المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء أبي حمزة
التاريخ 1398/09/16
التوضيح
هو العليم
المحبّة وانقطاع الإنسان إلى الله تعالى
شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الرابعة عشرة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
بِسمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحیمِ
وصَلَّی اللَهُ عَلَی مُحَمَّدٍ وآلِهِ الطّاهِرینَ
ولَعنَةُ اللَهِ عَلَی أَعدَائِهِم أَجمَعینَ
الأمور الثلاثة التي يعتمد عليها السالك إلى الله تعالى
«يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ، وأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ! اللَّهُمَّ بِذِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ، وبِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَعْتَمِدُ عَلَيْكَ، وبِحُبِّي النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْقُرَشِيِّ الْهَاشِمِيِّ الْعَرَبِيِّ التِّهَامِيِّ الْمَكِّيِّ الْمَدَنِيِّ أَرْجُو الزُّلْفَةَ لَدَيْكَ؛ فَلَا تُوحِشِ اسْتِينَاسَ إِيمَانِي، ولَا تَجْعَلْ ثَوَابِي ثَوَابَ مَنْ عَبَدَ سِوَاك».
«يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ»؛
لا يُراد من كلمة «خَير» الأحسن؛ لأنّ قول البعض: إنّ أصلها لفظة أَخيَر، وهي على وزن أفضل التي تأتي بصيغة أفضل غير صحيح؛ فخير صفة مشبّهة۱ من مادّة خار؛ أي انتخب واختار؛٢ وبالتالي، يكون معنى خير: مُنتخَب؛ فخير الرازقين تعني: إنّك المنتخب والمختار من بين كلّ الرازقين.
ويُراد من الداعي: المنادي، ومن الراجي التي هي من مادّة رَجَا يَرجُو: المؤمّل.٣
فهناك العديد من الأفراد في العالم يدعون الآخرين، حيث يُطلق على الذي يَدعُو اسم الداعي، وعلى الذي يُدعَى اسم المدعوّ.
«يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ»؛ أي: يا من انتخبتُه واخترتُه من بين كافّة مدعوّي الأفراد الذين يدعون الآخرين؛ إذ لا يصلح أيّ أحد من هؤلاء أن يكون مختارًا، ولا يجوز للإنسان أن يضع يده على أيّ واحد منهم، ويُؤشّر ويترك علامة عليه، ويُعوّل عليه، بل إنّ التعويل يكون عليك فقط!
ويا أحسن وأفضل من رجاه راجٍ؛ إذ يوجد العديد من الناس الذين يرجون الآخرين؛ لكنّك أفضلهم جميعًا!
«اللَّهُمَّ بِذِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَتَوَسَّلُ...، وبِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَعْتَمِدُ...، وبِحُبِّي النَّبِيِّ... أَرْجُو الزُّلْفَةَ».
إلهي، الآن، وبعد أن توجّهت إليك، فإنّ ملجئي هو الإسلام؛ وهو الدرع الذي أنغمر فيه، فيستوعب كلّ جسدي، ويحميني من البلايا، لكي أتوجّه إليك، وأصل إلى مقام الزلفى ـ زُلفةً زُلفىً بمعنى القرب ـ٤، وأبلغ مقام قربك؛ أي أنّ الإسلام هو اللباس والقلعة اللذين يحفظاني من الآفات؛ كما أنّ الأمر الذي أعتمد عليه في هذا الطريق هو القرآن، وما أتعلّق به لكي يوصلني إلى هذا المقام هي المحبّة المكنونة في قلبي تجاه نبيّك.
وعليه، فإنّني أمتلك ثلاثة أشياء: الأوّل أنّني مستعيذ بذمّة الإسلام وحماه؛ والثاني أنّ اعتمادي على القرآن؛ والثالث أنّ محبّة النبيّ مكنونة في قلبي.
«اللَّهُمَّ بِذِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ».
فالإسلام دين ينتهي بالإنسان إلى مقام السلامة؛ ممّا يعني أنّ دار السلام تتحقّق في ظلّ الإسلام.۱
«وبِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَعْتَمِدُ عَلَيْكَ»؛ فأنا أعتمد عليك إليك بما يمتلكه القرآن من احترام، وحصانة، وعصمة.
أي أنّني متّكئ على القرآن لكي يوصلني إليك.
وبمحبّتي لنبيّك الأمّي القرشيّ الهاشميّ العربيّ التهاميّ المكّي المدنيّ.
ولا يخفى أنّ لكلمة «الأمّي» معانٍ مختلفة، حيث يقول البعض: الأمّ يعني الأصل؛ ولهذا، يكون المراد من النبيّ الأمّي: النبيّ الذي يمتلك أصالة، وينتسب إلى الأصول، لا إلى الفروع؛ ويقول البعض الآخر: معنى الأمّي أنّ النبيّ كان من مكّة التي هي أمّ القُرى؛ ولذلك يُقال له صلّى الله عليه وآله وسلّم: الأمّي؛ أي لأنّه من أمّ القرى التي هي مكّة؛ لكنّ هذين المعنيين ليسا هما المراد من الأمّي؛ لأنّ الأمّي هو المنسوب إلى الأمّ؛ أي نسبة النبيّ إلى أمّه.٢ فالتعاليم التي بيّنها لنا الرسول لم يتلقّها في مدرسة أو معهد، ولم يتعلّمها من أحد؛ فهو ابن أمّه؛ وأيّ شيء يتعلّمه الولد من أمّه؟! وحينما كان النبيّ في حضن هذه الأمّ، أيّ شيء تلقّاه منها؟! ولهذا، يُقال للطفل غير المتعلّم الذي لا يعرف القراءة والكتابة ولم يلتحق بعدُ بالمدرسة: أمّي؛ أي منسوب إلى أمّه. فالنبيّ الأمّي يعني النبيّ الذي لم يدرس قطّ، ولم يلتحق بأيّة مدرسة، ولم يُعلّمه أحد.
والقرشيّ: الذي ينتمي إلى طائفة قريش؛ والهاشميّ: من أولاد هاشم؛ والعربيّ التهاميّ: [منسوب إلى] تهامة؛ وهي منطقة في الجزيرة العربيّة، حيث كانت تُقسّم سابقًا هذه البلاد إلى خمس مناطق: تهامة والحجاز واليمن ونجد والعروض؛٣ فنبيُّنا مكّي ومدنيّ ومن منطقة تهامة؛ ولأنّ مولده كان بمكّة التي أقام بها إلى زمان الهجرة، ثمّ هاجر بعد ذلك إلى المدينة، فإنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم مكّي ومدنيّ؛ أي أنّه مكّي أصلاً، ومدنيّ هجرةً.
فبهذا النبيّ الذي يمتلك هكذا خصائص «أَرجُو الزلفَةَ لَدَيكَ» وآمل أن أتقرّب إليك.
ثمرات الإيمانين الحقيقيّ والظاهريّ
«فَلَا تُوحِشِ اسْتِينَاسَ إِيمَانِي»، إلهي، لا تعدَّ إيماني غريبًا ومُنكَرًا.. هذا الإيمان الذي أوصلتُه إلى درجة الأُنس.
فإيماني ليس سطحيًّا، ولا ظاهريًّا، بل هو إيمان باطنيّ ساهم في أنسي بك، وعبّد لي الطريق إليك؛ فهذه المسائل التي أُحدّثك بها نابعةٌ من إدراكي المستنِد إلى إيماني بك، وهو الإيمان الذي أوجد فيّ أنسًا تجاه ساحتك المقدّسة. «فَلَا تُوحِشِ»؛ فلا تعدّ إيماني غريبًا، ولا توقعه في الوحشة، بل اقبل هذا المقدار من الإيمان الذي أمتلكه والذي ساهم في أنسي؛ وإلاّ، إذا رفضته، فإنّه سيقع في الوحشة، ويُترك لحاله، ويظلّ غريبًا ووحيدًا؛ فلا تترك هذا الإيمان، بل أمضه، واقبله، وقوّه، ودعه يصير أكبر وأفضل!
«ولَا تَجْعَلْ ثَوَابِي ثَوَابَ مَنْ عَبَدَ سِوَاك».
فالذين يعبدون سواك إنّما يعبدونهم لغاية محدّدة لا تتعدّى عالم الإمكان والدنيا وأمثال ذلك، بحيث نجدهم يعبدون غيرك، ويطيعون سواك، ويركعون للآخرين، ويخضعون ويخشعون لهم، ويُصغون إلى كلامهم لأجل الراحة، أو لتحقيق الثروة، أو للحصول على الجاه والشرف؛ لكنّ إيماني ـ يا إلهي ـ ليس بهذا النحو، وهو ليس صوريًّا مثل الإيمان الذي يحمله الآخرون لغيرهم، والعبادة التي يُؤدّونها لهم، بل إنّ إيماني بك واقعيّ ومتجذّر؛ ولهذا، أرجو ألاّ يكون الثواب الذي تمنحني إيّاه على إيماني هذا نظير الثواب الذي يهبه الآخرون لغيرهم على عبادتهم، بحيث يكون شيئًا يسيرًا وفانيًا وهالكًا؛ فلا تجعل ثواب العبادة التي أؤدّيها لك ثوابًا عاجلاً ومؤقّتًا؛ لأنّ إيماني متجذّر، وعبادتي ناظرة إلى ذاتك؛ فأنا أريد منك ثوابًا أصيلاً ومتجذّرًا يُساهم في ترسيخ أقدامي على هذا الطريق!
«فَإِنَّ قَوْمًا آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ لِيَحْقِنُوا بِهِ دِمَاءَهُمْ، فَأَدْرَكُوا مَا أَمَّلُوا؛ وَإِنَّا آمَنَّا بِكَ بِأَلْسِنَتِنَا وَقُلُوبِنَا لِتَعْفُوَ عَنَّا، فَأَدْرِكْنَا مَا أَمَّلْنَا وَثَبِّتْ رَجَاءَكَ فِي صُدُورِنَا».
إلهي، إنّ بعض الناس والأقوام والطوائف آمنوا لكي يستغلّوا هذا الإيمان، ويستفيدوا من مظاهر الإسلام ومن المزايا التي تمنحها الشريعة الإسلاميّة المقدّسة للناس بسبب إيمانهم الظاهريّ.
فالذي يُؤمن ظاهرًا يُحكم بإسلامه ظاهرًا، ويكون بدنه طاهرًا، ودمه وماله محترمين، ويستطيع الزواج من النساء المسلمات، والحضور في مساجد المسلمين ومواضع عبادتهم، والاستفادة من غنائمهم الحربيّة، والانتفاع من بيت مالهم؛ فهذه هي المزايا الظاهريّة للإسلام، ولو كان الإنسان غير مسلم واقعًا؛ إذ يُكتفى في الإسلام الظاهريّ بذكر الشهادتين، ولا يُعتنى ـ في مقام الاعتراف بهذا الإسلام ـ بالباطن. فإذا لم يُسلم أحدهم قلبًا، لكنّه أسلم ظاهرًا، فإنّه يُعدّ في الدين الإسلاميّ مسلمًا، من دون أن يُفتّش في قلبه عن الإقرار بهذا الإسلام.۱
إلهي، هناك جماعة وقوم وطائفة آمنوا بألسنتهم، واقتصروا على الإقرار بالشهادتين، لكي يحفظوا دماءهم بهذه الطريقة، وتبقى أرواحهم سليمة في ظلّ الإسلام؛ وكان هذا الأمر هو هدفهم الوحيد من الإسلام، وقد تمكّنوا من نيل مبتغاهم؛ لأنّهم أسلموا للحفاظ على أنفسهم، فبقيت أرواحهم محفوظة، حيث نجد أنّ الدين قد اعترف بإسلامهم؛ وبالتالي، بقيت دماؤهم مصانة وأنفسهم آمنة في ظلّ الإسلام. فالهدف الذي كان يسعى إليه هؤلاء من الإسلام هو صون أرواحهم في مقابل لواء الإسلام؛ ولذلك آمنوا؛ فقُبل إيمانهم من هذه الجهة.۱
لكنّنا ـ يا إلهي ـ آمنّا بك بألسنتنا وقلوبنا معًا، ولم يكن إيماننا مقتصرًا على الإيمان القوليّ لكي تُمتّعنا بظواهر الإسلام وحسب، وتتفضّل علينا من بيت مال المسلمين، وتهبنا من الغنائم الحربيّة، ونستطيع المشاركة في مجالس المسلمين ومحافلهم، ويكون بمقدور هؤلاء المسلمين دفننا في مقابرهم بعد موتنا، وأمثال ذلك. ففضلاً على إيماننا القوليّ، فقد آمنّا بالقلب؛ وفي هذه الحالة، لن تكون الفائدة التي ستمنحنا إيّاها على إيماننا القلبيّ هي عين الفائدة التي وهبتها للذين لم يُؤمنوا بك حقيقةً على إيمانهم الظاهريّ. لقد آمنّا بك بألسنتنا وقلوبنا لكي نعثر على الطريق إليك، ونتعرّف إليك، ويوصلنا هذا الإيمان الحقيقيّ إلى مقام الزلفى لديك والقرب منك؛ وبالتالي، لا بدّ أن يُفضي إيماننا الواقعيّ بك إلى التكفير عن خطايانا وغفران ذنوبنا الباطنيّة؛ لأنّنا آمنّا بك؛ ومقتضى الإيمان العفو عن الذنوب؛ فحقّقنا لنا مبتغانا!٢
فالذين كان هدفهم من الإسلام هو الإسلام الظاهريّ تمكّنوا من تحقيق هدفهم، وتمّت صيانتهم في ظلّ الإسلام؛ في حين أنّنا لم نُؤمن لأجل هذا الهدف وحسب، بل آمنّا بقلوبنا أيضًا لكي تغفر لنا ذنوبنا، وتُطهّرنا، وتُسكننا بسبب ذلك في موضع الطاهرين، وتُلحقنا بدرجة الزلفى والقرب من مقامك المقدّس الذي هو مقام المنزّهين؛ فهذا هو الهدف من إيماننا! ولهذا، فإنّ من شأنك أن تعفو عن ذنوبنا بأجمعها، لكي نتمكّن من وضع أقدامنا في ذلك الحريم؛ فلا تُؤيسنا من هذا الإيمان؛ لأنّ لدينا اعتقاد بذلك الأمل والرجاء؛ ومن هنا، فقد قال الإمام عليه السلام في البداية: «يَا خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ، وأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ»؛ أي: يا أيّها الإله الذي يفوق فضلُه فضلَ كافّة الأفراد الذين يرجونهم الناس؛ كيف يُمكن أن يكون لدينا رجاء وإيمان حقيقيّ بك، فتقطع رجاءنا هذا؛ مع أنّه ثبت عندنا أنّك «خَيْرَ مَنْ دَعَاهُ دَاعٍ، وأَفْضَلَ مَنْ رَجَاهُ رَاجٍ»؟!
«فَأَدرِكنا مَا أَمَّلنَا»؛
«وَثَبِّت رَجَاءَكَ في صُدُورِنا».
لا أن تتجنّب سماع كلامنا، ولا تُبلّغنا رجاءنا، فيتبدّل هذا الرجاء في قلوبنا إلى شكّ وارتياب، ونقول: حتّى هذا الإله الذي نرجوه يخدع الإنسان، ويُدخله بهذه الطريقة في دوّامة.. ليس الليلة، بل غدًا؛ ليس غدًا، بل في الشهر الآتي؛ ليس في الشهر الآتي، بل في السنة الآتية؛ ويُبقيه في هذه الدوّامة إلى آخر عمره؛ ثمّ يتحوّل هذا الشكّ شيئًا فشيئًا إلى يأس! إلهي، لا تتعامل معنا بهذا النحو!
«وَثَبِّت رَجَاءَكَ»؛ فاجعل هذا الرجاء الذي لدينا تجاهك أفضل، وأكثر حيويّة؛ تمامًا مثل الوردة التي تطلع وسط الحديقة، فيأتي البستانيّ، ويُزيل عنها الأوراق الذابلة، ويسقيها الماء كلّ يوم، ويسعى لتنميتها باستمرار، ويرشّ عليها السماد بانتظام، لكي تصير أكثر خضرة وطراوة. فاجعل هذا الرجاء الذي لدينا تجاهك أفضل وأقوى وأكثر حيويّة.
و﴿لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَيۡتَنَا﴾؛۱ فبعد أن هديتنا، وأخذت بأيدينا، وأوصلتنا إلى هذا المقام، لا تجعل قلوبنا تتوجّه ثانيةً إلى الدنيا والآمال والأماني واليأس وكلّ شيء سواك.٢
فهذا هو الزيغ؛ أي الميل والانحراف؛ ﴿لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا﴾: بمعنى: لا تنكس قلوبنا بعدما هديتنا، ولا تجعلنا نحيد عنك إلى غيرك!٣
حقيقة الرحمة اللدنيّة
﴿وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةً﴾؛٤
فهب لنا وتفضّل علينا من رحمتك الرحمانيّة ورحمتك الرحيميّة!٥ وليكن ذلك من لدنك أنت، لا عن طريق واسطة.. ﴿مِن لَّدُنكَ﴾؛ أي: هب لنا الرحمة من طرفك أنت، ومن مقامك ومنزلتك؛ وهذه هي الرحمات اللدنيّة المفاضة من لدن الحقّ تعالى: ﴿عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾.٦
فيُقال لهذا العلم: العلم اللدنّي؛ أي العلم الذي عند الله تعالى، حيث يُراد من لدن: عند؛ فيكون لكلمتي عنديّ ولدنيّ نفس المعنى؛ أي: «منحناه علمًا من عندنا»؛ و«هب لنا الرحمة من عندك».۷
﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب﴾.۸
جاءت "إنّ" للتأكيد؛ كما أنّ الجملة الاسميّة تُفيد التأكيد، والضمير المنفصل "أنت" هو أيضًا لتأكيد الضمير المتّصل؛ والألف واللام المتّصلتان بوهّاب للتأكيد أيضًا؛ هذا، مع أنّه تعالى قال: وهّاب؛ أي الذي يهب بكثرة، ولم يقل: واهب؛ أي الذي يهب؛ ومن هنا، فإنّ عبارة ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّاب﴾ تتوفّر على خمسة تأكيدات؛ أي: إلهي، بذاتك، بذاتك، بذاتك، بذاتك، بذاتك، أنت واهب؛ فهذه خمسة تأكيدات وردت في هذه العبارة على تلك الصفة.
آن يكى جودش گدا آرد پديد | *** | واين دگر بخشد گدايان را مزيد |
أهمّية الإصرار في الدعاء
«فَوَعِزَّتِكَ لَوِ انْتَهَرْتَنِي مَا بَرِحْتُ مِنْ بَابِكَ، وَلاَ كَفَفْتُ عَنْ تَمَلُّقِكَ؛ لِمَا أُلْهِمَ قَلْبِي مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِكَرَمِكَ وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ».
إلهي، نُقسم بعزّتك وجلالك أنّه لم يعُد يوجد بيننا وبينك أيّ أحد حتّى نأخذه بعين الاعتبار؛ وبغضّ النظر عن كلّ ذلك، نُقسم بعزّتك أنّه إذا طردتنا، فلن نبتعد عن هذا البيت!
«لَوِ انْتَهَرْتَنِي»؛ نَهَرَه يعني زجره وطرده.۱ «مَا بَرِحْتُ»: أي أنّني لن أذهب، ولن أغادر باب بيتك؛ لأنّك إذا طردتني، فلن يوجد غيرك حتّى أذهب من بابك إلى بابه؛ إذ لا يوجد أيّ باب سوى باب بيتك؛ مع أنّ إبعادك وطردك هذا إنّما هو من باب إظهار لطفك وكرمك ومزاحك الذي تمزح به أحيانًا مع عبادك لكي تُربّيهم. فأنا أقسم بعزّتك ألاّ أُغادر باب هذا البيت إلى أيّ مكان!
حينما قال الله تعالى للشيطان: سأطردك، ردّ عليه الشيطان:
﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغۡوِيَنَّهُمۡ أَجۡمَعِينَ﴾؛٢ علاوةً على أنّني سأخرج من الجنّة، ولن أرجع ثانية إلى هذه السماء، فإنّني سأعمد إلى إضلال كافّة عبادك، وأقف عائقًا في طريقهم كلّهم، لكي أسدّ في وجوههم هذا الطريق.
هذا ما قاله الشيطان.
لكن، إذا كانت للإنسان علاقة مع الله تعالى، وكان إيمانُه يستند إلى أساس قويم، فإنّه سيقول: أقسم بعزّتك أنّه إذا طردتني، فلن أتراجع، بل ولو فعلت ذلك ألف مرّة، لما تخلّيتُ عنك؛ فإن أخرجتني من هذا الباب، أتيتُ من الباب الآخر؛ وإن نحّيتني عن تلك الباب، جئتُ من باب ثالث؛ بل حتّى لو أغلقت في وجهي كافّة الأبواب، لبقيت أطوف حول هذا البيت؛ نظير الكعبة التي يكون بابُها مغلوقًا ولا يُمكن لأيّ أحد الدخول إليه، لكنّ الناس يطوفون حولها.
«وَلاَ كَفَفْتُ عَنْ تَمَلُّقِكَ»؛ فلن أتوقّف أبدًا عن التملّق لمقامك المقدّس، بل سأبقى دائمًا مستعدًّا لذلك، وأظلّ أرجوك، وأستعطفك، وأضع نفسي في حالة من التملّق والتزلّف إليك. فمن الجيّد جدًّا أن يدعو الإنسان بكلّ إصرار؛ لأنّ الحركة الأساسيّة للإنسان نحو الله تعالى تعتمد على هذا العزم والإصرار؛٣ فكلّما كانت الرغبة شديدة، تقدّم الإنسان إلى الأمام؛ وأمّا إذا كانت رغبة هذا الإنسان ضعيفة وواهية، [فلن يتقدّم]، بحيث نجده يقوم بفعل، فإنّ نتج عنه شيء، فبها ونعمت؛ وإلاّ، فإنّه يلجأ للقيام بفعل آخر؛ وحينئذ، إذا نتج عن هذا الفعل شيء، فبها ونعمت؛ وإلاّ، فإنّه يقوم بفعل آخر؛ وهكذا، يظلّ يقول: لم يحصل شيء في كلّ مرّة، وفي المرّة اللاحقة، وفي التي بعدها؛ فلأذهب للزيارة، ثمّ أذهب في المرّة اللاحقة إلى المجلس الفلانيّ، وأستمع للخطبة؛ فإن صلُح أمرُنا، فبها ونعمت، وإلاّ، سأذهب إلى مجلس آخر؛ فإن حصلتُ فيه على شيء، فبها ونعمت، وإلاّ سأذهب إلى مجلس آخر؛ ففي هذه الحالة، لن يحصل هذا الإنسان على أيّة فائدة.
ينبغي أن يكون طلب الإنسان شديدًا؛۱ فيقول: «إلهي، إنّ لي رغبة، ولن أتراجع عنها أبدًا!»، حيث يكون حكم هذه الرغبة حكم الدعامة الأساسيّة التي تتّكئ عليها كلّ البناية التي يُشيّدها الإنسان. وقد لاحظتم أنّه إذا كانت هذه الدعامة قويّة، فإنّه بوسع الإنسان أن يبني فوقها ما يشاء؛ فإذا كان الأساس صلبًا، أمكن أن تُشيَّد فوقه ثمانون طبقة؛ وأمّا إذا كان هشًّا، فحتّى لو بنى الإنسان فوقه طبقة واحدة، لجاءت ريح، وحرّكته، وسقط.
«المـُؤمن كالجَبَلِ الراسِخِ لا تُحَرِّكُهُ العَوَاصِفُ».٢
العواصف: جمع عاصفة؛ وهي مؤنّثة، نظير غوالب جمع غالبة.٣
ويُراد من العاصفة الرياح الشديدة التي تتحرّك بشكل دائريّ، وتظهر على شكل زوبعة، فتقتلع الأشياء من جذورها، وتحملها بعيدًا. فالمؤمن مثل الجبل الصلب الذي إن جاءت العواصف والرياح، فإنّه لا يتحرّك من مكانه؛ وأمّا غير المؤمن، فشأنه شأن الشجرة أو الجبل الترابي، بحيث إذا جاءت ريح عاتية، فإنّها تحملهما، وتذهب بهما بعيدًا.
في أحد الأيّام، حلّت عاصفة بمدينة همدان، وبالمناطق القريبة من مدينة كرمانشاه، من دون أن نعلم بذلك. وكنت قادمًا من كربلاء، ناويًا أن أبقى يومًا أو يومين بهمدان، لأذهب بعد ذلك إلى طهران. وحينما كنّا في الطريق بعد خروجنا من كرمانشاه، رأيت أنّ أعمدة التلغراف و... صارت بأجمعها معوّجة؛ فانتابني العجب وتساءلت عن السبب في اعوجاجها، حيث كان خشب بعضها مكسورًا، وبعضها الآخر غير مكسور؛ لكنّها كانت بأجمعها معوجّة! ولم نكن على علم بما حصل، إلى أن أتينا إلى همدان، فقيل لنا: حدثت قبل مجيئكم عاصفة عجيبة اقتلعت جمالونات المصانع وأسقفها، وحَمَلَتها بعيدًا؛ كما كانت الحافلات تتدحرج مثل قشّة وسط الرياح! فكان المشهد عجيبًا جدًّا! وقيل لنا أيضًا: لقد حملت العاصفة سقفَ مصنعٍ لعلّه كان يضمّ بضعة آلاف من العمّال، وذهبَت به إلى مسافة تبعد فرسخًا واحدًا، وألقته هناك! ومع ذلك، فإنّ عاصفة بهذه الشدّة وبهذه الخصائص العجيبة التي ذكروها لم تتمكّن من تحريك جبل "ألوند"! فإذا ذهب أيّ واحد منكم إلى هناك، سيراه موجودًا في مكانه.
«المـُؤمن كالجَبَلِ الراسِخِ»؛ كجبل ألوند أو أشدّ؛ ولا ضير أن نضيف هنا كلمة "أشدّ"؛ لأنّ الله تعالى دائمًا ما يضع هو أيضًا هذه الكلمة من باب الاحتياط!
علوّ همّة المؤمن ورغبته
فمن المفيد جدًّا أن يمتلك الإنسان أصالةً في أعماله؛ كما أنّ أهمّ سرّ لتقدّم هذا الإنسان يتمثّل في رغبته وإرادته الحقيقيّة، بحيث إذا امتلك هكذا رغبة وإرادة، فإنّ الله العليّ الأعلى سيرفع كافّة الموانع من أمام أقدامه؛ وأمّا إذا لم تكن رغبته واقعيّة ولا أصيلة، فإنّه متى ما واجه عائقًا، تراجع؛ ثمّ إذا تجاوزه، فإنّه سيتراجع أمام العائق الثاني؛ ثمّ يأتي العائق الثالث والرابع والعاشر والمائة؛ إلى أن ينتابه في الأخير اليأسُ والفتورُ والوَهَنُ، ويترك [الطريق]؛ أو أنّه سيبدأ في الاعتراض، ويظلّ تائهًا في سجنٍ من الأفكار والأوهام والخيالات لا يستطيع التخلّص منه أبدًا؛ وكما جاء في القرآن الكريم: ﴿وَضَلَّ عَنۡهُم مَّا كَانُواْ يَدۡعُونَ﴾.۱
لكن، إذا توفّر الإنسان على رغبة وإرادة، فإنّه سيمضي في طريقه، ولن يقدر أيّ شيء على الوقوف في وجهه، بحيث كلّما كانت إرادته قويّة، تمكّن من بلوغ ذلك الهدف؛ وأمّا الذي يلجأ للاعتراض على الله تعالى، فإنّ جميع المخلوقات تكون أعداء له؛ ولهذا، عليك أن تقول: ما يُريده الله تعالى، وكفى!
فجميع الموجودات تدعو إلى ذاتها ووجودها؛ في حين أنّ هذا الإنسان يُريد أن يتخطّى وجود هذه الموجودات، ليتحقّق بالوجود المطلق لله تعالى؛ مع أنّه لا يستطيع ارتداء لباسين في الآن ذاته؛ وحينئذ، كم ينبغي أن تكون إرادته قويّة لكي يتخطّى كافّة هذه الأمور، ويتخطّاها، ويتخطّاها، ويتخطّاها؛ بل ويتخطّى حتّى الملائكة!
من که ملول گشتمی از نفس فرشتگان | *** | قیل و مقال عالمی میکشم از برای تو٢ |
[يقول: أنا الذي صرت ملولاً من أنفاس الملائكة والحديث معهم، تحمّلت لأجلك كلام الناس وأذاهم]
صرتُ ملولاً: يعني أنّ الملائكة تدعو الإنسان في وجودها للأنس والألفة بها، بينما لا تكون لهذا الإنسان أيّة رغبة في الحديث معها؛ فيُريد أن يمرّ، لكنّها تصدّه عن ذلك، وتُمسك به.
ولدينا في الروايات أنّ المؤمن يُريد أن يجتاز الحور العين، فُتمسكن بطرف ثوبه؛ هذه من هنا، وتلك من هناك، حيث تسعى الآلاف من الحور العين للإمساك به، لكنّه لا يلتفت إليهنّ، بل يقوم بحركة واحدة، فتُنتزع أيديهنّ جميعًا، ليرتقي هو إلى الأعلى، وتظلّ تلك المسكينات تنظرن بكلّ حسرة وندم، حاملات بأيديهنّ كؤوسًا من شراب الجنّة، إلى أن يرجع ذلك المؤمن، والله أعلم متى يرجع!٣
فهو لم يعُد ينظر إلى الحور العين، بل يتركهنّ بأجمعهنّ واقفات في مكانهنّ، ويظلّ هو في عروج دائم.
«وَلاَ كَفَفْتُ عَنْ تَمَلُّقِكَ؛ لِمَا أُلْهِمَ قَلْبِي يَا سَيِّدِي مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِكَرَمِكَ، وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ».
فقد أدركتُ أنّ هناك ربًّا رحمتُه واسعة؛ ولهذا، لن أتراجع؛ وذلك لأنّني أرغب في هذه الرحمة الواسعة، ولا يُمكنني غضّ النظر عن علمي ذاك، ولا أستطيع خداع نفسي وتجاهل هذا الأمر؛ وعليه، بما أنّني أدركتُ كرمك وسعة رحمتك، فلن أنسحب! ولو طردتني من ألف باب، لجئتك من باب آخر.
دسـت از طلـب نـدارم تـا کـام مـن برآیــد | *** | یا جان رسد بـه جانـان یـا جـان ز تـن برآیـد |
بشــکاف تــربتم را بعــد از وفــات و بنگــر | *** | کـــز آتـــش درونـــم دود از کفـــن برآیـــد۱ |
[يقول: لن أكُفَّ عن البحث حتّى أصل إلى مرادي و هدفي؛ فإمّا أن أصل إلى حبيبي، أو أهلك دون ذلك.
انبِشْ قبري بعد وفاتي، وانظُرْ إلى الدخان الصاعد من كَفَني بسبب النار التي تستعر في داخلي]
فجوهر ذاتي معجون في الأساس بمحبّتك؛ ويقول حافظ الشيرازيّ رحمة الله تعالى عليه:
گر بر فکـنم دل از تـو و بـردارم از تـو مِهـر | *** | آن مهــر بــر کــه افکــنم، آن دل کجــا بــرم٢ |
[ومعناه: إذا أخرجتُك من قلبي، وتخلّيتُ عن المحبّة التي أُكنّها لك، فمن الذي سيتعلّق به هذا القلب؟!]
ويقول في موضع آخر:
عشق تو در سـر و مهـر تـو در دلـم | *** | با شیر در بدن شد و بـا جـان بـه در رود٣ |
[ومعناه: عشقك منحوت في عقلي، وحبّك مكنون في قلبي، وقد اختلط في بدني بلبن أمّي، ولن يخرج إلاّ بخروج روحي].
يقول: لقد حلّ هذا العشق في بدني منذ رضاعي للبن أمّي، ولن يخرج إلاّ مع خروج روحي؛ فإذا كانت روحي قد عُجنت بعشقك، بحيث ظهر هذا العشق مع اللبن، ولن يخرج إلاّ مع خروج روحي، فكيف سيتسنّى لي التخلّي عنك؟!
ولا يخفى أنّ المرحوم القاضي رحمة الله عليه قال: «لقد أبدى حافظ هنا نوعًا من التواني حينما قال:
عشق تو در سـر و مهـر تـو در دلـم | *** | با شیر در بدن شد و بـا جـان بـه در رود |
عشق تو نه سَرسریست که از سر به در شود | *** | مهرت نه عارضی است که جای دگر شـود |
عشـق تـو در سرشـتم و مهـر تــو در دلـم | *** | با شیر انـدرون شـود بـا جـان بـه در شـود |
[ومعناه: عشقك منحوت في عقلي، وحبّك مكنون في قلبي، وقد اختلط في بدني بلبن أمّي، ولن يخرج إلاّ بخروج روحي].
وذلك لأنّ ابن الفارض يقول:
وَعِنديَ منها نَشْوَةٌ قبلَ نَشأتي، مَعي | *** | أبدًا تبقى وإنْ بَليَ العَظْمُ۱ |
يقول: توجد عندي من الذات الإلهيّة المقدّسة سكرة وجذبة ومحبّة وعشق جاءت كلّها قبل إنشاء وجودي، لا أنّها جاءت مع اللبن."مَعي أبدًا تبقى وإنْ بَليَ العَظْمُ": وسيكون هذا العشق دائمًا معي، ويبقى، ولو ارتحلت عن دار الدنيا، وتحلّل بدني تحت الأرض، وصارت عظامي رمادًا.
أحسنت وأجدت! فلقد ذكر كلامًا رائعًا:
وَعِنديَ منها نَشْوَةٌ قبلَ نَشأتي، مَعي | *** | أبدًا تبقى وإنْ بَليَ العَظْمُ |
حينما أرادوا صناعة الملاط٢ لهذا المسجد، فإنّهم صنعوا بعضه بالطين، وبعضه الآخر بالإسمنت، ثمّ صبّوا الرصاص في الفراغات الموجودة في بعض الأسقفة، بحيث لو هطل عليها الثلج والمطر لمدّة مائة أو مائتي أو خمسمائة سنة، لما تهدّمت؛ لأنّ المستخدم فيها هو الرصاص.
فبماذا عُجن وجود الإنسان؟ يقول الإمام السجّاد: «حينما أردوا أن يعجنوا وجودي، ويصيغوه، فإنّهم صاغوه بواسطة محبّتك»؛ فإذا كان أصل وجود الإنسان قد صيغ بواسطة المحبّة، هل يُمكنه تصوّر غير المحبوب؟! لا يُمكنه ذلك بتاتًا؛ لأنّ التصوّر ينشأ من الوجود؛ في حين أنّ وجود هذا الإنسان معجون بالمحبّة ومفطور عليها.
سبب عدم التجاء العبد إلى غير خالقه مهما كانت الظروف
«إِلَى مَنْ يَذْهَبُ الْعَبْدُ إِلَّا إِلَى مَوْلَاهُ» (فإذا فرّ العبد من مولاه، فإنّه سيكون غريبًا أينما ذهب؛ ولهذا، لا يُمكنه الهروب إلى أيّ مكان؛ إذ لو هرب من مولاه، لهرب منه إليه)، «وَإِلَى مَنْ يَلْتَجِئُ الْمَخْلُوقُ إِلَّا إِلَى خَالِقِه»؛
فالمخلوق هو مخلوق لله، وهو متّصل به تعالى بكافّة أرجاء وجوده، وهو معلول له، وعين الربط به؛ وحينئذ، كيف يُمكننا تصوّر أن يكون بعيدًا عنه تعالى، وأن يلتجأ إلى غيره؟! فإذا فرّ من الله تعالى، فأين عساه سيذهب؟
«إِلَهِي، لَوْ قَرَّنْتَنِي بِالْأَصْفَادِ، وَمَنَعْتَنِي سَيْبَكَ مِنْ بَيْنِ الْأَشْهَادِ، وَدَلَلْتَ عَلَى فَضَائِحِي عُيُونَ الْعِبَادِ، وَأَمَرْتَ بِي إلَى النَّارِ، وَحُلْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَ الْأَبْرَارِ، مَا قَطَعْتُ رَجَائِي مِنْكَ، وَمَا صَرَفْتُ وَجْهَ تَأْمِيلِي لِلْعَفْوِ عَنْكَ، وَلا خَرَجَ حُبُّكَ مِنْ قَلْبِي».
يا إلهي وربّي ومؤدّبي، اِعلَم أنّك إذا ربطتني بالمقطرة،۱ وقيّدت يديّ ورجليّ بالسلاسل والأصفاد الثقيلة التي إذا قُيّد بها الإنسان، فإنّه لا يقدر على الحركة من مكانه؛ إذ تُكبّل اليدان، وتُجمعان إلى العنق؛ ويُسمّى هذا الغلّ بالجامعة؛ لأنّه يجمع بين اليدين والعنق؛ فكان يزن آنذاك خمسين أو أربعين كيلوغرامًا، بحيث لو وُضع على العنق واليدين، لما تمكّن الإنسان من الحركة...؛ فإذا أمسكتني وقيّدتني بهذه الأغلال، ومنعتني من كافّة عطاياك، وحبست عنّي ـ على مرأى ومشهد من الناس ـ المواهب التي كنت تمنحني إيّاها، وأحضرتَ عيون عبادك برمّتهم، وأشهدتهم جميع الفضائح والأعمال المشينة التي ارتكبتُها، وقلتَ لهم: انظروا ماذا فعل! ولم تقتصر على التشنيع بي عند فرد واحد، بل جئتَ بـ «عُيونِ العِبادِ»، وأحضرتَ عيون كلّ واحد من عبادك، لكي يتفرّجوا على فضائحي هذه؛ أي أنّك أظهرتَ سرائري بين كافّة المخلوقات، وأمرتَ بي إلى النار، وكببتني ـ أنا الإمام السجّاد ـ وسطها، وفرّقت بيني وبين الأبرار والصالحين، وصددتني عنهم، ووضعت بيني وبينهم جدارًا حديديًّا، لكي لا تقع عيني عليهم أبدًا، فلن أقطع رجائي منك؛ وهذا الذي يُقال له: الرجاء "الرجوليّ"! حسنًا، فنحن أيضًا نتلفّظ بهكذا كلام؛ لكن، قد نواجه هذه الليلة امتحانًا؛ نظير الامتحانات التي حكى عنها السيّد جمال الدين رحمة الله تعالى عليه.
وحينئذ، إذا اطّلع أحد على فضائح الإنسان، سيتخلّى هذا الإنسان عن كلّ شيء؛ إذ حينما يُريد العبد أن يُبدي عشقه الشديد لله تعالى، ويبني أفعاله على أساس المحبّة؛ فيأتي هذا المحبوب [أي الله تعالى] بالناس الذين لا تربطهم به تعالى أيّة علاقة سلوكيّة، ويُعدّون بالتالي غرباء، فيدلّهم على فضائح أعمال ذلك العبد، فإنّ هذا العبد سيجحد بكلّ شيء، ويقول: إلهي، لم يبقَ المجال للحديث عن أيّ شيء؛ إذ لا يوجد في العالم موجود يفوقك في الشرّ والقُبح والفساد والقسوة والجور والتجرّي...؛ ويبحث في القاموس عن كلّ ما يُمكنه العثور عليه من أمثال هذه الألفاظ، بل ويتقصّى القواميس في اللغات الأخرى كالتركيّة والهنديّة والكُرديّة وغيرها، فيجمع منها كلمات الشتم، ويصبّها على الله تعالى؛ ثمّ يقول: إلهي، لقد جئنا لنقول «بسم الله الرحمن الرحيم»، فعمدت من جهتك إلى دلالة الأغيار على عيوبي!!.
لكن، ما هو الرجاء الذي يدفع الإنسان إلى القول: لقد بلغ حبّي لك درجة، ووصل رجائي وتعلّقي بك إلى مستوى، وصار لقلبي ميلاً إليك وارتباطًا كبيرًا بك، بحيث لو جئتَ بكافّة أعين عبادك، ودللتَهم على عيوبي، لقلتُ مع ذلك: إلهي، لن أبرح عنك!؛ أ فهل يوجد شيء أكثر من ذلك؟! فحتّى لو ألقيتني في جهنّم، لقلتُ: أنت وحسب! ولو فصلت بيني وبين الصلحاء، لقلتُ: أنت وحسب! ولو وضعت الأغلال والقيود على جسدي، وليس فقط ليوم واحد أو يومين أو ثلاثة أيّام، بل وضعتني في السجن كموسى بن جعفر عليه السلام ثلاث سنوات أو أكثر، لقلتُ مع ذلك: أنت وحسب! فقد تحمّلتُ الكثير من المشاقّ، وقطعتُ شوطًا في السير إليك، وكنتُ أريد رؤية الملائكة وجناح جبرائيل وكذا وكذا؛ لكن، بدلاً عن تُحقّق لي هذه الرغبات، فإنّك منعتني هذه العطايا على مرأى من جميع الناس، ولم تمنحني أيّ شيء؛ كما أنّك لم تُرني نفسك، وأبقيتني خاليَ الوفاض؛ فمع كلّ ما قمتَ به، غير أنّني «مَا قَطَعتُ رَجَائي مِنكَ»، ولا تخلّيتُ عنك.
اختلاف رؤية المـُحبّ وحساباته عن غيره
ماذا يقول أمير المؤمنين في دعاء كميل؟ فالإمام السجّاد هو ابنه بطبيعة الحال:
«إلهي، إذا ألقيتني في النار، وأحرقتني بها، وجَمَعْتَ بَيْنِي وبَيْنَ أَهْلِ بَلَائِكَ، وفَرَّقْتَ بَيْنِي وبَيْنَ أَحِبَّائِكَ وأَوْلِيَائِكَ؛ فَهَبْنِي يَا إِلَهِي وسَيِّدِي صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ؛ وهَبْنِي صَبَرْتُ عَلَى حَرِّ نَارِكَ، فَكَيْفَ أَصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إِلَى كَرَامَتِكَ»۱؟!
فهنا، توجد حسابات أخرى!
وهنا، لا يكون الحساب مبنيًّا على أساس قاعدة البراءة٢ التي يستدلّ عليها السادة الفقهاء رضوان الله عليهم عن طريق مسألة قبح العقاب بلا بيان،٣ ورواية: «الناسُ سَعَةٍ مَا لاَ يَعلَمونَ»،٤ وآية ﴿وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾.٥
ففي هذا المقام، لا يكون للعبد حديث عن العقاب، بل حديثه عن العشق والمحبّة؛ فهو لا يقدر على القيام بالفعل الفلانيّ لأنّ الله تعالى لا يُريده ولا يُحبّه، وليس لأنّه يُعاقب عليه.
وحينئذ، سيصير للأحكام هنا موضوعًا مختلفًا؛ أي أنّ الأعمال التي يقوم بها العباد ستكون مبتنية على الحبّ، وليس على الخوف من العقاب حتّى نقول: «حينما لا يوجد بيان، لا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان»؛ فهذه القاعدة لا تكون هنا «حيّة»، بل الأساس هنا هو الحبّ. فهؤلاء لم يُدركوا بتاتًا هذه المراتب، ولن يُدركوها أبدًا؛ ولهذا، فإنّ قاعدة البراءة تجري في مرتبة قبح العقاب بلا بيان، وحسب. وأمّا الذين تمكّنوا من بلوغ تلك المراتب، فإنّهم يقولون: إنّ الفعل الجائز لنا هو الذي ترتضيه أنت، وأمّا الفعل الذي لا تُحبّه، فإنّه لا يكون جائزًا بالنسبة لنا، مهما كان هذا الفعل! فحتّى لو لم يكن هناك بيان، ولا رسول، ولا آية ﴿وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾،٦ وكنّا نعلم أنّك لن تُعذّبنا، لما أقدمنا على هذا الفعل؛ والسبب في ذلك أنّك لا تُحبّه، في حين أنّ أعمالنا مبنيّة بأجمعها على المحبّة.۷ لا تُخبروا أحدًا بهذه المسائل، واحتفظوا بها لأنفسكم!
میان عاشـق و معشـوق رمزیسـت | *** | چه داند آنکـه اشـتر میچرانـد۱ |
[يقول: هناك سرٌّ بين العاشق والمعشوق *** أنّى للجمّال الراعي للجمال أن يعلم به!].
وخلاصة القول: «مَا قَطَعتُ رَجَائي مِنكَ».
«وَمَا صَرَفتُ تَأميلي لِلعَفوِ عَنكَ»؛ فأنا لن أتراجع ولن أتخلّى عن هذا الأمل والرجاء الذي علّقته بك ووكلته إليك، ولن أنقل زمامه من بيتك إلى بيت غيرك.
أَمَّلَ يُؤَمِّلُ تَأميلاً: الرجاء.٢ فحُكم أملي هذا حُكمُ فرسٍ أو بغل أو جمل أخذتُ بزمامه، وألقيتُ بهذا الزمام في حرمك، وربطته بحلقة باب بيتك؛ وبالتالي، فإنّ أملي موجود هنا؛ وحينئذ، هل ستقول: فُكّ الزمام عن هذا الباب، واذهب به من هذا البيت؟! فلو صببتَ على رأسي جميع المصائب، لما أقدمتُ على ذلك!
«ولا خَرَجَ حُبُّكَ مِن قَلبِي»؛
« [إلهي] أنا لا أَنسَى أَيَادِيكَ عِندي»؛ إلهي، أنا لا أنسى تلك النعم التي وهبتني إيّاها، ولا زالت موجودة عندي.
فأنا الآن غارق في نِعمك، ومُلتفت إلى أيّة نِعم منحتني إيّاها! ولن أنسى أبدًا النِعم التي لديّ، والتي أريدها منك الآن، لا النعم التي وهبتها، وصارت قديمة؛ فإذا كنتُ عبدًا لهذا الحرم؛ فكيف لي أن أنساها؟! لا يُمكنني نسيانها بتاتًا!
«وَسَترَكَ عَلَيَّ في دَارِ الدنيا»؛ وأنا لا أقدر أبدًا على نسيان الستار الذي وضعتَه على عيوبي الظاهريّة الباطنيّة.
فأنا أرى دائمًا هذا الستار محيطًا بكافّة وجودي ومستوعبًا له بأجمعه، بحيث يكون في مرأى منّي باستمرار؛ وحينئذ، كيف سيتسنّى لي نسيانه؟!
فأنت إله، وقد أخرجتني من كتم العدم، وأغدقتَ عليَّ كافّة النعم، ومنحتني جميع المواهب، وسترت عليّ القبائح والنقائص بأجمعها؛ وحينئذ، هل سيُمكنني قلع محبّتك من قلبي، وإلقاؤها على غيرك؟! فأين هو هذا الغير؟! ومن يكون هذا الغير؟!
الموانع التي تصدّ الإنسان عن الطريق
«سَيّدي، أَخرِج حُبَّ الدنيا مِن قَلبِي»؛
يا إلهي، ويا سيّدي، أطلب منك أن تُخرج الدنيا من قلبي، وتُلقي بهذه الدرجة من حبّك في هذا القلب.
فهذه موانع تقف في الطريق، حيث تعمل الغفلة والميول اليسيرة والآمال والأماني والزوجة والأولاد والمهنة والتجارة والمعاشرات والمجتمع والناس على جذب الإنسان إليها؛ فأخرج ذلك من قلبي بشكل تامّ!
«وَاجْمَعْ بَيْنِي وبَيْنَ الْمُصْطَفَى وآلِهِ خِيَرَتِكَ مِنْ خَلْقِكَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ»؛ واجمع بيني وبين المصطفى وآله، لأكون معهم على الدوام؛ فهي موجودات طاهرة ومطهّرة ونقيّة ومنزّهة، ولم يبق في وجودها مقدار رأس إبرة من حبّ الدنيا؛ وهي موجودات اصطُفيَت من بين كلّ العوالم، وحظيت برضاك واختيارك من بين جميع المخلوقات؛ فاجمع بيني وبين محمّد المصطفى خاتم النبيّين وآله سلام الله عليه وعليهم، لكي أكون معهم دائمًا، ولا أفترق عنهم ولو للحظة واحدة!.
«وانْقُلْنِي إِلَى دَرَجَةِ التَّوْبَةِ إِلَيْكَ»؛
بحيث تكون عيني رامقة دائمًا إلى مقامك المقدّس، وأرجع إليك بنفسي باستمرار، ولا أتأخّر للحظة واحدة عن الحركة نحوك ـ وهي عين التوبة والرجوع ـ۱، وأكون في حالة سير دائم.
«وأَعِنِّي بِالْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِي».
فأنا أبكي؛ ومع ذلك، أريدك أن تُعينني [على هذا البكاء]؛ فقد آذتني هذه النفس الأمّارة، وأتعبتني كثيرًا، وقصمت ظهري، وهدّت أكتافي، ووضعت عليّ أحمالاً ثقيلة، حيث نجدها تفرّق بين الإنسان وبين محبوبه الذي هو أنت، وتسعى باستمرار إلى تقريبه من عالم الغرور! وعلى الإنسان ـ بحقّ ـ أن يبكي على هذه النفس، ويقول: إلهي، ساعدني!
«فَقَدْ أَفْنَيْتُ بِالتَّسْوِيفِ والْآمَالِ عُمُرِي».
فظللتُ أقول: سأقوم اليوم بعمل حسن؛ فلا يحدث ذلك، فأُوكله إلى الغد؛ فإذا لم يحدث، أوكله إلى اليوم الذي يليه؛ فقضيت حياتي بالتسويف الدائم، وبقيت أقول: «سوفَ، سوفَ»؛٢ إلى أن وصل عمري إلى هذا الحدّ، والآمالُ العريضة مستوليةٌ على قلبي.
وقوف الإنسان بين حالة اليأس من خيره والشعور بمحبّته لله تعالى
«وقَدْ نَزَلْتُ مَنْزِلَةَ الْآيِسِينَ مِنْ خَيْرِي»؛ لقد وصلت الآن إلى مستوى، بحيث كلّما نظرتُ إلى نفسي، رأيت أنّني في منزلة الذين أيسوا من خيرهم، وليس من خيرك؛ فأنا الآن لديّ منزلة، بحيث مهما نظرت إلى نفسي، لا أرى فيها أيّ خير.
«فَمَنْ يَكُونُ أَسْوَأَ حَالًا مِنِّي إِنْ أَنَا نُقِلْتُ عَلَى مِثْلِ حَالِي إلى قَبرِي».
فمحبّتي لك بلغت حدًّا لا أتمكّن معه من التخلّي عنك والميل إلى غيرك؛ وحينما أراجع باطني وسريرتي، لا أجد فيهما أيّ خير؛ لكن، من ناحية أخرى، أنا أحبّك؛ فما عساي أن أفعل؟!
هذا، مع أنّ الناس لا يملكون هذه المحبّة لك، حيث تجد كلّ واحد منهم منشغلاً بشي من الأشياء؛ فأحدهم يُحبّ زوجته، والآخر يُحبّ ولده، والثالث يُجبّ تجارته، والرابع يُحبّ لباسه، والخامس يُحبّ رئاسته! فجميع الناس ملتهين، وغافلين عن هذه الحقيقة، ومسرورين بتلك الأمور! فطوبى للذين لا يشعرون بالألم، ولا يعيشون على أعصابهم، ولا يغرقون في التفكير، ويفرحون بأيّ شيء مهما كان! على الإنسان ألاّ يعبأ بأيّ شيء، ويتخلّص من التفكير، ويستمتع بنوم هنيء! لكنّك يا إلهي منحتنا الألم؛ وهو ألم عجيب؛ أي ألم العشق والمحبّة الذي لا يدعنا ننام بالليل، ولا بالنهار! فيزداد هذا الألم حين الأكل والحركة والسكون، وفي أوقات العبادة وغيرها؛ ونريد علاجه؛ لكن، بمن نتوسّل؟ إذ لا يُمكن لأيّ أحد غيرك أن يُساعدنا. فتجدنا نرجع إلى باطننا لكي نتحرّك، ونقوم بعمل ما، ونُقدم على فعل حسن، ويصدر منّا خير؛ لكنّنا لا نرى فيه شيئًا؛ فهو خالٍ تمامًا، ولا وجود فيه لأيّ خير؛ وحينئذ، لا يُمكنني أثناء هذا الحيص بيص وهذه التقلّبات [أن أميل إلى غيرك، وأتخلّى عنك].