المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنه 1421
التاريخ 1421/09/28
التوضيح
كيف تختلف طلبات الإنسان باختلاف مرتبته؟ وما هو المطلوب الأسمى للإنسان؟ وهل كانت مرتبة أبي ذرّ وسلمان والمقداد واحدة؟ ولماذا أبعد أبو ذرّ في حين لم يبعد سائر أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام؟ وما هي مرتبة زيد بن عليّ رحمه الله؟ وماذا كان موقف الإمام الباقر عليه السلام من ثورته؟ وبماذا يختلف زيد عن سائر الثائرين من أبنائه وبني الحسن عليه السلام؟ وماذا كان موقف الإمام الصادق من ثوراتهم؟
تجيبك هذه المحاضرة للسيد محمد محسن الطهراني عن هذه الأسئلة، وتستعرض الفرق بين العمل بموجب الولاية والعمل بالرأي الشخصي، مع شواهد تاريخية وقصص مؤثرة عن الموت واليقين.
هوالعلیم
اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة عليهم السلام
مرتبة زيد بن عليّ ومدى مشروعيّة ثورته
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۱ هـ - الجلسة السادسة عشرة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحیم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمین
و صلَّی اللهُ عَلَی سیّدنا و نبیّنا أبی القاسمِ محمدٍ
و علی آلهِ الطّیبینَ الطّاهرینَ المعصومین
و اللعنةُ عَلَی أعدائِهِم أجمَعین
«اللَهُمَّ إِنِّي أَجِدُ سُبُلَ المطَالِبِ إِلَیكَ مُشْرَعَةً، وَ مَنَاهِلَ الرَّجَاءِ إِلَیكَ مُتْرَعَةً».
إلهي، إنّي أرى سُبُل الطلب إليك مفتوحة للناس، وأرى ينابيع الرجاء لك فائضة جدًّا وغزيرة وممتلئة بالماء.
معنى كلمة «مطالب» في الدعاء
«المطالب» هي جمع «مطلب»، و«المطلب» هو ذلك الشيء الذي يقع موردًا لطلب الإنسان؛ فمثلًا، يقولون: ما هو مطلبك؟ أي ما هو طلبك ومبتغاك؟ لأنّه لا معنى لأن لا يتعلّق الطلب والإرادة بشيء، ومن غير الممكن أن لا يكون لدى الإنسان طلب أو إرادة لشيء ما، ولا معنى لأن تكون للإنسان إرادة ولكن لا يكون له مراد ولا يطلب شيئًا. فإذًا، لكلّ طلب وإرادة ومشيئة متعلَّقٌ يتعلّق به. وذلك الشيء الذي تتعلّق به الإرادة، يصبح هو المطلب. فعلى سبيل المثال، يريد الإنسان أن يتعلّم علمًا وأن يحصّل العلم الفلاني، وقد تعلّق طلبه ومبتغاه وإرادته بذلك العلم الخاص، فيصبح ذلك العلم هو المطلب.
عطاء الله مبنيّ على طلب العباد ومشيئتهم
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: «إلهي، إنّي أرى سُبُل المطالب إليك مشرعة» ومفتوحة أي إنّك تهيّئ لي كلّ ما أطلبه منك، وتهيّئ لهؤلاء العباد والناس كلّ ما يطلبونه منك. فمثلًا، لو أراد أحدٌ الدنيا، فإنّك تهيّئها له. وقد ورد في آيات القرآن أنّ من يريد الدنيا، فإنّ الله يعطيه الدنيا، ومن يريد الآخرة، فإنّ الله يعطيه الآخرة۱. والآخرة لها أيضًا مراتب ومراحل، وأيّ مرتبة نطلبها، فإنّ الله يعطينا إياها. فبقدر اهتمامنا، تكون مرتبتنا أعلى في الآخرة. فليس حقيقة الأمر أنّ للآخرة مرتبة واحدة فقط، وأنّ هناك جنّة واحدة فقط، وللجنّة أيضًا مرتبة واحدة فحسب! بل لدينا ثمان مراتب للجنّة، وفي تلك الآية٢، جنّة الذات هي مرتبتها العالية جدًّا.
عدم قابلية تصوّر ذات الله الربوبية تفصيليًا لدى الإنسان
كان المرحوم العلامة الطباطبائي يقول: إنّ المزيد الوارد في آية ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾٣، هو إشارة إلى تلك المرتبة التي تفوق التصوّر، لأنّ ذات الله تعالى تفوق تصوّر الإنسان.٤ فالإنسان يتصوّر أسماء الله وصفاته بكليّتها، مثلًا أسماء العليم، والقدير، والقادر، والخالق، والحيّ، والرازق، والعطوف، وآيات القرآن التي فيها أسماء الله، هي قابلة للتصوّر. لكن كيف يتصوّر الإنسان ذات الله؟! إنّها غير قابلة للتصوّر؛ طبعًا التصوّر التفصيلي لا الإجمالي! لذلك، فإنّ البعض يطلبون من الله ما لا يُتصوّر؛ يطلبون ذلك الشيء الذي لا يسعه التصوّر، ويطلبون ما لا يأتي في بيان، والله يعطي كلّ ما يُطلب منه.
فلدينا ثمان جنان، ولدينا أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ولدينا المقرّبون. فأصحاب اليمين هم مؤمنون صالحون يؤدّون عباداتهم وتكاليفهم، ولا يكذبون، ولا يرتكبون المخالفات، ويحملون محبّة أمير المؤمنين. هؤلاء مؤمنون وصالحون في هذا الحدّ، لكنّ مرتبتهم تقع في هذا النطاق.
آثار الأذان والإقامة واقتداء الملائكة بالإنسان
كان الشيخ الأنصاري رضوان الله تعالى عليه يقول: دخلتُ المسجد ذات يوم فرأيتُ رجلًا قائمًا يصلّي، وصفّان من الملائكة يقتدون به خلفه! فأدركتُ أنّ هذا الرجل قد أذّن وأقام، لأنّه ورد في الروايات أنّ الذي يقوم للصلاة فيؤذّن ويقيم، يقتدي به صفّان من الملائكة، ومن صلّى وأقام فقط، اقتدى به صفّ واحد من الملائكة۱. طبعًا، سماع الأذان يكفي أيضًا، شرط أن يحكي الإنسان ذلك الأذان ويردّده مع نفسه. والآن، إذا أردتم أن يكثر المأمومون خلفكم، فأذّنوا وأقيموا، وأيُّ مأمومين! مأمومون من الملائكة، لا مأمومون يريدون أن يأتوا خلف «الشيخ» ويقتدوا به ليحصّلوا ديونهم! أو يقفون خلف «الشيخ» ليتفرّجوا على سائر المأمومين! أولئك المأمومون الذين يقولون: ﴿إِنَّ ٱللَهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾٢، أو يقولون: يا الله، يا الله، يا الله، فيُحرجون إمام الجماعة قليلاً، أو إذا كانوا أكثر جرأة، يقولون: العجلة من الشيطان! هؤلاء جريئون جدًّا؛ إنّهم مأمومون وقحون يقولون لإمام الجماعة: العجلة من الشيطان!
كيفيّة الالتحاق بالجماعة من دون تأخير الإمام
لقد ذهبتُ بنفسي إلى مسجد في أطراف ميدان خراسان بطهران، فإذا بأحد هؤلاء الذين يحملون سجّادات الصلاة، بلحية مصبوغة بالحناء وعصا، يصرخ فجأةً: العجلة من الشيطان! وكأنّ الله وجميع الملائكة ينتظرونك لتأتي وتصلّي وتقتدي! لا يا عزيزي، هذا ليس صحيحًا. فعندما يقوم إمام الجماعة للصلاة ويركع، ليس من اللازم أن تقول «يا الله» أو ﴿إِنَّ ٱللَهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾، بل يكفي عند وصولك إلى الباب أن تقتدي بالصلاة وتركع ولو كنت على بعد مائة متر، فلا إشكال في ذلك، وعندما يرفع الإمام رأسه من الركوع، امشِ لتصل إلى الصفّ المتّصل بالإمام. في هذه الحالة، تكون الصلاة صحيحة ولا إشكال فيها أبدًا. ولا يحقّ لإمام الجماعة أن ينتظر إلا بمقدار «سبحان الله» وركوعٍ مختصر، وليس له الحقّ في تعطيل الناس! فلو كان من المقرّر لكلّ من يدخل أن يقول من عند الباب: العجلة من الشيطان! وينتظر إمام الجماعة له عشر ثوانٍ أو عشرين ثانية، ثمّ يدخل الثاني ويستمرّ الأمر على هذا المنوال، لوجب عليه أن ينتظر من الصباح حتّى الظهر فقط لهؤلاء المأمومين شديدي الاهتمام والحميّة.
قصّة حول إطالة السيد مرتضى الكشميري في صلاة الجماعة
كان السيد الحدّاد ـ رضوان الله تعالى عليه ـ يقول: كان السيد مرتضى الكشميري ـ رحمة الله عليه ـ رجلًا عظيمًا وصاحب كرامات. وكان يصلّي الصبح في النجف، وكان الكثير من العلماء والعبّاد والزهّاد يشاركون في صلاته، وميزة صلاة الصبح لديه أنّه كان يطيل الركوع الأوّل كثيرًا. كان يقول على سبيل المزاح: كان الإنسان أحيانًا يحتاج إلى الحمّام، وعندما يدخل ويرى السيد مرتضى في الركوع، يقول «يا الله» أو ﴿إِنَّ ٱللَهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾، ثمّ يذهب ويغتسل ويأتي! وكان الثاني يدخل فيجده في الركوع، فيقول هو الآخر ﴿إِنَّ ٱللَهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾ ويغتسل ويأتي فيدرك الركوع، وهكذا كانت القضيّة.
وكان يقول: كان لأحد تجّار النجف دكّان في سوق الحويش، وكان أحد العرب من البدو يأتيه باستمرار ويؤذيه كثيرًا. وطبعًا، كان التاجر قد ذهب إلى هناك مرّة صدفة، لكن ذلك البدويّ كان يأتي إلى بيته في النجف مرّتين في الأسبوع، ويقول دائمًا إنّ لديه عملاً ويجب أن يشتري بضاعة، وفي كلّ مرّة كان يبقى ليومين أو ثلاثة. فتعب هذا التاجر كثيرًا وقال: يجب أن أرفع عن نفسي عناءه بطريقة ما. وفي ليلة، قال لنفسه سآخذه صباحًا إلى صلاة السيّد مرتضى. فقال له: «عندما نستيقظ صباحًا، يجب أن نذهب إلى صلاة رجل عظيم، وأنت أيضًا قفْ بجانبي في الصلاة». فقال البدويّ: «حسنًا، نذهب». فاستيقظا صباحًا وأتيا إلى صلاة السيّد مرتضى، وكان الناس يأتون واحدًا تلو الآخر أثناء الركوع، ويقولون ﴿إِنَّ ٱللَهَ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾، ثمّ يذهبون ليغتسلوا ويعودوا! ثمّ يأتي الثاني ويذهب، وهكذا استمرّت القضيّة! وكان البدويّ يريد أن يرفع رأسه من الركوع باستمرار، والتاجر يضربه على رأسه، أي لا تقم! لم يحن الوقت بعد، والسيد لم يقم بعد. فكان يصبر قليلًا مرّة أخرى، وبعد ربع ساعة يقوم مرّة أخرى، فيضربه التاجر مجدّدًا! خلاصة الأمر، كان وقت شروق الشمس قد اقترب عندما رفع السيّد رأسه من الركوع! فقال البدويّ: واللهِ انكَسَرَ ظهري! فذهب ولم يعد، وارتاح التاجر منه!
فهذه ليست طريقة صحيحة للصلاة، يمكن لإمام الجماعة أن ينتظر بمقدار ثلاث مرّات «سبحان الله»، وذلك للداخل الأوّل فقط، وليس لكلّ من له حاجة، لأنّ بعض الحاجات قد تستغرق وقتًا أطول قليلاً. على كلّ حال، يجب على إمام الجماعة أن يراعي أضعف المأمومين أيضًا. فعندما يدخل الإنسان المسجد أو مكانًا تُعقد فيه الجماعة، حتّى قول «يا الله» ليس ضروريًا، يكفي أن يكبّر عند باب المسجد أو باب الغرفة التي يدخلها، ويركع، وعندما يرفع الإمام رأسه من الركوع، يتحرّك ويلتحق بالإمام، وصلاته صحيحة أيضًا.
المطلب هو ذلك الطلب والمشيئة، وكلّ ما تتعلّق به مشيئة الإنسان يُقال له مطلب. يقول الإمام السجّاد عليه السلام: «أرى سُبُل المطالب إليك مشرعة» ومفتوحة.
ينقل المرحوم الشيخ الأنصاري: كان في همدان رجلٌ طيّبٌ جدًّا، قال أحد الرفقاء: «رأيته يومًا فقلت له: يا فلان، كيف حالك؟».
قال: «أنا بخير جدًّا، وحالي ممتاز!».
قلت: «كيف ذلك؟».
قال: «أؤدّي تكاليفي، وأرجو رحمة ربّي، وأنا محبّ لمولاي عليّ عليه السلام».
فما الذي كان يطلبه هذا الرجل؟ قال الشيخ الأنصاري: «هذا الرجل صادق في كلامه، وبهذه الخصائص والمكانة هو من أصحاب اليمين». فهو يقول: أؤدّي تكاليفي حسب قدرتي، وأرجو حقًّا رحمة الله ومغفرته، وأنا محبّ لأمير المؤمنين عليه السلام، ولا أريد شيئًا آخر. البعض في النهاية هم في مرتبة أعلى، وحساباتهم أكثر، وإدراكهم وطلبهم أقوى، ومطلبهم أهمّ، وينظرون إلى الأمور بنظرة أخرى، وهؤلاء بطبيعة الحال يتمتّعون بمراتب أعلى.
أحوال أبي ذر الغفاري رحمة الله عليه
كان أبو ذر ـ رحمة الله عليه ـ من أصحاب النبيّ، رجلًا صريحًا جدًّا، صادقًا، طيّب النفس والسريرة. وكان يفعل ما يأمر به أمير المؤمنين عليه السلام ولا يبالي، لكنّ إدراكه للحقائق والمسائل التوحيديّة لم يصل إلى مستوى سلمان. لهذا، عندما ننظر في أحوال أبي ذر، نرى أنّ الأعمال التي كان يقوم بها، مثل مواجهاته مع معاوية وعثمان، والتي سبّبت له المشقّة، مثل نفيه من قِبَل عثمان إلى الشام، من المستبعد أن تكون هذه الأعمال قد تمّت بأمر من أمير المؤمنين عليه السلام! لقد أفسد أبو ذر بساط معاوية، فنفاه معاوية إلى بعلبك، وكلّ شيعة جبل عامل وبعلبك أصبحوا شيعة لأمير المؤمنين ببركة أبي ذر، وإلا لكانوا جميعًا من السنّة. الظاهر أنّ في لبنان أيضًا مقامًا باسم أبي ذر. ثم عاد إلى المدينة مرّة أخرى ولم يهدأ، وفي النهاية نفاه عثمان إلى الربذة، وهناك وافته المنيّة. نحن لا نرى هذا النمط من التحرّك لدى سلمان والمقداد. صحيح أنّهم كانوا من أصحاب أمير المؤمنين والنبيّ صلّى الله عليه وآله، لكنّ تحمّلهم وإدراكهم للمسائل كان مختلفًا.
ولعلّنا نلاحظ هذه الجوانب نفسها في التاريخ فيما يتعلّق بزيد بن علي، ابن الإمام السجّاد. فقد كان زيد بن علي رجلًا عالمًا، وهو يُعتبر جدّنا أيضًا، لأنّ نسبنا إلى الإمام السجّاد هو عن طريق زيد بن علي.
انتساب بعض السادة إلى عليّ الأكبر عليه السلام
بشكل عام، أستبعد أن يكون نسب جميع السادة الحسينيّين أو غالبيتهم العظمى إلى الإمام الحسين عليه السلام منحصرًا بزيد بن علي؛ فمن المؤكّد بلا شكّ ولا شبهة أنّ عليًّا الأكبر كان قد تزوّج، لأنّ المتيقّن أنّه كان أكبر سنًّا من الإمام السجّاد عليه السلام ـ يذكر التاريخ أنّ الإمام الباقر كان حاضرًا في كربلاء وعمره أربع أو خمس سنوات، وكان الإمام الباقر عندما يروي أحداث كربلاء لأصحابه يقول: أنا رأيت، أي أنّ الإمام الباقر كان عمره خمس سنوات عندما حضر كربلاء، والطفل في الخامسة من عمره يتذكّر القضايا والأحداث. بل حتّى أبناء السنتين يتذكّرونها، فما بالك بالإمام الباقر الذي كان حسابه مختلفًا منذ البداية ـ فمع أنّ من المؤكّد أنّ عليًّا الأكبر كان أكبر من الإمام السجّاد، وهناك قرائن على هذه المسألة، فلا معنى، ويبدو مستبعدًا جدًّا، أن يكون الإمام الباقر ابن الإمام السجّاد في كربلاء بعمر خمس سنوات، بينما لا يكون لعليّ الأكبر ولد. أنا رأيت ذلك في مكان ما، وبحثت مرّة أو مرّتين، لكنّي للأسف كلّما بحثتُ مجدّدًا لم أستطع العثور عليه، لكنّي رأيت هذا الموضوع بنفسي في أحد التواريخ حيث قيل إنّ طائفة من السادة الحسينيّين الذين هم من نسل عليّ الأكبر موجودون في بلاد الهند وباكستان، وينسبون أنفسهم إلى نسل عليّ الأكبر. على أيّ حال، إن كان هناك أبناء من غير الإمام السجّاد عليه السلام فهم منحصرون بعليّ الأكبر وحده، وإلا فغيره لم يكن سوى الإمام السجّاد، الذي كان الإمامَ وكان سلالةَ سيّد الشهداء، وفي الواقع انتشرت السلالة من عليّ بن الحسين، ولولا الإمام الباقر عليه السلام، لكان زيد بن علي الابن البارز للإمام السجّاد.
أحوال زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام
كان زيد رجلًا عالمًا، فقيهًا، زاهدًا، عابدًا، تقيًّا، وصاحب كرامات، ولكنّ الحديث هو أنّه لم يصل إلى ذلك الإدراك والفهم للمسألة والحقيقة كما ينبغي للإنسان الناضج والخبير في السلوك والعرفان، ولم يبلغ لبّ الولاية وجوهرها وكيفيّة جريان الأمور على أساس العلل والأسباب التي هي في يد وليّ الزمان وإمام ذلك العصر ـ الذي هو الإمام الباقر عليه السلام ـ لم يصل إلى تلك الحقيقة. ولهذا نراه يثور، وحتّى عندما ينهاه الإمام الباقر عليه السلام، الذي هو أخوه، لا يأخذ نهيه على محمل الجدّ وكما ينبغي، فيقول له الإمام: إنّي أرى أنّك ستُصلب۱! وحتّى النبيّ قد أخبر بهذه القضيّة ولعن أولئك الذين التفّوا حوله ثمّ تركوه وحيدًا في أيدي أعدائه، فقد قال النبيّ في المدينة في مجلس كان فيه زيد بن حارثة حاضرًا أيضًا: سيظهر من ولدي في الكوفة رجلٌ اسمه كإسم زيد بن حارثة٢، لعن الله الذين يلتفّون حوله ثم يتركونه وحيدًا في أيدي الناس.٣
موقف الإمام الباقر عليه السلام من ثورة زيد رحمه الله
بالتأكيد، لم تكن ثورته مورد رضا الإمام عليه السلام، أي إنّه لم يأمره بالقيام، بل هناك عبارات من الإمام السجّاد عليه السلام حول هذه المسألة، وعندما يأتي المتوكّل بن هارون بصحيفة إلى الإمام الصادق عليه السلام ويشرح له الأمر، يقول الإمام: «ألا تعلم أنّ كلّ قيام يقع في هذه الدنيا قبل قيام قائمنا سيكون أبتر ولن تكون له استمراريّة، وسيكون مثل فرخ لم يكتمل نموّه ولم ينبت ريشه وجناحاه بشكل جيّد، فيقع في أيدي الأطفال، فيلعبون به ويهلكونه؟!»٤. الرواية صحيحة، وهناك روايات أخرى مثلها٥. المسألة هي أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال: «إلى قيام قائمنا، لم يقع أيّ قيام ولن يقع!». وقد سمعتُ البعض يقولون إنّ مقصود الإمام هم الذين يدّعون المهدويّة، فهل كان زيد يدّعي المهدويّة؟! فما هذه التأويلات الفارغة التي تُقال، لم يكن زيد يدّعي المهدويّة مع أنّ الروايات وردت بشأنه.
أحوال محمد وإبراهيم ابنا عبد الله المحض وما فعلاه بالإمام الصادق عليه السلام
نعم محمّد وإبراهيم ابنا عبد الله المحض، ذلك محمد كان يدّعي المهدويّة. اسم قائم آل محمّد هو كاسم رسول الله، ولا يجوز للإنسان أن يتلفّظ بذلك الاسم قبل زمان ظهوره. ولكن هذا محمّد بن عبد الله هو من أبناء الإمام الحسن المجتبى، في حين أنّ مهدي آخر الزمان الذي هو سميّ رسول الله، هو من أبناء الإمام الحسين عليه السلام. لقد خرج محمّد بن عبد الله هذا مع أخيه إبراهيم في زمن المنصور الدوانيقي. يا له من قائم لآل محمّد هذا الذي يسجن الإمام الصادق عليه السلام في حظيرة السجن! ويهدّد الإمام الصادق بالقتل، لا يسجنه فحسب، بل يقول: «أمهلك، فإن بايعتني فبها، وإلا ضربتُ عنقك»، أي يريد أن يأخذ البيعة بالقوّة. فهذا هو قائم آل محمّد! وعندما يلقي المنصور الدوانيقي القبض عليه، يفتح باب السجن ويُخرج الإمام الصادق عليه السلام من السجن، ومن مكان كهذا! في المقابل، عندما يلقي المنصور الدوانيقي القبض على هذا الرجل نفسه ويقيّده بالسلاسل ويسيّره في شوارع المدينة، وعندما يصلون إلى منزل الإمام الصادق، تنهمر دموع الإمام وهو يقول: واللهِ كنتُ أعلم أنّ هذا الوضع سيحلّ بهم، ولهذا كنتُ أنهاهم عن القيام.
لقد قاموا من تلقاء أنفسهم تمامًا. حسنًا، الزموا أماكنكم. من قال لكم أن تفعلوا هذا؟! إنّ تاريخ بني الحسن تاريخ أسود حقًّا، ولا يُذكر لاعتبارات معيّنة، فالإمام الباقر عليه السلام قتله بنو الحسن هؤلاء! أي أنّ عبد الله ابن الإمام المجتبى عليه السلام أو حفيده كُلِّف من قِبَل هشام بدسّ السمّ للإمام الباقر عليه السلام، فسمّم سرج الإمام، وسرى هذا السمّ في جسد الإمام ـ من تلك السموم التي تُمتصّ عن طريق الأوعية وتنفذ إلى البشرة، فالآن هناك الكثير من السموم التي تُمتصّ عن طريق الجلد فقط ـ وتوفّي الإمام بعد أسبوع أو أسبوعين. هذا بغضّ النظر عن المشاكل التي كان الأئمّة عليهم السلام يواجهونها من أبناء عمومتهم، فقد كانت لديهم مشاكل كثيرة مع هؤلاء أيضًا. ذهب محمد بصفته مهديّ آخر الزمان إلى جبال خارج المدينة وتوارى لفترة. الحديث هو هذا يا عزيزي! العمل الذي يريد الإنسان أن يقوم به يجب أن يكون بأمر الإمام. فما معنى التصرّف من تلقاء النفس؟! يجب أن تفعل وفقًا لأمر الإمام. مهما فعل المنصور الدوانيقيّ، ما علاقتك أنت بذلك؟! هو يريد أن يظلم، أليس الإمام جالسًا؟! ألم يكن أمير المؤمنين عليه السلام قد قبل بخلافة أبي بكر وعمر ولم ينبس ببنت شفة؟! لقد تكلّم مع الناس وقال: «أنا الخليفة»، فقالوا: «نحن لا نقبلك». فقال الإمام: «حسنًا، لا تقبلونني فلا تقبلوني». ثمّ عاد الإمام إلى بيته وجلس ولم يشهر سيفًا. قال: أنتم تريدون أبا بكر وعمر، فليكن كما تريدون! مباركٌ لكم!۱
في ذلك المجلس السداسي بعد عمر، تحدّث الإمام معهم واحدًا تلو الآخر وقال: «نَشدتكُمُ باللهَ» أُقسِم عليكم بالله وأُذكّركم به في أذهانكم. قال لأولئك الستّة الذين اجتمعوا هناك، وكان منهم عثمان وعبد الرحمن بن عوف وفلان وفلان... وقال: ألم يقل النبيّ هذا عنّي؟ ألم تروا كذا وكذا منّي؟ ألم تنزل آية ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤتُونَ ٱلزَّكَوٰةَ وَهُم رَٰكِعُونَ﴾۱ في حقّي؟! من هو الذي نزلت في حقّه ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ﴾؟!
قالوا: نعم، هذه الآية نزلت فيك.٢ لكنّهم اختاروا عثمان!
فقال الإمام: من الأفضل أنّكم صوّتّم لعثمان، وداعًا، وأنا أيضًا أمضي إلى داري! فقد كنت في جليس داري حتّى الآن. أيّها البائسون، الملك والملكوت في يدي، وهكذا أكون مرتاحًا منكم! فهل أمير المؤمنين الذي يقول لابن عباس: واللهِ إنّ إمرتكم هذه لأهون عندي من هذا النعل الذي لا يساوي درهمًا لديك٣، هل يطمع في هذه الخلافة؟!
نحن بعيدون جدًّا عن الحقيقة، وكأنّنا لا نعلم شيئًا عن الإسلام وتاريخه! لو كنّا نعلم، لما فعلنا هذه الأفعال! لو كنّا نعلم، لما كنّا نضحي بأرواحنا بهذه الطريقة على هذا الطريق! من يقول هذه الكلمات؟! نقضي عمرًا على المنابر ونحن نقول هذه الكلمات، ولكن عندما يحين وقت العمل، نكون أسوأ من الجميع!
نعم، هكذا كان أمير المؤمنين. يقول سيّد الشهداء عليه السلام: «إِنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِرًا وَلَا بَطِرًا... » أو «اللَهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَا كَانَ مِنَّا تَنَافُسًا فِي سُلْطَانٍ، وَلَا التِمَاسًا مِنْ فُضُولِ الحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنُرِيَ المَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ، وَيَأْمَنَ المَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ كذا وكذا»٤. يقرؤون خطب سيّد الشهداء، ولكن عندما يحين وقت العمل بها، يخطبون في مكان كذا وكذا قائلين إنّنا سنفوز في الانتخابات بفضل الله! والمفارقة أنّهم لم يفوزوا! فماذا تقولون؟! أين أنتم؟! لقد أصابتكم الحيرة لدرجة أنّكم لا تعلمون ماذا تفعلون!
أمّا زيد بن علي، فكانت مسألته أنّه فعل هذه الأمور من أجل الإمام الباقر عليه السلام، ولم يكن له طموح شخصي، رغم أنّ الإمام الباقر لم يكن يُؤيّد زيدًا فيما يتعلّق بهذه المسألة، ولكنّ زيدًا كان منصفًا ويقول: «أريد أن أوصل الحكم إلى يد أخي، فهو أعلم منّي». نحن لو جاء إمام الزمان عليه السلام، لقلنا له: أين أتيت؟! هل حاربتَ معنا حتّى تحكم الآن؟! أين كنتَ أنت في هذه الأحداث؟! ومهما قال إمام الزمان إنّ اسمي موجود في الكتب، اذهبوا واقرؤوا، سنقول: لا، لا فائدة! هل سجنت وحاربت؟! اذهب يا سيّدي في سبيلك، نحن لدينا حكومتنا، ولدينا ديننا، ونعرف ماذا نقول للناس! الآن هو يقول: لا بأس، حسنًا، انتظروا، أنتم تقولون: أنا ميت وأنتم أحياء! لن يأتِي إمام الزمان حتّى نقول: نحن أموات وأنت حيّ!
إن شاء الله نكون جميعًا أحياء وفي ركاب ذلك الإمام. ولكن هذه الأمور ليست بلا سبب، الدنيا هي الدنيا! الدنيا لا تعرفني ولا تعرفك، تتقدّم ولا تسمح!
حالات المرحوم العلامة الطهراني في اللحظات الأخيرة من عمره
لو أنّنا نرى فقط حالة هؤلاء الأعاظم، لكفانا ذلك. كان المرحوم الوالد العلاّمة الطهراني في ليلة السبت التي توفّي فيها، يضحك بصوتٍ عالٍ! أحضروا سريرًا نقّالاً ليضعوه عليه وينقلوه إلى داخل السيّارة، لأنّ الأزقّة كانت محفورة ولم تستطع سيّارة المستشفى دخول الزقاق. وكان الأصدقاء والرفقاء الأطبّاء قد قالوا إنّه لا ينبغي له أن يتحرّك، ولم يكن هناك نبض في الجانب الأيمن من جسده أصلًا، وكان النبض في الجانب الأيسر فقط، ممّا كان يدلّ على تمدّد الأوعية الدمويّة في القلب. فوضعوا سماحته على السرير لينقلوه، وكان هو يقول: « وحّدوه! قولوا بصوت عالٍ لا إله إلا الله! لماذا لا تقولون؟! إن لم تقولوها الآن، فعليكم أن تقولوها غدًا!». أحضروه إلى المستشفى، وفي تلك الليلة وصلتُ متأخرًا وذهبتُ أنظر إليه من خلف النافذة، لم تكن حالته قد اشتدّت بعد. وفي الصباح، أصابته فجأة سكتة، فذهبتُ إلى القسم وخرج البقيّة، واستمرّت هذه القضيّة لساعتين أو ثلاث، وكنتُ عنده، ثمّ انتقل إلى رحمة الله. كان يضحك ويمزح، وكأنّه ليس في هذه الحال أصلاً. لم يكن في هذه الأجواء على الإطلاق.
عندما كنتُ في المستشفى في خدمته قبل ثلاث سنوات، وعندما نقلوه من وحدة العناية المركّزة للقلب إلى القسم العام، كنتُ أبيت في خدمته ليلاً. وفي ليلةٍ كان يشعر بالتهاب ولم يستطع النوم، فانتهزتُ الفرصة وطرحتُ عليه مسائل وسألته أسئلة كثيرة كانت في ذهني، وكنتُ أدوّن الإجابات على أيّ شيء أجده؛ مثلًا، كنتُ أكتب على ورق الفاكهة وعلبة الحلوى، ثمّ أبيضّها جميعًا في اليوم التالي في كتابي ودفتر ملاحظاتي. ثمّ قلتُ أحضروا لي دفترًا، فكنتُ أجلس ليلًا وأسأله عن مسائل مختلفة ومجهولات كانت لديّ. وفي ليلةٍ، حدثت بعض الأمور، وأوصاني في تلك الليلة بوصيّة بأن أفعل هذه الأعمال إذا توفّيت. كنتُ أتعامل مع القضيّة بشيء من المزاح ولم أكن أصدّق أنّه هو أيضًا سيرحل. قال: ما الذي تتصوّره؟ كيف تفكّر؟ كلّنا راحلون. أتظنّ أنّي حزين؟! يا سيّد محسن، أنا سعيد! قال كلمة «أنا سعيد» لن أنساها ما حييت. خلاصة الأمر، قال «أنا سعيد» بحيث كانت قدم في هذه الدنيا وقدم في ذلك العالم؛ كان سعيدًا بهذا الشكل، فقد وهب الدنيا والآخرة وكلّ شيء لأهلها! هذه أيضًا طريقة للرحيل.
ومن جهة أخرى، كان أحد السادة في إحدى المدن مبتلى بمرض، وقال له الأطبّاء إنّه لن يعيش مع هذا المرض أكثر من ستة أشهر. فأصابته حالة لم يعد أحد يستطيع أن يزوره في بيته معها، أي لو أراد أحد أن يزوره، كان يرتعب من فكرة أنّ أحدهم جاء لعيادتي، إذًا أنا سأموت! لم يكن يسمح لأحد بالدخول أصلاً. لقد قلّص المسكين تلك الشهور الستّة إلى شهرين، أي مات من الغمّ في شهرين! وهذه أيضًا طريقة للموت.
قال:
| شه مرا اسب رهروی بخشید | *** | که چون او کس در این جهان نبدید |
| او چنان تند بود در رفتن | *** | که به یک دَم به آخرت برسید |
يقول:
أهداني الشاهُ جوادًا سائرًا *** لم يرَ أحدٌ مثله في هذا العالم
كان سريعًا في سيره *** حتّى وصل إلى الآخرة في لحظة واحدة
أعطوا هذا السيّد مهلة ستّة أشهر، لكنّه من حزنه لأنّه سيموت بعد ستّة أشهر، رحل في شهرين! كانوا يقولون إنّهم عندما كانوا يذهبون لزيارته، كان يرتعش ويضطرب، وكان له وجه وهيئة تجعل الزائر يخرج دون أن يقرأ له الفاتحة! ماذا حدث؟! أنت الذي كنت تقول دائمًا على المنبر إنّ الموت مجرّد عبور، و«المَوْتُ قَنْطَرَةٌ»۱، والموت للمؤمن أَحْلَى مِنَ العَسَلِ٢! كلّ هذا كلام، وعندما يحين وقت العمل، وعندما يعرض جهاز مراقبة القلب تخطيط القلب وتبدأ الأعضاء تتوقّف واحدًا تلو الآخر، حينها يتبيّن كيف تكون حالتك! عندما ترى أنّ الجانب الأيسر من الأذين والسطح السفلي قد توقّفا عن العمل وتغيّر التردّد، فهل تضحك حينها أم لا بل تصيبك السكتة أسرع؟!
روى أحدهم قصّة ـ كنّا نتصوّرها مؤخرًا بشكل مختلف، فصحّحها هو وقال: لا، ليس الأمر كذلك ـ قال: كان أحد هؤلاء السادة العلماء يعاني من مرض في القلب، فذهب إلى مكان لإجراء عمليّة في القلب، وكان من المقرّر أن يجروا له العمليّة، وبما أنّ شريان القلب كان تالفًا ومسدودًا، أرادوا أن يأخذوا شريانًا من ساقه ويزرعوه في قلبه. لكنّ رأي الطبيب كان أن يتمّ إجراء تصوير للأوعية (قسطرة)، وإذا فُتح الشريان، فلا يجرون عمليّة جراحيّة. طبعًا، كان قد جهّز معدّات العمليّة أيضًا حتّى إذا لم ينجح بالفتح من دون عمليّة، يجرون له العمليّة فورًا ويأخذون الشريان من ساقه ويضعونه في قلبه. قال لهم هذا السيّد بنفسه: دعوني أشاهد أنا أيضًا. كان هذا السيّد يشاهد تلك الشاشة التي تُظهر ما بداخل القلب، وفجأة في تلك اللحظة التي يغرسون فيها الإبرة ويصطدم البالون، تتحوّل شاشة التلفاز كلّها إلى اللون الأحمر وينفتح الشريان. في تلك اللحظة نفسها، يصاب هذا السيّد بسكتة قلبيّة من الخوف ويموت، أي بمجرّد أن ينظر ويرى الأمر هكذا، يموت فجأة! لو لم تكن تنظر، لم يكن هذا بالأمر العظيم، وكان الطبيب قد جهّز معدّات العمليّة وكان سيجريها لك فورًا! فلماذا الأمر هكذا؟! هذا لأنّنا لا نؤمن ونمزح، ونتحدّث مثل البلبل فقط! نتحدّث كذلك عن الموت والقيامة والجنّة والنار والبرزخ وعالم المثال والكتاب والعقاب والثواب والحساب والميزان، ونشرحها للناس حتّى يقولوا: «يا له من عظيم! يا له من عالم! كم يتحدّث بشكل جيّد!». لكنّه هو نفسه عندما يحين وقت العمل، بمجرّد أن ينظر ويرى الشاشة قد احمرّت، يموت، وداعًا! ماذا حدث؟! أين تلك «القنطرة»؟! أين ذلك الـ«أَحْلَى مِنَ العَسَلِ»؟
يجب أن نطلب من الله أن يجعلنا متيقّنين من هذه المسألة، وأن يوضّح لنا الأمور، وأن يورثنا الطمأنينة، لأنّ هذه المسألة مهمّة. لقد ذكر لنا أمير المؤمنين عليه السلام هذه الأمور في خطبة همّام! لو لم يكن لهم ذلك الأمد المحدّد، لما بقوا في هذه الدنيا طرفة عين، «لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ»۱، لما بقوا لحظة واحدة. لكنّهم يرون أنّ أجلهم هو هذا المقدار، وأنّ هذا الزمان مسجّل في ملفّهم، فيقولون: يا إلهي، سنصبر حتّى ذلك الحين.
طبيعة زيد بن عليّ ومرتبته
كان زيد بن علي من هؤلاء، وطبعًا هو يختلف عن الإمام الباقر عليه السلام الذي هو إمام وصاحب ولاية وقضيّته مختلفة. بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام مثل سلمان لم يكونوا هكذا، كانوا هادئين وذوي سكينة ووقار، وكانت لهم بصيرة أخرى. كانوا يحلّلون المسائل بطريقة أخرى، كانوا يرون أبا بكر، ويرون أعماله الباطلة، وكانوا يذكّرونه في حدود الأمر، ويواجهونه في نطاق محدود.
مقارعة الطاغوت ليست صحيحة في كلّ حال وبأيّة كيفيّة. يجب أن تكون مقارعة الطاغوت تحت ولاية وأمر الإمام عليه السلام، وليس أكثر، وإذا أرادت أن تتجاوز ذلك الحدّ، فقد تواجه معارضة الإمام. كلّ هذه الروايات المتعلّقة بالتقيّة، لمن هي؟!
هشام بن الحكم بين الكلام والسكوت
كان الإمام الصادق والإمام موسى بن جعفر عليهما السلام يُظهران الكثير من المحبّة والمودّة لهشام بن الحكم، هذا هشام بن الحكم نفسه الذي كان مع عمرو بن عبيد البصريّ وناظره حول مسألة الإمامة وأفحمه٢. هذا هشام بن الحكم نفسه الذي كان يناظر الملاحدة بحضور الإمام الصادق عليه السلام، وعندما كان يأتي إلى الإمام الصادق، كان الإمام يُجلسه بجانبه٣. لقد وصل به الأمر إلى أنّه مهما قال له موسى بن جعفر اسكت٤، لم يصمت! لكلّ عمل حدّ! أنت جيّد ومدافع عن حريمنا، ولكنّ الدفاع يجب أن يكون وفقًا لبرنامج وأمر من قبلنا وعلى أساس حساب.
كان المرحوم العلامة قد قال لأحد الناس:
يا عزيزي، اجلس ولا تتحرّك، هناك فئة تقدّم دماءها هنا، وفئة أخرى تجلس على هذه المائدة وتأخذ المنافع لنفسها!
حينها كان هذا وأمثاله يعترضون على المرحوم العلاّمة، ولكن لاحقًا عندما انتصرت الثورة، هؤلاء أنفسهم قاموا ضدّ الثورة! فقال المرحوم العلامة: كيف كانت أعمالكم تلك وكيف هي أعمالكم الآن؟! فعندما كنت أقول: اسكتوا ولا تتكلّموا، كنتم تتحرّكون وتصرخون! ولكن عندما أقول: «تعالوا وساعدوا وساندوا، ويجب على الإنسان أن يساعد هذه الثورة ويأخذ نقاطها الإيجابيّة ويذكّر بالنقاط السلبيّة»، تبدؤون بالحديث بأنّ السيد فلان كذا والسيد فلان كذا، وذاك من أين وهذا من أين؟ ومن أين يأخذ هو الأوامر؟! وعندما يُقال لهم إنّ هذا الكلام مضرّ، وإنّ هذا الكلام يُكتب على حسابنا، وإنّ هذه المواضيع تُنسب إلينا بعنوان أنّكم تلاميذنا، لا يستمعون! هؤلاء أفراد بلا منطق، وبلا أساس، وبدون أصالة علميّة وإيمانيّة، يعملون من تلقاء أنفسهم ومستقلّون، يسلكون طريقًا ويذهبون! في الزمن السابق، كان نظائر هؤلاء كثيرين جدًّا. في الزمن السابق، كان هناك أفراد لم تكن أعمالهم لا لصالح الإسلام فحسب، بل كانت أعمالهم تنتهي ضدّ الإسلام.
دراية وفطنة العلماء في المسائل الخطيرة
قال المرحوم العلامة: إنّ اغتيال منصور، رئيس الوزراء في زمن الشاه، انتهى بالتأكيد ضدّ مصالح الإسلام، أي إنّه وقع في وضعيّة جاؤوا فيها بكلّ قواهم وأحضروا هويدا البهائي واقتلعوا أساس الإسلام من جذوره! فلماذا تفعلون هذا؟! ممّن تأخذون الأوامر؟! أنتم الذين شكّلتم جماعة وتقومون بالاغتيالات باستمرار، مثلًا تغتالون هجير ومنصور ورزم آرا، ممّن تأخذون الأوامر؟! في النهاية، ليس بمجرّد أن يضع طالب علم عمامة على رأسه يكون الأمر قد انتهى! هؤلاء هم الذين آلموا قلب آية الله البروجردي رحمة الله عليه، فكان يبكي ويقول: لا أعرف ماذا أفعل مع هؤلاء؟! هؤلاء مثل أبنائي، يفعلون ما يحلو لهم، ويضعوننا في موقف حرج ونحن لا نفعل شيئًا، وعندما يقعون في ورطة يأتون إلينا! يقولون: سيّدنا، لقد وقعنا في ورطة!
ـ هل وقعتم في ورطة؟! حسنًا، الآن اذهبوا بأنفسكم حتّى النهاية!
قيل للمرحوم الحكيم رضوان الله تعالى عليه: «سيّدنا لقد وقعت القضيّة الفلانيّة المتعلّقة بالملك فيصل، وعليك أن تأتي وتشفع».
فقال: هؤلاء لم يفعلوا هذا الأمر بأمرنا، والآن بعد أن فعلوه، يجب أن يثبتوا على موقفهم حتّى النهاية. وكان كلامه صحيحًا. قال: ألا تعلمون أنّ طلب الشفاعة من هؤلاء أسوأ ألف مرّة من القتل؟! لأنّ هؤلاء يفعلون ذلك بألف منّة. فإذا قبضوا عليكم وقتلوكم، فأنتم شهداء في النهاية.
سبب صلح الإمام المجتبى عليه السلام بلسانه
هذا الأمر مثل قصّة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، حيث قال الإمام: «لو لم أصالح، لأسرني معاوية، ثمّ كان سيطلق سراحي انتقامًا ليوم بدر حين قال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»۱. كان قصد معاوية أن يأسر الإمام الحسن ثمّ يقول: انتقامًا ليوم بدر الذي أسرتم فيه منّا ثم أطلقتم سراحهم، الآن نحن أيضًا نطلق سراحكم في سبيل الله٢! هذا عار كبير يلحق بالإمامة والولاية! الآن، يقوم الرجل بألف عمل ثمّ يتوقّع من هذا وذاك أن يشفعوا، وإن لم يفعل أحدهم، فهو كافر وعديم الدين وضدّ فلان! هذا ليس صحيحًا، كلّ عمل يجب أن يكون على أساس الأمر.
قال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام لهشام بن الحكم: ليت جسدي يُقطَّع إربًا إربًا ولا يفشي هذا أسرارنا!٣. أي انظروا إلى أين وصل الأمر حتّى يقول الإمام موسى بن جعفر هكذا! عجيب حقًّا أن يقول الإمام موسى بن جعفر إنّني مستعدّ لأن يقطّعوا جسدي إربًا إربًا ولا يقول هؤلاء شيئًا في وضع كهذا يجب عليهم أن يصمتوا! فهارون يقول: إنّ لسان هؤلاء أقطع وأمضى على حكومتي من سيف ستّين ألف رجل، وهذا هو ما يدفع أولئك إلى فعل ما يفعلونه من تلك الجهة، ويدفع هؤلاء من هذه الجهة إلى الضغط على الإمام موسى بن جعفر وإلقائه في السجن! كلّ هذا بسبب الجهل والمحبّة في غير محلّها من فئة جاهلة تتصرّف بدون أمر وبلا كابح، وتفعل كلّ ما يخطر ببالها! فهل لديك إمام أم لا؟! الإمام موجود، فاذهب واسأله: يا سيّدي، هل أفعل أم لا أفعل؟ هل هذا العمل صواب أم ليس بصواب؟ فيطأطئ رأسه ويسير إلى الأمام، فإمّا أن يصطدم بجدار أو يقع في بئر أو ينجو، وعندما يقع في البئر يقول: تعالوا وأخرجوني، أو عندما يصطدم رأسه بالجدار يقول: لقد انكسر رأسي، تعالوا وضمّدوا رأسي! حسنًا، الزم مكانك! إذًا، يجب أن يكون العمل مدروسًا.
عطاء الله بحسب مدركات الأفراد
فالمطالب تختلف بحسب مدركات الأفراد، وكلّ إنسان في كلّ مرتبة له نمط من المدركات، والله يعطيه وفقًا لها فأحدهم مدركاته منخفضة، والآخر مدركاته أعلى، وآخر مدركاته أعلى بكثير. طبعًا، بناءً على هذه المدركات، يجب على الإنسان أيضًا أن يبذل اهتمامًا أكبر ويضع طاقة أكبر؛ لأنّه عندما تكون المدركات أعلى، فإنّ تلك المدركات تُلزم الإنسان بأن يتقدّم ويعمل ويتحرّك وفقًا لها.
كنّا نريد أن نتحدّث في هذا المجلس عن الطرق المختلفة إلى الله، وهي طريق النفس والذكر والمحبّة. طبعًا، كلّ واحد من هذه كان سيستغرق وقتًا، ولكنّي أظنّ أنّ القضيّة قد طالت قليلًا، وإن شاء الله متى ما وفّقنا الله، مثلًا في العام القادم أو عندما تسنح فرصة ومناسبة خلال هذا العام، سنتحدّث عن هذه المسائل ضمن أحاديثنا.
إن شاء الله، نأمل أن يجعل الله نصيبنا في هذا الشهر غفرانه واستحقاق رحمته، وألا يقطع أيدينا عن مقام ولاية إمام الزمان عليه السلام، وأن يجعلنا من شيعته والذابّين عنه!
اللَهُمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمد