المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1422
التاريخ 1422/09/03
التوضيح
ما هو الهدف الأقصى للإنسان؟ وما هي وظيفة الوليّ الحقيقيّ؟ لماذا رفض الإمام الحسين عليه السلام مساعدة الملائكة والجنّ يوم عاشوراء، وأصرّ على القتال بالأسباب الماديّة؟ ما الفرق بين الزهد الحقيقيّ الذي هو قطع للتعلقات الباطنيّة، والزهد الظاهريّ؟ ما حقيقة أسئلة القبر؟ يجيب آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني عن هذه الأسئلة العميقة، مبيّنًا الفارق الدقيق بين مسلك العرفان القائم على التسليم للتقدير وقطع التعلّقات، والمسالك الأخرى.
هوالعليم
ما هو الهدف الأقصى للإنسان؟
قيمة التصرّفات الخارقة
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٢٢ هـ - الجلسة الثالثة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيم
وصلَّى اللهُ عَلَى سيّدنا ونبيّنا أبي القاسمِ محمّدٍ
صلّى الله عليه وآله، وعلى آلِهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرين،
واللَّعنةُ الدائمةُ عَلَى أعدائِهِم أجمَعينَ.
على قدر رجائك تكون إجابتك
«وَأعلَمُ أَنَّكَ لِلرَّاجِينَ بِمَوضِعِ إِجَابَةٍ، وَلِلمَلهُوفِينَ بِمَرصَدِ إِغَاثَةٍ».
لقد جعلتَ مقامك موضع إجابة للراجين، فأنت لا تخيّب آمالهم.
ذُكر في الليلة الماضية أنّه وفقًا للقاعدة ومقتضى القانون، يُقال: على قدر ما تدفع من مال، تأخذ من طعام، أليس كذلك؟ يجب أن نرى ما هو مستوى رجائنا في مسائل المعرفة ومراتب الكمال؟ فبقدر ما يوجد من رجاء، تكون الإجابة. فرجاء بعض الناس وأملهم هو الوصول إلى المطلوب فحسب، مع حذف جميع الزوائد والحواشي. ورجاء البعض الآخر هو الوصول إلى نعم المحبوب وآثاره الوجوديّة. ورجاء فئة ثالثة هو الوصول إلى الآثار البسيطة والمتنزّلة للمحبوب. وهكذا تتعدّد درجات الرجاء حتّى تصل إلى الأمور الدنيويّة؛ فهذه مراتب ولكلّ فردٍ منها مرتبته الخاصّة به.
قصّة مدّعي المحبّة: هل يثبت حبّنا عند أول امتحان؟
يروي مولانا حكايةً طرأت على ذهني الآن، فيقول إنّ محبًّا ـ شابًّا ـ كان يدّعي محبّة محبوبته، وكان يبالغ في ادّعائه كثيرًا، فيقول لها: «فداكِ القلب والروح معًا...»، وينشد لها الأشعار، ويقول: «فلتذهبِ الدّنيا ولا ينقص من شعركِ شعرة، ليس في خاطري سواكِ، وليس في قلبي غيركِ...»، وما إلى ذلك من الكلام. وفي أحد الأيّام، كانا فوق جبلٍ يتنزّهان، في مكان مرتفع ومشرف على هاوية، فبدأ الشابّ مرّة أخرى في مدح محبوبته قائلًا: «لا مكان في قلبي لغيركِ، ولا يخطر ببالي سواكِ، ولا شأن في سرّي إلّاكِ».
فقالت: «أتقول هذا بجدّ؟».
قال: «نعم».
قالت: «أنت تحبّني وتعشقني إلى هذا الحدّ؟ إنّ لي أختًا أجمل منّي بكثير، وها هي قادمة الآن».
فقال الشابّ متلهّفًا: «أين هي؟ أين؟». وما إن رفع رأسه، حتّى صفعته على قفاه وألقت به من أعلى الجبل.
لا يهمّنا الآن صدق هذه القصّة أو كذبها، بل يهمّنا جانبها الرمزيّ والنتيجة المستخلصة منها. فلنَمتحن أنفسنا حقًّا ونزنها، فما مدى صدقنا في ادّعائنا محبّة المحبوب والمطلوب الحقيقيّ؟ وإلى أيّ حدٍّ نثبت في الميدان؟ قضيّة الكوفة وأهلها والأحداث التي وقعت في ذلك الزمان لم تكن محصورةً في كوفة واحدة؛ فالكوفة لا تزال موجودة حتّى الآن، وأهل الكوفة لا يزالون موجودين حتّى الآن. فلنبحث عن هذه القضيّة في أنفسنا: هل نحن من أهل الكوفة أم لا؟
قصّة الشيخ الأنصاريّ ووفاة الطفل: هل يغيّر وليّ الله التقدير؟
كان الشيخ الأنصاريّ رضوان الله عليه أستاذًا في الأخلاق ومربيًّا ومهذّبًا للنفوس، ورجلًا عظيمًا جدًّا، مطّلعًا على المصالح والمفاسد، وصادقًا وحقيقيًّا. وفي الوقت نفسه، كان له باعٌ في علوم الطبّ القديم، فكان يصف الأدوية والعقاقير القديمة للمرضى. وفي أحد الأيّام، مرض ابن أحد أصدقائه، فوصف له دواءً. وشاء القدر ألّا يكون الدواء مؤثّرًا، وكانت مصلحة الله تقتضي أن يموت الطفل، فمات. لم يكن موته بسبب دواء الشيخ، فدواؤه لم يقتله، بل إنّ المرض لم يكن له شفاء. وهل من الضروريّ أن يؤثّر كلّ دواء يُعطى؟ ليس هناك مثل هذا الضمان، فلو كان كلّ دواء مؤثّرًا لكسد سوق عزرائيل. والله لا يريد أن يكون عزرائيل عاطلًا عن العمل، فلا بدّ له أن يكون مشغولًا أيضًا، وإلّا أصابه الملل. فجبرائيل عليه السلام لِعالَم العلم، وإسرافيل عليه السلام لِعالَم الرزق، وميكائيل عليه السلام لِعالَم الحياة، وأمّا جناب عزرائيل عليه السلام فلِعالَم قبض الأرواح، فقد وكّله الله بهذه المسؤوليّة، فلو كان عاطلًا لضجر وقال: «يا ربّ، لم تكتب اليوم في ملفّنا اسم أحد!».
إنّ هذه الأدوية بمثابة الوسائط، فإذا جاء الإذن منه تعالى أثّر الدواء، وإن لم يأتِ الإذن، فلن يفيد شيئًا ولو تناول المرء كيسًا كاملًا من الكبسولات بدلًا من واحدة. لا بدّ من النظر إلى ما قدّره هو، وهل تُعطى الفاعليّة لهذه الواسطة أم لا؟ هذه هي المسألة. ولكنّنا نرى الأمور من الطبيب والوسائط، وكثيرٌ منها يكون خاطئًا.
لم يؤثّر ذلك الدواء، وتوفّي الطفل الذي كان في السابعة أو الثامنة من عمره. فتأثّر هذا الرجل المسكين ـ والد الطفل ـ تأثّرًا شديدًا حتّى ذهب وشكا الشيخ الأنصاريّ إلى الحكومة والمحاكم، قائلًا: «لقد قتل ابني». في حين أنّ المسكين كان يقول لنفسه: «أيّ خطأ ارتكبت حتّى أتيت إلى منزل هذا الرجل؟». يا عزيزي، أنت الذي أتيت وأخذتني، كان بإمكانك ألّا تأتي، فالأطبّاء كثر، فلماذا أتيت إليّ وأخذتني؟ ثمّ، هل من المقرّر أن تكون جميع أعمالهم موافقة لرغبات الطرف الآخر؟ كلاّ، إنّهم يعملون وفق التقدير الإلهيّ، والتقدير الآن هو إماتة هذا الطفل. حسنًا، يصف له وصفة، ويقول له: «اذهب وخذ هذه الوصفة، ولنرَ ما هو المقدّر هناك». نعم، إن كان التقدير هو الشفاء، فإنّ هذه الوصفة ستشفيه. ولكن إن كان التقدير هو الموت، فهل يغيّر وليّ الله التقدير؟ لو غيّره لما عاد وليًّا، بل كان أسيرًا لنفسه، يتصرّف بمقتضى أهوائها ورغباتها.
حقيقة تصرّف الوليّ: تنفيذ التقدير لا تغييره
إنّ مهارة الوليّ تكمن في أن يفعل تمامًا ما كان سيفعله الله لو أنّه تنزّل من مقام تجرّده وجاء في صورة المادّة. فلو تجسّد الله وتنزّل وأراد أن يدبّر هذه الأمور الظاهريّة، فماذا كان سيفعل؟ سيشفي واحدًا ويقتل آخر، يحيي واحدًا ويميت آخر، يجعل امرأة تلد وأخرى تموت أثناء الولادة، يقضي دين أحدهم ويجعل آخر مدينًا، أليس كذلك؟ إنّه الآن لم يتنزّل، بل هو جالس في الأعالي، ولكن هل يختلف الأمر؟
فالأمر أشبه بأن يكون بيدي جهاز تحكّم عن بعد، فتارةً أذهب بنفسي وأضغط على أزرار هذا الجهاز، فيدور هذا الشريط المسجّل في هذا الاتجاه، ثمّ أضغط على زرّ آخر فيدور في الاتجاه المعاكس، والجميع يرون ذلك. وتارةً أخرى، لا يكون الأمر هكذا، بل أنتم تجلسون في تلك الغرفة، وأنا هنا في هذه الزاوية، لا أحد يراني، فأضغط على جهاز التحكّم فيدور الشريط. كلتا الحالتين سواء. وهذه المسألة من الأسرار التي أقولها لكم، فكّروا في هذه القضيّة وستصلون إلى أمور مهمّة. تارةً آتي وأُظهر نفسي فيراني الجميع، وتارةً لا أُظهر نفسي وأجلس في زاوية، ولكنّ العمل في الحالتين واحد، فالشريط يدور في كلا الاتجاهين، والصوت يعلو وينخفض، ويسرع ويبطئ.
علينا أن نعلم أنّ ما يفعله الوليّ ليس سوى تنفيذٍ للتقدير الإلهيّ، فلا نطلب منه ما هو خارج عن ذلك، ولا نأتيه مرارًا وتكرارًا لنقول له: «غيّر لنا الأمر من هنا وهناك». كانوا يأتون إلى المرحوم العلاّمة! ما أقوله لكم الآن هو سالبٌ بانتفاء الموضوع۱، فلا يوجد وليٌّ الآن، ولكنّ مقصودي شيء آخر، مقصودي هو تصحيح أفكارنا نحن. هذا هو المهمّ بالنسبة لنا، سواء وُجد الوليّ أم لم يوجد. يجب أن يصحَّ الفكر، فإذا صحّ الفكر استوى وجود الوليّ وعدمه، لا فرق. هل التفتّم؟ لا تأتوا وتقولوا: «الأمر بيدكم». لا، ليس بيدنا شيء. لا أنا ولا غيري، لا شيء بيدنا. لا تصل قدرتنا إلى الله، فنأتي ونمسك بخناق هذا المسكين [الوليّ]. إن كنت صادقًا، فاذهب إلى هناك، اذهب وأمسك بخناقه، فالله واقف هناك، اذهب إليه وقل له: «يا ربّ، يجب أن تشفي ابني حتمًا». ماذا سيقول لك؟ سيقول لك: «اذهب في سبيلك». «يا ربّ، يجب أن تقضي ديني حتمًا». سيقول لك: «اعمل بالأسباب الظاهريّة».
بائع الأقمشة وطلبه من السيّد الحدّاد
كانوا يأتون إلى السيّد الحدّاد ويصرّون عليه، وكنتُ شاهدًا على ذلك بنفسي، أحدهم جاء وقال: «يا سيّدي، سيأتي مأمور الضرائب إلى دكّاني، فتفضّلوا بنظرةٍ كي لا يرى شيئًا، ليأتِ المأمور فيرى قشًّا بدلًا من هذه البضائع والأقمشة ـ فقد كان الرجل بائع أقمشة ـ فالقشّ والتبن لا ضريبة عليهما». فكان السيّد الحدّاد يطأطئ رأسه، فيعيد الرجل طلبه مرّة أخرى: «يا سيّدي! أعطني دعاءً أضعه في المتجر»، وكان السيّد لا يزال مطأطئًا رأسه، فيحرجه الرجل أكثر، فيقول السيّد: «إن شاء الله سيعتني الله بالأمر». فيأتي المأمور ولا يرى شيئًا ويذهب. هل كان هذا صحيحًا بالنسبة لذلك الرجل؟ لا، لم يكن صحيحًا. ربّما يأتي مأمور الضرائب ويريد أن يأخذ الضريبة، ويكون هذا هو الصحيح بالنسبة لك. حسنًا، لقد تهرّبنا من خمسمائة ألف تومان من الضرائب ـ لا أريد أن أقول ادفعوا الضرائب! فلكلّ شيء مقامه ـ لكنّ الحديث هنا عن أنّنا نريد أن نغيّر تقدير الله ومشيئته.
منهجان في السلوك: التصرّف الخارق والعمل بالظاهر
قرأتُ حكايةً في الكتاب الذي أُلّف عن الحاج حسن علي النخودكي الإصفهانيّ رحمه الله ـ كان رجلًا عظيمًا جدًّا، ولكنّه لم يكن من أهل العرفان، ويتّضح هذا من كلامه. كان من أهل الرياضة والمجاهدة والمراقبة والتهجّد والذّكر والورد، وكلّ هذا محفوظ في مقامه، كان رجلًا عظيمًا. لكنّ مسألة العرفان شيء آخر... وهو نفسه كان يقول: «إذا أردتم العرفان فاذهبوا إلى النجف عند السيّد علي القاضي». كان يعترف بذلك لمن يسأله عن العرفان.
لم يكن هناك شيء لا يستطيع فعله، من طيّ الأرض وطيّ السماء إلى خلق الأبدان والإماتة والإحياء، فقد كان يحيي الموتى. وقبره موجود في الصحن العتيق الكبير في مشهد. كنّا في مشهد هذه المرّة ـ لا، بل في المرّة السابقة ـ جالسين مقابل الشبّاك الفولاذيّ. وعادتي عندما أزور الحرم أن أجلس ساعة أو نصف ساعة في الصحن. فجأةً، رأتني بضع نساء محجّبات، كان يبدو أنّهنّ من طهران، وأتين للزيارة والبحث. رأينني من بعيد وجئن إليّ، قلن: «السلام عليكم». قلت: «عليكم السلام». قلن: «سيّدنا، هل تعرف أين قبر الشيخ حسن علي النخودكي؟». قلت: «قبر الإمام الرضا عليه السلام هنا». فنظرن إليّ نظرة استغراب، وكأنّهن يقلن: «ماذا نقول وهذا بماذا يجيب!». قلن: «عفوًا يا سيّدي، سؤالنا كان عن شيء آخر.». قلت: «ومقصدي أنا هو الإمام الرضا عليه السلام». قلن: «ألا تعرف أين قبره؟». قلت: «أنا أعرف أنّ قبر الإمام الرضا عليه السلام هنا». فرأين أنّني قد فقدتُ صوابي، فاعتذرن وودّعن وذهبن. عندما تذهبون إلى مشهد، فلا تفكّروا في هذه الأمور، ولا تذهبوا هنا وهناك، فقط الإمام الرضا عليه السلام وكفى. الذهاب هنا وهناك هو خسارة للرهان في محضر الإمام الرضا عليه السلام. لا ينبغي للإنسان أن يشغل ذهنه بشيء آخر، فإن فعل فقد خسر.
في الكتاب الذي ألّفه ابنه عنه ـ وهو يضمّ مطالب جيّدة ومفيدة ومُعتبرة ـ يروي أنّه من الأمور التي تستدعي التأمّل أنّهم كانوا في بستان خارج مشهد، وفي إحدى الليالي شعروا بأنّ سارقًا يريد دخول البستان. وكان في المنزل بندقيّة، فقال الرجل الذي كان هناك للشيخ حسن علي رحمه الله: «يا سيّدي، تفضّل بنظرةٍ ليتجمّد في مكانه ويصبح خشبًا أو حديدًا، أو يسقط ويصاب ببلاء». فقال الشيخ: «توجد بندقيّة في المنزل، خذها وأطلق النار ليحدث ضجيج فيهرب». إلى هنا كلامه جيّد، فالبندقيّة وسيلة وضعها الله ويجب استخدامها. لكنّ كلامه له ذيلٌ هو محلّ تأمّل، قال: «لو لم تكن هناك بندقيّة، لكان لنا تكليف آخر، فربّما كنّا ندعو ليحدث له شيء آخر». وهنا لنا كلام. لماذا؟ من قال إنّه لو لم تكن هناك بندقيّة، فعليك أن تدعو ليتحوّل إلى خشبة أو يسقط من الأعلى؟ لا، فإن كانت لديك القدرة، فعليك أن تدافع. انهض ودافع، وإن لم تستطع فاجلس في مكانك. أمّا الدعاء عليه وتجميده أو كسر رأسه، فليس هذا طريق العرفاء، وليس هذا مسلك العرفان. مسلك العرفان يقول: اعمل بالظاهر.
الإمام الحسين عليه السلام: القدوة المثلى في العمل بالأسباب الظاهرة
ماذا فعل الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء؟ عمل بالظاهر، وقال: «ما دامت فيّ قوة وفي ذراعي طاقة، سأدافع». وعندما نفدت قوّته، قال: «اقتلوني». ولكنّه لم يقف لينتظر العدوّ ليهاجمه، لا، بل قال: «لن نقف هكذا، سنلبس الدروع ونحمل السيوف وندافع ونذيقكم الأمرّين ما استطعنا». وعندما لا نعود نستطيع، فهناك تكليف آخر. جاء الجنّ لنصرة الإمام الحسين عليه السلام، فلم يقبل، وجاءت الملائكة، فقال لهم: «اذهبوا في سبيلكم، فالدّنيا بيدي. أتيتم لنصرتي؟ كلّ الملك والملكوت يدور بأطراف أصابعي، فهل تريدون أن تنصروني؟». قال هذا في نفسه، ولم يقله لهم، ولكنّنا نقوله بلسان حاله. يقول: «كلّ الملك والملكوت... القوّة التي فيك أنا الذي أعطيتها لك، ثمّ تأتي لتساعدني؟».
لماذا كان الإمام الحسين عليه السلام إمامًا؟ لأنّه يعمل بالظاهر، وفقًا للتكليف. لقد وضع خطّة حربيّة يوم عاشوراء، حفر خندقًا حول الخيام وأشعل فيه النار، وترك طريقًا واحدًا فقط أغلقه بأصحابه، ووضع حبال الخيام بطريقة تمنع الخيل من العبور. عندما أمر عمر بن سعد بالهجوم، بُهتوا من هذه الخطّة التي أعدّها الإمام وأغلقت عليهم طرق التسلّل. فأمر عمر بن سعد بالرماية، فسقط ثلاثون من أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في الوهلة الأولى. فهل كان على الإمام أن يقول: «بما أنّنا سنُقتل، فلنترك كلّ شيء ونجلس على الأرض ليأتوا ويقطعوا رؤوسنا»؟ لا، ليس الأمر كذلك. الله أعطاك الفكر والقدرة، ويقول لك: «احفر هذا الخندق». أمّا تقديري بشهادتك، فهذا أمر باقٍ وسينفّذ في وقته، ولكن عليك أنت أن تعمل بما قدّرته أنا في طريق الظاهر.
هنا تكمن نقاط عجيبة جدًا. كيف يظهر مقام الجمع في السالك الباقي؟ هنا، كلّما كان السالك أقدر على الجمع بين هاتين المرحلتين بإتقان، كان أقوى من حيث البقاء. حسنًا، أنت الآن تتهرّب من الضريبة فلا تدفعها، وفجأةً بعد يومين يسقط ابنك ويكسر ساقه، فتضطر لدفع ستمائة ألف لعلاجه، مائة ألف زيادة. فهل فكّرت في هذا؟ أو حتّى لو لم يحدث ذلك، لا تظنّوا أنّنا عاجزون بل لدينا الكثير من هذه المسائل، ويكفيكم أنّكم بقيتم في هذه المسألة. بل إنّ هذه المصائب التي تحدث قد تكون مقدّمة لدفع ضرر أكبر كان سيحدث لاحقًا. هل نحن مطّلعون على أسرار الغيب؟ لو كنّا مطّلعين، لذهب ذلك الرجل الذي طلب من السيّد الحدّاد دعاءً ليتجنّب دفع خمسمائة ألف، لذهب هو نفسه إلى دائرة الضرائب وقال: «خذوا هذه الخمسمائة ألف»، لو كان يعلم لماذا قُدّر عليه هذا المبلغ، وما هي المضارّ التي ستُدفع عنه بأدائه.
منطق السالك: التسليم لمشيئة الله
كانوا يأتون إلى المرحوم العلامة ويسألونه: «هل نفعل هذا العمل أم لا؟»، فيقول لهم: «برأينا افعلوا هذا العمل»، أو يستخيرون، فيذهبون، فيحدث عكس ما كانوا يتوقّعون. فيقولون ـ وقد سمعتُ هذا بنفسي ـ: «لو لم نستشر السيّد لما حدث هذا». يا عزيزي، لا تسأل! لا تستشر. «لو لم نستشر السيّد لما حدث هذا». أذكر حالة زواج قالوا فيها: «لو لم نستشر السيّد لما تزوّجنا هذه المرأة التي أذاقتنا الأمرّين». وربّما كانت المرأة صالحة، لكنّ طباعه لم تتوافق معها. أو يقولون: «لو لم نستشر السيّد لما قمنا بتلك المعاملة التي أفلسنا فيها». وهل من الضروريّ أن يربح الإنسان في كلّ معاملة؟! من قال هذا؟!
أذكر أنّ أحد الرفقاء أخبرني أنّ المرحوم العلامة قال له وهو في الثالثة والعشرين من عمره: «يجب أن تتزوّج»، مع أنّه لم يكن ينوي الزواج. والطريف أنّ المرحوم العلامة هو من حدّد له الزوجة. ونقل ذلك الرجل أنّه كان يرى أنّ هذا الزواج لن ينجح، وهكذا كان. ولكنّه مع ذلك لم يعترض أبدًا. فطوبى له. «يجب أن تتزوّج».
ـ «حسنًا».
ـ «وهذه هي من اخترناها لك.»
ـ «حسنًا».
ثمّ حدثت تلك المشاكل، «حسنًا». وانتهى الأمر بشكل سيّئ، «حسنًا». كلّ شيء حسن. هل من الضروريّ أن يعيش كلّ زوجين معًا حتّى يبلغا عمر نوح؟ لا يا سيّدي، قد يموت أحدهما قبل الآخر، أو يسقط من سطح، أو يصاب بالسرطان، أو بسكتة دماغيّة. ألف مشكلة قد تحدث. فليس من المقرّر أن يموت الزوجان معًا في لحظة واحدة ويُدفنا في قبر واحد.
عندما يسلّم الإنسان زمام أموره للإمام عليه السلام أو للوليّ والأستاذ، فلا ينبغي له أن ينظر إلى العواقب، فالعواقب أمور عارضة وظاهريّة تأتي وتذهب. ولو لم يسلّم أمره للأستاذ، فهل كان سيعيش ألف سنة؟ لا، لربّما سقطت على رأسه حجر فمات. لا فرق في القضايا. علينا أن نوفّق أنفسنا مع مجرى هذا النهر، فهذا هو المهمّ.
فإن كان الإنسان يرجو الله، فلا ينبغي له أن يُدخل غيره في قلبه، ولا يخلط بين مظاهر جمال الله وغيره، سواء كانت هذه المظاهر دنيويّة أو حتّى أُخرويّة. لذلك كان المرحوم العلامة يقول في توجيهاته السلوكيّة للمبتدئين: «أغمض عينيك عن كلّ ما سوى الله». وفي هذا الطريق، مهما أعطوك من طيّ للأرضٍ أم لم يعطوك، ومن قدرة على بعض التصرّفات أم لم يعطوك، فلا ينبغي للسالك أن يفكّر في ذلك ولو للحظة واحدة. لماذا؟ لأنّ حالة الطمأنينة التي تحصل للسالك بحضور الله لا يُعادلها شيء.
فخّ التعلّقات الروحيّة: كيف تخدعنا النفس حتّى في لباس الزهد؟
كنتُ أقول لبعض الأصدقاء اليوم، رأيت مؤخّرًا حالة من بعض أهل الحال والتهجّد والمراقبة، ولكنّ فكرهم وهمّتهم كانت متوجّهة في هذه الدّنيا إلى سلسلة المعلولات لا العلل، وإلى المسبّبات لا الأسباب، فكانوا يتهجّدون للحصول على بعض العلوم والقدرات والإشراف على بعض الأمور الغيبيّة. وبعد ستّين أو سبعين سنة من هذا السعي، ما الذي يستطيعون فعله؟! يستطيع أحدهم أن يدرك نيّة شخص آخر ببعض الوسائل. حسنًا، فهمتَ نيّته، ثمّ ماذا؟ لو كانت نيّتك أن تشتروا هديّة لأهل بيتك ـ وهذا أمر جيّد ـ فما الفائدة من أن أعرف أنا ذلك؟
عندما يقارن الإنسان بين هذا الرجل وآخر لم يكن يهتمّ بهذه المسائل أصلًا، بل ركّز ذهنه في اتجاه واحد وهو الوصول إلى الله ومعرفته وعبوديّته دون حشو وزوائد، يرى الأثر والنتيجة. فالأوّل إذا أصابته نكبة، يتوقّف عن أعماله لثلاث أو أربع سنوات بسبب الاضطراب. أمّا المرحوم العلامة فكان حتّى يومه الأخير مشغولًا بالكتابة والتأليف والمطالعة. لماذا؟ لأنّ النفس كانت هادئة. يقولون له: «ستموت غدًا». فيقول: «فلأمت، ولكن لأقم بمطالعتي اليوم، فهذه لليوم». هل كان المرحوم العلامة لا يعلم أنّه سيموت غدًا؟ كان يرى ذلك بوضوح كما أرى هذا المصباح. أنا ابنه، ولكن هل شعر أحد بما كان سيحدث؟ أبدًا! كنتُ أنا بنفسي شاهدًا عند رأسه في المستشفى، وقبل ثلاث ساعات من وفاته كان يضحك ويمزح مع الجميع بقهقهة في وحدة العناية المركّزة. فيقولون له: «الضحك مضرٌّ لك». فيتعجّب وكأنّ شيئًا لم يكن. هذه هي النفس المطمئنّة التي بلغت مرتبة الاطمئنان، فالموت ليس مزاحًا.
لماذا هذا الفرق؟ لأنّ التعلّقات بالكثرات التي كان يجب أن تُقطع في مدّة الحياة لم تُقطع، بل إنّ الوصول إلى بعض هذه القدرات قد زاد من تلك التعلّقات. فطريق السلوك والعرفان هو طريق قطع التعلّقات، لا زيادتها. الكثرات ليست الخبز والجبن فقط، بل هي الاشتغال بغير الله. كلّ ما يجعل النفس تفرح بغيره هو كثرة.
زهد السلطان: هل أكل الخبز والخلّ دليل على التحرّر من الدنيا؟
يزعمون أنّ عمر كان يأكل الخبز والخلّ. فلماذا كنت تأكل الخبز والخلّ؟ لتخدع الناس. لو كنت صادقًا، لتخلّيت عن الخلافة. يقولون إنّ فلانًا كان زاهدًا لا يأكل سوى الخبز والجبن، فهو غير متعلّق بالدّنيا. أيّ دنيا لا يتعلّق بها؟! إنّ دنيا الشيخ في الثمانين من عمره هي نفسها دنيا الطفل في العاشرة والشابّ في العشرين، ولكن يتغيّر شكلها فقط. فما هي لذّة الشابّ؟ الشهوات. ولكن ما هي لذّة الشيخ في الستين أو السبعين؟ إنّها الرئاسة، والسيطرة على أموال الناس وأعراضهم ونفوسهم، وطاعة الخلق له. لذّة الجلوس خلف مكتب مع هذه السلطة هي عنده ألذّ بألف مرّة من أفضل الطعام. إنّ أكل عمر للخبز والخلّ لم يكن زهدًا، بل كان من أجل خداع الناس السذّج الذين عقولهم في عيونهم. ولو كنت صادقًا في ترك الدّنيا، فسلّم الخلافة لصاحبها. هذه ألاعيب وحيل لخداع الناس.
هذه اللذّات والتعلّقات توقف النفس في مرتبة الكثرات ولا تدعها ترتقي. فمجرّد أن يرى أنّه يسيطر على النفوس ويقرأ النيّات، أو أنّه قادر على طيّ الأرض، فإنّ هذه القدرة التي يشعر بها هي عين الكثرة. هو يأكل الخبز والجبن، ولكنّه قادر على إخراج أوراق الألف النقديّة من تحت الفراش. فهذا هو ما يوقعه في الفخّ. لو قيل له: «تنازل عن هذه القدرة التي تقول إنّها من الله، سلّمها لصاحبها». فهل يفعل؟
لا، بل يقول: «وماذا في المقابل؟»
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا﴾۱، وهذه القدرة أمانة، وأنت تقول على المنبر إنّ كلّ شيء من الله، والآن حان دورك، فسلّم هذه الأمانة.
فيقول: «وماذا في المقابل؟»
ـ لا شيء في المقابل، فقط أن تكون عبدًا للّه.
ـ لا، لا يمكن، لا بدّ من مقابل.
الله تعالى لا يحبّ المعاملة والأخذ والعطاء. على أيّ حال، لقد طال المجلس، وأظنّ أنّ الرفقاء قد تعبوا.
أسئلة القبر الحقيقيّة: عن المعرفة لا عن الكرامات
إنّ كلّ زاوية من هذه المسألة نأخذها، نرى أنّ نهايتها هي إمّا أن يصل الإنسان إلى حقيقة التوحيد التي هي العبوديّة المحضة وحذف كلّ الشوائب والجوانب، وإمّا أن يكون قد خسر. هناك أناس تعبوا واجتهدوا في هذا الطريق، لكنّ سعيهم لم يثمر. يقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾٢. لقد سعوا وظنّوا أنّهم يحسنون صنعًا.
ولكن ما إن يوضعون في قبورهم، حتّى يأتي منكر ونكير ويسألان: «ما مدى معرفتك؟». أقسم لكم، لن يسألا: «هل كان لديك طيّ أرض أم لا؟ هل كنت مشرفًا على النفوس أم لا؟». أنا مطّلع على الأسئلة التي يطرحونها. يسألون: «مَن ربُّك؟» أي ما مدى قربك من معرفته؟ «مَن إمامُك؟» هل عرفت إمامك؟ إمام زمانك الذي كان حيًّا ولكنّه غائب عن عينيك، ما مدى معرفتك به؟ هل هي معرفة البطاقة الشخصيّة؟ أمّه نرجس خاتون وأبوه الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، هل هذا يكفي؟ أم أنّ السؤال هو: إلى أيّ مدى وضعت نفسك في ولاية إمام زمانك؟ هذه من الأسئلة، أقولها لكم لتستعدّوا للاختبار. يسألون عن القرآن: «ما قرآنك؟» هل فكّرت يومًا أنّ هذا القرآن نزل عليك أنت؟ يسألون عن الإمام، وعن الطريق، وعن صلة الرحم، وعن المعاشرة، وعن حسن الخلق. هذه هي أسئلة الامتحان التي أعدّها لنا منكر ونكير. نأمل إن شاء الله أن نحصل على درجة جيّدة.
نسأل الله تعالى أن يوفّقنا في جميع أمورنا، وأن يزيد من بصيرتنا بالحقائق، وأن يمطر علينا في كلّ لحظة من عنايات وألطاف وليّه إمام الزمان عليه السلام.
اللَّهُمَّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد