المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء أبي حمزة
التاريخ 1398/09/22
التوضيح
لماذا يحتاج الإنسان بشدّة إلى الله تعالى أثناء الموت؟ هل تبقى شؤون الإنسان الدنيويّة عند انتهاء دنياه؟ ما هي الغربة التي يُعاني منها الإنسان في القبر؟ وما هو الطريق لرفع هذه الغربة؟ أيّ خطر يُواجهه الإنسان إذا أوكله الله تعالى إلى نفسه؟ كيف يكون بعد الموت لسانُ الذي لا يكون تعامله في الدنيا مع الله تعالى؟ هل إنّ استجابة الله للدعاء راجعة لفضله تعالى، أم لاستحقاق الإنسان؟ ما هي حقيقة اللباس الإلهيّ الذي تُستر به الذنوب؟ ما هي أعمال ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان؟ هي تساؤلات سعى سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لشرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ الشريف.
هو العليم
عالَم القبر بين فقر الإنسان وفضل الله تعالى
شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثامنة عشرة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
بِسمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحیمِ
وصَلَّی اللَهُ عَلَی مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطّاهِرینَ
ولَعنَةُ اللَهِ عَلَی أَعدَائِهِم أَجمَعینَ
حاجة الإنسان الشديدة إلى الله تعالى أثناء الموت
«وَاغْفِرْ لِي مَا خَفِيَ عَلَى الْآدَمِيِّينَ مِنْ عَمَلِي، وأَدِمْ لِي مَا بِهِ سَتَرْتَنِي، وارْحَمْنِي صَرِيعًا عَلَى الْفِرَاشِ تُقَلِّبُنِي أَيْدِي أَحِبَّتِي، وتَفَضَّلْ عَلَيَّ مَمْدُودًا عَلَى الْمُغْتَسَلِ يُقَلِّبُنِي صَالِحُ جِيرَتِي، وتَحَنَّنْ عَلَيَّ مَحْمُولاً قَدْ تَنَاوَلَ الْأَقْرِبَاءُ أَطْرَافَ جَنَازَتِي، وجُدْ عَلَيَّ مَنْقُولاً قَدْ نَزَلْتُ بِكَ وَحِيدًا فِي حُفْرَتِي، وارْحَمْ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ الْجَدِيدِ غُرْبَتِي حَتَّى لا أَسْتَأْنِسَ بِغَيْرِكَ».
إلهي، اغفر لي، واصفح عنّي، وتغاضى عمّا خفي على الآدميّين وأفراد الإنسان من الأعمال القبيحة والفجّة التي صدرت منّي، ولم يطّلع عليها أحد سوانا أنا وأنت، واسترها برحمتك، ووارها تحت حجاب عصمتك عن أنظار الناس، وتجاوز عنها بأجمعها
«وأَدِمْ لِي مَا بِهِ سَتَرْتَنِي»؛ أدِم الستار الذي وضعته على أعمالي، والحجاب الذي ألقيته على سيّئاتي، ولا تقِف به عند أيّ حدّ، ولا تجعله محدودًا بأيّ مقدار معيّن، بل أدِم هذا الستار والرداء؛ فمثلما أنّك سترتني في البداية، عاملني بنفس هذه الرحمة البدويّة، واستمرّ على نفس هذا النهج ما دامت أعمالي المخفيّة باقية بأجمعها؛ وإلاّ، لو تقرّر أن تفشيها، فوا مصيبتاه حينئذ!.
«وارْحَمْنِي صَرِيعًا عَلَى الْفِرَاشِ تُقَلِّبُنِي أَيْدِي أَحِبَّتِي»؛ ارحمني حينما أقع على فراش المرض، فتُقلّبني أيدي أحبّتي وأهلي وأقربائي وأبنائي لهذه الجهة وتلك، وأكون صريعًا على فراش الموت الذي استلقيتُ عليه.
ومعنى صريعًا: واقعًا على الأرض ولا أقوى على النهوض بتاتًا، وقد فقدتُ القدرة والقوّة، بحيث لا أستطيع أن أتقلّب في الفراش من جانب إلى آخر؛ وحينئذ، يقوم أحبّائي وأهلي وأقربائي بتقليبي لهذه الجهة وتلك، ويضعون أيديهم تحت جسدي في سبيل تغييره من حال إلى آخر، وتبديله من كيفيّة إلى أخرى؛ ففي ذلك الحين، ارحمني؛ لأنّني أكون محتاجًا آنذاك إلى الرحمة؛ فقبل أن أصل إلى هذه الوضعيّة، كنت أعتمد على حولي وقوّتي، وأتّكئ على عالَم الغرور، وأعدّ جميع هذه القوى نابعةً منّي؛ ولذلك، لم أتمسّك في ذلك الحين برحمتك.
لكن، حينما تحلّ آخر ساعة من ساعات الدنيا وأوّل ساعة من ساعات الآخرة، فتسترجع كافّة الثروات التي منحتني إيّاها، ويتبيّن كالشمس في رائعة النهار أنّنا لم نملك من أنفسنا أيّة قدرة أو علم، وأنّ شعاعًا من جمال وجهك سَطَع على هذا الهيكل الترابيّ، فصيّره ذا شعور وحياة وقدرة؛ ففي تلك اللحظة التي تستعيد فيها كلَّ هذه الأمور، ونرى أنفسنا نتوجّه ـ ساعةً بعد ساعة ولحظة بعد لحظة ـ نحو الفناء، ونفقد تدريجيًّا الأشياء التي وهبتنا إيّاها، إلى أن نصل إلى المرحلة التي تضمحّل فيها هذه الأشياء من دون أن يبقى منها أيّ شيء؛ فتلك القدرة ـ التي أفضتها علينا، وأعليتها في قوس الصعود، وأوصلتها إلى مرحلة الأشدّ ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ﴾۱، وهكذا، إلى أن بلغت بها مرحلة الكمال، وهديتها إلى نقطة الأوج ـ قد هوت في قوس النزول، وطفقت تتنزّل يومًا بعد يومًا، ودرجة بعد درجة، إلى أن اضمحّلت هذه القدرة؛ ومع أنّني كنت أقوم في الدنيا بمجموعة من الأعمال، وأسلك العديد من الطرق، وأقطع البرّ والبحر، وأسافر في السماء والأرض، وأطير، وأحمل الأثقال والأعباء، إلاّ أنّ قدرتي انحطّت الآن إلى مستوى، بحيث لم أعُد قادرًا على تحريك نفسي في هذا الفراش، وإذا أردتُ أن أتقلّب من جانب إلى آخر، عليّ أنادي على «أيدي أَحِبَّتي»، أو أشير إليها، فتأتي، وتُحرّكني.
إلهي، إنّني أفتقر كثيرًا في ذلك الحين إلى الرحمة؛ إذ إنّ رحمتك تجري على المساكين والمحتاجين؛ وأنت تعلم بأنّني أحتاج كثيرًا إلى الرحمة في تلك اللحظة التي تُسلب فيها منّي القدرة والعلم، وتُضنيني سكرات الموت، فأُصابُ بالقلق؛ ولهذا، سُمّيت بالسكرات؛ أي أنّ حال الدهشة والسكر يكون فيها شديدًا، إلى درجة أنّ الإنسان يفقد مدركاته، ويقوم ـ كالمجنون ـ ببعض الأفعال التي لا يقوم بها العقلاء، حيث تحصل له رجّات عقليّة، وتأتي على ذهنه خواطر الماضي والأعمال التي قام بها، وخواطر المسائل التي سيستقبلها والعوالم التي سيلِجُها من دون أن يتزوّد لها، وخواطر الأحبّة والأصدقاء الذين فتح معهم في حياته باب الرفقة والمحبّة، ويراهم الآن على أعتاب الفراق، وخواطر الأتعاب التي بذلها في الدنيا، والإنجازات التي خلّفها، وضيّع عمره لأجلها، ويراها الآن أمام عينيه، وقد توجّب عليه أن يُودّعها بأجمعها، ويرحل؛ فتهجم عليه الهموم والغموم من كلّ طرف وكنف، إلى درجة أنّها تُصيبه بحالة من الجنون والسكر والدهشة؛ وهذه هي التي يُقال عنها: السكرات.
﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ إِنَّ زَلۡزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيۡءٌ عَظِيمٌ﴾۱؛ أي: اخشوا زلزلة تلك الساعة التي تختصّ بالقيامة؛ فهي شديدة، إلى درجة أنّ الحوامل يُسقطن أولادهنّ والأمّهات اللواتي يُرضعن أولادهنّ ينسينهم من شدّة الخوف والهول!
انتهاء شؤون الإنسان الدنيويّة بانتهاء دنياه
فالموت قيامة صغرى في مقابل القيامة الكبرى، حيث يقول الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم «مَن ماتَ قامَت قِيَامَتُه»؛٢ بمعنى أنّ الولوج إلى عالم البرزخ هو بداية القيامة؛ وهنا تظهر السكرات؛ إذ إنّ هذه السكرات لا تنشأ فقط من شدّة المرض ـ مع أنّ هذا الأمر محفوظ في محله ـ ، بل تنشأ أيضًا من الأفكار التي تظهر للمحتضر جرّاء الأحداث التي تحدّثنا عنها آنفًا، فتُخرجه عن حالته [الطبيعيّة]. فأرى العلم الذي جمعتُه يودَع بأجمعه في ملفّ النسيان من دون أن أقدر على اصطحابه معي؛ لأنّ هذه العلوم كانت كلّها مادّية ولأجل عمارة الدنيا وعمرانها؛ ولهذا، حينما ينهدم أساس النشأة الدنيويّة، فإنّ الأمور الاعتباريّة والآثار المرتبطة بهذه النشأة ستنهدم هي أيضًا، ولا تعود علوم عالَم الاعتبار قادرة على سوق الإنسان إلى عالَم الحقيقة؛ لأنّ لكلّ واحد من هذه العوالم آثاره وميزاته الخاصّة.
فالعلوم الاعتباريّة تتعلّق بعالَم الاعتبار، وليس من شأنها مرافقة الإنسان [إلى عالم الحقيقة]، بل إنّها تنتهي حين الموت؛ فإذا كان الإنسانُ علاّمةَ زمانه، فإنّ علومه الاعتباريّة ستصطحبه إلى وقت الموت، لتُسلب منه بعد ذلك، ويُجرّد أيضًا من الحياة المادّية ومن القدرة؛ ومن هنا، نجد أنّ الإنسان الذي كان يتوفّر في الحياة الدنيا على سير تكاملي مادّي وطبعيّ من جميع الجهات ـ بحيث وصل على مستوى القدرة والعظمة والسلطلة والجاه والاعتبار والحكم والمال والزوجة والأبناء والعشيرة والرحم و ﴿تِجَٰرَةٌ تَخۡشَوۡنَ كَسَادَهَا وَمَسَٰكِنُ تَرۡضَوۡنَهَآ﴾۱ إلى القمّة ـ ينحدر من ناحية هذه الأمور بأجمعها في قوس الأفول والغروب؛ ويتوجّه لحظة بعد لحظة نحو الفناء، وهو الآن على أعتاب أن تتحوّل هذه القِلّة إلى صفر!
«وارحَمني صَريعًا على الفِراشِ تُقَلِّبُني أيدي أَحِبَّتي» (وأهلي وأقربائي، فيسكبون الماء في فمي، ويُخرجون يديّ من تحت جسدي؛ لأنّني لم أعُد قادرًا على فعل ذلك)!).
«وتَفَضَّل عَلَيَّ مَمدودًا عَلَى المـُغتَسَلِ يُقَلِّبُني صالِحُ جيرَتي»؛ تفضّل وتحنّن وتكرّم عليّ عندما يضعونني على المغتسل، ويُمدّدون جسدي هناك، ويكون جيراني الصلحاء الذين حضروا تشييعي منهمكين في التغسيل، وهم يُقلّبونني، ويسكبون عليّ الماء، ويُغسّلونني، ويحوّلوني من جانب إلى آخر، لكي يصل الماء إلى كافّة أنحاء بدني.
فأنا هو ذاك الإنسان الذي كان يتوفّر في الدنيا على هكذا قدرة، لكنّني صرت هناك فاقدًا لجميع أنواع هذه القدرة؛ وقد هوى جسدي على الأرض، ووقعتُ بأيدي جيراني الصلحاء الذين جاؤوا لأجل الإعانة والمساعدة، وسعوا إلى تقديم يد العون عن طريق هذا العمل، فوضعوني على المغتسل، وغسّلوني؛ فتفضّل عليّ هناك، ولا تتركني وحيدًا؛ لأنّني أحتاج إلى عونك!
«وَتَحَنَّن عَلَيَّ مَحمولاً قَد تَنَاوَلَ الأقرِباءُ جَنَازَتي» (الجنازة تعني التابوت).
فقد غسّلوني في البيت، وتناولوا الآن أطراف جنازتي، وتوجّهوا بي إلى المقبرة؛ وهم يسعون في كلّ لحظة للذهاب بي، ودفني تحت الأرض، وجعلي فريسة للتراب، ويُريدون أن يحفروا الأرض، ويُواروني تحتها، ثمّ يُهيلوا عليّ التراب، ويقفلوا راجعين بعدما يودعوني التراب، ويجعلوني فريسة له؛ فارحمني حينما أكون محمولاً [على الأكتاف]؛ لكن، بأيّ نحو؟ فحينما يكون الإنسان محمولاً [على الأكتاف]، فإنّ جسده هو الذي يُحمل، وأمّا روحه، فإنّها تكون مستيقظة، وملقاة على جثّته، وهي تتحرّك وتنادي بأعلى صوتها:
﴿رَبِّ ٱرۡجِعُونِ ، لَعَلِّيٓ أَعۡمَلُ صَٰلِحًا فِيمَا تَرَكۡتُ﴾ «أي: ارجعوني لكي أتدارك جميع الأعمال الصالحة التي فاتتني».
فيأتيه الخطاب:
﴿كَلَّآ﴾؛ «من المحال أن ترجع» ﴿إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَاۖ وَمِن وَرَآئِهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ﴾۱؛ «فهذا هو الكلام بعينه الذي كان هذا الشخص يُردّده في الدنيا أيضًا؛ أي: "ارجعوني، فلن أعيد ذلك مرّة أخرى؛ وخلّصوني من هذا المرض، وأنقذوني من هذه البليّة، وسأتدارك الأمر"؛ وقد أنجيناه، لكنّه لم يفعل؛ والمسألة هنا هي بنفس هذا النحو، بحيث إذا أرجعناه، فإنّه سيعود لفعل الشيء ذاته ثانيةً، ويرجع إلى حاله الأوّل؛٢ ولهذا، لا يُمكنه العودة؛ فالعالم الذي يستقبله هو برزخ إلى يوم القيامة، حيث ينبغي عليه المكوث في هذا العالم ـ الذي هو عالم الصورة ويُعدّ فاصلة بين عالمي المادّة والتجرّد ـ إلى ﴿يَوۡمِ يُبۡعَثُونَ﴾».
إلهي، إنّني أحتاج كثيرًا إلى محبّتك ومودّتك حينما أكون محمولاً، وأرى الناس آخذين بأطراف جنازتي يمشون بها، وأراهم أحياء يملكون الوقت والفرصة لتدارك ما فاتهم، في حين أنّ هذه الفرصة أُخذت وسُلبت منّي، وانتهى طريقي، ووصلت جميعُ مراحل استعدادي وقابليّتي إلى مقام الفعليّة، ولم يعد يُسمح لي بالعمل بتاتًا، وسيُبدأ من الآن في حسابي؛ فذلك الحين هو الذي يجب فيه أن تأتي عندي؛ فتعال عندي يا إلهي في ذلك الوقت، ولا تتركني وحيدًا!
غربة الإنسان في القبر وطريق رفعه لهذه الغربة
«وجُد عَلَيَّ مَنقولاً قَد نَزَلتُ بَكَ وَحيدًا في حُفرتي»؛ فحينما يأتون بي إلى القبر، ويلقون بي على الأرض، ويُهيّئون قبري، ويضعونني وسطه، ليوكلوني إليك، فَجُد عليّ واعف عنّي وسط هذه الحفرة؛ لأنّني قَد نَزَلتُ بَكَ وَحيدًا!.
فقد وضعوا جسدي في حفرة، غير أنّ روحي المثاليّة حلّت بك وحيدة، من دون أن تصطحب معها أيّ شيء من مأنوساتها ومألوفاتها؛ لأنّ هذه المأنوسات والمألوفات التي كانت لديها في الدنيا لا تتوفّر على الأهليّة والقابليّة للمجيء إلى هنا؛ كما أنّ تلك الروح لا تعرف أيّ أحد غيرك في هذا العالم؛ والآن، بعد أن جاءت إليك لوحدها، فتعال أنت أيضًا عندها، ولا تتركها وحيدة؛ فالوحدة والغربة صعبة جدًّا؛ وما دام الإنسان لم يُبتلَ بها، فلن يشعر بالمعاناة الناجمة عنها، ولن يُدرك كيف يكون الإنسان في موضع يرى نفسه فيه غريبًا من جميع الجهات!
«وارحَم في ذَلِكَ البَيتِ الجَديدِ غُربَتي».
لأنّه بيت جديد لم يذهب إليه الإنسان لحدّ الآن؛ أ فهل ذهب أحد في هذه الحياة إلى قبر؟! مع أنّه ليس المراد من ذلك أن يذهب الإنسان إلى القبر الظاهريّ، ثمّ يخرج منه؛ كلاّ! بل المراد هو الذهاب إلى القبر، مع ملاحظة الخصائص التي يتميّز بها والآثار الموجودة فيه؛ فهو لم يذهب إليه أيّ أحد! ومن هنا، فإنّه بيت جديد لم يدخل إليه الإنسان لحدّ الآن؛ ومن الواضح أنّه سيكون غريبًا فيه؛ لأنّ هذا البيت يتطلّب مجموعة من الأشياء لكي يجري إعماره ورفع الغربة عنه؛ والتي على الإنسان أن يُرسلها مسبقًا في الدنيا، لينُيره، حيث يتوجّب عليه أن يمدّ إليه خطوط الكهرباء والهاتف وأنابيب المياه، ويُصلح قفل بابه؛ وإلاّ، إذا ذهب الإنسان إلى هذا البيت الجديد من دون أن تكون بابه مهيّأة، فإنّ الحيوانات ستدخل إليه، وسيكون مرتعًا للصوص والأخطار؛ وهكذا إذا لم يكن فيه مصباح، ولا ماء، ولا وسائل اتّصال؛ لأنّ البيت الذي يفتقر للإصلاح يكون مليئًا في جوانبه بالحفر التي تخرج منها الحيّات والعقارب؛ وبالتالي، سيكون منزلاً مرعبًا ومظلمًا!
فإن أراد الإنسان إعمار هذا البيت، فعليه أن يبعث عاملاً من هنا لكي يقوم بهذه المهمّة؛ فيُعمّره، ويُصلحه، ويُرمّم نقاط ضعفه، ويمدّ إليه أسلاك الكهرباء، ويُهيّئ له عدّادًا، ويوصل إليه أنابيب المياه، ويُجهّز أثاثه؛ ثمّ يستدعي بعد ذلك هذا الإنسان؛ وذلك العامل هي التقوى والعمل الصالح الذي يتوجّب على الإنسان أن يبعثه لإعمار ذلك البيت؛ وإلاّ، سيكون بيت غربة بكلّ ما للكلمة من معنى!
كما أنّ هذا البيت هو بيتٌ لا يستطيع الإنسان أن ينتقل منه إلى بيت آخر، بحيث إذا لم يحظ بإعجابه، فإنّه يقول: «فلأشترِ بيتًا آخر، أو أؤجّر منزلاً ثانيًا؛ لأنّ هذا المكان غير مناسب، والجوّ فيه حارّ؛ فلأذهب إلى موضع يكون طقسه جيّدًا؛ كما أنّ الجيران هنا سيّئون، وعليّ أن أذهب إلى جوار الصالحين!»؛ كلاّ؛ لأنّنا ذكرنا سابقًا أنّ هذا البيت هو بيت الفعليّة؛ أي أنّه بيت جرى الختم عليه بالنسبة للإنسان، ولا يقبل أيّ تغيير أو تبديل؛ لأنّه يُمثّل حصيلة النفس التي سيمتلكها الإنسان حين الموت. فالمحلّ والمنزل والمأوى الذي يجري إعدادُه للإنسان بعد الموت يكون مطابقًا للحال التي كان عليها هذا الإنسان أثناء الموت، ومنسجمًا مع الفضائل والكمالات التي اتّصف بها أو النقائص والذنوب التي ارتكبها، وتحقّقت بها نفسُه في مقام الفعليّة؛ ولذلك، فإنّ هذا المنزل لا يقبل التغيير والتبديل بتاتًا!
«وارحَم في ذَلِكَ البَيتِ الجَديدِ غُربَتي».
«حتَّى لا أَستَأنِسَ بِغَيرِكَ»؛ يا سيّدي، يا إلهي، يا مولاي، ارحمني رحمةً تجعلني لا أستأنس بأيّ أحد غيرك!.
ويا له من كلام رائع! إذ من الممكن أن يُهيّئ اللهُ تعالى للإنسان هناك وسائل للأنس، فيستجيب له دعاءه، ويُيسّر له وسط القبر وفي ذلك المنزل الجديد وسائل للأنس بغيره؛ نظير الطفل الذي تُعطى له بعض الحوافز؛ فيوضع أمامه عددٌ من الدمى والألعاب ليأنس بها! يقول: إلهي، لا تُلهني بهذه الأشياء، فتأتيني ببعض الأمور لأستأنس بها، ثمّ تقوم القيامة، من دون أن أتمكّن من رؤيتك إلى يوم الحشر! فأنا أريد أن أأنس بك أنت فقط!
«حَتّى لا أَستأنِسَ بِغَيرِكَ»؛ أي: أن تسطع جميعُ مراتب التوحيد التي تشمل التوحيد الذاتيّ والفعليّ والصفاتيّ الأسمائيّ، ولا أرى أيّ موجود خارجًا عن سنا نورك وشعاعه؛ فيكون كلّ موجود ـ سواءً كان منكرًا ونكيرًا والملائكة التي تأتي إلى داخل القبر، أو كانت الجنّة أو النار اللتين يُفتح إليهما باب في القبر، أو كانت تلك الموجودات التي تظهر للإنسان في القبر بصورة حوريات وغلمان أو على شكل مواهب سماويّة ـ عبارة عن مظهر من مظاهرك، بحيث لا أستطيع الأنس بأيّ أحد سواك! فأنا أريد أن تكون بداية تعاملك معي في ذلك البيت الجديد بهذا النحو، فتزيحَ غُربتي فيه عن طريق الأنس بك أنت وحدك! فهذا هو دعائي.
خطرُ إيكالِ اللهِ تعالى الإنسانَ إلى نفسه
«يا سَيِّدي إن وَكَلتَني إلى نَفسي هَلَكتُ، سَيِّدي فَبِمَن أَستَغيثُ إن لَم تُقِلني عَثرَتي»؟!
وذلك لأنّ نفسي شرّيرة؛ ولهذا يُقال لها: نفس! فهي تدعو الإنسان دائمًا إلى الباطل والغرور؛ فما إن يغفل الإنسان عن الله تعالى، حتّى تُطلّ هذه النفس بألف رأس، فتلسعه بواسطة كلّ رأس بألف شوكة؛ وإذا اعتمد الإنسان على حوله وقوّته، وأراد القضاء على هذه الرؤوس واقتلاع تلك الأشواك، فإنّها ستُطلّ من موضع آخر بألف لسعة وشوكة أخرى؛ ولن ينتج عن ذلك إلاّ الهلاك؛ إذ لو أصيب الإنسان بلدغة عقرب أو حيّة، فإنّه سيموت؛ وحينئذ، أيّة حياة ستبقى له إن لسعه كلّ رأس من الرؤوس الألف لهذه النفس بألف لسعة؟! هذا كلّه في حالة ما إذا أوكل اللهُ تعالى الإنسانَ إلى نفسه.
وأمّا إذا أمسك الباري تعالى ـ بذاته ـ بحبل الإنسان، فإنّ أمر هذا الإنسان سيصلح؛ أي أنّه سيجعل تلك النفس مقهورة ومغلوبة لإرادته تعالى؛ فلا تعود قادرة بتاتًا على الحركة؛ شأنها شأن عبد ذليل وغلام خاضع، يقف أمام مولاه واضعًا يده على صدره، لينُفّذ كلّ ما يأمره به؛ بل إنّ هذه النفس ستخضع لأوامر الإنسان، وتُعينه؛ هذا، في حالة ما إذا أوكل هذا الإنسان زمام أموره لله تعالى.. «سَيِّدي إن وَكَلتَني إلى نَفسي هَلَكتُ».
«سَيِّدي فَبِمَن أَستَغيثُ إن لَم تُقِلني عَثرَتي»؟! إلهي، وسيّدي، إذا لم تعفُ عن عثراتي، ولم تحرسني في مواطن الزلل، ولم تُمسك بيدي حينما تنثني رجلي وأهوي إلى الأرض، ولم تُقلني (أي لم تحفظني)، فبمن أستغيث؟! وإلى من ألتجئ بعدما تبيّن لي بكلّ وضوح أنّه لا ملجأ لي غيرك؟!.
وبالتالي، فإنّني لا أستطيع الالتجاء إلى سواك؛ لأنّ غيرك باطل، وقد أدركتُ أنّه لا مُعين سواك.
فإذا لم تحرسني في مواطن العثرة، ولم تحفظني برحمتك لكيلا أسقط في هذه المواطن، فبمن أستغيث؟!
فكم يبلغ عدد مواضع الزلل؟! إلى ما شاء الله تعالى! ففي كلّ لحظة، يُواجه الإنسان عثرة، بحيث إذا لم يوكل نفسه لله تعالى، فإنّ كلّ خطوة يخطوها ستكون مزلّة بالنسبة إليه، حيث يُراد من المزلّة: موضع الزلل، ومن الزلّة: العثرة والسقوط.
«فَإلى مَن أَفزَعُ (وأمدّ يدي) إن فَقَدتُ عِنايَتَكَ في ضَجعَتي»؟!
فأنا الآن متوجّه نحو مضجعي ومهجعي، وأملي متعلّق بك هناك؛ فأعنّي! وإذا كنتُ قد رفعتُ صوتي في هذه الدنيا بنداء «الله»، ودعوتك، و...، فذلك كلّه لأنّني مفتقر إلى عنايتك عندما تحين بدايةُ عالمي الأبديّ، وتكتمل قابليّاتي واستعدادتي، وتصل فعليّتي إلى مرحلة البروز والظهور؛ فإذا عُدمتُ عنايتَك هناك؛ أي سُلبت منّي هذه العنايةُ، فإلى من أفزع؟! وإلى من ألتجئ؟! ولمن أشكو آلامي؟! ولمن أفزع، لكي يهبني ـ بسبب فزعي ـ عنايته؟!
«وَإلى مَن أَلتَجئُ إن لَم تُنَفِّس كُربَتي»؟!
فإذا لم تتفضّل بنَفَسٍ جديد على الغصّة والهمّ اللذين يعتصران قلبي، ويخنقاني، فإلى من التجئ؟!.
ولا يخفى أنّ عبارة «نَفَّسَ يُنَفِّسُ» عجيبة جدًّا! فالكُربة تعني الغمّ والغُصّة التي تنتاب الإنسان، والتي قد تعلَقُ في حلقه، وتخنقه.
يُقال: يوجد أشخاص ينتابهم خوف شديد، ومن شدّة خوفهم، ترتفع رئتهم إلى الأعلى باتّجه الحلق، فتخنقهم؛ ولهذا، فإنّ الذين يخافون جدًّا يكونون معرّضين للموت؛ كما أنّه من الممكن أن تتعرّض مرارة البعض للانفجار بسبب الخوف؛ في حين أنّ البعض الآخر لا يحصل لهم ذلك، بل تنتابهم حالة، بحيث تنجذب الرئة إلى الحلق، فتخنقهم؛ وفي هذه الحالة، يكون الإنسان بحاجة إلى قنّينة هواء لكي يتنفّس. فإذا كان الإنسان يغرق، أو يُشارف على الاختناق، وقُطعت عنه مادّة الحياة، توجّب أن يُمدّ بالنَّفَس، ويُمنح تلك المواد الحيويّة، لكي يحيى من جديد.
«تُنَفِّسُ» يعني: تُحيي روحي، وتُخلّصني من ذلك الغمّ وتلك الكُربة عن طريق الأنفاس المنعشة للأرواح التي تُفيضها من عالَم غيبك على الأفراد الذين يكونون على أعتاب الموت والهلاك!
فإذا لم تتفضّل في هذا المضجع على غصّتي وكربتي ـ أنا الذي أكون هناك أعاني من هجرانك والغربة عنك ـ بهذه الأنفاس المحيية التي تُفيضها من عالم قدسك، وتحييني بها، فإلى مَن ألتجأ هناك في ذلك الموضع؟! وإلى من أشكو؟! وحينما أكون وحيدًا داخل القبر، كيف يجب عليّ أن أصرخ؟! ومن أنادي هناك؟! وبمن أستعيذ؟! وإلى من ألتجئ؟!
«سَيِّدي، مَن لي، ومَن يَرحَمُني إن لَم تَرحَمني، وفَضلَ مَن أُؤَمِّلُ إن عَدِمتُ فَضلَكَ يَومَ فَاقَتي؟! وإلَى مَنِ الفِرارُ إذا انقَضَى أَجَلي»؟!
يا مولاي، ويا سيّدي، مَن لي؟ لا أحد! ومَن يرحمني إذا لم ترحمني أنت؟! وفضل وعناية مَن أؤمّلُ وأرجو إن قطعتَ عنّي فضلَك وكرمَك في يوم الفاقة والفقر؟! وإلى مَن أذهب؟! وفضل مَن أطلب؟! وما هو معدن الكرم والفضل الذي ينبغي عليّ أن أيمّمه بوجهي وأطلب منه؟! وأين يوجد؟!.
هل يُمكن فرضُ وجودِ فضلٍ غير فضلكَ، وكرمٍ سوى كرمك؟! وعليه، فإنّني حصرتُ طريقي بك أنت؛ وإذا كنتُ أدعوك وأتوجّه بطلبي إليك، فلأنّني أعلم أنّه لا وجود لأحد غيرك!
لسانُ الذي لا يكون تعامله في الدنيا مع الله تعالى أخرسُ بعد الموت
«وإلى مَن الفِرارُ مِن الذنوبِ إذا انقَضَى أَجَلي» (وحان وقت وفاتي، وانتهت مدّةُ المهلة الممنوحة لي في الدنيا)؟!
فالأجل يعني المدّة، حيث يُطلق على مدّة حياة الإنسان اسم الأجل؛ أي: من البداية إلى النهاية. ويأتي الأجل أيضًا بمعنى نهايته؛ أي رأس المدّة؛ ومن هنا، فإنّ الأجل يُطلق على مدّة الحياة بأجمعها، وكذلك على آخر لحظة من الحياة؛ أي ذلك الزمان الذي يرحل فيه الإنسان عن الدنيا.
ومراد الإمام عليه السلام هنا هي مدّة المهلة التي تُمنح للإنسان في حياته؛ فيكون معنى «إذا انقَضَى أَجَلي»: الزمان الذي ينقضي فيه ذلك الأجل؛ أي زمان انتهاء المهلة. فالمهلة قد تمّت، وأنا لم أطهّر نفسي بعدُ؛ والمهلة قد نفدت، ولا زالت الذنوبُ تُلازمني، وعليّ أن أتحرّك برفقتها؛ إذ صارت تربطها بي علاقةُ معيّةٍ؛ ولهذا، عليّ أن أتخلّص منها! لكن، إلى من أتوسّل قائلاً: «تعال، لكي تُساعدني، وتحمل عن عاتقي هذا العبء، وتنفض عن أكتافي هذه الذنوب»؟! فأنا على أعتاب السفر، وسفري هذا محفوف بالأخطار، وإذا تحرّكتُ مثقلاً بهذه الأحمال، سأكون معرّضًا في كلّ لحظة للهلاك؛ فإلى من أتوسّل؟! ومن عساه يُعينني في ذلك الحين؟! فهناك، لا ينفع أحدٌ أحدًا، ولا يستطيع أيّ واحد القيام بأيّ شيء!
قال المرحوم الشيخ الأنصاريّ رضوان الله تعالى عليه:
ذات يوم، جيء في مدينة همدان بجنازة قيل إنّها لأحد حكّام الجور الذين كانوا يحكمون في همدان ويظلمون الناس ويجورون عليهم؛ فتوجّهوا بنعشه نحو المقبرة، وكان يُرافقه الكثير من المشيعيّن، لكنّ ذلك المسكين (أي صورته الملكوتيّة) كان جالسًا على النعش، وهو يُحاول أن يُنادي باستمرار قائلاً: إلهي، أنقذني!
قال: لقد كانوا يتوجّهون به نحو الظلمة، حيث كانت تقع أمامه ظلمة غامضة وخانقة ومجهولة وغير محدّدة!
فعلى سبيل المثال، قد يذهب الإنسانُ أحيانًا إلى حوض من الماء أو بركة ليسبح فيهما، حيث يكون هذا الحوض محدودًا؛ لكنّه قد يذهب أحيانًا أخرى إلى مستنقع لا يُعلم حدّه، بحيث مهما غاص فيه، فإنّه لا يصل إلى قعره؛ فكانوا يذهبون بذلك الحاكم إلى ظلمة لا تُعلم نهايتها؛ وكان يسعى باستمرار لأن يقول: «إلهي، نجّني، وساعدني!»؛ غير أنّه لم يكن قادرًا على تلفّظ اسم «الله»، ولم يكن بوسعه إجراؤه على لسانه.
فحينما يُقال: «إذا لم يكن الإنسان يتعامل في هذه الدنيا مع الله تعالى، فإنّه سيعجز عن الكلام في ذلك العالم، ولن يقدر على إجابة نكير ومنكر»، فإنّه كلام صحيح؛ لأنّ لسان الإنسان يكون في هذا العالم فصيحًا جدًّا، لكنّ هذا اللسان لا يكون موجودًا في ذلك العالم، بل الذي يكون موجودًا هناك هو اللسان الباطنيّ؛ فإذا كان هذا اللسان الباطنيّ مُشرَعًا في الدنيا، وتحقّق له ارتباط ومعرفة [بذلك العالم]، فإنّه سيكون مُشرَعًا هناك أيضًا؛ وأمّا إذا كان موصَدًا [في الدنيا]، فلن تُرجى منه أيّة فائدة، ولو كان صاحبه قد حاز على المرتبة الأولى في الخطابة، حيث سيكون لسانُه أخرسًا وعاجزًا عن الحركة وثقيلاً، أو لن يكون له لسان بتاتًا!
كان المرحوم الأنصاريّ رضوان الله تعالى عليه يقول:
كان يسعى باستمرار لأن يصرخ، ويقول: «إلهي، أنقذني»، غير أنّ لسانه لم يكن قادرًا على النطق؛ وفي ذلك الحين، بدأ يلتفت إلى تلك الجماعة من الناس، ويقول لهم: «يا أيّها المسلمون، أنجدوني أنتم»؛ لكن، أ فهل كان أيّ واحد منهم يفهمه؟! أبدًا! فلم يكن أيّ أحد منهم يسمع كلامه!
«وإلى مَنِ الفِرارُ مِنَ الذنوبِ إذا انقَضَى أَجَلي» (وقيل لي: تفضّل على بركة الله)؟!.
«سَيِّدي، لا تُعَذِّبني وأنا أَرجوكَ»!
وخلاصة القول: أنت هو مولاي، وقد حصرتُ مواليَّ في مولىً واحد؛ فأنا غلام واحد؛ أي أنّه لدينا هنا عبدًا واحدًا، ومولى واحدًا! «إلى مَن يَفزَعُ العَبدُ إِلاَّ إلى مَولاهُ؟!»،۱ حيث تحدّث عليه السلام سابقًا بهذا النحو. فإذا حلّت مصيبة بالعبد، إلى من يلتجئ؟ إلى مولاه! فنجد أنّ الطفل يُلقي بنفسه في حُضن أبيه أو أمّه؛ وحينما يتعرّض للأذى، فإنّه لا يتوجّه نحو زوجة أبيه وضرّة أمّه؛ إذ المفروض أنّها من أعدائه، بل يتوجّه نحو والدته.
«سَيِّدي، لا تُعَذِّبني وأنا أَرجوكَ»؛ يا مولاي، أنت وحدك إلهي؛ وأنا في حالٌ حصرتُ فيها رجائي بك أنت وحسب؛ إذ لديّ رجاء فيك، وفي لقائك، وفي جمالك، وفي الأنس بك، وفي فِناء بابك؛ فلا تُؤيسني، ولا تُعذّبني، ولا تُبعدني، ولا تسلبني هذا الرجاء، ولا تُحوّله إلى يأس وقنوط!.
«إِلَهي، حَقِّق رَجائي»!
فثبّت أملي ورجائي، وحقّقه، ورسّخه، ولا تُخفّضه أو تقطعه.
«وآمِن خَوفي»!
فآمِنّي من هذا الخوف الذي ينتابني من احتمال ألاّ أصل إليك، وألاّ آنس في القبر بك وحدك، وأأنس في منزل الغربة ذاك بغيرك، وخلّصني من هذا الخوف، وأبعده عنّي! وفي الأخير، تعال أنت بنفسك إليّ؛ إذ حينما تأتي عندي، وتعِدُني بألاّ يأتي عندي غيرك، فإنّني سأكون في أمان!.
«فَإنَّ كَثرَةَ ذُنوبي لا أَرجو فيها إلاّ عَفوَكَ»!
إنّ ذنوبي كثيرة؛ وما دامت هذه الذنوب موجودة، فلن أحصل على أهليّة لقائك وجمالك والفناء في ذاتك؛ ولهذا، يجب أن تأتي أنت، وتقضي عليها؛ فأنا لا أرجو في القضاء على كثرة الذنوب التي أثقلت كاهلي، إلاّ عفوك؛ فأنت الذي من شأنك أن تعفو...!.
استجابة الله للدعاء راجعة لفضله تعالى لا لاستحقاق الإنسان
«سَيِّدي! أنا أسألُکَ ما لا أستَحِقُّ وأنتَ أهلُ التَّقوی وأهلُ المَغفِرَةِ، فاغفِر لي، وألبِسني مِن نَظَرِکَ ثَوبًا یُغَطّي عَلَيَّ التَّبِعاتِ وتَغفِرُها لي ولا أُطالَبُ بِها؛ إنَّکَ ذو مَنٍّ قَديمٍ وصَفحٍ عَظيمٍ وتَجاوُزٍ کَريمٍ»!
إنّي أسألَكُ ما لَستُ أهلَه، بل أسأَلُكَ ما كُنتَ أهلَه؛ فأنا أسألك الأشياء التي أنت أهلٌ لها، وأهلٌ لأن تهبني إيّاها؛ لأنّه لو كان سؤالي هذا عن قابليّة واستحقاق منّي، لما صحّ لي طرحُه؛ إذ من أين أتيت بهذه القابليّة؟! بل افرضوا أنّ جميع القابليّات اجتمعت في أحدهم؛ لكن، إلى من يعود أصل هذه القابليّة؟! ومن الذي وهبها للإنسان؟! أ فهل يكون غير الله تعالى؟! وبالتالي، فإنّ القابليّة لا تعود إلينا، بل تعود إلى الله تعالى!
ومن هنا، فإنّ قول البعض: «إنّ الإنسان يفتقر إلى القابليّة؛ والسير إلى الله تعالى يختصّ بالأفراد الذين يتوفّرون على هذه القابليّة» إنّما هو بأجمعه وسوسة من وساوس الشيطان؛ وذلك من أجل حجز الإنسان عن عمله، وإصابته بالفتور؛ فعلى هذا الإنسان أن يُجيبهم بالنحو الآتي: «صحيح أنّني لا أتوفّر على القابليّة، لكنّ الجميع أيضًا لا يتوفّر عليها؛ فمن هذا الذي يمتلكها؟!»؛ وإن قيل له: «يوجد ألف واحد يتوفّرون على القابليّة؛ منهم فلان وفلان وفلان وفلان»؛ يُجيبهم بقوله: «من الذي منح هؤلاء تلك القابليّة؟ فلو جاؤوا بها من أنفسهم، لكان كلامكم صحيحًا؛ لكنّهم لم يجيئوا بها من عند أنفسهم، بل الله هو الذي منحهم إيّاها؛ وقد وهبني تعالى إيّاها أيضًا؛ وبالتالي، فإنّ حبلي أنا وحبلهم جميعًا بيد الله تعالى». فإن اعتمدنا على حولنا وقوّتنا، فإنّ أعمالنا ستكون باطلة بأجمعها؛ لأنّنا لا نملك أيّ حول أو قوّة؛ وبالتالي، سنكون قد استندنا إلى حول وقوّة خياليين، لا حقيقيّين؛ وأمّا إذا كنّا معتمدين على حول الله وقوّته، فإنّ الحول والقوّة تختصّان به تعالى.
«بِحَولِ اللهِ وقُوَّتِهِ أَقومُ وأقعُدُ» (لا بِحَولي وقُوَّتي) ؛۱ ومن هنا، إذا كان هناك موجود في العالم يتوفّر على استحقاق، فإنّ هذا الاستحقاق سيعود إلى الله؛ وهو تعالى الذي وهبه إيّاه؛ فالإنسان لا يملك من نفسه أيّ استحقاق. وحينئذ، بأيّ دليل، ولأي ّسبب وعلّة يُريد هذا الإنسان أن يطلب شيئًا من الله؟! وهل يوجد قانون يُلزمه تعالى بقبول هذا الطلب، واستجابة ذلك الدعاء؟! فلا يوجد هنا أيّ استحقاق، حتى يكون الإنسان مستحقًّا لاستجابة دعائه! وعليه، حينما أسألك، فإنّني أعلم بأنّني لا أملك أيّ استحقاق؛ وهذه المسألة مهمّة جدًّا! وهذا هو دعاء المضطرّ! فإذا كان دعاء المضطرّ مستجابًا، فلأنّ هذا المضطرّ يكون في حال لا يرى فيه لنفسه أيّ حول أو قوّة؛ نظير الذى يُلقى به في البحر، ويصير مضطرًّا، فإنّه لا يكون له من نفسه أيّ حول أو قوّة.
سُئل الإمام عليه السلام: «ما هو اسم الله الأعظم الذي إذا دعا به الإنسان، فإنّ الله تعالى يستجيب له دعاءه؟»؛ فأمر عليه السلام بإلقاء السائل في النهر، فبدأ هذا السائل يخبط بيديه ورجليه، وهو يصرخ: «يا إلهي، يا إلهي»؛ فقال عليه السلام: «أخرجوه»؛ وحينما أتوا به إلى المنزل، قال عليه السلام: «هذا هو اسم الله الأعظم».٢
فاسم الله الأعظم ليس عبارة عن لفظ يُجريه الإنسان على لسانه، بل هو حال ينبغي أن يغمر هذا الإنسان؛ فهذا هو الاسم الأعظم.
وهو: ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ﴾٣؛ أي حال الاضطرار والانقطاع الذي ينقطع فيه الإنسان في جميع أحواله إلى الله تعالى.. ﴿وَتَبَتَّلۡ إِلَيۡهِ تَبۡتِيلاً﴾٤؛ أي: «انقطع إلى الله بالكلّية». فالذي لا يرى من نفسه أيّ حول أو قوّة أو قابليّة أو استعداد أو استحقاق، هل سيكون بوسعه الاتّكاء على نفسه حينما يطّلع على هذا الأمر؟! وحينئذ، فإنّ السؤال الذي سيتوجّه به إلى الله تعالى لن ينظر فيه إلى أهليّته؛ لأنّه لا يتوفّر على أيّة أهليّة، بل سيقول: «إنّي لم أسألك ما أنا أهله، بل أسألك ما أنت أهلُه».
«أنتَ أهلُ التقوى وأهلُ المغفِرَة»؛ فأنت الذي لك الأهليّة للإعطاء والإفاضة، لا أنّني أستحقّ ذلك.
«سَيِّدي، أنا أَسأَلُكَ ما لا أَستَحِقُّ، وأَنتَ أهلَ التقوى (والعصمة)»؛
فبوسعك أن تُدخل العباد في عصمتك، وتحفظهم من كافّة البلايا والآفات؛ بما فيها آفات الشيطان والنفس الأمّارة؛ كما أنّك أهل العفو، حيث ترى الآلاف من المعاصي، وتسترها.
حقيقة اللباس الإلهيّ الذي تُستر به الذنوب
«فَاغفِر لي وأَلبِسنِي مِن نَظَرِكَ ثَوبًا يُغَطِّي عَلَيَّ التَّبِعاتِ»؛ أسألك أن تُلبسني لباسًا يكون جيّدًا جدًّا، وتمنحني خلعةً ثمينةً؛
ويُراد من الخِلعة الثوب [الذي يُعطى مِنحة]؛ يُقال: خُلّع بخِلَع الغفران؛ أي: جيء بثوب من الغفران، وأُلبس إيّاه. فأنا أسألك أن تمنح [تلك التبعات] خِلعة وجائزة ولباسًا؛ لكن، ليس من الجيّد أن يكون هذا اللباس من كتّان أو حرير أو نايلون؛ لا سيّما إذا شكله أوربيًّا جيء به من الغرب؛ لأنّ رائحته النتِنة ستُسبّب للإنسان اختناق في الأنف، حيث جاء في الروايات أنّ المسلمين يكونون نائمين؛ وحينما يستيقظون في الصباح، تهبّ ريح صفراء، فتُصيبهو جميعًا بالمرض! فهبني لباسًا يستر جسدي بأجمعه، بما يشمل يديّ، ورجليّ، ورأسي، إلى الأسفل؛ بحيث يصير كلّ بدني مغطّىً! فتكون هذه الخلعة رائعة جدًّا، تُغطّي ظاهر جسدي وباطنه؛ فتُحرق ذنوبي، وتمنحني الشعور بالفرح والسرور، وترويني، وتُشبعني، وتزيد من علمي وقُدرتي! أ فهل شاهدتم إلى الآن لباسًا يرتديه الإنسان المتّسخ، فيُعالج أمراضه، ويشفيه من السوداويّة۱ والبَرَص والجذام؛ وإن أصيب بالفالج، عالج رجله؛ وإن صار أعمى، شافى عينه؛ وإن ابتُلي بالجنون، ردّ إليه عقله؛ وإن كان جائعًا أو عطشانًا، أشبعه وسقاه؛ وإن كان شقيًّا، أسعده؛ وإن كان من أهل النار، صيّره من أصحاب الجنّة؛ وإن كان عاصيًا، فإنّ هذا اللباس يُخلّصه من كافّة معاصيه؟! إنّ هذه الألبسة موجودة عند الله تعالى ومتوفّرة في حرمه؛ وإلاّ، فما الذي سيوجد هناك؟! إذ لا يُمكن العثور في الحرم الإلهيّ على ربطة عنق؛ لأنّها عبارة عن صليب، وتعود إلى النصارى الذين يضعونها حول أعناقهم؛ فليهنأ بها الذين يتّبعون هكذا مذاهب! وأمّا اللباس الذي يأتي من عند الله تعالى، فإنّه يُحوّل وجود الإنسان بأجمعه إلى دِرع؛ نظير أحد الأدوية التي كانت تُصنع قديمًا، وكانت صناعتها صعبة جدًّا، حيث يُقال: حينما يتناولها الإنسان، فإنّها تطرد عن جسده كافّة الميكروبات والأمراض؛ ويُسمّى هذا الدواء: الترياق الفاروق، حيث كان يجري تركيبه من خمسمائة مركّب من الأدوية والأعشاب وجذور الأشجار؛ وعلى سبيل المثال، فإنّ أحدّ مركّباته كان عبارة عن عظام العمود الفقريّ للحيّة، والتي يجب طحن مقدار خاصّ منها، ووضعه هناك؛ ولهذا، فإنّ صناعة هذا الدواء ليست بالعمليّة السهلة، حيث ينبغي جمع تلك الموادّ الثلاثمائة أو الأربعمائة، ودقّها، لتُصنع منها أقراص. ويُقال: إذا سُمّ جسد الإنسان، وأكَلَ حبّة من ذلك الدواء، سيعتريه شعور بالنشاط يبدو معه كأنّ جسده لم يُسمّ قطّ!٢ حسنًا، فإذا كان بوسعنا العثور على هكذا أقراص في الدنيا، أ فلا يُمكن العثور عليها في متجر الله تعالى؟! فيُؤتى الإنسان بلباس المغفرة النظيف والطاهر والحسن، ويوضع على جسده! فما أحسن الهمّة التي يتوفّر عليها الإمام السجّاد!
«أَلبِسني مِن نَظَرِكَ»؛
فلباسُك هذا يُصنع بواسطة نظرك، وليس بواسطة الملائكة، بحيث يتوفّر على شكل معيّن، ويكون مزيّنًا بالورود، وأمثال ذلك؛ فلا ينبغي أن تكون فيه واسطة.. «أَلبِسني مِن نَظَرِكَ ثوبًا»؛ أي أنّ النظر الذي جاء من عندك هو الذي يضع على بدني لباسًا «يُغَطّي عَلَيَّ التَّبِعَاتِ»، ويُبدّل جميعَ الذنوب التي ارتكبتُها وكافّةَ سيّئاتي وأخطائي إلى حسنات؛ وأنا أعلم أنّ هكذا نظر من شأنه أن يصدر منك؛ فألقِه عليّ!
جملة من أعمال ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك
الليلة هي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان؛ ويُحتمل أيضًا أن تكون هي ليلة القدر؛ فيُستحبّ فيها البقاء مستيقظًا؛ وإحياؤُها جيّدٌ جدًّا؛ كما ورد فيها الغُسل أيضًا؛ ولهذا، بوسع الذين لم يغتسلوا بعدُ أن يفعلوا ذلك حين الرجوع إلى البيت؛ وإذا استطاعوا البقاء مستيقظين، فليقوموا بذلك، وليُخاطبوا الله تعالى بقولهم: يا أيّها العزيز، لقد سِرنا وراء الإمام السجّاد عليه السلام واقتفينا أثره؛ ولولا أنّك عرّفتنا عليه، لما تمكّنا من فهم هذه الكلمات؛ فأنت الذي أجريتها على ألسنتنا، فنطقنا بها؛ ولهذا، فإنّنا ندعوك أن: «أَلبِسني مِن نَظَرِكَ ثوبًا يُغَطّي عَلَيَّ التَّبِعَاتِ وتَغفِرُها لي»؛ فهذا هو النوع من الأدعية التي ندعوك بها في هذه الليلة! لكن، هل توجد لدينا هكذا همّة؟! إن شاء الله تعالى [توجد]! ففضل الله تعالى عظيم! أجل، فإذا لم تكن لدينا همّة، فإنّ الله تعالى سيقول: «إنّ كلامهم هذا غير جادّ!».
تا نگریـد طفـل کـی نوشـد لـبن؟! | *** | تا نگرید ابـر کـی خنـدد چمـن؟!۱ |
[يقول: ما لمْ يبكِ الطفلُ، فأنّى له أن يشرب اللبن؟! وما لَمْ تبكِ الغيومُ، فأنّى للمرج أن يضحك؟!].
تــا نگریــد طفلــک حلــوا فــروش | *** | دیگ بخشایش کجا آید به جوش؟٢ |
[يقول: ما لَم يبكِ الطفلُ بائعُ الحلوى، فأنّى لِقِدر العطاء والكرم أن يفور (بالعطاء)؟!].
فإذا سأل الإنسانُ اللهَ بطريقة جادّة، سيستجيب له ـ إن شاء تعالى ـ بكلّ تأكيد؛ نرجو من العليّ القدير أن يهبنا ـ إن شاء تعالى ـ جميعًا من فضله!
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.
تــا نگریــد ابــر کــی خنــدد چمــن؟! | *** | تــا نگریــد طفــل کــی نوشــد لــبن؟! |
تـــا نگریـــد طفلـــک حلـــوا فـــروش | *** | بحـر بخشایشـش کجـا آیـد بـه جوش؟! |