11

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى

كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

29
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1423

التاريخ 1423/09/23


التوضيح

ما هو الشرط الأساس للتوجه إلى الله؟ كيف يكون الرياء في الصلاة سببًا لردّها؟ ما هي قصة البرامكة التي تُظهر تقلّب الدهر؟ ولماذا كانت نهاية شاه إيران عبرةً للمعتبرين؟ وما هو الفرق بين من يدخل حرم الإمام كالغريب ومن يدخله كالأهل؟ وكيف حذّر الإمام السجاد عليه السلام من الشعور بالاستحقاق في الدعاء؟ تجيبك هذه المحاضرة التي عقدها سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله سرّه في تتمّة شرحه لدعاء أبي حمزة الثماليّ عن هذه الأسئلة وغيرها، وتبيّن لنا الأدب الصحيح في مخاطبة الله تعالى.

/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى

  • كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٣ هـ - الجلسة الحادية عشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ

  • بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

  • وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا أَبِي القَاسِمِ مُحَمَّدٍ

  • وَعلى آلِهِ الطَّاهِرِينَ

  • وَاللَّعْنَةُ عَلَى أَعْدَائِهِمْ أَجْمَعِينَ

  •  

  •  

  • الشرك الخفيّ في العبادات

  • «وَقَدْ قَصَدْتُ إِلَيْكَ بِطَلِبَتِي، وَتَوَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِحَاجَتِي، وَجَعَلْتُ بِكَ اسْتِغَاثَتِي، وَبِدُعَائِكَ تَوَسُّلِي، مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِاسْتِمَاعِكَ مِنِّي».

  • حسنًا، بعد أن ذكر الإمام السجّاد عليه السلام في العبارات السابقة نقاطًا مهمّة، منها أنّه: عند الإنابة والابتهال إلى جود الله تعالى وكرمه، لا تعود هناك حاجةٌ للإنابة والابتهال إلى جود وكرم غيره، فيشعر الإنسان بالغنى والاستغناء عن مدّ يده أو توجيه وجهه إلى أيّ أحدٍ آخر.

  • وإذا أدرك الإنسان هذا المعنى حقًّا، وأنّ الله تعالى قادرٌ على فتح الطريق أمامه، وسلّم نفسه إليه تسليمًا حقيقيًّا، لا أن يكذب ويخدع نفسه، فيحتفظ بجزءٍ لنفسه، وينسب لله جزءًا آخر، ويقول: «يا ربّ، أصلح أمري، ولكن بالطريقة التي أريدها أنا! يا ربّ، افتح لنا الطريق، ولكن على النحو الذي أهواه! يا ربّ، أوصلنا إلى نعمك وألطافك، ولكن بما يتوافق مع نيّتي وفكري وأمنيتي!»؛ إذ ما لم يُصحّح الإنسانُ فكرَه، سيبقى دائمًا في حالة خلطٍ وتشويشٍ في نيّته وعمله مع الله؛ في حين أنّ اللهَ تعالى مقامُه منيعٌ وعزيزٌ ورفيعٌ، يترفّع عن أن يُشرَكَ معه غيرُه في ذلك المقام.

  • لو أنّ شخصًا صلّى، وكانت نيّته في صلاته تشمل غير الله؛ كأن يقصد بها رياضةً صباحيّة، أو إتقان نطق العبارات والكلمات أمام الآخرين، بحيث حينما يُصلّي لوحده فإنّه يُصلّي بطريقةٍ ما، ولكن عندما يكون أمام جمعٍ من الناس، فإنّه يخرج «العين» في «نستعين» من أقصى حلقه، وينطق «الضاد» في «والضالّين» من مخرجها الصحيح تمامًا، ويزيد في الطمأنينة والوقار درجاتٍ إضافيّة، خاصّةً إذا أصبح إمام جماعة، وكلّما ازداد عدد المصلّين، ارتفع مستوى مراعاة هذه الموازين بنفس النسبة؛ فإذا كان الأمر كذلك، فإنّ نيّته ستكون مخلوطةً، قد خلط فيها بين الله والخلق. وعندما ترفع الملائكة هذه الصلاة، يقول الله تعالى: «لقد أشرك هذا العبد معي غيري في هذه الصلاة، وأنا خير شريك، أهبُ نصيبي لشريكي ذاك.۱ اذهبوا فاضربوا بهذه الصلاة وجهه،٢ اذهبوا فاضربوا بها رأسه، احتفظ بها لنفسك!».

    1. جاء في كتاب معرفة الله، ج ۱، ص ٢٤٣ منسوبًا للدرّ المنثور:
      عن سعيد بن جبير في الآية قال النبيّ صلى الله عليه [و آله‌] وسلّم: «"أن رَبَّكُمْ يَقُولُ: "أنَا خَيْرُ شَرِيكٍ؛ فَمَنْ أشْرَكَ مَعِي في عَمَلِهِ أحَدًا مِنْ خَلْقِي تَرَكْتُ العَمَلَ كُلَّهُ لَهُ، ولَمْ أقْبَلْ إلَّا مَا كَانَ لي خَالِصًا"». ثُمَّ قَرَأ النَّبِيّ صلى اللهُ عَلَيْهِ [وَ آلِهِ‌] وسَلَّمَ: «﴿فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾».
    2. جاء في كتاب الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا عليه السلام، ص ۱۰٣:
      «ِوَإِذَا أَقْبَلْتَ عَلَى صَلَاتِكَ أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِوَجْهِهِ فَإِذَا أَعْرَضْتَ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْكَ؛ وأَرْوِي عَنِ الْعَالِمِ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: رُبَّمَا لَمْ يُرْفَعْ مِنَ الصَّلَاةِ إِلَّا النِّصْفُ أَوِ الثُّلُثُ أَوِ السُّدُسُ عَلَى قَدْرِ إِقْبَالِ الْعَبْدِ عَلَى صَلَاتِهِ، ورُبَّمَا لَا يُرْفَعُ مِنْهَا شَيْ‌ءٌ تُرَدُّ فِي وَجْهِهِ كَمَا يُرَدُّ الثَّوْبُ الْخَلَقُ وتُنَادِي: ضَيَّعْتَنِي ضَيَّعَكَ اللَّهُ كَمَا ضَيَّعْتَنِي، ولَا يُعْطِي اللَّهُ الْقَلْبَ الْغَافِلَ شَيْئًا».

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

3
  • إنّ أفضل شريك هو ذلك الشريك الجيّد الذي يتنازل عن حصّته، ثم يتنازل ويتنازل، ولا يعود يتكلّم في الأمر، بل يقول: «يا سيّدي، ما كان قد كان، لا شأن لنا به». والله غنيٌّ، فيقول: «هذه الصلاة لك، وهذا الصوم لك، وهذا الحجّ لك، وهذا العمل الصالح لك، كلّه لك، كلّه لك؛ لأنّك أشركت معي غيري في هذا الأمر». غاية ما في الأمر أنّ نسبة الشراكة تختلف، فتكون عشرين بالمائة، أو ثلاثين بالمائة، أو خمسين بالمائة؛ فالناس متفاوتون في هذه المسألة.

  • ضرورة التسليم المطلق لله الغنيّ

  • إذًا، عندما يتوجّه الإنسان إلى الله، يجب أن يكون مُسلّمًا حقًّا، أي يضع نفسه تحت تصرّفه، ويعلم أنّه يتوجّه إلى غنيٍّ غير محتاج، وليس إلى محتاجٍ مثله، ولا إلى بائسٍ ومسكينٍ مثله، وإنّما تختلف الصور فقط؛ فهذا يرتدي اليوم ثوبًا باليًا، وذاك يجلس على كرسيّ الحكم، وغدًا قد يكون ذاك في ثوبٍ بالٍ، وهذا الفقير يصبح غنيًّا.

  • يُنقل في التاريخ أنّ البرامكة كانوا في بلاط هارون، وقد منحهم عزًّا وسلطة عظيمين، فارتقوا كثيرًا. وبالطبع، كانوا مُعادين للإسلام أيضًا، فقد كانوا زرادشتيّين، وكان رئيسهم خالد البرمكيّ زرادشتيًّا، وجاء ابنه يحيى وحاول أن يُدخل الديانة الزرادشتيّة في الإسلام، وآدابها كذلك. وتقريبًا، منذ زمن المنصور الدوانيقيّ فصاعدًا، أو ربّما قبل ذلك في زمن عبد الملك بن مروان، دخل الإيرانيّون في جهاز الخلافة، وبلغوا أوجهم في زمن هارون.

  • وقد وصل الأمر إلى أنّه في زمن المأمون، جاء الإيرانيّون عمليًّا، وأعادوا الخلافة من محمد الأمين إلى المأمون الخليفة العباسيّ، وهزموا جيش بغداد. وفي عهود الخلفاء اللاحقين، كان الكثير من وزرائهم وحكّامهم من الإيرانيّين. لقد نمت هذه الأسرة كثيرًا في بلاط هارون.

  • وكان يحيى بن خالد البرمكيّ هو الذي سُجن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وقُتل على يد هارون بسبب مؤامرته. وقد جازاهم الله جزاءهم؛ فبسبب حادثةٍ وقعت، غضب عليهم هارون، وضرب عنق جعفر بن يحيى البرمكيّ، ومات أبوه يحيى البرمكيّ في السجن، وبقي الفضل في السجن أيضًا حتّى مات.۱

  • حكاية مُعبّرة عن تقلّبات الزمان

    1. كان جعفر البرمكيّ يحظى بعناية واهتمام خاصّين من هارون الرشيد، حتى أنّه زوَّجه من أخته العباسة، ثمّ غضب عليه وأمر خادمه ياسر بقتله، وأباد عائلة البرامكة؛ وقصّته مشهورة في كتب التواريخ، حيث نقل العلامة المجلسيّ هذه القصّة باختصار في كتابه مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج ٦، ص ۷۷ - ۸٢، عن كتاب مروج الذهب للمسعوديّ.

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

4
  • ذات يوم جمعة، أراد أحد شعراء هارون ـ وكان من ندمائه المقرّبين ـ أن يذهب إلى الحمّام، فدخل، وأمر بأن يُحجز له الحمّام ويُهيّأ. فهو نديم هارون، وطبيعيٌّ أن يدفع مالاً كثيرًا. وكان الشابّ الذي جاء ليغسله ـ أو ما يُصطلح عليه بـ «الدلّاك» ـ يغسله بالصابون ونحوه. فبدأ هذا الشاعر يُهمهم بأبياتٍ من الشعر تتعلّق بالزمان ومكره وغدره، وتقلّب الأحوال والأطوار، والعلوّ والانخفاض الذي يواجهه الإنسان في حياته، وأن لا أحد يأمن غدَه. كان يردّد أبياتًا قد قالها في هذا المعنى بصوتٍ خفيض، وإذا بالشابّ الذي كان يُنظّفه يصرخ فجأةً ويسقط مغشيًّا عليه.

  • تعجّب الشاعر، ونادى صاحب الحمّام وقال له: «لقد أرسلت إلينا شخصًا ضعيف المزاج! ما به؟ هل أصابته حرارة الحمّام؟ هل أصابته الغشية؟ من هذا الذي جئت به؟». أجاب صاحب الحمّام: «كلاّ، لم يكن هكذا، فهو يعمل في هذا الحمّام ولم يكن به شيء، هذه هي المرّة الأولى...». وخلاصة الأمر، أنّهم أفاقوه وسألوه: «ماذا أصابك هذا اليوم؟». قال: «لمن قلت هذه الأشعار؟». قال الشاعر: «قلت هذه الأشعار في ولادة ابن الفضل بن يحيى البرمكيّ». فقال الشابّ الذي كان يغسله: «أنا هو!». لقد كان الشابّ نفسه يعرف تلك الأشعار. تعجّب الشاعر كثيرًا وقال: «عجيب! أنت هو؟». لقد كان ابن الفضل بن يحيى البرمكي مختفيًا عن الأنظار، وأصبح دلّاكًا في حمّام.

  • بعد أن خرج، سأله: «أين منزلك؟». أجاب: «تُوفّي والدي، وأنا أعيش مع جدّتي»؛ وهي أمّ كلٍّ من الفضل وجعفر ابني يحيى البرمكيّ. فأخذ الشاعر بعض المال وقال له: «لكم حقٌّ كبيرٌ في عنقي، و...، خذني إلى والدتك». فذهب به إلى جدّته، فرأى منزلاً في منطقة «الصعاليك»، حيث يسكن الفقراء المعوزون، الذين يملكون غرفةً واحدة نصفها مهدّم، وقد عشّش فيها البوم.. مكانٌ بائسٌ كما يُقال.

  • دخل الشاعر، فرأى امرأةً عجوزًا، هرمة جدًّا، ترتدي ثيابًا بالية ممزّقة، وتعيش في بؤسٍ شديد. سلّم عليها وجلس، وسألها: «من أنتِ؟». قالت: «أنا أمّ الفضل وجعفر البرمكيّ». فتأثّر الشاعر تأثّرًا بالغًا بما آلت إليه الأمور، فقد كان ذلك في زمن هارون. قال لها: «أريد أن أسمع منك حكايةً عن تقلّبات الدهر ومصائبه».

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

5
  • قالت: «في مثل هذا الوقت الذي جئت فيه، وهو يوم الجمعة، قبل سنوات، كان ابني جعفر البرمكيّ قد أهداني أربعمائة جارية، ولم أكن راضيةً عنه، وكنت أقول له: إنّك لم تؤدِّ حقّ الأمومة، بينما أنا اليوم محتاجةٌ لخبز ليلتي».

  • يقول الشاعر: «أدخلت يدي في جيبي، وأخرجت دينارًا ذهبيًّا وأعطيتها إيّاه، فكادت تموت من الفرح، كادت تموت». هذا هو حال الناس، وهكذا هي الدنيا. ونحن نرى ذلك بأنفسنا، وقد رأيناه في الماضي أيضًا.

  • عاقبة الغرور

  • من هم الأفراد الذين حكموا هذا البلد؟ من الذين ترأّسوه؟ عندما كانوا يتكلّمون، كان المرء يشعر وكأنّ فرعونًا هو الذي يتكلّم! في زمن الشاه، كان دائمًا يقول في خطاباته: «لقد أمرنا، لقد أصدرنا تعليماتنا». لم يكن حتّى يُجيد الكلام. «لقد أمرنا، لقد فعلنا كذا وكذا»، وكانوا يظنّون أنّ الدنيا ملكٌ لهم، ليس فقط إيران وشعب إيران، بل الدنيا كلّها ملكهم!

  • وقد أعمى حجاب الغفلة والجهل أبصارهم لدرجة أنّهم لم يكونوا يتصوّرون أبدًا، أبدًا، أن يحدث أمرٌ ما، أن يتغيّر الزمان، أن تتبدّل الأحوال. لقد سمعته بنفسي في أواخر عهده يقول في خطابٍ إذاعيّ: «سنُؤسّس حزبًا واحدًا، ويجب أن يكون هذا الحزب مُؤمنًا بمبادئ الملكيّة والشاهنشاهيّة الإيرانيّة. من يرغب، فلينضمّ إلى هذا الحزب وليبقَ في إيران، ومن لا يرغب، فسنعطيه جواز سفر ليخرج من إيران». ما معنى هذا الكلام؟ معناه أنّ مُلك إيران لنا، والأرض لنا، هذا هو معناه! أي أنّه لا ينبغي لكم أن تعيشوا في أرضنا، فإيران كلّها لنا، سنعطيكم جوازات سفر لتخرجوا! فقال الله أيضًا: «حسنًا جدًّا، ما دمتم تدّعون المِلكيّة، فلنرَ هل أنتم المالكون أم نحن؟». فضربوا هذا المسكين على قفاه، وألقوا به وجميع من معه إلى الخارج، حتّى أصبح يتسوّل مكانًا يؤويه في هذه البلدان. مكانًا يقبل به. أين ذلك العزّ؟ أين تلك السلطة؟ أين تلك الرفعة؟ أين تلك الهيبة؟

  • كنت أقرأ في سيرة حياته أنّه عندما كان مريضًا ومن المقرّر أن يخضع لعمليّة جراحيّة، كانت عائلته تخشى أن يقوم الطبيب الذي سيجري له العمليّة بقتله، أي أنّهم كانوا يعيشون في هذا القدر من القلق والاضطراب، حتّى مات في النهاية. هو أدرى بما بينه وبين ربّه، فماذا عسانا أن نحكم نحن؟! فمن أين يأتي هذا الجهل وهذه الغفلة؟ من أين يأتي هذا؟ يأتي لأنّنا جميعًا خلطنا بين الأصل والفرع، فوضعنا الأصل مكان الفرع، والفرع مكان الأصل. لقد اتّكأنا على أنفسنا، واتّكأنا على أقراننا، واتّكأنا على رفقائنا، واتّكأنا على أصدقائنا، واتّكأنا على موظّفينا، واتّكأنا على قواتنا المسلّحة، واتّكأنا على جيشنا. أليس كذلك؟

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

6
  • هذه كلّها أشكالٌ من الاتّكاء! لكن، عندما تتّكئ، هل أنت متيقّن من أنّ هذا الاتّكاء سيضمن لك البقاء حتّى النهاية؟ هل سيبقى معك إلى الأبد؟ عندما تتّكئ، هل تتيقّن أنّ هذا الشخص الذي تتّكئ عليه سيظلّ صامدًا حتّى آخر درجة، وحتّى آخر قطرة دم، وحتّى آخر عرقٍ في حياته أم لا؟

  • قد يتغيّر رأيه بحلوى، قد يتبدّل اعتقاده بشخصٍ بسبب حكاية، بحديثٍ يدوم دقيقتين قد يتغيّر كلّ ما بناه وأسّس له من مبانٍ. هذا الذي كان بالأمس صديقًا حميمًا، يمرّ بك غدًا فلا يسلّم عليك! ما الذي فعله؟ ماذا حدث؟ يا سيّدي، كنت بالأمس تتودّد إليّ وتفديني بنفسك، واليوم لا تسلّم عليّ، بل وتأتي غدًا، وتبدأ بشتمي! مع هذا الواقع، هل يستحقّ الأمر أن يثق الإنسان بأحد؟

  • هل يصحّ أن يثق الإنسانُ بأحدٍ غير الله؟ أن يتوجّه إلى أحدٍ غير الله؟ أن يطمئنّ إلى أحدٍ غير الله؟ الوثوق! هل يصحّ أن يثق بأحد؟ إذا كان لا بدّ للإنسان أن يثق بأحد، فليثق بمن هو في ذلك المسار؛ فيجب أن يثق بالإمام، ويجب أن يثق بأولياء الله، وبالأشخاص الذين هم على نفس الطريق وشركاء في المسير، الذين سلكوا الدرب؛ أمّا الأشخاص العاديّون، فلا يا سيّدي!

  • كلمةٌ واحدة، كلمةٌ لا أصل لها ولا رأس ولا ذيل، تأتي، فتقلِب شخصًا رأسًا على عقب، وتُغيّره من حالٍ إلى حال.

  • ما العمل عندما يُدرك الإنسانُ كثرةَ الحجب والعلائق بينه وبين الله تعالى؟

  • حسنًا، يقول الإمام عليه السلام إنّه لا ينبغي التوجّه لغير الله، ويجب أن يكون هناك استغناءٌ به. ومن الأمور الأخرى التي علّمنا إيّاها عليه السلام هي أنّه يجب أن نكون راضين بقضائك أيضًا، فكلّ حكمٍ تحكم به هو لصلاحنا. وهذا ما يسمّى «الرضا بالقضاء». أي بعد أن يُسلّم الإنسان، سيصبح راضيًا بالقضاء. وحينئذ، عندما يأتي ليُعالج مشاكله الخاصّة، يرى أنّه: يا للعجب! يا لها من حُجُب بينه وبين الله! يا لها من موانع موجودة! فكلّما وضع يده على أيّ جزءٍ من نفسه ووجوده، يجد فيه خللاً. يجد نفسه متعلّقًا بالعلائق، ومتعلّقًا بنفسه. الجهل والغفلة قد استوليا على كيانه كلّه، والضعف والتهاون قد عمّا وجوده بأسره؛ فهو لا يُخصّص للاهتمام بالله والحركة نحوه عُشرَ المقدار الذي يُخصّصه لاهتمامه بالدنيا. وهذه الحجب والستائر التي أسدلت وحالت دون رؤية جمال المحبوب، عندما ينظر الإنسان إليها، فإنّ هذه الأمور الثلاثة التي ذكرها الإمام تتضافر معًا، فيأتي إلى الله ويقول: «وَقَدْ قَصَدْتُ إِلَيْكَ بِطَلِبَتِي». الآن أتيت إليك، فلا يمكن الذهاب إلى غيرك، ويجب الرضا بقضائك، وهذه الحجب موجودةٌ فينا. حسنًا، المسألة واضحة، فماذا نفعل؟

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

7
  • هل نجلس مكتوفي الأيدي وننظر فحسب؟ عندما يعلم الإنسان ويُدرك المسألة، فما معنى أن يجلس مكتوف الأيدي وينظر؟ لا معنى لذلك. «وَقَدْ قَصَدْتُ إِلَيْكَ بِطَلِبَتِي»، يا ربّ، لقد قصدتك بطلبي ومسألتي. «وَتَوَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِحَاجَتِي»، وتوجّهت نحوك بحاجتي. «وَجَعَلْتُ بِكَ اسْتِغَاثَتِي»، وجعلت استغاثتي بك أنت، وجعلتُكَ أنت غوثي وملاذي ومطلبي للحماية، لا غيرك من الأشخاص أو الأشكال الأخرى. «وَبِدُعَائِكَ تَوَسُّلِي»، وتوسّلي هو بدعائك ومناداتك. «مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِاسْتِمَاعِكَ مِنِّي»، أفعل كلّ هذا دون أن أكون مستحقًّا لأن تسمع منّي هذا الكلام، لا أستحقّ هذا الأمر.

  • إنّ عبارة «مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِاسْتِمَاعِكَ مِنِّي» هي عبارةٌ قاصمةٌ ومنبّهةٌ جدًّا. يقول: «يا ربّ، إنّي قادمٌ إليك وأطلبك، ولكنّي لست أهلاً لذلك». فالشيطان يأتي ليخدع الإنسان كثيرًا، وهو بارعٌ جدًّا في الخداع. يذهب الإنسان إلى المسجد، فيأتيه الشيطان ويقول: «ها أنت قد أتيت إلى المسجد ولم تذهب إلى السينما! انظر، الناس الآن يصطفّون في طوابير السينما ومنشغلون باللهو واللعب، أمّا أنت فذهبت إلى المسجد، أحسنت!». فيقول الإنسان: «الحمد لله الذي وفّقنا للمجيء إلى المسجد». ولكن، عندما يقول «وفّقنا الله»، فإنّه يكذب، فنفسه هي التي تقول ذلك، لا سرّه وضميره. والدليل على ذلك أنّه عندما يعود، فإنّه يفتخر على الآخرين: «لقد ذهبتُ إلى المسجد الليلة، لقد استمعتُ إلى حديث السيّد اليوم، وأنتم لم تأتوا». إنّ الاستماع إلى حديثي ليس فخرًا، والمجيء إلى هنا وإلى هذا المجلس ليس فخرًا. إذا لجأنا إلى الافتخار، فاعلموا حينئذ أنّ من لم يأتِ قد نال ثوابًا أكبر منّا نحن الذين أتينا إلى هنا. يجب أن نعلم هذا، لا أن نذهب بعد مجيئنا إلى هنا ونقول للآخرين: «نعم، لقد أتينا وقُبلنا، وأنتم لم تأتوا بعد، ربّما لم يقبلوكم أو كنتم مشغولين». كلّ هذا، يا سيّدي، هو من النفس، أقولها لكم جميعًا ولي بصراحةٍ تامّة، كلّ هذا هو من النفس. وللنفس ألف طريق، ألف طريق... رحمة الله على من لم يأتِ، رحمة الله على من جلس في بيته، فعلى الأقلّ لا تراوده هذه الخيالات الشيطانيّة. نعم، هو في راحة!

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

8
  • خطر التباهي بالعبادات والحالات المعنويّة

  • كنّا مرّةً في مجلس، أو بالأحرى لم أكن أنا فيه، بل كان مجلسًا وحُكيت لي قصّته لاحقًا. قالوا: كنّا في مكانٍ ما في مشهد، مجموعةٌ من الرفاق، فبدأ أحدهم هناك يُظهر بعض القداسة و... وقال: «نحن، علاقتنا وحساباتنا مع الإمام الرضا عليه السلام تختلف عنكم، نحن عندما نذهب إلى هناك، نقف، وحين يُؤذن لنا ندخل، لا ندخل هكذا مطأطئي الرؤوس». فهؤلاء المساكين الذين سمعوا هذا الكلام شعروا بالانفعال الشديد والانزعاج... وقالوا: «نحن لا نفهم هذه الأمور، نشعر ببعض الأشياء، ندخل الحرم مباشرةً ونقرأ: «اللَّهُمَّ إِنِّي وَقَفْتُ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ بُيُوتِ نَبِيِّكَ، صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَقَدْ مَنَعْتَ النَّاسَ أَنْ يَدْخُلُوا إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَقُلْتَ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾۱. إلى آخر الدعاء»،٢ ثمّ ندخل؛ فنقرأ، وندخل». قال: «كلاّ! أنا لا أدخل هكذا، بل أذهب وأقف، وعندما يُؤذن لي أدخل».

  • بعد ذلك، كنّا في مجلسٍ وكان ذلك الشخص حاضرًا أيضًا، فقيل: «إنّه يقول كذا وكذا». فقلت: «حسنًا، أجل، الغريب عندما يذهب إلى منزل أحدهم يطرق الباب، ولا يدخل حتّى يُفتح له. أمّا صاحب الدار، فلا يحتاج إلى طرق الباب أو استئذان، بل يدخل مباشرةً. وبما أنّ هذا السيّد غريبٌ، فعليه أن يقف ويستأذن للدخول، أمّا نحن فلا! لأنّ حرم الإمام الرضا عليه السلام هو بيتنا، وهل يستأذن الإنسان لدخول بيته؟! فنقف ونقول: "السلامٌ عليك يا عليّ بن موسى الرضا"، وندخل بكلّ عفويّة، فيقول الإمام الرضا: "لا بأس، هذا من جماعتنا، فليتفضّل، لا مشكلة لدينا!"».

  • نعم، ما قصدته هو أنّه إذا كانت لديك حالةٌ روحانيّةٌ كهذه، فلا ينبغي أن تأتي وتتباهى بها أمام الآخرين، وإلّا تحوّلت هذه الحالة إلى شيطان! انظر، لقد جاء الشيطان حتّى إلى حرم الإمام الرضا عليه السلام! فلا يترك الإنسان وشأنه، هو لا يتركه، يأتي ويقف هناك، يأتي إلى داخل الحرم، ويأتي إلى الصحن، ويأتي وقت الصلاة. الرجل يصلّي وهو واقفٌ فوق رأسه، وكلّ وقته عيناه تلتفتان يمنةً ويسرة، من يأتي؟ من يذهب؟ يا هذا، قل «ولا الضالّين» ودعك من الذي يأتي والذي يذهب! وكلّما دخل شخصٌ، يخرج له بطاقة حسينيّته ويعطيها له... لدينا مجلس عزاء يوميًّا، أهل البيت،... هل تأتي إلى الحرم لتجمع زوّارًا لحسينيّتك أم لتتعبّد؟!

    1. سورة الأحزاب (٣٣)الآية ٥٣.
    2. مقطع من الدعاء الذي يُقرأ للاستئذان من أجل دخول على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو احد مشاهد الأئمّة عليهم السلام؛ راجع: المصباح للكفعميّ، ص ٤۷٢. المعرّب

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

9
  • نعم، الشيطان موجودٌ في الحرم أيضًا، وفي الصحن، وفي كلّ مكان. إنّ المجيء إلى هنا وإلى أماكن أخرى يجب أن يُقلّل من أنانيّة الإنسان، لا أن يزيدها، فيذهب ويتباهى أمام الآخرين: «لقد شاركنا في مجلس السيّد الفلانيّ، حضرنا محاضرته، إن شاء الله يوفّقكم الله أيضًا، أنتم لم تأتوا، على كلّ حال، إن شاء الله تكونوا أنتم أيضًا مورد...».

  • لا يا عزيزي، تيقّنوا أنّ أولئك الذين لم يأتوا، وحالة الانكسار والحرمان التي يجدونها في أنفسهم، هي أرفع من حالكم أنتم الذين أتيتم إلى هنا واستمعتم لهذه الأحاديث ساعةً من الزمن. أقولها بصراحةٍ ودون مجاملة، هي أرفع، فلا تفتخروا عبثًا وتُضيّعوا أجركم.

  • يقول الإمام السجاد عليه السلام: يا هذا، هذه الأعمال التي أقوم بها، أنا لا أستحقّ حتّى أن تسمع كلامي. «مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِاسْتِمَاعِكَ مِنِّي»، من الذي قال إنّه يجب أن تستمع إلى كلامي؟ من الذي قال هذا؟ ومن أنا لأطلب من الله شيئًا؟

  • لا ينبغي التعامل مع الله بمنطق الدائن

  • هل نقول لله: «بما أنّني أتيت، فقف واستمع! قف، إلى أين أنت ذاهب؟ لقد قمتُ من هنا وقطعت المسافة إلى مكّة، عليك أن تستمع وتعطيني حاجتي، وإلّا فلا يُمكن». سيقول الله تعالى: «عُد إلى مكانك، لماذا أتيت؟ عُد! تقول:"أتيتُ إلى المسجد لأصلّي". لا تصلِّ، لا تصلِّ، لا تصلِّ، قم واذهب وافعل شيئًا آخر، اذهب وتنزّه!». «يا ربّ، أتيتُ إلى المجلس، وقضيت ساعةً من وقتي... كان بإمكاني أن أكون في مكانٍ آخر». فيقول: «حسنًا، قم واذهب إلى مكانٍ آخر، لم نرسل لك دعوةً خاصّة إلى منزلك لنقول لك تعال إلى هنا!».

  • لماذا الأمر هكذا؟ لأنّنا مُدلّلون قليلاً، أو عفوًا، كثيرًا، نحن مُدلّلون جدًّا. نظنّ... بالطبع هناك جزءٌ مقبولٌ من هذا الأمر، وسنبيّن بعض الاستثناءات إن وفّقنا الله لذلك. ولكنّ أصل المسألة هو أنّنا لم نُقيّم موقعنا بشكلٍ صحيح، فيما يتعلّق بوجودنا، وكمالاتنا، ومستقبلنا، وعواقب أمورنا، وما سيأتي بعد ذلك.

  • مثال يُوضّح الحاجة والاضطرار

  • سأطرح سؤالاً: لو أُصبنا بمرض جسديّ، وهذه الأمثلة الجسديّة توضّح الفكرة جيّدًا، وذهبنا إلى الطبيب، فقال: «يجب أن تحضروا نتيجة هذا الفحص». وفورًا، تذهبون إلى المختبر فتجدون خمسين شخصًا ينتظرون في الطابور. هل تقولون: «إنّه مزدحم»، أم لا؟ تقفون في المرتبة الحادية والخمسين. وعندما تصلون، يقول الموظّف: «لقد انتهى الوقت، اكتمل العدد». فتقولون: «أرجوك، اقبل هذه الحالة، إنّها طارئة، إنّها ضروريّة، سأدفع أكثر!».

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

10
  • لماذا تتوسّل؟ لأنّك تعلم أنّك ستموت، والمسألة لا مزاح فيها؛ إذ يجب أن تأخذ التحليل غدًا، وغدًا يجب أن تُجرى العمليّة، وإلّا فإنّ ذلك الطبيب لن يجريها. إذا كان لديك سكّري، لن يجري العمليّة. إذا كان لديك مرضٌ آخر، لن يجريها. يجب أن يعرف أوّلاً ما هو مرضك. فماذا تفعل؟ هذا المختبر أو ذاك، وفي النهاية... أو لنفترض أنّ الطبيب نفسه يقول: «ليس لديّ وقتٌ اليوم لإجراء العمليّة». فتقول: «أرجوك يا دكتور، تعال واعمل عملاً إضافيًّا، سأُعطيك ما تشاء، سأعطيك ضعف الأجر!»؛ أي أنّه يتوسّل بكلّ كيانه، ويلجأ إلى العلاقات والوساطات، ويستعين بكلّ الوسائل ليأتوا وينجزوا هذا العمل. فلماذا يحدث هذا؟

  • لأنّه قَيَّمَ موقعه جيّدًا، ولم يعُد جاهلاً، ويعلم أنّ القضيّة لا تحتمل المزاح. فإذا لم تُجرَ العمليّة غدًا فهناك خطر، وإذا لم تُجرَ بعد غد فهناك خطر. صحيح؟ انظروا الآن، هل نحن هكذا مع الله تعالى؟

  • كيف كان الأولياء يدعون الله؟

  • عندما ترى حافظ الشيرازي يُنشد تلك الأشعار من حُرقة قلبه وبكلّ هذا العجز: «منّا كلّ هذه العبوديّة والحرقة والحاجة»،۱ وعندما يُنشد هذه الأشعار، ما الذي أدركه حتّى يقول ذلك؟ أيّة فكرةٍ أدركها؟ وعندما نرى الإمام السجّاد عليه السلام يأتي ويبتهل إلى الله بهذا الشكل، وأمير المؤمنين عليه السلام يأتي وينوح ليلاً بهذا الشكل، والإمام الصادق عليه السلام كذلك، والإمام الحسين عليه السلام كذلك. انظروا إلى دعاء يوم عرفة، ماذا فعل الإمام هناك!

  • لقد رفع الله تعالى إلى أقصى درجات الكمال والعزّة والمنعة والغنى والصمديّة، ووضع نفسه في أدنى درجات الذلّة والتواضع والخضوع والخشوع. والإمام الحسين عليه السلام لا يمزح مع الله، ولا يتلاعب بالألفاظ. فما الذي أدركه هؤلاء؟ هل جاؤوا ليُمثّلوا فيلمًا أو يقوموا بأداء مسرحيّ؟ أم أنّ هذا هو واقع حالهم وطلبهم، وهذا هو إدراكهم الحقيقيّ؟ يأتي الإمام السجاد عليه السلام ويكشف لنا دقائق وخفايا أنفسنا، ويقول: هذا هو ملفّك، حتّى عندما تقصد الله، يكون في قصدك غشّ، وحتى الطلب الذي تطلبه من الله، فيه غشّ، وحتى الحاجة التي تطلبها من الله، فيها غشّ، ويُشرَك فيها غيره. «يا ربّ، أتيت بحاجتي إليك... ولكن انتبه، يجب أن تعطيني إيّاها! لقد جئتُ بطلبي إليك...!».

    1.  ديوان حافظ، الغزل ٤۰:
      از وی همه مستی وغرور است وتکبر***وز ما همه بیچارگی وعجز ونیاز است
      [يقول: منه كلّ هذا التبجّح والتبختر والتكبّر، ومنّا كلّ هذه المسكنة والعجز والحاجة]

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

11
  • هل حدث مرّةً عندما ندعو الله، أن لا نرى لأنفسنا وجودًا حقًّا، ولا نعتبر أنفسنا شيئًا يُذكر؟ هل حدث هذا حتّى الآن؟ لا أظنّ. أنظر إلى نفسي وأجد ذلك بعيدًا. ففي أعماق النفس، يوجد دائمًا توقّعٌ ما. وفي النهاية، تجدنا نقول: «يا ربّ، لقد قمنا في جوف هذا الليل، ولا يُمكنك أن تنكر ذلك، انظر إلينا: لقد قمنا، كم من بين هذا الجمع مثلنا في النهاية؟! لم أذهب إلى ذلك المكان، بل أتيت إلى هنا، فيجب أن تفعل شيئًا». فلو قال الله: «لا يا عزيزي، لن أقضي حاجتك». نقول: «حسنًا، وداعًا!». ألا نقول ذلك؟

  • هل نتعامل مع الله كما نتعامل مع البشر؟

  • نقولها بسهولةٍ شديدة: «وداعًا!». ألم يقولوها؟ ألا يقولونها؟ ألا يقولون: «ذهبنا إلى منزل فلان، فلم يستجب لنا، فودّعناه وذهبنا!». جزاكم الله خيرًا! أليس كذلك؟ بسهولةٍ بالغة! «تحدّثنا مع فلان، فلم يُعرنا اهتمامًا، فتركناه وذهبنا». حسنًا، هكذا يتعاملون مع الله، وبسهولةٍ أكبر.

  • «يا ربّ، فعلنا هذا العمل وذاك، وصُمنا أربعين يومًا، وفعلنا كذا لعامين، ولم نرَ نتيجة، فوداعًا! يبدو أنّه لا خبر هنا، لا خبر»، تفضّلوا، لا يوجد أيّ خبر. هل حدث أن وقفنا مرّةً أخرى؟ هل حدث أن قلنا لله: «يا ربّ، سواء أعطيتنا أم لم تعطنا، نحن لن نذهب»؟ هل حدث ذلك؟

  • هل حدث أن قلنا: «يا ربّ، ليس لدينا مكانٌ آخر غير هذا المكان، ولو طردتنا من الباب سندخل من النافذة، ومن السطح، ولو فعلت بنا ما فعلت، سندخل من الباب، ولن نغادر عتبتك ودربك»؟ هل رأيت نفسك هكذا أمام الله؟ بهذه الصورة؟

  • يقول الإمام السجّاد عليه السلام: تعلّم طريقة الدعاء، تعلّم طريقة الطلب، تعلّم كيفيّة المسألة، كيف تتوجّه، كيف تطلب، كيف تسأل. نعم، إذا أتيت، وتركت نفسك جانبًا، ولم تطرح حاجتك لنفسك، وجئت إلى الله عاجزًا حقًّا، وقلت: «يا ربّ، أنا لا أعلم، نحن لا نعلم». إذا كان الأمر هكذا، فإنّ كرم الله ولطفه أعظم من أن يحرمك، هذا أمرٌ مسلّمٌ لا نقاش فيه. ولكن الشرط الأوّل هنا هو مراعاة الأدب ومقام المخاطبة. 

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

12
  • الدعاء بحال المُطالب أم المُحتاج؟

  • من هو؟ ومن نحن؟ وما هو؟ وما نحن؟ فكيفما كان الإنسان، فإنّه يكون بهذا النحو: عندما يأتي شخصٌ إليك مُطالبًا، ويقول لك: «أعطني هذا المبلغ من المال»، ستقول له: «لا أريد أن أعطيك إيّاه». ولكن، لو رأيته لا يأتي مطالبًا، بل يأتي محتاجًا، فإنّك ستعطيه أكثر. ولكن، إذا رأيته يأتي إليك بحالة توقّع، [لن تُعطيه]. إنّ هذه الحالة تكون أقوى بمراتب عند الله؛ لأنّه تعالى في كمال الغيرة وكمال العزّة؛ فكلّما ذهبت إليه مُطالبًا، ستصطدم بالأرض؛ وهذا حتّى بالنسبة للحاجات الإلهيّة والربّانيّة، إذا كانت بصورة طلبٍ استحقاقيّ. 

  • وذلك مثل السفر إلى الإمام الرضا عليه السلام بصفة المُطالب، فأقول: «يجب أن آتي إلى الإمام الرضا». وكذلك السفر إلى كربلاء بصفة المطالب، لا بصفة المحتاج! هذا مهمٌّ جدًّا، ونحن نفهم هذه الأمور. والسفر إلى الله بصفة المطالب والمتوقّع! إنّ الله تعالى لن يرزقك ذلك، وإن رزقك إيّاه، فلا فائدة منه، حيث ستكون قد ذهبتَ، وأهدرتَ مالك، ورجعتَ. أقولها بصراحة! ولكن إذا كان ذلك بصفة المحتاج، فحينها سواء أخذك أم لم يأخذك، فإنّك ستنال نصيبك.

  • خلاصة المبادئ الثلاثة

  • يقول الإمام عليه السلام: بعد أن توصّلتُ إلى هذه النقاط الثلاث: أوّلاً، يجب أن أتوجّه إليك فقط. ثانيًا، يجب أن أكون راضيًا بقضائك، لا أن أفرض إرادتي عليك. ثالثًا، أعلم أنّ الحجاب والستار بيني وبينك هو من جانبي أنا، لا من جانبك، وأنا لا أستطيع أن أصل إليك، أمّا أنت فلست كذلك، أنت مشرفٌ تمامًا. مع الانتباه إلى هذا، لا أرى مفرًّا هنا إلّا أن آتي وأعرض عليك طلبي: يا ربّ، هذا هو طلبي! الآن، ما هو هذا الطلب؟ سنتركه لليلة القادمة إن شاء الله تعالى. أن آتي وأعرض عليك حاجتي؛ لأنّه لا أحد يقضي الحاجات غير هذا المكان.

  • قصّة النبيّ موسى وقارون

  • الحكايات هنا كثيرة جدًّا. عندما اختلف النبيّ موسى عليه السلام مع قارون، جاء قارون واتّهم موسى، ودبّر مؤامرة، فأخذ امرأةً سيّئة السمعة وأعطاها مالاً وقال لها: «قومي في وسط الناس، وقولي إنّ هذا العمل السيّء قد حدث». جاءت المرأة، ولكنّها عندما أرادت أن تتكلّم، خجلت. رأى النبيّ موسى عليه السلام امرأةً قد قامت ولكنّها لا تتكلّم، فقال لها: «لماذا قُمتِ؟» قالت: «أريد أن أقول شيئًا ولكنّني أخجل». قال: «قولي». قالت: «أخجل».

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

13
  • في النهاية، قالت: «إنّ قارون أعطاني مالاً لآتي وأتّهمك». فغضب النبيّ موسى غضبًا شديدًا وقال: «لقد فعلت ما فعلت حتّى الآن، والآن وصل بك الأمر إلى هذا الحدّ! هل هذا هو العمل الوحيد الذي تبقّى لنا لنفعله؟». لقد ثار غضبه، وعندما كان النبيّ موسى عليه السلام يغضب، لم يكن أحدٌ يستطيع تهدئته، فقد كان من أولئك الذين يضربون أحدهم لكمةً فيسقط أرضًا. كان قويًّا جدًّا، كما جاء في الآية: ﴿فَوَكَزَهُ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيْهِ﴾۱، لكمه لكمةً فقتله. وفي اليوم التالي، تشاجر مع شخصٍ آخر، فلمّا أراد أن يضربه لكمةً قال له: «هل تريد أن تقتلني كما قتلت نفسًا بالأمس؟ هل نسيت؟».

  • وعندما عاد من جبل الطور، ورأى أنّهم يعبدون العجل، أمسك بلحية أخيه هارون وبدأ يضربه، فقال أخوه المسكين: ﴿يَا ابْنَ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي﴾،٢ لقد استهان بي الناس، ومهما صرخت... كادوا يقتلونني، فلماذا تُمسك بلحيتي؟ على كلّ حال، كان هكذا، فجأة... قال: «يا ربّ، لقد جاء هذا واتّهم عبدك». فقال الله تعالى: «لقد وضعنا قوى الأرض تحت تصرّفك». قال: «يا أرض، ابتلعيه مع كلّ كنوزه، كلّ الذهب والجواهر، ابتلعيها كلّها!». فجأةً، غاص قارون في الأرض حتّى ركبتيه، وبدأ يصرخ: «يا موسى، لقد أخطأت! يا موسى، لقد تبت!». ولكن كما قلت، كان غضبه شديدًا ولم يهدأ. قال: «يا أرض، ابتلعيه». فغاص حتّى خصره، وأخذ يصرخ: «يا موسى، يا أخي، يا ابن عمّي! أين رحمتك؟ أين مروءتك؟ لقد أخطأت، لن أكرّرها». لكن، لا، ابتلعيه. فغاص حتّى وصل إلى رأسه .بعد ذلك، خاطب الله موسى قائلاً: «يا موسى، إنّك لقاسي القلب، لو أنّه ناداني مرّةً واحدة لرفعت عنه العذاب. ألم يرقّ قلبك له حتّى فعلت به هذا؟ لماذا لم تستمع لكلامه؟». لو قال مرّةً واحدة: «يا ربّ»، لكان الله قد هدّأ من غضبه في تلك الحال! هناك أسرارٌ في هذا الأمر، ومسائل كثيرة حول كيفيّة تضافر العوالم لإحداث واقعةٍ ما، فلندع هذا جانبًا.

  • لا استحقاق لنا على الله تعالى

  • لكنّ الحديث هو أنّ الإمام السجّاد عليه السلام يقول: بعد كلّ هذا، يا ربّ، لقد أتيت إليك فقط، وقصدتك وحدك، وطلبتك وحدك، وجعلت توسّلي بالدعاء إليك، أي أنّي قدّمتك في هذا الأمر ولم أُشرك معك أحدًا في ذهني أو مخيّلتي. ولكن كلّ هذا الكلام يكتمل بهذه الخاتمة: «مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِاسْتِمَاعِكَ مِنِّي».

    1. سورة القصص (٢۸) الآية ۱٥.
    2. سورة الأعراف (۷) الآية ۱٥۰.

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

14
  • أنا لم أكن مستحقًّا لأن تسمع كلامي. ما هو الحقّ الذي لي عليك؟ ما هو الحقّ الذي لي عليك حتّى تأتي وتستمع لكلامي؟ أن تُفرّغ وقتك من أجلي؟ فعندما يريد شخصٌ أن يستمع إلى كلام شخصٍ آخر أو يهتمّ به، فإنّه يخصّص جزءًا من وقته له، ويُصغي إليه. وهذا يعني أنّ ذلك الشخص يجب أن يكون في وضعٍ معيّن حتّى يستمع إليه الآخر. أمّا إذا كان شخصًا مجرمًا، مخالفًا للقانون، وليس لديه ما يقوله، فإنّنا نقول: «فلان ليس لديه ما يقوله، فلماذا نستمع إليه؟ لماذا نضيّع وقتنا معه؟».

  • ما هو الحقّ الذي للإنسان على الله حتّى يطلب منه أن يقف ويستمع إليه ويكون مسؤولاً أمامه؟ نحن الذين أصل وجودنا منه، ولا نملك شيئًا في وجودنا، ونحن صفرٌ، ولا معنى للضدّ والندّ بالنسبة لله، فأيّ مسألةٍ تبقى هنا؟! أيّة منّةٍ لنا على الله تعالى حتّى يأتي ويهتمّ بكلامنا ومطالبنا؟

  • استجابة الله تعالى هو بسبب لطفه وليس لأنّه أمر مفروض عليه!

  • إذا أراد هو أن يهتمّ، فهذا من لطفه، لأنّه هو الذي قال ذلك، لا لأنّنا نتوقّعه منه! المسألة من طرفٍ واحد، لا تخطئوا ولا تتدلّلوا على الله. هو الذي جاء وقال إنّه سيسمع مطالبكم، هو الذي قال: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾۱، وهو الذي قال: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾٢، وهو الذي قال: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾٣. هو الذي قال هذه الأمور، ولم نأتِ نحن لنفرضها على الله. ولماذا لا نفرضها عليه؟ لأنّ أصل وجودنا منه، ومن نحن في قباله حتّى نستعرض أنفسنا؟! من كان في ذاته متعلّقًا بالله، هل يليق به أن يأتي ويطرح تمنّياته في مقابله تعالى؟! إنّ أصل الذات وأصل الوجود من الله، فقد كنّا صفرًا، وكنّا لا شيء، وكنّا عدمًا مطلقًا، وكنّا فناءً محضًا، وكنّا محوًا. فجاء هو، وأعطانا الوجود؛ فوجودنا متعلّقٌ به. وهذا الوجود فقرٌ محض، وإمكانٌ محض، واحتياجٌ محض، وفاقةٌ محضة. وعلى حدّ تعبير المرحوم صدر المتألّهين، حيث إنّ له عبارةٌ جيّدة يقول فيها: «نحن لسنا فقراء، بل نحن الفقر نفسه».٤ فالفقير هو شخصٌ معسر، أمّا الذي يكون عين الفقر فهو الذي ذاته العدم واللاوجود، ذاته الحاجة، والعدم يحكم على ذاته، والوجود الذي يملكه هو وجودٌ من الله، لا من نفسه. فكيف نتوقّع من الله أن يأتي ويستمع لكلامنا؟

    1. سورة غافر(٤۰) الآية ٦۰.
    2. سورة البقرة (٢) الآية ۱۸٦.
    3. سورة الزمر(٣٩) الآية ٥٣.
    4.  الشواهد الربوبيّة في المناهج السلوكيّة، ج ۱، ص ۱۰۸:
      «... بعدما أشرنا إليك إلى فقر الهويّات الوجودية إلى بارئها فقرا ذاتيًّا من حيث هويّاتها، وأنها تعلّقية الوجود من غير أن يكون لها كينونة لأنفسها ولا أن يكون لها مع أنفسها إذا قطع النظر عن جاعلها إلاّ البطلان المحض والليس الصرف». المعرّب

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

15
  • ماذا لو لم يستجب الله تعالى لنا؟

  • لو أنّ الله لم يستجب لكلامنا، فماذا يمكننا أن نفعل؟ لو أنّ الله مازَحنا الليلة وقال: «هذه الليلة، ليلة السبت، لن أستمع لكلامكم!»، فماذا سنفعل؟ سنقول: «حسنًا، لن تستمع، وداعًا!». ماذا سنفعل؟ لو قال: «وغدًا ليلاً لن أستمع أيضًا». فما معنى «لن أستمع»؟ معناها أنّه سيُغلق عليك سلسلة علل وأسباب عالم الوجود كلّها. ويقول للملائكة... في لحظةٍ واحدة، سنتلاشى ونذهب هباءً. «لن أستمع لكلامك بعد الآن، لا شأن لي بك، سأتركك، سأُغرقك في الدنيا، سأُلقي بزمامك على عنقك. منذ الليلة، زمامك...». انظروا حينها أين سيكون مكاني ومكانكم غدًا!

  • انظروا أين سنجد أنفسنا! في أماكن نخجل من ذكرها، ونخجل من التفكير فيها، ونخجل من أن تخطر على بالنا. لقد ألقى بالزمام على العنق، وسيبقيك حيًّا فقط، ولكن زمامك على عنقك! انظروا حينها إلى أين سنذهب! في لحظةٍ واحدة يا سيّدي...!حسنًا، لو وجد الإنسان نفسه في مثل هذا الموقف، فماذا عليه أن يفعل؟ ويا ويل ذلك اليوم الذي يُلقى فيه الزمام على عنق الإنسان، فلا يعود يفهم. عندما يُلقي الله بالزمام، فإنّه يُعمي الأبصار أيضًا. أحيانًا، ومن أجل التنبيه والتذكير، تظهر بعض الألطاف التي تتناسب مع وضع الإنسان، ولكنّ طرف الخيط يبقى بيده، فيُلقيه ويتقدّم، ولكنّ طرف الخيط يكون بيده. هل رأيتم في السابق؟ كان الأطفال يُمسكون عصفورًا ويربطون خيطًا في رجله، أو يمسكون دبّورًا ويُطيّرونه ومعهم بَكَرة خيطٍ، فيطير الدبّور بعيدًا وهو لا يعلم أنّ الخيط بيد الطفل. أو يطير العصفور بعيدًا، والخيط طويل حتّى لا يشعر به، وعندما يحاول أن يبتعد أكثر، يسحبه الطفل فيرفرف ويقف مكانه. ثمّ يسحب البَكَرة ويقرّبه إليه. في كثيرٍ من الأحيان، القضيّة هكذا. هذه المصائب التي تحدث، وهذا الصعود والهبوط يحدث، ولكنّ طرف الخيط يكون بيده. هذا جيّد.

  • خطر الاستدراج الإلهي

  • لكن، لا قدّر الله أن تصل المسألة إلى تلك المرحلة، حيث يُلقي بالزمام بطريقةٍ لا يفهمها الإنسان، ويظنّ أنّ الأمور على ما يرام، ويبدأ بالاستهزاء! لا يفهم أصلاً من أين تأتيه الضربات. وهذا ما يسمّى بالاستدراج: ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾۱. نبدأ بسحبهم إلى الأسفل شيئًا فشيئًا، ببطء، بحيث لا يشعرون أبدًا أنّهم يهبطون أمتارًا في كلّ ثانية. ثم ماذا يحدث؟

    1. سورة الأعراف(۷) الآية ۱۸٢.

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

16
  • نبتليهم بمشاغل الدنيا، ونفتح لهم طريقًا من هنا ونغلق آخر من هناك، فينشغلون كلّيًا بهذه الأمور، وهم يهبطون ويهبطون، حتّى يصلوا إلى حيث ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ﴾۱. فيختم الله عليها وتنتهي القضيّة. وحينئذ، لو جاء النبيّ لسخروا منه، ولو جاء إمام الزمان لما قبلوه. لدينا في الروايات أنّ الكثير من الذين يُخالفون الإمام [المهدي] هم من العلماء الذين يتحدّثون عنه في الدنيا، هؤلاء سيأتون ويعارضونه .ولمحيي الدين عبارةٌ في علامات الظهور وأوصاف الإمام يقول فيها: «وَلَوْلَا بِيَدِهِ السَّيْفُ، لَأَفْتَى الفُقَهَاءُ بِقَتْلِهِ».٢ وبعضهم يفسّرها بأنّ المقصود هم فقهاء أهل السنّة. ألم يُفتِ شريح القاضي بقتل الإمام الحسين عليه السلام؟٣ مع أنّه لم يكُن في البداية بهذا النحو، بل أصبح لاحقًا هكذا! تسافل وتسافل، ودخل في جهاز معاوية. في زمن أمير المؤمنين عليه السلام، لم يُقبل به، بل كان [تولّيه للقضاء] في زمن عمر، وأراد أمير المؤمنين عزله فاعترض الناس، فقال الإمام: حسنًا، فليبقَ!

  • وفي جهاز معاوية أيضًا، كان يأكل من خزينة الدولة، وخزينة معاوية، وهذه الأمور تؤثّر. تسافل وتسافل، حتّى جاءت قضيّة الإمام الحسين عليه السلام، فهزّته قليلاً؛ إذ كان لا يزال فيه بقيّة شيء، وإلّا لكان قد وافق مباشرةً عندما طلب منه ابن زياد [الحكم بقتل الإمام الحسين]، لكنّه قال: «يجب أن أذهب لأفكّر». لقد بقيت فيه ذرّة، ولكن عمله كان سيّئًا جدًّا، وجاء الشيطان وخدعه وانتهى أمره. هذا هو ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ﴾ ببطء ﴿مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ﴾. مسألة الاستدراج هي أن يتسافل الإنسان وهو لا يشعر أنّه يتسافل، وهنا يكمن الخطر. وإلّا لو شعر، لسعى إلى إيجاد حلّ. الشخص الذي يُخدّر، لو قطّعوه إربًا لما شعر، وأمّا الشخص الحيّ، فبمجرّد أن تطعنه سكين يقول: ماذا حدث؟ لماذا تطعنني؟ إنّه يتألّم. هذا يسقط في حالة غيبوبة، لذلك يقول الإمام: «مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِاسْتِمَاعِكَ مِنِّي»، أنا لا أستحقّ أن تستمع لي، أمّا أنّك تأتي وتتلطّف، فتلك مسألةٌ أخرى.

  • أسئلة للمستقبل: ما هو الطلب وما هي الحاجة؟

  • حسنًا، تتبادر إلى الذهن هنا بعض الأمور. أوّلاً، ما هو الطلب؟ يقول الإمام: «وَقَدْ قَصَدْتُكَ بِطَلِبَتِي»، فما معنى «الطلب» هنا؟ «وَتَوَجَّهْتُ إِلَيْكَ بِحَاجَتِي»، ما الذي يقصده الإمام بـ «الحاجة» هنا؟

    1. سورة البقرة (٢) الآية ۷.
    2. يقول الشیخ العارف الکامل محیی‌الدّین بن عربی في کتاب الفتوحات المکّیة، الباب ٣٦٦ : 
      «... ولَوْلا أنَّ السَّیفَ بِیدِهِ لافْتَی الْفُقَهآءُ بِقَتْلِهِ، وَلَکِنَّ اللهَ یظْهِرُهُ بِالسَّیفِ والْکَرَمِ؛ فَیطْمَعونَ وَیخافونَ. وَیقْبَلونَ حُکْمَهُ مِن غیرِ إیمانٍ وَیُضْمِرونَ خِلافَهُ وَیعْتَقِدونَ فیهِ إذا حَکَمَ فیهِمْ بِغَیرِ مَذْهَبِ أئِمَّتِهِمْ أنَّهُ عَلَی ضَلالٍ فی ذلِکَ؛ لِانَّهُمْ یعْتَقِدونَ أنَّ أهْلَ الاجْتِهادِ وَزَمانَهُ قد انْقَطَعَ وما بَقیَ مُجْتَهِدٌ فی الْعالَمِ؛ وأنَّ اللهَ لا یوجِدُ بَعْدَ أئِمَّتِهِمْ أحَدًا لَهُ دَرَجَةُ الاجْتِهادِ». وأورد المرحوم الشهيد القاضي نور الله التستريّ عين هذه العبارة في «مجالس المؤمنين» ج ٢، ص ٢۸۱، المجلس السادس، الطبعة الحجريّة في ترجمة محيي الدين. راجع: آية الله العلاّمة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ، الروح المجرّد، ص ٣۱٩ ـ ٣٢۰. 
    3. جاء في كتاب ترجمة وشرح نهج البلاغة لفیض الإسلام (فارسي)، ج ٥، ص ۸٣۷: 
      كان شُريح رجلاً أمردَ لا شعر في وجهه، وقد نصَّبه عمر بن الخطاب قاضيًا على الكوفة، وكان في تلك البلاد مشغولاً بالقضاء والحكم الشرعيّ. أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يعزله، فقال له أهل الكوفة: «لا تعزله؛ لأنه مُعيَّن من قِبل عمر، ونحن بايعناك على ألّا تُغيّر ما سنّه أبو بكر وعمر». وعندما تولّى المختار بن أبي عبيدة الثقفيّ منصب الإمارة والحكم، أخرجه من الكوفة وأرسله إلى قريةٍ كان يقطنها اليهود. ولمّا أصبح الحجّاج أميرًا على الكوفة، أعاده إليها. وعلى الرغم من أنه كان شيخًا مسنًّا، أمره أن يستمرّ في القضاء. وقد طلب شريح الإعفاء من هذا المنصب بسبب الذلّ الذي رآه من المختار، فوافق الحجاج. وخلاصة القول: كان قاضيًا لمدّة خمسة وسبعين عامًا، وبقي بعيدًا عن القضاء في السنتين الأخيرتين من عمره فقط، وتوفّي عن عمر يناهز مائة وعشرين سنة.

الأسلوب الأمثل لدعاء الله تعالى - كيف ندعو الله تعالى؟ هل ندعوه بحال المُطالب أم المحتاج؟

17
  • ثم يقول: «مِنْ غَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ لِاسْتِمَاعِكَ مِنِّي». توجد مسائل كثيرة هنا؛ فلنركّز الآن على هاتين النقطتين أو الثلاث نقاط، ولكنّ المواضيع كثيرة جدًّا. فهل طلب أولياء الله هو نفس طلب الله؟ وهل التوسّل بأولياء الله هو نفس التوسّل بالله أم يختلف الأمر؟ لماذا لم يذكر الإمام السجّاد عليه السلام هنا النبيّ صلى الله عليه وآله؟ لماذا لم يذكر أمير المؤمنين عليه السلام؟ بينما يذكرهم في مواضع أخرى، فيقول: «إِنِّي أَتَوَسَّلُ بِمُحَمَّدٍ وَ... وَعَلِيٍّ وَ...» ولكنّه هنا يقول: «إليك فقط». ما هو هذا المقام؟ وما الفرق بين هاتين المرتبتين؟

  • حسنًا، سندع الحديث عن هذه المسائل لليالي والجلسات القادمة إذا وفّقنا الله تعالى.

  •  

  • اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ