13

معنى الفقر إلى الله

ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

31
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1423

التاريخ 1423/09/13


التوضيح

ما هي حقيقة العلاقة بين العبد وربّه؟ هل هي عقودٌ متبادلة بين طرفين أم علاقة من طرفٍ واحد؟ ما هو الطلب الحقيقيّ للعارف بالله؟ وكيف تكون تجربة الفناء صعبة حتّى للسالكين الكبار؟ تجيبك هذه المحاضرة، وهي الدرس الثالث عشر من سلسلة دروس «تعاليم المعرفة»، عن هذه الأسئلة وغيرها من الأفكار العرفانيّة العميقة.

/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • معنى الفقر إلى الله 

  • ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله 

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٣ هـ - الجلسة الثالثة عشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم

  • ‌ بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحیم

  • ‌ وصلَّى اللهُ عَلَى سیّدنا ونبیّنا أبی‌القاسمِ محمدٍ

  • وعلَى آلهِ الطّیبینَ الطّاهرینَ

  • واللعنةُ الدائمةُ عَلَى أعدائِهِم أجمَعینَ.

  •  

  •  

  • «وَ قَدْ قَصَدْتُ إِلَیْكَ بِطَلِبَتِي، وَ تَوَجَّهْتُ إِلَیْكَ بِحَاجَتِي، وَ جَعَلْتُ بِكَ اسْتِغَاثَتِي، وَ بِدُعَائِك تَوَسُّلِي، مِنْ غَیْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِاسْتِمَاعِك مِنِّي، وَ لَا اسْتِیجَابٍ لِعَفْوِك عَنِّي، بَلْ لِثِقَتِي بِكرَمِك، وَ سُكونِي إِلَی صِدْقِ وَعْدِك، وَ لَجَئِي إِلَی الْإِیمَانِ بِتَوْحِیدِك، وَ یَقیني بِمَعْرِفَتِك مِنِّي أن لَا رَبَّ لِي غَیْرُك».

  • يقول الإمام عليه السلام: لقد قصدتُك وطلبتُك، ووجّهتُ حاجتي إليك، وجعلتُ الإستغاثة ببابك، والتوسّل بدعائك وطلبك؛ لا لأنّني أهلٌ أن تسمعني وتصغي لي وتلتفت إليّ، وتجعلني مستوجبًا لعفوك، بل إنّ جميع هذه الأمور نابعةٌ من ثقتي بكرمك وجودك وشعوري بالسكينة والاطمئنان إلى صدق وعدك، والتجائي إلى الإيمان بتوحيدك، واليقين الذي استقرّ في نفسي بمعرفتي بك؛ بأنّه لا ربّ لي سواك، ولا إله غيرك، وأنّه لا شريك لك في التوحيد.

  • هل علاقتنا بالله عقدٌ متبادل أم معاملة من طرف واحد؟

  • كان الحديث في الليالي الماضية يدور حول سبب عدم استحقاقنا لأن يستمع الله إلينا...، فما هو السبب في ذلك؟ فهل على الباري تعالى أن يلتفت إلينا في عبادتنا له وطلبنا منه ورفع حوائجنا إليه أم لا؟ وهل وظيفته أن يُقبل علينا أم لا؟ وهل هذا أمرٌ متبادل وعقدٌ بيننا وبينه، بحيث إذا اتّجهنا نحو الله، فيجب عليه أن يتّجه هو نحونا؟ هل أُبرم مثل هذا العقد في العالم؟ هل جرت مثل هذه المعاملة بينه وبين أحد من خلقه عندما خلقهم؟ وهل قال لهم: يا عبادي، أنا أخلقكم وآتي بكم إلى هذه الدنيا، فلنعقد معًا صفقة: أنتم تأتون نحوي وأنا آتي نحوكم، وإن لم تأتوا أنتم إليّ، فلن آتي أنا أيضًا؟ هل الأمر هكذا، أم أنّ المسألة مختلفة تمامًا؟ بمعنى أنّ العقد من طرفٍ واحد! وليس من طرفين. 

  • يُحكى أنّ شابًا أراد أن يتزوّج ابنة الملك، والطُموح ليس عيبًا على الشباب فسألوه: ماذا فعلت لهذا الأمر؟ قال: أنجزت خمسين بالمئة من الأمر، لكنّه من جهتي أنا، أمّا من جهتها فحتى الآن ليس هنالك أيّ خبر! هنا القضيّة من طرفٍ واحد. سواء حسبتها خمسين بالمئة أو مئة بالمئة، فما الفائدة إذا لم يأتِ خبرٌ من الطرف الآخر؟ لم يُبرم أيّ عقدٍ هنا، ولا توجد أيّ معاملة، لأنّ المعاملة مُلزِمة التنفيذ للطرفين.

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

3
  • الفرق بين المعاملات اللازمة وغير اللازمة في الفقه

  • في المعاملات، وتحديدًا العقود اللازمة، وهي المعاملات التي يُلزم فيها الطرفان بتنفيذ بنود وشروط المعاملة، مثل البيع والهبة المعوّضة، أو الإجارة، أو النكاح؛ فالشروط الموجودة في النكاح أو البيع والشراء وأمثال ذلك من المعاملات اللازمة، تكون شروطها ملزمة لكلا الطرفين، فإذا أخلّ أحد الطرفين بتلك الشروط ثبت للطرف الآخر خيار إبطال العقد والفسخ.

  • وهناك نوعٌ آخر من المعامَلات هي المعاملات غير اللازمة من طرفٍ واحد وإن كانت لازمة من الطرف الآخر. لنفترض أنّ معاملةً ما قد تمّت، ولكنّها لازمة من جانبٍ واحد فقط، أمّا الطرف الآخر فقد تكون يده مبسوطة؛ كأن يتمّ عقد بيع ويشترط لنفسه حقّ الفسخ متى شاء، فيقول: أنا أفسخ هذه المعاملة متى أردت. ويقول الطرف الآخر: حسنًا، أنا أقبل بهذا الشرط. فالشرط ليس متبادلًا؛ بل أحد الطرفين يمكنه فسخ المعاملة متى شاء، أمّا الطرف الآخر فلا يستطيع، إذ قد سُلب منه حقّ الفسخ. أو مثل الهبة غير المعوّضة، حيث يمكن للواهب أن يسترجع هبته متى شاء. فلو وهبتَ كتابًا لشخصٍ ما، طبعًا بشرط ألّا يكون من ذوي الرحم، والمقصود بالرحم هنا الأقارب النسبيّون المقرّبون كالأخ والأخت والعمّ، وليس ابن عمّ جدّ الأب أو ابن عمّ بنت الخالة! فيمكنك استرجاع هذا الكتاب متى شئت، بشرط ألّا يكون قد غيّره أو بدّله. هذه معاملة من طرفٍ واحد، وتسمّى بالمعاملات غير اللازمة.

  • لماذا علاقتنا بالله من طرف واحد؟

  • كيف هو حال علاقتنا بالله؟ هل عقدنا مع الله عقدًا واشترطنا عليه فقلنا له: يا ربّ، نحن نتوجّه إليك ونطلب منك حاجاتنا، ومن جهتك أنت عليك أن تقضيها! هل الأمر هكذا؟ أم أنّ المعاملة من طرفٍ واحد؟ الحق أنّ المعاملة من طرفٍ واحد، ولذا علينا أن نتوجّه إلى الله بكلّ ما لدينا، فإلى أين نذهب إن لم نتّوجه إلى الله؟ فالله تعالى لم يأتِ ليوقّع على تعهّدٍ ويقول: سأوقّع على العقد وأفعل كلّ ما تطلبونه. لا وجود لشيءٍ من هذا القبيل أصلًا. يجب علينا أن نتوجّه إلى الله ونرجع إليه، ويجب أن نقبل في قرارة أنفسنا أنّ معاملتنا مع الله هي من طرف واحد فقط.. ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلغَنِيُّ ٱلحَمِيدُ﴾۱. الفقر من جهتكم أيّها الناس، لا من جهتي؛ الحاجة من جانبكم، لا من جانبي. إن كنت لا تصدّق، فجرّب ذلك بنفسك، لا مجاملة هنا، اذهب وجرّب لتتأكّد من ذلك. 

    1. سورة فاطر(٣٥) الآية ۱٥.

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

4
  • يقولون بأنّ جملة ﴿أَنتُمُ ٱلفُقَرَآءُ﴾ جملة اسميّة تدلّ على حصر الثبوت، أي أنّكم أنتم الفقراء. وهنا يوجد تأكيد؛ فقد بدأ بـ ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ﴾، ثمّ خاطبهم مرّة أخرى بـ ﴿أَنتُمُ﴾. يا أيّها الناس أنتم الفقراء إلى الله، لستم فقراء إلى أنفسكم، ولا إلى أمثالكم، ولا إلى أشباهكم، بل أنتم فقراء إلى الله وحده.

  • كم هو جميلٌ أن يكون الإنسان فقيرًا إلى الله! كم هو جميلٌ أن يعلم الإنسان أنّ مولاه هو الله! كم هو جميلٌ ألّا يسمح الإنسان في توجّهاته بدخول أحدٍ غير الله! ألّا يسمح لصديقه بالدخول في علاقاته مع الله، ولا يسمح لأخيه، ولا لأخته، ولا لقريبه، ولا لصديقه، ولا للواسطة، ولا للعلاقات، ألّا يسمح لجميع هؤلاء بالدخول في علاقاته، وأن يكون الله وحده في قلبه... .

  • لا تظنّوا أنّني أمزح هنا! بل هذا الأمر هو أقلّ ما يجب أن يمتلكه السالك. [أما أن تقول] أنا أفعل هذا الفعل لفلان على أمل أن يأخذ بيدي ويساعدني لاحقًا، أنا أفعل هذا على أمل أن يحدث كذا لاحقًا،... يا عزيزي، كلّ هذا هراء وباطل. لقد جرّبوا وجرّبنا وسيجرّبون، والنتيجة كانت وستكون واحدة. يجب علينا فقط وفقط أن نطلب الله في وجودنا، وأن نسأل أنفسنا: ماذا يريد الله منّا؟

  • ﴿أَنتُمُ ٱلفُقَرَآءُ﴾ إلى الله فقط، أمّا من جانبه تعالى فلا، لا فقر هناك ولا حاجة. بل ﴿وَٱللَّهُ هُوَ ٱلغَنِيُّ ٱلحَمِيدُ﴾. الله غنيّ ومستغنٍ. إذًا، فالمعاملة من طرفٍ واحد، وهي من جانبنا فقط. نحن لا خيار لنا، أمّا هو فيده مبسوطة؛ يفسخ المعاملة متى شاء، من دون أن يبالي بأحد! من يستطيع أن يعترض أو يتكلّم؟ ويقول: لماذا؟ أو يقول: كيف؟ من له حق أن يسأله أو يحاسبه؟ ﴿وَٱللَّهُ هُوَ ٱلغَنِيُّ ٱلحَمِيدُ﴾، الله هو الغنيّ والمستغني عن الجميع، وهو الحميد. أي أنّ جميع المحامد تعود إليه، وكلّ الثناء موجّه إليه. «الحميد» هو الذي يستأثر بكلّ حمدٍ لنفسه، فلا يُبقي لغيره شيئًا. أيّ ثناءٍ وحمد يُقال فهو له. فهو اسم على صيغة «فعيل»، وهو من أسماء الشرف، مثل ظريف وشريف ولطيف.

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

5
  • كيف نثق بالله وهو غير ملزَم بعقد معنا؟

  • لكنّ الإمام هنا يلفت النظر إلى فكرةٍ عظيمة جداً. يقول: صحيح يا إلهي أنّ المعاملة من طرفٍ واحد، ولكنّك أنت الذي قلت هذا الكلام. فأنت وعدت، وقلت: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾۱. أنت الذي قلت: تعالوا إليّ، والصادق والشهم هو من يفي بكلمته. وبما أنّنا نعتبرك صادقًا ـ بل إذا كان هناك صادق واحد في العالم فهو الله ـ فإنّنا نثق بك. ومن الجميل جدًا أن يلتزم الإنسان بالكلمة التي ينطق بها، وألّا يغيّرها، إلّا إذا تبيّن أنّها كانت خطأ، وحينئذٍ يغيّرها. فليس معنى الرجولة أن يتمسّك الإنسان بكلمته وإن كانت خاطئة.

  • قصّة الشيخ الحائري وتلميذه: هل كلمة الرجل تبقى واحدة؟

  • يُقال إنّ المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائري كان يلقي درسًا، وكان من بين تلامذته المرحوم الآخوند الحاج ملّا علي الهمداني. وفي إحدى الجلسات، جرى نقاش بينهما، وهكذا هي دروس طلبة العلم، لا يقبل التلميذ كلّ ما يقوله الأستاذ، ويجب على الأستاذ أن يجيب على إشكالات تلميذه، وأما التعبّد بأنّ «السيد فلان قال» فلا مكان له في أبحاث طلاب العلم، بل يجب أن يكون المطلب صحيحًا ليقبل به. وقد يحصل في بعض الأحيان، أن يقتنع الأستاذ برأي التلميذ فيصحّح كلامه ويؤيّده.

  • والحاصل، جرى نقاش بينهما، وأصرّ كلّ منهما على رأيه إلى أن انقضت تلك الجلسة. وفي اليوم التالي، حضر المرحوم الآخوند ملّا علي، وكان الشيخ عبد الكريم قد راجع المسألة في الليلة السابقة واقتنع برأي المرحوم الآخوند، فبدأ بتقرير رأي تلميذه. وفي المقابل، كان الآخوند ملّا علي قد طالع المسألة في تلك الليلة واقتنع برأي أستاذه الشيخ! أي أنّهما تبادلا المواقع؛ حيث تبنّى الأستاذ رأي التلميذ، والتلميذ تبنّى رأي الأستاذ. فدار النقاش بينهما من جديد! فكان الآخوند ملّا علي يقول: «ينبغي للرجل أن يقف عند كلامه!»، فيجيبه الشيخ: «من قال ينبغي أن يقف الرجل عند كلامه؟ الرجل هو الذي إذا رأى أنّه مخطئ، قال: أنا أخطأت». كان المرحوم الشيخ عبد الكريم يقول: «أنا أخطأت بالأمس»، وما دليلك على وجوب الالتزام بالكلام السابق وإن كان مخطئًا، كلا! بل عندما يرى الإنسان أنّه مخطئ يجب أن يتراجع ويصحّح. ولكن إذا رأى أنّه ليس مخطئًا فعليه أن يثبت حتى النهاية، وألّا يتنازل أبدًا، فمن يتنازل يكون قد خسر.

    1. سورة البقرة (٢) الآية ۱۸٦.

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

6
  • لا تتوقّع شيئًا مقابل العبادة

  • نعم يا عزيزي... يقول الإمام عليه السلام إذا وجدنا شخصًا واحدًا يمكننا أن نثق بكلامه، فهو أنت يا إلهي، لا تظنّ أنّني أتوقّع منك استماعًا أو إجابة أو قبولًا، أبدًا أبدًا. لا تخطر هذه الأمور في مخيّلتي أصلًا! في العمل الذي أقوم به والعبادة التي أؤدّيها، لا يخطر ببالي أبدًا أن تفعل بي كذا، ولن يخطر ببالي ولو بعد مئة عام. أن يكون قصدي في صلاتي التي أصلّيها هو أن تنظر إليّ نظرة لطف، أو أن يكون مقصدي في دعائي الذي أدعوه هو أن تلتفت إليّ التفاتة، أو أن يكون قصدي في حجّي الذي أذهب إليه هو أن تنظر إليّ نظرة. أبدًا. لو خطر هذا في مخيّلتي، لكان حجّي باطلًا، وعبادتي باطلة؛ ليس بطلانًا شرعيًا وعدم إبراء، بل يكون بطلانًا معنويًا.

  • لو ذهبتُ لزيارة الإمام الحسين عليه السلام، وكان قصدي: بما أنّني جئت الآن لزيارة الإمام الحسين عليه السلام، فيجب عليه أن يلتفت إليّ ويستقبلني، فإنّ زيارتي هذه قد بطلت عند أهل العرفان، ولم تعد هذه الزيارة مقبولة.

  • نعم، عامة الناس الذين يعتبرون أنفسهم من أهل الولاية والمجالس، يقولون الكثير من هذا الكلام. يذهبون من البداية ويشترطون، مثلًا: «يا أمير المؤمنين، نأتي إلى هنا بشرط أن...». في سفرنا الأوّل لزيارة العتبات المقدّسة، قبل حوالي خمس أو ست سنوات، بعد انقطاع دام لأكثر من عشرين عامًا بسبب إغلاق الطرق، كان معنا في حملة الزيارة رجلٌ مسنٌ من يزد، كان رجلًا ظريفًا جدًا، وكان يقوم بأعمال جيدة ، وله حاله وأجواؤه الخاصّة، فكان كثير البكاء، وكثير الصلاة على النبي وآله، وكان يضفي على المجموعة جوًا من الحيوية. في أحد الأيام، رأينا شيئًا في يده، فسألناه: «ما هذا الذي تحمله؟». قال: «لقد أخذتُ كتاب الدعاء كرهينة من حرم السيدة رقية عليها السلام، حتّى أعود سالمًا». أنظروا! لقد ذهب إلى حرم السيدة رقية وأخذ كتاب دعاء ووضعه في حقيبته كرهينة، كي لا يحدث له مكروه في العراق! كنّا نضحك، فقد كان لديه الكثير من هذه التصرّفات، وكنّا سعداء به، ننتظر أمثاله لنستأنس بهم. كنّا نمازحه، طبعًا ضمن حدوده، دون أن نؤذيه.

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

7
  • حسنًا، بعض الناس هم هكذا، والأئمة عليهم السلام يقبلون منهم ذلك. يقبلون هذه الحالات وهذه الكيفيّات، يقبلونها منهم. أمّا أهل الله وأهل العرفان وأهل الطريق، فليسوا هكذا، إنّهم يعاملون الله من طرفٍ واحد فقط. يقولون: «يا إمام حسين، جئنا لزيارتك» هذا كلّ شيء، انتهى! لا يريدون أيّ شيء آخر أصلًا. إن ماتوا هنا فقد ماتوا، وإن بقوا أحياءً فقد بقوا، وإن عادوا سالمين فقد عادوا، وإن جُرحوا فقد جُرحوا، وإن قضيت حاجتهم فبها، وإن لم تُقضَ فلا بأس؛ لأنّ القضية من طرفٍ واحد فقط. فأهل التوحيد ينظرون في العبادة إلى جهة واحدة، ونظرهم منصبّ على الوحدة فقط، هم يصلّون لأنّ فعلهم منطلق من: «وجَدتُكَ أهلًا للعبادةِ فعبدتُك».۱

  • لو رُفع عنا وجوب الصلاة، فهل كنا سنصلّي؟

  • يقول أمير المؤمنين عليه السلام: لسنا من فئة التجّار الذين يعقدون الصفقات معك يا الله؛ نعبدك مقابل أن نشتري الجنّة، ولسنا من الذين يعبدونك فرارًا من نارك وعقابك. لا، لا وجود لهذه الأمور أصلًا. عملنا هو من طرفٍ واحد. يقول الإمام عليه السلام: عملنا له جانب واحد فقط، وهو أنّنا وجدناك أهلًا للعبادة فعبدناك. يا إلهي، إنّ كان لا بدّ أن أمدّ يدي إلى أحد، فستكون أنت فقط لا سواك، وإنّ كان لا بدّ أن أتوجّه لشخصٍ ما، فهو أنت لا غيرك، وإنّ كان لا بدّ أن أعبد أحداً، فستكون لك العبادة لا لأحد دونك.

  • إذا سألنا أنفسنا هذا السؤال الليلة ـ أي ليلة هذه؟ الظاهر أنها ليلة الثاني والعشرين من شهر رمضان المبارك لسنة ۱٤٢٣ هجرية قمرية في مدينة قم المقدّسة ـ لو نزلت الملائكة وقالت لقد رفعنا عنكم وجوب الصلاة، ولم تعد الصلاة واجبة عليكم، بالله عليكم! هل كنّا سنستيقظ صباحًا ونصلّي؟ بيننا وبين الله؟ نعم؟... أتصلّون أم لا؟ ربّما لا يجيب الجميع نعم! لكن لا تظنّوا أنّكم تصلّون لأنّها صارت عادة عندكم. أتلاحظون أنّكم تنجذبون نحو جهة ما عند صلاتكم؟! هذا الانجذاب هو فقركم، هو حاجتكم. هل كنتم ملتفتين إلى هذه القضية من قبل؟ تقولون يا إلهي! إن لم نعبدك فماذا نفعل؟ هل نكتّف أيدينا ونجلس هكذا؟ إذن المسألة ليست عادة!

    1. تفسیر الصافی، ج ٣، ص ٣٥٣، الوافي ، ج ٤، ص ٣٦۱ ، معرفة الله، ج ٢، ص ۷٢.

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

8
  • ربما تشعرون براحة كبيرة وتقولون يا سلام، سننام ونستريح، خاصة إذا كان الفراش ناعمًا ودافئًا والجو باردًا وكنت تجلس تحت الكرسي..

  • لقد وضعنا كرسيًا في الطابق العلوي، وتركنا الأبواب في الغرف مفتوحة، والريح تهبّ بقوّة، تدخل من هذه الجهة من الباب والنافذة وتخرج من باب الشرفة من الجهة الأخرى، بحيث يتجمّد الإنسان من شدّة البرد، لكنّنا كنّا نجلس تحت الكرسي بسعادة كبيرة. وكان ينقصنا وجودكم فقط [مزاح].

  • ما هو السبب الذي جعل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ـ عندما رُفع وجوب صلاة الليل عن الناس وبقي الوجوب بالنسبة إليه فقط ـ عندما خرج إلى أزقّة المدينة وتجوّل فيها، رأى أن «لَهُم دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحلِ». كانت أصوات المناجاة والقرآن تتصاعد من نوافذ البيوت كأنّها دويّ النحل. وكان النبيّ قد خرج ليرى هل سيبقى الناس ملتزمين بعبادة الليل بعد أن رُفع عنهم الحكم أم لا؟ طوبى لهم.

  • ما هو الطلب الحقيقي للعارف؟

  • لو كان لدينا جزء واحد من مليار جزء ممّا كان لدى أمير المؤمنين عليه السلام، لفعلنا مثل أمير المؤمنين عليه السلام في تلك الحالة الروحية التي يعبد فيها الله، حيث لم يكن يرى أصلًا أيّ حاجة في وجوده ليجعل عبادة الله من أجلها. حتّى العبوديّة! انظروا! حتّى العبوديّة، وحتّى الفناء، وحتّى جماله، وحتّى وصفه، لا شيء لا شيء أبدًا، لا يرى أيّ شيء أصلًا [غير الله]، يصلّي ويقول: الله أكبر، ﴿بِسمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٱلحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلعَٰلَمِينَ﴾، ثمّ «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»، ولا يشعر بوجود دعاءٍ أو طلب في كيانه [ليحصل عليه من هذه الصلاة].

  • إذًا، ما هو هذا الطلب الذي يتحدّث عنه الإمام السجّاد عليه السلام هنا؟ إنّه ذلك الاشتياق الذي يلازم الإنسان في كلّ أحواله، ليس فقط في وقت الصلاة والمعاملة، ولا مخصوص في وقت الصوم والحجّ والزكاة ودفع الخمس... بل هو ذلك الاشتياق الدائم فينا، وهو أن يمنح الله الإنسان مقام العبوديّة. هذا الطلب هو الذي يقول عنه الخواجة حافظ الشيرازي:

  • لن أكفّ عن الطلب حتّى أنال مرادي***فإمّا أن تصل الروح إلى المحبوب أو تخرج الروح من الجسد 

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

9
  • وبعد وفاتي افتحوا قبري وانظروا***كيف يتصاعد الدخان من كفني بسبب نيران قلبي
  • هذه «النار الداخلية» هي ذلك الطلب، الطلب الذي يقتضي أن تصل الروح إلى المحبوب. يريد الإمام السجّاد أن يقول: يا عزيزي، لا تضيّع وقتك على الحمص والفاصوليا وغزل البنات والشمندر والبوشار وأمثالها، وانظر إلى ما قال حافظ، قال حتى تصل الروح إلى المحبوب. نعم، اذهب خلف تلك القضية. بالطبع، لا ينبغي للإنسان أن يطلب شيئًا سوى الله، حتّى لو كان شيئًا صغيرًا، فالصغير والكبير عنده سواء. ولكن ما يجب أن يكون نصب عينيه، وما يجب أن يصبّ همّته فيه، هو الفناء فيه والعبوديّة له، لا غير.

  • قصص عن صعوبة تحمّل التجلّي الإلهي

  • قصة الذين جاؤوا إلى الإمام الحسين ولم يتحملّوا

  • نقل لنا المرحوم الوالد العلامة يومًا أنّ جماعةً جاؤوا إلى الإمام الحسين عليه السلام، وكانوا من الذين اشتغلوا على أنفسهم، على غرار أصحاب النبي موسى السبعين الذين كانوا من ذوي الخبرة والسعة الروحية والذين كانوا متميّزين عن سائر الناس؛ ﴿وَٱختَارَ مُوسَىٰ قَومَهُۥ سَبعِينَ رَجُلا﴾۱ ليحضر بهم إلى ميقاتنا للقاء الله، وليشاهدوا آثار أنوار الجمال والجلال الإلهي. لكن عندما جاؤوا إلى هناك، أخبر الله تعالى عن النبي موسى عليه السلام: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُۥ لِلجَبَلِ جَعَلَهُۥ دَكّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقا﴾٢، [أما هم فماتوا] ولم يستطيعوا التحمّل.

  • جاء هؤلاء إلى الإمام الحسين عليه السلام، وقالوا: «يا إمام حسين، نريد أن تصلح أمرنا». يبدو الكلام سهلًا باللسان. فقال لهم الإمام: «لن تتحمّلوا»، لكنّهم لم يفهموا مراد الإمام الحسين.. وأصرّوا عليه فقالوا: «لا فائدة [من الاعتذار]». وظنّوا أنّ الأمر سهل كاللبن بالخيار أو غير ذلك.. فقال الإمام: ليتقدّم أحدكم الآن، ولنرَ ماذا سيحلّ به. وبعد ذلك، إن أردتم، فليأتِ واحد تلو الآخر. لن أتجلّى عليكم دفعة واحدة، فلو فعلنا ذلك لاضطربت أوضاعكم وحياتكم. فنادى الإمام: من يتقدّم منكم؟ فقام أحدهم وقال: أنا! طوبى له ويا لسعادته! ذهب ثمّ عاد، فرأوه مرتبكًا مشوّشًا، كأنّه مصعوق، لا يتكلّم ولا يفعل شيئًا! يا لهول ما حلّ به! فقال الباقون: لا، لا، إذا كان الأمر هكذا وكنتم ستفعلون بنا ذلك فنحن لا نريد.. ثم قاموا وانصرفوا. نعم.

    1. سورة الأعراف (۷) الآية ۱٥٥.
    2. سورة الأعراف (۷) الآية ۱٤٣.

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

10
  • قصّة صاحب الإمام الباقر علیه السلام

  • أو كما في القصّة المتعلّقة بأحد أصحاب الإمام الباقر عليه السلام، أظنّه أبا بصير أو أبان، لست متأكدًا، فقد جاء إلى الإمام وقال: يا ابن رسول الله، أريد أن تعرّفني على حقيقة التوحيد، وأن تكشف لي عن أسراره. فقال الإمام: لن تتحمّل! قال: لا بل أتحمّل. فقال الإمام: حسنًا. ثمّ وضع الإمام يده على الأرض، فجأةً! فشعر الرجل بأنّ الظلام بدأ يحلّ شيئًا فشيئًا،إلى أنّ دخل هذا الظلام فيه وبدأ يضغط عليه، وكادت عظامه تتكسّر. فصرخ: «يا ابن رسول الله، كفى لقد أخطأت! واشتبهت!». فرفع الإمام يده، وعاد كلّ شيء إلى حاله.۱

  • قصّة الشيخ الآملي ولقائه بإمام الزمان عليه السلام

  • ونظير ذلك، ما ذكره المرحوم الوالد العلامة في كتاب «التوحيد العلمي والعيني» على ما أظنّ، في أحوال المرحوم السيد أحمد، أو ربّما في كتاب «معرفة المعاد»، حول قصّة الحاج الشيخ محمد تقي الآملي، الذي اعتكف في مسجد السهلة أربعين ليلة أربعاء للقاء حضرة بقيّة الله أرواحنا فداه. وفي الليلة الأخيرة، شعر فجأةً بنورٍ يقترب منه، وهو وجود الإمام نفسه، فجاء النور وأحاط به وبدأ يشعر بالضغط عليه، فضغط على كلّ كيانه وجميع وجوده بأنواره القاهرة، لدرجة أنّ الشيخ الآملي أقسم على الإمام بأسماء الله الجماليّة والجلاليّة أن يتركه ويخلّصه، يا سيدي، لا نريد هذا اللقاء الذي يوصلنا إلى هذه الحال ويدمّرنا! نريد إمام زمانٍ لطيفًا، حنونًا، يداعبنا ويلاطفنا [ضحك]، أمّا هذا الإمام الذي يسحقنا ويحطم وجودنا... فلا نريده... فتركه الإمام.

  • ولكن لو سألني هذا العبد [عن رأيي] لقلت إنّه خسر؛ لأنّ الإمام لا يأتي ويفعل ذلك إلا لأجل انتزاع هذه النفس من تعلّقاتها؟ هذه الحالة التي شعر بها هي حالة الخروج من التعلّقات، حالة إزالة تلك المنافذ المرتبطة بحبال متينة بالتعلّقات والدنيا والكثرات، وقد أراد الإمام بأنواره القاهرة أن يوجّه الضربات إلى هذه المنافذ والحبال ويقطعها. فحتى لو متّ، فليكن! فأيّ سعادة أعظم من أن يموت الإنسان في مثل هذه الحالة ويفنى في إمام زمانه؟ أيّ سعادة أعظم من أن يأتي الإمام بتصرّفه الولائي ويخرجنا من أنفسنا؟ فالأمر الذي يبحث عنه الإنسان في كلّ الدنيا ويسعى خلفه قد أقبل إليه بنفسه، أتهرب منه وتقول: «لا، اتركني!»؟ فيقول الإمام: حسنًا.

    1.  مناقب آل أبي طالب ج٤ ص ٢٤٥: مَعْرِفَةِ الرِّجَالِ عَنْ أَبِي عُمَرَ الْكَشِّيِ‌ قَالَ عَمَّارٌ السَّابَاطِيُّ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ (علیه السلام) جُعِلْتُ فِدَاكَ أُحِبُّ أَنْ تُخْبِرَنِي بِاسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ الْأَعْظَمِ. فَقَالَ لِي «إِنَّكَ لَا تَقْوَى عَلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا أَلْحَحْتُ عَلَيْهِ قَالَ فَمَكَانَكَ إِذاً»، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ الْبَيْتَ هُنَيْهَةً ثُمَّ صَاحَ بِي ادْخُلْ فَدَخَلْتُ، فَقَالَ لِي «مَا ذَلِكَ»؟ فَقُلْتُ أَخْبِرْنِي بِهِ جُعِلْتُ فِدَاكَ قَالَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ فَنَظَرْتُ إِلَى الْبَيْتِ يَدُورُ بِي وَ أَخَذَنِي أَمْرٌ عَظِيمٌ كِدْتُ أَهْلِكُ فَصِحْتُ فَقُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ حَسْبِي لَا أُرِيدُ ذَا.

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

11
  • إنّ ما يشير إليه حافظ الشيرازي في أشعاره هو هذه الحالة نفسها التي كانت تحدث للشيخ محمد تقي الآملي، ولكنّه لم يستطع أن يتحمّلها. أما لو كان حافظ مكانه، لكان قد قفز وقال: «تعال وحطّمني»: «فإمّا أن تصل الروح إلى المحبوب، أو تخرج الروح من الجسد». لذلك نرى أنّ لكلّ شخصٍ سعة وحدًّا معينًا.. ومن نحن حتى نأتي ونحكم على الناس؟ فنحن لدينا ألف عيب وعيب، ولكنّ الطريق الذي علّمنا إيّاه العظماء وأرشدونا إليه ليس هذا.

  • إنّ المقصود بـ«طَلِبَتِي وَحَاجَتِي» عند الإمام السجّاد، هو إحراز مقام الفناء والعبوديّة. يقول الإمام: «إنّ ذلك الطلب الباطني في نفسي، هو الوصول إلى الفناء والاندكاك في ذاتك، ومحو وإفناء كلّ التعيّنات الاستقلاليّة لوجودي، هذا طلبي وهذه هي حاجتي أتيتُ لأطرحها بنحوٍ ما، فأقول: يا إلهي، صحيح أنّني لا يخطر في ذهني أثناء الصلاة أنّها مقابل شيء، أي أنّني في معاملتي معك لا أرى أنّها معاملة ذات طرفين؛ فأنا أصلّي لك وأصوم لك وأحجّ لك، كلّ هذه الأمور لك وحدك، لكن مع ذلك، فالطلب الذي يدور في نفسي ويرافقني دائمًا، ما هو؟ هو أن أكون عبدًا لك.

  • كيف تعرف أنّ الله لم يُعرض عنك؟

  • ما هو جذر هذا الطلب؟ وما هو أصل وسبب هذه المسألة؟ الأصل فيه هو أنّني أثق بك. يأتي البعض ويقول: «يا عزيزي، إنّ الله لا يلتفت إلينا!». [لكن نقول له:] هذه الحرقة التي في قلبك الآن، من أين أتيت بها وأنت تتّهم الله؟ إذا كان الله لا يلتفت إليك، فمن أين تحصل لك حرقة القلب في البحث عنه؟ ومن أين أتيت بهذا السعي وهذه الحركة وأنت الآن تقول إنّ الله لا يهتمّ بنا؟ ومن أين أتيت بهذا التخلّي الذي به تتخلّى عن الكثير من الأمور لتصل إليه؟ ومن أين أتيت بهذا التفكير وهذه الرغبة وهذا التوجّه الموجود في نفسك وضميرك وقلبك، من أين جاء حتّى جعلك هائمًا مشتاقًا ومتّجهًا نحوه... ثم تأتي وتقول إنّه لا ينظر إليك؟ لو لم يكن ينظر إليك، لأصبح الأمر مختلفًا. لو لم يكن ينظر إليك، لكنت قد توقّفت عن البحث عنه وتركت المسألة، ووقعت في مشكلة كبيرة.

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

12
  • فإذا رأينا أنّنا بدأنا نترك التوجّه والشوق والرغبة إليه فيجب أن ننتبه! وإذا رأينا أنّنا بدأنا نهمل المسألة، وأنّ فكرنا وذهننا كان في الفترة السابقة على نحوٍ والآن أصبح على نحوٍ آخر؛ بحيث كان نظرنا في وقتٍ ما لله وحده، والآن دخلت أمور أخرى غير الله.. دخلت الماديّات وغيرها... وأنّه في وقتٍ ما كان التوجّه إليه وحده، والآن نرى مسائل أخرى: ماذا سيحدث لمستقبلنا؟ إذا فعلنا كذا سيحدث كذا... ورأينا أمور أخرى بدأت تدخل في أذهاننا! عندئذٍ يجب أن ننتبه ونبحث عن الخلل في القضية؟ ويجب أن نسدّ الثغرة بسرعة، وألّا ندعها تتّسع أكثر. وأمّا إذا كان الله قد أعرض عن شخصٍ تمامًا، فإنّه يسلب منه هذه الحالة أيضًا، أي يسلب منه حالة التوجّه إليه للإنابة. وعندئذٍ يبدأ هذا الشخص بالسخرية والاستهزاء والطعن، ويترك القضية أساسًا ويتحرّك وراء أمور أخرى، وهنا يدقّ جرس الخطر. أمّا أن يعلم الإنسان أنّ الله موجود في كيانه، وأنّه هو الذي دفعه إلى الطلب والحركة، فما هو هذا؟ هذا هو عين عنايته بنا وتوجّهه لنا.

  • ما هو الإيمان الحقيقي بالتوحيد؟

  • يقول الإمام هنا: إنّ طلبي وتوجّهي إليك يعود إلى عدّة أمور: أوّلًا، أنّني وثقت بكرمك وجودك يا إلهي، وصدّقت وعدك الذي وعدت. «وَ لَجَئِي إِلَی الْإِیمَانِ بِتَوْحِیدِك»، لقد التجأت إلى الإيمان بتوحيدك، فالتوحيد يختصّ بك وحدك يا رب، ولا يوجد في مكانٍ آخر. نجد في أدعيتنا كثيرًا ما يقول الأئمّة عليهم السلام: «اللَهُمَّ قَولُكَ صِدقٌ»، وهذا شبيه بـ «اللَهُمَّ قُلتَ هَذَا وَقَولُكَ صِدقٌ». لقد قلت هذا الكلام، وكلامك صدق. لا أنّ صدقه يشكل لنا دافعًا فقط، لا! بل حاجتنا إليه تمنحنا قوّة قلبٍ. فليس الأمر كأن يعد أحدٌ شخصًا آخر بفعل شيءٍ ما، وبعد ذلك يغيّر رأيه وينصرف عن فعله، فليس لأحد الإمساك به والقول: «لقد قلت إنّك ستفعل». فيقول: «حسنًا، لكن الآن لا أريد أن أفعل. أنتم لا يمكنكم أن تطالبوني بالفعل، إن أردت فعلت، وإن لم أرد لم أفعل». لا، الله ليس كذلك. بل نقول لله: إنّ كلامك الصادق يوجب لي قوّة القلب، لا أنّه يفرض عليك إلزامًا بإجابة الطلب، وأنا أجد قوّة قلب تجاهك، وإيماني بتوحيدك الذي أحمله هو الذي دفعني للتحرّك نحوك.

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

13
  • يقول الإمام أنا أؤمن بك، لا أظنّ وأتخمّن. أما نحن فلدينا ظنون وتخمينات، نتخيّل أنّ الله واحد. فقد جمعنا حولنا الكثير من الآلهة، وجعلنا الله واحدًا منهم. ثلاثون بالمئة لله، وسبعون بالمئة للباقين. عشرون بالمئة لله، وثمانون بالمئة للباقين. بل عشرة بالمئة لله، وتسعون بالمئة للباقين. لقد وضعنا الله في آخر القائمة، هذا ليس إيمانًا.

  • قصّة النبي والكافر الذي قال له: "من ينجيك منّي؟"

  • في غزوة ذات السلاسل، أو غزوة شبيهة بها، كان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قد ابتعد عن ساحة المعركة ليستريح تحت شجرة، وكان متعبًا. فجأةً، انتبه له أحد المشركين وقال: «عجبًا! رسول الله قد اعتزل واستند إلى شجرة». فأسرع إليه ووقف فوق رأسه بالسيف وقال: «يا محمد، من ينجيك منّي الآن؟». فقال النبيّ: «الله!». بكلّ بساطة! لم يكن النبيّ يحمل سيفًا، كان مستندًا أو جالسًا أو نائمًا، وقد جاء ذاك الرجل من خلفه وسلّ سيفه، وقال: «من ينجيك منّي؟». فقال النبيّ: «الله ينجّيني». ولم يكن يمزح معه، بل كان هذا هو الواقع. لو كنّا مكانه، هل كنّا سنقول هذا؟ قبل أن أتمكّن من الإشارة، يكون السيف قد ضربني. فقال المشرك: «الآن سأريك كيف ينجيك الله!». ما إن رفع السيف عاليًا وأراد أن يهوي به عليه، حتّى هبّت ريحٌ وضربت رأسه بالشجرة، فوقع على الأرض وسقط السيف من يده. فأخذ النبيّ السيف وقال: «من ينجيك منّي الآن؟». [فسكت الرجل] قال النبيّ: «قل الله! لماذا تتردّد؟ قل الله ينجّيك». أراد الرجل أن يقول «أنت»، قال له النبيّ: «لا، لا، لا تقل أنت، قل الله فقط ينجّيك». فقال الرجل: «الله»، ثم أسلم. فقال له النبيّ: «خذ سيفك وتعال لنتصالح، فإنّه لا عداوة بيننا بعد الآن».۱

  • هذا هو معنى من يؤمن بتوحيدك. «وَلَجَئِي إِلَى الإِيمَانِ بِتَوحِيدِكَ». عندما يقول الإمام: الله، فإنّه يقولها بصدق، لا يقولها قراءة من الكتاب، بل يعني أنّ كلّ وجوده قد قبل هذه الحقيقة. يقول الله هنا، ويقول الله في كلّ مكان آخر، في صلاته يقول الله، وفي صيامه يقول الله، إذا جاء العدوّ يقول الله، وإذا جاء الصديق يقول الله، في اليُسر وفي العُسر يقول الله، في المرض وفي الصحّة يقول الله، في كلّ مكان وفي كل حال يقول الله، هذا هو ما يسمّى الإيمان بالتوحيد.

    1. الكافي ج ۸ ص ۱٢۷: أَبَانٌ عَنْ أَبِی بَصِیرٍ عَنْ أَبِی عَبْدِ الله علیه السلام: «نَزَلَ رسول‌الله صلى الله عليه وآله فِی غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ تَحْتَ شَجَرَةٍ عَلَی شَفِیرِ وَادٍ فَأَقْبَلَ سَیْلٌ فَحَالَ بَیْنَهُ وَ بَیْنَ أَصْحَابِهِ فَرَآهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ وَ الْمُسْلِمُونَ قِیَامٌ عَلَی شَفِیرِ الْوَادِی یَنْتَظِرُونَ مَتَی یَنْقَطِعُ السَّیْلُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِکِینَ لِقَوْمِهِ أَنَا أَقْتُلُ مُحَمَّداً فَجَاءَ وَ شد عَلَی رسول‌الله صلى الله عليه وآله بِالسَّیْفِ ثُمَّ قَالَ مَنْ یُنْجِیکَ مِنِّی یَا محمد فَقَالَ رَبِّی وَ رَبُّکَ فَنَسَفَهُ جَبْرَئِیلُ ع عَنْ فَرَسِهِ فَسَقَطَ عَلَی ظَهْرِهِ فَقَامَ رسول‌الله صلى الله عليه وآله وَ أَخَذَ السَّیْفَ وَ جَلَسَ عَلَی صَدْرِهِ وَ قَالَ مَنْ یُنْجِیکَ مِنِّی یَا غَوْرَثُ فَقَالَ جُودُکَ وَ کَرَمُکَ یَا محمد فَتَرَکَهُ فَقَامَ وَ هُوَ یَقُولُ وَ الله لَأَنْتَ خَیْرٌ مِنِّی وَ أَکْرَمُ.»
      مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ج٢٥ ص٣۰٥: و هذه الواقعة من المشهورات بین الخاصة، و رواه الواقدی فی تفسیر قوله‌تعالی: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ هَمَّ قَوۡمٌ أَن يَبۡسُطُوٓاْ إِلَيۡكُمۡ أَيۡدِيَهُمۡ فَكَفَّ أَيۡدِيَهُمۡ عَنكُمۡۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ﴾.* إن رسول‌الله غزا جمعا من بنی ذبیان و محارب بذی امر، فتحصنوا برءوس الجبال و نزل رسول‌الله صلّی الله علیه و آله و سلم بحیث یراهم، فذهب لحاجته فأصابه مطر فبل ثوبه فنشره علی شجرة و اضطجع تحته و الأعراب ینظرون إلیه، فجاء سیدهم دعثور بن الحرث حتی وقف علی رأسه بالسیف مشهورا، فقال: یا محمد من یمنعک منی الیوم؟ فقال: الله، فدفع جبرئیل علیه السّلام فی صدره و وقع السیف من یده فأخذه رسول‌الله و قام علی رأسه، و قال «من یمنعک منی الیوم»، فقال: لا أحد و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول‌الله فنزلت الآیة.
      و روی ابن شهرآشوب عن الثمالی نحوا من ذلک، و زاد فی آخره فسئل بعد انصرافه عن حاله؟ فقال: نظرت إلی رجل طویل أبیض دفع فی صدری فعرفت أنه ملک و یقال أنه أسلم و جعل یدعو قومه إلی الإسلام.

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

14
  • القلب حرم الله لا تُدخل فيه غير الله

  • يقول الإمام السجّاد: لقد آمنت بتوحيدك، لقد أصبح وجودي كلّه لله. ومع ذلك كيف يمكن أن يُسمح لغيرك بالدخول إلى هذا الوجود، وأن يُسمح لغيرك بالدخول إلى القلب؟. القلبُ بیتُ الله، فلا تُدخِلْ فی بیتِ اللهِ غیرَ اللهِ. أو كما في الرواية: «الْقَلبُ حَرمُ الله، لا تُشرِكْ فی حَرَمِ اللهِ غیرَ اللهِ»۱. القلب حرمٌ إلهيّ، فلا تُشرك في هذا الحرم أحدًا غير الله، ولا تُدخِل فيه أحدًا غير الله. لو أدخلت مقدار رأس إبرة، لخسرت مقدار رأس الإبرة. وكذا لو أدخلت واحدًا بالمئة...

  • فلنكنْ مثل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. كيف كان النبيّ في الحروب؟ هل كنّا نحن هكذا في الأحداث التي مررنا بها؟ في القضايا التي مررنا بها، هل كان توجّهنا لله وحده، أم للأمور الأخرى وللأسباب والعلل؟! لزيد وعمرو، للبلد الفلاني والدولة الفلانية، لمساعدة هذا وذاك. 

  • إنّ الهداية التي تأتي من الإمام المعصوم عليه السلام ومن رسول الله، هي الهداية التي تضع الله وحده أمامنا في كلّ حال، في الصعود والنزول، في هذا الجانب وذاك، في كلّ مكان، وتطرد ما سوى الله وتنبذه جانبًا. هذا هو الطريق الذي فتحه لنا الأئمة.

  • الطريق هو: «سُكونِی إِلَی صِدْقِ وَعْدِك وَ لَجَئِي إِلَی الْإِیمَانِ بِتَوْحِیدِك وَ یقیني بِمَعْرِفَتِك مِنِّي أن لَا رَبَّ لِي غَیْرُك». أنا على يقين بأنّ معرفتك بي، وبأنّ معرفتي بك، هي أنّه لا ربّ لي غيرك، ولا مؤثّر لي سواك، ولا سبب لي سواك، ولا ملجأ لي سواك.

  • حسنًا، نأمل أن نختم بإذن الله شرح هذه الفقرات إلى هذا الحد، وننتقل إلى الفقرات التالية في الليلة القادمة؛ لأنّني رأيت أنّه لو أردنا أن نتحدّث أكثر عن كيفية الثقة بالله وكيفية الإيمان به وما إلى ذلك، فإنّ الموضوع سيطول.

  • نسأل الله تعالى أن يحقّق الحقائق التوحيديّة في وجودنا، وألّا يجعل في مخيّلتنا أحدًا سواه، وأن يزيل كلّ ما بقي في وجودنا من هذه الأصداء والتعلّقات بلطفه وحده فقط وفقط. وإلّا، فلو ترك الأمر لنا ولاختيارنا وتوكّلنا على أنفسنا، أو كما يقولون اليوم مسألة الثقة بالنفس، لبقينا على حالنا هذا. لا يا ربي، نحن نقولها لك بصراحة تامّة، لا ثقة لنا بأنفسنا، ولا نحسن فعل أيّ شيء. نعلن بصراحة وبلا مجاملة أن لا ثقة بالنفس لدينا، ولا نستطيع فعل شيء، ولا نعلم شيئًا، جاهلون بكل ما للكلمة من معنى. 

    1. بحار الأنوار ج ٦۷ ص ٢٥: قال الصادق عليه السلام: «القلب حرم الله فلا تسکن فی حرم الله غیر الله.»

معنى الفقر إلى الله - ماذا لو لم تتحمّل تجلّي الإمام؟ قصّة العارف الآملي مع بقيّة الله

15
  • كما قيل: 

  • يا موسى، أصحاب الآداب شيءٌ وأصحاب القلوب والأرواح المحترقة شيءٌ آخر.

  • عندما يطلب الإنسان أموره ببساطة ودون تكلّف يصل إلى مطلبه بشكل أسرع، وتُحلّ مشكلته بسهولة. لذا نقول نحن لا نعلم شيئًا، لا نعلم ولا نستطيع، نحن لا قدرة لدينا ولا معرفة، ولا نملك شيئًا. ولكنّنا نعلم هذا المقدار: نعلم بأنّنا ناقصون وجاهلون. وكما يقول الإمام السجّاد، فإنّنا نثق بك يا الله، طبعًا لا كثقة الإمام، كلّا يا عزيزي! أين ثقتنا من ثقته؟ لكن على الأقل، لدينا صدق بوعدك بمقدار سعتنا، ولدينا إيمان بتوحيدك بحدودنا، ونملك يقينًا بمعرفتك بأنّه لا ربّ لنا سواك، لدينا شيء من هذا أيضًا. فبِعظمتك يا سيّدي اعفُ عنّا، وحوّل مجازنا هذا إلى حقيقة!

  •  

  • اللَهُمَّ صلِّ علَى محمدٍ وآلِ محمد