المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنه 1421
التاريخ 1421/09/04
التوضيح
ما الفرق بين «عالم الأمر» و«عالم الخلق»؟ كيف يمكن لحالاتنا الباطنية، من إخلاصٍ أو نفاق، أن تتجلّى في مظهرنا الخارجي وحتى في أصواتنا؟ وما المعنى الحقيقي لزيارة مراقد الأئمة عليهم السلام؟ تجيب هذه المحاضرة، التي ألقاها آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني، عن هذه الأسئلة كاشفةً عن حقيقة أعمالنا الباطنة والظاهرة.
هوالعلیم
باطن العمل وظاهره
قيمة المشاركة في المجالس والزيارة
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢۱ هـ - الجلسة الثانية
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ
بِسمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحيمِ
وصلَّى اللهُ علَى سيِّدنا ونبيِّنا أبي القاسمِ محمَّدٍ
وعلَى آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرينَ
واللَّعنةُ علَى أعدائِهِم أجمَعينَ
«وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي تَحَبَّبَ إِلَيَّ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِّي، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَحْلُمُ عَنِّي حَتَّى كَأَنِّي لَا ذَنْبَ لِي».
الحمدُ لله الذي يتودَّد إليَّ وهو غنيٌّ عنّي، والذي يحلم عنّي في مقابل ذنوبي وزلّاتي وعثراتي؛ فهو حليمٌ وصبورٌ إلى درجةٍ كأنّي لم أرتكب ذنبًا ولم تصدر منّي معصيةٌ.
جانبا العملِ وحقيقة عالمي الخَلْقِ والأمر
إنّ كلَّ عملٍ نقوم به له جانبان: جانبٌ ظاهرٌ وجانبٌ باطنٌ. فالجانب الظاهر هو الجانب الخَلْقيّ لذلك العمل، والجانب الباطن هو جانبه الأمريّ، والسرّيّ، والربطيّ، والتعلقيّ.
يقول الله تعالى في الآية الشريفة: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾۱؛ أي إنّ الخلق والأمر يختصّان به. ويقول في آياتٍ أُخَر: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾٢، و﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾٣. إنّ جميع هذه الآيات تحمل معنى واحدًا تقريبًا.
المَظْهَرُ الخَلْقيُّ ونموذجُ عليٍّ الأكبر (ع)
أمّا قوله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾، فالمقصود بالخلق فيه هو الجانب الظاهريّ للظواهر والحوادث التي تقع في العالَم، فالصورة الظاهريّة هي الصورة الخَلْقيّة. وعندما توجّه عليّ الأكبر عليه السلام إلى الميدان، رفع سيّد الشهداء عليه السلام يديه إلى السماء وقال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ عَلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَقَدْ بَرَزَ إِلَيْهِمْ غُلَامٌ أَشْبَهُ النَّاسِ خَلْقًا وَخُلُقًا وَمَنْطِقًا بِرَسُولِكَ، وَكُنَّا إِذَا اشْتَقْنَا إِلَى نبيّك نَظَرْنَا إِلَيْهِ». ومعناه: «إلهي، كُن شاهدًا على هؤلاء القوم، فقد برز إليهم شابٌ هو أشبه الناس برسولك من حيث الظاهر والباطن أي الصفات الباطنيّة، ومن حيث الكلام والمنطق. وكنّا كلّما اشتقنا لرؤية رسولك، نظرنا إلى وجه هذا الشاب». لقد كان عليّ الأكبر عليه السلام يتكلّم كالنبيّ، وكانت نبرة صوته وكيفيّة كلامه كرسول الله صلّى الله عليه وآله. أي أنّه كان يُشبه النبيّ في سلوكه، وطريقة مشيه، وأفعاله. هل رأيتم كيف أنّ بعض الناس يُشبهون آباءهم بشكلٍ عجيب، أو يُشبهون أجدادهم في تصرّفاتهم وحركاتهم، أو يُشبهون أحد أقاربهم؟ فعلى سبيل المثال، تكون طريقة كلام أحدهم، ومواقفه، وتعامله مع القضايا، والحالات التي تُسبّب التغيير فيه، وعجلته أو تباطؤه في الأمور، وكيفيّة أفعاله، بحيث يبدو وكأنّه مرآةٌ لذلك الإنسان، وعندما نشير إليه نقول: «هذا الرجل كالتفاحة التي قُسِمت نصفين!».
يقول الإمام عليه السلام إنّ عليًّا الأكبر عليه السلام كان شديد الشبه بجدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله، حتّى إنّهم كانوا كلّما اشتاقوا لرؤيته، نظروا إليه. كان علي الأكبر عليه السلام هو الابن الأوّل لسيد الشهداء عليه السلام. أمّا الإمام السجّاد عليه السلام فكان الابن الثاني، ويبدو أنّه من حيث ملامح الوجه لم يكن يُشبه الإمام الحسين عليه السلام، بل كانت له ملامحه وشمائله الخاصّة، وكان يُشبه والدته. وكانت والدة الإمام السجّاد عليه السلام هي السيّدة شهربانو، ابنة ملك فارس، وقد توفّيت حين وُلد حضرته. حقًّا، لا يعلم الإنسان ما هي أفعال الله وماذا يقدّر!
فالخَلْق يعني الجانب الظاهر، وعالم الشهادة هو نفسه عالم الخلق. وبمعنى خاصّ، يُطلق على كلّ ما تدخل فيه جهتا المادّة والزمان اسم "الخَلْقيّات"، ويُعتبر جزءًا من عالم الشهادة.
حدودُ الإدراكِ الحسّيّ وعالَمُ الأمر
في مقابل عالم الخلق يقع عالم الأمر، وهو متعلّق بعالم ما وراء المادّة، أعمّ من عالم المثال، والملكوت، والجبروت، واللاهوت، وعالم الأسماء والصفات الكلّيّة، وهذا العالم ليس مشهودًا لظاهرنا.
إنّ شهود ذلك العالم ورؤيته لهما أسبابهما وأدواتهما الخاصّة، ولا يمكن لأحدٍ أن يرى عالم البرزخ والمثال بهذه العين الماديّة. فهذه العين مُكوّنة من مجموعةٍ من المواد التي يتوافق تركيبها مع الخصائص الفيزيائيّة لعالم الشهادة والخلق. فالشبكيّة، والعدسة، والبؤبؤ، والقرنيّة، والجسم الزجاجيّ، كلّها مصمّمةٌ لتعكس الضوء وترسله إلى العصب.
هذا هو النور الظاهر الذي ينعكس عن الأشياء، وفي الحقيقة لا تنطبع صورة الأشياء في العين، بل هو النور الذي يمتصّ جزءًا من الفوتونات ويُطلق جزءًا آخر عندما يصطدم بأماكن مختلفة، ومع عودة تلك الفوتونات۱ المُطلَقة، تظهر صورة الأشياء. فعلى سبيل المثال، عندما يسقط الضوء على وجه إنسانٍ ما، فإنّه يمتصّ مقدارًا من هذه الفوتونات ويعكس مقدارًا آخر، وذلك الانعكاس يصل إلى أعيننا، فنرى أنّ ذلك الإنسان له جبهةٌ وحاجبان وعينان وجفنان وأنفٌ، وأنّ لحيته بيضاء أو سوداء، ولون وجهِهِ أبيض أو أسمر أو أحمر أو أصفر؛ في الواقع، عندما يسقط هذا النور على شيءٍ ما، فإنّ انعكاسه يصل إلى العين.
لديّ الآن في ذهني صورةٌ لهذا السيد الذي نجلس أمامه، وهذه الصورة تختلف عن صورة ابنه الشاب، فابنه أصغر سنًا. هذا الاختلاف ليس بسبب الصورة التي يحملها هذا الجسم، بل تلك الصورة تختصّ بهذا البدن؛ في الحقيقة، إنّ جميع مدركاتنا سببها النور. فلو أطفأنا المصباح، لتحوّل علمنا إلى جهلٍ، ولم يعد هناك شيء.
هل أدركتم الآن كم أنّ علمنا واهٍ وبلا أساس، وأنّه متّصلٌ بمجرّد مصباح! إذا أُضيء هذا المصباح، حينها سترون حسنًا، وحسينًا، وتقيًّا، وزيدًا، وعمرًا، وبكرًا، جميعهم يجلسون هنا بوجوهٍ مختلفة. أمّا إذا لم يُضأ هذا المصباح، فلأنّه لا يوجد نور، فإنّنا عندما نتحرّك نركل هذا ونركل ذاك، ونمرّ فوق رأس أحدهم ونمضي قدمًا! هكذا يكون حال الإنسان إذا تحرّك من دون نور، يركل هذا وذاك ويُخرّب العالَم!
النور الظاهر والنور الباطن كلاهما نعمة! عندما يسقط النور على مواضع معيّنة من الجسم تكون بيضاء، ينعكس نورٌ أكثر، وعندما يسقط على مكانٍ أسود من الجسم كالحاجب، ينعكس نورٌ أقلّ، وهذا الانعكاس يُكوّن شكلًا، وهذا يخصّ عالم الشهادة. يمكن للعين أن تُدرك هذه المسألة إذا توفّرت العلل المُعدّة للإدراك.
حقيقةُ الرؤيا وتجرُّدُ النفس
ولكن إذا أراد الإنسان أن يطّلع على عالم الأمر وما وراء المادّة والميتافيزيقيا، فإنّ العين الظاهريّة لا تنفع هناك. هناك، حتّى لو أغمضت عينيك، فإنّك سترى! فالإنسان يرى الأحلام وعيناه مغلقتان! فالعين المُغمضة لا ترى، إذن ما الذي نراه ونعتبره حقيقةً ونحكم على تلك الرؤية بأنّها الحقيقة؟! وبالطبع، لها واقعيّة أيضًا!
على سبيل المثال، عندما ترى إنسانًا حيًّا في منامك، وتلتقي به في اليوم التالي، تقول له: «ياعزيزي، لقد رأيتك في المنام الليلة الماضية».
فيقول لك: «يا عزيزي، ها أنا ذا أقف أمامك، لقد كنتُ في بيتي البارحة وأنت كنتَ في بيتك، فكيف رأيتني في المنام؟».
فتقول له: «يا عزيزي، لقد رأيتُك أنتَ بالذات في المنام».
فيقول: «عزيزي ها أنا ذا أقف هنا وأنت تراني! أنا لم آتِ إلى منامك، فمنزلي كان في مكانٍ يبعد عدّة فراسخ!».
فتقول: «لا يا عزيزي، لقد رأيتُك أنت بالذات»، وهذا صحيح؛ لأنّ حقيقة الإنسان ليست بدنه، بحيث إذا رأى أحدٌ إنسانًا آخر في المنام، يكون قد رأى غيره! فهل تعرفون أحدًا يقول: «لقد رأيتُ صورتك في المنام ولم تكن أنت»؟!
حتّى الماديّون والذين يُنكرون الميتافيزيقيا وما وراء الطبيعة، إذا رأوا إنسانًا في المنام لا يقولون: «رأينا صورته»، بل يقولون: «رأيناه هو نفسه في المنام!». وهذه هي المسألة التي يقع في فخّها الماديّون ومنكرو الميتافيزيقيا! إنّ مسألة النوم مشتركةٌ بيننا وبين الدهريّين والطبيعيّين والقائلين بأصالة المادّة. يقول أحدهم: «رأيتُك البارحة في المنام». فيجيبه الآخر: «أنا لا علاقة لي بك أصلًا! أليست الأصالة للمادّة؟! المادّة هنا، وأنا في مدينةٍ وأنت في مدينةٍ أخرى، فما العلاقة بيننا؟ إذن لماذا تقول: رأيتُك؟ قل: رأيتُ صورتك». وإذا قال: «رأيتُ صورتك»، نقول له: «أنت لم ترني أصلًا من قبل، فكيف رأيت صورتي؟!».
وهنا، لا يجد هؤلاء الدهريّون والطبيعيّون والقائلون بأصالة المادّة جوابًا! فلا يمكن إنكار هذه المسألة، وهي أنّ وراء هذا البدن حقيقة، وتلك الحقيقة لها تجلّيان؛ تجلٍّ بهذا النحو، وتجلٍّ بنحوٍ آخر، وهكذا صعودًا حتّى تصل إلى ذلك المبدأ!
مِثالُ الكهرباء: الحقيقةُ الخفيّةُ والظهوراتُ المختلفة
هذا المصباح مضاءٌ هنا الآن، وما نُشاهده في هذا المصباح هو النور، أمّا التيّار الكهربائي فأنتم لا ترونه ـ وإن أردتم يومًا أن تختبروا وجوده، فلا ينبغي أن تلمسوا هذين السلكين، لأنّ خطر الصعق الكهربائيّ يُهدّدكم ـ وعندما تسألون: «ما هو التيّار الكهربائي؟» يقولون: «هو هذا المصباح نفسه». فتقولون: «إذن لقد عرفنا التيّار الكهربائي». فيقولون: «لا، هذا النور الذي تُشاهدونه الآن هو ظهورٌ لتلك الكهرباء وتلك الحقيقة الكهرومغناطيسيّة التي تجري الآن بشكلٍ متناوبٍ في هذا السلك، وتلك الحقيقة مجهولةٌ بالنسبة لنا».
انظروا إلى المدافئ الكهربائيّة، هذه المدافئ تُعطي حرارة، فظهور الكهرباء هنا ليس على شكل نورٍ بل على شكل حرارة. كُنَّا في منزلِ أحدِ الأصدقاءِ في إحدى الدُّوَلِ، فرأيتُ أنَّ المَوقد غيرُ موصولٍ بالغازِ أصلاً. فقلتُ له: «كيفَ يَعمل؟» قال: «إنَّهُ كهرُبائيّ، واقتصاديٌّ جدًّا». وكانَ نظيفًا جدًّا، وجميلًا، وأنيقًا. وكُنّا نُعِدُّ عليهِ الطعامَ والشايَ أيضًا. فهذا الظُّهورُ للكهرباءِ لا نُورَ فيه، فتَبْرُزُ هنا وتَظْهَرُ تلكَ الحقيقةُ والواقعيّةُ على هيئةِ حرارة.
أو على سبيل المثال، عندما تعمل المروحة، تتحرّك شفراتها بفعل طاقةٍ ما، ولو أبقيت هذه المروحة في مكانها مئة عام، فطالما لا توجد طاقةٌ خلف هذا المحرّك، فلن تتمكّن هذه الشفرات من الحركة. ولكن عندما تصلها بالكهرباء، تبدأ بالحركة. ظهور الكهرباء هنا ليس نورًا ولا حرارة؛ في الحقيقة، لقد تحوّلت الطاقة الكهربائيّة إلى حركة.
إنّ الحقيقة الكامنة الآن خلف هذا المصباح والتي لا نراها هي الكهرباء، ولها ظهورات مختلفة على شكل مصباح، ومروحة، ومدفأة. لا يمكنكم إدراك هذه الحقيقة بأعينكم، ولإدراكها تحتاجون إلى جهازٍ يُظهر لكم هذه القوّة الكهربائيّة (الفولت). هذا الجهاز يُظهر لكم تلك الحقيقة التي لا يمكن لمسها باليد.
يقول مولانا جلال الدين الرومي:
| حَق هَمى گويَد كِه اى مَغرورِ كور | *** | نَه زِ نامَم پارِه پارِه گَشت طور۱ |
والمعنى:
يقول الحقّ: أيّها الأعمى المغرور *** ألم يتصدّع من اسمي جبل الطور؟!
لو اطّلع الناس على تلك الحقيقة، لما استطاعوا الصمود لحظةً واحدة، ولو تجلّت تلك الحقيقة على الأفراد، لاستحال على أحدٍ أن يصمد! إلاّ أن يُكيّفوا أنفسهم تدريجيًّا: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا﴾٢. عندما يشتدّ شيءٌ من الجانب الجلاليّ للربّ وتلك البارقة من صفات الله وأسمائه على شيءٍ ما أكثر من حدّه، ويخرج عن صيغته وموازينه الفيزيائيّة، ينفجر فجأةً، ولا تعود تلك المادّة قادرةً على تحمّل هذه الخصائص. وهذه المسألة تحدث للإنسان أيضًا في طريق السلوك والعرفان.
هذا الجانب هو الجانب الأمريّ. يعني أنّ عالم الملكوت وعالم اللاهوت وعالم الجبروت هو الجانب الأمريّ لعالم الوجود. بالطبع، للخلق بالمعنى الأعمّ معنى آخر يكتسب بعدًا فلسفيًّا، ولن ندخل في تلك القضيّة، والذي يشمل على هذا الأساس الحيثيّة التعلقيّة الربطيّة فقط دون أيّ ظهورٍ خارجيّ، ويُطلق على ذلك الجانب الربطيّ اسم "الأمر"، وهو نفسه جانب إرادة الربّ بالنسبة لظهورات الأشياء. أمّا الظهورات نفسها، وحتّى المجرّدات، فهي مشمولةٌ لعالم الخلق، وهو معنى توسيعيّ.
الغفلةُ عن باطنِ العالَمِ والعمل
يقول تعالى في آيةٍ أخرى: ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾٣؛ أي إنّ الكفّار وأهل الغفلة قد علموا ظاهرًا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة غافلون. إنّهم لا يرون سوى ظاهر الحياة الدنيا، والذهاب والإياب، والحركات، والمعاملات، أمّا ما هو موجودٌ خلف القضيّة فهم غافلون عنه.
ولعمل الإنسان جانبان أيضًا: الجانب الظاهر، وهو الجانب الذي يقوم به. فمثلاً ، أنا أتحدّث الآن، ولحديثي هذا جانبان: جانبٌ ظاهرٌ وهو ما تسمعونه وتسجّله أجهزة التسجيل من حولي، وهو يُماثلُ تمامًا الكيفيّةَ التي يَدخلُ بها الصوت إلى الأذن، فبعدَ عبورهِ غشاءَ طبلةِ الأذن، ينتقلُ إلى العصب، ليحملَه العصبُ إلى قسمِ السمعِ في الدماغ؛ كما أنَّ هذه الكيفيّةَ تتحوّلُ هنا في الأجهزة أيضًا إلى صوتٍ وموجةٍ كهربائية، وعن طريقِ تحرّكِ تلك الجزيئاتِ المغناطيسية، يُحفَظُ الصوتُ على الشريط، حيثُ يقومُ «رأسُ التسجيل» بنقلِه إلى الشريطِ عبرَ الطاقةِ الكهربائية. هذا الجانبُ هو الجانبُ الظاهري، ووسيلةُ إدراكِه هي هذه الأسبابُ الظاهريةُ، أي الأذن التي يصِلُ الصوت عن طريقِها إلى الجهازِ العصبيِّ المركزيّ في الدماغ.
وجانبٌ آخر باطنيّ متعلّقٌ بنفسي، وهو جانبٌ لا يمكنكم إدراكه. إنّ آذانكم عاجزةٌ عن إدراك ذلك الجانب، وهو عبارةٌ عن نورانيّة الفعل الذي يصدر منّي الآن أو ظلمانيّته، وهو ما يُسمّى بالجانب الباطن.
فعلى سبيل المثال، الكلام الذي أقوله إمّا أن يكون للّه، وإمّا أن يكون للتباهي والظهور، كأن نُقيم مجلسًا لنقول إنّ لدينا مجلسًا وإنّ مجلسنا دائمًا ما يمتلئ! وحتّى لا يظنّ البقيّة أنّنا ليس لدينا مجلسٌ في ليالي شهر رمضان! الحمد للّه، لقد وفّقنا الله لأن يكون لنا مجلسٌ في ليالي رمضان كما كان للمرحوم العلامة مجلسه، وهذا من توفيقات الله!
مكائدُ الشيطانِ في النيّات
كلّ هذه الأمور هي من الجانب الباطن. يجب أن ننتبه جيّدًا؛ فالشيطان يأتي لكلّ إنسان من طريقه، ويصيب الهدف ويمضي بحيث تمرّ سبع سنوات ونحن لا ندرك أنّه قد أصابنا! فإنّه يُظهر الله في مقدّمة العمل، بينما لا وجود لله في الأمر أصلًا!
ولكن قد نقول مرّةً: «يا ربّ، إنّنا لا نفقه شيئًا، وقد اجتمعنا هنا من فرط عجزنا. يا ربّ، لو كان هناك طريقٌ آخر لسلكناه، يا ربّ، إن لم نفعل هذا فماذا نفعل؟!». هذه الجهات هي الجانب الباطن. قد أُلقي محاضرةً بدافع الشهرة، ولكي يقول الناس: «نعم، انظروا إلى هذا، له مجلسٌ في قم، وتسجيلات مجالسه تُبثّ وتصل إلى الجميع». وأمثال هذه الأقاويل التي نسمعها؛ إذا كان الأمر لهذا السبب، فلا نُتعبنّ أنفسنا، فلا خبر هناك! حتّى هذا الكلام الذي أقوله الآن هو خدعةٌ من الشيطان! هذا الشيطان ماكرٌ جدًّا!
هل يا تُرى كلّ معلّمي الأخلاق، وهم يتحدّثون، يدركون إلى أيّ مدى هم غارقون في مستنقع النفس؟! هؤلاء الذين يتحدّثون، هل هم منتبهون؟! كلّا، ليسوا منتبهين! العجيب أنّهم قد يشعرون بتغيّر في حالهم، وذلك التغيّر في الحال يصبح هو الفخّ! لقد تغيّر الحال، والدموع تسيل من العين، ولكنّ ذلك كلّه فخّ!
وهذا من المواضع التي يجب على الإنسان أن يلجأ فيها إلى الله؛ فالأمر يخرج من يد الإنسان! إنّه الموضع الذي يصبح فيه الحال نفسه حجابًا ومانعًا للإنسان، ويصبح الحال نفسه نقيضًا لهذا المسار وحالة التوجّه والتقرّب.
خُدعةُ الأحوالِ المعنويّة وضابطةُ الاستقامة في الطريق
لذلك كان المرحوم العلامة يقول: «لا تلتفتوا إلى الحال، بل انظروا هل طريقكم صحيحٌ أم لا!». كم مرّةٍ قال سماحته هذا الكلام؟ وأيّ واحدٍ منّا عمل به؟!
لقد شهدتُ بعض الأفراد كانوا يحضرون في مجالسه وكانوا يقعون في حالة إغماء من شدّة البكاء، ولكنّي كنتُ أرى كلّ هذا زبدًا وفقّاعاتٍ وظاهرًا! وكنتُ أرى أنّ أولئك الأفراد لم يكن لديهم باطنٌ. إذن، لأيّ شيءٍ هذا البكاء؟! كنتُ متحيّرًا ما هذا! وكما يقول المثل: «هل أصدّق ذيل الديك أم أصدّق القسم بالعبّاس عليه السلام؟!». عندما كان يتحدّث معي أحدهم، كنتُ أرى أنّه لا يُستفاد شيءٌ من كلامه، ولكن في الظاهر كنتُ أراه يُغشى عليه في الصلاة ويسقط أرضًا! ففي الأخير، توجد علاماتٌ ظاهريّة، وهذه ليست كذبًا؛ ثمّ كنتُ أرى، كلّا، كلّ هذا كان فقّاعاتٍ، وبالطبع قد لا تقتصر هذه الفقّاعات على مرتبةٍ واحدة، بل قد تكون فقّاعاتٍ حتّى في مراتب أعلى!
آدابُ إقامةِ المجالسِ والإخلاصُ في النيّة
ولكن إذا جئنا إلى هنا وقلنا: في النهاية، كان للمرحوم العلامة مجالس، وهو نفسه قال إنّه يجب أن تبقى هذه المجالس قائمة، فإذا أردنا نحن أيضًا أن نطيع أوامره، سواء هنا أو في منازلنا، فيجب علينا أن نقرأ دعاء الافتتاح. ومن جهةٍ أخرى، قال: «يجب أن يكون للرفقاء مجلسٌ في الليالي»، فهل هذا الكلام الذي قاله سماحته كان مشروطًا بزمانه هو فقط، أم أنّه يشمل الزمان الذي يليه أيضًا؟! فليأت بِضعةُ أصدقاء في ليلةٍ مِن ليالي شهرِ رمضانَ ويَجلسوا معًا، فإنْ كانَ حالُهُم يقتضي ذلك، فَلْيَجلسوا وِيقرؤوا دعاءَ الافتتاح. هذا الأمرُ صحيحٌ أيضًا، فهذا ليسَ فعلًا يصدر هكذا مِن تِلقاءِ أنفُسِنا، بل علينا أن نقوم به بتدرُّجٍ وتأنٍّ، وأن لا نفعله دفعةً واحدة، وأن نُصلح الأسس أوّلًا في أذهاننا وأنفسنا، ثمّ نقوم به، لا أن نقول فجأةً: «لا يا عزيزي، سنشكّل جلسة»!.
شرط السير الصحيح: التثبّت
انتبهوا إلى أنّ السالك كلّما أراد أن يقوم بعملٍ ما، يثبّت موطئ قدمه أولًا ـ ولا بأس إن طال الأمر ـ ثمّ يخطو. إذا لم يثبُت موطئ قدمه، فإنّه لا يخطو! ثمّ نقول: يا ربّ، الآن حيث إنَّ المرحوم العلامة ليس موجودًا، فلو كان موجودًا، لاستأذناه: هل نعقد مجلسًا في قم أم لا، وكان سيقول على الأرجح بحسب الظاهر: «اعقدوا مجلسًا»، لأنّ هذا كان دأبه ورؤيته، ونحن نريد أن نعمل وفقًا لأوامره. ولكن إذا قلنا: «يا ربّ، إن كان الأمر على غير هذا، فأرِنا أنتَ الخلاف الذي نحن عليه بطريقةٍ ما! يا رب، لا يسعنا غير هذا!» فيقول الله: «قَبِلتُ، ولكن كُن صادقًا معي بهذا المقدار: أنني لو لم أرَ المصلحة في أن تعقد جلسة، ألّا يَشُقَّ عليك ذلك، وألّا تقول: "لِمَ لا ينبغي أن نعقد جلسة؟! ماذا سيقول الناس إن لم تكن لدينا جلسة؟! إن لم نعقد جلسة فسيذهب الناس إلى بيوتهم تدريجيًّا واحدًا تلو الآخر! فلنأتِ ونجلس ونجمع هؤلاء الناس ولا ندعهم يذهبون! لنضع عند الباب جهاز تسجيل حراريّ للحضور والغياب ونسجل الحضور! يجب أن نُظهر أنفسنا ونحافظ على انسجامنا لئلا يقول الناس: إن هؤلاء قد أصابهم الوهن!"» إن ما أقوله لكم واقعي. يا عزيزي، لا توجد فائدة في هذه الجلسات، فلا تُتعِب نفسك عبثًا! بل وعدم مجيئك أفضل، لأنّ موقفك ـ على الأقل ـ لن يزداد تعقيدًا ولن يسوء أمرك أكثر من هذا! ولن تزداد تورّطًا في الوحل في مسلكك، ولن تغوص في الطين. إن لم تأتِ إلى هذه الجلسات فأنت وشأنك، ولكن إذا فعلت، فسيُضاف الثِقل إلى حِملك! وما أقوله لكم، هو قانونٌ يُطبَّق علينا نحن أيضًا؛ فالقانون واحدٌ ولا فرق، من عَمِل فقد عَمِل؛ ومن لم يعمل، فإنّ قانون الله وميزانه لا يتفاوت.ولكن إذا قلنا: «يا ربّ، هذا ما في وسعنا وما يصل إليه فكرنا، فإن كان لدينا مزاج مساعد، فإنّنا سنحضر المجالس، وإن لم يكن لدينا مزاج مساعد، فلن نحضر. دعهم يقولون: فلانٌ لا يأتي، يأتي يومًا ويغيب آخر!» بالطبع، يجب أن يكون الإنسان منظّمًا، ولكن يجب أن يكون النظم تحت القانون! فالنظم ليس في الحضور بحدّ ذاته، بل في أنّه إذا سمحت الحال، فعلى الإنسان أن لا يُقصّر. يجب أن يكون النظم مبنيًّا على أساسٍ وقانونٍ ومعيار! كان المرحوم العلامة يقول: «من لا تقتضي حاله، فلا يحضر الجلسة؛ لأنّه إن جاء أفسد حال البقيّة أيضًا». بل إنّه كان يقول صراحةً لبعض الذين كان بينهم نزاع: «انزلوا أنتم إلى القسم الأسفل من المنزل، ولا داعي لأن تشاركوا في الجلسة!» وإنَّ مَن يقصّرُ مع التفاته لهذه المطالب، فإنّه مغبون! وإذا شعر بأنَّ المجيء مفيدٌ ولم يأْتِ، فهو مغبونٌ أيضًا! كان أحدهم يقول كلامًا صحيحًا، وطبعًا بحسب نظره كان يريد تقييم المطلب بشكلٍ صحيح، كان يقول: «سيّدنا، هل مقصودكم من هذا الحديث الذي تفضّلتم به هو أن يصل كلامكم إلينا، أم أنّنا يجب أن نشارك في الجلسة حتمًا؟ فإذا كان قصدكم هو وصول الكلام، فلماذا يجب أن نشارك؟ [بما أنّنا نستطيع أن] نستمع إلى الشريط!»
فقلتُ: حسنًا، إن لم تشارك فأين ستذهب؟ ستجلس في البيت أو تمشي في الشارع؟ في النهاية ستقوم بعملٍ ما. أنا لا أقول لكم تعال أو لا تأت، بل المقصود والأصل هو أن يدرك الإنسان هذه المطالب. إنَّ الكتب التي كتبها العظماء وُضِعت لكي يطّلع على المطالب أولئك الذين لا سبيل لهم للوصول إلى المرحوم العلّامة. ولكن إذا كانت نفسٌ ما راغبةً في مسارٍ معين، فإنها تتقبّل تلك الشروط والأجواء المُقَرِّبة والمُعِدَّة للوصول إلى ذلك المقصد، وتسعى خلفها. قلتُ له: هل حدث في زمن المرحوم العلامة أن تقول "لماذا يجب نراه؟"! أو "هل المقصود هو أن يصل كلامه إلينا ونؤدّي الذكر الذي يأمر به؟"! كلاّ، بل نقول: إنّ مجرّد رؤيته هي بحدّ ذاتها تقرُّب.
فلسفةُ زيارة المشاهد المشرّفة
لماذا يجب علينا أن نذهب لزيارة الإمام الرضا عليه السلام؟! فنحن نستطيع أن نقول من مكاننا هنا: «السلام عليك يا عليّ بن موسى الرضا». لماذا قال الإمام الرضا عليه السلام: «من زارني أتيته في ثلاثة مواطن: عند الاحتضار، وعند سؤال الملكين، ويوم القيامة عند الحساب»؟۱ أي أنّه يأتي في المواطن الثلاثة الحرجة! فنقول للإمام الرضا عليه السلام: «يا مولانا لقد أتينا». لم يقل الإمام عليه السلام: «تعالوا بحقيقةٍ ومعرفة»، بل قال: «تعالوا وزوروا»، ونحن قد أتينا!
لم يقل الإمام عليه السلام: «من زارني عارفًا بحقّي»، بل قال: «من زارني». ونحن نقول: «نحن أناسٌ قليلو الفهم، وعليك أن تأتي إلى قليلي الفهم!» فسيأتي حينها الإمام إن شاء الله، فهو في منتهى الرحمة! أمّا قولُ الإمام الرضا عليه السلام بأنَّ مَن قَرَأ الزيارةَ ولَوْ مِن بُعْدٍ فذلكَ كافٍ، فمعناهُ أنَّها كافيةٌ لِمَن لا يستطيعُ الذَّهابَ للزيارة. إنّ رغبة الإنسان في لقاء محبوبه هي مسألةٌ فطريّةٌ ووجدانيّة. الآن وحيث إنّ أيدينا لا تصل إلى تلك الولاية، فلنذهب على الأقلّ ونزر مرقده الشريف. إنّ زيارة مرقد الإمام المطهّر هي زيارةٌ للولاية؛ وإلّا، فإنّ ولاية الإمام تقترن بالجميع دائمًا، وهي أقرب إلينا من أنفسنا.
إنّ كلّ من يُحبّ محبوبًا، يريد أن يُقرّب نفسه منه، وهذه من القضايا الفطريّة التي "قِيَاسَاتُهَا مَعَهَا". والآن حيث إنّ الإمام عليه السلام ليس حاضرًا بيننا، فإنّنا نذهب ونزور قبره وبدنه. إنّ تعلّق الولاية بذلك البدن أقوى من سائر جهات عالم الكثرة! ويجب على الإنسان أن يذهب إلى هناك ويزور. لذلك يقول الإمام: «من زارني»؛ أي: أن يبذل شيئًا من نفسه ولا يكتفي بقول: «نحن من شيعتكم»، فمن كان من شيعتنا، عليه أن يُقرّب نفسه منّا ويدخل في هذا الحريم!
| طاعت از دست نیاید گنهی باید کرد | *** | در دل دوست به هر حیله رهی باید کرد |
يقول:
إن لم تتيسّر الطاعة، فلا بُدّ من ارتكاب ذنب *** إذ لابُدّ من شقّ طريقٍ إلى قلب الحبيب بأيّ حيلة.
لا بُدَّ مِن تَدَبُّرِ حيلةٍ ما لكي يضعَ الإنسانُ نفسَه في حَرَمِ ذلكَ المحبوب. فمَن يأتي لزيارةِ الإمام، فكأنَّهُ يقول: «ها أنا ذا قَد جِئت».
في الوقتِ الراهِن، يذهبُ الناسُ لزيارةِ الإمامِ الرضا عليه السلام في ساعةٍ واحدة، بينما كان الأمرُ يستغرقُ سابقًا ثلاثةَ أشهُر، بل كانَ مِن المُحتَمَلِ أن يفقِدوا أرواحَهُم في طريقِ زيارته! فقد كانَ اللصوصُ يُغيرونَ على القوافِل ويُبيدونَ مَن فيها، ورغمَ هذا الوضعِ كانَ الناسُ يذهبونَ للزيارة!
والذينَ كانوا يقصدونَ زيارةَ سيّدِ الشهداءِ عليه السلام في زمنِ المُتَوَكِّل، كانَ يُقتَلُ مِنهُم واحِدٌ مِن كُلِّ اثنينِ، ويُؤذَنُ للآخرِ بالذهابِ للزيارة!۱ ومع ذلكَ، استمرَّ الناسُ بالذهابِ للزيارة! ومَن يُقتَل في هذا الطريقِ فهو شهيدٌ قَطعاً! وهذا الجانِب، هو الجانِبُ الباطِنيّ.
تأثيرُ طهارةِ الباطنِ وخبثِهِ في الكلام
إذن هذا الكلام الذي أقوله له جانبان:
جانبٌ ظاهرٌ وهو المشهود والمسموع للجميع.
وجانبٌ آخر باطنٌ لا يدركه كلّ أحد، وإدراك الجانب الباطن يتطلّب آلة إدراكٍ خاصّة.
| چو بِشنَوى سُخَنِ اَهلِ دِل مَگو كِه خَطاست | *** | سُخَنشِناس نَهاى جانِ مَن خَطا اينجاست٢ |
والمعنى:
إذا سمعت كلام أهل القلوب فلا تقل إنّه خطأ *** فلستَ خبيرًا بالكلام يا عزيزي، والخطأ هنا.
ويقول أيضًا:
| انوار جمال توست در دیده هر مؤمن | *** | آثار جلال توست در سینه هر کافر٣ |
والمعنى:
أنوارك جمالك في صدر كلّ مؤمن *** آثار جلالك في صدر كلّ كافر
الخبير بالكلام يُميّز ويفهم مصدر هذا الكلام، هل هو الهوى أم الله؟ بعض الذين لديهم خُبثٌ في الباطن، عندما يتكلّمون، يتّضح من كلامهم مدى خبث باطنهم، وهذا لا يدركه كلّ الناس. كان هناك رجلٌ في الماضي، خطيبٌ مفوّهٌ ومشهورٌ جدًّا، وله كتبٌ عديدة. لم أكن أعرفه ولم أسمع صوته، ولكنّي قرأت كتبه. في يومٍ من الأيّام، قبل ٢٢ عامًا، كنّا في منزل أحد الأصدقاء ـ حفظه الله ـ في مشهد، وكان هناك مسجّلٌ ولم يكن صاحب البيت موجودًا، فشغّلته فانبعث صوتٌ بالتحدّث، وفي تلك اللحظة انقبض قلبي فجأةً وقلت: «يا للعجب، من هذا؟! أيّ أعجوبةٍ هذا! بمجرّد أن تكلّم غيّر حالي، وظهرت فيّ حالةٌ من الظلمة والكدورة!»
فقلت لصديقي: «من هذا؟!»
قال: «إنّه الدكتور علي شريعتي».
قلت: «وهل تستمع إلى هذا؟!».
ما سبب حالة الظلمة هذه؟ هذا ليس أمرًا اعتباريًّا، فأنا لم أسمع باسمه ولم أكن أعرف شيئًا، فلماذا حدثت هذه الحالة؟! لأنّ تلك الجهة الظلمانيّة تنتقل! «آثار جلاله في صدر كلّ كافر»، عندما يكون لدى إنسانٍ كدورة، فإنّ كدورة النفس تتصاعد من صوته! وفي المقابل، الإنسان الذي يتمتّع بنورانيّة النفس، فإنّ صوته يغيّر الحال. استمعوا إلى شريطٍ واحدٍ للمرحوم العلامة وانظروا هل يتغيّر حالكم إلى الأفضل أم لا؟ عندما يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم»، ينقلب كيان الإنسان! هذا بسبب ذلك الجانب الأمريّ. «بسم الله الرحمن الرحيم» يقولها الجميع، وأنا أقولها أيضًا؛ ولكن بين التي أقولها أنا والتي يقولها المرحوم العلامة، مسافةٌ كالمسافة بين الأرض والعرش! وهذا بسبب الجانب الربّانيّ والأمريّ والباطنيّ للقضيّة.
عندما يتكلّم، يتقدّم معه ذلك الجانب الأمريّ، وعندما تنطبع «بسم الله الرحمن الرحيم» في الأذن، تنطبع في النفس في الوقت نفسه الجهة الرحمانيّة! وهذه الكيفيّة تعود إلى ذلك الجانب الأمريّ للمسألة، والذي يتحرّك مع هذا الجانب الظاهر، كلاهما معًا، ويدخل في جهاز التسجيل هذا، لأنّ الظاهر ليس منفصلًا عن حقيقة الباطن.كان الأنطاكيّ قاضيًا في الشام، وقد كتب كتابًا باسم «لماذا اخترتُ مذهب الشيعة مذهب أهل البيت». لقد تشيّع وذكر أدلّة تشيّعه في هذا الكتاب. وضع صورته عندما كان قاضي القضاة في أوّل الكتاب، وصورته بعد أن تشيّع في آخر الكتاب. ضعوا هاتين الصورتين جنبًا إلى جنب وانظروا إلى هذين الوجهين. الوجه الأوّل هو حقًّا وجهٌ قاسٍ، عينان حادّتان، كأنّه يريد أن يضربك بسيف، ولكنّ الوجه الثاني مظلومٌ، ومتواضعٌ، ونورانيٌّ، وفيه بهجة! هذا بسبب ذلك الجانب الأمريّ. إذن، الجانب الأمريّ يؤثّر في الصورة الظاهريّة أيضًا ويُغيّرها.
بناءً على ذلك، فإنّ العمل الذي نقوم به له جانبان: جانبٌ ظاهرٌ وجانبٌ باطنٌ.
إن شاء الله، إذا وفّقنا الله سأتابع تتمّة المسألة في الجلسة القادمة.
اللَّهُمَّ صلِّ على محمَّدٍ و آلِ محمَّد