيمِ؛ وَ السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ؛ وَ الشَّقِيّ مَنْ شَقِيَ في بَطْنِ امِّهِ؛ وَ إنَّمَا يَصِيرُ أحَدُكُمْ إلى مَوْضِعِ أرْبَعَةِ أذْرُعٍ٢؛ وَ الأمْرُ إلى آخِرِهِ؛ وَ ملاكُ العَمَلِ خَوَاتِيمُهُ؛ وَ أرْبَى الرِّبَا الكَذِبُ؛ وَ كُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ؛ وَ سِبَابُ المُؤْمِنِ فِسْقٌ؛ وَ قِتَالُ المُؤْمِنِ كُفْرٌ؛ وَ أكْلُ لَحْمِهِ مِنْ مَعْصِيَةِ اللهِ؛ وَ حُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ؛ وَ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللهِ كَفَاهُ؛ وَ مَنْ صَبَرَ ظَفَرَ؛ وَ مَنْ يَعْفُ عَنِ النَّاسِ يَعْفُ اللهُ عَنْهُ؛ وَ مَنْ كَظَمَ الغَيْظَ يَأجُرْهُ اللهُ؛ وَ مَنْ يَصْبِرْ عَلَى الرَّزِيَّةِ يُعَوِّضْهُ اللهُ؛ وَ مَنْ يَتْبَعِ السُّمْعَةَ يُسَمِّعِ
اللهُ بِهِ؛ وَ مَنْ يَصُمْ يُضَاعِفِ اللهُ لَهُ؛ وَ مَنْ يَعْصِ اللهُ يُعَذِّبْهُ؛ اللهُمَّ اغْفِرْ لي وَ لُامَّتِي؛ اللَهُمَّ اغْفِرْ لي وَ لُامَّتِي؛ أسْتَغْفِرُ اللهَ لي وَ لَكُمْ۱.
أجل، هذه الخطبة القصيرة للرسول الأعظم كسائر خطبه القصار، و منها خطبته حين التحرّك إلى غزوة احد٢، تحتوي على مضامين عالية و مهمّة و مترعة بالحكم و الأخلاق و المعارف و الآداب. و من الضروريّ حقّاً أن تُشْرَحَ شرحاً وافياً.
مؤاخذة الله نبيَّه الكريم ليست مؤاخذة حقيقيّة
و نزلت هذه الآية في المنافقين الذين استأذنوا رسول الله صلّى الله
عليه و آله و سلّم في عدم الخروج: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ.
نرى هنا أنّ الله يؤاخذ نبيّه الأكرم. و علينا أن نفهم معنى المؤاخذة هنا. هل كانت على سبيل الجدّ و الحقيقة أو على سبيل مخاطبة الآخرين. و قد ورد نظيره في كثير من الأشباه و الأمثال.
جاء في تفسير «نور الثَّقَلين» عن «عيون أخبار الرضا عليه السلام» أنّ الشيخ الصدوق روى بإسناده عن عليّ بن محمّد بن الجَهم، قال: حضرت مجلس المامون و عنده الرضا عليّ بن موسى عليه السلام. فقال له المأمون: يا ابن رسول الله! أ ليس من قولك: إنّ الأنبياء معصومون؟ قال: بلى.
فقال له المأمون -فيما سأله- فأخبرني عن قول الله عزّ و جلّ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ.
قال الرضا عليه السلام: هذا ممّا نزل (على سبيل): إيَّاكِ أعْنِي وَ اسْمَعِي يَا جَارَه۱. خاطب الله تعالى بذلك نبيّه، و أراد به امّته. و كذلك
يا اخت خَير البَدْو و الحضاره | *** | كيف ترين في فتى فزاره؟ |
أصبح يَهْوى حُرَّةَ معطاره | *** | إيَّاكِ أعنِي و اسمعي يَا جَاره |
إنّي أقول يا فتى فزاره | *** | لا أبتغي الزوج و لا الدعاره |
و لا فراق أهل هذي الجاره | *** | فارحل إلى أهلك باستخاره |
قوله عزّ و جلّ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ۱؛ و قوله تعالى: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا٢.
قال المامون: صَدَقْتَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهِ٣.
و نحن لا نرى شرحاً و توضيحاً لجواب الإمام الرضا عليه السلام أفضل ممّا قاله استاذنا العلّامة الفقيد في تفسير «الميزان». قال: الجملة الاولى (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) دعاء للنبيّ بالعفو نظير الدعاء على الإنسان بالقتل في قوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ٤. و قوله: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ٥ (المقصود
الوليد بن المغيرة). و قوله: قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ۱. (قاتل الله اليهود الذين قالوا: عزير بن الله. و قاتل النصارى الذين قالوا: المسيح بن الله).
و جملة العفو متعلّقة بقوله: لِمَ أَذِنْتَ، أي: في التخلّف و القعود؟! و لمّا كان الاستفهام للإنكار أو التوبيخ، كان معناه:
كان ينبغي أن لا تأذن لهم في التخلّف و القعود. و يستقيم به تعلّق الغاية التي يشتمل عليها قوله: حتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ بقوله: لِمَ أَذِنْتَ، فالتعلّق إنّما هو بالمستفهم عنه دون الاستفهام. و الكلام مسوق لبيان ظهور كذبهم. و أنّ أدنى الامتحان كالكفّ عن إذنهم في القعود يكشف عن فضاحتهم.
و معنى الآية: عفا الله عنك لم أذنت لهم في التخلّف و القعود؟! و لو شئت لم تأذن لهم -و كانوا أحقّ به- حتّى يتبيّن لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين! فيتميّز عندك كذبهم و نفاقهم.
و على هذا فالآية في مقام دعوى ظهور كذبهم و نفاقهم، و أنّهم مفتضحون بأدنى امتحان يمتحنون به. و من مناسبات هذا المقام إلقاء العتاب إلى المخاطب، و توبيخه، و الإنكار عليه. كأنّه هو الذي ستر عليهم فضائح أعمالهم و سوء سريرتهم.
و هو نوع من العناية الكلاميّة يتبيّن به ظهور الأمر و وضوحه و بيانه أزيد من ذلك. فهو من أقسام البيان على طريق: إيَّاكِ أعْني وَ اسْمَعِي يَا جَارَه، فالمراد بالكلام إظهار هذه الدعوى: و هي وضوح قبح عملهم و سريرتهم، لا الكشف عن تقصير الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و سوء تدبيره في إحياء أمر الله، و ارتكابه بذلك ذنباً -حاشاه-
و أولويّة عدم الإذن لهم معناها كون عدم الإذن أنسب لظهور فضيحتهم و أنّهم أحقّ بذلك لما بهم من سوء السريرة، و فساد النيّة؛ لا لانّه كان أولى و أحرى في نفسه و أقرب و أمسّ بمصلحة الدين.
لو كان المنافقون خرجوا في غزوةٍ ما، فلا دأب لهم إلّا الفساد
و الدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعد ثلاث آيات:
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ، لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ۱.
«لو خرج المنافقون معكم أيّها المؤمنون إلى غزوة تبوك، فلا يزيدونكم إلّا خيانة و فساداً و اضطراباً، و يخلّون في عملكم بسرعة، و يخطّطون للفتنة و إثارة الاضطرابات. و فيكم سمّاعون لهم أو بين جنودكم جواسيس منهم و الله عليم بالظالمين. و كان هؤلاء يدبّرون من قبل لإشاعة الفتن و القضاء على الإسلام (في غزوتي احد و الخندق). (و يا رسولنا) إنّهم كانوا يقلّبون لك الامور حتّى انتصر الحقّ، و ظهر أمر الله و هم كارهون»٢.
و لمّا لم يصدر من المنافقين على فرض خروجهم إلّا الضرر، فقد كان الأصلح أن يؤذن لهم في التخلّف ليصان الجمع من الخبال و فساد الرأي
و تفرّق الكلمة؛ و المتعيّن أن يقعدوا فلا يفتنوا المؤمنين بإلقاء الخلاف بينهم و التفتين فيهم. و فيهم ضعفاء الإيمان و مرضى القلوب و هم سمّاعون لهم يسرعون إلى المطاوعة لهم. و لو لم يؤذن لهم فأظهروا الخلاف، كانت الفتنة أشدّ و التفرّق في كلمة الجماعة أوضح و أبين.
و يؤيّد ذلك قوله تعالى بعد آيتين:
وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ۱.
و لذلك كان تخلّفهم و نفاقهم ظاهراً لائحاً من عدم إعدادهم العدّة؛ يتوسّمه في وجوههم كلُّ ذي لبّ؛ فكيف يخفي مثل ذلك على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم؟ و قد نبّأه الله بأخبارهم قَبل نزول هذه السورة (سورة براءة) كراراً. فكيف يصحّ أن يعاتب هاهنا عتاباً جدّيّاً بأنّه لِمَ لم يكف عن الإذن و لم يستعلم حالهم حتّى يتبيّن له نفاقهم و يميّز المنافقين من المؤمنين؟! فليس المراد بالعتاب إلّا ما ذكرناه.
و ممّا تقدّم يظهر فساد قول من قال: إنّ الآية تدلّ على صدور الذنب عنه، لأنّ العفو لا يتحقّق من غير ذنب، و أنّ الإذن كان قبيحاً منه، و من صغائر الذنوب؛ لأنّه لا يقال في المباح: لم فعلتَه؟ لأنّا قد بيّنا مفصّلًا أنّ الآية مسوقة لغرض غير غرض الجدّ في عتاب رسول الله.
النبيّ لا يخطئ، و اجتهاده عين الصواب
و قال العلّامة بعد شرح وجيز: ذكر هذا المتكلّم في كلام له طويل فقال: إنّ ذلك كان اجتهاداً من رسول الله فيما لا وحي فيه من الله و هو جائز و واقع من الأنبياء عليهم السلام. و ليسوا بمعصومين من الخطأ فيه؛ و إنّما العصمة المتّفق عليها خاصّة بتبليغ الوحي ببيانه و العمل به؛ فيستحيل
على رسول الله أن يكذب أو يُخطِئ فيما يبلّغه عن ربّه أو يخالفه بالعمل.
و من هذا الخطأ في الاجتهاد ما جاء في سورة الأنفال، إذ عاتب الله رسوله في أخذ الفدية من اسارى بدر حيث قال:
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ، لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ۱.
«لا حقّ لأيّ نبيّ أن يكون له أسرى. و ما عليه إلّا أن يواصل القتال حتّى تتلطّخ الأرض من دم المشركين و الأدناس، و عليه أن يريق دماً كثيراً في الأرض. فأنتم أيّها المؤمنون من أصحاب رسولنا تريدون الدنيا طمعاً في متاعها المؤقّت و حطامها الزائل، و الله يريد لكم نعمة الآخرة الدائمة الخالدة، و الله عزيز حكيم (عمله من وحي الاستقلال و العزّة، و من وحي الحكمة). و لو لم يجر حكم الله الأزليّ في كتاب التقدير من قبل لمسّكم عذاب عظيم في الفدية التي أخذتموها من الأسرى و أطلقتموهم!»
و كلامه هذا ككلامه الآخر فاسد و لا يمكن قبوله، لأنّ الآية بلفظها لا تعاتب على أخذ الفدية من الأسرى، و إنّما تعاتب على نفس أخذ الأسرى، ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ... و لم تنزل آية و ما وردت رواية في أنّ النبيّ كان أمرهم بالأسر؛ بل روايات القصّة تدلّ على أنّ النبيّ لمّا أمر بقتل بعض الأسرى، خاف الأصحاب أن يقتلهم عن آخرهم. فلهذا كلّموه و ألحّوا عليه في أخذ الفدية منهم و قالوا: إنّنا نجهّز جيشنا و نتقوّى على أعداء الدين بالفدية التي نأخذها منهم. فردّ الله عليهم ذلك، و عدّ طلبهم عرضَ الحياة الدنيا؛ و لم يجز أخذ الأسير و إطلاقه بالفدية. و قال:
على النبيّ أن يصبغ الأرض بإراقة دم المشركين فحسب. و هذا من أحسن الشواهد على أنّ العتاب في الآية متوجّه إلى المؤمنين خاصّة من غير أن يختصّ به النبيّ أو يشاركهم فيه؛ و أنّ أكثر ما ورد من الأخبار في هذا المعنى موضوعة أو مدسوسة.
و يضاف إلى ذلك أنّ العتاب في الآية لو اختصّ برسول الله أو شمله و غيره، لم يكن من العتاب على ما ذكره على الذنب بمعناه اللغويّ و هو تفويت المصلحة معنى و وجه. و كيف يمكن حمل ذلك على المعصية الصغيرة و الخطأ المغتفر؟ إذ يقول في ذيل هذا العتاب: لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ. فلا يرتاب ذو لبّ في أنّ التهديد بالعذاب العظيم لا يتأتّى إلّا مع كون المهدّد عليه من المعصية الكبيرة، لا ترك الأولى أو الذنب و الخطأ الصغير القابل للعفو و الإغماض.
و هذا المعنى أيضاً من الشواهد على أنّ العتاب في الآية متوجّه إلى غير رسول الله.
و بالجملة يظهر من مطالبنا المفصّلة أن لا ذنب و لا خطأ على رسول الله، لا عُرفاً و لا لغة، و ذلك بالدلالة الصريحة المستفادة من الآيات الناطقة بأنّ عدم خروج المنافقين أقرب إلى مصلحة المسلمين الحقيقيّة، و أفضل لاجتماع عسكرهم و جيشهم. إذ إنّه يجعل المسلمين مصونين أكثر من وقوع الفتنة و اختلاف الكلمة.
و هذه العلّة بعينها موجودة لو لم يأذن لهم النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم. ذلك أنّه إذا لم يأذن، و أمر بالخروج، فإنّ المنافقين يظهرون ما كانوا يخفونه من كفرهم و نفاقهم. و هم لم يستعدّوا للخروج قطّ، و عند عدم الإذن، تشتد مخالفتهم و مواجهتهم لرسول الله. و كان النبيّ يعلم أنّهم غير مستعدّين للخروج، و مقام رسول الله و مكانته أجلّ من أن يخفى عليه
هذا المعنى و لا يعلمه، بينما كان المنافقون بمرأى منه و مسمع، و قال الله فيهم:
وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً.
و يضاف إليه أنّ الله خاطب نبيّه لأنّه يعرفهم في لحن قولهم: وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ.
و حينئذٍ كيف يخفى عليه مثل قول أحدهم: ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي. أو قول آخر في رسول الله: هُوَ أُذُنٌ. أو قول من يلمزه في الصدقات: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ. و هذا الكلام كلّه من طلائع النفاق يطلع منهم، و ما وراءه إلّا كفر و خلاف.
فقد كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يتوسّم منهم النفاق و الخلاف؛ و يعلم بما في نفوسهم. و مع ذلك فعتابه صلّى الله عليه و آله و سلّم بأنّه لِمَ لم يكف عن الإذن و لم يستعلم حالهم و لم يميّزهم من غيرهم؟ ليس إلّا عتاباً غير جدّيّ للغرض المذكور.
و أمّا قوله الآخر: إنّ الإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية: حتّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ. فهو خطأ أيضاً. لأنّ الذي تشتمل عليه الآية من المصلحة هو تبيّن الذين صدقوا للنبيّ و علمه هو بالكاذبين، لا مطلق تبيّنهم و لا مطلق العلم بالكاذبين. و قد ظهر ممّا تقدّم أنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم لم يكن يخفى عليه ذلك؛ و أنّ حقيقة المصلحة إنّما كانت في الإذن، و هي سدّ باب الفتنة و اختلاف الكلمة؛ فإنّه كان يعلم من حالهم أنّهم غير خارجين البتة سواء أذن لهم في القعود أم لم يأذن. فلهذا بادر إلى الإذن حفظاً على ظاهر الطاعة و وحدة الكلمة.
و ليس لك أن تتصوّر أنّه لو بان نفاقهم يومئذٍ و ظهر خلافهم بعدم إذن
النبيّ لهم بالقعود لتخلّص الناس من تفتينهم و إلقائهم الخلاف لما في الإسلام يومئذٍ -و هو يوم خروج النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى غزوة تبوك- من الشوكة و القوّة. و له صلّى الله عليه و آله و سلّم من نفوذ الكلمة.
و هذا التصوّر غير صحيح. فإنّ الإسلام يومئذٍ إنّما كان يملك القوّة و المهابة في أعين غير المسلمين حيث أنّهم كانوا يرتاعون من شوكته، و يعظِّمون سواد أهله؛ و يخافون حدّ سيوفهم؛ و أمّا المسلمون في داخل مجتمعهم و بين أنفسهم، فلم يخلصوا بعد من النفاق و مرض القلوب، و لم تستول عليهم بعدُ وحدة الكلمة و جدّ الهمّة و العزيمة. و الدليل على ذلك نفس هذه الآيات و ما يتلوها إلى آخر سورة براءة. و نزلت سورة براءة في السنة التاسعة من الهجرة.
و قد كان المنافقون تظاهروا بمثل ذلك يوم احُد. و قد هجم عليهم العدوّ في عقر دارهم، فرجع ثلث الجيش الإسلاميّ من المعركة بقيادة المنافق عبد الله بن أبي. و لم يؤثّر فيهم عِظَة و لا إلحاح حتّى قالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ۱.
فكان ذلك أحد الأسباب العاملة في انهزام المسلمين٢.
الآيات الواردة في المنافقين المتخلّفين عن غزوة تبوك
أجل، إنّ الآيات القرآنيّة الكريمة تنصّ على أنّ استئذان رسول الله
في التخلّف عن الجهاد يتعلّق بالمنافقين، لا بالمؤمنين، لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ، إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ۱.
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ ، قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ، قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ٢.
(يا نبيّنا)! إذا بلغتك نعمة (كالظفر على العدوّ و الغنيمة) فإنّهم يمتعضون. و إذا نزلت بك مصيبة (كالشدّة و العسرة و البلاء و النقص في النفس و المال) فإنّهم يقولون: نحن صُنّا أنفسنا منذ البداية (و تشبّثنا بعروة الأمان و السلامة بالقعود عن الحرب) و يتولّون و هم فرحون (و يذهبون إلى بيوتهم). قل لن يصيبنا شيء أبداً إلّا ما كتب الله لنا هو مولانا و سيّدنا! و ربّنا و قيّمنا و حارسنا و صاحب اختيارنا و وليّ أمرنا! و على الله فليتوكل المؤمنون (يتّخذوه وكيلًا في شئونهم).
قل: هل تنتظرون بنا إلّا حَسَنتيْن؟ (خصلتان محمودتان و نعمتان عظيمتان) إحداهما: الغلبة و الغنيمة و النصر على الخصم في الدنيا؛ و الاخرى: الشهادة في سبيل الله و الثواب الدائم في القيامة و يوم الجزاء؟! أمّا نحن فننتظر أن يأتيكم العذاب إمّا من الله أو بأيدينا (إمّا يأتي العذاب
منه، أو أنّكم تُقتلون بأيدينا بواسطة ظفرنا و غلبتنا عليكم). فانتظروا هذا العذاب! و نحن ننتظر الشهادة، و الجنّة، و النصر، و الغنيمة؛ و ننتظر لكم الذلّة و النكبة و الموت و القتل بأيدينا ثمّ الدخول إلى جهنّم!.
إدلاء رسول الله بحديث المنزلة لأمير المؤمنين بالجرف
قال الواقديّ: لمّا كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يتجهّز لغزوة تبوك، جاءه خمسة من المنافقين من أصحاب مسجد ضرار و هم: مُعَتِّبُ بْنُ قُشَيرٍ، وَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وَ خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ، وَ أبُو حَبِيبَة بْنُ الأزْعَرِ، وَ عَبْدُ اللهِ بْنُ نَبتَل بْن حَارِث، و قالوا: يا رسول الله! إنّا رُسُل من خلفنا من أصحابنا!
إنّا قد بنينا مسجداً لذي القلّة و الحاجة، و الليلة المَطيرة، و الليلة الشاتية. إذ لا يقدرون على الذهاب إلى مسجد قبا. و نحن نحبّ أن تأتينا فتصلّي بنا فيه. و رسول الله يتجهّز إلى تبوك، فقال لهم: إنّي على جَناح سَفَر و حال شُغل؛ و لو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلّينا بكم فيه. فلمّا نزل بذي أوان۱ راجعاً من تبوك، أمر بهدمه٢.
لمّا خرج رسول الله من المدينة، و نزل عسكره في الجُرْف و ثَنِيَّة الوَدَاع، نصب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه أفضل صلوات الله و ملائكته المقرّبين و أنبيائه المرسلين في المدينة خليفة لأهل المدينة كافّة، و كذلك لأهل رسول الله و عياله و إدارة شئون الامّة.
و عند ما رأي منافقو المدينة عليّاً عليه السلام مكان النبيّ، طفقوا
يبثّون الإشاعات على أنّ النبيّ لم يأخذه معه استثقالًا منه.
جاء في «تفسير عليّ بن إبراهيم» فلمّا اجتمع لرسول الله الخيول، رحل من ثَنِيَّة الوَدَاع و خلّف أمير المؤمنين (عليّ بن أبي طالب عليه السلام) على المدينة فأرجف المنافقون بعليّ و قالوا: مَا خَلَّفَهُ إلَّا تَشَاؤمَاً بِهِ. فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليّاً، فأخذ سيفه و سلاحه، و لحق برسول الله بالجُرْف؛ فقال له رسول الله: يَا عَلِيّ! أ لَمْ اخَلِّفْكَ على المَدِينَةِ؟! قال: نَعَمْ وَ لَكِنَّ المُنَافِقِينَ زَعَمُوا أنَّكَ خَلَّفْتَنِي تَشَاؤُمَاً بي!
فَقَالَ: كَذِبَ المُنَافِقُونَ يَا عَلِيّ! أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ أخِي وَ أنَا أخُوكَ وَ أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟! وَ إنْ كَانَ بَعْدِي نَبِيّ لَقُلْتُ أنْتَ أنْتَ! وَ أنْتَ خَلِيفَتِي في امَّتِي؛ وَ أنْتَ وَزِيرِي وَ أخِي في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ!
فرجع أمير المؤمنين عليه السلام إلى المدينة۱.
و روى جمع عظيم من محدّثي الفريقين و مؤرّخيهم و مفسّريهم في كتبهم هذا الحديث حين خروج رسول الله إلى غزوة تبوك٢.
المستأذنون و المعذّرون في غزوة تبوك
و قال في «إعلام الوري»: هذا الخبر تلقّته الامّة الإسلاميّة بالقبول؛ و رواه الشيعيّ و الناصبيّ. و أجمعت الامّة على قبوله على اختلافها في النحل و تباينها في المذاهب۱.
و لمّا تمّت التعبئة العامّة، و كان عليهم أن يقطعوا تلك المسافة الطويلة في الفيافي القاحلة و الجوّ الحارّ. عرض بعض المنافقين الأثرياء مساعداتهم الماليّة للجيش الإسلاميّ. و فعلوا ذلك ليراهم الناس، و يصل خبر إنفاقهم إلى رسول الله؛ و هكذا أرادوا عدم التحرّك، و المحافظة على أرواحهم من القتل. و نزلت هذه الآيات فيهم:
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ ، وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ ، فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ
وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ۱.
«يا أيّها النبيّ قل للمنافقين سواء أنفقتم رغبة أم قسراً (و أنفقتم على الجيش و الحرب و دعاياتكم الكاذبة) فلن يقبل منكم ذلك أبداً لأنّكم قوم فاسقون (و إنفاقكم من منطلق الرياء!).
و لا مانع من قبول نفقاتهم إلّا أنّهم كفروا بالله و رسوله و لا يأتون الصلاة إلّا و هم كسالى غير راغبين. و لا ينفقون إلّا و هم كارهون أيضاً٢.
فيا أيّها النبيّ لا يعجبك وفور أموالهم و كثرة أولادهم! إنّما يريد الله أن يعذّبهم بها (و يبعدهم عن ساحة قربه) في الحياة الدنيا، و تزهق أنفسهم و هم كافرون».
وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ، لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ٣.
«إنّ المنافقين (من أجل أن يخفوا نفاقهم) يقسمون بالله أنّهم منكم و ما هم منكم لكنّهم يخافون من عظمة الإسلام و شوكته.
لو وجد هؤلاء ملجاً أو مغارات أو مدّخلًا (و علموا أنّهم يعيشون فيه مطمئنين و آمنين من نفوذ كلمة المسلمين و القرآن و رسول الله) لتوجّهوا إليه، و رفعوا العقبات من طريقهم بسرعة، و لتحمّلوا المشقّات، و قاوموا
بشدّة حتّى يهربوا من الساحة.
وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ ، رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ۱.
«و إذا انزلت سورة تدعوهم إلى الإيمان بالله و رسوله استأذنك الأثرياء المتمكّنون من المنافقين أن لا يخرجوا معك. و قالوا لك: دعنا مع النساء و القاعدين بالمدينة (و لا يخرجوا مع المقاتلين لقتال العدوّ و الدفاع عن حريم الدين و الناموس و الشرف) و طبع على قلوبهم فهم لا يفهمون و لا يدركون».
إن المنافقين الذين استأذنوا رسول الله بالقعود هم عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي بن سَلُول، وَ جَدُّ بْنُ قَيْسٍ، و أصحابهم و نظائرهم.
قال الواقديّ: جاء ناس من المنافقين يسأذنون رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من غير علّة و عيب، أو فقر و مسكنة فأذن لهم؛ و كان المنافقون الذين استأذنوا بضعة و ثمانين٢. لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ٣.
و قال الواقديّ: و جاء المعذّرون من الأعراب فاعتذروا إليه،
فلم يعذرهم الله عزّ و جلّ. هم نفر من بني غِفَار منهم خُفَافُ بْنُ إيمَاء بْنُ رَحْضَة. و كانوا اثنان و ثمانون رجلًا۱.
وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ٢.
«و جاء جماعة من الأعراب يعتذرون من الحرب، و يعرضون أعذارهم الحقيقيّة، أو جماعة لم يكن لهم عذر ثابت كما أنّهم لم يعرضوا عذراً مشروعاً مقبولًا، من أجل أن يؤذن لهم بعدم التحرّك. و الذين كذبوا الله و رسوله، قعدوا عن الخروج و القتال. سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم».
قال الشيخ الطبرسيّ في تفسير هذه الآية الكريمة: ... أن يكون المراد المعتذرون كان لهم عذر أو لم يكن. و إنّما ادغمت التاء في الذال لقرب مخرجهما. أو أنّه أراد المقصّرون من التعذير فالمعذّر المقصّر الذي يريك أنّه معذور و لا عذر له. ففي الآية ثلاثة احتمالات:
الأوّل: المقصّرون الذين يعتذرون و ليس لهم عذر عن أكثر المفسّرين.
الثاني: المعتذرون الذين لهم عذر. و هم نفر من بني غفار عن ابن عبّاس؛ قال: و يدّل عليه قوله: وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ. فعطف الكاذبين عليهم. فدلّ ذلك على أنّ الأوّلين في اعتذارهم صادقون.
الثالث: و قيل: معناه الذين يتصوّرون بصورة أهل العذر و ليسوا
كذلك۱.
بَيدَ أنّ الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ عدّ الاحتمال الثاني منجّزاً و قال: الظاهر أنّ المراد بالمعذّرين هم أهل العذر كالذي لا يجد نفقة و لا سلاحاً بدليل قوله: وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا الآية. و السياق يدلّ على أنّ في الكلام قياساً لإحدى الطائفتين إلى الاخرى، ليظهر به لؤم المنافقين و خسّتهم و فساد قلوبهم و شقاء نفوسهم، حيث إنّ فريضة الجهاد الدينيّة و النصرة للّه و رسوله هيّج لذلك المعذّرين من الأعراب و جاءوا إلى النبيّ يستأذنونه؛ و لم يؤثّر في هؤلاء الكاذبين شيئاً٢.
فلهذا نزلت الآيات الآتية لبيان عدم معصية الضعفاء و المرضى و غير المتمكّنين ماليّاً، إذا كانوا مؤمنين و ساروا على نهج رسول الله:
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ٣.
انهمار دموع البكّائين لعدم تمكّنهم من السفر
جاء في التفاسير و التواريخ أنّ هؤلاء الأشخاص الذين بكوا لعدم تمكّنهم من السفر كانوا سبعة سُمّوا البكّائين. و الروايات في أسمائهم مختلفة اختلافاً كبيراً٤.
قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره: جاء البكّاءون إلى رسول الله و هم
سبعة: مِنْ بَنِي عَمْرِ بْنِ عَوْفٍ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، قد شهدوا بدراً لا اختلاف فيه؛ و من بَنِي وَ اقِف هَرَمِيّ بْنُ عُمَيْر؛ و من بَنِي جَارِيَة عَلِيّةُ بْنُ يَزِيد، و هو الذي تصدَّق بعَرضه۱. و ذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أمر بصدقة؛ فجعل الناس يأتون بها. فجاء عَلِيَّة، فقال: يا رسول الله! و الله ما عندي ما أتصدّق به، و قد جعلت عَرضي حلًّا. فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله: قد قبل الله صدقتك.
و من بَنِي مَازِن أبُو لَيْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْن كَعْب؛ و من بَنِي سَلِمَة عَمْرُو بْنُ عَتَمَة؛ و من بَنِي زُرَيْق سَلِمَةُ بْنُ صَخْر؛ و من بَنِي سُلَيْم عِرْبَاضُ بْنُ سَارَيَة السلميّ. هؤلاء جاءوا إلى رسول الله يبكون فقالوا: يا رسول الله! ليس بنا قوّة أن نخرج معك. فأنزل الله هذه الآية٢.
و قال الواقديّ بعد بيان أسماء البكّائين: و لمّا خرج البكّاءون من عند رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، لقي يَاميِنُ بْنُ عُمَيْر أبَا لَيْلَى المَازِنِيّ وَ عَبْدَ اللهِ بْنَ مُقَفَّلِ المُزَنِيّ، و هما يبكيان. فقال: و ما يبكيكما؟
قالا: جئنا إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ليَحْملْنا؛ فلم نجد عنده ما يحملنا عليه؛ و ليس عندنا ما ننفق به على الخروج؛ و نحن نكره أن
تفوتنا غزوة مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
فأعطاهما (يَامِينُ بْنُ عُمَيْر) ناضحاً له، فارتحلاه. و زوّد كلّ رجل منهما صاعين۱ من تمر، فخرجا مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. و حمل العبّاس بن عبد المطّلب منهم رجلين. و حمل عثمان منهم ثلاثة. و بالنتيجة خرج السبعة كلّهم مع رسول الله٢.
و تقدّم لنا الآيتان الآتيتان أعلى نموذج للتضحية في سبيل الله و الفناء في إرادة النبوّة و الولاية. و ذلك في الترغيب و التحريض على الجهاد و لزوم الإيثار و التضحية في طريق رسول الله، و ضرورة تحمّل المشاكل و المشقّات و الجوع و العطش و الدخول في أرض الكافرين و إنفاق القليل و الكثير في سبيل الله:
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ٣ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ٤.
و تجهّز الجيش للتحرّك نحو تبوك. و توجّه من الرجال ثلاثون ألفاً
في اثني عشر ألفاً من الخيول، و خمسة عشر ألفاً۱ من الإبل. و كانت المدّة التي أمضوها حتّى وصلوا إلى تلك الأرض عشرين يوماً. و بقي رسول الله هناك عشرة أيّام و نيّف٢. و استمرّت المدّة عشرين يوماً ثمّ رجعوا.
و كان دليل رسول الله إلى تبوك عَلْقَمَةُ بْنُ الفَغْوَاءِ الخُزَاعِيّ. و مضى رسول الله فوصل «ذا خُشُب». و لمّا كان الجوّ حارّاً، لذا كان يبقى نهاره و يسير ليله. و كان يجمع من يوم نزل «ذا خُشُب» بين الظهر و العصر. يؤخّر الظهر (عن وقت الزوال) حتّى يُبرِد، و يعجّل العصر. ثمّ يجمع بينها. فكلّ ذلك فعله حتّى رجع من تبوك إلى المدينة٣.
وفاة أبي ذرّ الغفاريّ غريباً وحيداً بالربذة بعد أن نفاه عثمان إليها
و كان أبو ذرّ الغِفَاريّ (جُندُبُ بنُ جُنَادَة) تخلّف عن رسول الله ثلاثة أيّام، و ذلك أنّ جَمَلَه كان أعجف (و كان يقوّيه بالطعام و العلف تلك الأيّام. ثمّ جاء راكباً عليه مسافة، و أخيراً عجز الجمل عن المسير في منتصف الطريق) فتركه أبو ذرّ و حمل ثيابه على كتفه، و شدّ أثقاله على ظهره، (و سار وحده ليلحق برسول الله).
و لمّا ارتفع النهار، نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: كان أبو ذرّ. فقالوا: هو أبو ذرّ رحمه الله.
قال رسول الله: أدركوه بالماء فإنّه عطشان! فأدركوه بالماء. و وافى أبو ذرّ رسول الله و معه إدَاوَة٤ فيها ماء.
فقال رسول الله: يا أبا ذرّ! معك ماء و عطشت؟!
فقال: نعم يا رسول الله! بأبي أنت و امِّي انتهيت إلى صخرة و عليها ماء السماء فذقته، فإذا هو عذب بارد فقلتُ: لا أشربه حتّى يشربه حبيبي رسول الله. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: رَحِمَكَ اللهُ! تَعِيشُ وَحْدَكَ، وَ تَمُوتُ وَحْدَكَ وَ تُبْعَثُ وَحْدَكَ، وَ تَدْخُلُ الجَنَّةَ وَحْدَكَ! يَسْعَدُ بِكَ قَوْمٌ مِنْ أهْلِ العِرَاقِ يَتَوَلَّوْنَ غُسْلَكَ وَ تَجْهِيزَكَ وَ دَفْنَكَ۱!
و لمّا نفاه عثمان إلى الربذة٢، مات بها ابنه ذرّ. فوقف أبو ذرّ على قبره فقال: رَحِمَكَ اللهُ يَا ذَرُّ، لَقَدْ كُنْتَ كَريِمَ الخُلْقِ بَارَّاً بِالوَالِدَينِ! وَ مَا عَلَيّ في مَوْتِكَ مِنْ غَضَاضَةٍ؛ وَ مَا لي إلى غَيْرِ اللهِ مِنْ حَاجَةٍ؛ وَ قَدْ شَغَلَنِي الاهْتِمَامُ لَكَ عَنِ الاغْتِمَامِ بِكَ! لَوْ لا هَوْلُ المُطَّلَعِ لأحْبَبْتُ أنْ أكُونَ مَكَانَكَ!
فَلَيْتَ شِعْرِي مَا قَالُوا لَكَ؟ وَ مَا قُلْتَ لَهُمْ؟
ثُمَّ قَالَ: اللَهُمَّ إنَّكَ فَرَضْتَ لَكَ عَلَيهِ حَقَّاً وَ فَرَضْتَ لي عَلَيْهِ حُقُوقَاً فَإنِّي قَدْ وَهَبْتُ لَهُ مَا فَرَضْتَ لي عَلَيْهِ مِنَ الحُقُوقِ فَهَبْ لَهُ مَا فَرَضْتَ عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِكَ! فَإنَّكَ أوْلَى بَالحَقِّ وَ الكَرَمِ مِنِّي!
و كانت لأبي ذرّ غنيمات يعيش هو و عياله منها، فأصابها داء يقال له: النُّقار٣، فماتت كلّها. فأصاب أبا ذرّ و ابنته الفقر و العسر و الجوع
الشديد فماتت أهله.
قالت ابنته: يا أبتِ! أصابنا الجوع، و بقينا ثلاثة أيّام لم نأكل شيئاً!
قال أبو ذرّ: يا بنيّة! قومي بنا إلى الرمل نطلب القَتّ۱ (و هو نبت له حبّ) فصرنا إلى الرمل، فلم نجد شيئاً.
قالت البنت: فجمع أبي رملًا، و وضع رأسه عليه، و رأيت عينه قد انقلبت. فبكيت و قلت له: يا أبت! كيف أصنع بك، و أنا وحيدة؟
فقال أبي: يا بنيّتي! لا تخافي، فإنّي إذا متّ جاءك مِن أهل العراق مَن يكفيك أمري. فإنّه أخبرني حبيبي رسول الله في غزوة تبوك، فقال: يا أبا ذرّ! تعيش وحدك، و تموت وحدك، و تبعث وحدك، و تدخل الجنّة وحدك! يسعد بك أقوام من أهل العراق، يتولّون غسلك و تجهيزك و دفنك! فإذا أنا متُّ فمدّي الكساء على وجهي، ثمّ اقعدي على طريق العراق؛ فإذا أقبل ركب، فقومي إليهم و قولي: هذا أبو ذرّ صاحب رسول الله قد توفّي.
قال الراوي: فدخل إليه قوم من أهل الربذة فقالوا: يا أبا ذرّ ما تشتكي؟
قال: ذنوبي! قالوا: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربّي! قالوا: فهل لك بطبيب؟! قال: الطبيب أمرضني.
قالت ابنته: لمّا عاين أبي الموت، سمعته يقول: مرحباً بحبيب أتى على فاقة. لا أفلح من ندم. اللهمّ خنّقني خناقك، فوحقك إنّك لتعلم أنّي احبّ لقاءك.
قالت ابنته: فلمّا مات، مددت الكساء على وجهه، ثمّ قعدت على طريق العراق. فجاء نفر، فقلت لهم: يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ! هذا أبو ذرّ
صاحب رسول الله قد توفي.
فنزلوا و مشوا يبكون فجاؤوا، فغسّلوه، و كفّنوه، و دفنوه. و كان فيهم مَالِكُ الأشْتَرِ النَّخَعِيّ. روي أنّه قال: دفنته في حلّة كانت معي قيمتها أربعة آلاف درهم۱.
قالت ابنته: كنت اصلّي بصلاته، و أصوم بصيامه فبينما أنا ذات ليلة نائمة عند قبره، إذ سمعته يتهجّد بالقرآن في نومي كما كان يتهجّد به في حياته٢. فقلت: يا أبه! ما ذا فعل بك ربّك؟!
فَقَالَ: يَا بُنَيَّةُ! قَدِمْتُ عَلَى رَبٍّ كَريِمٍ؛ رَضِيَ عَنِّي وَ رَضِيتُ عَنْهُ وَ أكْرَمَنِي وَ حَبَانِي فَاعْمَلِي وَ لَا تُغَرِّي٣.
و روى كبار الخاصّة و العامّة في كتبهم لقاء أبي ذرّ لرسول الله في
غزوة تبوك. و إخبار النبيّ باستشهاده و موته غريباً، و تجهيزه، و تكفينه من قبل جماعة من أهل العراق.۱
و كان أبو ذرّ الغفاريّ من أعاظم صحابة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم. و قيل: ليس كمثله و مثل سلمان و المقداد بن الأسود الكنديّ أحد في الفقه و الفضل٢.
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
...۱
قصّة أبي خيثمة، و لحوقه برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلم
و جاء في «تفسير عليّ بن إبراهيم» في ذيل قوله تعالى: وَ لَوْ أَرادُوا
إن اللَّعِينَ أبُوكَ فَارْمِ عِظَامَهُ | *** | أنْ تَرْمِ تَرْمِ مُخَلَّجاً مَجْنُونَا |
يُمْسِي خَميصَ البَطْنِ مِنْ عَمَلِ التُّقَى | *** | وَ يَظَلُّ مِنْ عَمَلِ الخَبِيثِ بَطِينَا |
الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً۱ الآية: و تخلّف عن رسول الله قوم من أهل ثبات و بصائر لم يكن يلحقهم شكّ و لا ارتياب؛ و لكنّهم قالوا: نلحق برسول الله. منهم أبُو خَيْثَمَة. ثمّ ذكر قصّته٢. و لكن لمّا ذكرها الواقديّ بصورة أكثر تفصيلًا لذلك ننقلها فيما يأتي: و كان أبو خَيْثَمَة قد تخلّف عن رسول الله. و كان لا يُتّهم في إسلامه و لا يُغمَص عليه؛ فعزم له على ما عزم. فرجع بعد أن سار رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عشرة أيّام، حتّى دخل على امرأتين له في يوم حارّ. فوجدهما في عريشين لهما. (العريش حجيرة يستظلّ بها و هي شبه الخيمة. تصنع من خشب و ورق و غيرهما) قد رشّت كلّ واحدة منهما عريشها و برّدت له فيه ماءً، و هيّأت له فيه طعاماً.
فلمّا انتهى إليهما، قام على العريشين، فقال:
سُبْحَانَ اللهِ! رَسُولُ اللهِ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَ مَا تَأخَّرَ في الضَّحِ٣ وَ الرِّيحِ وَ الحَرِّ يَحْمِلُ سِلَاحَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَ أبُو خَيْثَمَةَ في ظِلَالٍ بَارِدٍ وَ طَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَ امْرَأتَيْنِ حَسْنَاوَيْنِ مُقِيمٌ في مَالِهِ؛ مَا هَذَا بِالنَّصَفِ.
ثمّ قال: و الله، لا أدخل عريش واحدة منكما حتّى أخرج فألحق برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
فأناخ ناضحه و شدّ عليه قَتَبَه، و تزوّد، و ارتحل. فجعلت امرأتاه تكلّمانه و لا يكلّمهما؛ و سار حتّى أدرك عُمَيْرَ بْنَ وَهَبِ الجُمَحِيّ بوادي
القرى يريد النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم. فصحبه فترافقا، حتّى إذا دَنَوا من تبوك. قال أبو خَيْثَمَة: يا عُمَيْرُ! إنّ لي ذنوباً و أنت لا ذنب لك! فلا عليك أن تخلّف عنّي حتّى آتي رسول الله قبلك، فأعتذر إليه و أتوب.
ففعل عمير، فسار أبو خَيْثَمَة حتّى إذا دنا من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و هو نازل بتبوك قال الناس: هذا راكب الطريق.
قال رسول الله: كن أبا خيثمة؛ فقال الناس: يا رسول الله هذا أبوخيثمة.
فلمّا أناخ أبو خيثمة ناضحه، أقبل فسلّم على النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم. فقال رسول الله: أوْلَى لَكَ۱ يَا أبَا خَيْثَمَة.
ثمّ أخبر رسول الله الخبر. فقال له رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم خيراً و دعا له٢.
قصّة أبي جلاس المنافق و توبة مخيّش بن حميّر
المؤرّخون قالوا: و كان رهط من المنافقين يسيرون مع النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم في تبوك. منهم: وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِت، و الجُلاسُ بْنُ سُوَيد بْن الصَّامِت، وَ مَخْيّش بْنُ حُمَيْرِّ، وَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبْ. (و عند ما كانوا يسيرون). فقال ثعلبة: تحسبون أنّ قتال بني الأصفر (حرب الروم) كقتال
غيرهم؟! و الله لكأنّا بكم غداً مقرّنين في الحبال! (و كان يقول هذا) إرجافاً برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و ترهيباً للمؤمنين (من القتال).
(ثمّ) قال وديعة: ما لي أرى قُرّاءنا هؤلاء أوعَبنا بطوناً، و أ كذَبنا ألسنةً، و أجبنَنا عند اللقاء؟!
و قال الجلاس (بعده: انظروا) هؤلاء سادتنا و أشرافنا و أهل الفضل منّا! و الله لئن كان محمّد صادق، لنحن شرّ من الحمير! و الله، لوددت أنّي أُقاضي على أن يُضرَب كلّ رجل منّا مائةَ جلدة، و أنّا ننفلت من أن ينزل فينا القرآن بمقالتكم! فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لعمّار بن ياسر: أدرك القوم فإنّهم قد احترقوا؛ فسلهم عمّا قالوا؛ فإن أنكرو، فقل: بلى، قد قلتم: كذا و كذا!
فذهب إليهم عمّار، فقال لهم. فأتوا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يعتذرون إليه.
فقال وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، و رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على ناقته، و قد أخذ بحَقَب (الحزام الذي يشدّ به حقو البعير) ناقة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و رجلاه تنسفان الحجارة، و هو يقول: يا رسول الله! إنّما كنّا نخوض و نلعب! و لم يلتفت إليه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فأنزل الله عزّ و جلّ فيه:
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ ، وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ ، لَا تَعتَذِرُواْ قَد كَفَرتُم بَعدَ إِيمَٰنِكُم إِن نَّعفُ عَن طَآئِفَة مِّنكُم نُعَذِّب طَآئِفَةَ بِأَنَّهُم كَانُواْ
.
مُجرِمِينَ ۱.
قالوا: و كان عُمير ربيب جُلاس، و هو أحد المؤمنين برسول الله. و عند ما قال جُلاس: لَنحن شرّ من الحمير، ردّ عليه عُمَير و قال له: فأنت شرّ من الحمار! و رسول الله الصادق و أنت الكاذب!
و كان للجلاس دية في الجاهليّة على بعض قومه، و كان محتاجاً. فلمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم المدينة، أخذها له فاستغنى بها (و جاء الجُلاس عند رسول الله، و حلف إنّه ما تكلّم بهذا الكلام الذي فيه كفر). فأنزل الله على نبيّه هذه الآية:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا (همّوا بقتل رسول الله، أو إخراجه من المدينة، أو أي ضرب من ضروب الفساد و الفوضى) وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ (في مقابل المحبّة و الإخلاص المحض) فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ٢.
و قال مَخْيّش بْنُ حُمَيِّر: قد و اللهِ يا رسول الله قعد بي، (و منعني من الخيرات) اسمي و اسم أبي.
قصّة نفاق زيد بن اللصيت و عشق ذي البجادين رسول الله
و كان الذي عفي عنه في هذه الآية مخيّش بن حميّر -فسمّاه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عبد الرحمن أو عبد الله- و سأل الله
عزّ و جلّ أن يقتل شهيداً و لا يعلم بمكانه (شهيد مجهول أو بعبارة أفضل شهيد مجهول القبر) فقتل يوم اليَمَامَة، و لم يوجد له أثر۱.
قالوا: و أمر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كلّ بطن من الأنصار أن يتّخذوا لواءً و راية. و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قد دفع راية بني مالك بن النجّار إلى عُمَارة بْنِ حَزْمٍ. فأدرك رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فأعطاه الراية. قال عُمارة: يا رسول الله! لعلّك وجدتَ عَلَيّ!
قَالَ: لَا وَ اللهِ وَ لَكِنْ قَدِّمُوا القُرْآنَ! وَ كَانَ أكْثَرَ أخْذاً لِلقُرْآنِ مِنْكَ! وَ القُرْآنُ يُقَدِّمُ وَ إنْ كَانَ عَبْدَاً مُجَدَّعَاً٢.
و عند ما أصبح رسول الله في منزل من المنازل في طريق تبوك، ضلّت نَاقَتهُ القَصْوَاء. فخرج أصحابه في طلبها. و عند رسول الله عُمَارَة بْنِ حَزْمٍ و هو عقبيّ بدريّ قتل يوم اليمامة شهيداً و كان في رحله زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ أحد بني قَيْنُقَاع. كان يهوديّاً فأسلم، (و لكنّه) نافق. و كان فيه خبث اليهود و غِشّهم. و كان مُظاهراً لأهل النفاق. فقال زيد و هو في رحل عُمارة، و عُمارة عند النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: أ ليس محمّد يزعم أنّه نبيّ، و أنّه يخبركم عن خبر السماء، و هو لا يدري أين ناقته؟!
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنّ منافقاً يقول: إنّ محمّداً يزعم أنّه نبيّ، و أنّه يخبركم بأمر السماء، و لا يدري أين ناقته!
و إنّي و الله ما أعلم إلّا ما علّمني الله، و قد دلّني عليها، و هي في
.
الوادي في شِعب كذا و كذا -و أشار لهم إليه- حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتّى تأتوا بها. فذهبوا فجاؤوا بها.
فرجع عمارة إلى رَحله، فقال: العجب من شيء، حدّثناه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. أنّها عن مقالة قائل أخبره الله عنه! قال: كذا و كذا، الذي قال زيد.
قال: فقال رجل ممّن كان في رَحل عُمارة، و لم يحضر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: زيد و الله قائل هذه المقالة قبل أن تطلع علينا (و ما إن سمع عُماره هذا الكلام قام) و أقبل على زيد بن اللُّصَيْت يَجَاه في عنقه. و يقول: و اللهِ، إنّ في رَحلِي لَداهِية و ما أدري. اخرج يا عدوّ الله من رحلي!
(قيل:) و كان الذي أخبر عمارة بمقالة زيد أخوه عَمْرو بن حَزْم. و كان في الرحل مع رهط من أصحابه. و الذي ذهب فجاء بالناقة من الشعب الحَارِثُ بْنُ خَزَمَة الأشْهَلِيّ؛ وجدها و زمامها قد تعلّق في شجرة.
فقال زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْت: لكأنّي لم اسلم إلّا اليوم. قد كنت شاكّاً في مُحَمَّد، و قد أصبحت و أنا فيه ذو بَصيرة. و أشهد أنّه رسول الله. فزعم الناس أنّه تاب. و كان خَارِجَةُ بنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ يُنكر توبته و يقول: لم يزل فَسْلًا حتّى مات۱.
و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنّكم ستأتون غداً إن
شاء الله عين تبوك! و إنّكم لن تنالوها حتّى يضحي النهار. فمن جاءها فلا يمسّ من مائها شيئاً حتّى آتي.
قال مُعَاذُ بْنُ جَبَل: فجئناها (مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم) و قد سبق إليها رجلان، و العين مثل الزلال، تَبِضّ بشيء من ماء (تسيل قليلًا قليلًا). فسألهما (رسول الله): هل مَسِسْتُما من مائها شيئاً؟!
قالا: نعم! فسبّهما النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و قال لهما ما شاء الله أن يقول. ثمّ غَرَفُوا بأيديهم قليلًا قليلًا (بأمر النبيّ) حتّى اجتمع في شَنّ (قربة خلقة)، ثمّ غسل النبيّ فيه وجهَه و يديه، ثمّ أعاده فيها، فجاءت العين بماء كثير، فاستقى الناس. ثمّ قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لمعاذ: يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد مُلِئ جِناناً۱!
وفاة ذي البجادين في تبوك، و ذهاب النبيّ إلى قبره
و كان عَبْدُ اللهِ ذُو البِجَادَيْنِ من مُزَيْنَة؛ و كان يتيماً لا مال له. قد مات أبوه فلم يورثه شيئاً. و كان عمّه مَيِّلًا فأخذه و كفله حتّى كان قد أيسر، فكانت له إبل و غنم و رقيق. فلمّا قدم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم
المدينة، جعلت نفسه (تشتاق إلى زيارة رسول الله)، و تتوق إلى الإسلام؛ و لا يقدر عليه من عمّه، حتّى مضت السنون و المشاهد كلّها، فانصرف رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من فتح مكّة راجعاً إلى المدينة.
فقال عَبْدُ اللهِ لعمّه: يا عمّ! قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمّداً! فائذن لي في الإسلام!
فقال عمّه: و الله لئن اتّبعت مُحَمَّدَاً، لا أترك بيدك شيئاً كنت أعطيتكه إلّا نزعته منك حتّى ثوبيك.
فقال عَبْدُ العُزَّى و هو يومئذٍ اسمه: و أنا و الله متّبع محمّداً و مسلم، و تارك عبادة الحجر و الوثن. و هذا ما بيدي فخذه!
فأخذ كلّ ما أعطاه، حتّى جرّده من إزاره.
فأتى عبد الله امّه فقطعت بِجَاداً لها باثنين (البجاد كساء فيه خطوط)۱ فائتزر بواحد، و ارتدى بالآخر. ثمّ أقبل إلى المدينة و كان بوَرِقَان (جبل من حِمى المدينة).
فاضطجع في المسجد إلى السحر. ثمّ صلّى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الصبح. و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يتصفّح الناس إذا انصرف من الصبح، فنظر إليه، فأنكره.
فقال: من أنت؟ فانتسب له، (و قال: اسمي عبد العزّى.) فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: أنت عَبْدُ اللهِ ذُو البِجَادَيْنِ! ثمّ قال: انزل منّي قريباً. فجعله من أضيافه، و كان يعلّمه القرآن حتّى قرأ قرآناً كثيراً.
و كان (ذُو البِجَادَيْن) رجلًا صيّتاً، فكان يقوم في المسجد، فيرفع
صوته بالقراءة.
فقال عمر: يا رسول الله، أ لا تسمع إلى هذا الأعرابيّ يرفع صوته بالقرآن حتّى قد منع الناس القراءة؟!
فقال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: دعه يا عمر! فإنّه خرج مهاجراً إلى الله و رسوله!
و لمّا كان الناس يتجهّزون إلى تبوك، جاء إلى النبيّ و قال: يا رسول الله! ادع الله لي بالشهادة.
قال رسول الله: أبلغني لِحاء۱ سمُرَة (قشر شجرة سمرة) فأبلغه لحاءَ سَمُرة. فربطها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على عضده، و قال: اللَهُمَّ إنِّي احَرِّمُ دَمَهُ على الكُفَّارِ! فقال: يا رسول الله! ليس هذا أردت.
قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: (يا ذا البجادين)! إنّك إذا خرجت غازياً في سبيل الله، فأخذتك الحمّى، فقتلتك، فأنت شهيد! وَ وَقَصَتْك دابّتك فأنت شهيد! لا تُبالِ بأيّةٍ كان!
و لمّا نزلوا تبوكاً؛ و أقاموا بها أيّاماً، توفي عبد الله ذو البجادين.
فكان بَلَالُ بْنُ الحَارِثُ يقول: حضرتُ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و مع بِلَالُ المؤذِّن شُعْلَةٌ من نار عند القبر واقفاً بها. و إذا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في القبر، و إذا أبو بكر، و عمر يدلِّيانه إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و هو يقول: أدْنِيا إليّ أخاكما!
و لمّا هيّأه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لشقّه، قال: اللهمّ إنّي قد أمسيتُ عنه راضياً فارض عنه!
فقال عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُود: يا ليتني كنت صاحب اللحد۱.
و أقام رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بتبوك عشرين ليلة يصلّي قصراً، و هرقل يومئذٍ بحمص٢.
و قال رجل من بَنِي سَعْد بن هُذَيْم: جئت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و هو جالس بتبوك في نفر من أصحابه، و هو سابعهم، فوقفت، فسلّمت.
فقال: اجلس! فقلت: يا رسول الله، أشْهَدُ أن لَا إلَهَ إلَّا اللهُ؛ وَ أنَّكَ رَسُولُ اللهِ. قال: أفْلَحَ وَجْهَكَ. ثمّ قال: يا بلال! أطعمنا! فبسط بلال نطِعاً (بساط من الأديم) ثمّ جعل يخرج من حَميتٍ٣ له، فأخرج خرجات بيده من تمر معجون بالسَّمن و الأقِط. ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: فأكلنا حتّى شبعنا. فقلت: (أنا) يا رسول الله! إن كنت لآكل هذا وحدي!
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: الكَافِرُ يَأكُلُ في سَبْعَةِ أمْعَاءٍ٤ وَ المُؤْمِنُ يَأكُلُ في مِعيٍ وَاحِدٍ. قال: ثمّ جئته من الغد متحيّناً لغدائه، لأزداد في الإسلام يقيناً. فإذا عشرة نفر حوله. قال: هات! أطعمنا يا بلال! فجعل بلال يخرج من جراب تمر بكفّه قبضة قبضة. فقال له رسول الله: أخْرِجْ وَ لَا تَخَفْ مِنْ ذي العَرْشِ إقْتَارَاً! فجاء بلال بالجراب، فنثره. قال: فَحزرتُه مُدَّين. فوضع النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يده على
التمر، ثمّ قال: كُلُوا بِاسْمِ اللهِ! فأكل القوم، و أكلت معهم. و كنت صاحبَ تمرٍ. قال: فأكلت حتّى ما أجد له مسلكاً. و بقي على النِّطع مثل الذي جاء به بلال، كأنّنا لم نأكل منه تمرة واحدة.
ثمّ عدتُ من الغد. و عاد نفر حتّى باتوا، فكانوا عشرة أو يزيدون رجلًا أو رجلين. فقال رسول الله: يا بلال أطعمنا. فجاء بلال بذلك الجراب بعينه أعرفه، فنثره. و وضع رسول الله يده عليه فقال: كُلُوا بِاسْمِ اللهِ. فأكلنا حتّى نهلنا. ثمّ رفع بلال مثل الذي صبّ. ففعل مثل ذلك ثلاثةأيّام۱.
إرسال هرقل رجلًا للتحقيق في علامات النبوّة
و كان هِرْقَل (إمبراطور الروم) قد بعث رجلًا من غسّان إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فينظر إلى صفته و إلى علاماته، إلى حمرة في عينيه، و إلى خاتم النبوّة بين كتفيه، و سأل فإذا هو لا يقبل الصدقة. فوعى (ذلك الرجل) أشياء من حال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، ثمّ انصرف إلى هرقل، فذكر له ذلك. فعلم هرقل أنّه نبيّ حقّ من الله.
فدعا قومه إلى التصديق به. فأبوا حتّى خافهم على ملكه. و هو في موضعه لم يتحرّك، و لم يزحف (لقتال المسلمين). و كان الذي خبّر النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم من بَعْثِه أصحابه و دنوّه إلى أدنى الشام باطلًا. و لم يرد ذلك و لم يهمّ به.
و شاور رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أصحابه في التقدّم فقال عمر بن الخطّاب: إن كنت امرتَ بالمسير، فسر!
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: لو امرتُ به ما استشرتكم فيه!
قال (عمر): يا رسول الله! فإنّ للروم جموعاً كثيرة، و ليس بها أحد من أهل الإسلام؛ و قد دنوت منهم حيث ترى، و قد أفزعهم دنوّك. فلو رجعت هذه السنة حتّى ترى، أو يحدث الله لك في ذلك أمراً۱.و كان عبد الله بن عمر يقول: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بتبوك، فقام يصلّي من الليل. و كان يكثر التهجّد من الليل (يفيق و ينام) و لا يقوم إلّا استاك.
المعجزات التي ظهرت من رسول الله في غزوة تبوك
و كان إذا قام يصلّي، صلّى بفناء خيمته. فيقوم ناس من المسلمين فيحرسونه. فصلّى ليلة من تلك الليالى. فلمّا فرغ أقبل على من كان عنده، فقال: اعْطِيتُ خَمْسَاً مَا اعْطِيهُنَّ أحَدٌ قَبْلِي: بُعِثْتُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وَ إنَّمَا كَانَ النَّبِيّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ. وَ جُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدَاً وَ طَهُورَاً، أيْنَمَا أدْرَكَتْنِي الصَّلَاةُ تَيَمَّمْتُ وَ صَلَّيْتُ، وَ كَانَ مَنْ قَبْلِي يُعْظِمُونَ ذَلِكَ، وَ لَا يُصَلُّونَ إلَّا في كَنَائِسِهِمْ وَ البِيَعِ. وَ احِلَّتْ لي الغَنَائِمُ آكُلُهَا، وَ كَانَ مَنْ قَبْلِي يُحَرِّمُونَها. وَ الخَامِسَةُ هِيَ مَا هِيَ؟ هِيَ مَا هِيَ؟ هِيَ مَا هِيَ؟ ثَلَاثَاً.
قَالُوا: وَ مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: قِيلَ لي: سَلْ! فَكُلُّ نَبِيّ قَدْ سَألَ! فَهِيَ لَكُمْ وَ لِمَنْ شَهِدَ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللهُ٢.
إنّ ما كان في غزوة تبوك من المصاعب، و المشاكل، و الجوع، و العطش، و عدم وجود الراحلة لجميع الجنود، مع بُعد الطريق، و شدّة الحرّ في الصيف، كلّ ذلك أضفى على هذه الغزوة طابعاً خاصّاً: و سمّي جيشها: جَيْشُ العُسْرَةِ۱. و اتُّخذ هذا الاسم من الآية الآتية:
لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ٢.
ذكر الشيخ الطبرسيّ: نزلت في غزاة تبوك و ما لحق المسلمين فيها من العسرة حتّى همّ قوم بالرجوع، ثمّ تداركهم لطف الله سبحانه. قال الحَسَن: كان العشرة من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم يركب الرجل ساعة ثمّ ينزل فيركب صاحبه كذلك. و كان زادهم الشعير
المُسَوَّس، و التمر المُدَوَّد، و الإهَالَةَ السَّخِنَة۱.
و كان النفر منهم يخرجون ما معهم من التميرات بينهم. فإذا بلغ الجوع من أحدهم، أخذ التمرة فلاكها حتّى يجد طعمها، ثمّ يعطيها صاحبه، فيمصّها، ثمّ يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتّى يأتي على آخرهم فلا يبقى من التمرة إلّا النواة٢.و روي عن أبي سعيد الخدريّ أنّه قال: أصبح رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في طريقه إلى تبوك، و لا ماء مع عسكره. فشكوا ذلك إليه صلّى الله عليه و آله و سلّم و هو على غير ماء. قال عَبْدُ اللهِ بنُ أبي حَدْرَد: رأيت رسول الله استقبل القبلة فدعا، و لا و الله ما أرى في السماء سحاباً. فما برح رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يدعو حتّى أنّي لأنظر إلى السحاب تأتلف من كلّ ناحية. فما رام مقامه حتّى سحّت علينا السماء بالرواء. فكأنّي أسمع تكبير رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في المطر. ثمّ كشف الله السماء عنّا من ساعتها، و إذ الأرض إلّا غُدُرٌ يصبّ بعضها في بعض.
فسُقي الناس و ارتووا عن آخرهم؛ و سمعت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول: أشْهَدُ إنِّي رَسُولُ اللهِ.
فقلت لرجل من المنافقين: وَيْحَكَ! أ بَعْدَ هَذَا شَيءٌ؟ فَقَالَ: سَحَابَةٌ
مَارَّةٌ. و هو أوْسُ بْنُ قَيْظِيّ. و يقال: زَيْدِ بْنُ اللُّصَيْت۱.
يقول قَتَادَة ضمن حديث مفصّل عند الرجوع من تبوك أيضاً: كانت معي إداوَة فيها ماء و رَكْوَةٌ٢ لي أشرب فيها. و توضّأ رسول الله من ماء الإداوة لصلاة الصبح، ففضل فضلة، فقال: احْتَفِظْ بِمَا في الإدَاوَةِ وَ الرَّكْوَة فَإنَّ لَهَا شَأناً.
ثمّ صلّى بنا رسول الله صلاة الصبح، فقرأ سورة المائدة. ثمّ ركب فلحق الجيش عند زوال الشمس و نحن معه. و قد كادت تقطع أعناق الرجال و الخيل عطشاً. فدعا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بالرَّكوة، فأفرغ ما في الإداوة فيها. فوضع أصابعه عليها فنبع الماء من بين أصابعه. و أقبل الناس فاستقوا؛ و فاض الماء حتّى تَرَوّوا، و أروَوْا خيلهم و ركابهم. و كان في العسكر اثنا عشر ألف بعير، و يقال: خمسة عشر ألف بعير، و الناس ثلاثون ألفاً، و الخيل عشرة آلاف. و ذلك قول النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لأبي قتادة: احْتَفِظْ بِمَا في الرَّكْوَةِ وَ الإدَاوَةِ٣.
و روى ابن أبي سَبْرَة، عن موسى بن سعيد، عن عِرْباض بْنِ سَارِيَة قال: كنت ألزم باب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في الحضر و السفر. و قال بعد شرح مفصّل لمعجزاته:
كنّا حول قبّة رسول الله في ليلة من الليالى، و كان من عادة النبيّ أنّه
.
يتهجّد في الليل، فقام تلك الليلة يصلّي. فلمّا طلع الفجر، ركع ركعتي الفجر، و أذّن بلال و أقام، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بالناس. ثمّ انصرف إلى فِناء قبّته، فجلس و جلسنا حوله. و كنّا عشرة مع الفقراء الذين كانوا عنده.
فقال (رسول الله): هل لكم في الغَداء؟ قال عِرباض: فجعلت أقول في نفسي: أي غداء؟ فدعا بلالَ بالتمر، فوضع يده عليه في الصحفة، ثمّ قال: كُلُوا بِاسْمِ اللهِ. فأكلنا، و الذي بعثه بالحقّ حتّى شبعنا، و إنّا لعشرة. ثمّ رفعوا أيديهم منها شبعاً، و إذا التمرات كما هي.
قال رسول الله: لَوْ لا أنِّي أسْتَحْيِي مِنْ رَبِّي لأكَلْنَا مِنْ هَذَا التَّمْرِ حتّى نَرِدَ المَدِينَةَ عَنْ آخِرِنَا.
و طلع غُلَيِّمٌ من أهل البلد، و أخذ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم التمرات بيده فدفعها إليه. فولّى الغلام يلوكُهنَّ.
فلمّا أجمع رسول الله المسير من تبوك، أرمل الناس إرمالًا شديداً. فشخص على ذلك الحال، حتّى جاء الناس إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يستأذنونه أن ينحروا ركابهم، فيأكلوها. فأذن لهم. فلقيهم عمر بن الخطّاب و هم على نحرها؛ فأمرهم أن يمسكوا عن نحرها، ثمّ دخل على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في خيمة له، فقال: أذنتَ للناس في نحر حَمولتهم يأكلونها؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: شَكَوا إلَيّ مَا بَلَغَ مِنْهُمُ الجُوعُ فَأذِنْتُ لَهُمْ، يَنْحَرُ الرُّفْقَةُ البَعِيرَ وَ البَعِيرَيْنِ وَ يَتَعَاقَبُونَ فِيمَا فَضَلَ مِنْ ظَهْرِهِمْ وَ هُمْ قَافِلُونَ إلى أهْلِيهِمْ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! لَا تَفْعَلْ! فَإنْ يَكُنْ للنَّاسِ فَضْلٌ مِنْ ظَهْرِهِمْ
يَكُنْ خَيْرَاً؛ فَالظَّهْرُ اليوْمَ رِقَاقٌ۱.
و لكن ادع بفضل أزوادهم ثمّ اجمعها فادع الله فيها بالبركة كما فعلتَ في منصرفنا من الحديبيّة حيث أرملنا، فإنّ الله عزّ و جلّ يستجيب لك!
فنادى منادي رسول الله: من كان عنده فضل من زاد فليأت به. و أمر رسول الله بالأنطاع فَبُسِطت. فجعل الرجل يأتي بالمُدّ الدقيق، و السويق، و التمر. و يأتي الآخر بالقبضة من الدقيق، و السويق، و التمر، و الكِسَر. فيوضع كلّ صنفٍ من ذلك على حِدَة. و كلّ ذلك قليل.
فكان جميع ما جاءوا به من الدقيق و السويق و التمر ثلاثة أفراق٢
حزراً. ثمّ قام النبيّ، فتوضّأ، و صلّى ركعتين، ثمّ دعا الله عزّ و جلّ أن يبارك فيه.
فكان أربعة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يحدّثون جميعاً حديثاً واحداً، حضروا ذلك و عاينوه: أبُو هُرَيْرَة، وَ أبُو حُمَيْد السَّاعِدِيّ، و أبُو زُرْعَة الجُهَنِيّ: مَعْبَد بْنُ خَالِد، و سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيّ. قالوا: ثمّ انصرف رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و نادى مناديه: هَلُمّوا إلى الطعام، خذوا منه حاجتكم!
و أقبل الناس، فجعل كلّ من جاء بوعاء، ملأه. فقال بعضهم: لقد طرحتُ يومئذٍ كِسرة من خبز، و قبضة من تمر. و لقد رأيت الأنطاع تفيض؛ و جئت بجرابين فملأت إحداهما سَويقاً، و الآخر خبزاً، و أخذت في ثوبي دقيقاً بمقدار ما يكفينا إلى المدينة. فجعل الناس يتزوّدون الزاد حتّى نهلوا عن آخرهم، حتّى كان آخر ذلك أن اخذت الأنطاع و نُثر ما عليها. فجعل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يقول و هو واقف:
أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ ألَّا اللهُ، وَ أنِّي عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ أشْهَدُ أنْ لَا يَقُولُهَا أحَدٌ مِنْ حَقِيقَةِ قَلْبِهِ ألَّا وَقَاهُ اللهُ حَرَّ النَّارِ۱.
على ضوء هذا الحديث، لنا مع عمر بحث كلاميّ. فنقول: عند ما جاء الناس، و استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في نحر إبلهم
بسبب ما أصابهم من الجوع. و هم أيضاً قالوا لك: أذن لنا رسول الله. فحينئذٍ كيف يحقّ له أن تنهاهم عن النحر؟ أ ليس أمرك هذا أمراً في مقابل أمر رسول الله؟ و هل يُبقي هذا الأمر قيمة لأمر رسول الله؟ و هل يفوق هذا الأمر المنبعث عن تفكيرك الذاتي بمصلحة الأمر على المصلحة التي أصدر رسول الله أمره على أساسها؟
و ثانياً: ثمّ تأتي إلى رسول الله في خيمته و تقول له: لا تَفْعَلْ! و هذا الكلام يحمل طابع الأمر، و قد جاء بعد الأمر الذي أصدره رسول الله، و بعد أن انشغل الناس بنحر إبلهم۱.
و ثالثاً: إنّ السبب الذي ذكرته في عدم النحر هو أنّ الإبل ضعيفة، و إنّ المسلمين لا يحصلون على نصيب وافر من لحمها، و ينبغي الصبر حتّى تسمن، و يفاد من لحمها فائدة كبيرة.
و هذا سبب عجيب جدّاً، لأنّ قيمة كلّ شيء تظهر عند الحاجة إليه. و لأنّ قيمة منّ من لحم الإبل عند المجاعة تفوق قيمة ثلاثمائة كيلو غرام منه عند الرخاء و السرّاء. و ما هو المانع من نحر كلّ قافلة بعيراً أو بعيرين، فيشبع الجميع، و يزول الجوع.
و رابعاً: إذا كنت تعرف النبيّ باستجابة الدعاء، و رأيت البركة في طلبه، كما ذكرت مصداق ذلك في غزوة الحديبيّة، فإنّ النبيّ نفسه هو الذي أمر بالنحر، و أمره في هؤلاء الناس أنفسهم. و هو الذي دعا و طلب من الله أن يعوّض الناس عن إبلهم المنحورة أضعافاً مضاعفة. و إنّ الطريق الذي يعطي الله فيه لا يقتصر على نفض الناس ما فضل من متاعهم في الأنطاع، و دعاء رسول الله بالبركة فيه. إنّ الله يبارك من أي طريق شاء. و ما من طريق خاصّ لفعله تعالى بحيث لو سدّ، فلا طريق غيره. فهذا تفكير خاطئ. أ لم تقرأ هذه الآية الكريمة الشريفة:
وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً۱.
«كلّ من اتّقى الله (و صان نفسه من الذنوب و الأعمال غير المرضيّة) فإنّ الله يجعل له مخرجاً (من المشاكل و المصائب و الحوادث و الفتن و البلايا و المعاصي و شرّ الشيطان الرجيم) (بحيث إنّه لا يصطدم بكلّ عقبة، و الطريق ثابت له في المقصد و المراد الذي يتقدّم من أجله، و له مهرب من الشرور و الآفات) و يرزقه من حيث لا يحتسب. و من يتوكّل على الله، فالله كافيه، و يبلغه أمره و تقديره (و نفوذه و قدرته مع كلّ شيء يتعلّق به أمره من أجل تحقّقه) و قد جعل الله لكلّ شيء قدراً.
و يستبين لنا من هذه الآيات أنّ الله ليس له طريق محدّد لإيصال الرزق و سائر الشؤون الجسميّة و الروحيّة، و الملكيّة و الملكوتيّة، و الظاهريّة و الباطنيّة، بل له طرق عديدة لا نهاية لها لإنفاذ أمره و مراده. بل هو نفسه يوجد الطريق. و لذلك على المؤمن الملتزم أن يتوكّل عليه، و يعتقده وكيلًا و كفيلًا له في كافّة شئونه، و يفوّض إليه لا إلى غيره. و حينئذٍ لا يكفيه الله أمره فحسب، بل هو ذاته له، و هو كافيه.
و نحن نعلم أنّ طلب المعجزة من النبيّ دائماً، و إجباره على إحداث امور خارقة عمل غير صحيح. و ينبغي أن يكون طلب النبيّ و دعاؤه، لتحقيق امور غير عاديّة عند الضرورة و في الظروف الاستثنائيّة. و إذا أراد نبيّ ما من الله يرزقه رزقاً وافراً كثيراً باستمرار، من طرق غير عاديّة و غير طبيعيّة، فهذا مخالف للأدب حتّى لو رزقه الله ذلك.
فلهذا رأينا رسول الله قال في رواية عِرباض:
لَوْ لا أنِّي أسْتَحْيي مِنْ رَبِّي لأكَلْنَا مِنْ هَذَا التَّمْرِ حتّى نَرِدَ المَدِينَةَ عَنْ آخِرِنَا.
و خامساً: لا نقرأ في هذه الرواية جملة صدّق فيها رسول الله عمر، أو أجابه على الأقلّ. و ما نقرأه فحسب أنّ منادي رسول الله نادى ... و لعلّ هذا المنادي كان من أعوانه، و لم يرد تضييع أمر عمر في عدم نحر الإبل، حتّى لو ضاع أمر النبيّ. فلهذا جعل النبيّ أمام أمر واقع، إذ بُسطتِ الأنطاع، و نُفِضَ الفضل من المتاع، و قُسر النبيّ على الدعاء. صلّى الله عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ!
و لعلّ لسوء أدب عمر ما ورد في «السيرة الحلبيّة»۱ عن «صحيح مسلم»، و في «البداية و النهاية» عن البيهقيّ، عن أحمد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح أو عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخُدريّ، إذ نقلوا هذه الرواية و لم يذكروا فيها نهي عمر الناسَ عن نحر الإبل. كما حذفوا نهيَ عمر رسولَ الله، و أوردوا هذه العبارة مكانه: إنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ.
عبور النبيّ الحجر و ديار ثمود و أمره بعدم التوقّف و عدم شرب الماء
لمّا توجّه النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى تبوك، مرّ بالحِجر٢. و الحجر محلّ ديار ثَمُود و النبيّ صالح على نبيّنا و آله و عليه
الصلاة و السلام. و تقع هناك بئر صالح التي شربت منها الناقة فلاحقوها. و في الخبر أنّ الناس كانوا يمرّون بالحجر، و يستقون من مائها و يعجنون. فنادى منادي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: لا تشربوا من مائها، و لا تتوضّئوا منه للصلاة. و ما كان من عجين فاعلفوه الإبل!
قال سَهْلُ بنُ سَعْد السَّاعِديّ: كنت أصغر من في القافلة، و كنت مقرئهم القرآن في تبوك. فلمّا نزلنا بالحجر، عجنتُ لأصحابي، و بعد أن اختمر العجين، ذهبت أطلب حطباً، فإذا منادي النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم ينادي: إنّ رسول الله يأمركم ألّا تشربوا من ماء بئرهم! فجعل الناس يهرقون ما في أسقيتها؛ و قالوا: يا رسول الله! قد عجنّا. قال رسول الله: اعلفوه الإبلَ! قال سهل: فأخذت ما عجنت فعلفت نِضوَين كانا أضعف ركابنا۱. و أمر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أن لا يدخل أحد من المسلمين بيوتهم إلّا باكين، و قال: لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ القَوْمِ المُعَذَّبِينَ إلَّا أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ. فَإنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيهِمْ فَيُصِيبَكُمْ مَا
أصَابَهُمْ۱.
قال أبو سعيد الخُدريّ: جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم بخاتم وجده في الحجر في بيوت المعذّبين. فأعرض عنه، و استتر بيده أن ينظر إليه، و قال: ألْقِهِ! فألقاه فما أدري أين وقع حتّى الساعة. و عند ما حاذى رسول الله أهل الحجر و ديارهم قال: هذا وادِي النَّفْرِ. أي: الأرض التي ينبغي أن ينتقل عنها. فعجّل الناس بإخراج ركابهم منه. و رأيت رسول الله قد أسرع بناقته، و ترك ذلك الوادي وراءه٢.
و عند ما كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في تبوك، عقد قبل رجوعه صلحاً بينه و بين ملك إيلَه، و أهل جِرْبَاء، وَ أذْرُح٣. و بعث خالد بن الوليد إلى دَوْمَةِ الجَنْدَلِ للظفر بالاكَيْدِر بْنِ عَبْدِ المَلِكِ رجل من بني كنانة، و كان ملكاً عليها و كان نصرانيّاً. و قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لخالد: «إنّك ستجده يصيد البقر»!
فخرج خالد مع جنوده حتّى بلغ من حصنه بمنظر العين في ليلة مقمرة. و كان الاكيدر على سطح له و معه امرأته. و باتت البقر تحكّ بقرونها باب القصر. فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا (الصيد) قطّ؟!
قال: لا و الله! قالت: فمن يترك هذا؟!
قال: لا أحد. فنزل، فأمر بفرسه فاسرج له، و ركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له يقال له: حسّان، فركب و خرجوا (من القصر بأسباب الصيد
و النبال و الأقواس).
فلمّا خرجوا، تلقّتهم خيل النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فأخذته. (بَيدَ أنّ أخاه حسّاناً قاومهم) و قتلوا أخاه. و كان عليه قباء من ديباج مخوص بالذهب. فاستلبه خالد، فبعث به إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قبل قدومه عليه. و لمّا وصل القباء، جعل المسلمون يلمسونه بأيديهم و يتعجّبون منه.
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: أ تعجبون من هذا؟! فو الذي نفسي بيده، لمناديل سَعد بن مَعَاذ في الجنّة أحسن من هذا.
و لمّا قدم (خالد بن الوليد) باكيدر على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حقن له دمه، فصالحه على الجزية، ثمّ خلّى سبيله. فرجع إلى قريته. و ذُكر أنّ رسول الله بعث خالداً في أربعمائة و عشرين فارساً۱.
قصّة العقبة و عزم المنافقين على قتل رسول الله
و حدثت واقعة العقبة في منتصف الطريق عند الرجوع من تبوك إلى المدينة و فيما يأتي قصّة العقبة:
لمّا كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ببعض الطريق، (و كان عليه أن يجتاز العقبة (المرقى الصعب من الجبال أو الطريق في أعلى الجبال)، مكر به اناس من المنافقين و ائتمروا أن يَطرحوه من عقبة في الطريق. فلمّا بلغ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم تلك العقبة، أرادوا أن يسلكوها معه، فاخبر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم خبرَهم،
فقال للناس: اسلكوا بطنَ الوادي، فإنّه أسهل لكم و أوسع. فسلك الناس كلّهم بطنَ الوادي، و سلك رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم العقبة. و أمر عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ أن يأخذ بزمام الناقة يقودها. و أمر حُذَيْفَةَ بْنَ اليمانِ يسوق من خلفه.
فبينا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في العقبة، إذ سمع حِسّ القوم قد غَشوه. فغضب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و أمر حذيفة أن يردّهم.
فرجع حذيفة إليهم، و قد رأوا غضب رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمِحجَنٍ في يده. و ظنّ القوم أنّرسول الله قد اطلع على مكرهم، فانحطّوا من العقبة مسرعين حتّى خالطوا الناس (و ضاعوا بينهم).
معرفة عمّار بن ياسر و حُذيفة بن اليمان بأسماء منافقي العقنة
و أقبل حذيفة حتّى أتى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فساق به. فلمّا خرج رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من العقبة، نزل الناس. فقال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: يا حذيفة! هل عرفت أحداً من الركب الذين رددتهم؟! قال: يا رسول الله! عرفت راحلة فلان و فلان. و كان القوم مُتَلَثِّمِين، لم ابصرهم من أجل ظلمة الليل!
و لمّا مضى الليل، و جاء الصبح، قال اسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ۱:
يَا رَسُولَ اللهِ! ما منعك البارحة من سلوك الوادي؟! فقد كان أسهل من العقبة!
قال (رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم): يَا أبَا يَحْيَى! أ تدري ما أراد البارحة المنافقون، و ما اهتمّوا به (و نووه)؟! قالوا: نتبعه في العقبة. فإذا أظلم الليل عليه، قطعوا أنساع۱ راحلتي و نَخَسوها حتّى يطرحوني من راحلتي.
فقال اسيد: يا رسول الله! قد اجتمع الناس، و نزلوا، فَمُرْ كلّ بطن و (قبيلة) أن تقتل الرجل الذي همّ بهذا (و هو منها). فيكون الرجل من عشيرته هو الذي يقتلْه! و إن أحببت و الذي بعثك بالحقّ فنبّئني بهم، فلا تبرح حتّى آتيك برءوسهم، و إن كانوا في النَّبِيت٢، فكفيتُكم (شرّهم)!
و مُر سيّد الخزرج، يكفك شرَّ مَن في ناحيته!
فإنّ مثل هؤلاء يُتركون يا رسول الله؟! حتّى متى نُداهنهم! و قد صاروا اليوم في القلّة و الذلّة؛ و ضرب الإسلام بجِرانه، فما يُستبقى من هؤلاء!
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لُاسيد: إنّي أكره أن يقول الناس: إنّ محمّداً لمّا انقضت الحرب بينه و بين المشركين (اطمأنّ و) وضع يده في قتل أصحابه! قال اسيد: يا رسول الله! هؤلاء ليسوا بأصحاب!
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: أ ليس يُظهرون شهادة أن
لا اله إلّا الله؟! قال: بلى، و لا شهادة لهم!
قال (رسول الله): أ ليس يظهرون أنّي رسول الله؟ قال: بلى، و لا شهادة لهم.
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: فَقَدْ نُهِيتُ عَنْ قَتْلِ اولَئِكَ۱.
و عن أبي سعيد الخُدريّ قال كان أهل العقبة الذين أرادوا بالنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم ثلاثة عشر رجلًا، قد سمّاهم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لحُذَيفة و عَمّار٢.
و عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ إنّ عَمَارَ بْنَ يَاسِرٍ تنازع و رجل من المسلمين في شيءٍ فتسابّا. فلمّا كاد الرجل يعلو عمّاراً في السِّباب، قال عمّار: كم كان أصحاب العقبة؟ قال: اللهُ أعْلَمُ! قال عمّار: أخبرني عن علمك بهم! فسكت الرجل.
فقال من حضر لعمّار: بيّن له ما سألته عنه! و أراد عمّار من سؤاله شيئاً قد خفي على الحاضرين. و كره الرجل أن يحدّثه. و أقبل القوم على الرجل ليقل! فقال: كنّا نتحدّث أنّهم كانوا أربعة عشر رجلًا.
قال عمّار: فإنّك إن كنت منهم، فهم خمسة عشر رجلًا؟!
فقال الرجل: مهلًا! أذكّرك الله أن تفضحني!
قال عمّار: و الله ما سمّيت أحداً، و لكنّي أشهد أنّ الخمسة عشر رجلًا، اثنا عشر منهم حَرْبٌ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ {فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}۱.
و عن الزهريّ قال: لمّا نزل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عن راحلته، و هي باركة، اوحيَ إليه. فلهذا قامت راحلته تجرّ زمامها. حتّى لقيها حُذيفة بن اليمان، فأخذ بزمامها، فاقتادها. و حين رأى رسول الله جالساً، أناخها ثمّ جلس عندها حتّى قام رسول الله، فأتاها، و قال: من هذا؟ قلتُ: أنا حذيفة يا رسول الله!
فقال الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم: يا حذيفة! إنّي مسرٌّ
إليك أمراً فلا تذكرنّه! إنّي نُهيت أن اصلّي على فلان، و فلان: رهط من المنافقين! و سمّاهم لحذيفة۱، و لم يُعلم أحداً غيره. فلمّا توفي رسول الله، كان عمر إذا مات رجل ممّن يظنّ أنّه من رهط العقبة، أخذ بيد حذيفة، فقاده إلى الصلاة عليه. فإن مشى معه حذيفة، صلّى عليه عمر. و إن انتزع يده من يد عمر و أبى أن يمشي، انصرف من الصلاة عليه٢.
أحاديث الخاصّة في واقعة العقبة عند الرجوع من غدير خمّ
و روى المجلسيّ رضوان الله عليه عن «الاحتجاج» للطبرسيّ، «و التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ عليه السلام» قائلًا: لقد رام الفجرة الكفرة ليلة العقبة قتل رسول الله، و رام من بقي من المنافقين بالمدينة قتل أمير المؤمنين؛ فما قدروا على مغالبة ربّهم. حملهم على ذلك حسدهم لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في أمير المؤمنين عليه السلام، لما فخّم من أمره، و عظم من شأنه عليه السلام. بالأخص أنّه خرج من المدينة و قد كان خلفه عليها و قال له: إنّ جبرائيل أتاني و قال لي:
يَا مُحَمَّدُ! أنَّ العَلِيّ الأعْلَى يُقْرِئُكَ السّلَامَ وَ يَقُولُ لَكَ: يَا مُحَمَّدُ! أمَّا أنْتَ تَخْرُجُ وَ يُقِيمُ عَلِيّ، أوْ تُقِيمُ أنْتَ وَ يَخْرُجُ عَلِيّ، لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ الحديث٣.
ثمّ نقل هذه الحادثة مفصّلًا. و قد أحجمنا عن ذكرها كلها خشية الإطالة.
و ذكر المفسّرون في تفسير الآية الكريمة: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا
وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا، و قد أوردنا تفسيرها أنّ أحد الاحتمالات في قوله: وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا: هو همّهم بقتل رسول الله في العقبة۱.
و نصّ عليّ بن إبراهيم، و الشيخ الطبرسيّ على هذا الموضوع. و قال الشيخ الطبرسيّ أيضاً: قيل: نزلت في عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي بْنِ سَلُولٍ، و كان قد ذهب مع رسول الله في غزوة بني المُصْطَلَق. قال لأصحابه: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ٢. و يقصد من الأعزّ نفسه، و الأذلّ رسول الله (و العياذ بالله)! سمع ذلك منه زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ، و أخبر رسول الله بالمدينة. و أنكر عبد الله بن أبي. و عنّف الأنصار زيد بن أرقم الذي كان صغيراً على إخباره النبيّ. و حلف عبد الله بن أبي إنّه لم يقل، و إنّ زيد بن أرقم يكذب، فنزلت الآية و فضحت عبد الله٣.
أجل، ذكر أصحابنا رضوان الله تعالى عليهم قصّة الفتك٤ برسول الله
و العزم على اغتياله بالتفصيل، و ذلك عند رجوعه من حجّة الوداع و نصب أمير المؤمنين عليه السلام إماماً و خليفة في غدير خمّ. و إن كانوا قد ذكروا ذلك أيضاً عند الرجوع من غزوة تبوك. بَيدَ أنّه موجز جدّاً. و المهمّ محاولة اغتيال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم التي اتّفق عليها أربعة عشر رجلًا من المنافقين كان يعرفهم عمّار بن ياسر و حذيفة بن اليمان على ضوء روايات الشيعة. و ذلك عند رجوع رسول الله من الجحفة إلى المدينة في عقبة الأبواء. و كان هدف اولئك من تلك المحاولة الإخلال بخلافة مولى الموحّدين و إمامته. و ترك خطبة الغدير ناقصة، مع عدم البيعة المجدّدة من قبل رسول الله بالمدينة.
و بعد أن روى الشيخ العيّاشيّ حديث الغدير في الحجفة و خطبة رسول الله هناك مفصّلًا عن جابر بن أرقم، عن أخيه زيد بن أرقم، قال في
ذيله: و كان إلى جانب خبائي (في الجحفة) خباء لنفر من قريش، و هم ثلاثة، و معي حذيفة بن اليمان، فسمعنا أحد الثلاثة و هو يقول: و الله إنّ محمّداً لأحمق، إن كان يرى أنّ الأمر يستقيم لعليّ بعده. و قال آخر: أ تجعله أحمق؟ أ لم تعلم أنّه مجنون؟ قد كاد أن يصرع عند امرأة ابن أبي كبشة۱. و قال الثالث: دعوه إن شاء أن يكون أحمق. و إن شاء أن يكون مجنوناً! و الله ما يكون ما يقول أبداً.
فغضب حذيفة من مقالتهم؛ فرفع جانب الخباء، فأدخل رأسه إليهم، و قال: فعلتموها و رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بين أظهركم، و وحي الله ينزل عليكم؟! و الله لأخبرنّه بكرة بمقالتكم!
فقالوا له: يا أبا عبد الله! إنّك لها هنا؛ و قد سمعت ما قلنا؛ اكتم علينا؛ فإنّ لكلّ جوار أمانة! قال حذيفة: ما هذا من جوار الأمانة، و لا من مجالسها. ما نصحت الله و رسوله إن أنا طويت عنه هذا الحديث!
فقالوا له: يا أبا عبد الله! فاصنع ما شئت! فو الله لنحلفنّ أنّا لم نقل، و أنّك قد كذبت علينا! أ فتراه يصدّقك، و يكذّبنا، و نحن ثلاثة؟ فقال لهم حذيفة: أمّا أنا فلا ابالى إذا أدّيت النصيحة إلى الله و إلى رسوله، فقولوا ما شئتم أن تقولوا! ثمّ مضى حتّى أتى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و عليّ عليه السلام إلى جانبه محتب بحمائل سيفه، فأخبره بمقالة القوم.
فبعث إليهم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فأتوه. فقال لهم:
ما ذا قلتم؟
فقالوا: و الله ما قلنا شيئاً. فإن كنت بُلِّغتَ عنّا شيئاً، فمكذوب علينا! فهبط جبرائيل بهذه الآية: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا.
و قال علي عليه السلام عند ذلك: ليقولوا ما شاءوا! و الله إنّ قلبي بين أضلاعي؛ و إنّ سيفي لفي عنقي. و لئن همّوا، لأهمّنّ.
فقال جبرائيل للنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: اصبر للأمر الذي هو كائن! فأخبر النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم عليا عليه السلام بما أخبره به جبرائيل، فقال: إذاً أصبر للمقادير.
قال (الإمام الصادق) أبو عبد الله عليه السلام: و قال رجل من الملأ شيخ: لَئِنْ كُنَّا بَيْنَ أقْوَامِنَا كَمَا يَقُول هَذَا، لَنَحْنُ أشَرُّ مِنَ الحَمِيرِ. و قال شابّ إلى جنبه: لَئِنْ كُنْتَ صَادِقاً لَنَحْنُ أشَرُّ مِنَ الحَمِيرِ۱.
و روى الشيخ العيّاشيّ أيضاً عن جعفر بن محمّد الخزاعيّ، عن أبيه، قال: سمعت الإمام الصادق عليه السلام يقول: لمّا قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في غدير خمّ، مرّ المقداد بجماعة منهم و هم يقولون: وَ اللهِ إنْ كُنَّا وَ قَيْصَرَ لَكُنَّا في الخَزِّ وَ الوَشْي وَ الدِّيبَاجِ وَ النَّسَاجَاتِ؛ وَ إنَّا مَعَهُ في الأخْشَنَيْنِ: نَأكُلُ الخَشِنَ وَ نَلْبَسُ الخَشِنَ حتّى إذَا دَنَا مَوْتُهُ وَ فَنِيَتْ أيَّامُهُ وَ حَضَرَ أجَلُهُ، أرَادَ أنْ يُوَلِّيَها عَلِيَّاً مِنْ بَعْدِهِ أمَا وَ اللهِ لَيَعْلَمَنَّ.
قال: فمضى المقداد و أخبر النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فقال
صلّى الله عليه و آله: الصَّلَاةُ جَامِعَةً، قال: فقالوا: قد رمانا المقداد. (و قالوا لأنفسهم): نحلف عليه. قال: فجاؤوا حتّى جثوا بين يدي رسول الله، و قالوا: بآبائنا و امهاتنا يا رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم! و الذي بعثك بالحقّ، و أكرمك بالنبوّة، ما قلنا ما بلغك؛ لا و الذي اصطفاك على البشر، (ما قلنا)!
فقال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِكَ يَا مُحَمَّدُ لَيْلَةَ العَقَبَةِ وَ مَا نَقَمُوا إلَّا أنْ أغْنَاهُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ۱، كَانَ أحَدُهُمْ يَبِيعُ الرُّءُوسَ؛ وَ آخَرُ يَبِيعُ الكُرَاعَ، وَ يَفْتِلُ القَرَامِلَ، فَأغْنَاهُمُ اللهُ بِرَسُولِهِ؛ ثُمَّ جَعَلُوا حَدَّهُمْ وَ حَدِيدَهُمْ عَلَيْهِ٢.
و ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره في ذيل الآية المباركة: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ٣ خطبة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في غدير خمّ مفصّلًا، إلى أن قال: ألَا وَ إنَّهُ سَيَرِدُ عَلَيّ الحَوْضَ مِنْكُمْ رِجَالٌ يَدْفَعُونَ عَنِّي! فَأقُولُ: رَبِّ أصْحَابِي! فَيُقَالُ:
يَا مُحَمَّدُ! إنَّهُمْ أحْدَثُوا بَعْدَكَ؛ وَ غَيَّرُوا سُنَّتَكَ؛ فَأقُولُ: سُحْقَاً سُحْقاً٤.
ثمّ عرض حوادث مسجد الخيف و الغدير مفصّلًا. و ذكر قول رسول الله: ألَا مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيّ مَوْلَاهُ، اللَهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ، وَ عَادِ مَنْ عَادَاهُ، وَ انْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَ أحِبَّ مَنْ أحَبَّهُ. ثمّ قال: اللَهُمَّ اشْهَدْ عَلَيْهِمْ وَ أنَا مِنَ الشَّاهِدِينَ.
فاستفهمه عمر من بين أصحابه، فقال: يا رسول الله! هذا من الله و من رسوله؟! فقال رسول الله: نعم من الله و رسوله! إنَّهُ أمير المؤمنين وَ إمَامُ المُتَّقِينَ وَ قَائِدُ الغُرِّ المُحَجَّلِينَ، يُقْعِدُهُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى الصِّرَاطِ فَيُدْخِلُ أوْليِاءَهُ الجَنَّةَ وَ أعْدَاءَهُ النَّارَ.
فقال أصحابه الذين ارتدّوا بعده: قد قال محمّد في مسجد الخيف ما قال، و قال هاهنا ما قال و إن رجع إلى المدينة يأخذنا بالبيعة له.
فاجتمعوا أربعة عشر رجلًا، و ائتمروا على قتل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و قعدوا له في العقبة. و هي عقبة أرْشَى بين الجحفة و الأبواء. فقعدوا سبعة عن يمين العقبة، و سبعة عن يسارها لينفّروا ناقة رسول الله.
و لمّا جنّ الليل، تقدّم رسول الله في تلك الليلة العسكر، فأقبل ينعس على ناقته؛ فلمّا دنا من العقبة، ناداه جبرائيل: يا محمّد! إنّ فلاناً و فلاناً قعدوا لك. فنظر رسول الله خلفه، فقال: مَن هذا خلفي؟ فقال حذيفة بن
اليمان: أنا يا رسول الله، حذيفة بن اليمان!
قال (رسول الله): سمعتَ ما سمعتُ؟ قال: بلى. قال: فاكتم!
ثمّ دنا رسول الله منهم فناداهم بأسمائهم. فلمّا سمعوا نداء رسول الله، مرّوا و دخلوا في غمار الناس، و قد كانوا عقلوا رواحلهم، فتركوها. و لحق الناس برسول الله، و طلبوهم. و انتهى رسول الله إلى رواحلهم، فعرفهم. فلمّا نزل (من العقبة)، قال: مَا بَالُ أقْوَامٍ تَحَالَفُوا في الكَعْبَةِ إنْ مَاتَ مُحَمَّدٌ أوْ قُتِلَ أنْ لَا يَرُدُّوا هَذَا الأمْرَ في أهْلِ بَيْتِهِ أبَدَاً.
فجاؤوا إلى رسول الله، فحلفوا إنّهم لم يقولوا من ذلك شيئاً، و لم يريدوه، و لم يهمّوا بشيء في رسول الله. فأنزل الله (هذه الآية): يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا (أن لا يردّوا هذا الأمر عن أهل بيت رسول الله) وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا (من قتل رسول الله) وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ۱.
فرجع رسول الله إلى المدينة؛ و بقي بها المحرّم و النصف من صفر، لا يشتكي شيئاً. ثمّ ابتدأ به الوجع الذي توفي فيه٢.
و روى السيّد ابن طاووس عن أبي سعيد السمّان بإسناده أنّ إبليس أتى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في صورة شيخ حسن السمت، فقال: يا محمّد! ما أقلّ من يبايعك على ما تقول في ابن عمّك: عليّ؟!
فأنزل الله (هذه الآية):
وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ۱.
(و يومئذٍ) اجتمع جماعة من المنافقين الذين نكثوا عهد النبيّ، فقالوا: قد قال محمّد بالأمس في مسجد الخيف ما قال: و قال هاهنا ما قال. فإن رجع إلى المدينة، يأخذ البيعة لعليّ؛ و الرأي أن نقتل محمّداً قبل أن يدخل المدينة.
ثمّ ذكر ابن طاووس مضمون هذه الرواية التي نقلناها آنفاً عن «تفسير القمّيّ». ذكرها برواية أبي سعيد السمّان؛ و ختمها بهذه التتمّة٢.
و عقد فصلًا مستقلّا بعد هذه الرواية في كلام الزمخشريّ، و قال: فصل فيما ذكر الزَّمَخْشَرِيّ في كتاب «الكَشَّاف». و هو: ممّن لا يتّهم (بالتشيّع أو التحيّز لأهل البيت) عند أهل الخلاف (من العامّة). فقال (ما هذا لفظه) في تفسير قوله تعالى: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ٣: عن ابن جريح (إنّ المنافقين) وقفوا لرسول الله ليلة الثنيّة٤ على العقبة، و هم اثنا عشر رجلًا لِيَفْتِكُوا بِهِ مِنْ قَبْلِ غَزَاةِ تَبُوكَ وَ قَلَّبُوا لَكَ الامُورَ وَ دَبَّرُوا لَكَ الحِيَلَ وَ المَكائِدَ وَ دَوَّرُوا الآرَاءَ في إبْطَالِ أمْرِكَ.
و قرئ: وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ (بتخفيف الراء) حتّى جَاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أمْرُ اللهِ٥.
و كذلك قال الزمخشريّ في كتاب «الكشّاف» في تفسير قوله تعالى: وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا۱ ما هذا لفظه: «و هو الفَتْكُ برسول الله. و ذلك عند مرجعه من تبوك؛ توافق خمسة عشر منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة بالليل. و أخذ عمّار بن ياسر رضي الله عنه بزمام راحلته يقودها، و حذيفة خلفه يسوقها. فبينا هو كذلك إذ سمع حذيفة توقّع أخفاف الإبل و قعقعة السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثّمون، فقال: إليكم أعداء الله فهربوا٢.
و نستخلص ممّا تقدّم أنّ محاولتين كانتا قد جرتا لاغتيال رسول الله في العقبة. الاولى في غزوة تبوك، و الاخرى عند الرجوع من حجّة الوداع.
و أنّ وجه الشبه بين المحاولتين سواء في العقبة، أم عند قيادة عمّار و سياقة حُذَيفة أم في عدد المنافقين أربعة عشر كانوا أم خمسة عشر، لا يمكن الحكم بوحدتهما من منظار تاريخيّ إذ اتّخذا طابعين و صورتين، و إنّما هما حادثتان متّسمتان بمواصفات متميّزة.
و عبارة الزمخشريّ في «الكشّاف» كما رأينا على التعدّد، بَيدَ أنّها ليست كما استظهرها ابن طاووس و قال: في الرجوع من الغدير؛ و الزمخشريّ غير متّهم بالتشيّع.
ذلك أنّ ما جاء في عبارة الزمخشريّ هو أنّ إحدى الواقعتين كانت قبل غزوة تبوك؛ مع أنّنا نعلم أنّ واقعة الغدير كانت بعد غزوة تبوك. و كانت غزوة تبوك في شهر رجب إلى شهر رمضان سنة ٩ ه، و من الطبيعيّ
أنّ واقعة العقبة التي حدثت عند رجوعه صلّى الله عليه و آله و سلّم كانت في أوائل شهر رمضان؛ لكنّ واقعة الغدير كانت في السنة العاشرة من الهجرة، و لا بدّ أن تكون واقعة العقبة قد حدثت بعد اليوم الثامن عشر إلى أيّام تلتها.
بَيدَ أنّا لمّا كنّا نعلم أنّ قصّة ثالثة لم تقع في العقبة، بحيث أراد المنافقون فتك رسول الله في العقبة، ينبغي أن نقول: إنّ تغييراً قد حصل في كيفيّة بيان الواقعتين في كلام رواة «الكشّاف»، أي: الرواة الذين نقل الزمخشريّ عنهم.
و نعود إلى أصل قصّة تبوك، و سرد بقيّة الحوادث الواقعة عند دخول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم المدينة. قال الواقديّ في تفسير الآية الكريمة: وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا:
هم الذين همّوا بقتل النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في العقبة. كانوا يقولون مع أنفسهم: إذا رجعنا إلى المدينة، و تخلّصنا من محمّد، «نضع التاج على رأس عبد الله بن أبي فنتوجهُ۱». فأنزل الله هذه الآية: فلم ينالوا ما قصدوه.
قصّة مسجد ضرار و إثارة النفاق و الكفر بين المسلمين
و لمّا نزل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بذي أوان (التي لا تبعد أكثر من ساعة عن المدينة، أنبأه الله بقصّة مسجد ضرار و بُناته: إذ بنوا ذلك المسجد حسب ميثاق كانوا قد اتّفقوا عليه، و يأتيهم أبو عامر الراهب الفاسق من الشام، و يتحدّث لهم. و يتكلّمون معه في موضوعات متنوّعة. لأنّ أبا عامر كان قد قال: أنا لا أستطيع أن آتي المسجد الذي بناه بنو عمرو بن عوف بقبا. إنّما أصحاب محمّد يلحظوننا بأبصارهم،
و يشتموننا و يعيبون علينا۱. فلهذا إنّ بني غنم بن عوف الذين كانوا إخوة بني عمرو بن عوف، و كانوا يحسدون إخوتهم على بناء مسجد قبا، و يقولون: نصلّي في مكان كان مربطاً للحمير (إذ كان مسجد قبا لامرأة كانت تربط فيه حميرها)، بنوا مسجداً في محلّتهم ليكون مستقّلًا لهم، و يأتيهم أبو عامر الراهب من الشام فيؤمّهم. و يكون لهم بما يصطلح عليه نادياً أو مقرّاً لاتّخاذ القرار ضدّ صحابة رسول الله.
و كان المسلمون في تلك الناحية كلّهم يصلّون في مسجد قبا قبل بناء هذا المسجد؛ و لمّا بُني هذا المسجد، صُرف عن مسجد قبا جماعة، و كانوا يصلّون في هذا المسجد. و أدّى هذا العمل إلى أن يتضرّر بنو عمرو بن عوف ضرراً معنويّاً، و تتفرّق جماعة المسلمين و تتشتّت وحدتهم، و يجلسون في ذلك المسجد و يعيبون النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و يستهزؤون به.
ذلك أنّ الذي أمرهم ببناء هذا المسجد هو أبو عامر -الذي سمّاه رسول الله فاسقاً- و قال للمنافقين: ابنوا مسجد ضرار، مسجداً جديداً، و استمدّوا ما استطعتم من قوّة و سلاح! فإنّي ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند كثيرين من الروم، و نخرج محمّداً و أصحابه من المدينة. و لهذا، فإنّ عملهم المذكور وجه رابع من أوصاف هذا المسجد، و هو الإرصاد. أي: أنّه اعدّ لمن حارب الله و رسوله، و هو أبو عامر الراهب الفاسق.
أجل، لمّا قدم رسول الله ذي أوان، أتاه بانو مسجد ضرار، و طلبوا منه أن يأتيهم، و يفتتح مسجدهم بالصلاة فيه كما صلّى في مسجد قبا!
فأنبأه الله بهذا الخبر من السماء:
وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ (أبو عامر) مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى (نشر الإسلام و مساعدة الضعفاء و الشيوخ الكبار في الليلة المطيرة و غيرها) وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، (يا أيّها النبيّ) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ (قبا) أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ، أَ فَمَنْ۱ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ (من حيث لا يشعر)؟! وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ (و لن يبلغوا مرحلة اليقين و الاطمئنان) إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ (و يزول ذلك الشكّ و الريب فيقطّع قلوبهم) والله عليم حكيم. (يرفع تلك الجماعة، و يذلّ هذه الجماعة)٢.
و لمّا نزلت هذه الآية: استدعى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عاصم بن عوف العجلانيّ، و مالك بن دُخْشُمْ من بني عمرو بن عوف، و قال لهما: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله، فاهدماه، و حرّقاه. و روي أنّه بعث عمّار بن ياسر، و وحشيّاً فحرّقاه. و أمر بأن يتّخذ كناسة تُلقى فيها الجيف٣.
و جاء في تفسير عليّ بن إبراهيم: بعث رسول الله مالك بن الدُّخْشَمْ الخزاعيّ و عامر بن عديّ أخا بني عمرو بن عوف. قال مالك لعامر: انتظرني حتّى اخرج ناراً من منزلي! فدخل (منزله)، فجاء بنار، و أشتعل في سعف النخل، ثمّ أشعله في المسجد، فتفرّقوا، إلّا زيدَ بن جَارِيَة بن عَامِر۱ فإنّه قعد (في المسجد) حتّى احترقت البُنْية، ثمّ أمر بهدم حائطه٢.
و قال الواقديّ بعد هذا الموضوع: خرج مالك بن الدخشم، و عاصم ابن عديّ، بعد إشعال النار، سريعين يعدُوَان حتّى انتهيا إلى المسجد بين المغرب و العشاء، و هم فيه، و إمامهم يومئذٍ مُجَمَّع بن جَارِيَة. فقال عاصم: ما أنسى تشرّفهم إلينا كأنَّ آذانهم آذان السِّرحان. فأحرقناه حتّى احترق. و كان الذي ثبت فيه من بينهم زيد بن جارية حتّى احترقت إلْيَتُهُ٣. فهدمناه حتّى وضعناه بالأرض، و تفرّقوا٤.
قال الشيخ الطبرسيّ في تفسير قوله: وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ: هو أبو عامر الراهب. و كان من قصّته أنّه كان قد ترهّب في الجاهليّة، و لبس المسوح. فلمّا قدم النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم المدينة، حسده، و حزّب عليه الأحزاب. ثمّ هرب بعد فتح مكّة إلى
الطائف. فلمّا أسلم أهل الطائف، لحق بالشام. و خرج إلى الروم و تنصّر و هو أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي قُتل مع النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يوم احد. و كان جنباً فغسلته الملائكة.
و سمّي رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أبا عامر الفاسق. و كان قد أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا، و ابنوا مسجداً. فإنّي أذهب إلى قيصر، و آتي من عنده بجنود، و اخرج محمّداً من المدينة. فكان هؤلاء المنافقون يتوقّعون أن يجيئهم أبو عامر. فمات قبل أن يبلغ ملك الروم. و جاء خبر موته إلى المدينة۱.
و قال الواقديّ: سئل عاصم بن عديّ عمّا حمل المنافقين على بناء مسجد ضرار؟! فقال: «كان المنافقون يجتمعون في مسجدنا (مسجد قبا)، فإنّما هم لا يَتناجَون فيما بينهم، و يَلتفت بعضهم إلى بعض، فيَلحظَهم المسلمون بأبصارهم، فشقّ ذلك على المنافقين. (و لهذا) أرادوا مسجداً يكونون فيه، لا يغشاهم فيه إلّا مَن يريدون ممّن هو على مثل رأيهم.
و كان أبو عامر يقول: لا أقدر أن أدخل مربدكم٢ هذا! و ذاك أنّ أصحاب محمّد يلحظونني و ينالون منّي ما أكره. قال المنافقون: نحن نبني مسجداً تتحدّث فيه عندنا٣.
و ورد في «مجمع البيان» في تفسير الآية: يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، أنّ المراد هو التطهّر بالماء عن البول و الغائط، و هو المرويّ عن السيّدين الباقر
و الصادق عليهما السلام.
و روي عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال لأهل قبا: ما ذا تفعلون في طهركم، فإنّ الله قد أحسن عليكم الثناء؟! قالوا: نغسل أثر الغائط. فقال (رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم): أنزل الله فيكم: وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ۱.
و جاء في تفسير «العيّاشيّ» عن الحلبيّ، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّ المراد من قوله: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، هو مسجد قبا٢.
و كذلك عن زُرارة، و حمران، و محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السلام في قوله: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، قالا: مسجد قبا. و أمّا قوله: أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ (فالمراد منه أنّ الصلاة فيه أحقّ من الصلاة) في مسجد النفاق. و كان على طريقه إذا أتى مسجد قبا. فقام فينضح بالماء و السدر، و يرفع ثيابه عن ساقيه. و يمشي على حجر في ناحية الطريق، و يسرع في المشي، و يكره أن يصيب ثيابه منه شيء.
(قال الراوي) سألته هل كان النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم يصلّي في مسجد قبا؟!
قال: نعم! كان منزله على سَعد بن خَيْثَمة الأنصاريّ (عند هجرته من
مكّة إلى المدينة).
فسألته: هل كان لمسجد رسول الله سقف؟ فقال: لا. و قد كان بعض أصحابه قال: أ لَا تسقف مسجدنا يا رسول الله؟!
قال: عَرِيشٌ كَعَريشِ مُوسَي۱.
تفسير الآية: إنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أنفُسَهُمْ وَ أمْوَالَهُمْ ...
و بعد أن بيّن الله تعالى حال المنافقين الذين بنوا مسجد ضرار، قال في تبيان حال المؤمنين: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ٢.
قال الشيخ الطبرسيّ في تفسير هذه الآيات: و الجهاد قد يكون بالسيف. و قد يكون باللسان. و ربما كان جهاد اللسان أبلغ؛ لأنّ سبيل الله دينه؛ و الدعاء إلى الدين يكون أوّلًا باللسان، و السيف تابع له؛ و لأنّ إقامة الدليل على صحّة المدلول أولى. و إيضاح الحقّ و بيانه أحرى، و ذلك لا يكون إلّا باللسان. و قد قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لأمير المؤمنين عليه السلام: يَا عَلِيّ! لأنْ يَهْدِي اللهُ على يَدَيْكَ نَسَمَةً خَيْرٌ
مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ!
و قال أيضاً: عن الزجّاج في قول الحقّ تعالى: في التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ إنّها تدلّ على أنّ أهل كلّ ملّة امروا بالقتال، و وعدوا عليه الجنّة۱.
و روى العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه عن «الكافي» بإسناده عن سماعة، عن أبي عبد الله عليه السلام (أنّه) قال: لقي عبّاد البصريّ عليّ بن الحسين عليهما السلام في طريق مكّة: فقال له: يَا عَلِيّ بْنَ الحُسَيْنِ! تَرَكْتَ الجِهَادَ وَ صُعُوبَتَهُ وَ أقْبَلْتَ عَلَى الحَجِّ وَ لِيْنَتِهِ؛ إنَّ اللهَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى» ... إلى آخر الآيات. فقال عليّ بن الحسين: إ ذَا رأيْنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ هَذِهِ صِفَتُهُمْ فَالجِهَادُ مَعَهُمْ أفْضَلُ مِنَ الحَجِّ.
ثمّ قال العلّامة: يريد الإمام السجّاد عليه السلام ما في الآية الثانية: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ... إلى آخره من الأوصاف٢.
أي: أنّ مراد الإمام السجّاد هو أنّ حكّام الإسلام لمّا كانوا حائزين على الصفات التي وصفهم بها الله، فالقتال معهم ضدّ أعداء الدين أفضل من الحجّ. أمّا لو كان الجهاد في ركاب عبد الملك بن مروان، و هشام،
و الوليد، و يزيد بن عبد الملك و أمثالهم، و هم حكّام الجور في عصر الإمام، فلا فضيلة للجهاد في سبيلهم، لأنّه ليس جهاداً في سبيل الله. و حينئذٍ الحجّ أفضل.
يقول الشيخ الطبرسيّ رضوان الله عليه في ذيل الآية: وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ: هذا أمر النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يبشّر المصدّقين بالله المعترفين بنبوّته بالثواب الجزيل، و المنزلة الرفيعة خاصّة، إذا جمعوا هذه الأوصاف. و قد روى أصحابنا رضوان الله عليهم أنّ هذه صفات الأئمّة المعصومين عليهم السلام؛ لأنّه لا يكاد يجمع هذه الأوصاف على تمامها و كمالها غيرهم.
ثمّ روى الطبرسيّ لقاء الزُّهريّ الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام في طريق مكّة و مؤاخذته الإمامَ على ترك الجهاد، و جواب الإمام المتمثّل بقوله أن لو كان امراء الحرب يحملون هذه الصفات ... بنفس العبارة و المضمون الذي ذكره العلّامة عن «الكافي» عن عبّاد البصريّ۱.
اعتذار المنافقين الكاذب من رسول الله عند الرجوع من غزوة تبوك
أجل، انتهت رحلة غزوة تبوك، و عاد النبيّ الأكرم و المسلمون إلى المدينة. و لم يلحق المنافقين إلّا الخجل، و الذلّ، و الخيبة. فلا هم استطاعوا أن يقتلوا النبيّ في العقبة، و لا هم رأوا النبيّ و المسلمين أسرى مغلولين بالسلاسل و الحبال عليه يد جنود الروم، و لا هم قدروا على إثارة الفتن و القلاقل في المدينة عند غياب رسول الله صلّى الله عليه و آله، و وجود مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السلام. لقد طاش سهمهم، و مات أبو عامر، رئيسهم، و احترق مسجد ضرار، مسجدهم. و أضحوا وحيدين بلا ناصر و لا معين. و لا قوّة، و لا نظم، و لا عِدّة، و لا عُدّة. و في مثل هذه
الحالة، تكشف لنا الآيتان المباركتان الآتيتان حقيقتهم، قال جلّ من قائل:
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ۱.
فلهذا نقرأ أنّ المنافقين كانوا يأتون إلى النبيّ في المدينة بعد غزوة تبوك و يعتذرون إليه بصور و أشكال مختلفة. و كانت مجموعة منهم تقول: سنشارك في الغزوات إلى جانبك في المستقبل. فنزلت هذه الآية:
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ٢.
قال العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه: المراد بالخالفين المتخلّفون بحسب الطبع كالنساء، و الصبيان، و المرضى، و الزمنى. و قيل: المتخلّفون من غير عذر. و قيل: الخالفون هم المنافقون و أهل الفساد. و في قوله: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ الآية، دلالة على أنّ هذه الآية و ما في سياقها المتّصل من الآيات السابقة و اللاحقة نزلت و رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في سفره، و لمّا يرجع إلى المدينة، و هو سفره إلى تبوك٣.
و يعرض القرآن الكريم معاذيرهم و أيمانهم المؤكّدة و طلبهم من النبيّ أن يتغاضى عنهم، و يصفح عن ذنبهم، و يرضى عنهم، فيقول:
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا
اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ، سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ، يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ۱.
قال العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه: قوله تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ: هذا الحلف منهم كما كان للتوسّل إلى صرفكم عنهم ليأمنوا الذمّ و التقريع، كذلك هو للتوسّل إلى رضاكم عنهم! أمّا الإعراض فافعلوه؛ لأنّهم رجس لا ينبغي لنزاهة الإيمان و طهارته أن تتعرّض لرجس النفاق و الكذب و قذارة الكفر و الفسق. فلا تتعرّضوا لهم بالتقريع و العتاب و نحوهما. و أمّا الرضى، فاعلموا أنّكم إن ترضوا عنهم فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. و على هذا يكون المعنى: أنّكم إن رضيتم عنهم، فقد رضيتم عمّن لم يرض الله عنه، أي: رضيتم بخلاف رضى الله! و لا ينبغي لمؤمن أن يرضى عمّا يسخط ربّه. فهو أبلغ كناية عن النهي عن الرضا عن المنافقين٢.
و الشاهد على هذا المطلب ما جاء في تفسير عليّ بن إبراهيم لمّا قدم النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم من تبوك، كان أصحابه المؤمنون يتعرّضون المنافقين و يؤذونهم، فأنزل الله هذه الآية تنهاهم عن التعرّض لهم٣.
و قال في «مجمع البيان»: نزلت الآيات في جَدّ بنِ قَيسٍ وَ مُعَتَّب بْنِ
قُشَيْرٍ و أصحابهما من المنافقين. و كانوا ثمانين رجلًا. و لمّا قدم النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم المدينة راجعاً عن تبوك، قال (لأصحابه): لَا تُجَالِسُوهُمْ وَ لَا تُكَلِّمُوهُمْ، عن ابن عبّاس. و قيل: نزلت في عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي، حلف للنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم لا يتخلّف عنه بعده، و طلب إليه النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يرضى عنه، عن مقاتل۱.
و كذلك نزل في المنافقين من الأعراب قوله:
٢ الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ٣.
إلى أن قال:
وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ٤.
و كذلك يعرض القرآن الكريم أحوال المنافقين و تزلزلهم عند نزول سورة أو آية، فيقول:
وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ، وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ ، أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ
يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ، وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ (و بعضهم عند رسول الله طبعاً، و ما يحدث لهم من شدّة القلق و الاضطراب و التزلزل المشهود في سيماهم) نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ (و هل اطّلع على اضطرابكم أحد أو لا؟) ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ۱.
و يبيّن أحوال المنافقين أيضاً عند تقسيم الصدقات و الزكاة الواجبة إذ كانوا يلمزون النبيّ:
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ ، وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ٢.
وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ، يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ ، أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ٣.
قال العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه: يمكن أن يكون قوله: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ من الإضافة الحقيقيّة؛ أي: سمّاع يسمع ما فيه خيركم حيث يسمع من الله سبحانه الوحي، و فيه خير لكم. و يسمع من المؤمنين النصيحة، و فيها خير لكم. و يمكن أن يكون من إضافة الموصوف إلى الصفة. أي:
اذن هي خير لكم، لأنّه لا يسمع إلّا ما ينفعكم و لا يضرّكم!
و الفرق بين الوجهين أنّ اللازم على الأوّل أن يكون مسموعه خيراً لهم، كالوحي من الله، و النصيحة من المؤمنين. و اللازم على الثاني أن يكون استماعه استماع خير، و إن لم يكن مسموعه خير، كأن يستمع إلى بعض ما ليس خيراً لهم لكنّه يستمع إليه فلا يردّه فيحترم بذلك قائله؛ ثمّ يحمل ذلك القول منه على الصحّة فلا يهتك حرمته و لا يسيء الظنّ به؛ ثمّ لا يرتّب أثر الخبر الصادق المطابق للواقع عليه، فلا يؤاخذ مَن قيل فيه بما قيل فيه. فيكون قد احترم إيمانه، كما احترم إيمان القائل الذي جاءه بالخبر.
و من هنا يظهر أنّ الأنسب بسياق الآية هو الوجه الثاني لما عقبه بقوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ۱.و قال تعالى في بخل المنافقين و عدم التزامهم بوعودهم، و لمزهم المؤمنين في الصدقات: وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ٢ ، فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ ، فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ ، أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ، الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ
سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ۱.
قال الشيخ الطبرسيّ: قيل: نزلت (هذه الآية) في ثعلبة بن حاطب. و كان من الأنصار، فقال للنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: ادع الله أن يرزقني مالًا!
فقال (رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم): يَا ثَعْلَبَةُ! قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ؛ أ مَا لَكَ في رَسُولِ اللهِ اسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟! وَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أرَدْتُ أنْ تَسِيرَ الجِبَالَ مَعِي ذَهَبَاً وَ فِضَّةً لَسَارَتْ!
ثمّ أتاه بعد ذلك فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالًا! و الذي بعثك بالحقّ لئن رزقني الله مالًا، لأعطينّ كلّ ذي حقّ حقّه!
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: اللهمّ ارزق ثعلبة مالًا! فاتّخذ ثعلبة غنماً فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحّى
عنها. فنزل وادياً من أوديتها. ثمّ كثرت نموّاً حتّى تباعد عن المدينة.
فاشتغل بذلك عن (صلاة) الجمعة و الجماعة. و بعث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إليه المصدق ليأخذ الصدقة. فأبى، و بخل، و قال: مَا هَذَا إلَّا اخْتُ الجِزْيَةِ.
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
يا و يح ثعلبة! يا و يح ثعلبة! فنزلت هذه الآيات فيه. و روي ذلك عن أبي أمامة الباهليّ مرفوعاً.
و قيل: إنّ ثعلبة أتى مجلساً من الأنصار فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله، تصدّقت منه، و آتيتُ كلّ ذي حقّ حقّه، و وصلتُ منه القرابة، فابتلاه الله. فمات ابن عمّ له، فورثه مالًا، و لم يفِ بما قال: فنزلت. عن ابن عبّاس، و سعيد بن جبير، و قتادة.
و قيل: نزلت في ثعلبة بن حاطب، و مُعَتّب بن قشَير، و هما من بني عمرو بن عوف قالا: لئن رزقنا الله مالًا لنصّدّقنّ. فلمّا رزقهما الله المال، بخلا به. عن الحسن، و مجاهد۱.
و قال العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه بعد ذكر هذه الرواية: ما ذكره من الروايات لا يدفع بعضها البعض؛ فمن الجائز أن يكون ثعلبة عاهد النبيّ بذلك ثمّ أشهد عليه جماعة من الأنصار، و أن يكون معه في ذلك غيره، فتتأيّد الروايات بعضها ببعض٢.
قصّة الأشخاص المعنيّين بالآية: و عَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا
و من بين الذين تخلّفوا عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في غزوة تبوك ما عدا المتخلّفين من المنافقين، و المعذّرين، و الذين التحقوا فيما بعد كأبِي خَيْثَمَة ثلاثة أشخاص. إذ ظلّوا في المدينة مع إيمانهم برسول الله، لكن اعتراهم ضعف، و تثاقلوا مع قدرتهم المالية و البدنيّة. إلى أن عاد جيش رسول الله من تبوك. و روى المؤرّخون كالواقديّ و غيره٣ قصّة هؤلاء الأشخاص الثلاثة مفصّلًا. بَيدَ أنّا ننقلها هنا عن الشيخ الطبرسيّ بإيجاز:
يقول: نزلت الآية وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا في شأن كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَ مَرَارَة بْنِ الرَّبِيعِ وَ هِلالِ بْنِ امَيَّة٤. و ذلك أنّهم تخلّفوا عن رسول الله
و لم يخرجوا معه، لا عن نفاق و لكن عن توانٍ، ثمّ ندموا.
و لمّا قدم النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم المدينة، جاءوا إليه و اعتذروا، فلم يكلّمهم النبيّ، و تقدّم إلى المسلمين بأن لا يكلّمهم أحد منهم؛ فهجرهم الناس كلّهم حتّى الصبيان. و جاءت نساؤهم إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فقلن له: نعتزلهم؟! فقال: لا، و لكن لا يقربوكنّ.
فضاقت عليهم المدينة؛ فخرجوا إلى رؤوس الجبال. و كان أهاليهم يجيئون لهم بالطعام، و لا يكلّمونهم. فقال بعضهم لبعض: قد هجرنا الناس، فهلّا نتهاجر نحن أيضاً؟ فتفرّقوا، و لم يجتمع منهم اثنان. و بقوا على ذلك خمسين يوماً يتضرّعون إلى الله، و يتوبون إليه، فقبل الله توبتهم؛ و أنزل فيهم هذه الآية:
وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ۱.
قال الواقديّ: و قدم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم المدينة في رمضان سنة تسع٢. فقال: الحَمْدُ لِلَّهِ على مَا رَزَقَنَا في سَفَرِنَا هَذَا مِنْ أجْرٍ وَ حَسَنَةٍ وَ مَنْ بَعْدَنَا شُرَكَاؤُنَا فِيهِ.
قالت عائشة: يا رسول الله! أصابكم السفر و شدّة السفر، وَ مَن بعدكم شركاؤكم فيه؟!
فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: إنَّ بِالمَدِينَةِ لأقْوَاماً مَا سِرْنَا مِنْ مَسِيرٍ وَ لَاهَبَطْنَا وَادِيَاً إلَّا كَانُوا مَعَنَ، حَبَسَهُمُ المَرَضُ؛ أ وَ لَيْسَ اللهُ تعالى يَقُولُ في كِتَابِهِ: «ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً»۱؟ فَنَحْنُ غُزَاتُهُمْ وَ هُمْ قَعَدَتُنَا٢. وَ الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَدُعَاؤُهُمْ أنْفَذُ في عَدُوِّنَا مِنْ سِلَاحِنَا!
و جعل المسلمون يبيعون سلاحهم و يقولون: قد انقطع الجهاد. فجعل القويّ منهم يشتريها لفضل قوّته. ف (لمّا) بلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فنهاهم عن ذلك و قال: لَا تَزَالُ عِصَابَةٌ مِن امَّتِي يُجَاهِدُونَ على الحَقِّ حتّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ٣
موت عبد الله بن أبي رئيس المنافقين بالمدينة
و مرض عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي في ليالٍ بقين من شوّال. و مات في ذي القعدة. و كان مرضه عشرين ليلة. و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يعوده فيها. فلمّا كان اليوم الذي مات فيه، دخل عليه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و هو يجود بنفسه. فقال: قَدْ نَهَيْتُكَ عَنْ حُبِ اليَهُودِ. فقال عبد الله بن أبي: أبغضهم سَعْدُ بْنُ زُرَارَة، فما نفعه!
ثمّ قال ابن أبي: يَا رَسولَ اللهِ! ليس بحين عِتاب! هو الموت. فإن متُّ فاحضر غُسلي و أعطِني قميصَك، اكفَّن فيه! فأعطاه الأعلى -و كان
عليه قميصان- فقال: الذي يلي جلدك! فنزع قميصه الذي يلي جلده فأعطاه، ثمّ قال: صلّ عَلَيّ و استغفر لي!
و إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حضر غُسله و كفَّنه. ثمّ حُمل إلى موضع الجنائز. فتقدّم رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ليصلّي عليه۱.
فلمّا قام، وثب إليه عمر بن الخطّاب فقال: يا رسول الله! أ تصلّي على ابن أبي، و قد قال يوم كذا كذا، و يوم كذا كذا؟ فعدّ عليه قوله.
فتبسّم رسول الله و قال: أخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ! فلمّا أكثر عليه عمر، قال (رسول الله): إنّي قد خُيّرت فاخترت؛ و لو أعلم أنّي إذا زدت على السبعين، غُفِر له، زدت عليها. و هو قوله عزّ و جلّ: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ٢.
و قيل: إنّه قال: سأزيد على السبعين. فصلّى رسول الله، ثمّ انصرف. فلم يكن إلّا يسيراً حتّى نزلت هذه الآية:
وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ٣.
و كان مُجَمِّع بْنُ جَارِيَة يقول: ما رأيت رسول الله أطال على جنازة قطّ ما أطال عليها من الوقت، ثمّ خرجوا حتّى انتهوا إلى قبره.
فكان عَمْرُو بْنُ امَيَّة الضَّمْرِيّ يقول: لقد جَهدِنا أن ندنو من سريره،
فما نقدر عليه. قد غلب عليه هؤلاء المنافقون و كانوا قد أظهروا الإسلام، و هم على النفاق. من بني قينقاع و غيرهم كسَعْدِ بْنِ حُنَيْفٍ وَ زَيْدِ بْنِ اللُّصيْتِ وَ سَلَامَة بْنِ الحُمَامِ وَ نُعْمَانِ بْنِ أبي عَامِرٍ وَ رَافِعِ بْنِ حَرْمَلَة وَ مَالِكِ بْنِ أبي نَوْفَلٍ وَ دَاعِسٍ وَ سُوَيْدٍ. و كانوا أخابث المنافقين، و كانوا هم الذين يحرّضونه.
و كان ابنه عبد الله (سمّاه رسول الله عبد الله) ليس شيء أثقل عليه و لا أعظم من رؤيتهم. (و كان هذا الابن من خواصّ عبد الله)، و يغلق دون المنافقين الباب. و كان عبد الله بن أبي يقول: لا يليني غيرهم، و يقول (لابنه): أنت و الله أحبّ إليّ من الماء على الظَّمَأ! و (كان المنافقون) يقولون (له): ليت أنّا نفديك بالأنفس، و الأولاد، و الأموال، (و لم تكن متَّ!) و لمّا وقفوا على حفرته، و رسول الله صليّ الله عليه و آله و سلّم واقف يلحظهم، ازدحموا على النزول في حفرته، و ارتفعت الأصوات حتّى اصيب أنف داعِس؛ و جعل عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ يذبّهم و يقول: اخفضوا أصواتكم عند رسول الله. حتّى اصيب أنف داعس فسال الدم. و كان يريد أن ينزل في حفرته، فنُحِّي، و نزل رجال من قومه، أهل فضلٍ و إسلام. و كان لمّا رأوا من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من الصلاة عليه و حضوره، و من القيام عليه، فنزل في حفرته ابنه عَبْدُ اللهِ وَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَة بْنُ الصَّامِتِ وَ أوْسُ بْنُ خَوْلي حتّى سُوِّي عليه (قبره). و إنّ عِلْيَة أصحاب النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم و الأكابر من الأوس و الخزرج يُدلونه في اللَّحد، و هم قيام مع النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم. و كان رسول الله قد وقف على قبره حتّى دُفن، و عزّي ابنَه، و انصرف.
و كان عَمْرُو بْنُ امَيَّة يقول: ما لقي عليه أصحابه هؤلاء المنافقون؟! فهم من جهة يَحثون عليه الترابَ في القبر، (و من جهة اخرى) يقولون:
يا ليت أنَّا فديناك بالأنفس؛ و كنّا متنا قبلك، و هم يحثون التراب على رؤوسهم. فكان الذي يحسن أمره يقول: الخزرج قوم أهل فقر، و كان يحسن إليهم۱.
و في تفسير «الدرّ المنثور» بعد كلام رسول الله لعمر: أخِّر عنّي يا عمر! قال عمر: صلّى عليه رسول الله، و مشى في جنازته، حتّى قام على قبره، و فرغ منه فَعَجِبْتُ لي وَ لِجُرْأتِي على رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، وَ اللهُ وَ رَسُولُهُ أعْلَمُ٢.
البحث في كيفيّة صلاة رسول الله على جنازة المؤمن و المنافق
و روى في «الدرّ المنثور» أيضاً عن ابن أبي حاتم، عن الشعبيّ (قال) إنّ عمر بن الخطّاب: قال: لَقَدْ أصَبْتُ في الإسْلَامِ هَفْوَةً مَا أصَبْتُ مِثْلَهَا قَطُّ. أراد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يصلّي على عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي، فأخذتُ بثوبه، فقلتُ: و الله ما أمرك الله بهذا. لقد قال الله: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. و قال رسول الله: قد خيّرني ربّي فقال: « اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ »! فقعد رسول الله على شفير القبر؛ فجعل الناس يقولون لابنه عبد الله: يا حُبَاب! افعل كذا! يا حُبَاب! افعل كذا! فقال رسول الله: الحُباب اسم الشيطان. أنت عَبْدُ اللهِ٣.
و قال الشيخ الطبرسيّ: نهى الله سبحانه نبيّه عن الصلاة على
المنافقين و قال: لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً، لأنّه كان يصلّي عليهم و يجري عليهم أحكام المسلمين. وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ.
(إذ كان) إذا صلّى على ميّت، يقف على قبره ساعة و يدعو له. فنهاه الله تعالى عن الصلاة على المنافقين، و الوقوف على قبورهم و الدعاء لهم. ثمّ بيّن سبحانه سبب الأمرين (الصلاة و الدعاء) فقال: إنّهم كفروا بالله و رسوله و ماتوا و هم فاسقون. فما صلّى رسول الله بعد ذلك على منافق، حتّى قبض.
و في هذه الآية وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ دلالة على أنّ القيام على القبر للدعاء عبادة مشروعة. و لو لا ذلك، لم يخصّ الله سبحانه بالنهي عنه للكافر.
و روي أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم صلّى على عبد الله بن أبي، و ألبسه قميصه قبل أن يُنهى عن الصلاة على المنافقين. عن ابن عبّاس، و جابر، و قتادة.
و روي عن أنس، و الحسن أنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم أراد أن يصلّي عليه فأخذ جبرائيل بثوبه، و تلا عليه: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً.
و روي أنّه قيل لرسول الله: لِمَ وجهت بقميصك إليه يكفن فيه، و هو كافر؟! فقال: إنَّ قَميصِي لَنْ يُغْنِي عَنْهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً. و إنّي اؤمّل من الله أن يدخل بهذا السبب في الإسلام خلق كثير.
فروي أنّه أسلم ألف من الخزرج لمّا رأوه يطلب الاستشفاء۱ بثوب
رسول الله. ذكر الزجّاج ذلك و قال: و الأكثر في الروايات أنّه لم يصلّ عليه۱.
و جاء في تفسير «عليّ بن إبراهيم»: لمّا رجع رسول الله إلى المدينة، و مرض عبد الله بن أبي؛ و كان ابنه عبد الله مؤمناً، جاء (الابن) إلى رسول الله و أبوه يجود بنفسه، فقال: يا رسول الله! بأبي أنت و امّي! إنّك إن لم تأت أبي، كان ذلك عاراً علينا!
فدخل (رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لعيادته، و المنافقون عنده. فقال ابنه عبد الله: (يا رسول الله!) فاستغفر له! فقال عمر: أ لم ينهك الله يا رسول الله أن تصلّي عليهم أو تستغفر لهم؟! فأعرض عنه رسول الله. فأعاد عليه.
فقال له رسول الله: وَيْلَكَ! إنّي خيّرت فاخترتُ. إنّ الله يقول: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.
و لمّا مات ابن أبي، جاء ابنه إلى رسول الله، فقال: بأبي أنت و امّي يا رسول الله! إن رأيت أن تحضر جنازته! فحضره رسول الله و قام على قبره.
فقال عمر: يا رسول الله! أ لم ينهك الله أن تصلّي على أحد منهم مات أبداً و أن تقوم على قبره؟! فقال له رسول الله: وَيْلَكَ! و هل تدري ما قلتُ؟ إنَّمَا قُلْتُ: اللَهُمَّ احْشُ قَبْرَهُ نَارَاً وَ جَوْفَهُ نَارَاً وَ أصْلِهِ النَّارَ. فبدا
من رسول الله ما لم يحبّ۱.
و ذكر العيّاشيّ في تفسيره هذه الرواية قريباً من هذا المضمون عن زرارة، عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام٢.
و نقل في رواية اخرى عن حنان بن سدير، عن أبيه، عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام، قال: مات رجل من المنافقين. فبعث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على أبيه٣ و قال: إذا فرغت منه، فأعلمني. فلمّا عزم على التحرّك، أرسل وراء رسول الله، فجاء، و أخذ بِيَدِ ابنه في الجنازة، و مضى. فتصدّى له عمر و قال: يَا رَسُولَ اللهِ! أ مَا نَهَاكَ رَبُّكَ عَنْ هَذَا، أنْ تُصَلِّي عَلَى أحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبَدَاً، أوْ تَقُومَ عَلَى قَبْرِهِ؟! فلم يجبه.
و لمّا كان قبل أن ينتهوا به إلى القبر، أعاد عمر كلامه أيضاً. فقال له رسول الله: ما رأيتنا صلّينا له على جنازة، و لا قمنا على قبر! ثمّ قال: إنّ ابنه رجل من المؤمنين و كان يحقّ علينا أداء حقّه. و قال عمر: أعوذ بالله من سخط الله و سخطك يا رسول الله٤.
و قال الفيض الكاشانيّ رضوان الله عليه بعد بيان هاتين الروايتين٥ في تفسير «الصافي»: كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حيّياً كريماً،
كما قال الله عزّ و جلّ: فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ۱. فكان يكره أن يفتضح رجل من أصحابه ممّن يظهر الإيمان؛ (فلهذا) كان يدعو على المنافقين و يورّي أنّه يدعو لهم. و هذا معنى قوله لعمر: ما رأيتنا صلّينا له على جنازة و لا قمنا على قبر! و كذا معنى قوله في حديث القمّيّ: خيّرت فاخترت الاستغفار.
إلى أن قال: إن صحّ حديث القمّيّ، (فإنّه) لم يستند إلى المعصوم؛ و الاعتماد على حديث العيّاشيّ هنا أكثر منه على حديث القمّيّ، لاستناده إلى قول المعصوم دونه، لانّ سياق كلام القمّيّ تارة يدلّ على أنّه كان سبب نزول الآية قصّة ابن أبي؛ و اخرى تدلّ على نزولها قبل ذلك. و في كتاب «الكافي» عن الإمام الصادق عليه السلام: كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يكبّر على قومٍ خمساً و على قوم آخرين أربعاً. فإذا كبّر على رجل أربعاً، اتّهم، يعني بالنفاق. و فيه أيضاً و في تفسير العيّاشيّ عنه عليه السلام: كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إذا صلّى على ميّت كبّر و تشهّد؛ ثمّ كبّر و صلّى على الأنبياء؛ ثمّ كبّر و دعا للمؤمنين؛ ثمّ كبّر الرابعة و دعا للميّت؛ ثمّ كبّر و انصرف. فلمّا نهاه الله عزّ و جلّ عن الصلاة على المنافقين، كبّر و تشهّد؛ ثمّ كبّر و صلّى على النبيّين؛ ثمّ كبّر و دعا
للمؤمنين؛ ثمّ كبّر الرابعة و انصرف و لم يدع للميّت۱.
ردّ العلّامة الطباطبائيّ الروايات الواردة في الصلاة على ابن أبي
وَ أمَّا اسْتَاذُنَا العَلَّامَة الطَّبَاطَبَائِيّ قدّس الله سرّه، فقد تعرّض لهذا الموضوع في موضعين:
الأوّل: في ذيل الآية الكريمة: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. التردّد بين الأمر و النهي كناية عن تساوي الفعل و الترك؛ أي: أنّ فعل الاستغفار لغو، و لا فائدة فيه كقوله تعالى: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ٢.
فالمعنى: أنّ هؤلاء المنافقين لا تنالهم مغفرة من الله و يستوي فيهم طلب المغفرة و عدمها، لأنّ طلبها لهم لغو لا أثر له.
و قول الله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ تأكيد لما ذكر قبله من لغويّة الاستغفار لهم؛ و بيان أنّه طبيعة المغفرة لا تنالهم البتة سواء سئلت المغفرة في حقّهم أم لم تسأل، و سواء كان الاستغفار مرّة أم مرّات قليلًا أم كثيراً. فذكر السبعين كناية عن كثرة الاستغفار، من غير أن تكون هناك خصوصيّة للعدد حتّى يكون الواحد و الاثنان من الاستغفار، حتّى يبلغ السبعين غير مؤثر في حقّهم. فإذا جاوز السبعين أثّر أثره. و لذلك علّله بقوله: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ. أي: أنّ المانع من شمول المغفرة هو كفرهم بالله و رسوله، و لا يختلف هذا المانع بعدم الاستغفار، و لا وجوده واحداً أو كثيراً، فهم على كفرهم. و استعمال السبعين في الكثرة المجرّدة عن الخصوصيّة كاستعمال المائة و الألف فيها
كثير في اللغة۱.
و قال في البحث الروائيّ: و في «الدرّ المنثور» أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن عروة أنّ عَبْد اللهِ بْن أبي قال لأصحابه: لو لا أنّكم تنفقون على محمّد و أصحابه، لانفضّوا من حوله، و هو القائل: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ٢.
يريد من الأعزّ نفسه، و الأذل رسول الله [و العياذ بالله]. فأنزل الله (هذه الآية): اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ٣.
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: لأزيدنّ على السبعين، فأنزل الله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ٤.
و قال بعد ذكر روايتين اخريين بهذا المضمون بسندين آخرين عن «الدرّ المنثور»: ممّا لا ريب فيه أنّ هذه الآيات ممّا نزلت في أواخر عهد النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم؛ و قد سبقتها في النزول السور المكّيّة عامّة و أكثر السور و الآيات المدنيّة قطعاً. و ممّا لا ريب فيه لمن يتدبّر كتاب الله لا رجاء في نجاة الكفّار و المنافقين، و هم أشدّ منهم إذا ماتوا على كفرهم و نفاقهم؛ و لا مطمع في شمول المغفرة الإلهيّة لهم، فهناك آيات كثيرة مكّيّة و مدنيّة صريحة قاطعة في ذلك.
و النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أجلّ من أن يخفى عليه ما أنزل الله إليه؛ أو أن لا يثق بما وعدهم الله من العذاب المخلّد وعداً حتميّاً، فيطمع في نقض القضاء المحتوم بالإصرار عليه تعالى و الإلحاح في طلب الغفران لهم.
أو أن يخفى عليه أنّ التردّد في الآية لبيان اللغويّة؛ و أن لا خصوصيّة لعدد السبعين حتّى يطمع في مغفرتهم لو زاد على السبعين.
و ليت شعري: ما ذا يزيد قوله تعالى في سورة المنافقون: «سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ» على قوله تعالى في سورة التوبة: «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ، وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ»؟! و قد علّل الله سبحانه نفي المغفرة نفياً مؤبدّاً فيهما بأنّهم فاسقون، و الله لا يهدي القوم الفاسقين.
فقد تلخّص أنّ هذه الروايات و ما في معناها موضوعة يجب طرحها۱.
و قال بعد ذلك: قوله في الروايات التي لم تذكر عدم الاستغفار في سورة (المنافقون) و ذكرته في سورة التوبة، كالرواية الواردة في «الدرّ المنثور» إذ قال رسول الله لعمر بعد هذه القضيّة: أخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ إنِّي قَدْ خُيِّرْتُ؛ قَدْ قِيلَ لي: «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً»، فَلَوْ أعْلَمُ أنِّي زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ، زِدْتُ عَلَيْهَا، صريح في أنّه كان آيساً من شمول المغفرة له، و هو يشهد بأنّ المراد من قوله: «إنّي قد خيّرت قد قيل لي: استغفر لهم أو لا تستغفر لهم» أنّ الله قد ردّد الأمر؛ و لم ينهه عن الاستغفار؛ لا أنّه خيّره بين الاستغفار و عدمه تخييراً
حقيقيّاً حتّى ينتج تأثير الاستغفار في حصول المغفرة أو رجاء ذلك.
و من ذلك يُعْلَمْ أنّ استغفاره لعبد الله بن أبي، و صلاته عليه، و قيامه على قبره إن ثبت شيء من ذلك، لم يكن شيء من ذلك لطلب المغفرة و الدعاء له جدّاً كما جاء في رواية عليّ بن إبراهيم القمّيّ۱.
الثاني في ذيل الآية الكريمة: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ٢.
نهى (الله النبيّ) عن الصلاة لمن مات من المنافقين، و القيام على قبره. و قد علّل النهي بأنّهم كفروا و فسقوا و ماتوا على فسقهم.
و قد علّل لغويّة الاستغفار لهم في قوله تعالى السابق (في الآية ۸۰،
من السورة ٩: التوبة) «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ». و كذا في قوله (في الآية ٦، من السورة ٦٣: المنافقون) «سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم إنّ الله لا يهدي القوم الفاسقين».
و يتحصّل من الجميع أنّ من فقد الإيمان بالله باستيلاء الكفر على قلبه و إحاطته به، فلا سبيل له إلى النجاة يهتدي به؛ و أنّ الآيات الثلاث جميعاً تكشف عن لغويّة الاستغفار للمنافقين، و الصلاة على موتاهم، و القيام على قبورهم للدعاء لهم٣.
و ذكر في البحث الروائيّ روايات عن «الدرّ المنثور» بتخريج البخاريّ، و مسلم، و ابن أبي حاتم، و ابن أبي منذر، و أبي الشيخ، و ابن
مردويه، و البيهقيّ في «دلائل النبوّة»، و كذلك بتخريج البخاريّ، و أحمد، و الترمذيّ، و النسائيّ، و ابن أبي حاتم، و النحّاس، و ابن حَبّان، و ابن مردويه، و أبي نُعَيم في «حلية الأولياء»، ذكر هؤلاء أنّ عبد الله بن أبي لمّا مات، دُعي رسول الله للصلاة عليه، فأخذ عمر بن الخطّاب بثوب رسول الله فقال: أ لم ينهك الله عن الصلاة على المنافقين؟
قال رسول الله: إنّي خُيِّرتُ ... و أنا أستغفر له أكثر من سبعين مرّةً!
قال عمر: إنّه منافق. و صلّى عليه رسول الله و نزلت الآية وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ، فترك رسول الله الصلاة على المنافقين. و قال العلّامة الطباطبائيّ بعد ذكر عدد من الروايات الاخرى القريبة من هذا المضمون: و قد ورد استغفار رسول الله لعبد الله بن أبي و صلاته عليه في بعض المراسيل من روايات الشيعة أوردها العيّاشيّ و القمّيّ في تفسيريهما.
«و هذه الروايات على ما فيها من بعض التناقض و التدافع و اشتمالها على التعارض فيما بينها، تدفعها الآيات الكريمة دفعاً بيّناً لا مرية فيه.
أمّا أوّلًا فلظهور قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ظهوراً بيّناً في أنّ المراد بالآية بيان لغويّة الاستغفار للمنافقين دون التخيير، و أنّ العدد (سبعين) جيء به لمبالغة الكثرة لا لخصوصيّة في السبعين بحيث ترجي المغفرة مع الزائد على السبعين. و النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أجلّ من أن يجهل هذه الدلالة فيحمل الآية على التخيير ثمّ يقول سأزيد على سبعين ثمّ يذكّره غيره بمعنى الآية فيصرّ على جهله حتّى ينهاه الله عن الصلاة و غيرها بآية اخرى ينزّلها عليه.
على أنّ جميع هذه الآيات المتعرّضة للاستغفار للمنافقين و الصلاة عليهم كقوله: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، و قوله: لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ
مِنْهُمْ تعلّل النهي و اللغوّية بكفرهم و فسقهم، حتّى قوله تعالى: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ۱ ينهى عن الاستغفار معلّلًا ذلك بالكفر و خلود النار. و كيف يتصوَّر مع ذلك جواز الاستغفار لهم و الصلاة عليهم؟
و ثانياً: أنّ سياق الآيات التي منها قوله وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً صريح في أنّ هذه الآية إنّما نزلت و النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في سفره إلى تبوك و لمّا يرجع إلى المدينة، و ذاك في سنة ثمان (من الهجرة)؛ و قد وقع موت عبد الله بن أبي بالمدينة سنة تسع من الهجرة. كلّ ذلك مسلّم من طريق النقل.
فما معنى قوله في هذه الروايات: أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم صلّى على عبد الله (بن أبي) و قام على قبره، ثمّ أنزل الله عليه: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً؟!
و أعجب منه ما وقع في بعض الروايات السابقة أنّ عمر قال للنبيّ: أ تصلّي على عبد الله بن أبي و قد نهاك (الله) عن الصلاة للمنافقين؟ فقال (رسول الله) إنّ ربّي خيّرني؛ ثمّ أنزل الله: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ.
و أعجب منه ما في الرواية الأخيرة من نزول قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ و الآية من سورة (المنافقون) (و قد نزلت بعد الآية الواردة في سورة التوبة اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ. و الجميع يعلم أنّها) نزلت بعد غزوة بني المصطلق، و كانت في سنة خمس، و عبد الله بن أبي حيّ عندئذٍ. و قد حكى في السورة قوله: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ.
و قد اشتمل بعض هذه الروايات و تعلّق به بعض من انتصر لها على أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم إنّما استغفر و صلّى على عبد الله بن أبي ليستميل قلوب رجال منافقين من الخزرج إلى الإسلام. و كيف يستقيم ذلك؟ و كيف يصحّ أن يخالف النبيّ النصّ الصريح من الآيات استمالة لقلوب المنافقين و مداهنة معهم؟ و قد هدّده الله على ذلك بأبلغ التهديد في مثل قوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ۱. فالوجه أنّ هذه الروايات موضوعة يجب طرحها بمخالفة الكتاب٢.
و أقول: لا ريب في التناقض الوارد في معنى و مضمون الروايات الواردة في هذه القصّة كما قال استاذنا الكريم أفاض الله علينا من بركات تربته. بَيدَ أنّ أصل استغفار النبيّ لعبد الله بن أبي، و صلاته عليه، و اعتراض عمر عليه من القضايا الثابتة في التأريخ تقريباً. و لا يمكن تجاهل هذه القضيّة مع غضّ النظر عمّا علق بها من حواشٍ و زوائد. و نقول لتوضيح هذه الحقيقة:
من الضروريّات المستفادة من القرآن و السنّة أنّ الكافرين الذين يموتون على كفرهم و شركهم لا منجى لهم. و لا ينفعهم الاستغفار بعد الموت، بل لا مسوّغ له شرعاً، و ورد النهي عنه. و لا ينبغي للمسلمين أن يستغفروا للمشركين، أو يصلّوا عليهم، أو يقيموا على قبورهم للاسترحام. و بالعكس، ينبغي أن يستغفروا للمسلمين و يصلّوا عليهم، و يتعاملوا معهم في كلّ أمر من امور الزواج، و المعاملات، و مراسم التكفين و الدفن و غيرها وفقاً للتعاليم الإسلاميّة سواء كانوا مؤمنين في باطنهم، أم منافقين
لم يؤمن باطنهم، لكنّهم لم تجر على ألسنتهم كلمة الارتداد و الكفر، و لم يثبت حكم الحاكم الإسلاميّ بكفرهم.
لذلك يتألّف الصفّ الإسلاميّ الطويل من المؤمنين الحقيقيّين و المنافقين الذين أضمروا النفاق في قلوبهم في مقابل المشركين. و ينبغي التعامل مع هذا الصفّ الطويل بحكم المسلمين في جميع الشؤون المتعلّقة بالعبادات و المعاملات و السياسات و الأحكام كما ينظر إلى أفراده على أنّهم مسلمون. و إن بدت عليهم آثار النفاق، بَيدَ أنّها لم تثبت.
الإسلام هو الإقرار بالشهادتين و المقرّ بهما مسلم ما لم يثبت كفره
إن كلّ من شهد الشهادتين فهو مسلم، و يحرم دمه و ماله و عرضه. و على الحكومة الإسلاميّة أن تحترمه، و تتعامل معه في جميع الامور كإنسان مسلم.
إن الآية ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ۱ تخصّ المشركين لا المنافقين الذين لم يثبت كفرهم و شركهم عند الحاكم الإسلاميّ. فهذه الشريحة من المنافقين مسلمون.
و رأينا أخيراً أنّ اسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ عند ما طلب من النبيّ قتل منافقي العقبة الذين أرادوا الفتك به، قال له رسول الله: أ لم يقرّوا بالتوحيد و يشهدوا بنبوّتي؟! قال: نعم! قال: نهاني الله عن قتل هؤلاء.
و كان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم يتعامل مع عبد الله بن أبي و سائر المنافقين كمسلمين و إن كانوا من أخبث الأشخاص. فكان يأخذ الزكاة من أغنيائهم؛ و يدفع الزكاة لفقرائهم. و يطبّق عليهم كافّة الأحكام الإسلاميّة الحربيّة و السلميّة كالمسائل المتعلّقة بالحرب و تقسيم الغنائم.
و استمرّ هذا العمل حتّى غزوة بني المصطلق، إذ خرج عبد الله بن أبي مع رسول الله من المدينة في السنة الخامسة من الهجرة، و قال لأصحابه ما قال سرّاً من غير أن يحضر أحد من أصحاب رسول الله، و أساء الأدب إلى رسول الله بكلماته البذيئة المشينة المذكورة في سورة (المنافقون). و لم يُخبر رسول الله بخبره إلّا زيد بن أرقم الذي كان صغيراً بين الخزرج الذين كان عبد الله من وجهائهم و أشرافهم. و أنكر عبد الله ذلك بتمام معنى الكلمة، و حلف إنّه لم يقل، و إنّ زيداً يكذب، حتّى نزلت تلك الآيات المذكورة في سورة (المنافقون). و منها قوله: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. أي: يا أيّها النبيّ لا تشقّ على نفسك كثيراً من أجل المنافقين، و لا تطلب لهم الخير و لا تستغفر لهم! إنّهم كذا و كذا، و تذهب أتعابك، و معاناتك من أجلهم، و عشقك الفيّاض لهدايتهم أدراج الرياح. فقد ران الشقاء على قلوبهم، و ليس فيها نافذة أمل، و قد أوصدوا طريق الهداية بوجوههم نتيجة لسوء اختيارهم، و لا تشملهم مغفرة الله.
و لا نقرأ أيضاً في سورة (المنافقون) حكماً بكفر عبد الله بن أبي. فالعبارات الواردة هي من قبيل:
إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ.
فالله يذكر هؤلاء. و من المعلوم أنّه لا يُحْكَمُ بكفر أحد من خلال هذه العبارات، فيجعل في زمرة المشركين و يخلّد في النار من حيث الحكم الظاهر للإسلام.
الآيات الواردة في تحديد مهمّة النبيّ بالتبليغ
و أمّا الآية: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ، فهي لا تنهى عن الاستغفار، بل تفيد أنّ الاستغفار لا فائدة فيه لهؤلاء. و لا تتعب نفسك و لا تشقّ عليها من أجلهم. و لا تترك راحتك و استراحتك و نومك و طعامك لهدايتهم! كما تفيد الآية السادسة من السورة الثانية: البقرة: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. و الآية العاشرة من السورة ٣٦: يس: وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. و من الطبيعيّ أنّ أمثال هذه الآيات لا تفيد أنّ هداية الكفّار حرام عليك أيّها النبيّ، و أنّ الله نهاك عن ذلك، بل تفيد أنّ عمل هؤلاء قد تجاوز حدّه، و أنّ إنذارك لهم لا يثمر، فلما ذا تزعج نفسك بهذا الحجم؟ و لما ذا تعاني و تقاسي إلى هذا الحدّ؟ و لما ذا تسخّر و جودك كلّه لإرشادهم؟
إنّا أرسلناك للإبلاغ. و ما عليك إلّا البلاغ. و لست مسؤولًا عن ذنوب اولئك و شركهم!
فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ۱.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ٢.
وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ٣. فيبلغ ما يُوحَى إليه.
طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى٤.
فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ٥.
وَ ذَكِّرْ فَإنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ٦.
فَذَكِّرْ إن نَفَعَتِ الذِّكْرى۱.
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ٢.
فهذه الآيات كلّها تفيد أنّ مهمّتك أيّها النبيّ التذكير. قم بعملك، و لا شغل لك بإيمانهم و كفرهم الحقيقيّين! فذلك ليس بيدك، بل بِيَدِ الله. و لا تعذّب نفسك في تبليغ أحكامه؛ و لا تزهقها! و لا تأسَ على شركهم و كفرهم؛ و لا تشفق عليهم!
و أكثر هذه الآيات وضوحاً و صراحة هي الآية السادسة، من السورة ۱۸: الكهف: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً.
و مثلها الآية الثالثة، من السورة ٢٦: الشعراء:
لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.
و كان النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم يتعامل مع المنافقين بنفس الحكم الإسلاميّ العامّ الذي يتعامل به مع المسلمين، إلى أن مات عبد الله بن أبي، ثمّ نزلت الآيات الواردة في سورة التوبة بعد أن صلّى على جنازته و استغفر له، و أمرته تلك الآيات أن لا يصلّي على أحد منهم، و لا يقيم على قبره، لأنّهم كفروا بالله و رسوله، و ماتوا و هم فاسقون: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ. و نلحظ هنا حكماً بكفر عبد الله بن أبي و نظائره، و نهياً للنبيّ عن الصلاة عليهم! و كذلك حكمت الآية الكريمة الآتية بكفر المنافقين: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ
مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ. و قد نزلت هذه الآية فيما بعد، و في ضوئها لم يعد الاستغفار لهم مفيداً، بل أصبح محظوراً.
نزلت سورة التوبة في السنة التاسعة من الهجرة
هاتان الآيتان كلتاهما في سورة التوبة (الاولى هي الآية ۸٤، و الثانية هي الآية ۸۰) و نزلت هذه السورة في غزوة تبوك في السنة التاسعة من الهجرة. و استغرقت ثلاثة أشهر من السنة المذكورة اعتباراً من رجب إلى شهر رمضان؛ و توفّي عبد الله بن أبي في ذي العقدة من السنة المشار إليها. و من الثابت أنّ القرائن و الشواهد المتحصّلة تفيد أنّ هاتين الآيتين نزلتا بعد موت ابن أبي.
و معنى قولهم: إنّ سورة التوبة نزلت في غزوة تبوك، هو أنّها نزلت في تلك الأيّام و الشهور التي سبقتها و تلتها، لا أنّ آياتها كلّها نزلت في تلك السفرة؛ إذ إنّ من الواضح أنّ الآيات التي تعبّئ الناس و تحثّهم على السفر،
لا بدّ أن تنزل قبل السفر، كالآية الكريمة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ (الآية ٣٣۸)، و الآية الكريمة: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ (الآية ٣٩)، و الآية الكريمة: انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (الآية ٤۱).
و من الواضح أيضاً أنّ الآيات الواقعة في أوائل السورة كانت بعد سفر تبوك. كالآيات الكريمة الآتية: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ ، وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ إلى الآية ٣۷: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا.
إن جميع هذه الآيات النازلة في سياق واحد، نزلت في ذي القعدة من هذه السنة، و هي تخاطب المشركين في مكّة و مناطقها. و قد بعث رسول الله في بادئ الأمر أبا بكر لقراءتها على المشركين في موسم الحجّ بمكّة. ثمّ عزله بأمر الله و اختار أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين للقيام بهذه المهمّة. فأخذها الإمام عليه السلام من أبي بكر و توجّه إلى مكّة و قرأها على المشركين في موسم الحجّ بمنى.
أجل، يتحصّل ممّا ذكرنا ما يأتي: أوّلًا: كان استغفار رسول الله و صلاته آنذاك قبل نزول هاتين الآيتين اللتين حكمتا بكفر المنافقين. و كان على رسول الله يومئذٍ أن يصلّي على كلّ مسلم ظاهر الإسلام و يستغفر له، وفقاً للحكم العامّ.
ثانياً: كان عمله صلّى الله عليه و آله غير مخالف للقرآن، ذلك أنّ النهي عن الصلاة، و الوقوف على القبر، و لغويّة الاستغفار لكفرهم، كلّ اولئك كان بعد وفاة ابن أبي، و صلاة رسول الله عليه، و قيامه على قبره، و استغفاره له.
ثالثاً: كان اعتراض عمر على النبيّ و منعه من الصلاة خطاً محضاً و خبطاً صرفاً؛ إذ لم ينزل حكم بعدم الصلاة بعدُ. و أنّ ما نراه في بعض روايات العامّة أنّ عمر قال للنبيّ: أ لم ينهك الله عن الصلاة على المنافقين؟ كلام موضوع، مضافاً إلى أنّه يغاير ما ورد في بعض الروايات التي نقلوها، و منها هذه الرواية التي تذكر أنّ رسول الله لم يبتعد كثيراً عن المدينة بعدُ، حتّى نزلت هذه الآية: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً.
بأيّ إذن شرعيّ أو مسوّغ عقليّ يقف عمر بوجه رسول الله و يحول دون تحقيق ما يريد؟ و كيف يتجرّأ فيجرّ ثوب رسول الله و يمنعه على مرأى و مسمع آلاف المجتمعين من كبار الأنصار من طائفة الأوس
و الخزرج في وقت قد تقدّم فيه رسول الله و وقف على الجنازة من أجل الصلاة؟ و بعد أن قال له رسول الله: أخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ! لم يعتنِ، و قال: فعل ابن أبي في اليوم الفلانيّ كذا و كذا، فلا تُصلّ عليه!
و لو أراد رسول الله العمل بهذه الأقوال، فإنّ أوّل من يستحقّ المحاكمة هو عمر لما صدر منه أمام الملأ المجتمعين، إذ تقدّم أمام رسول الله، و منعه من الصلاة.
هل أنت نبيّ يا عمر؟ أو أنت جبرائيل؟ هل أنت الآمر يا عمر، و رسول الله المأمور؟!
يضاف إلى ذلك كلّه، هل حُمّلت يا عمر إصر عبد الله بن أبي، و تخاف أن لو غُفر له، فإنّ آصاره تقع عليك؟ و هل يُخطئ رسول الله و هو صاحب المقامات و الدرجات العظيمة، و أنت لا تُخطئ و تزعم أنّك تفهم؟ و هل كان أمره خلطاً و خبطاً، و أمرك صحيحاً صائباً مستقيماً؟ فلهذا نرى في بعض روايات العامّة أنّه يعترف بتقصيره، و يعدّ عمله هذا هفوة. و نقرأ في بعضها الآخر أنّه يعجب من جرأته على رسول الله، و كأنّه يقول: كيف تجرّأتُ و وقفتُ أمام رسول الله، و منعته، و جذبت ثوبه؟!
و هنا تسجّل مدرسة الشيعة مؤاخذتها على هذه الأعمال بجدّ و صراحة. و ترى أنّ هذا الشخص المنتهك غير خليق بالخلافة. و تعتقد أنّه عادٍ، متجاوز، غاصب، و ذلك لانتهاكاته الكثيرة، كهذا الانتهاك، و انتهاكه الآخر و هو أشدّ و أنكى إذ تفوّه بكلمته الشهيرة، و رسول الله يحتضر، فقال: «إنّ الرجل ليهجر!» و انتهاكه الثالث بعد وفاة النبيّ الأعظم، إذ أخذ أمير المؤمنين إلى المسجد، و هو شاهر سيفه ليرغمه على البيعة و التسليم لأفكاره و آرائه، و أفكار أعوانه و آرائهم. و تذهب المدرسة المذكورة إلى أنّ الخلافة و الإمامة حقّ الإمام المعصوم و النائب الحقيقيّ لرسول الله.
كان عبد الله بن أبي خندقاً عظيماً في قبال الإسلام
أجل، إنّنا نتصوّر أنّ جميع المهاجرين و الأنصار كانوا عباداً مطيعين لأمر رسول الله، و كانوا ينتظرون صدور الأمر منه فحسب، ليسرعوا إلى تنفيذه بأنفسهم و قلوبهم. لا، ليس كذلك. فقد كان كثير منهم عتاة متمرّدين ذوي توجّهات عدوانيّة منتهكة، و لم يشكروا الله و رسوله على إسلامهم، إذ هاجر رسول الله من مكّة إلى المدينة، و واجه المصاعب و الشدائد من أجل إرشادهم و إغاثتهم و هدايتهم، بل كانوا يمنّون على رسول الله أنّهم أسلموا، و أنّ الأنصار آووا المهاجرين، و أنّهم الذين فعلوا كذا و كذا من الأعمال. و لو لا ذلك الخُلق المحمّديّ الرفيع الذي نطق به القرآن الكريم، إذ قال: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ۱ لتفرّقوا عنه بأجمعهم، و لم يتمسّك أحد منهم بالإسلام. و كان نبيّنا العظيم بحراً من الرحمة، و إن
كان تشبيهه بالبحر قاصراً حقّاً. فهو الذي طوّع اولئك الأعراب الجفاة المتعنّتين المستكبرين و ذلّلهم. و كان على ما كان عليه من العفو و الإغماض و الإيثار و الرحمة الواسعة كالبحر العميق المتلاطم الذي لم يلوّثه فم الكلب. و لم يتغيّر و لم يأسن و لم يصبح مضافاً بفعل ما تدخله من مكدّرات الحوادث و الطعون المشينة.
و كان عبد الله بن أبي رجلًا ذا نفوذ و قدرة، و مال عظيم و ثروة، و بيت مفتوح للقادمين، إذ كان يساعد المعوزين من الخزرج، و يرى نفسه رئيسهم و مقدّمهم. و له قصب السبق على الأوس. و كان ينظر إلى النبيّ نظرة ازدراء و استصغار و احتقار؛ و ينظر إلى المؤمنين الفقراء نظرة امتهان و خفّة. و لم يستطيع أن يدرك تلك الروح العظيمة التي كان يتحلّى بها رسول الله، و تلك الدرجة الرفيعة، و جمال الخلوص، و لطافة الخلوة،
و ظرافة المماشاة و المداراة و عمله مع الله و خلقه. و نجد في كلّ زمان و مكان أنّ سواد الناس و العامّة من الهمج الرعاع كانوا تابعين لأمثال هؤلاء الأشخاص الذين يعتبرون رؤساء القوم و وجهاءهم و أعيان المحلّة و المدينة. و لو لا ما كان عليه رسول الله من رحابة الصدر، و عمق الإدراك، و عظم التحمّل و الصبر الذي يزعزع الطود، لما ترك هؤلاء الأشخاص أحداً يقترب من الإسلام.
كان رسول الله يواجه أمثال هذه الشخصيّات المستكبرة، فما عساه أن يفعل؟ و هل كان بمقدوره أن يصدر حكم الإعدام بحقّ هؤلاء؟ أبداً أبداً. فهم الذين كانوا يقلبون المدينة على النبيّ، كما فعلوا ذلك سرّاً و تعاونوا مع اليهود و المشركين و حرّضوهم على حرب رسول الله و المؤمنين.
لم يستطع رسول الله إقامة حدّ القذف على عبد الله بن أبي
لم يتمكّن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يجري على ابن ابيّ حدّ القذف، و هو الذي اتّهم عائشة بالزنا. و وردت هذه القصّة في القرآن الكريم. و على الرغم من أنّ حكم حدّ من قذف مؤمناً أو مؤمنة بالزنا قد نزل في القرآن الكريم، و كان يعمل به، بَيدَ أنّ رسول الله لم يستطع أن يجري عليه الحدّ، و هو الذي قذف زوجة رسول الله بالزنا، و علم الجميع أنّه كذب و افتراء. أي: لم تكن القدرة المركزيّة لرسول الله وصلت إلى درجة أنّ أصحابه يستطيعون إحضاره و إجراء الحدّ عليه؛ لأنّ حدّه يعني حدّ المنافقين كافّة، بل حدّ معظم أعوانه و من دار في فلكه؛ و كان إجراء حدّ واحد يعادل إجراء ألف حدّ، إذ كان عبد الله يتمتّع بمكانة اجتماعيّة و قوميّة بين العرب تفوق مكانة ألف رجل منهم. و حينئذٍ لو كان قد اجري عليه الحدّ، فلا يقرّ قرار أعوانه و أنصاره، بل لاتّخذ كلّ منهم موضعه على سجيّة رئيسهم، و انبروا للدفاع و القتال و المخاصمة، و أقسموا
أيماناً مؤكّدة على قذف عائشة بالزنا؛ و لتعطّل الحدّ، بل و يبقى هذا العار لاصقاً بعائشة على امتداد التأريخ، مع أنّها كانت بريئة من ذلك.
و تحدّث المُلَّا صَالِحُ المازنْدَرَانِيّ في شرح «اصول الكافي» عن سبب سكوت أمير المؤمنين عليه السلام و عدم قيامه بالسيف بعد رسول الله لاسترجاع حقّه و إعادة منصبه في الخلافة و الإمامة. و ذكر سبعة وجوه، جعل الوجه الخامس منها عدم تمكّن الإمام، كما أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لم يتمكّن من إجراء الحدّ على عبد الله بن أبي الذي افترى على عائشة.
و أجاب عن كلام بعض العامّة الذين قالوا: لو كان الحقّ مع عليّ، فلما ذا لم يقم بالسيف بعد وفاة رسول الله، مع أنّ أخذ الحقّ واجب؟ و إذا كان رسول الله قد عيّنه وصيّاً و خليفة و إماماً للمسلمين بعده، فإنّ واجبه الشرعيّ و العقليّ يتطلّب منه القيام و أخذ حقّه. و إن لم يفعل، فهو آثم.
و لمّا كان عليّ لا يذنب، فإنّ القيام بالسيف لم يجب عليه؛ أي: أنّ الخلافة لم تكن حقّه الإلهيّ. و قال الملّا صالح ما نصّه: و أمّا خامساً، فلأنّ العياض شارح «صحيح مسلم» نقل في حديث الإفك عن بعض علمائكم (علماء السنّة) أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم إنّما لم يحدّ عبد الله بن أبي رأس المنافقين بالافتراء على زوجته عائشة، لأنّه كانت له منعة منه و يخشى من إقامته افتراق الكلمة، و ظهور الفتنة. فإذا جاز للنبيّ ترك الحدّ لخوف الفتنة مع كثرة أعوانه و أنصاره، فقد جاز لعليّ عليه السلام ترك المحاربة و المقاتلة مع عدم المعاون لمثل ذلك۱.
و أمّا الآيات المباركة: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ
لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ، وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا ، إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً۱. فإنّها تتحدّث عن كيدهم لتقريب النبيّ إلى المشركين و ركونه إليهم في اصول المعارف و التوحيد، أي: في ما أنزل الله، لا في عدم التمكّن من إجراء الأحكام بسبب عدم القدرة و القوّة في الخارج. كما رأينا في باب غدير خمّ أنّ الله تعالى كان يأمر نبيّه صلّى الله عليه و آله و سلّم بتبليغ إمامة أمير المؤمنين عليه السلام و وصايته و خلافته بواسطة جبرائيل عليه السلام، بَيدَ أنّ النبيّ كان يخشى الفتنة و الفوضى، فلهذا كان ينتهز الفرصة المناسبة حتّى نزلت عليه الآية: وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ٢.
فأوقف النبيّ الأكرم القافلة في غدير خمّ، و خطب خطبته الغرّاء المعروفة. صلّى الله عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ!
بطلان القول بخلافة غير أمير المؤمنين على المدينة في غزوة تبوك
أجل، تحدّثنا عن خصوصيّات غزوة تبوك مفصّلًا ليستبين وضع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السلام يومذاك في مواجهة المنافقين الذين كان لهم حزب و تكتلّ، و مجالس سمر شيطانيّة خفيّة. و ليُعْلَم السبب الذي دفع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم إلى استخلاف أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام على المدينة، و عدم أخذه معه في تلك السفرة و هو الذي كان معه في جميع غزواته، و هو الطليعيّ الوحيد، و حامل لوائه، و حاميه و ناصره و معينه، و هو المخلص المتحمّس المشفق الفدائيّ لرسول الله. فلم يصطحبه و تركه في المدينة
لئلّا تضطرب أوضاعها بخطط المنافقين، و لتقطع صولته و ابّهته يد المتآمرين، و ليدحض خططهم و برامجهم. و لكي لا تسقط المدينة بزحف الكفّار و المشركين و مؤازرة المنافقين و هي بيضة الإسلام و محور و مقرّ بلاد المسلمين، و حينئذٍ تذهب أتعاب رسول الله و معاناته خلال اثنتين و عشرين سنة هدراً.
وهنا قال له رسول الله: يَا عَلِيّ! إنَّ المَدِينَةَ لَا تَصْلُحُ إلَّا بي أوْ بِكَ! أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! و إلَّا لَكُنتَ نَبِيَّاً يَا عَلِيّ.
صلّى الله عَلَيْكَ يَا أمير المؤمنين!
و يتّضح ممّا بيّناه أنّ ما قاله الطبريّ في تاريخه۱، و ابن الأثير في تاريخه٢ أنّ رسول الله خلف على المدينة سِبَاع بن عُرْفُطَة الغِفَارِيّ؛ و كذلك ما قاله ابن كثير٣، و الواقديّ٤، و ابن هشام٥ إنّه خلفه، أو خلف مُحمّد بن مَسْلَمة الأنصاريّ٦ على المدينة، و خلف عليّ بن أبي طالب عليه
السلام على أهله، كلّ ذلك كلام باطل و مخالف للشواهد و القرائن القطعيّة في التأريخ، و ذلك للأسباب الآتية:
أوّلًا: ذكر صاحب «السيرة الحلبيّة» هذين الشخصين مضافاً إلى أنّه قال: و قيل: خلف على أهل المدينة ابْنَ امّ مَكْتُوم. و قيل: عَلِيّ بْنَ أبي طَالِبٍ۱. و التردّد بين هؤلاء الأشخاص دليل على أنّ استخلاف ذينك الشخصين احتمال محض لا يقوم على حجّة. بل إنّ التردّد بين الشخصين المذكورين ينسف القاطعيّة و العلم، و ينزل بالحتميّة و اليقين إلى الشكّ و الاحتمال.
ثانياً: قال مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ البِرِّ في «الاستيعاب»: إنّ استخلاف عليّ بن أبي طالب على المدينة و على عيالات رسول الله في غزوة تبوك مِنْ أثْبَتِ الآثَارِ وَ أصَحِّهَا.
و قال ابن عبد البرّ في هذا الكتاب ضمن ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام: دفع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الراية يوم بدر إلى عليّ، و هو ابن عشرين سنة. ذكره السَّرَّاج في تاريخه. و لم يتخلّف عن مَشْهَدٍ شهده رسول الله مذ قدم المدينة إلّا تبوك، فإنّه خلّفه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم على المدينة و على عِيَاله بعده في هذه الغزوة. و استخلاف عليّ على المدينة من أثبت الآثار و أصحّها. و قال له: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي. و حديث المنزلة من أثبت الأخبار و أصحّها. رواه عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم سَعْدُ بْنُ أبي
وَقَّاصٍ. و طرق حديث سعد فيه كثيرة جدّاً قد ذكرها ابْنُ أبي خَيْثَمة و غيره. و رواه ابن عبّاس، و أبو سعيد الخُدْريّ، و امّ سَلَمَة، و أسماء بنت عُمَيْس، و جابر بن عبد الله، و جماعة يطول ذكرهم۱.
و قال عليّ بن برهان الدين الحَلَبيّ الشافعيّ صاحب «السيرة» بعد ذكر مُحَمَّد بن مَسْلَمَة، وَ سِبَاع بن عُرْفُطَة، وَ ابْن امّ مَكْتُوم: قال ابْنُ عَبْدِ البِرِّ: خلف عليّ بْن أبي طالب على المدينة، و هو الأثبت و الأتقن٢.
و قال الشيخ المفيد: و لمّا أراد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم الخروج من المدينة، استَخْلَفَ أمير المؤمنين عَلَيْهِ السَّلَامُ في أهْلِهِ وَ وُلْدِهِ وَ أزْوَاجِهِ وَ مَهَاجِرِهِ؛ وَ قَالَ لَهُ: يَا عَلِيّ! إنَّ المَدِينَةَ لَا تَصْلُحُ إلَّا بي أوْ بِكَ! (أي: أنّ الأمر ينتهي إلى الفساد عند عدم وجودي و وجودك).
و ذلك أنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم علم من خبث نيّات الأعراب، و كثير من أهل مكّة و من حولها ممّن غزاهم، و سفك دماءهم. فأشفق أن يطلبوا المدينة عند نَأيِهِ عنها و حصوله ببلاد الروم أو نحوها. فمتى لم يكن فيها من يقوم مقامه، لم يؤمن من معرّهم، و إيقاع الفساد في دار هجرته، و التخطّي إلى ما يشين أهله و مخلّفيه. و على أنّه لا يقوم مقامه في إرهاب العدوّ و حراسة دار الهجرة، و حياطة من فيها إلّا أمير المؤمنين عليه السلام. فلهذا استخلفه استخلافاً ظاهراً، و نصّ عليه بالإمامة من بعده نصّاً جليّاً.
و ذلك فيما تظاهرت به الرواية أنّ أهل النفاق لمّا علموا باستخلاف رسول الله عليّاً على المدينة، حسدوه لذلك، و عظم عليهم مقام أمير المؤمنين فيها بعد خروجه؛ و علموا أنّها تتحرّس به، و لا يكون فيها للعدوّ مطمع.
فساء المنافقين ذلك، و كانوا يؤثرون خروجه معه لما يرجونه من وقوع الفساد و الاختلاط عند نأي رسول الله عن المدينة؛ و خلوّها من مرهوب مخوف يحرسها؛ و غبطوه على الرفاهية و الدعة بمقامه في أهله؛ و تكلّف من خرج منهم المشاقّ بالسفر بالخطر، فأرجفوا به و قالوا: لم يستخلفه رسول الله إكراماً له و إجلالًا و مودّة، و إنّما خلّفه استثقالًا له فبهتوا بهذا الإرجاف كبهت قريش لرسول الله بالجنون تارة، و بالشعر اخرى، و بالسحر مرّة، و بالكهانة اخرى، و هم يعلمون في رسول الله ضدّ ذلك و نقيضه، كما علم المنافقون ضدّ ما أرجفوا به على أمير المؤمنين و خلافه، و أنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم كان أخصّ الناس بأمير المؤمنين، و كان هو أحبّ الناس إليه و أسعدهم عنده و أحظاهم عنده، و أفضلهم لديه.
فلمّا بلغ أمير المؤمنين عليه السلام إرجاف المنافقين به، أراد تكذيبهم و إظهار فضيحتهم، فلحق بالنبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، فقال: يَا رَسُولَ اللهِ! إنّ المنافقين يزعمون أنّك خلّفتني استثقالًا و مقتاً!
فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: ارْجِعْ يَا أخِي إلى مَكَانِكَ! فَإنَّ المَدِينَةَ لَا تَصْلُحُ إلَّا بي أوْ بِكَ! فَأنْتَ خَلِيفَتِي في أهلِ بَيْتِي وَ دارِ هِجْرَتِي وَ قَوْمِي! أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي۱!
الشواهد القطعيّة على خلافة الإمام عليّ على المدينة في غزوة تبوك
ثالثاً: إنّ الكلمات التي خاطب بها رسولُ الله أمير المؤمنين عليهما الصلاة و السلام في حديث المنزلة، أو التي اثرت عن الرواة تدلّ على
خلافة الإمام على جميع أهل المدينة. كرواية أبي داود الطيالسيّ في مسنده عن شعبة، عن الحكم، عن مصعب بن سعد، عن سعد أنّه قال: خَلَّفَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ عَلِيّ بْنَ أبي طَالِبٍ في غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أ تُخَلِّفُنِي في النِّسَاءِ وَ الصِّبْيَانِ؟! فَقَالَ: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟!۱ و ذلك أنّه:
أوّلًا: في كلمة خلَّف إطلاق. و هي تفيد استخلافه على الجميع؛ و بالأخصّ جاء جوابه صلّى الله عليه و آله و سلّم في رواية ابن إسحاق كما يأتي: كَذَبُوا وَ لَكِنِّي خَلَّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائي٢. و من المعلوم أنّ هذه الجملة لا تفيد الإطلاق فحسب، بل هي عامّة لكافّة شئون المدينة و ما يحتاج أهلها جميعهم.
ثانياً: قوله: إنَّ المَدِينَةَ لَا تَصْلُحُ إلَّا بي أوْ بِكَ٣ نصّ صريح على استخلافه على المدينة كلّها.
ثالثاً: ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم: وَ خَلَّفَ أمير المؤمنين عَلَيهِ السَّلَامُ على المَدِيْنَةِ٤. و لمّا جاء الإمام إلى رسول الله شاكياً من المنافقين، قال له صلّى الله عليه و آله و سلّم: يَا عَلِيّ! أ لَمْ اخَلِّفْكَ على المَدِينَةِ٥؟!
رابعاً: رأينا في رواية الشيخ المفيد قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: فَأنْتَ خَلِيفَتِي في أهْلِ بَيْتِي وَ دارِ هِجْرَتِي وَ قَوْمِي۱. و تنصّ هذه العبارة على العموم.
خامساً: ذكر الشيخ الطبرسيّ قائلًا: وَ اسْتَعْمَلَ عَلَى المَدِينَةِ عَلِيَّاً، وَ قَالَ: إنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمَدِينَةِ مِنِّي أوْ مِنْكَ٢. و ذكر أيضاً: إمَّا أنْ تَخْرُجَ أنْتَ وَ يُقيِمَ عَلِيّ وَ إمَّا أنْ يَخْرُجَ عَلِيّ وَ تُقِيمَ أنْتَ٣.
سادساً: قال ابن حجر العسقلانيّ: وَ قَالَ لَهُ في غَزْوَةِ تَبُوكَ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ. أي: لَا يَنْبَغِي أنْ أذْهَبَ إلَّا وَ أنْتَ خَلِيفَتِي٤!
تنصّ هذه العبارة كسابقاتها على عموميّة الاستخلاف على جميع شئون الناس. و يستفاد هذا المعنى التفسيريّ من تشبيه منزلته بمنزلة هارون من موسى، فكما أنّ موسى لم يؤذن له بالذهاب إلى جبل طور للمناجاة دون أن ينصب أخاه هارون خليفة له على امّته، فكذلك أنا لم يؤذن لي التوجّه إلى غزوة تبوك إلّا أن أنصبك يا عليّ خليفة لي!
إن ما يبدو من كلمات بعض المؤرّخين إذ ذكروا أنّ الذين نصبهم
رسول الله في غزوة تبوك هم غير أمير المؤمنين عليه السلام، مع اعتراف الجميع بنصبه على أهل البيت، و بحديث المنزلة، هو إمّا سهو و خطأ تمثّل في ذكره مع من نصبهم رسول الله في سائر الغزوات، و حجّة الوداع، و عمرة الحُدَيْبِيَّةِ كسِبَاعِ بْنِ عُرْفُطَة، وَ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمة، وَ ابْنِ امَّ مَكْتُومٍ؛ و إمّا سهو و خطأ متعمَّد ارتكبه بعض أصحاب السير و يلاحظ من سِيَرهم جيّداً أنّهم مغرضون، و قد دسّوا في التأريخ الصحيح و الثابت. و أنّ الراوي الأوّل الذي ارتكب هذا التحريف و الخيانة، قد سار بسيرته الآخرون أيضاً فأخذوا كلامه و سطّروه في كتبهم، و ذلك إمّا بتأييد خيانته، أو من وحي التساهل و عدم الإمعان و النقد و التحليل للسيرة و التأريخ الصحيح. و كذلك جاء بعدهم من اعتمد على قوله، و نقله إلى الأجيال المعاصرة و القادمة يداً بيد، حتّى نجد أنّ أحد الكتّاب المعاصرين ممّن ألّف في السيرة النبويّة باللغة الفارسيّة يقول: على الرغم من أنّه (النبيّ) خلّف محمّد بن مسلمة على المدينة، بَيدَ أنّه قال لعليّ عليه السلام: «أنت خليفتي في أهل بيتي و قومي و المهاجرين، و لا يصلح لذلك إلّا أنا أو أنت».
و من المؤسف جدّاً أنّ شيعيّاً يتمتّع بالصلاح و الخلوص، و قد ألّف كتابه خدمة للثقافة الإسلاميّة و المسلمين، غفل عن هذه النقطة، و حرّف التأريخ الثابت -من حيث لا يشعر- وفقاً لأهواء واضعي الأحاديث بعد إدانة عليّ عليه السلام و عزله في بيته. و سبب الخطأ هو ضيق الافق الملحوظ في بعض تواريخ العامّة التي مرّ ذكرها. و عدم التتبّع التامّ في أقوال مصادر العامّة، و عدم التتبّع في سِيرَ الشيعة و مصادرهم التأريخيّة.
إن النقطة المهمّة و الجديرة بالاهتمام هي أنّ كتّابنا ينبغي أن لا يجعلوا كتب العامّة مصادرهم الأصليّة في دراساتهم، و يعتمدوا على أقوالهم، و يذكروا كتبهم و علماءهم من غير نظر و اهتمام بسيرة الشيعة. إنّه
لضرر عظيم و خسارة فادحة إذ تنقلب حقيقة مدرسة التشيّع. ذلك التشيّع الذي استطاع أن يبرز وجهه الحقيقيّ من خلال آلاف المرارات، و الدماء المهراقة، و أظهر الحقّ من بين الافتراءات و التهم و ضروب البهتان و القتل و التعذيب، و دحض الباطل و أبعده. و إذا بهؤلاء يتوجّهون إلى كتب العامّة تبرّعاً بلا ثمن. تلك الكتب التي الّفت لترسيخ مذهب حكّام الجور و السلاطين الظالمين، و لم تدّخر وسعاً لتدمير حقيقة التشيّع بكلّ حربة من حرابها، و استخدمت كلّ وسيلة ممكنة من أجل ذلك. و جعلها هؤلاء مصادر و ملاجئ لموضوعاتهم التحقيقيّة و العلميّة.
فلهذا نحن نستفيد في هذا الكتاب من مصادر الشيعة الرصينة بحمد الله و منّه؛ و لنا حديث من مصادر العامّة أيضاً للتأييد و اعتراف الخصم من باب: وَ الفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الأعْدَاءُ۱ و كذلك نستخدم فنّ الجدل، و نقمع الخصم و ندكّ صولته بنفس حربته. و هذا هو باب الجدل إذ تُتَّخذ ثوابت الخصم منه، ثمّ يُدَان بعين مقدّماته الثابتة المسلّمة: وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ٢. و هذا هو طريق بحثنا. أوّلًا: يبلغ بالإنسان إلى الاصول و المعارف الحقّة الحقيقيّة في ضوء المباني المسلّمة و المحقّقة؛ و يبلغ العقائد و المعارف من باب البرهان الذي يضع المسلّميّات و اليقينيّات في صغرى قياسه و كبراه. ثانياً: يعرّف الخصم على آرائه و مواضع نقده و تزييفه؛ و يرغمه على التسليم.
لقد ألّف العلّامة الكبير المرحوم الأمينيّ رحمة الله عليه كتابه القيّم «الغدير» لإبطال آراء المخالفين من العامّة فحسب، كي يقسرهم على الاعتراف و الإقرار بحقّانيّة مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السلام و إمامته و ولايته و وصايته بلا فصل؛ و يضعضع مذهب المناوئين؛ لا أنّه كتبه للشيعة الذين ينبغي أن يأخذوا اصول معارفهم من مصدر و سند معيّنين. فلهذا استُفيد في هذا الكتاب من الجدل ليس غيره، كما اعتمد على مصادر العامّة و كتبهم فحسب.
و كذلك ألّف العلّامة السيّد محمّد قُلي كتاب «تشييد المطاعن»۱ للردّ
على «التحفة الاثنا عشريّة». و ألزم نفسه بالاستفادة من روايات العامّة و مصادرهم. و إلّا فلا دور لهذا الكتاب في الردّ على التحفة المذكورة.
و صنّف العلّامة مير حامد حسين الهنديّ النيسابوريّ كتابه الشريف
«عبقات الأنوار»۱ في الردّ على كتاب «التحفة العزيزيّة» الذي هو نفسه كتاب «التحفة الاثنا عشريّة». و لا حيلة إلّا بالاستناد إلى مصادر العامّة، و تفهيمهم بالمسلّمات الثوابت الموجودة في كتبهم.
و كذلك نلحظ كتب المرحوم العلّامة السيّد شرف الدين العامليّ «كالمراجعات» و «الفصول المهمّة» و «أبو هريرة»، فإنّها التزمت بنفس المنهج؛ و عرضت طريق الحقيقة بالاستناد إلى مصادر العامّة المتقنة؛ و ألزمت المخالف بالقبول.
أمّا الذين لم تؤلّف كتبهم للردّ، و لم تصنّف لإلزام المخالفين، بل صنّفت لإرشاد و هداية عموم المسلمين سواء كانوا من الشيعة أم من السنّة. و حتّى لو كانوا من المسلمين و غيرهم، فعليهم أن يصنّفوا كتبهم على أساس
المقدّمات البرهانيّة و من وحي المقدّمات المسلَّمة الثابتة، من الكتب و المصادر الموثوقة، و العلماء المرضيّين البعيدين عن التعصّبات الجاهليّة.
أجل، لنعد إلى أصل الموضوع، و هو أنّ استخلاف أمير المؤمنين عليه السلام على المدينة في غزوة تبوك ممّا لا شكّ و لا شبهة فيه. حتّى أنّ ابن تيميّة الحرّانيّ الذي كان رأس المناوئين و طليعة ركب العناد و اللجاجة في طرح إشكالاته و افتراءاته و ضروب بهتانه بالنسبة إلى الأخبار و الأحاديث الصحيحة الماثورة عن رسول الله في أمير المؤمنين عليه السلام لم يستطع أن يُشكل على العلّامة الحلّيّ رضوان الله عليه في استشهاده بهذا الحديث؛ و إنّما وجّه مؤاخذته إلى موضع آخر. و توضيح ذلك.
حديث عمرو بن ميمون برواية العلّامة الحلّيّ رضوان الله عليه
روى أحمد بن حنبل في مسنده عن يحيى بن حَمّاد، عن أبي عَوَانَة، عن أبي بَلْج، عن عمرو بن ميمون، قال: إنّي لجالس إلى ابن عبّاس إذ أتاه تسعة رهط فقالوا: يا ابن عبّاس! إمّا أن تقوم معنا و نذهب إلى مكان آخر و نتحدّث! و إمّا تخلو بنا عن هؤلاء! قال ابن عبّاس: بل أنا أقوم معكم و قال ابن ميمون: و هو يومئذٍ صحيح، قبل أن يعمى.
فذهبوا مع ابن عبّاس و تحدّثوا؛ فلم نعلم ما قالوا، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ وَ يَقُولُ: افٍّ و تُفٍّ! وَقَعُوا في رَجُلٍ لَهُ عَشْرٌ؛ وَقَعُوا في رَجُلٍ!
(۱) قَالَ لَهُ النَّبِيّ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلهِ وَ سَلَّمَ: لأبْعَثَنَّ رَجُلًا لَا يُخْزِيهِ اللهُ أبَدَاً يُحِبُّ اللهَ وَ رَسُولَهُ. قَالَ: فَاسْتَشْرَفَ لَهَا مَنِ اسْتَشْرَفَ. قَالَ: أيْنَ عَلِيّ؟! قَالُوا: هُوَ في الرَّحْلِ يَطْحَنُ! قَالَ: وَ مَا كَانَ أحَدُكُمْ لِيَطْحَنَ؟! قَالَ: فَجَاءَ وَ هُوَ أرْمَدُ لَا يَكَادُ يُبْصِرُ. قَالَ: فَنَفَثَ في عَيْنَيْهِ؛ ثُمَّ هَزَّ الرَّايَةَ ثَلَاثَاً؛ فَأعْطَاهَا إيَّاهُ، فَجَاءَ بِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيّ.
(٢) قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ فُلاناً بِسُورَةِ التَّوْبَةِ، فَبَعَثَ عَلِيَّاً خَلْفَهُ؛ فَأخَذَهَا
مِنْهُ. قَالَ: لَا يَذْهَبُ بِهَا إلَّا رَجُلٌ مِنِّي وَ أنَا مِنْهُ.
(٣) قَالَ: وَ قَالَ لِبَنِي عَمِّهِ: أيُّكُمْ يُوَالِيني (بحيث لا يفصل بيني و بينه أي حجاب، و يكون معي في السرّاء و الضرّاء كنفسي و متكفّلًا باموري) في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ؟! قَالَ: وَ عَلِيّ مَعَهُ جَالِسٌ، فَأبَوا. وَ قَالَ عَلِيّ: أنَا اوَالِيكَ في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ! قَالَ: أنْتَ وَلِيِّي في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ. قَالَ: فَتَرَكَهُ ثُمَّ أقْبَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَقَالَ: أيُّكُمْ يُواليني في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ؟ فَقَالَ عَلِيّ: أنَا اوَاليك في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ! فَقَالَ أنْتَ وَلِيِّي في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ. وَ كَانَ أوّلَ مَنْ أسْلَمَ مِنَ النَّاسِ بَعْدَ خَدِيجَةَ.
(٤) قَالَ: وَ أخَذَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ثَوْبَهُ فَوَضَعَهُ على عَلِيّ وَ فَاطِمَةَ وَ حَسَنٍ وَ حُسَيْنٍ، فَقَالَ «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً».
(٥) قَالَ: وَ شَرَى عَلِيّ نَفْسَهُ. لَبِسَ ثوب النَّبيّ صلّى الله عَلَيه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ ثُمَّ نَامَ مَكَانَهُ. قَالَ: وَ كَانَ المُشْرِكُونَ يَرْمُونَ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ فَجَاءَ أبُو بَكْرٍ وَ عَلِيّ نَائِمٌ. قَالَ: وَ أبُو بَكْرٍ يَحْسَبُ أنَّهُ نَبِيّ اللهِ. قَالَ: فَقَالَ: يَا نَبِيّ اللهِ! قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيّ: إنَّ نَبِيّ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَدِ انْطَلَقَ نَحْوَ بِئْرِ مَيْمُونٍ فَأدْرِكْهُ! قَالَ: فَانْطَلَقَ أبُو بَكْرٍ فَدَخَلَ مَعَهُ الغَارَ. قَالَ: وَ جُعِلَ عَلِيّ يُرْمَى بِالحِجَارَةِ كَمَا يُرْمَى نَبِيّ اللهِ وَ هُوَ يَتَضَوَّرُ قَدْ لَفَّ رأسَهُ في الثَّوْبِ لَا يُخْرِجُهُ حتّى أصْبَحَ، ثُمَّ كَشَفَ عَنْ رَأسِهِ فَقَالُوا: إنَّكَ لَلَئِيمٌ كَانَ صَاحِبُكَ نُرَامِيهِ فَلَا يَتَضَوَّرُ وَ أنْتَ تَتَضَوَّرُ وَ قَدِ اسْتَنْكَرْنَا ذَلِكَ.
(٦) قَالَ: وَ خَرَجَ النَّاسُ في غَزْوَةِ تَبُوكَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ عَلِيّ: أخْرُجُ مَعَكَ؟! قَالَ: فَقَالَ لَهُ نَبِيّ اللهِ: لَا، فَبَكَى عَلِيّ، فَقَالَ لَهُ: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ! إنَّهُ لَا يَنْبَغِي أنْ
أذْهَبَ إلَّا وَ أنْتَ خَلِيفَتِي!
(۷) قَالَ: وَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ: أنْتَ وَليِّي في كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي!
(۸) وَ قَالَ: سُدُّوا أبْوَابَ المَسْجِدِ غَيْرَ بابِ عَلِيّ فَقَالَ: فَيَدْخُلُ المَسْجِدَ جُنُباً وَ هُوَ طَرِيقُهُ لَيْسَ لَهُ طَرْيقٌ غَيْرُهُ.
(٩) قَالَ: وَ قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَإنَّ مَوْلَاهُ عَلِيّ.
(۱۰) قَالَ: وَ أخْبَرَنَا اللهُ عَزَّ وَ جَلَّ في القُرْآنِ أنَّهُ قَدْ رَضِيَ عَنْهُمْ عَنْ أصْحَابِ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ هَلْ حَدَّثَنَا أنَّهُ سَخَطَ عَلَيْهِمْ بَعْدُ؟ قَالَ: وَ قَالَ نَبِيّ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ لِعُمَرَ حِينَ قَالَ: ائْذَنْ لي فَلأضْرِبَ عُنُقَهُ (حاطب بن أبي بُلتَعَة)! قَالَ: أ وَ كُنْتَ فَاعِلًا؟! وَ مَا يُدْرِيكَ! لَعَلَّ اللهَ قَدِ اطَّلَعَ على بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ۱.
و روى العلّامة الحلّيّ هذه الرواية في كتاب «منهاج الكرامة» بعد حذف رواتها من عمرو بن ميمون إلى قول رسول الله: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا عَلِيّ مَوْلَاهُ، و قال: و عن عمرو بن ميمون٢.
تزوير ابن تيميّة و تلبيسه في كتاب «منهاج السنّة»
و ذكرها ابن تيميّة في كتاب «منهاج السُّنَّة» مع تتمّة بعنوان رواية العلّامة مرفوعة٣، و أوردها عن العلّامة بتعبير: قال الرافضيّ٤. ثمّ انبرى
إلى جوابها، أنّها غير مسندة، بل مرسلة (بلا سند) لو ثبتت عن عمرو بن ميمون؛ مضافاً إلى أنّ في الرواية ألفاظاً مفتراة على نبيّ الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كقوله: لَا يَنْبَغِي أنْ أذْهَبَ إلَّا وَ أنْتَ خَلِيفَتِي.
كذب ابن تيميّة، و مدى ضرورة استخلاف أمير المؤمنين يوم تبوك
فإنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم ذهب غير مرّة و خليفته على المدينة غير عليّ. كما اعتمر عمرة الحديبيّة، و عليّ معه، و خليفته غيره. و غزا بعد ذلك غزوة خيبر، و معه عليّ، و خليفته بالمدينة غيره. و غزا غزوة الفتح، و عليّ معه، و خليفته بالمدينة غيره. و غزا حنيناً و الطائف، و عليّ معه، و خليفته بالمدينة غيره. و حجّ حجّة الوداع، و عليّ معه، و خليفته بالمدينة غيره. و غزا غزوة بدر، و معه عليّ، و خليفته بالمدينة غيره. و كلّ هذا معلوم بالأسانيد الصحيحة، و باتّفاق أهل العلم بالحديث.
و كان عليّ معه في غالب الغزوات، و إن لم يكن فيها قتال. إلى أن قال:
و في غزوة تبوك، ما كان استخلاف عليّ إلّا على النساء و الصبيان؛ و المرضى و الفقراء الذين عذرهم الله. و على الثلاثة الذين خُلّفوا؛ أو مُتَّهَمٍ بالنفاق. و كانت المدينة آمنة لا يخاف على أهلها، و لا يحتاج المستخلَف من قبل رسول الله إلى جهاد.
و قال العلّامة الأمينيّ في جوابه: كان الأحرى بالرجل (ابن تيميّة) أن يحرّم و يحرّج على العلماء النظر في كتابه؛ فيختصّ خطابه بالرعرة الدهماء ممّن لا يعقل أي طرفيه أطول (قدّهم أو عرض بدنهم)، لأنّ نظر العلماء فيه يكشف عن سوءته؛ و يوضّح للملأ إعوازه في العلم، و انحيازه عن الصدق و الأمانة. و يظهر تدجيله و تزويره و تمويهه ما هو حقائق. و من المحتمل جدّاً أنّه قد غالى في عظمة نفسه يوم خوطب بشيخ الإسلام. فحسب أنّ
الامّة تأخذ ما يقوله كاصول مسلّمة لا تناقشه فيه الحساب. و إذ أخفق ظنّه و أكدى أمله، فهلمّ معي نمعن النظرة في هملجته حول هذا الحديث، و ما له فيه من جلبة و صخب.
فأوّل ما يتقوّل فيه: إنّه مرسل، و ليس بمسند.
فكأنّ عينيه في غشاوة عن مراجعة السند لإمام مذهبه أحمد بن حنبل، فإنّه أخرجه في ج ۱، ص ٣٣۱ عن يحيى بن حمّاد، عن أبي عوانة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عبّاس.
و رجال هذا الحديث رجال الصحيح غير أبي بلج، و هو ثقة عند الحفّاظ، كما مرّت في ترجمته، ج ۱، ص ۷۱.
و أخرجه أيضاً بسند صحيح رجاله كلّهم ثقات، الحافظ النسائيّ في «الخصائص» ص ۷، و الحاكم في «المستدرك» ج ٣، ص ۱٣٢. و صحّحه الحاكم و الذهبيّ. و الطبرانيّ كما في «مجمع الزوائد» للحافظ الهيثميّ و صحّحه. و كذلك أبو يعلى كما في «البداية و النهاية»، و ابن عساكر في «الأربعين الطوال»؛ و ذكره ابن حجر في «الإصابة» ج ٢، ص ٥۰٩، و جمع آخرون أسلفناهم في الجزء الأوّل، ص ٥۱.
و لذلك، ما عذر الرجل في نسبة الإرسال إلى مثل هذا الحديث؟ و إنكار سنده المتّصل الصحيح الثابت؟ أ هكذا يُفعل بودايع النبوّة؟! أ هكذا تلعب يد الأمانة بالسنّة و العلم و الدين؟
و الأعجب، أنّه عطف بعد ذلك على فقرات من الحديث، و هو يحاول تفنيدها، و يحسبها من الأكاذيب.
منها قول رسول الله: لَا يَنْبَغِي أنْ أذْهَبَ إلَّا وَ أنْتَ خَلِيفَتِي. فارتاه كذباً مستدلًّا بأنّ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم ذهب غير مرّة و خليفته على المدينة غير عليّ.
و من حلّل حقيقة الأمر من هذا الموقف، و استطلعها، علم: أنّ هذا الموقف الخاصّ، أي: الخروج إلى غزوة تبوك قضيّة شخصيّة لا تعدو قصّة تبوك. لما كان صلّى الله عليه و آله و سلّم يعلمه من عدم وقوع الحرب فيها. و كانت حاجة المدينة إلى خلافة مثل أمير المؤمنين عليها مسيسة لِما تداخل القوم من عظمة ملك الروم (هرقل)، و تقدّم جحفله الجرّار؛ و كانوا يحسبون أنّ رسول الله صلّى الله عليه و اله و سلّم و حشده الملتفّ به لا قِبَلَ لهم به؛ و من هنا تخلّف المتخلّفون من المنافقين؛ فكان أقرب الحالات في المدينة بعد غيبة رسول الله أن يرجِّف بها المنافقون للفتّ في عضد صاحب الرسالة، و التزلّف إلى عامل بلاد الروم الزاحف الذي عبَّأ الجيش، و هو في حالة التقدّم شيئاً فشيئاً.
و عندئذٍ و مع وجود مثل هذه المتطلّبات و الأحوال في المدينة، كان من الواجب أن يخلّف عليها أمير المؤمنين عليه السلام المُهاب في أعين القوم، و العظيم في النفوس الجامحة؛ و قد عرفوه بالبأس الشديد، و البطش الصارم، اتّقاء بادرة ذلك الشرّ المترقّب. و إلّا فأمير المؤمنين عليه السلام لم يتخلّف عن مشهد حضره رسول الله إلّا غزوة تبوك۱؛ و على هذا اتّفق علماء السير كما قال سبط بن الجوزيّ في «التذكرة» ص ۱٢.
و في وسع الباحث أن يستنتج ما بيّناه من قول رسول الله لأمير المؤمنين: كَذَبُوا وَ لَكِنْ خَلَّفْتُكَ لِمَا وَرَائي٢. و كذلك ما ورد في
الحديث الصحيح أنّ رسول الله حين أراد أن يذهب إلى تبوك، قال لأمير المؤمنين: وَ لَا بُدَّ مِنْ أنْ اقِيمَ أوْ تُقِيمَ فَخَلَّفَهُ۱.
و إذا عرفتَ ذلك كلّه، فلا يذهب عليك أنّ قول رسول الله: لَا يَنْبَغِي أنْ أذْهَبَ إلَّا وَ أنْتَ خَلِيفَتِي٢ ليس له مغزى إلّا خصوص هذه الواقعة؛ و ليس في لفظه عموم يستوعب كلّ ما غاب عن المدينة.
إذاً، في ضوء ما نقضه هذا الرجل (ابن تيميّة)، فإنّ قوله باستخلاف غير عليّ على المدينة في غير هذه الواقعة كلام باطل. حيث لم يكن فيه من إرجاف المنافقين و إثارتهم الفتنة؛ و كانت حاجة الحرب أمسَّ إلى وجود أمير المؤمنين عليه السلام حيث لم يكن غيره كمثله يكسر صولة الأبطال، و يغير في وجوه الكتائب.
فكان رسول الله في أخذ أمير المؤمنين معه إلى الحروب أو استخلافه في غيابه يتبع أقوى المصلحتين.
مضافاً إلى ذلك، أنّ هذا الرجل (ابن تيميّة) حاول تصغيراً لصورة هذه الخلافة، فقال: كان الاستخلاف في تبوك على النساء و الصبيان و ذوي الأعذار و غيرهم. و لكن نظّارة التنقيب لا تزال مكبّرة لها من شتّى النواحي.
أدلّة العلّامة الأمينيّ على أهمّيّة مفاد حديث المنزلة
الاولى: قول رسول الله: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنَّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى؟ و هو يعطي إثبات كلّ ما لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم من
رتبةٍ و عملٍ و مقامٍ و نهضةٍ و حكمٍ و إمارةٍ و سيادةٍ لأمير المؤمنين عليه السلام عدا ما أخرجه الاستثناء من النبوّة۱، كما كان هارون من موسى كذلك. فهذا المقام هو مقام الخلافة عن رسول الله، و انزال لعليّ منزلة نفسه، لا يخصّ استعمال عليّ على المدينة كما يظنّه الظانّون.
فقد استعمل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قبل هذه على البلاد اناساً، و على المدينة آخرين، و أمّر على السرايا رجالًا لم يقل في أحد منهم ما قاله في هذا الموقف؛ فهي منقبة تخصّ أمير المؤمنين عليه السلام فحسب.
الثانية: قول رسول الله فيما مرّ عن سَعْدِ بْنِ أبي وَقَّاصٍ: كَذَبُوا وَ لَكِنْ خَلَّفْتُكَ لِمَا وَرائِي، لمّا طعن رجال من المنافقين في إمرة عليّ. و لا يقصد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم به إلّا إلى ما أشرنا إليه من خشية الإرجاف بالمدينة عند غيابه، و أنّ إبقاء أمير المؤمنين كان لحفظ بيضة الدين من أن تنتهك؛ و حذار أن يتّسع خرقها بهملجة المنافقين، لو أنّ هناك من يطأ فورتهم بأخمص بأسه و حجاه، لكان قد خلّفه لمهمّة لا ينوء بها غيره.
الثالثة: قول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السلام في حديث البراء بن عازب و زيد بن أرقم، قالا: قال رسول الله لعليّ حين أراد يغزو: إنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أنْ اقِيمَ أوْ تُقِيمَ، فَخَلَّفَهُ۱.
و هذا الكلام يدلّ على أنّ بقاء أمير المؤمنين عليه السلام على حدّ بقاء رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في كلاءة بيضة الدين، و إرحاض معرّة المفسدين. فهو أمر واحد يقام بكلّ منهما على حدّ سواء. و ناهيك به من منزلة و مقام.
الرابعة: ما صحّ عن سعد بن أبي وقّاص من قوله: وَ اللهِ لأنْ يَكُونَ لي وَاحِدَةٌ مِنْ خِلَالٍ ثَلَاثٍ أحَبُّ إلَيّ مِنْ أنْ يَكُونَ لي مَا طَلَعَتْ عَلَيهِ الشَّمْسُ، لأنْ يَكُونَ قَالَ لي مَا قَالَ لَهُ حِينَ رَدَّهُ مِنْ تَبُوكَ: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي، أحَبُّ إلَيّ مِنْ أنْ يَكُونَ لي مَا طَلَعَتْ عَلَيهِ الشَّمْسُ الحديث٢.
و ذكر العلّامة الأمينيّ هنا الرواية التي نقلناها عن «مروج الذهب» في هذا الجزء، ثمّ قال:
و صحّ عند الحفّاظ الأثبات أنّ معاوية أمر سعداً فقال: ما منعك أن تسبّ أبا تراب؟! قال (سعد في جوابه): أما ما ذكرتُ ثلاثاً قالهنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لعليّ، فلن أسبّه؛ لإن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم!
سمعت رسول الله يقول لعليّ و خلّفه في تبوك، فقال له عليّ:
يا رسول الله! تخلّفني مع النساء و الصبيان؟! فقال له رسول الله: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى؛ إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟! الحديث۱.
و كذلك بعد أن ذكر الحديث الذي نقلناه في هذا الكتاب عن «غاية المرام»، عن ابن أبي الحديد، و ابن كثير، و هو نقله عن «البداية و النهاية» لابن كثير، ج ۸، ص٢ ۷٣، قال: إنّ هذا الذي كان يستعظمه سعد في عداد حديث الراية و التزويج بالصدّيقة الطاهرة بوحي من الله العزيز، اللذين هما من أربى الفضائل، و يراه معاوية لو كان سمعه فيه، لما قاتل عليّاً، و لكان يخدم عليّاً ما عاش، لا بُدّ و أن يكون على حدّ ما وصفناه حتّى يتسنّى لسعد تفضيله على ما طلعت عليه الشمس أو حمر النعم؛ و لمعاوية إيجاب الخدمة له، دون الاستخلاف على العائلة لينهض بشؤون حياتها كما هو شأن الخدم؛ أو يُنصب عَيناً على المنافقين فحسب، ليتجسّس أخبارهم كما هو وظيفة الطبقة الواطئة من مستخدم الحكومات.
الخامسة: قول سعيد بن المسيِّب بعد ما سمع حديث المنزلة عن
إبراهيم، أو عامر ابني سعد بن أبي وقّاص. يقول: فلم أرضَ، فأحببت أن أشافه بذلك سعداً، فأتيته، فقلت: ما حديث حدّثني به ابنك عامر؟!
فأدخل سعد إصبعيه في اذنيه و قال: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ وَ إلَّا اسْتَكَّتَا۱. فما ذا كان سعيد بن المسيِّب يستعظمه من الحديث، حتّى طفق يستحفي خبره من نفس سعد بعد ما سمعه من ابنه؟ فأكّد له سعد ذلك التأكيد، فهل يمكن أن يكون قد فهم من مؤدّاه ما ذكرناه من العظمة؟
السادسة: قول الإمام أبي بَسطام شُعْبَة بْنِ الحَجَّاجِ في الحديث: كان هارون أفضل امَّة موسى، فوجب أن يكون عليّ عليه السلام أفضل من كلّ امة محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم صيانة لهذا النصّ الصحيح الصريح، كما قال موسى لأخيه هارون: اخْلُفْنِي في قَوْمِي وَ أصْلِحْ٢.
السابعة: قال الطَّيِّبِيّ: مِنِّي (في هذه العبارة) خبر المبتدأ؛ و من اتّصاليّة؛ و متعلّق الخبر خاصّ و الباء زائدة، كما في قوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ٣، أي: فَإنْ آمَنوا إيِمَانَاً مِثْلَ إيمَانِكُمْ. يعني: أنْتَ مُتَّصِلٌ وَ نَازِلٌ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى. و فيه تشبيه، و وجه الشبه مبهم بيّنه بقوله: إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي. فعُرف أنّ الاتّصال المذكور بين رسول الله و أمير المؤمنين ليس من جهة النبوّة؛ بل من جهة ما دونها، و هي الخلافة٤.
إن الغرض من بيان هذا الحديث، مضافاً إلى ما يضمّه من فوائد، هو أنّه بلغ من القوّة درجة حتّى أنّ ابن تيميّة الحَرَّانيّ الناصبيّ و عدوّ آل الرسول لم يسجّل أيّة مؤاخذة قطّ على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام على المدينة عند غياب رسول الله.
و خالَ الحديث المسند الذي رواه إمامه و رئيس مذهبه أحمد بن حنبل في مسنده مع ذكر جميع رواته مُعَنْعَنَاً، مُرْسلًا، لأنّ العلّامة الحلّيّ رضوان الله عليه ذكره في «منهاج الكرامة» بعد حذف أسناده. و سجّل مؤاخذته على إرسال الحديث. فمُني بخَبْطٍ و غلط عظيم، و حار في قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم: لَا يَنْبَغِي أنْ أذْهَبَ إلَّا وَ أنْتَ خَلِيفَتِي؛ و هذا ناتج عن عدم خبرته بتأريخ المنافقين و وضعهم. و قد ذكرنا ترجمتهم مفصّلًا في هذا الكتاب.
إن النقطة المهمّة الواردة في ذيل الحديث، و قد ذكرناها في عداد المنقبة العاشرة بَيدَ أنّ العلّامة الحلّيّ على ما يبدو لم يذكرها في منهاجه، و قطع الحديث عند النقطة التي بلغها، و كذلك فعل العلّامة الأمينيّ في «الغدير» تبعاً للعلّامة، إذ بلغ بحديث «مسند أحمد بن حنبل» عند نفس النقطة۱ هي أنّ ابن عبّاس بعد أن عدّ مناقب أمير المؤمنين عليه السلام العشر، بلغ قوله: لا ينبغي لأصحاب بدر و أصحاب الشَجَرَة أن يرضوا عن أنفسهم؛ و يغترّوا و يتباهوا و يرون أنفسهم من أهل الجنّة بمجرّد اشتراكهم
في غزوة بدر، أو بيعتهم تحت الشجرة و نزول الآية فيهم: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ۱. فهذا الرضا المؤقّت كان بحسب حالهم آنذاك. و نلاحظ أنّ الله قد غضب على بعضهم فيما بعد، فما عاد رضا الله دائماً. أمّا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فقد اشترك في بدر و حُنين، و كان سبّاقاً على الجميع، و لم يسخط عليه الله بسبب تغيير النهج، لأنّه لم يغيّر نهجه، بل كان على منهاج رسول الله. و أمّا عمر، فقد غيّر نهجه، و خرج من السنّة، فلهذا نزلت آية السخط و الغضب الإلهيّ و هي تنطق بجهنّميّته، و بيّنها رسول الله.
و ذيل الحديث هو أنّ ابن عبّاس قال: و قد أخبرنا الله عزّ و جلّ في القرآن أنّه رضي عنهم٢، عن أصحاب الشجرة، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ؛ فهل أخبرنا أنّه سخط عليهم بعد ذلك؟ (نعم، أخبر بذلك).
الآية: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا في عمر و أعوانه
قال ابن عبّاس: و قال نبيّ الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لعمر حين قال: ائذن لي فأضرب عنقه! قال: وَ كُنْتَ فَاعِلًا وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ. (عنق حاطب بن أبي بُلتَعة، كما ورد في صحيح البخاريّ و مسلم، إذ كان يرسل أخبار المسلمين إلى المشركين بمكّة سرّاً٣.
و هذه الآية (اعملوا ما شئتم) هي الآية ٤۰، من السورة ٤۱: فصّلت: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ
مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. و هذا الكلام الصادر من النبيّ لانحراف و إلحاد عمر و أعوانه قويّ جدّاً.
و توضيح ذلك: أوّلًا: أراد رسول الله بهذا الكلام أن يشعر عمر أنّه لا فضل له على حَاطِبِ بْنِ أبي بُلْتَعَة الخائن و الجاسوس الذي كان يتجسّس لمصلحة كفّار العرب و مشركيهم، فيكون خليقاً بقتله؛ و عمر بما أنّه عمر لا يحقّ له قتله. ثانياً: لا ينبغي لعمر و أمثاله أن يغترّوا و يتباهوا لحضورهم في غزوة بدر، أو بيعتهم تحت الشجرة و نزول الآية الدالّة على رضا الله عنهم جميعاً. ذلك أنّ الآية الدالّة على سخط الله و غضبه عليهم لإلحادهم و هتكهم آيات الله، و تحليلهم حرام الله، و تمزيقهم حجاب عصمة الناموس الإلهيّ و النبويّ قد نزلت بعد ذلك.
إنّ الآية الكريمة اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ لم تتكرّر في القرآن الكريم، و إنّتلاوة الرسول لها، و استشهاده بها، مع المضامين التي قبلها، و تتمثّل في أنّ الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا، أ فمن يُلقَي في النار خير أم من يأتي آمناً بسلامٍ يوم القيامة؟ و الممارسات التي صدرت عن عمر و حزبه سواء في عصر رسول الله أم بعد وفاته، و التطبيق الدقيق لهذه الآية مع تلك الجنايات، و ضروب الهتك و الانتهاك، كلّ ذلك يدلّ جيّداً على أنّ آيات الرضا عن أهل بدر و الرضوان كانت مؤقّتة، و أنّها نزلت وفقاً لوضعهم يومئذٍ؛ و هي لا تدلّ على أنّ الله يرضى عنهم فيما بعد حتّى لو ارتكبوا ألف جناية و خيانة. و بالأخصّ نرى في قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ تهديداً عجيباً. و يشعر أنّ حبل ربطكم قد انفرط، و أنّ السيل بلغ الزُّبى، فاعملوا ما شئتم، فأنا عليم بما تعملون.
و قد أخرج هذا الحديث، مضافاً إلى أحمد بن حنبل في مسنده و نحن ذكرناه الحاكم في «المستدرك» ج ٣، ص ۱٣٤، و ابن حجر
العسقلانيّ في «الإصابة» ج ٢، ص ٥۰٢، عن أحمد بن حنبل و النسائيّ، عن طريق عمرو بن ميمون.
و ذكر صاحب «الإصابة» في آخره ما نصّه: و قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: يَا عُمَرُ! مَا يُدْرِيكَ إنَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى بَدْرٍ فَقَالَ: «اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ۱»؟! و ذكره ابن حجر الهيثميّ في «مجمع الزوائد» ج ٩، ص ۱٢۰، و قال: رواه أحمد و الطبرانيّ أيضاً في «الكبير» و «الأوسط» باختصار.
الأبيات المنسوبة إلى أمير المؤمنين في حديث المنزلة
أجل، لقد تحدّثنا هنا عن هذا المقام و الموطن، أي: موطن حديث المنزلة عند سفر رسول الله إلى تبوك حديثاً وافياً بحمد الله و توفيقه. و من المناسب أن نختم بحثنا هذا بأبيات منسوبة إلى ديوان أمير المؤمنين عليه السلام.
ألَا بَاعَدَ اللهُ أهْلَ النِّفَاق | *** | وَ أهْلَ الأرَاجِيفِ وَ البَاطِلِ |
يَقُولُونَ لي قَدْ قَلَاكَ الرَّسُولْ | *** | فَخَلَّاكَ في الخَالِفِ الخَاذِلِ |
وَ مَا ذَاكَ إلَّا لأنَّ النَّبِيّ | *** | جَفَاكَ وَ مَا كَانَ بِالفَاعِلِ |
فَسِرْتُ وَ سَيْفي عَلَى عَاتِقِي | *** | إلى الرَّاحِمِ الحَاكِمِ الفَاضِلِ |
فَلَمَّا رَآنِي هَفَا قَلْبُهُ | *** | وَ قَالَ مَقَالَ الأخِ السَّائِلِ |
أ مِمَّ ابْنَ عَمِّي؟ فَأنْبَأتُهُ | *** | بِأرْجَافِ ذي الحَسَدِ الدَّاغِلِ |
فَقَالَ: أخِي أنْتَ مِنْ دُونِهِمْ | *** | َهَارُونَ مِنْ موسى وَ لَمْ يَأتَلِ۱ |
و نتوسّل بهذا الرباعيّ:
رَأيْتُ وَ لَائِي آلَ طَهَ وَسيلَةً | *** | على رَغْمِ أهْلِ البُعْدِ يُورِثُنِي القُرْبَى |
فَمَا طَلَبَ المَبْعُوثُ أجْراً على الهُدَى | *** | بِتَبْلِيغِهِ إلَّا المَوَدَّةَ لِلْقُرْبَى٢ |
اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى سِرِّ الأسْرَارِ، وَ مَشْرِقِ الأنْوَارِ، المُهَنْدِسِ في الغُيُوبِ اللَّاهُوتِيَّةِ، السَّيَّاحِ في الفَيَافي الجَبَرُوتِيَّةِ، المُصَوِّرِ لِلهَيُولَى المَلَكُوتِيَّةِ، الوَالِي لِلوَلَايَةِ النَّاسُوتِيَّةِ، انْمُوذَجِ الوَاقِعِ، وَ شَخْصِ الإطْلَاقِ، المُنْطَبِعِ في مَرَايَا الأنْفُسِ وَ الآفَاقِ، سِرِّ الأنْبِيَاءِ وَ المُرْسَلِينَ، سَيِّدِ الأوْصِيَاءِ
وَ الصِّدِّيقِينَ، صُورَةِ الأمَانَةِ الإلهِيَّةِ، مَادَّةِ العُلُومِ الغَيْرِ المُتَنَاهِيَةِ، الظَّاهِرِ بِالبُرْهَانِ، البَاطِنِ بِالقُدْرَةِ وَ الشَّانِ، بَسْمَلَةِ كِتَابِ المَوْجُودِ، فَاتِحَةِ مُصْحَفِ الوُجُودِ، حَقِيقَةِ النُّقْطَةِ البَائِيَّةِ، المُتَحَقِّقِ بَالمَرَاتِبِ الإنسانيَّةِ حَيْدَرِ آجَامِ الإبْدَاعِ، الكَرَّارِ في مَعَارِكِ الاخْتِرَاعِ، السِّرِّ الجَلِيّ، وَ النَّجْمِ الثَّاقِبِ، عَلِيّ بْنِ أبي طَالِبٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ۱.
الدَّرْسُ التَّاسِعُ و الأرْبَعُونَ بَعْدَ المِائَةِ إلى الخَمْسِينَ بَعْدَ المِائَةِ: سَائرُ المَقَامَاتِ في حَدِيثِ المَنزِلَةِ وَ اسْتِضْعَافُ أمير المؤمنين كَهَارُونَ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
لما ذا ذكر القرآن الكريم قصّة موسى و قومه أكثر من سائر الأنبياء
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ۱.
تدور هذه الآيات حول تخلّف قوم موسى عن دين التوحيد عند غيبته لمناجاة الله تعالى و التكلّم معه جبل الطور خلال أربعين ليلة؛ فعبدوا العجل بدعوة السامريّ. و كثر أتباع هذا الأخير، فلم يستطع هارون أن يصدّهم عن شركهم، إلى درجة أنّهم كادوا يقتلونه. و لمّا عاد موسى من الطور، و رأى قومه يعبدون العجل، و غضب على أخيه إذ لم يتّبع طريقه، و لم يردع قومه عن ذلك العمل القبيح، و لم يصلح شئونهم، و عرض هارون عذره، و رأى موسى مشروعيّة عذره، أشفق على أخيه، و طلب
من الله أن يغفر له و لأخيه و يرحمهما.
و وردت الآيات التي تتحدّث عن موسى و بني إسرائيل في كثير من سور القرآن، خاصّة من سورة البقرة، و الأعراف، و طه، و القصص. و ذُكر اسم موسى عليه السلام في القرآن كثيراً، كما جرى الحديث فيه عن قصصه و قصص قومه بحيث لم يتحدّث القرآن بهذا الحجم عن الأنبياء الآخرين بما فيهم إبراهيم عليه السلام الذي له مقام أرفع في توحيد ذات الحقّ، و كان أفضل الأنبياء و أشرفهم جميعاً، ما عدا الرسول الأكرم خاتم الأنبياء و المرسلين، صلوات الله عليه و آله و عليهم أجمعين.
و يعود السبب في ذلك إلى أنّ القرآن ليس كتاباً قصصيّاً يسرد لنا حكايات عن الأنبياء و أقوامهم باسلوب قصصيّ من أجل الاطّلاع على أحوالهم فحسب. بل هو كتاب حكمة و موعظة و بيان لفضائل الإنسان و كمالاته، لكي يتّبعه الناس، و يحظوا بالسعادة المطلقة؛ و كذلك يتحدّث عن قبائح الأعمال و الأخلاق و العقائد و السنن و الآداب حتّى يبتعد الناس عنها.
و لمّا كانت النفوس البشريّة متماثلة في جبلّتها، و اسلوب طيّها طريق التكامل، أو السقوط في حضيض الهوى. و كان بنو إسرائيل أكثر الطوائف و الامم مِراءً مع أنبيائهم، و كانوا يطرحون مؤاخذاتهم الواهية المنبعثة عن تثاقلهم و تساهلهم و تكاسلهم و ميوعتهم في الشؤون الحياتيّة العظيمة، و كانوا يركنون إلى المال و الكنوز الفانية و زخارف الدنيا، و يهتمّون بمصالحهم الذاتيّة و امورهم الاعتباريّة، و لم يتركوا أهواءَهم على الرغم ممّا قام به موسى و أخوه هارون من الدلالة على طريق الهداية التامّة الكاملة، فلهذا تكلّم عنهم القرآن أكثر من غيرهم؛ لكي تتّعظ نفوس جميع الذين يأتون بعد نزول القرآن إلى يوم القيامة، و يعرفوا طريقهم جيّداً،
اولئك الذين هم كبني إسرائيل من حيث النفسانيّات و المهلكات و المنجيات و تطوّر الأحوال و تشتّت الخواطر، و ظهور الآراء و المقاصد المستجدّة، و العقائد و الأخلاق الجديدة؛ فيعتبروا بقراءة هذه الآيات و تطبيقها على أنفسهم، و أعمالهم و أخلاقهم و تعاملهم مع نبيّهم و أئمّة الدين و ولاة الشرع المبين. و حتّى لا تزلّ أقدامهم كالسابقين، و لا يكونوا كتلك الطائفة البائسة المنقلبة من بني إسرائيل في المؤاخذات، و ضروب التثبيط و التكاسل، و القيام بالشؤون الحياتيّة، و عدم اتّباع أولياء الدين و الأئمّة الميامين المنصوبين من قبل سيّد المرسلين، و عدم طاعتهم طاعة محضة. و لكي يفهموا أنّ النفوس واحدة، و أنّ اسما المسلم و اليهوديّ ليسا أكثر من اسمين فحسب. و في ميزان الحقائق يوم القيامة يجري الامتحان و الاختبار على ميزان الحقيقة و الصلاح و التقوى و الإيمان و الولاية، لا على الاسم. و لو كان هؤلاء كاولئك في خَور النفس، و اعوجاج الطريق، و عدم الانقياد الصرف، و المماراة في الامور، فلا فرق بينهم و بين تلك الطائفة من بني إسرائيل و ستكون عاقبتهم واحدة.
و من هنا أمر الله الناس في هذا الكتاب السماويّ: القرآن الكريم أن يتلوه في أطراف نهارهم و آناء ليلهم، كي يطّلعوا على الخصائص النفسيّة، لموسى و هارون عليهما السلام، و عزمهما الراسخ، و صبرهما و استقامتهما إذ أودع الله في نفس كلّ ذي نفس أمثلة و نماذج من ذلك. و كذلك ليتعرّفوا على مواصفات اولئك القوم و سلبيّاتهم غير المؤثّرة، فلا يؤثِروا الهوى الإسرائيليّ على نور التوحيد و الإيمان الراسخ و الصبر و الاستقامة الموسويّة و الهارونيّة. و ليتّقد نور التوحيد في قرارة نفوسهم فيقشع غمائم الظلام.
و بناءً على هذا، مثل من يتلو القرآن و يطّلع على أحوال اولئك القوم و آثارهم، و يتعرّف على أسباب سقوطهم و نكبتهم كمثل من يدرس أحوال
نفسه و آثارها، فيحصل منها و من شئونها على نتيجة مخالفتها للدين و تعاليمه و أوليائه عند التمرّد، كما يحصل على نتيجة موافقتها عند الانقياد.
إسراء موسى ببني إسرائيل من مصر
كان لموسى على نبيّنا و آله و عليه الصلاة و السلام مقام النبوّة و الرسالة، و هو أحد أنبياء اولي العَزْم۱ و له كتاب سماويّ و شريعة و قانون. و أطلعه الله على عوالم الغيب، و فتح له باب التكلّم معه فأصبح كليم الله و ولد من الأسباط بمصر في ظلّ تسلّط و سيطرة فرعون و الفراعنة و قومه
الذين كانوا من الأقباط. و ببركة هذا النبيّ الكريم و رحمته اجتمع الأسباط و انضووا تحت لواء التوحيد، و هم الذين كانوا من نسل يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم، و كان موطنهم في الشام، و بيت المقدس، و كنعان. و طردوا من ديارهم لغلبة الخصم عليهم، فعاشوا بمصر كالرقيق؛ و كان الفراعنة يذبّحون أبناءهم، و يستحيون بناتهم في بيوتهم كالجواري. و لمّا انتصرت معجزته على سحر السحرة الفرعونيّين، و لقفت عصاه التي انقلبت إلى حيّة حبالهم المتحرّكة بتأثير سحرهم، و آمن السحرة كلّهم برسالته، و بربّ موسى و هارون أمره الله أن ينقل الأسباط من مصر، و يأخذهم إلى الشام حيث موطن أجدادهم و مهد نشأتهم، لينقذهم من الأقباط و أذاهم، فيستعيدوا سيادتهم و حرّيّتهم الاولى.
وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي (بني إسرائيل) فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى ، فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ ، وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى۱.
و هذه الآية إجابة على الآية ٢٩، من السورة ٤۰: المؤمن، إذ جاء فيها على لسان فرعون و هو يقول لقومه: وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ. فظهر أنّه كذّاب و أنّه لم يهدهم إلّا إلى الضلال و الغيّ. و غرق فرعون و الفراعنة؛ و عبر قوم موسى البحر بسلام بعد أن ضربه موسى بعصاه فظهر منه اثنا عشر طريقاً يبساً. و اجتاز كلّ واحد من الأسباط طريقاً خاصّاً. و الأسباط أبناء كلّ سبط من الأسباط الاثني عشر، و هم أبناء يعقوب. و كانوا يخافون بعد اجتيازهم أن يهجم عليهم جنود فرعون. و لم يُخيَّل إلى بعضهم غرق فرعون و هو بذلك الجلال و العظمة و الابّهة، و لم يستطيعوا أن يتصوّروا
ذلك بقوّتهم الخياليّة. و قد أمر الله البحر أن يقذف جسده إلى الساحل ليراه جميع الناس فيعتبروا.
و ما إن عبر بنو إسرائيل البحر، و اطمأنّوا من جانب العدوّ، استهواهم هَوَسُ الماضي، فطلبوا من موسى صنماً ليعبدوه.
وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ۱.
طلبوا من نبيّنا الكريم صنماً كما طلب قوم موسى منه ذلك
روى في تفسير «البرهان» عن محمّد بن شهرآشوب في تفسير هذه الآية أنّ رَأسَ الجَالُوتِ قال لعَلِيّ (بْنِ أبي طَالِبٍ) عليه السلام: لم تلبثوا بعد نبيّكم إلّا ثلاثين سنة حتّى ضرب بعضكم وجه بعض بالسيف! فقال عليّ عليه السلام: و أنتم لم تجفّ أقدامكم من ماء البحر حتّى قلتم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ٢.
و قال في تفسير «الدرّ المنثور»: أخرج ابن أبي شَيْبَة، و أحمد، و النسائيّ، و ابن جرير، و ابن منذر، و ابن أبي حاتم، و أبو الشيخ، و ابن مردويه، عن أبي واقد الليثيّ قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في سفر قبل غزوة حُنين فمررنا بسدرة. فقلتُ: يا رسول الله! اجعل لنا هذه ذات أنواط كما كان للكفّار ذات أنواط، و كان الكفّار ينوطون سلاحهم بسدرةٍ و يعكفون حولها٣!
فقال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: اللهُ أكْبَرُ هذا كما قالت بنو
إسرائيل لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ۱. إنّكم تركبون سنن الذين قبلكم.
و لمّا جاوز موسى بالأسباط البحر، و وجدوا الهدوء و السكينة في تلك البلاد الشاسعة ببالٍ رخيّ، وعد الله موسى أن يذهب مع جمع من أخيارهم و أبرارهم للمناجاة و نزول كتاب التوراة المكتوب في الألواح على الجانب الأيمن من طور سيناء٢، و كان جانباً ميموناً مباركاً، ذلك أنّ بني إسرائيل لم يكن لهم كتاب قانون و أحكام؛ و قد وعد الله أن ينزل على موسى كتاباً فيه موعظة و حكمة و تفصيل كلّ شيء٣.
يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى ، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى ، وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى٤.
و لمّا أراد موسى أن يتوجّه إلى الطور للمناجاة و أخذ ألواح التوراة من الله في تلك الليالى الثلاثين المقرّرة التي امتدّت إلى أربعين ليلة، جعل
أخاه هارون خليفةً لذلك الجمّ الغفير. و أوصاه أن لا يتّبع سبيل المفسدين؛ و أن يصلح في امّته. و ذهب وحده إلى الطور لفرط عشقه و حبّه لرّبه و لذّة مناجاته و خلوته به؛ و أمر الذين قدّر لهم الذهاب معه أن يأتوا على أثره، و يلتحقوا به.
و خاطب الله موسى قائلًا: وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى ، قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى ، قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ، فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً (أن ينزّل عليكم التوراة، و تحصلوا على سعادة الدنيا و الآخرة بتعلّمها! أو: أ لم يعدكم أن ينقذكم من عدوّكم، و يمكّنكم في الأرض؛ و يخصّكم بنعمه العظيمة؟) أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ (أ فيئستم من رجوعي و لذلك مُنيتم باختلال نظم اموركم و تضاربه؟) أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ (و كفرتم بعد الإيمان، و عبدتم العجل) فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (في حُسن السيرة و الخلافة عند غيابي)!؟ قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا (أو لم نصرف شيئاً من أموالنا في صبّ العجل الذهبيّ و تذويبه، فنكون قد عملنا ذلك تعمّداً) وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ (كالسوار و القرط و القلادة و غيرها) فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ (أو هو مثلنا ألقى زينته) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ (ليس فيه روح) فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ، (موسى أو نسي السامريّ ذكر الله بعد الإيمان به). (كيف سوّغت لهم عقولهم عبادة العجل؟) أَ فَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً ، وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي ، قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى ، قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ
أمري ، (إذ قلت لك: اخلفني في قومي و لا تتّبع سبيل المفسدين)؟! قال (هارون) يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ (عند المواجهة و المواجهة الشديدة أن يطيعني بعض القوم، و يخلفني أكثرهم، فيتفرّقوا فرقتين، و حينئذٍ) أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي۱ (أن تتعامل معهم تعاملًا حسناً).
مشروعيّة عذر هارون في عدم القيام و الإقدام الحادّ على السامريّ
و يظهر من قول هارون: لا تأخذ بلحيتي و لا برأسي أنّ موسى أراد أن يضربه لفرط غضبه، كما جاء في سورة الأعراف: وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ. و لمّا عرض هارون عذره على أنّه لم يقاوم مقاومة تامّة خشية التفرّق و التشتّت بين بني إسرائيل؛ و لذلك لم يخالف أخاه، بل عمل بوصيّته، إذ قال له: أصلح بينهم، و رعاها! قَبِلَ موسى عذره، و دعا لنفسه و لأخيه: «ربّ اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الراحمين»٢.
و عند ما تمّ حديث موسى مع أخيه هارون، جاء دور الحديث مع السامريّ و مؤاخذته ذلك أنّ موسى عليه السلام تحدّث في المرحلة الاولى مع قومه الذين رجعوا عن الطريق و عبدوا العجل. و في المرحلة الثانية مع أخيه هارون. و ها هي المرحلة الثالثة و تتمثّل في مخاطبة السامريّ و معاتبته:
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ ، قالَ بَصُرْتُ (في علم الصبّ و نحت التماثيل) بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي٣. أن آخذ مقداراً من آلات الزينة التي كانت تحت يد
الرسول، و هي تعود له، فألقيها في النار (كي أصنع منها تمثالًا على صورة العجل، عند ما يخرج الهواء من فيه، له خوار۱.
و حكم موسى عليه السلام هنا بمعاقبته المتمثّلة بإخراجه من بني إسرائيل، و لا يحقّ لأحد الاتّصال به حتّى يدركه الموت؛ ثمّ يناله ما ينال المشركين و المضلّين من العذاب يوم القيامة.
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ، إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً٢.
قال العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه: قوله: «فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ»، (أشدّ عقوبة له، إذ إنّها) قضاء بطرده عن المجتمع بحيث لا يخالط القوم، و لا يمسّ أحداً، و لا يمسّه أحد بأخذ أو عطاء، أو إيواء، أو صحبته، أو تكليم٣.
مشروعيّة عذر أمير المؤمنين عليه السلام في عدم قيامه بالسيف
إن الهدف من عرض قصّة موسى عليه السلام، و التطرّق إلى عبادة العجل من قبل بني إسرائيل الذين مُنِيَ معظمهم بهذا الانحراف، و قضيّة السامريّ المُضِلّ و المنظِّر لُامّة موسى في نظام الشرك و الوثنيّة، و مؤاخذة موسى أخاه هارون على عدم مقاومته، و اعتذار هارون بقوله: إِنَّ الْقَوْمَ
اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي، كلّ ذلك من أجل بيان استضعاف أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، إذ كان الرسول الأعظم قد أوصاه قائلًا: أنت خليفتي من بعدي في امّتي؛ لا تشهر سيفك فيحلّ الفساد و الفتنة و التفريق و التشتّت و الخروج من حظيرة الإسلام؛ و أصلح بينهم؛ و اصبر عند انحراف الطريق! لأنّك منّي كهارون من موسى، و هارون لم يشهر سيفه حفظاً لكيان رسالة أخيه موسى. و تنازل أمير المؤمنين أيضاً عن حقّه و ولايته حفظاً للمصالح العامّة؛ و عرّض نفسه و زوجته و أولاده و ذرّيّته للمصائب و النوازل. و لم يسلّ سيفه حفظاً للإسلام من الانهيار و الاضمحلال، و الاجتناب من الجذور؛ و حرصاً منه على بقاء ظاهر الإسلام تمهيداً لظهور بقيّة الله الأعظم عجّل الله تعالى فرجه الشريف، إذ يشرق على العالم فيقطع دابر السامريّ و عجله، و يستأصل الشرك من جذوره، و يلوّح لواء توحيد الكلمة، و كلمة التوحيد على قبّة العالم المتلألئة. علماً أنّ من أراد أن يتمتّع و يستفيد من تعاليم الإسلام الرصينة الراسخة، و الارتباط بالولاية خلال غيبة الإمام، فطريقه مفتوح، و ما من عقبة أمامه.
و واجه أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلّين انحراف و اعوجاج حملة لواء الاعوجاج و الانحراف بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، و تحمّل من المصائب أضعاف ما تحمّله هارون. و نهض السامريّ و عجله أمام القرآن و السنّة و منهاج رسول الله و وصيّته لجميع الامّة بخلافته المباشرة بلا فصل. و جرّا إليهما أكثريّة الامّة من الهَمَجِ الرَّعَاعِ، و اقتادا عليّاً إلى المسجد كالجمل المخشوش۱، و وقفا أمامه بسيفين
مسلولين ليسلّم! و يبايع! و يؤيّد حكومتهم! و ينضوي هو و أصحابه و أهل بيته تحت راية هذا الخليفة المنتخب، بل المنصوب بالمكر و الخديعة! و ما اقيم وزن للعلم و الشرف، و الفضيلة، و السبق إلى الإسلام، و سابقة الجهاد، و الهجرة، و الوصاية على الخلافة، و الأعلميّة بالكتاب و السنّة، و اخوّة رسول الله له، و حديث المنزلة، و حديث الولاية، و حديث الثقلين، و سائر الأحاديث الماثورة عن رسول الله في مواطن و مقامات عديدة. و لا قيمة لهذه المناقب كلّها في عرفهم. و ما من أحد يثمّنها في هذه المعمعة و الجلبة. و لا توجد إلّا مسألة واحدة فحسب، و هي: إن لم تبايع، و تسلّم لهذا الخليفة في فكرك و إرادتك و اختيارك و كلّ ما تملكه في الوجود، فإنّا نقتلك! و نفصل رأسك عن بدنك بهذا السيف!
قول أمير المؤمنين عليه السلام: إِنَّ القَوْمَ استضعفوني، مثل هارون
قال ابن أبي الحديد: ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فَقَالَ لِعَلِيّ: قُمْ فَبَايِعْ، فَتَلَكَّأ وَ احْتَبَسَ، فَأخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ: قُمْ! فَأبَى أنْ يَقُومَ فَحَمَلَهُ وَ دَفَعَهُ كَمَا دَفَعَ الزُّبَيْرَ حتّى أمْسَكَهُمَا خَالِدُ وَ سَاقَهُمَا عُمَرُ وَ مَنْ مَعَهُ سَوْقَاً عَنِيفَاً، وَ اجْتَمَعَ النَّاسُ يَنْظُرُونَ، وَ امْتَلأتْ شَوَارِعُ المَدِينَةِ بِالرِّجَالِ، وَ رَأتْ فَاطِمَةُ مَا صَنَعَ عُمَرُ فَصَرَخَتْ وَ وَلْوَلَتْ وَ اجْتَمَعَ مَعَهَا كَثِيرٌ مِنَ الهَاشِمِيَّاتِ وَ غَيْرِهِنَّ فَخَرَجَتْ إلى بَابِ حُجْرَتِهَا وَ نَادَتْ: يَا أبَا بَكْرٍ! مَا أسْرَعَ مَا أغَرْتُمْ على أهْلِ بَيْتِ رَسُولِ اللهِ! وَ اللهِ لَا اكَلِّمُ عُمَرَ حتّى ألْقَى اللهَ۱.
و كان ذلك بعد أن اعتصم عليّ عليه السلام و من معه في بيت فاطمة الزهراء مخالفين للحكومة القائمة. فهجم القوم على بيت الزهراء و أخذوهم إلى المسجد. و كسروا سيف الزبير، و رجموه بالحجارة، و أخذوه، و سلّموه إلى خالد بن وليد و جماعة كانوا قد أتوا معهم. ثمّ جاءوا إلى عليّ.
قال ابن قتيبة الدينوريّ: أخرجوا عليّاً، فمضوا به إلى أبي بكر، فقالوا له: بايع! فقال (عليّ): إن أنا لم أفعل فمه؟!
قَالُوا: إذَاً وَ اللهِ الذي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ نَضْرِبُ عُنُقَكَ!
قَالَ عَلِيّ: إذَاً تَقْتُلُونَ عَبْدَ اللهِ وَ أخَا رَسُولِهِ! قال عمر: أمّا عبد الله، فنعم. و أمّا أخو رسوله فلا! و أبو بكر ساكت لا يتكلّم، فقال له عمر: أ لا تأمر فيه بأمرك؟!
فقال (أبو بكر): لا اكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جنبه.
فَلَحِقَ عَلِيّ بِقَبْرِ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ يَصِيحُ
وَ يَبْكِي وَ يُنَادِي: يَا بْنَ امَّ إنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كَادُوا يَقْتُلُونَنِي۱!
و قال المجلسيّ بعد سرد البحث المفصّل الذي ذكره الصدوق، و الشريف المرتضى حول هذا الحديث المبارك (حديث المنزلة) و استدلالهما عليه: أقول: لا يخفى على منصف بعد الاطّلاع على الأخبار التي أوردناها، و ما اشتملت عليه من القرائن الدالّة على أنّ المراد من هذا الاستخلاف ما ذكرناه، على ما مرّ في كلام (هذين) الفاضلين العظيمين أنّ مدلول الخبر صريح في النصّ على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام و خلافته العامّة، لا سيّما و قد انضمّت إليها قرائن اخَر، منها الحديث المشهور الدالّ على أنّه يقع في هذه الامّة كلّ ما وقع في بني إسرائيل حَذْو النَّعْلِ بِالنَّعْلِ. و لم يقع في هذه الامّة ما يشبه قصّة هارون و عبادة العجل إلّا
بعد وفاة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم، من غصب الخلافة، و ترك نصرة الوصيّ. و قد ورد في روايات الفريقين أنّ أمير المؤمنين عليه السلام استقبل قبر رسول الله عند ذلك و قال ما قاله هارون: يَبْنَؤُمَّ إنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كَادُوا يَقْتُلُونَنِي۱.
و من القرائن ما ذكره بعض المخالفين (من السنّة). أنّ وصاية موسى و خلافته انتهت إلى أولاد هارون. فمن منازل هارون من موسى كَون توليَته خلافة موسى فيلزم بمتقضى المنزلة أن يكون الحسنان عليهما السلام المسمّيان باسمي ابني هارون باتّفاق الخاصّ و العامّ، خليفتي النبيّ. فليزم
خلافة أبيهما أمير المؤمنين لعدم القول بالفصل، و لأنّ جميع المسلمين بلا استثناء قالوا بإمامته و خلافته عند فرض إمامة هذين الإمامين، فلا مجال للشّك في خلافة الإمام.
و ممّن ذكر ذلك (من العامّة): مُحَمَّدُ الشَّهْرِسْتَانِيّ حيث قال في أثناء بيان أحوال اليهود: إنّ أمر الولاية كان مشتركاً بين موسى و أخيه هارون، إذ قال (موسى): وَ أشْرِكْهُ في أمْرِي. و لذلك كان هارون هو الوصيّ (لموسى). فلمّا مات هارون في حياته، انتقلت الوصاية إلى يُوْشَع بْنِ نُون وديعة ليوصلها إلى شُبَّيْر و شُبَّر: ابنَي هارون قراراً.
و ذلك أنّ الوصيّة و الإمامة (كبعض الشؤون الاخرى) بعضها مُسْتَقَرّ، و بعضها مُسْتَوْدَع (قابل للتغيير و غير قابل له.) انتهى كلام الشهرستانيّ.
و من القرائن ما مرّ و سيأتي من الأخبار المتواترة الدالّة بأجمعها على أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان بصدد تعيين عليّ للخلافة و إظهار فضائله لذلك في كلّ موطن و مقام، إلى غير ذلك ممّا سيأتي في الأبواب الآتية.
و أقول بعد بيان هذه المطالب: إنّا لو سلّمنا للخصم جميع ما يناقشنا فيه، مع أنّا قد أقمنا الدلائل على خلافها، (فلا يستطيع) أن يناقشنا في أنّ حديث المنزلة يدلّ على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان أخصّ الناس برسول الله و أحبّهم إليه.
و لا يكون أحبّهم إليه إلّا لكونه أفضلهم، كما مرّ بيانه في الأبواب السابقة. فبناءً على هذا يكون تقديم غيره عليه ممّا لا يقبله العقل، و يعدّه قبيحاً.
و أي عقل يجوّز كون صاحب المنزلة الهارونيّة، مع ما انضمّ إليها من سائر المناقب العظيمة و الفضائل الجليلة رعيّة و تابعاً لمن ليس له إلّا القبائح
الشنيعة و المثالب الفظيعة؟ و الحمد للّه الذي أوضح الحقّ لطالبيه، و لم يدع لأحد شبهة فيه۱.
أبيات للُازري في المنزلة الهارونيّة
و للّه درّ شاعر أهل البيت: الازْريّ، إذ أنشد في هذا الباب ضمن قصيدة طويلة، فقال:
مَلِكٌ شَدَّ أزْرَهُ بِأخِيهِ | *** | فَاسْتَقَامَتْ مِنَ الامُورِ قَنَاهَا٢ |
إلى أن بلغ قوله:
وَ تَفَكَّرْ بِأنْتَ مِنِّي تَجِدْها | *** | حِكْمَةً تُورِثُ الرُّقُودَ انْتِبَاهَا |
أ وَ مَا كَانَ موسى أخُوهُ | *** | خَيْرَ أصْحَابِهِ وَ أكْرَمَ جَاها |
لَيْسَ تَخْلُو إلَّا النُّبُوَّةُ مِنْهُ | *** | وَ لِهَذَا خَيْرُ الوَرَى اسْتَثْنَاهَا٣ |
يشير الشاعر في البيت الأوّل إلى الحديث النبويّ المشهور: أنتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنّه لَا نَبِيّ بَعْدِي.
ثمّ بلغ قوله:
كُلُّ نَفْسٍ كَانَتْ تَرَانِي مَوْلىً | *** | فَلْتَرَ اليَوْمَ حَيْدَرَاً مَوْلَاهَا |
رَبِّ هَذِي أمَانَةٌ لَكَ عِنْدِي | *** | وَ إلَيْكَ الأمِينُ قَدْ أدَّاهَا |
وَالِ مَنْ لَا يَرَى الوَلَايَةَ إلَّا | *** | لِعَلِيّ وَ عَادِ مَنْ عَادَاهَا |
فَأجَابُوا: بَخٍّ بَخٍّ وَ قُلُوبُ القَوْمِ | *** | تَغْلِي على مَغَالِي قَلَاهَا |
لَمْ تَسَعْهُمْ إلَّا الإجَابَةُ بِالْقَولِ | *** | وَ إنْ كَانَ قَصْدُهُمْ مَا عَدَاهَا٤ |
إلى أن بلغ قوله:
إن تناسَيْتُمَا السَّقِيفَةَ وَ القَوْمَ | *** | فَإنِّي وَ اللهِ لَا أنْسَاهَا۱ |
ثمّ قال:
يَا تَرَى هَلْ دَرَتْ لِمَنْ أخَّرَتْهُ | *** | عَنْ مَقَامِ العُلَى وَ مَا أدْرَاهَا؟ |
أخَّرَتْ أشْبَهَ الوَرَى بِأخِيهِ | *** | هَلْ رَأتْ في أخِ النَّبِيّ اشْتِبَاهَا٢ |
ثمّ قال:
أ نَبِيّ بِلَا وَصِيّ تعالى اللهُ | *** | عَمَّا يَقُولُهُ سُفَهَاهَا |
زَعَمُوا أنَّ هَذِهِ الأرْضَ مَرْعىً | *** | تُرِكَ النَّاسُ فِيهِ تَرْكَ سُدَاهَا٣ |
ثمّ قال:
نَقَضُوا عَهْدَ أحْمَدٍ في أخِيهِ | *** | وَ أذَاقُوا البَتُولَ مَا أشْجَاهَا |
وَ هِيَ العُرْوَةُ التي لَيْسَ يَنْجُو | *** | غَيْرُ مُسْتَعْصِمٍ بِحَبْلِ وَلَاهَا٤ |
ثمّ عرض على لسان سيّدة العالمين موضوعات مطعّمة بالدليل و البرهان في خطاب اولئك القوم، و هي مشوبة بالمؤاخذة و العتاب، فقال:
وَ حَذَوْتُمْ حَذْوَ اليَهُودِ غَدَاةَ | *** | اتَّخَذُوا العِجْلَ بَعْدَ موسى إلَهَا٥ |
و واصل إنشاده قائلًا:
أيّ شَيءٍ عَبَدْتُمُ إذْ عَبَدْتُمْ | *** | أنْ يُوَلَّى تَيْمٌ عَلَى آل طَه |
هَذِهِ البُرْدَةُ التي غَضِبَ اللهُ | *** | على كُلِّ مَنْ سِوَانَا ارْتَدَاهَا |
عَلِمَ اللهُ أنَّنَا أهْلُ بَيْتٍ | *** | لَيْسَ تَأوِي دَنِيَّةٌ مَأوَاهَا |
وَ لأيّ الامُورِ تُدْفَنْ سِرّاً | *** | بَضْعَةُ المُصْطَفى وَ يُعْفَى ثَرَاهَا |
فَمَضَتْ وَ هىَ أعْظَمُ النَّاسِ وَجْدَاً | *** | في فَمِ الدَّهْرِ غُصَّةٌ مِنْ جَوَاهَا |
وَ ثَوَتْ لَا يَرَى لَهَا النَّاسُ مَثْوىً | *** | أي قُدْسٍ يَضُمُّهُ مَثْوَاهَا۱ |
و كم هو مناسب أن ننقل فيما يأتي أبياتاً لشاعر أهل البيت و مادحهم المرحوم الشيخ صالح الحلّيّ أعلى الله مقامه الشريف، و كان قريباً من عصر الشاعر السابق:
الوَاثِبِيِنَ لِظُلْمِ آلِ مُحَمَّدٍ | *** | وَ مُحَمَّدٌ مُلْقًى بِلَا تَكْفِينِ |
و القَائِلِينَ لِفَاطِمٍ آذَيْتِنَا | *** | في طُولِ نَوْحٍ دَائِمِ وَ حَنِينِ |
وَ القَاطِعِينَ أرَاكَةً كَيْمَا تَقِي | *** | بِظِلِّ أوْرَاقٍ لَهَا وَ غُصُونِ |
وَ مُجَمِّعِي حَطَبٍ على البَيْتِ الذي | *** | لَمْ يَجْتَمِعْ لَولَاهُ شَمْلُ الدِّينِ |
وَ الهَاجِمِينَ عَلَى البَتُولِ بِبَيْتِهَا | *** | وَ المُسْقِطِينَ لَهَا أعَزَّ جَنِينِ |
وَ القَائِدِينَ إمَامَهُم بِنِجَادِهِ | *** | وَ الطُّهْرُ تَدْعُو خَلْفَهُ بِرَنِينِ |
خَلُّوا ابْنَ عَمِّي أوْ لأكْشِفُ في الدُّعَا | *** | رَأسِي وَ أشْكُو لِلإلَهِ شُجُونِي |
مَا كَانَ نَاقَةُ صَالِحٍ وَ فَصِيلُهَا | *** | بِالفَضْلِ عِنْدَ اللهِ إلَّا دُونِي |
وَ دَنَتْ إلى القَبْرِ الشَرِيفِ بِمُقْلَةٍ | *** | عَبْرَى وَ قَلْبٍ مُكْمَدٍ مَحْزُونِ |
قَالَتْ وَ أظْفَارُ المُصَابِ بِقَلْبِهَا | *** | غَوْثَاهُ قَلَّ عَلَى العُدَاةِ مُعِينِي |
أبَتَاهُ هَذا السَّامِرِيّ وَ عِجْلُهُ | *** | تُبِعَا وَ مَالَ النَّاسُ عَنْ هَارُونِ |
أي الرَّزَايَا أتَّقِي بِتَجَلُّدِي | *** | هُوَ في النَّوَائِبِ مُذْ حَيِيتُ قَرِينِي |
فَقْدِي أبي، أمْ غَصْبَ بَعْلِي حَقَّهُ | *** | أمْ كَسْرَ ضِلْعِي أمْ سُقُوطَ جَنِينِي۱ |
أمْ أخْذَهُمْ إرْثِي وَ فَاضِلَ نِحْلَتِي | *** | مْ جَهْلَهُمْ حَقِّي وَ قَدْ عَرَفُونِي |
قَهَرُوا يَتِيمَيْكَ الحُسَيْنَ وَ صِنْوَهُ | *** | وَ سَألَتُهُمْ حَقِّي وَ قَدْ نَهَرُونِي |
ها نحن نختم بحثنا في المقام و المواطن الأوّل من المواقف و المواطن الأربعة عشر التي عرض فيها رسول الله صلّى الله عليه و آله
و سلّم حديث المنزلة. و نواصل حديثنا عن المواطن الاخرى. و لمّا كان حديثنا عن المواطن الأوّل وافياً مفصّلًا، و قد أتى على المسألة من جميع أطرافها و جوانبها، لذلك نوجز كلامنا عن سائر المواقف و المواطن مقتصرين على الحديث نفسه و وروده في ذلك الموطن متحاشين الكلام عن جوانب المسألة و ملحقاتها۱.
المقام الثاني من حديث المنزلة بعد فتح خيبر
المقام و الموطن الثاني عند فتح خَيْبَر، لمّا دفع رسول الله راية الحرب إلى أبي بكر، و فرّ، ثمّ دفعها إلى عمر، و فرّ؛ ثمّ قال: لُاعطينّ هذه الراية رجلًا يحبّه اللهُ و رسوله، و يحبُّ اللهَ و رسولَه؛ كرّار غير فرّار، يفتح الله على يديه. فرجا كثير منهم أن يكونوا أصحاب الراية، عند ذاك قال رسول الله: أين عليّ؟!
قالوا: و رمت عيناه و هما تؤلمانه، و لا يستطيع أن يصبر؛ و هو الآن
مشغول بالطحن في الموقف الذي نزلوا فيه.
فدعاه رسول الله؛ و بصق في عينيه، و دفع إليه الراية. و قتل عليّ مَرْحَبَ بطل اليهود الشجاع و رجلهم الفذّ. و فتح القلعة، و اقتلع بابها التأريخيّ وحده و ألقى به جانباً. و أسر عدداً من اليهود، و كان بينهم بنت حُيَيّ بن أخطب، فاتي بها إلى رسول الله. حينئذٍ نطق رسول الله بتلك الجمل التأريخيّة العجيبة لبيان عظمته و شأنه و ممّا خاطبه به قوله: لَوْ لا أنْ تَقُولَ فِيكَ طَائِفَةٌ مِنْ امَّتِي مَا قَالَتِ النَّصَارى في المَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ، لَقُلْتُ فِيكَ اليَوْمَ مَقَالًا لَا تَمُرُّ بِمَلأ إلَّا أخَذُوا التُّرَابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمِكَ وَ مِنْ فَضْلِ طَهُورِكَ فَاسْتَشْفَوا بِهِ! وَ لَكِنْ حَسْبُكَ أنْ تَكُونَ مِنَّي وَ أنَا مِنْكَ! تَرِثُنِي وَ أرِثُكَ! وَ أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! وَ إنَّكَ تُبْرِءُ ذِمَّتِي! وَ تُقَاتِلُ عَلَى سُنَّتِي! الحديث۱.
المقام الثالث من حديث المنزلة عند غلق أبواب المسجد إلّا باب عليّ
المقام و الموطن الثالث عند ما أمر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بغلق أبواب بيوت الصحابة المتّصلة بالمسجد النبويّ إلّا باب عليّ بن أبي طالب عليه السلام؛ ذلك أنّ باباً واحداً من أبواب تلك البيوت الواقعة في أطراف المسجد كان يفتح إلى داخل المسجد حتّى تلك الفترة. فأمر رسول الله بغلق جميع الأبواب بما فيها باب عمّه العبّاس، و باب حمزة سيّد الشهداء. و لم يحقّ لأحد أن يدخل المسجد و هو مجنب، أو يباشر امرأته في المسجد. و كان هذا الأمر حراماً على الامّة جميعها إلّا على
عليّ بن أبي طالب.
و ثقل الأمر على البعض، إذ اغلق باب أبي بكر، و العبّاس أيضاً. فقال النبيّ الأعظم: ما أخرجتهم من المسجد، و أبقيتُ عليّاً فيه؛ بل الله أخرجهم و أدخل عليّاً.
و روى في «غاية المرام» عن ابن بابويه بسنده المتّصل عن معروف ابن خرَّبوذ، عن أبي الطُّفَيل، عن حُذَيفة بن اسَيْد الغفاريّ، قال: إنّ النَّبِيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم قَامَ خَطِيبَاً فَقَالَ: إنَّ رِجَالًا لَا يَجِدُونَ في أنْفُسِهِمْ أنْ اسْكِنَ عَلِيَّاً في المَسْجِدِ وَ اخْرِجَهُمْ. وَ اللهِ مَا أخْرَجتُهُمْ وَ أسْكَنْتَهُ، بَلِ اللهُ أخْرَجَهُمْ وَ أسْكَنَهُ، إنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ أوْحَى إلى موسى وَ أخِيهِ: «أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ»۱.
ثم أمر موسى أن لا يسكن مسجده و لا ينكح فيه و لا يدخله جنب
إلَّا هَارُونُ وَ ذُرِّيَّتُهُ، وَ إنَّ عَلِيَّاً مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى وَ هُوَ أخِي دُونَ أهْلِي؛ وَ لَا لإحَدٍ أنْ يَنْكِحَ فِيهِ النِّساءَ إلَّا عَلِيّ وَ ذُرِّيَّتُهُ. فَمَنْ سَاءَهُ فَهَيهُنَا، وَ أشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّام۱.
و روى عن المظفّر بن جعفر بن المظفّر العلويّ بسنده المتّصل عن أبي رافع قال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم خطب الناس فقال: أيّها الناس: إنّ الله عزّ و جلّ أمر موسى و أخاه أن يبوّءا لقومهما بمصر بيوتاً؛ و أمرهما أن لا يثبت في مسجدهما جنب، و لا يقرب فيه النساء إلّا هارون و ذرّيّته و إنَّ عَلِيَّاً مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى. فلا يحلّ أن يقرب النساء في مسجدي، و لا يبيت فيه جنب، إلّا عليّ و ذرّيّته. فمن ساءه ذلك فهاهنا! و ضرب بيده نحو الشام٢.
و كذلك روي عن ابن بابويه بسنده المتّصل عن الريّان بن الصَّلْت، عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام ضمن حديث عدّ فيه الإمام الفروق بين عترة الرسول، و الامّة. ثمّ ذكر آيات الاصطفاء من القرآن في اثني عشر مورداً، إلى أن بلغ الفرق الرابع و هو إخراج رسول الله الناس من مسجده ما خلا العترة. حتّى تكلّم الناس في ذلك مع رسول الله. و تكلّم العبّاس، فقال: يا رسول الله! تركت عليّاً و أخرجتنا؟ فقال رسول الله: ما أنا تركته و أخرجتكم، بل الله تركه و أخرجكم. و في هذا تبيان لقول رسول الله لعليّ: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى.
و قال العلماء (الذين حضروا كلّهم في مجلس المامون): و أين هذا من القرآن؟!
قال (الإمام): أو جدكم في ذلك قرآناً قرأه (الله) عليكم! قالوا: هات!
قال: قول الله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما
بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً. ففي هذه الآية منزلة هارون من موسى؛ و فيها أيضاً منزلة عليّ من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. و من هذا دليل ظاهر في قول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حين قال: إنَّ هَذَا المَسْجِدَ لَا يَحِلُّ إلَّا لِمُحَمَّدٍ وَ آلِهِ.
قال العلماء: يا أبا الحسن! هذا الشرح (و هذا البيان) لا يوجد إلّا عندكم معشر أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. و من ينكر لنا ذلك و رسول الله قال: أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وَ عَلِيّ بَابُهَا. فَمَنْ أرَادَ الحِكْمَةَ فَلْيَأتِهَا مِنْ بَابِهَا.
ثمّ قال الرضا عليه السلام: ففي ما أوضحنا، و شرحنا من الفضل و الشرف و التقدمة و الاصطفاء و الطهارة لا ينكره إلّا معاند للّه تعالى، الحَمْدُ لِلَّهِ على ذَلِكَ، فهذه الجهة الرابعة في الفرق بين العترة و الامّة. و أمّا الجهة الخامسة ... إلى آخر الحديث۱.
المقامان الرابع و الخامس من حديث المنزلة في العشيرة و المؤاخاة
المقام و الموطن الرابع: عند نزول آية الإنذار و حديث العشيرة. فلمّا نزلت الآية الشريفة وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ٢، رتّب رسول الله
مجلساً، و أمر أمير المؤمنين أن يدعو أعمامه و كبار بني هاشم، و يطبخ رِجل شاة، و يهيّيء قعباً من لبن. و كان أمير المؤمنين يومئذٍ ابن ثلاث عشرة سنة، و قد مرّ على أوّل البعثة النبوّية ثلاث سنين تقريباً. و دعا أعمام رسول الله و أقربائه و كبار بني هاشم. و قال رسول الله بعد أن تناولوا الطعام: إنّ الله عزّ و جلّ أمرني أن انذرَ عشيرتي الأقربين و رهطي المخلصين!
و أنتم عشيرتي الأقربون، و أنتم رهطي المخلصون؛ و إنّ الله لم يبعث نبيّاً إلّا جعل له من أهله أخاً و وارثاً و وزيراً و وصيّاً. فَأيُّكُمْ يَقُومُ يُبَايِعُنِي أنَّهُ أخِي وَ وَزِيرِي وَ وَارثِي دُونَ أهْلِي، وَ وَصِيِّي، وَ خَلِيفَتِي في أهْلِي، وَ يَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى غَيْرَ أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي؟!
فقطع الحاضرون كلّهم كلامه، و أعرضوا إلّا عليّاً، فقد أجابه و بايعه.
و ورد هذا الحديث بهذه الألفاظ في «تاريخ دمشق» و «غاية المرام» و «مجمع البيان». و قد نقلنا منه هنا موضع حاجتنا بإيجاز۱.
و ورد في كتاب «سُلَيم بن قيس» أيضاً: و حينئذٍ قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لأبي طالب: يَا أبَا طَالِبٍ! اسْمَعِ الآنَ لِابْنِكَ وَ أطِعْ فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ مِنْ نَبِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى٢.
و لمّا كنا قد تحدّثنا عن آية الإنذار و حديث العشيرة في الجزء الأوّل من هذا الكتاب، الدرس الخامس مختصراً، و في هذا الجزء، ضمن الدرس
۱٢٦ إلى ۱٤۱ مفصّلًا، فلهذا اكتفينا هنا بما ذكرناه.
المقام و الموطن الخامس، عند ما آخى رسول الله بين المهاجرين و الأنصار في المدينة، و آخى عليّاً فيها؛ و بيّن حديث المنزلة مع اخوّته.
و روى السيّد البحرانيّ في «غاية المرام» عن «مسند أحمد بن حَنْبَل» بأربعة أسناد، و عن أخطب الخطباء موفّق بن أحمد الخوارزميّ بسند واحد أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم عند ما آخى بين المهاجرين و الأنصار، و أخّر عليّاً ليؤاخيه هو نفسه؛ ثمّ آخاه بعد ذلك، قال: أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنّه لَا نَبِيّ بَعْدِي۱. و لمّا كنا قد تحدّثنا مفصلًا عن اخوة أمير المؤمنين عليه السلام لرسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في الجزء الثاني من هذا الكتاب، الدرس الثاني و العشرين إلى الرابع و العشرين، لذلك اجتزأنا هنا بالإشارة إلى حديث المنزلة في هذا الموضع٢.
المقامان السادس و السابع من حديث المنزلة
المقام و الموطن السادس ورود حديث المنزلة عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم في سياق خطبة الغدير التي خطبها بالجُحْفَة عند الرجوع من حِجَّة الوداع.
و عرض السيّد البحرانيّ قصّة الغدير مفصّلًا في «غاية المرام» عن
«الاحتجاج» للشيخ أحمد بن عليّ بن أبي طالب الطبرسيّ بسنده المتّصل، و كذلك عن «روضة الواعظين» لابن الفارسيّ، عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام، إلى أن بلغ قوله:
يَأمُرُنِي عَنِ السَّلَامِ رَبِّي وَ هُوَ السَّلَامُ أنْ أقُومَ في هَذَا المَشْهَدِ فَاعْلِمَ كُلَّ أبْيَضَ وَ أسْوَدَ: أنَّ عَلِيّ بْنَ أبي طَالِبٍ أخِي وَ وَصِيِّي وَ خَلِيفَتِي وَ الإمَامُ مِنْ بَعْدِي وَ الذي مَحَلُّهُ مِنِّي مَحَلُّ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي وَ هُوَ وَليُّكُمْ بَعْدَ اللهِ وَ رَسُولِهِ إلى آخر الخطبة۱.
المقام و الموطن السابع بيان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم حديث المنزلة لُامّ سلمة مباشرةً. و ورد عدد من الأحاديث في هذا المجال. و يستبين من مضامينها أنّ رواية امّ سلمة لهذا الحديث لم تكن في أحد المواطن و المواقف الاخري التي تكون امّ سلمة وحدها راويته فيه، بل بيّن رسول الله هذه المنزلة بخاصّة لهذه الزوجة العظيمة و أشهدها على هذا المفاد.
و من ذلك ما رواه الخوارزميّ في «المناقب» بسنده المتّصل عن أحمد بن عبد الله بن داهر بن يحيى، عن ابن عبّاس، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: هَذَا عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ لَحْمُهُ لَحْمِي، وَ دَمُهُ دَمِي؛ وَ هُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي. وَ قَالَ: يَا أمَّ سَلَمَةَ! اسْمَعِي وَ اشْهَدِي هَذَا عَلِيّ بْنُ أبي طَالِبٍ أمير المؤمنين، وَ سَيِّدُ المُسْلِمِينَ؛ وَ عَيْبَةُ عِلْمِي، وَ بَابِيَ الذي اوتَى مِنْهُ؛ وَ أخِي في الدُّنْيَا؛ وَ أخِي في الآخِرَةِ؛ وَ مَعِي في السَّنَامِ الأعْلَى٢!
و منه ما رواه صاحب كتاب «المَنَاقِبُ الفَاخِرِةُ في العِتْرَةِ الطَّاهِرِة» بسنده عن الأعمش، عن عَبايه الأسَديّ، عن ابن عبّاس، عن امّ سَلَمَة، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و قد دخل عليه عليّ بن أبي طالب عليه السلام: يا امّ سلمة! هل تعرفينه؟! فقالت هيناً: هذا عليّ بن أبي طالب!
قال رسول الله: نَعَمْ! لَحْمُهُ لَحْمِي؛ وَ دَمُهُ دَمِي؛ وَ هُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي. و بعد بيان الفقرات التي مرّت في الحديث الأخير، أضاف إليها الجمل الآتية: وَ قَرِينِي في الآخِرَةِ. اشْهَدِي يَا امَّ سَلَمَةَ! إنَّهُ يُقَاتِلُ النَّاكِثِينَ (أصحاب الجمل) وَ القَاسِطِينَ (أصحاب صفَّين) وَ المارِقِينَ۱ (أصحاب النهروان).
و روى في «زوائد مسند عبد الله بن حنبل» بسنده عن ابن عبّاس أنّ رسول الله قال لُامّ سلمة:
يَا امَّ سَلَمَةَ! عَلِيّ مِنِّي، وَ أنَا مِنْ عَلِيّ؛ لَحْمُهُ مِنْ لَحْمِي؛ وَ دَمُهُ مِنْ دَمِي؛ وَ هُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى! يَا امَّ سَلَمَةَ! اسْمَعِي وَ اشْهَدِي! هَذَا عَلِيّ سَيِّدُ المُسْلِمِينَ٢.
المقام الثامن من حديث المنزلة عند تسمية الحسنين عليهما السلام
المقام و الموطن الثامن عند تسمية الإمام الحسن و الإمام الحسين عليهما السلام إذ سمّاهما رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و سمّى
أخاهما الآخر مُحْسِن السِّقْط بأسماء أبناء هارون الثلاثة، و هم بالترتيب: شُبَّر وَ شُبَّيْر و مشَبِّر۱.
و روى في «غاية المرام» عن ابن بابويه بسنده المتّصل عن أبي حمزة الثماليّ، عن زيد بن عليّ بن الحسين، عن أبيه عليّ بن الحسين قال: لمّا ولدت فاطمة عليها السلام الحسن، قالت لعليّ عليه السلام: سمّه!
فقال (عليّ): ما كنت لأسبق باسمه رسول الله. فجاء رسولَ الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، (و أخبره). فقال (رسول الله): ما كنت أسبق باسمه ربّي عزَّ و جلَّ.
فأوحى الله عزّ و جلّ إلى جبرائيل أنّه قد ولد لمحمّد ابنٌ! فاهبط؛ فاقرأه السلام! وهنّه، و قل: إنَّ عَلِيَّاً مِنْكَ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى فَسَمِّهِ بِاسْمِ ابْنِ هَارُونَ!
فقال (رسول الله لجبرائيل): و ما كان اسمه؟! قال: شُبَّر.
قال (رسول الله): لساني عربيّ! قال: سمّه الحَسَن! فسمّاه الحسن.
و لمّا ولد الحسين، أوحي الله عزّ و جلّ إلى جبرائيل أنّه قد ولد لمحمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم ابن، فاهبط؛ و اقرأه السلام، وهنّه، و قل له: إنَّ عَلِيَّاً مِنْكَ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى فَسَمِّهِ بِاسْمِ ابْنِ هَارُونَ! فهبط جبرائيل، فهنّاه عن الله عزّ و جلّ. (و قال: إنّ الله) يأمرك أن تسمّيه باسم ابن هارون! قال: و ما كان اسمه؟ قال (جبرائيل): شُبَّيْر!
قال (رسول الله): لساني عربيّ. قال: اسمه الحُسَيْن! فسماه (رسول الله) الحُسَيْنَ۱.
و في «غاية المرام» أيضاً عن الشيخ الطوسيّ في «الأمالى»، عن الإمام السجّاد عليه السلام، قال: حدّثتني أسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْس الخثْعَمِيَّة قالت: قبلتُ جدّتك فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بالحسن و الحسين عليهما السلام. فلمّا ولدت الحسن، جاء النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فقال: يا أسماء! هاتي ابني!
قالت (أسماء): فدفعته إليه في خرقة صفراء. فرمى بها، و قال: أ لم أعهد إليكنّ ألّا تلفّوا المولود في خرقة صفراء؟! و دعا بخرقة بيضاء فلفّه فيها؛ ثمّ أذّن في اذنه اليُمنى؛ و أقام في اذُنه اليُسرى. و قال لعليّ عليه السلام: سمّيت ابني هذا؟! فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما كنت لأسبقك باسمه! يا رسول الله!
قال (رسول الله): و أنا ما كنت لأسبق ربّي عزّ و جلّ! قال (رسول الله): فهبط جبرائيل عليه السلام، و قال: إنّ الله تعالى يقرأ عليك السلام و يقول لك: يَا مُحَمَّدُ! عَلِيّ مِنْكَ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدَكَ! فسمّ ابنك باسم ابن هارون! قال النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: و ما اسم ابن هارون؟ قال جبرائيل: شُبَّر. قال رسول الله: و ما شُبّر؟ قال: الحسن.
قالت أسماء: فسمّاه الحسن. فلمّا ولدت فاطمةُ الحسين عليه السلام، نفستُها به أيضاً. فجاءني النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فقال: (يا أسماء!) هلمّي بابني! فدفعته إليه في خرقة بيضاء. ففعل به كما فعل بالحسن (من الأذان في اذُنه اليمنى، و الإقامة في اذُنه اليُسرى). قالت
(أسماء): و بكى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، ثمّ قال: إنّه سيكون له حديث؛ اللهمّ العن قاتله. لا تُعلمي فاطمة بذلك!
قالت أسماء: فلمّا كان في يوم سابعه، جاءني النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، فقال: هلمّي ابني! فأتيتُه به؛ ففعل كما فعل بالحَسَن، و عقّ عنه، كما عقّ كبشاً أملح؛ و أعطى القابلة الورك رجلًا، و حلق رأسه و تصدّق بوزن الشعر فضّة، و خلق رأسه بالخَلوق۱ و قال إنّ الدم من فعل الجاهليّة، أي (أنّ تلطيخ رأس الطفل بدم الشاة من سنن الجاهليّة).
قالت (أسماء): ثمّ وضعه في حجره؛ ثمّ قال: يا أبا عبد الله! عزيز عَلَيّ! ثمّ بكى. قلتُ: بأبي أنت و امّي! فعلتَ في هذا اليوم و في اليوم الأوّل، فما هو؟
قال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: أبكي على ابني هذا تقتله فئة باغية كافرة من بني اميّة لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة! يقتله رجل ثلم الدين و يكفر بالله العظيم. اللهمّ إنّي أسألك فيهما ما سألك إبراهيم الخليل في ذرّيّته. اللهمّ أحبّهما و أحبّ من يحبّهما؛ و العن من يبغضهما؛ مثل السماء و الأرض٢.
و روى في «غاية المرام» أيضاً حديثاً بهذا المضمون عن ابن بابويه بسنده المتّصل الآخر عن ابن الزبير، عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ. و ينصّ فيه أيضاً على أنّ جبرائيل كان يأتي بكلام ربّه: إنَّ عَلِيَّاً مِنْكَ بِمَنْزِلَةِ هَارونَ مِنْ موسى عند تسمية الحسن و عند تسمية الحسين٣.
و نقلنا في هذا الجزء حديثاً مهمّاً أيضاً يحوم حول هذا الموضوع عن ابن شهرآشوب في «المناقب» عن أبي بكر الشيرازيّ في كتابه: «فيما نزل من القرآن في أمير المؤمنين عليه السلام».
المقامان التاسع و العاشر من حديث المنزلة في دعاء رسول الله و ...
المقام و الموطن التاسع عند ما حُمّ أمير المؤمنين بشدّة في سفرته مع النبيّ، و دعا له رسول الله. و كان مقام المنزلة من جملة ما ورد في دعائه و بيّنه لأمير المؤمنين بقوله: وَ سَألْتُهُ أنْ يَجْعَلَكَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى! وَ أنْ يَشُدَّ بِكَ أزْرِي! وَ يُشْرِكَكَ في أمْرِي! فَفَعَلَ؛ إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! فَرَضِيتُ۱.
هذه الرواية في غاية الأهمّيّة و تحتوي على امور قيّمة، و هي مرويّة عن سُلَيمْ بن قَيس الهلاليّ؛ و رواها أيضاً الملّا عليّ المتّقي في «كنز العمّال» باختصار. و نحن ذكرناها كاملة في هذا الجزء.
المقام و الموطن العاشر عند ما جاء أبو سفيان؛ و جلس عند رسول الله؛ و سأله عن صاحب مقام الإمامة و أمر الولاية بعده: من يكون؟ فذكر له رسولُ الله أمير المؤمنين.
و نلاحظ في «غاية المرام» حديثين عن العامّة: أحدهما عن حافظ بن محمّد بن مؤمن الشيرازيّ في كتابه عند تفسير قوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ، و ذلك بإسناده إلى السُّدّيّ مرفوعاً حول أبي سفيان؛ و الآخر عن ابن شهرآشوب، عن طريق العامّة، عن عبد خير، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام حول أبي سفيان أيضاً.
و الحديثان ذوا مضمون واحد. و نحن نذكر هنا عين الحديث الذي رواه ابن شهرآشوب:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: أقبل صَخْرُ بْنُ حَرْبٍ (أبو سفيان) حتّى جلس إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فقال: يَا مُحَمَّدُ! هَذَا الأمْرُ بَعْدَكَ لَنَا أوْ لِمَنْ؟
قال (رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم): يَا صَخْرُ! الأمْرُ بَعْدِي لِمَنْ هُوَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى. فَأنْزَلَ اللهُ: «عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ».۱ منهم المصدّق بولايته و خلافته؛ و منهم المكذّب بولايته و خلافته. ثمّ قال الله: «كَلَّا» و هو ردّ عليهم «سَيَعْلَمُونَ» خِلَافَتَهُ بَعْدَكَ إنَّهَا حَقٌّ «ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ» يَقُولُ يَعْرِفُونَ خِلَافَتَهُ وَ وَلَايَتَهُ إذْ يُسْألُونَ عَنْهَا في قُبُورِهِمْ فَلَا يَبْقَي مَيِّتٌ في شَرْقٍ وَ لَا غَرْبٍ وَ لَا في بَرٍّوَ لَا في بَحْرٍ إلَّا مُنْكِرُ وَ نَكِيرُ يَسْألَانِهِ عَنْ وِلَايَةِ أمير المؤمنين بَعْدَ المَوْتِ يَقُولَانِ لِلْمَيِّتِ: مَنْ رَبُّكَ؟ وَ مَا دِينُكَ؟ وَ مَنْ نَبِيُّكَ؟ وَ مَنْ إمَامُكَ٢.
المقامان الحادي عشر و الثاني عشر من حديث المنزلة ...
المقام و الموطن الحادي عشر عند ما قال بعض الأعداء: ما مثل محمّد إلّا كَمَثَلِ نَخْلَةٍ في كُنَاسَةٍ.
روي محمّد بن إبراهيم المعروف بابن أبي زينب النُّعْمَانِيّ في كتاب (الغيبة) بإسناده عن عبد الرزّاق، عن معمّر بن راشد، عن أبان بن أبي عيّاش، عن سُلَيم بن قيس الهلاليّ قال: (قال أمير المؤمنين) عليّ بن أبي طالب عليه السلام: مررتُ يوماً برجل سمّاه لي فقال: مَا مَثَلُ مُحَمَّدٍ إلَّا
كَمَثَلِ نَخْلَةٍ نَبَتَتْ في كِبَاةِ كَلْشَة. فأتيتُ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، فذكرتُ ذلك له. فغضب صلّى الله عليه و آله و سلّم؛ و خرج مغضباً، و أتي المنبر، ففزعت الأنصار إلى السلاح لما رأوا من غضب رسول الله. فقال رسول الله: مَا بَالُ أقْوَامٍ يُعَيِّرُونِي بِقَرابَتِي وَ قَدْ سَمِعُوا مَا أقُولُ مِنْ تَفْضِيلِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ إيَّاهُمْ، وَ مَا اخْتَصَّهُمْ مِنْ إذْهَابِ الرِّجْسِ عَنْهُمْ وَ تَطْهيرِ اللهِ إيَّاهُمْ، وَ قَدْ سَمِعُوا مَا قُلْتُ في فَضْلِ أهْلِ بَيْتي، وَ وَصِيِّي، وَ مَا أكْرَمَهُ اللهُ بِهِ، وَ خَصَّهُ، وَ فَضَّلَهُ مِنْ سَبْقِهِ إلى الإسْلَام وَ بَلَائِهِ وَ قَرَابَتِهِ مِنِّي وَ أنَّهُ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى صلّى الله عَلَيْهِمَا۱.
و كذلك روي صاحب «غاية المرام» هذا المضمون مع تفصيل و شرح أكثر عن سُلَيْم بن قيس، و فيه ذِكر الأئمّة عليهم السلام كلّهم، و جعفر بن أبي طالب، و حمزة بن عبد المطّلب، و السيّدة فاطمة الزهراء عليهم السلام٢.
المقام و الموطن الثاني عشر عند ما بعث رسولُ الله خالد بن وليد إلى بني المُصْطَلَق؛ فقتلهم خالد بلا مراعاة لمشاعرهم. ثمّ أوفد أمير المؤمنين عليه السلام، و قال في حقّه حديث المنزلة.
و فيما يأتي هذه القصّة برواية ابن بابويه بسنده المتّصل، عن محمّد بن مُسْلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: بعث رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم خالدَ بن الوليد إلى حيّ يقال له: بنو المُصْطَلَق من بني جُذَيمَة. و كان بينه و بين بني مخزوم اخته في الجاهليّة.
و لمّا ورد عليهم خالد، أمر منادياً ينادي بالصلاة؛ فصلّي؛ و صلّوا؛
و لمّا كان صلاة الفجر، أمر مناديه، فنادي، و صلّوا. ثمّ أمر الخيل (فحاصروهم من كلّ جانب)، و شنّوا فيهم الغارة قتل و أصاب. أي (فانشغل خالد بالقتل، و أنزل فيهم الجراح). (و طلب المسلمون من تلك الجماعة كتاب رسول الله في أمانهم ليروه و يعرفوا هل اقرّ إيلامهم، و هل هم مصونون في كنف الإسلام؟ فأروهم الكتاب). فأتوا به النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، و حدّثوه بما صنع خالد بن الوليد (فيهم من القتل و الجرح و الغارة بلا ذنب ارتكبوه). فاستقبل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم القبلة و قال: اللَهُمَّ إنِّي أبْرَا إلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الوَلِيدِ. ثمّ قدم خالد بن الوليد على رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
و قال (رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم) لأمير المؤمنين عليه السلام: ائت بني جُذيمة من بني مصطلق، فأرضهم ممّا صنع خالد! ثمّ رفع رسول الله قدميه، و قال: يا عليّ! اجعل قضاء أهل الجاهليّة تحت قدميك! فأتاهم (أمير المؤمنين) عليّ عليه السلام؛ فلمّا انتهى إليهم، حكم فيهم بحكم الله. فلمّا رجع إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال (رسول الله): يا عليّ! خبّرنا بما صنعتَ.
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! عَمَدْتُ فَأعْطَيْتُ لِكُلِّ دَمٍ دِيَةً، وَ لِكُلِّ جَنِينٍ غُرَّةً (غلاماً أو أمةً)، وَ لِكُلِّ مَالٍ مالًا، وَ فَضَلَتْ مَعِي فَضْلَةٌ، فَأعْطَيْتُهُمْ لِبُلْغَةِ كِلَابِهِمْ وَ جَعْلَةِ رُعَاتِهِمْ. وَ فَضَلَتْ مَعِي فَضْلَةٌ فَأعْطَيْتُهُمْ لِرَوْعَةِ نِسَائِهِمْ وَ فَزَعِ صِبْيَانِهِمْ، وَ فَضَلَتْ مَعِي فَضْلَةٌ فَأعْطَيْتُهُمْ لِيَرْضَوا عَنْكَ يَا رَسُولَ اللهِ.
فَقَالَ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: أعْطَيْتَهُمْ لِيَرْضَوْا عَنِّي؟ رَضِيَ اللهُ عَنْكَ يَا عَلِيّ! أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي۱.
المقام الثالث عشر من حديث المنزلة في معراج رسول الله
المقام و الموطن الثالث عشر في معراج رسول الله إذ منح الله هذه المنزلة لعليّ بن أبي طالب من النبيّ. و بيّنها رسول الله للُامّة.
روي الشيخ الصدوق محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّيّ بسنده المتّصل عن وَهَب بن منبّه مرفوعاً عن ابن عبّاس أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قال: لمّا عرج بي ربّي، أتاني النداء: يَا مُحَمَّدُ! قلتُ: لَبَّيْكَ رَبَّ العَظَمَةِ لَبَّيْكَ! فأوحي الله إليّ: يا محمّد! فيما اختصصتَ بالملأ الأعلى؟ فقلتُ: لا علم لي يا إلهيّ! فقال: يا محمّد! هل اتّخذت من الآدميّين وزيراً و أخاً و وصيّاً من بعدك؟! قلتُ يا إلهي! و مَن أتّخذ؟ تخيّر لي يا إلهي! فأوحي الله إليّ: يا محمّد! قد اخترت لك من الآدميّين عليّ بن أبي طالب!
فقلتُ: (يا) إلهي! ابن عمّي! فأوحي الله إليّ: إنَّ عَلِيَّاً وارِثُكَ وَ وارِثُ العِلْمِ مِنْ بَعْدِكَ وَ صَاحِبُ لِوَائِكَ لِوَاءِ الحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَ صَاحِبُ حَوْضِكَ (حوض الكوثر) يَسْقِي مَنْ وَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ مُؤْمِنِي امَّتِكَ!
ثمّ أوحي الله إليّ: يا محمّد! إنّي قد أقسمت على نفسي قسماً حقّاً: لا يشرب من ذلك الحوض مبغض لك، و لأهل بيتك، و ذرّيّتك الطيّبين الطاهرين؛ حقّاً حقّاً.
يا محمّد! لُادخلنّ جميع امّتك الجنّة إلّا من أبي من خلقي! فقلتُ: (يا) إلهي! هل واحد يأبي من دخول الجنّة؟!
فأوحي الله إليّ: بلي! فقلتُ: و كيف يأبي؟
فَأوْحَى اللهُ إلَيّ: يَا مُحَمَّدُ! اخْتَرْتُكَ مِنْ خَلْقِي؛ وَ اخْتَرْتُ لَكَ وَصِيّاً مِنْ بَعْدِكَ؛ وَ جَعَلْتُهُ مِنْكَ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى، إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدَكَ؛ وَ ألْقَيْتُ مَحَبَّتَهُ في قَلْبِكَ؛ وَ جَعَلْتُهُ مِنْكَ أباً لِوُلْدِكَ؛ فَحَقُّهُ بَعْدَكَ على امَّتِكَ كَحَقِّكَ عَلَيْهِمْ في حَيَاتِكَ؛ فَمَنْ جَحَدَهُ حَقَّهُ جَحَدَ حَقَّكَ؛ وَ مَنْ أبي أن
يُوَالِيَهُ فَقَدْ أبي أنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ. فَخَرَرْتُ لِلَّهِ سَاجِدَاً شُكْراً لِمَا أنْعَمَ عَلَيّ.
فإذا منادٍ ينادي: ارفع يا محمّد رأسك، و اسألني، اعطك! فقلت: إلهي! اجمع امّتي من بعدي على ولاية عليّ بن أبي طالب ليردوا عَلَيّ جميعاً حوضي يوم القيامة.
فأوحي الله إليّ: يا محمّد! إنّي قد قضيتُ في عبادي قبل أن أخلقهم و قضائي ماضٍ فيهم لُاهلِك به من أشاء؛ و أهدي به من أشاء. و قد آتيته علمك من بعدك؛ و جعلته خليفتك من بعدك على أهلك و امَّتك؛ عزيمة منّي، لا ادخل الجنّة من أبغضه و عاداه، و أنكر ولايته بعدك. فمن أبغضه، أبغضك؛ و من أبغضك، أبغضني. و من عاداه فقد عاداك، و من عاداك فقد عاداني. و من أحبّه، فقد أحبّك؛ و من أحبك فقد أحبّني. و قد جعلت له هذه الفضيلة و أعطيتك أن اخرج من صلبه أحد عشر مهدّياً كلّهم من ذرّيّتك، من البِكر البتول! و اخرج رجلًا منهم يصلّي خلفه عيسى ابن مريم. يملأ الأرض عدلًا كما ملئت من الناس ظلماً و جوراً. انجي به من الهلكة و اهدي به من الضلالة؛ و ابري به من العمي؛ و اشفي به المريض.
فقلتُ: إلهي! و متى يكون ذلك؟!
فأوحي الله عزّ و جلّ إليّ: يكون ذلك إذا دُفِع العلم و ظهر الجميل (و انهمك الناس بالزينة و الجمال)؛ و كثر القرّاء؛ و قلّ العمل (به)؛ و كثر القتل؛ و قلّ فقهاء الدين؛ و كثر فقهاء الضلالة و الخيانة؛ و كثر الشعراء؛ و اتّخذوا قبورهم مساجد؛ و حُلِّيت المصاحف، و زخرفت المساجد بالذهب؛ و كثر الجَور و الفساد؛ و ظهر المنكر؛ و امر به امّتك؛ و نهوا عن المعروف؛ و اكتفي الرجال بالرجال، و النساء بالنساء؛ و صارت امّتك الامراء كفرة؛ و أولياؤهم فَجَرَة؛ و أعوانهم ظَلَمَة؛ و ذوو الرأي منهم فسقة. و عند ذلك تقع ثلاثة خسوفات: خسف بالمشرق، تنخسف الأرض
و تغرق؛ و خسف بالمغرب، و خسف بجزيرة العرب. و خراب البصرة على يد رجل من ذرّيّتك يتبعه الزنوج۱ و خروج رجل من ولد الحسين بن عليّ بن أبي طالب! و خروج الدجّال بالمشرق من سجستان٢؛ و ظهور السفيانيّ!
و قلتُ: (يا) إلهي! و متى يكون بعدي من الفتن؟!
فأوحي إليّ (ربّي): و أخبرني ببلاء بني اميّة، و فتنة ولد عمّي العبّاس؛ (و أخبرني الله) بما يكون، و ما هو كائن إلى يوم القيامة.
فأوصلت بذلك ابن عمّي حين هبطت إلى الأرض فأدّيت الرسالة. وَ لِلَّهِ الحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا حَمِدَهُ النَّبِيُّونَ وَ كَمَا حَمِدَهُ كُلُّ شَيءٍ قَبْلِي وَ مَا هُوَ خَالِقُهُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ٣.
المقام الرابع عشر من حديث المنزلة بحضور الأنصار عند وفاة النبيّ
المقام و الموطن الرابع عشر لمّا نصّ رسول الله صلّى الله عليه و آله
و سلّم على حديث المنزلة بحضور الأنصار عند احتضاره.
و وردت في «غاية المرام» رواية رائعة جدّاً، و قد احتوت على تعليمات تؤكّد وصيّة رسول الله للأنصار. و هي منقولة عن السيّد ابن طاووس في الطرفة العاشرة و فيها تصريح الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم للأنصار و نصّه على خلافة أمير المؤمنين عليه السلام عند احتضاره من كتاب «الطرائف» عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام. و نحن ذكرنا هذه الرواية كلّها في هذا الجزء. و نكتفي هنا بنقل فقرة منها تتعلّق بحديث المنزلة:
اللهَ! اللهَ في أهْلِ بَيْتِي! مَصَابِيحِ الظَّلَامِ؛ وَ مَعَادِنِ العِلْمِ وَ يَنَابِيعِ الحِكَمِ وَ مُسْتَقَرِّ المَلَائِكَةِ؛ وَ مِنْهُمْ وَصِيِّي وَ أمِينِي وَ وارِثِي، مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى؛ ألَا هَلْ بَلَّغْتُ۱؟!
و ينبغي أن نعلم أنّ هذه هي المقامات و المواطن الأربعة عشر المختلفة من كلام رسول الله بخصوص حديث المنزلة، و أنّ أمير المؤمنين عليه السلام من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كهارون من موسى. و إلّا فإنّ المواطن و المقامات التي سمّاه فيها رسول الله وزيراً، أو أنّه طلب له مقام الوزارة في أدعيته، فهي كثيرة؛ و كذلك فإنّ هذه هي المواطن و المقامات الأربعة عشر التي عثرنا عليها بعد البحث و التنقيب بحمد الله و منّه، و لعلّها تكون أكثر من ذلك، و تنكشف للمتتبِّع الخبير و المتضلّع البصير مقامات و مواطن اخرى؛ و للّه الحمد و له المنّة.
و كذلك فإنّ كلام رسول الله لأمير المؤمنين عليه السلام عند احتضاره فَإنَّكَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى! وَ لَكَ بِهَارُونَ اسْوَةٌ حَسَنَةٌ إذِ اسْتَضْعَفَهُ
قَوْمُهُ وَ كَادُوا يَقْتُلُونَهُ، فَاصْبِرْ لِظُلْمِ قُرَيْشٍ إيَّاكَ وَ تَظَاهُرِهِمْ عَلَيْكَ فَإنَّكَ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ وَ مَنْ تَبِعَهُ، إلى آخره، و هو وارد في حديث «كمال الدين و تمام النعمة». و كان بعد دخول فاطمة على رسول الله و انهمار دموعها بمحضره، و بيان رسول الله فضائلَ عليّ و مناقبه لها. و لو فصلناه عن وصيّته للأنصار عند الاحتضار، لبلغت مقامات هذا الحديث و مواطنه خمسة عشر.
و يستبين أيضاً أنّ تلك الرواية الواردة في المودّة السابعة من «ينابيع المودّة» عن الإمام الصادق، عن آبائه عليهم السلام، و الملحوظ فيها عشرة مواضع بيّن فيها رسول الله حديث المنزلة لأمير المؤمنين، قد اشتملت على المواضع المهمّة، دون سائر المواضع.
و ينبغي أن نعلم أنّ ما ذكرناه إلى الآن من حديث المنزلة كان في سنده و موارده المتعدّدة التي بيّنها رسول الله. و كان في مواضع الاحتجاج و الاستشهاد به ممّا ذكرته كتب العلماء، و أورده العلماء.
بحث كلاميّ في مفاد حديث المنزلة
و أمّا البحث الكلاميّ، أي: البحث في مفاده و محتواه و مضمونه و كيفيّة دلالته على خلافة أمير المؤمنين عليه صلوات الله و صلوات المصلّين و وصايته و وزارته و إمامته، فلم يكن مستقلًّا، إلّا ما ورد منه على سبيل الإشارة أو كان كلاماً موجزاً للعلّامة الأمينيّ. و قد نقلناه في هذا الجزء. و قد بلغنا بتتمّة البحث. و تحدّث الشريف المرتضى علم الهدى عن هذا الموضوع حديثاً مفصّلًا و وافياً في كتاب «الشافي»۱ و «تلخيص الشافي»٢، و حديثه شرح لكلام الصدوق و بحثه و تتمّته في «معاني
الأخبار»۱. و نقل المجلسيّ كلام ذينك العلمين في «بحار الأنوار»٢. و ذكره أيضاً كلّ من الشيخ المفيد في «الإرشاد»٣، و الشيخ الطبرسيّ في «إعلام الوري»٤، و ابن شهرآشوب في «المناقب»٥، و الشيخ محمّد حسن المظفّر في «دلائل الصدق»٦، و غيرهم من الأعلام و الأساطين.
و يحسن بنا قبل الخوض في هذا البحث أن نذكر روايتين تبيّنان هذا الحديث المبارك و تشرحانه: الاولى: روى الشيخ الصدوق عن الحسن بن محمّد بن سعيد الهاشميّ بالكوفة بسنده المتّصل، عن أبي هارون العبديّ، قال: سألت جابر بن عبد الله الأنصاريّ عن معنى قوله صلّى الله عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السلام: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي! قَالَ: اسْتَخْلَفَهُ بِذَلِكَ وَ اللهِ على امَّتِهِ في حَيَاتِهِ وَ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُ، فَمَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ بَعْدَ هَذَا القَوْلِ بِالخِلَافَةِ فَهُوَ مِنَ الظَّالِمِينَ۷.
الثانية: روى الشيخ الصدوق عن أحمد بن الحسن القطّان بسنده المتّصل عن أبي خالد الكابليّ، قال: قيل لسَيِّدِ العَابِدِينَ عَلِيّ بْنِ الحُسَيْنِ عليهما السلام: إنّ الناس يقولون: إنّ خير الناس بعد رسول الله صلّى الله
عليه و آله و سلّم أبو بكر، ثمّ عمر، ثمّ عثمان، ثمّ عليّ عليه السلام!
قال (الإمام): فما يصنعون بخبر رواه سعيد بن المسيِّب، عن سعد بن أبي وقّاص، عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال لعليّ عليه السلام: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي۱؟!
و قال الشيخ المفيد بعد أن ذكر مجيء أمير المؤمنين عليه السلام إلى رسول الله بالجرف، و شكواه من المنافقين، و كذلك بعد أن ذكر جواب رسول الله له إذ قال: ارْجِعْ يَا أخِي إلى مَكَانِكَ! فَإنَّ المَدِيْنَةَ لَا تَصْلَحُ إلَّا بي أوْ بِكَ! فَأنْتَ خَلِيفَتِي في أهْلِ بَيْتِي وَ دارِ هِجْرَتِي وَ قَوْمِي! أ مَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
تضمّن هذا القول من رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم نصّه على أمير المؤمنين بالإمامة؛ و إبانته من كافّة الناس بالخلافة؛ و دلّ به على فضل لم يشركه فيه أحد سواه، و أوجب له به جميع منازل هارون من موسى، إلّا ما خصّه العُرف (من تلك الخصائص و الآثار) كالاخوّة؛ و استثناه هو من النبوّة. أ لا ترى أنّه جعل له كافّة منازل هارون من موسى إلّا المستثنى منها لفظاً و عقلًا؟!
و قد علم من تأمّل معاني القرآن و تصفّح الروايات و الأخبار أنّ هارون كان أخا موسى لأبيه و امّه، و شريكه في أمره (أي الولاية و الإمامة)؛ و وزيره على نبوّته، و تبليغه رسالات ربّه. و أنّ الله شدّ به أزره، و أنّه كان خليفته على قومه، و كان له من الإمامة عليهم و فرض الطاعة كإمامته و فرض طاعته، و أنّه كان أحبّ قومه إليه و أفضلهم لديه. قال الله عزّ و جلّ حاكياً عن موسى:
قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي ، وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ، يَفْقَهُوا قَوْلِي ، وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هارُونَ أَخِي ، اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ، وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ، كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً ، وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً۱.
فأجاب الله مسألته و أعطاه سؤله في ذلك و امنيته حيث يقول: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى٢.
و قال الله أيضاً حاكياً عن موسى: وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ٣.
و في ضوء هذه الآيات، لمّا جعل رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السلام منه بمنزلة هارون من موسى، أوجب له بذلك جميع المقامات و الدرجات التي كانت لهارون إلّا ما خصّه العرف من الاخوّة، و استثناه من النبوّة لفظاً. و هذه فضيلة لم يشرك فيها أحد من الخلق أمير المؤمنين عليه السلام، و لا ساواه في مفاد هذه الحقيقة و معناها، و لا قاربه فيها على أي حال من الأحوال٤.
و قال الشيخ المظفّر بعد بيان هذه الآيات، و حديث المنزلة، و دعاء رسول الله بعد نزول هذه الآيات بقوله: و اجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً أخي، و استجابة دعائه: يَا أحْمَدُ! قَدْ اوْتِيتَ مَا سَألْتَ۱: إنّ هذه الآية المباركة و إن لم يكن لنزولها دخل بأمير المؤمنين عليه السلام، لكن لمّا أمكن أخذ الدليل لإمامته منها بضميمة الأحاديث الحاكية لدعاء النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم له عليه السلام بمضمونها، صحّ لنا ذكرها في طيّ الأدلّة القرآنيّة على إمامته٢.
و بعد أن ذكرنا هاتين الروايتين و كلام المفيد و المظفّر، و عرفنا أنّ هذه الآيات المباركة بضميمة الأحاديث النبويّة في المنزلة، و دعاء النبيّ بجعل عليّ في المنزلة الهارونيّة، و استجابة دعائه كاستجابة دعاء موسى، كلّ ذلك يزيل أيّة شبهة تطرأ على القارئ أو المستمع في جميع منازل أمير المؤمنين عليه السلام و مراتبه من الإمامة و الولاية و الخلافة و الوزارة.
نأتي الآن على شرح الكلام و تفصيله مع ذكر النكات الواردة في حديث المنزلة، و نقول:
نلاحظ في هذا الحديث بنحو عامٍّ و شامل أنّ جميع منازل هارون و مقاماته قد تمّ تثبيتها و تقريرها لأمير المؤمنين عليه السلام ما عدا الاخوّة كما هو معلوم، و كذلك ما خلا النبوّة التي استثناها رسول الله نفسه. و من
جملة مقامات هارون: الإمامة و الرئاسة على الامّة عند غيبة موسى في ذهابه إلى الطور. و منها: الخلافة و الوزارة التي تمثّل المنصب الثاني بين كافّة الامّة سواء في الحياة أو في الممات، مع التسليم ببقاء هارون بعد موسى. و جميع هذه المقامات ثابتة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بالنصّ الصريح المتمثّل بعموميّة حديث المنزلة من وزارة، و معاونة مختصّة في أمر النبوّة، و إمامة و ولاية، و خلافة و نيابة سواء في حياة رسول الله أو بعد وفاته.
و يتحصّل هذا الاستيعاب و الاستغراق في مفاد الحديث بالنسبة إلى جميع المنازل من جهتين:
الاولى: من جهة إجراء مقدّمات الحكمة في لفظ المنزلة كما يتناوله علم الاصول بالبحث و الدراسة. أي: إذا كان المراد من لفظ المنزلة منزلة خاصّة كخصوص الوزارة، أو الإمامة و غيرهما، فينبغي أن يُوضَّح، و إلَّا لزم الإطلاق و عدم بيان قيده مع فرض لزوم القيد و إرادة المقيّد بما هو مقيّد. و صدور هذا الضرب من التلفّظ عن شخص حكيم خطأ. و إذا لم يكن المراد من المنزلة منزلة خاصّة، بل على نحو المهملة، أي: منزلة غير معيّنة، كيفما كانت، فإنّ هذا الضرب من التلفّظ هذر و عبث أيضاً. و الحكيم لا يهذر، و لا ينطلق هذراً و عبثاً. إذَاً لا بدّ أنّه أراد من لفظ المنزلة جميع المنازل، و هو المطلوب.
الثانية: الاستثناء عبارة عن إخراج معنى أو شيء، إذا لم يُخرج، فإنّه يدخل في جملة المستثنى منه على نحو العموم. أي: الخروج من معنى عامّ و شامل مراد في جملة المستثنى منه. و لمّا وردت في هذا الحديث عبارة إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي، فإنَّ المستفاد منها هو أنّ النبوّة التي هي أحد المنازل و قد استُثنيت، قد استثنيت من معنى عامّ و شامل، و جاءت النبوّة في العبارة
بوصفها مستثنى منه؛ و ذلك المعنى العامّ هو لفظ المنزلة. فلفظ المنزلة يعني هنا جميع المنازل و المقامات.
و من الجدير ذكره هنا أيضاً أنّ كلمة (بعدي) في قوله: إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي لا تعني بعد موتي، بل تعني بعد نبوّتي. و يريد رسول الله أن يقول: لا نبوّة بعد نبوّتي سواء كان ذلك النبيّ في حياتي، أو بعد مماتي.
و من هنا يستبين أنّ قوله: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى يشمل جميع منازله من وزارة، و إمامة، و خلافة، سواءً كان رسول الله حيّاً، أو ميّتاً، كما أنّ تلك المنازل كلّها كانت ثابتة لهارون على هذا النحو؛ و كذلك فإنّ استخلاف رسول الله أمير المؤمنين على المدينة في غزوة تبوك و هو بلا شكّ أحد مواطن هذا الحديث و مواقفه يدلّ على هذا المعنى.
و بعامّة، كلّ من نظر في هذا الحديث، يجد أنّ رسول الله قد بيّن المقام الرفيع لأمير المؤمنين بوصفه الشخص الثاني بعده. و جعله في الدرجة الثانية على كافّة الأصعدة من معالجة الشؤون المختلفة، و القضاء، و الحكومة، و قيادة الجيش، و السيادة و الولاية. و كان رسول الله هو الشخص الأوّل. و لم تكن إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم فحسب، بل كانت في حياته أيضاً، إذ كان إماماً و واليا لمقام الولاية. غاية الأمر أنّها كانت في الدرجة الثانية؛ و في طول إمامة رسول الله و ولايته، لا في عرضهما. و هذا هو مقام الشخص الثاني المستفاد من الحديث، و هو موضع بحث و نقاش بوصفه استخلافاً. أي: كان في الدرجة الثانية و عند غيبة رسول الله أو وفاته؛ أو في حضوره و لكن في الرتبة الثانية كما يدلّ معنى الوزير على هذه الحقيقة۱.
و إذا قال قائل: إنّ حديث المنزلة يثبت مقامات هارون لعليّ بن أبي طالب؛ و لمّا كنّا نعلم أنّ هارون خَلَفَ موسى في حياته عند غيبته، و لم يخلفه بعد موته، لأنّه توفيّ قبل أخيه موسى، فلا يسعنا أن نثبت بهذا الحديث خلافة أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم!
نقول في جوابه: نثبت بحديث المنزلة هذا جميع منازل هارون من موسى لأمير المؤمنين من رسول الله؛ و نلاحظ هنا ثبوت وصفين لهارون: أحدهما تعليقي، و الآخر تحقيقيّ.
و التعليقيّ هو أن نقول: إنّ أحد مقامات هارون هو أنّه لو كان حيّاً، لخلف موسى بعد وفاته. و يثبت هذا الوصف التعليقيّ لعليّ بن أبي طالب
أيضاً. أي: إذا كان حيّاً، فإنّه يخلف رسول الله بعد وفاته. غاية الأمر أنّ موضوع هذه القضيّة الشرطيّة لم يتحقّق في هارون، أي: لم يكن حيّاً. و تحقّق في عليّ بن أبي طالب، إذ كان حيّاً. و قال المناطقة جميعهم: لا يناط صدق القضيّة الشرطيّة بصدق المقدّم و شرطه. فمتى وجد المقدّم و الشرط، وجد الجزاء و التالى، و العكس هو الصحيح. و مجيء الجملة الشرطيّة أو عدم مجيئها لا يرتبط بصدق أصل القضيّة أبداً، إذ القضيّة صادقة في كلّ حال، فلو وُجد الشرط، تحقّق الجزاء؛ و إذا لم يوجد، لم يتحقّق.
و نريد بالوصف التعليقيّ هو أنّ خلافة هارون على التسليم ببقائه حيّاً هي لأمير المؤمنين. و لم يتحقّق شرط هذه القضيّة في هارون، فلم يكن خليفة، بَيْدَ أنّه تحقّق في عليّ بن أبي طالب، فصار خليفة.
و ضرب الشيخ الصدوق مثالًا جميلًا لطيفاً صحيحاً يفيدنا في الوقوف على حقيقة هذا المطلب. قال: لو أنّ الخليفة قال لوزيره: لزيد عليك في كلّ يوم يلقاك فيه دينار! و لعمرو عليك مثل ما شرطتُه لزيد! فقد وجب لعمرو مثل ما لزيد.
فإذا جاء زيد إلى الوزير ثلاثة أيّام فأخذ ثلاثة دنانير؛ ثمّ انقطع و لم يأته؛ أتى عمرو الوزير ثلاثة أيّام فقبض ثلاثة دنانير؛ فلعمرو (الحقّ) أن يأتي يوماً رابعاً و خامساً و أبداً و سرمداً ما بقي عمرو (حيّاً). و على هذا الوزير ما بقي عمرو أن يعطيه في كلّ يوم أتاه ديناراً، و إن كان زيد لم يقبض من الوزير شيئاً إلّا ثلاثة أيّام.
و ليس للوزير أن يقول لعمرو: لا اعطيك إلّا مثل ما قبض زيد، لأنّه كان في شرط زيد أنّه كلّما أتاك فأعطه ديناراً! و لو أتى زيد (أكثر من تلك الأيّام الثلاثة) لقبض (دنانير اخرى)، و فعل هذا الشرط لعمرو و قد أتى (إلى
الوزير)، فواجب (على الوزير) أن يعطيه دنانير اخرى.
فكذلك إذا كان في شرط هارون الوصيّ أن يخلف موسى عليه السلام على قومه. و مثل ذلك لعليّ، فبقي عليّ على قومه و مثل ذلك لعليّ عليه السلام، فواجب أن يخلف النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم في امّته نظير ما مثّلناه في زيد و عمرو؛ و هذا ما لا بدّ منه ما أعطي القياس حقّه۱.
أمّا الوصف التحقيقيّ فهو أنّ خلافة هارون كانت في حياته على سبيل التحقيق، و هي محقّقة لأمير المؤمنين عليه السلام.
أي: أنّ هارون كان خليفة في حياة موسى تحقيقاً و فعلًا؛ و قد انقطعت هذه الخلافة بموته قبل موت موسى، فخُتم أمرها. و كان أمير المؤمنين عليه السلام خليفة أيضاً في حياة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم تحقيقاً و فعلًا؛ و استمرّت هذه الخلافة باستمرار حياته بعد ممات رسول الله. فلهذا كان خليفته، و كان إماماً و واليا على الامّة بعد وفاته.
و لا يخفى أنّ هذين الوصفين التعليقيّ و التحقيقيّ وصفان ثابتان من أوصاف هارون و أمير المؤمنين. و كلّ واحد منهما على حدة يمكن أن يكون في قياس ولاية أمير المؤمنين و برهانها. و الفرق بينهما في التعليق و التحقيق فحسب، و إن كان منبعهما واحد. و يعني التعليق تعليق خلافة هارون على حياته بعد موسى. أمّا التحقيق فيعني تحقيق وصف خلافته في حياة موسى.
و يستفاد كلّ واحد من هذين الوصفين من حديث المنزلة
لأمير المؤمنين عليه السلام.
و إذا قال قائل كيف يُعْلَمُ أنّ هارون على التسليم ببقائه حيّاً بعد وفاة موسى يخلف موسى؟
و نقول في الجواب: هذه الاستفادة هي من مقامات هارون و درجاته. فقد كان نبيّاً، و كان أفضل أهل زمانه بعد موسى، و أوثق الناس عنده، و كان نائبه في جميع العلوم.
هذه المنازل و المقامات مشهورة لهارون. و إذا أنكر شخص واحداً منها، فقد أنكرها كلّها. و على هذا، فإنّ خلع هارون من مقام الخلافة بعد ثبوتها لا بدّ أن يكون لمنقصةٍ أو جهالةٍ أو ضلالةٍ بدرت منه؛ و لا يجوز عروض هذه العوارض على النبيّ.
و لذلك فإنّ ممّا لا شكّ فيه هو أنّه لو كان بقي حيّاً بعد وفاة موسى، لَخَلَفَهُ۱.
إن هذا البحث الذي ذكرناه هنا يمثّل حقيقة الموضوع، كما يمثّل جواباً عن الشبهات الواهية التي يثيرها المخالفون.
و أمّا ما ذكره الشيخ الصدوق في جواب هذه الشبهة القائلة بأنّ النبيّ جعل هذه المنزلة لعليّ في حياته، فلا يتمّ إذ تثار عليه بعض الإشكالات.
قال: فثبت أنّ المراد من المنزلة التي جعلها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السلام في حديث المنزلة، هي المنزلة التي جعلها له بعد وفاته، لا في حياته.
و انبرى بعد شرح و تفصيل طويلين إلى إثبات ذلك بدليلين:
الأوّل: لمّا حصل نفي النبوّة في قوله: إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي بسبب الفضيلة و المنزلة التي كانت توجب النبوّة، فإنّ نفي النبوّة عن عليّ ينبغي أن يكون في الوقت الذي جعلت فيه تلك الفضيلة له كما لهارون؛ و لمّا كان نفي النبوّة عنه بعد وفاة رسول الله، فلا يمكن أن تكون هذه المنزلة لعليّ
في حياته، لأنّ ذلك من لغو الكلام، إذ نجعل قوله: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى في حياة رسول الله. فقوله: إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي كان بعد وفاته، و لا بدّ أن يجتمع المستثنى و المستثنى منه في زمان واحد.
الثاني: كان استثناء النبوّة بعد الحياة، و لو كانت منزلة توجب النبوّة في الحياة، للزم أن يكون عليّ نبيّاً في حياة رسول الله، و هذا أمر فاسد.
و إن قال قائل: إنّ المراد من قول رسول الله: بعدي، أي: بعد النبوّة، لا بعد الوفاة. و هذا سهو؛ لأنّه يلزم من الخبر الذي رواه المسلمون أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه و آله و سلّم من أنّه لا نبيّ في حياة رسول الله، و لكن لا إشكال في أن يكون بعد وفاته أنبياء۱.
ختم الكتاب و سبب عدم اتّباع الأكثريّة المنحرفة لأمير المؤمنين
و مني الشيخ الطبرسيّ أيضاً بسهو آخر في الاستدلال، فقد قال في الوجه الثاني من استدلاله بهذا الحديث: لمّا دلّ قوله: بعدي على ما بعد وفاة رسول الله، فإنّ هذا الخبر يدلّ على ثبوت جميع منازل هارون لأمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة رسول الله. لأنّ الاستثناء (في الخبر دلّ) على أنّ ما لم يستثنه حاصل لأمير المؤمنين عليه السلام بعد رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم. [إذ] إنّ الاستثناء إذا كان مطلقاً [فإنّه] يوجب ثبوت ما لم يستثن مطلقاً، فكذلك إذا قيّد بحال أو وقت أن يوجب ثبوت ما لم يستثن في ذلك الوقت و في تلك الحال، أ لا ترى أنَّ قول القائل: ضربت أصحابي إلّا أنّ زيداً في الدار يدلّ على أنّ ضربه أصحابه كان في الدار٢.
و سها ابن شهرآشوب أيضاً كهذا السهو، إذ قال: ... و لأنّ الحال التي
ينفي المستثنى فيها يجب أن يثبت المستثنى منه لوجوب المطابقة بينهما.
و إذا نفى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بالاستثناء النبوّة بعد وفاته، وجب أن يكون ما عداها ثابتاً في تلك الحال۱.
يمكن سهو هؤلاء العظماء في أنّهم فسّروا كلمة بعدي بما بعد وفاة رسول الله؛ فلهذا اضطُرُّوا إلى أن يفسّروا صدر الحديث أيضاً في ذلك الوقت. و تُسجّل على هذا الفهم إشكالات كثيرة، منها: أنّ كلمة (بعد) مطلقة سواء كانت في الحياة أو في الممات. لأنّنا إذا فسّرناها بما بعد النبوّة، فلا يجب الإشعار بجواز مجيء نبيّ بعد الممات، بل إنّ إطلاقها ينفي مجيء أي رسول. و إذا كانت جملة المستثنى مطلقة، فلا ضير أن تكون جملة المستثنى منه مقيّدة. كأن نقول: أكرمت أصحابي كافّة إلّا زيداً في الدار. و هذا لا يُشعر أنّ إكرام الأصحاب كلّهم كان في الدار.
و يضاف إلى ذلك كلّه أنّ ممّا لا شكّ فيه هو صدور هذا الحديث عند التحرّك إلى تبوك؛ و هذا ما أجمع عليه الفريقان. و حينئذٍ كيف يمكننا أن نثبت نَصْبَ أمير المؤمنين على المدينة بهذا الحديث في الوقت الذي نرى أنّ مفاده و معناه المتمثّلين بالمنزلة كانا بعد رسول الله؟! و يشعرنا هذا الحديث مبدئيّاً أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان كهارون مطلقاً له مناصب و مقامات في عصر رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم؛ و كان الشخص الثاني في عالم النبوّة و الرسالة. و هذا المعنى المستفاد من الحديث يتنافي مع منازله بخصوص الزمان الذي تلا وفاة رسول الله.
و لو قال قائل بعد جميع هذه النصوص و التصريحات النبويّة في نصب و تعيين أمير المؤمنين في مقام الخلافة، و منحه المنزلة الهارونيّة:
كيف يمكن أن نخالف هذه النصوص؟ و كيف يسوغ لنا أن نعزل عليّاً في بيته؟ و كيف يجوز أن نغصب حقّه الثابت المسلّم؟ و كيف نتصوّر أنّ معظم الناس تمرّدوا على بيعته بعد وفاة رسول الله؟
و الجواب هو ما تفضّل به استاذنا الأكرم العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه في تعريف الشيعة على سبيل الإجمال:
«توصّلت الشيعة إلى هذه النتيجة المتمثّلة بوجود النصّ الكافي الصادر عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم بشأن تعيين الإمام و الخليفة بعده عبر البحث و التنقيب في الإدراك البشريّ الفطريّ، و سيرة ذوي الألباب من بني آدم، و التعمّق في النظرة الجوهريّة للدين الإسلاميّ المتجسّدة في إحياء الفطرة، و النهج الاجتماعيّ للنبيّ الأكرم، و دراسة الحوادث المؤسفة الواقعة بعد وفاته، و الملمّات و الخطوب التي نزلت بالإسلام و المسلمين، و التي تعود إلى تقصير و إهمال الحكومات الإسلاميّة في القرون الاولى من الهجرة. و دلّت الآيات و الأخبار المتواترة على هذا المعنى كآية الولاية، و حديث الغدير، و حديث السفينة، و حديث الثقلين، و حديث الحقّ، و حديث المنزلة، و حديث دعوة العشيرة الأقربين، و غيرها. بَيدَ أنّها اوِّلت و عُمِّيَ عليها لمآرب معيّنة۱».
جواب أيضاً هو ما ذكره ابن مكّي النيليّ في أشعاره، إذ لو كان الإجماع صحيحاً، فإنّهم أجمعوا دائماً على مكابرة الحقّ و إبطاله. و قال في الردّ على بيتَي يوسف الواسطيّ الذي قدح في أمير المؤمنين عليه السلام لتخلّفه عن بيعة السقيفة بعد رسول الله:
أبيات القاضي الجليس في محبّة أهل البيت عليهم السلام
ألَا قُلْ لِمَنْ قَالَ في كُفْرِهِ | *** | وَ رَبِّي عَلَى قَوْلِهِ شَاهِدُ |
(إذَا اجْتَمَعَ النَّاسُ في وَاحِدٍ | *** | وَ خَالَفَهُمْ في الرِّضَا واحِدُ |
فَقَدْ دَلَّ إجْمَاعُهُمْ كُلِّهِمْ | *** | عَلَى أنَّهُ عَقْلُهُ فَاسِدُ) |
كَذَبْتَ وَ قَوْلُكَ غَيْرُ الصَّحِيحْ | *** | وَ زَعْمُكَ يَنْقُدُهُ النَّاقِدُ |
فَقَدْ أجْمَعَتْ قَوْمُ موسى جَميعاً | *** | على العِجْلِ يَا رِجْسُ يَا مَارِدُ |
وَ دَامُوا عُكُوفَاً على عِجْلِهِمْ | *** | وَ هَارُونُ مُنْفَرِدٌ فَارِدُ |
فَكَانَ الكَثِيرُ هُمُ المُخْطِئُونَ | *** | وَ كَانَ المُصِيبُ هُوَ الوَاحِدُ۱ |
و نروم هنا أن نختم هذا الجزء من «معرفة الإمام» بحول الله تعالى و قوّته. و كم يناسب المقام أن نترنّم بأبيات القاضي الجليس:
حُبِّي لآلِ رَسُولِ اللهِ يَعْصِمُنِي | *** | مِنْ كُلِّ إثْمٍ، وَ هُمْ ذُخْرِي وَ هُمْ جَاهِي |
يَا شِيعَةَ الحَقِّ قَوْلي بِالوَفَاءِ لَهُمْ | *** | وَ فَخِرِي بِهِمْ مَنْ شِئْتُ أو بَاهِي |
إذَا عَلِقْتُ بِحَبْلٍ مِنْ أبي حَسَنٍ | *** | فَقَدْ عَلِقْتُ بِحَبْلٍ في يَدِ اللهِ |
حَمَى الإلَهُ بِهِ الإسْلَامَ فَهوَ بِهِ | *** | يُزْهِي على كُلِّ دِينٍ قَبْلَهُ زَاهِ |
بَعْلُ البَتُولِ وَ مَا كُنَّا لِتَهْدِيَنَا | *** | أئمَّةٌ مِنْ نَبِيّ اللهِ لَوْ لا هِي |
نَصَّ النَّبِيّ عَلَيْهِ في الغَدِيرِ فَمَا | *** | روَاهُ إلَّا ظَنِينٌ دِينُهُ وَاهِ۱ |
و الحمد للّه و له المنّة، إذ تمّ هذا الجزء من كتاب «معرفة الإمام» و هو الجزء العاشر منه. و كلّه يدور حول حديث المنزلة. و فرغت منه لخمس و عشرين ليلة خلون من شهر جمادى الاولى سنة ألف و أربعمائة و سبع من الهجرة، على هاجرها و وصيّ هاجرها آلاف التحيّة و السلام.
اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ نَبِيِّنَا وَ آلِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى مَلَائِكَتِكَ المُقَرَّبِينَ! وَ صَلِّ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كَمَا صَلَّيْتَ على أنْبِيَائِكَ المُرْسَلِينَ! وَ صَلِّ عَلَيْهِ وَ آلِهِ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ! وَ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ؛ صَلَاةً تَبْلُغُنَا بَرَكَتُهَا، وَ يَنَالُنَا نَفْعُهَا، وَ يُسْتَجَابُ لَهَا دُعَاؤُنَا، إنَّكَ أكْرَمُ مَنْ رُغِبَ إلَيْهِ؛ وَ أكْفَ ى مَنْ تُوُكِّلَ عَلَيْهِ وَ أعْطَى مَنْ سُئِلَ مِنْ فَضْلِهِ، وَ أنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ٢!