المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء أبي حمزة
التاريخ 1398/09/05
التوضيح
هو العليم
أضواء على مسألة استجابة الله تعالى للدعاء
شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثالثة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله مِن الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وصَلَّى اللَهُ على خيرِ خَلقِه وأشرفِ بريَّتِه محمّدٍ وآلِهِ الطيّبينَ الطّاهِرينَ
ولَعنةُ اللَهِ على أعدائِهِم أجمَعينَ
عدم الانفكاك بين الدعاء والإجابة
«الحَمدُ لِلهِ الذي أَدعُوهُ فَيُجيبُني، وإن كُنتُ بَطيئًا حِينَ يَدعُوني؛ والحَمدُ لِلهِ الذي أَساَلُهُ فَيُعطيني، وإن كُنتُ بَخيلاً حِينَ يَستَقرِضُني».
فنحن ندعو الله تعالى، وهو يُجيبنا؛ وبكلّ تأكيد، فإنّ دعاءنا تستتبعه إجابة الله تعالى؛ غاية الأمر أنّ درجة هذه الإجابة ترتبط بالمستوى من التحقّق والواقعيّة الذي يتّصف به دعاؤنا؛ بل إنّه لا انفكاك في الأساس بين الدعاء والإجابة، بحيث إذا دعا الإنسان الله تعالى ولم تتحقّق الاستجابة، فعليه أن يكتشف من ذلك أنّه لم يكن هناك دعاء بتاتًا!
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾؛۱
وعليه، متى ما دعونا الله تعالى، فإنّ الإجابة ستعقبه بالضرورة؛ لكن، حينما يدعونا الله تعالى، هل تستتبع إجابُتنا دعوتَه مباشرةً، أم لا، فتجدنا نقول: آخ، يا ويلتاه، وكذا وكذا، لا توجد مصلحة وصلاح في هذا الأمر؟!
يقول عليه السلام: «الحمد مختصّ بالإله الذي أدعوه، وتتعقّب إجابتُه دعائي؛ ولو أنّني بطيء حينما يدعوني»؛ في حين أنّ الأمر ينبغي أن يكون بالعكس؛ إذ حينما يدعونا الله تعالى ـ وهو سلطان السلاطين، وملك الملوك، ومبدأ القدرة والحياة، وأمرُه ودعاؤه ودعوته ناشئين من المصلحة ـ ، فمن الواجب علينا أن نسرع بكلّ وجودنا لإجابته، ولا نتأخّر في ذلك، حذرًا من تكون هناك فاصلة بين هذه الدعوة، وبين استجابتنا، ولو بمقدار طرفة عين!
لكن، إذا دعونا الله تعالى، هل توجد أيّة ضرورة لكي يستجيب لنا؟! فأيّ حكم هذا حكمنا به على الله؟! وأيّ قانون هذا وضعناه في عالم التكوين، بحيث يُجبره تعالى على الإجابة ويُلزمه بها؟! في حين أنّنا موجودات ممكنة، وضعيفة، وفقيرة، وميّتة؛ والله تعالى يمتلك في مقابلنا الصفات الحُسنى والأسماء العُليا؛ وله الكبرياءُ والآلاء!٢
تتثاقل الإنسان عن الاستجابة لدعوة الله تعالى
لكنّ المسألة صارت بالعكس؛ فرحمة الله تعالى ولطفه ومودّته وإفاضة الفيض والجود منه قد بلغت حدًّا، بحيث متى ما دعوناه، فإنّه يُجيبنا مباشرةً؛ بينما وصل بطؤنا وتهاوننا وإهمالنا إلى درجة، بحيث حينما يدعونا تعالى أو يأمرنا أو ينهانا، فإنّنا نتثاقل عن إجابته! وكأنّنا نشكّ في الله، ولا نعدّ دعوته لنا مبنيّة على أساس ركيزة اليقين؛ فنقيس حينئذ هذه الدعوة إلى مصالحنا، ونقول: «هل تتوافق مع مصلحتنا، أو لا؟ هل علينا الاستجابة لدعوة الله، أم لا؟»؛ وفي هذه الحالة، إن كنّا من المؤمنين والمسلمين، واستجبنا له، فإنّنا نكون بطيئين ومتهاونين ومتثاقلين في الاستجابة؛ لكن، مع ذلك، فإنّه تعالى لا يتراجع عن فعله، بحيث متى ما دعوناه، فإنّه يُجيبنا مباشرةً؛ ثمّ ندعوه مرّة أخرى، فيُجيبنا مباشرةً؛ وحينما يدعونا هو، فإنّنا نتثاقل؛ ثمّ يدعونا ثانيةً، فنتثاقل!
«وَالحَمدُ لِلهِ الذي أَسأَلُهُ فَيُعطِينِي، وإن كُنتُ بَخِيلاً حِينَ يَستَقرِضُني»؛
هذه الفقرة تُشبه الفقرة السابقة؛ فنجد أنّ كلّ أمر طلبه الإنسان من الله بقوله: «إلهي، أعطني!» يتعقّبه العطاء؛ لأنّه تعالى كريم وجواد، ولا يُنقص من خزانة جوده كلُّ ما يُعطيه؛ كما أنّ أفعاله تعالى ليست منبثقة من مصلحته الشخصيّة ورغبته الذاتيّة في تحصيل المنفعة؛ ولهذا، حينما يسأل الإنسان الله تعالى، فإنّه يمنحه؛ ثمّ يسأله مرّة أخرى، فيمنحه، ويمنحه، ويمنحه؛ وهكذا، من دون أن يوجد حدّ يقف عنده!
لكن، إن طلب منّا الله تعالى شيئًا، هل يوجد من يُعطي؟!
ـ أعط الزكاة! فهل هناك من يُعطيها؟!
ـ أعط الخمس! فهل هناك من يُعطيه؟!
ـ أعط الفطرة! فهل هناك من يُعطيها؟!
ـ أعط الصدقات المستحبّة! أحسن إلى الفقير! صل رحمك! أنفق من نفسك ومالك! وأعط...! فهل هناك من يُعطي؟! لا يوجد بتاتًا من يُعطي!! وهذا عجيب جدًّا! فأنا أصلّي، لكنّني لا أنفق مالي؛ وأنا رجل متديّن، لكنّني لا أؤدّي الخمس، وقد وقفت بثبات على هذا الطريق!
استقراض الله تعالى من عباده مع أنّه مالِك كلّ شيء
وحينئذ، يصل الأمر إلى درجة أنّ يقوم الله العليّ الأعلى بالتوسّل إلى عباده بأن: يا عبادي، تعالوا وأقرضوني، وليس تومانًا واحدًا بفلس واحد، أو تومان واحدًا بقرش واحد، بل أستقرضكم تومانًا واحدًا بتومانين، وتومانًا واحدًا بأربعة تومانات، وتومانًا واحدًا بسبعين تومان، وتومانًا واحدًا بسبعمائة تومان! وحتّى أكثر إن رغبتم؛ فتعالوا، وأقرضوني! ومع كلّ ذلك، هل نقبل نحن بإقراض الله تعالى؟!
﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ (في الدنيا والآخرة) وَلَهُ (علاوةً على ذلك) أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾؛۱ أي أنّ الأمر سيكون رائعًا جدًّا بالنسبة إليه!
﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ (من قمح أو شعير زرعها أحدهم في الأرض) أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ (فيصير المجموع سبعمائة حبّة) وَ(لا تعتقدوا أنّ المسألة تتوقّف عند هذا الحدّ بل) اللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ (أي أنّ زراعة حبّة ينتج عنها ألف أو ألفين أو عشرة آلاف أو مائة ألف حبّة)﴾؛٢
فتعالوا، وأقرضوا أموالكم قرضًا حسنًا، وضعوا محض رضا الله تعالى في هذا الصندوق الإلهيّ للقرض الحسن؛ لكن، هل من أحدٍ يُصغي ويستمع؟! «وإن كُنتُ بَخيلاً حِينَ يَستقرِضُني»؛ في حين أنّ الأمر بالعكس؛ إذ نحن الذين علينا أن نطلب منه تعالى.
فالله تعالى يطلب منّا، ونحن نبخل بالعطاء؛ في حين أنّ المِلك مِلكُه، لا مِلكنا نحن؛ فهو المالِك والملِك؛ أي أنّه مالك للأموال برمّتها: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛۱ وفي الوقت ذاته ملِك؛ أي صاحب السلطة. فالمال ماله، وفي الوقت ذاته، فإنّ له سلطة التصرّف في هذا المال؛ ومن هنا، فإنّنا نجد في سورة الحمد المباركة: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾،٢ حيث قرأها العديد من القرّاء بهذا النحو: ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾؛ أي أنّه مَلِكُ يوم الجزاء وصاحب السلطة فيه؛ فإذا قرأ أحدٌ في صلاته ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، فلا إشكال في ذلك؛ إذ وردت قراءةٌ صحيحة عن الرسول الأكرم بهذا المضمون.٣
وفي هذه الحالة، إذا كان الله مالِكًا ومَلِكًا، فإنّنا وأموالنا بأجمعها مِلك خالص له تعالى؛ لأنّنا عبيده، و «العَبدُ وما في يَدِه لمولاه»؛ والمولى له حريّة التصرّف في أموالنا كيفما يشاء؛ لأنّنا عبيده؛ لكنّه لا يفعل ذلك، ولا يتعامل مع هذه الأموال بقهره، ولا ينزل عليها صاعقة فيحُرقها بذلك، ولا يُبيدها بواسطة الفيضانات والزلازل، بل يُمهلنا على الدوام، ويستمرّ في إمهالنا، ويطلب منّا باستمرار: أنفق منها بنفسك!
أهمّية الإنفاق باليد
فما أحسن أن يُنفق الإنسان بيديه؛ لأنّ ذلك هو الذي يُحيي روحه، ويقطع ذلك التعلّق من قلبه، ويُحلّق به إلى الأعلى؛ لكن، هل بوسع كلّ أحد أن يُنفق أمواله بيديه؟! فذلك أمر صعب جدًّا!
يُقال: كان هناك رجل عمّر طويلاً، وجمع ثروة كبيرة، حيث حصّل هذه الثروة من التجارة والمال الحلال؛ لكنّه لم يكن يُؤدّي حقوقه [الشرعيّة]؛ وفي أواخر حياته، تقرّر أن يكتب وصيّة، ويدفع هذه الحقوق؛ هذا، مع أنّه سابقًا، كان يُحتفظ بالأموال على الرفوف في البيوت؛ إذ لم تكن هناك أبناك وأمثالها، بحيث تظلّ جيوب الناس فارغة على الدوام، فيضطرّ هؤلاء لمدّ يد الحاجة إلى الجار والشريك من أجل الحصول على خمس وعشر تومانات، ويتوسّلون إليهم أن: «يا سيّدي، علينا أداء كمبيالاتنا، فتعال، لكي تحفظ ماء وجهنا!»، بل كان الناس يمتلكون أموالاً، ويحتفظون بأكياس الذهب والفضّة على الرفوف.
ذات ليلة، استدعى هذا الرجل شيخ الحيّ، وقال له: «يا سيّدي، لقد كتبتُ وصيّتي، فأرجو منك أن تحسب جميع الحقوق الموجودة في ذمّتي، لكي ترى كم تبلغ، ثمّ كَبِّلْني في عمود هذه الغرفة التي نحن جالسين فيها (وقد شاهدت بنفسي سابقًا أنّهم يجعلون بعض الحسينيّات في غرفة كبيرة من المنزل تتوفّر على أربعة أعمدة، وتُسمّى بالحسينيّة)، وبعدما تُكبّلني، خذ هذا المفتاح، وافتح هذه الرفوف، ثمّ خذ كلّ ما يقع في ذمّتي من الحقوق».
فقال الشيخ: «حسن جدًّا، لكن، لماذا عليّ أن أقيّدك يا عزيزي في العمود؟! قم بنفسك، وخذ المفاتيح، وافتح الباب بنفسك، وأعطني تلك الحقوق»؛ قال: «لا أتحمّل ذلك!»؛ فقال الشيخ: «حسن جدًّا، سأقوم أنا بهذا الأمر!».
فقام شيخ الحيّ بالتدقيق في جميع ممتلكاته وحقوقه، وعدّها، ثمّ أمر بتكبيل حضرة التاجر في العمود بواسطة حبل؛ وحينما قُيّد جيّدًا، أمر بأخذ المفاتيح، وفتح الرفوف، واستخلاص الأموال؛ لكن، ما إن حمل أحدهم المفاتيح، وسعى لفتح الرفوف، حتّى ارتفع صراخ ذلك التاجر، وقال: «أخرجوا هذا الشيخ، إنّه سارق؛ فما الذي يحصل هنا هذه الليلة؟!»؛ فبدأ بالصراخ والصياح والعويل؛ وبدأ يتقلّب يمينًا وشمالاً، ويسعى لقطع الحبل!
فهذه هي حقيقة الأمر يا عزيزي! فالإنفاق باليد صعب جدًّا!
أوصى أحد صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بما يلي: «إذا مُتُّ، فليأت الرسول الأكرم، وليفتح باب هذا المخزن المليء بالتمر، وليُنفقه بأجمعه في سبيل الله تعالى؛ لكن بعد وفاتي وليس الآن!».
وبعدما ارتحل عن دار الدنيا، وقاموا بتجهيزه وتكفينه وتشييعه ودفنه، جاء الرسول الأعظم مع كافّة أصحابه عملاً بالوصيّة، وفتحوا باب المخزن الذي كُدّست فيه أكياس التمر بذلك النحو؛ هذا، مع أنّ تمر المدينة جميل وجيّد جدًّا؛ كما أنّ بعض أنواعه مرغوبة للغاية!
وقد اطّلع الفقراء على هذا الأمر، فجاؤوا بأجمعهم، وقُسّمت [عليهم] التمور، وأفرغوا كلّ المخزن؛ لكن، حينما أرادوا الخروج منه، سحق أحدُهم تمرةً برجله، فأخذها النبيّ الأكرم، وعرضها على أصحابه، ثمّ قال (ما مفاده):
لو أنّ هذا الرجل أنفق بيديه هذه التمرة المسحوقة، لكان ذلك عند الله تعالى أفضل من أن يوصي بعد وفاته بإنفاق كافّة أمواله في سبيل الله تعالى.۱
فالوصيّة بعد الموت جيّدة جدًّا، غير أنّ حكمها حكم زيت المصباح المسكوب الذي ينذره الإنسان لأضرحة أبناء الأئمّة عليهم السلام؛ وذلك بأن ينكسر زجاج هذا المصباح، فيُراق زيتُه في الشارع، ثمّ يقول الإنسان: «فلأنذر هذا الزيت للأضرحة أبناء الأئمّة!». لقد بذل ذلك الرجل مجهودًا كبيرًا، وكدّس الأموال والثروات و...؛ وحينما رأى نفسه على أعتاب الموت، ويتعيّن عليه مفارقتها بأجمعها، جاء حينئذ، وأوصى بها، وأوقع ثلّة من الناس في البلاء؛ فصارت كلّ حياته وبال وخسران، ووصيّته أيضًا وبال وخسران؛ ﴿خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾!٢
يُحكى أنّ رجلاً كان يُؤذي زوجته كثيرًا؛ فيضربها، ويشتمها، ولا يُنفق عليها؛ فكانت هذه المرأة ـ باختصار ـ تُعاني كثيرًا من الأذيّة والإساءة. وحينما شارف هذا الرجل على الموت، أوصى امرأته، وقال لها: «أعتذر إليكِ كثيرًا، وأريدك أن تصفحي عنّي؛ لأنّني كنت طيلة حياتي أضربك، وأشتمك، وكنت أغادر المنزل لعدّة ليالي من دون أن أرجع، فأذهب إلى السفر، وأتركك من دون نفقة؛ فأنا آسف جدًّا! لكن، بدلاً عن ذلك، وحتّى يُشفى غليلُكِ قليلاً، وتُعوّضي عمّا أصابك، أوصيكِ أن تربطي رجلي بهذا الحبل بعد وفاتي، وتجرّي جثّتي في هذا المنزل كيفما تشائين، وتسحبيها حول هذا الفناء، ليصطدم رأسي ويديّ بهذا الجانب وذاك، حتّى يذهب غيظُك، وترتاحي قليلاً؛ فأنا أوصيك بهذا الأمر، وأُفوضّ إليك القيام به!».
فمات الرجل، وظلّت جثّته ملقاةً على الأرض؛ فربطت هذه المرأة رجله بالحبل عملاً بوصيّته، وبدأت تسحبه في البيت؛ ثمّ أتى الناس، وجاء أخو ذلك الرجل وعمّه، وقالوا: «يا ويلتاه! انظروا ماذا تفعل هذه المرأة بهذا المسكين الذي ارتحل عن دار الدنيا!»؛ وطفقوا يضربونها، بحيث كلّ من كان يأتي، كان يصفعها، أو يركلها! هذا، مع أنّها كانت ملزمة بالعمل طبقًا للوصيّة! فقالت المرأة: «لعنة الله عليكَ، وعلى حياتك وموتك! فلا حياة [طيّبة] كانت لك، ولا ميتة [طيّبة]!».
وباختصار، فهذا هو حال الوصايا!
الإنفاق في سبيل الله تعالى يُبقي المال ولا يُعدمه
فهؤلاء لا يعلمون أنّ ما يُنفقه الإنسان في سبيل الله تعالى موجود وغير معدوم؛ ولهذا، يظنّون أنّ مالهم سيفنى بالإنفاق، ولا يعلمون أنّ المال الذي يُنفقونه موجود، والذي بين أيديهم غير موجود، بل سيفنى، ويهلك، ويرتحل عن هذه الدنيا، وتُقرأ عليه الفاتحة، ويكون مثارًا للنزاع بين الورثة الذين ستتبدّل مودّتهم بواسطة هذا المال إلى عداوة؛ فيُقسّمونه، ويستعينون به على آلاف الأفعال السيّئة والمشينة، فيُعكّرون صفاء أرواحهم وروح ذلك المتوفّى؛ فهذه هي ثمرة المال الذي يبقى.
وأمّا المال الذي يُنفقه الإنسان، فإنّه يظلّ محفوظًا في موضع خاصّ وفي صندوق فولاذيّ صلب، بحيث لا يُمكن لأيّ شيء أن يُفنيه؛ فلا يقدر السارق على نهبه، ولا النار على حرقه؛ لأنّه موضوع في خزانة محصّنة، فلا يستطيع حتّى الشيطان أن ينهبها؛ لأنّها محصّنة جدًّا؛ فهذا الصندوق بيد الله تعالى الذي احتفظ به كقرض، لكي يحفظه للإنسان، فقال له: أقرضني [أموالك]، وسأحتفظ لك بها!
فحينما تكون لديك أموال، وتخاف أن يأخذها منك سارق، فإنّك تقول لصديقك: «هل تُريد أن تقترض منّي هذا المال؟»، فيقول: «نعم، أقرضني إيّاه»؛ ومتى ما أعطيت المال لصديقك قرضًا، فإنّ المسألة تكون منتهية بالنسبة إليك؛ لأنّه سيدخل في ملكه، ويصير مسؤولاً عنه؛ فتذهب للسفر وترجع وأنت مطمئنّ البال، ويكون مالُكَ موجودًا، فتذهب وتسترجعه؛ فهذا هو معنى القرض!
أراد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذهاب إلى إحدى الغزوات، فأمر إحدى نسائه بذبح شاة في المنزل، والتصدّق بها كلّها في سبيل الله تعالى.
وحينما رجع بعد يوم واحد أو يومين، سألها: هل ذبحتها وتصدّقت بها؟ فقالت له: نعم يا رسول الله، ما بقي منها إلاّ الكتِف!
فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «كُلُّها بَقِيَت إلاّ الكتِف»! (أي أنّ ما تصدقتِ به بقي؛ في حين أنّ هذه الكتف التي لم تتصدّقي بها بقيت).۱
عاقبة منع الفقراء حقوقَهم
فالله تعالى يقظ، ويقظ جدًّا! هذا، ولأمير المؤمنين عليه السلام كلام عجيب جدًّا، حيث قرأت له في نهج البلاغة عبارة جاء فيها ما معناه:
إنّ الله تعالى يُمهل الإنسان، ويُمهله، ويُمهله؛ ثمّ يكون له بالمرصاد، ويكبّه على وجهه أرضًا في لحظة واحدة؛ فإلى متى يُمهله؟! فهو يهب الإنسان طعامًا لطيفًا وليّنًا، فيأكله هذا الإنسان الذي يُعمّر طويلاً، ثمّ يقول له باستمرار: أعط للفقراء حقوقهم! لكنّه لا يُصغي إليه، بل يقول: يا للعجب! إنّني أتناول هذا الطعام بكلّ لطافة وكأنّني أتناول حلوى راحة الحلقوم؛ فلماذا يقولون: أنفق على الفقراء؟! وفجأةً، أثناء تناوله لذلك الطعام الهنيء، إذا بعظم ينزل إلى حلقه، ويسدّ الطريق!٢
ذات يوم، كنّا في مجلس، وكان هناك أيضًا أحد التجّار يملك متجرًا يقع أمام مسجد الشاه، وكانت بعض المسائل تحكى في هذا المجلس، فذكر ذلك التاجر حكايةً، حيث قال:
كان أحد الأصدقاء الذين أعرفهم يمتلك متجرًا لسنوات مديدة قُبالة مسجد الشاه، وكان رجلاً لا يُؤدّي للعمّال والعتّالين حقوقهم، حيث كان ذلك يشقّ عليه كثيرًا؛ فعلى سبيل المثال، كان يُؤتى إليه بالبضائع، فيتوجّب عليه أداء حقّ الحمالة، لكنّه كان يقول: «خذ الأجرة من الذي أرسلها!»؛ فكان أولئك العتّالون المساكين الذين يأتون وهم يتصبّبون عرقًا، يرجعون وهم مستائين.
قال: ذات يوم، كان جالسًا داخل متجره، وهو منهمك في تناول الطعام الذي كان عبارة عن دجاج محمّر، فأحضر عتّالٌ حمولة ثقيلة، وأنزلها على باب المتجر، ثمّ قال: «حسنًا، أعطني أجرتي!»، فقال له: «اذهب، وخذها من الذي أرسلها!»، قال: «إنّه لن يُعطيني أجرة الحمالة، فقد أحضر البضاعة إلى هنا، وقال لي: إنّ حقّ الحمالة يقع على عاتقك أنت؛ فضعها هناك!».
قال له: «اذهب من هنا، اذهب من هنا، ولا تضطرّني لأن أنهض من مكاني! فاذهب عند الذي أحضرها، وخذ منه الأجرة!»، فقال له العتّال: «إن لم تُؤدّ لي حقّي، هل تظنّ أنّك ستهنأ بهذا الطعام الذي تتناوله؟!»، قال: «نعم والله! سآكله هنيئًا مريئًا مثل حلوى راحة الحلقوم!»؛ ثمّ أخذ فخذ الدجاجة، ووضعه في فمه بمرأى من العتّال.
فكان ذلك الرجل الذي يحكي لنا القصّة يُقسم بالله تعالى، ويقول: في نفس تلك اللحظة، علق عظم الدجاجة في حلقه؛ وقبل أن يصل إلى المستشفى، اختنق!
فهذا الذي يُقال عنه: إنَّ اللهَ لَبِالمرصاد!۱
حسنًا يا عزيزي، لقد وهبك الله تعالى الثروة والمال والقُدرة والعزّة والدجاجة لكي تتناولها داخل متجرك.. فهنيئًا مريئًا! لكنّ هذا المسكين حمل كيسًا من مكان بعيد، وأتى به في جوّ حارّ، وهو يتصبّب عرقًا، مع أنّ الأجرة التي يُريد أخذها ليست بكثيرة، بل لا تتعدّى تومانًا واحدًا، أو خمسة عشرة فلسًا! فلماذا ـ والحال هذه ـ تُريد هضم حقّه؟! فهكذا أُناس موجودون في هذا العالم!!
وفي زمان الرسول الأكرم، كان الكفّار والمشركون يقولون له صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لو شاء الله لأطعم بنفسه هؤلاء الفقراء، فلماذا تأمرنا بالتصدّق عليهم؟! وعليه، إن كان الله هو الذي جعلهم في حالة من الفقر، فإنّ ذلك يدلّ على أنّه هو الذي شاء ذلك!»؛ كلاّ! فالله تعالى قسّم الناس إلى طبقتين: الفقراء والأغنياء، وذلك لكي يرتقي الناس بواسطة التضحية والإيثار والإنفاق من مستوى الحياة المادّية والحيوانيّة، ويصلوا إلى الحياة الإنسانيّة؛ فهذه هي مدرسة التربية!
وحينئذ، نجد أنّ الله العليّ الأعلى ومع أنّه المالك، وهو الذي وضع هذا المال بيد الإنسان، وأوجد فيه كافّة أنواع التصرّف، فإنّه وصل إلى مستوى من اللطف والرحمة، بحيث يعدّ نفسه في مقابل عباده مُقترِضًا، ويقول لهم: «أقرضوني أموالكم!»؛ فأيّ مال هذا؟! ومن الذي يملك هذا المال؟! وما معنى «أقرضوني»؟! ومن هذا الذي نُريد إقراضه المال؟! فهذا المال أوّلاً هو مالُكَ بالحقيقة، وثانيًا مالُنا بالمجاز؛ لا أنّه ثانيًا مالُنا بالحقيقة، بل هو مالُنا بالمجاز! فملكيّتنا له اعتباريّة وملكيّتك حقيقيّة؛ لكنّ الله تعالى هو على درجة عظيمة من اللطف والرحمة، ولا يُريد أن يبتلي عبادَه بالنار، ويرغب دائًما في دعوتهم إلى الخير والصلاح والرأفة والمودّة واللطف، لكي يُربّيهم؛ ولهذا، يعدّ نفسه مقترضًا؛ وهذا نظير الحديث القدسيّ الذي يقول في الباري عزّ وجلّ:
«أنَا جَليسُ مَن ذَكَرَني، وأنا مُطيعُ مَن أَطَاعَني»؛۱
مناجاة الله تعالى متاحةٌ للإنسان متى ما شاء
يقول الله تعالى: «أنا مطيع»؛ فبأيّ نحو يُمكن التعبير هنا، بحيث يقول الله تعالى: «يا عبدي إنّني مطيعك»؟! فتارةً، يقول الخادم لمولاه: أنا مطيعك؛ وتارةً أخرى، يقول المولى ـ من شدّة رأفته ورحمته ـ هذا الأمرَ لعبده؛ مع أنّ المولى والعبد ليسا في مستوى واحد، وليسا كلاهما من أفراد الإنسان، بل المولى هنا هو الذي بيده كافّة قدرات العالم ﴿وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾؛ في حين أنّ العبدَ مِن ترابٍ ومعلولٌ.
(وعليه) «الحَمدُ لِلهِ الذي أَساَلُهُ فَيُعطيني، وإن كُنتُ بَخيلاً حِينَ يَستَقرِضُني».
«وَ الحَمدُ لِلهِ الذي أُنادِيهِ كُلَّمَا شِئتُ لِحَاجَتي، وأخلُو بِه (في مجلس واحد) حَيثُ شِئتُ لِسِرِّي بِغَيرِ شَفيعٍ (ولا واسطة تربطني به) فَيَقضي لي حَاجَتي».
فالحمد مختصّ بالإله الذي أتحدّث معه متى ما شئت؛ فنحن لدينا مولى وسيّد لا يتوفّر بيتُه على باب، ولا سقف، ولا حائط، ولا حارس، ولا حاجب، ولا يحتاج الإنسان من أجل لقائه إلى تعيين وقت، أو الاتّصال بالهاتف لتحديد موعد خاصّ، بل متى ما شئتُ أناجيه وأبثّ إليه شكواي؛ وهو يفسح لي المجال متى ما أردتُ، وفي أيّ مكان شئتُ؛ سواءً في البيت أو المنزل أو الصحراء أو البحر أو المسجد أو حين النوم أو أثناء التطهّر وفي بيت الخلاء، حيث من المستحبّ للإنسان أن يقول عند الدخول إليه: «أعوذُ بِاللهِ مِن الرِّجسِ النَّجِسِ الخَبيثِ المـُخبِثِ الشيطانِ الرجيمِ»؛٢ فهو يستعيذ بالله تعالى، ويتحدّث معه؛ فحينما يكون جالسًا، تجده يتحدّث مع الله تعالى باستمرار؛ إذ من المستحبّ أن يقرأ الإنسان هناك مجموعة من الأدعية الخاصّة الواردة؛٣ وقد رُخّص له في أن: تحدّث إليّ، واذكرني في كلّ وقت وأوان؛ سواء في الليل، أو النهار، أو ما بين الطلوعين، أو قُرب الغروب،٤ أو في منتصف الليل حينما تستيقظ، وتكون مصابًا بوجع الظهر، فترغب في أن تتقلّب في فراشك من جنب إلى آخر؛ فقل: يا الله! لأنّ قولك هذا غير ممنوع هناك؛ فقل: يا الله!٥ إذ بوسع الإنسان مناداة الله تعالى في كلّ حال وزمان ومكان.٦
فإذا كان الإنسان غير قريب من الله تعالى، فإنّه يُناديه؛ وإذا كان قريبًا منه، وأراد في أيّ وقت أن يختلي به ويُناجيه، فإنّ الله تعالى مع ذلك ينحني، ويضع أذنَه قرب فم الإنسان؛۱ لا أنّنا ننهض من مكاننا، ونذهب عند الله تعالى لكي نناجيه؛ بل هو الذي يأتي عندنا، ويقترب منّا، ويقترب، ويقترب، إلى أن يضع أذنه قرب أفواهنا؛ فهل يوجد ـ والحال هذه ـ من يكون أقرب من هذا الإله حين النداء والمناجاة؟!
فالمناجاة تعني الكلام بهدوء؛ في حين أنّ النداء يعني دعوة أحد عن بُعد.
فالحمد مختصّ بالإله الذي أناديه متى ما شئت، لأجل حاجتي إليه؛ وأختلي به في مجلس واحد متى ما رغبت، لأجل السرّ الذي أُكنّه في قلبي، من دون أن يتوسّط ويربط بيننا أحد! «بِغَيرِ شَفيعٍ فَيَقضي لي حَاجَتي»؛ فلا ضرورة هناك لأيّ شفيع، حتّى يكون واسطة، ويأتي لتلبية حاجتي، فتُقضى هذه الحاجة على يديه؛ كلاّ! بل تُقضى من دون واسطة غير الله!
ويتبيّن من عبارة «بِكَ عَرفتُكَ»٢ أنّ كافّة الشفعاء الذين عيّنهم الله العليّ الأعلى إنّما عُيّنوا بإرادته تعالى، لا أنّهم يقعون في مقابله؛ إذ لا مؤثّر في عالم الوجود إلاّ الله، ولا قدرة إلاّ قدرته؛ وبالتالي، فإنّ كلّ شفيع إنّما يشفع بإرادته هو وبسبب هو؛ ولا يُمكن لأيّ شفيع أن يتوسّط ـ في مقابله وبنحو الاستقلال ـ لتلبية حاجة من حاجات الإنسان.٣
«الحَمدُ لِلهِ الذي لا أَدعُو غَيرَهُ، وَلَو دَعوتُ غَيرَهُ لَم يَستَجِب لي دُعائي»!
أي أنّ الحمد مختصّ بالإله الذي لا أدعو غيره، ولا أصرخ ولا أعجّ إلاّ إليه، ولا أنادي سواه، بل أناديه على الدوام؛ فهو سميع وبصير ومطّلع على كافة الأمور، إلى درجة أنّني لا أرى نفسي مستغنيًا عن مناداته في أيّ أمر، بل وجدت أنّه من اللازم عليّ في كلّ أمرٍ مناداته، وعدم مناداة غيره، بحيث إذا دعوتُ غيره، فلن يستجيب لدعائي، ولن يُصغي إلى دعوتي.
قدرة الله تعالى على الاستجابة لكلّ دعاء وعجز الآخرين عن ذلك
وهذا عجيب جدًّا! فهذا الإله يستطيع القيام بكلّ شيء؛ في حين أنّ الرفيق الفلانيّ والصديق الفلانيّ والحبيب الفلانيّ يقدر على فعل واحد فقط من الأفعال، لا جميعها؛ أي أنّ كلّ إنسان يستطيع القيام بفعل واحد؛ ومع ذلك، تجدنا لا نسأل عن هذا الإله الذي يفعل كلّ شيء، ويُمكن للإنسان أن يحصل منه على أيّ شيء يُريده؛ سواءً كان أمرًا صغيرًا أو كبيرًا، دنيويًّا أو أخرويًّا، أو أيّ أمر آخر تفرضونه؛ فالحمد مختصّ بهذا الإله؛ وعلى الإنسان أن يقول: أنعم به وأكرم! فيا له من إله جيّد! وسأسعى دائمًا للتوجّه إليه، والطلب منه، بحيث إذا توجّهت إلى غيره، فإنّ رجائي سيتبدّد، وأملي سيضيع، وتبقى يديّ خاليتي الوفاض! فأنا أتوجّه إلى هذا الإله في كافّة شؤوني، ولم يحدث في أيّ أمر أن رجعتُ خالي الوفاض، بل متى ما دعوتُه، رجعتُ ويديّ ممتلئتان؛ وإذا دعوتُ غيره في إحدى المرّات، فإنّ يديّ ستظلاّن خاويتي الوفاض! «وَلَو دَعَوتُ غَيرَهُ، لَم يَستَجِب لي دُعائي».
«وَالحَمدُ لِلهِ الذي لا أَرجُو غَيرَهُ، وَلَو رَجَوتُ غَيرَهُ لَأَخلَفَ رَجائي»!
فالحمد مختصّ بهذا الإله؛ وعلى حدّ قول العامّي: «عَاشَت إيدَك!»؛ أي دُمتَ حيًّا! وعلى حدّ قولنا نحن: أهلاً وسهلاً، حيّاك الله، سلمت يداك، بارك الله فيك، فما أعجبك من بطل قلّ نظيره!
فيا له من إله جيّد استأثَر بجميع أنواع الحمد والثناء؛ لأنّه مجمع كافّة الكمالات! فلو جلستَ من الآن إلى يوم القيامة، وتطلّعتَ إلى هذا الإله، ومدحتَه، لحلّ يومُ القيامة، ولم ينته مديحك وثناؤك... لماذا؟! لأنّني لم أجعل طيلة حياتي غيرَه محطًّا لرجائي وأملي، بل علّقتُ أملي بساحته على الدوام، بحيث لو أمّلتُ غيرَه، لتخلّف أملي ورجائي، ولما تحقّق هذا الأمل. ففي جميع الحالات، علّقتُ أملي بهذا الإله، وبنيتُ هذا الأمل وعقدتُه على أساس الحقيقة، بل لو عقدت أملي بغير الله تعالى، لظلّت يديّ خاليتي الوفاض.
«وَالحَمدُ لِلهِ الذي وَكَلَني إلَيهِ فَأَكرَمَني، وَلَم يَكِلني إلَى الناسِ فَيُهِينُوني»؛
أي: أنّ الحمد مختصّ بهذا الإله الذي جذبني إليه، ووكلني إليه، ودعاني إلى نفسه، وتولّى شؤوني بيده، وأمسك زمام أموري بنفسه؛ وبعدما تناول زمام أموري بيده، أكرمني، وقال لي: «مرحبًا، أحسنت، أهلاً وسهلاً!»؛ فأعدّ لي المنزل، وبسط لي هذه المائدة السماويّة الحافلة بكافّة الفواكه، وأنواع الأطعمة، بحيث ما إن يلج الإنسان إلى هذا المنزل، حتّى يُستقبل بغاية الكرم والتعظيم؛ ولم يُفوِّض إلى الناس الإمساك بعناني، حتّى يُذلّوني ويُهينوني.
وقال لنا: تعالوا إليّ، ولا تذهبوا عند غيري؛ فلا تلجؤوا إلى الناس، ولا تطلبوا منهم حاجاتكم، واقطعوا أملكم عن كلّ ما سوى الله تعالى، كائنًا من كان؛ فهناك، لا يُوزّعون الحلوى، بل لا يوجد هناك إلاّ الحرق والقُبح والشمس اللاهبة والعطش، ولا شيء غير ذلك! فلو تقرّر ألاّ يدعونا الله تعالى إليه، ولا يصل حبال قلوبنا به، ولا يُمسك بيده زمام أمورنا؛ وبالتالي، لا نقع تحت ظلّ كرمه، ويوكل أمورنا إلى الناس، ويقول لنا: «اذهبوا إلى الناس ليقضوا حوائجكم!»، فأيّة ذلّة ستحلّ بنا حينئذ؟! وأيّ شقاء سيُصيبنا؟! وأيّة فاجعة ستلحق بنا؟! فمن يكون هؤلاء الناس [الذين ستوكل أمورنا إليهم]؟!
لكن، لدينا إله يقول: لو عاداك جميع الناس، فأنا لوحدي أكفيك!
«[إِلَهِي] ماذا وَجَدَ مَن فَقَدَكَ، وما الذي فَقَدَ مَن وَجَدَكَ»؟!۱
فالذي وجدك حاز على كلّ شيء؛ والذي أضاعك لا يملك أيّ شيء، لا أنّه يملك غيرك؛ بل لا يملك شيئًا ﴿خَسِرَ الدُّنيَا وَالآخِرَةَ﴾؛ فدنياه وآخرته خسرانٌ كلاهما؛ ﴿ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المـُبينُ﴾!٢
إقبال الله تعالى على عباده وإعراضهم عنه
«وَالحَمدُ لَلهِ الذي تَحَبَّبَ إلَيَّ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنِّي»؛
فبأيّ نحو يُمكنه التعبير هنا؟! وبأيّة طريقة يُمكننا تفسير هذه العبارة؟! فهل تعلمون ما هو المراد من «تَحبَّبَ إِلَيَّ»؟ افرضوا أنّ أحدًا ليست له سابقة معرفة بكم، ويُريد أن يتحبّب إليكم، فما هي المقدّمات التي يتعيّن عليه تهيئتها؟ عليه أن يعمل على تعظيمكم، والتواضع لكم، والسلام عليكم، ونفض التراب عن ثيابكم، وصفّ حذائكم، ومرافقتكم في السفر، وخدمتكم، والقيام بآلاف المقدّمات، حتّى تُحبّونه.
يقول الإمام السجّاد عليه السلام في هذه العبارة:
«الحمد لله الذي تَحبَّبَ إِلَيَّ»؛ أي أنّه توسّل بمقدّمات عجيبة وغريبة، لكي يغرس محبّته في قلبي! «وَهُوَ غَنِيٌّ عَنّي»؛ يعني: مع أنّه غنيّ عنّي وغير محتاج إليّ؛ إذ من أكون أنا حتّى يسعى الله تعالى لغرس محبّته في قلبي؟!
فلو صار جميع أفراد الإنسان منذ آدم إلى يوم القيامة كفّارًا، وأعرضوا عن الله، لما لطّخ ذلك رداء كبريائه، ولو بذرّة واحدة من التراب! فهو غنيّ بهذا النحو؛ لكن، مع امتلاكه لهذا الغنى، إلاّ أنّه في غاية اللطف!
يقول الإمام السجّاد عليه السلام في مناجاة المريدين:
«يَا مَنْ هُوَ عَلَى الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ مُقْبِلٌ، وَبِالْعَطْفِ (والحنان والكرم) عَلَيْهِمْ عَائِدٌ مُفْضِلٌ (فيتفضّل عليهم بكمال الفضل والإنعام ويضمّهم إلى حضنه ويغمرهم برحمته)، وَبِالْغَافِلِينَ عَنْ ذِكْرِهِ (والمعرضين عنه) رَحِيمٌ رَءُوفٌ (فلا يُعرض عنهم هو أيضًا ولا يغفل عنهم)، وَبِجَذْبِهِمْ إِلَى بَابِهِ وَدُودٌ عَطُوفٌ».٣
فيُرشدهم إلى باب بيته على الدوام، ويُناديهم باستمرار: إلى أين أنت ذاهب؟! ارجع! تعال إلى هنا! فذلك ليس بطريق، بل هناك الضلال، والعطش، والسراب؛ فالدنيا بهذا النحو؛ وهي زينة، ووبال، ومسكنة، وشهوة؛ ولا توجد أيّة فائدة تُرجى من الشيطان، فتعال إلى هذه الناحية، حيث الرحمة، والجنّة، والماء؛ بينما هناك سراب وحسب! فهنا الظلّ، وهناك الشمس [اللاهبة]! وهنا العلم، وهناك الجهل! فأنت يا إلهي تأتي عندي بألف تجلّ وألف عبارة، لكي تدلّني عليك!
با یک هزار جلوه برون آمدی که من | *** | با یک هزار دیده تماشا کـنم تـو را |
[يقول: لقد تجلّيت للعيان بألف تجلٍّ، لكي أتطلّع إليك بألف بصر].۱
«الحمد لله الذي تَحبَّبَ إِلَيَّ»؛ فنحن الذين يتوجّب علينا فعلُ شيء حتّى يُحبّنا الله تعالى! فهذا الإنسان غافلٌ ومُعرض ومتثاقلٌ وجاهلٌ، بحيث يحتاج إلى شاحنتين لكي يتحرّك من مكانه، ويأتي [مثلاً] إلى المسجد بعد الإفطار! أ فهل يوجد من يتحرّك؟! لكن، بدل أن نأتي نحن، ونعتذر، ونتحبّب إلى الله ، و...، فإنّه تعالى ـ على العكس ـ هو الذي يأتي، ويدعونا بواسطة ملائكته "من الجنّة والناس"، ويقول لنا: «تعالوا»؛ في حين أنّه غنيّ، ولا يحتاج إلينا بتاتًا!
عِظَمُ حلم الله تعالى وأناته في مقابل ذنوب العباد
«وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَحْلُمُ عَنِّي (ويصبر على ذنوبي) حَتَّى كَأَنِّي لَا ذَنْبَ لِي، فَرَبِّي أَحْمَدُ شَيءٍ عِنْدِي وَأَحَقُّ بِحَمْدِي».
فأنا أُذنب، فأستحقّ العقاب، لكنّه لا يُعاقبني؛ ثمّ أذنب ثانيًا، وثالثًا، فلا يُعاقبني، ثمّ لا يُعاقبني، وهكذا، إلى درجة كأنّني لم أذنب أبدًا، وكأنّني عبد مطيع! فهو تعالى يتعامل معنا بهذا الأسلوب؛ فيا له من صبر! ويا لها من أناة! حيث يُراد من الأناة الحلم. «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يَحْلُمُ عَنِّي حَتَّى كَأَنِّي لَا ذَنْبَ لِي»؛ فكأنّني لم أذنب بتاتًا! ثمّ يقول تعالى بعد ذلك للإنسان: تُب! فيتوب هذا الإنسان، ثمّ يقف أمام ربّه، ويقول:
ـ إلهي، لقد عصيتك!
فيقول له: أنت لم تعص بتاتًا!
ـ إلهي، لقد أذنبت، وأقسم بالله وبحضرة العبّاس أنّني أذنبت!
فيقول له: إنّ صحيفة أعمالك نقيّة؛ فلا تأتِ على ذكر اسم المعصية!
التائِبُ مِنَ الذنبِ كَمَن لا ذَنبَ له؛٢
فيصل الأمر إلى مستوى، بحيث يكون على الإنسان الاستحياء من الله، لكنّنا نجده تعالى هو الذي "يستحيي"! ويقول: لا تأتِ على ذكر المعصية أمامي؛ فهذا المقام ليس مقام المعصية! فالله تعالى حليم إلى هذه الدرجة!
وعليه، فهذا هو إلهي، فهو إله بهذا النحو، وصفاته وخصائصه ونعوته هي بهذا الشكل! ورجائي معلّق عليه هو، لا على غيره؛ وجميع أفعالي بيده؛ وهو يقوم بها على أحسن وجه: «فَأَكرَمَني»، ولم يتخلّ عنّي أبدًا، بل رعاني في جميع المصاعب والمشاكل، ولم يوكلني إلى سواه! وحينما عصيته، حلم عنّي، إلى درجةٍ كأنّني لم أعصه بتاتًا!
کـی رفتــه ای ز دل کـه تمنّـا کـنم تــو را | *** | کـي بـوده ای نهفتـه کـه پیـدا کـنم تـو را |
غیبت نکرده ای که شـوم طالـب حضـور | *** | پنهـان نگشـته ای کـه هویـدا کـنم تـو را |
با صد هزار جلـوه بـرون آمـدی کـه مـن | *** | بـا صــد هـزار دیـده تماشـا کـنم تــو را |
«فَرَبِّي أَحْمَدُ شَيءٍ عِنْدِي وَأَحَقُّ بِحَمْدِي»؛ وبالتالي، فإنّ هذا الإله عزيز عندي كثيرًا، وأرى أنّه أحقّ بالحمد من أيّ موجود آخر! فلا يحقّ للموجودات الأخرى أن أحمدها؛ إذ لا وجود لها، ولا قدرة لها على فعل أيّ شيء أو تقديم أيّة خدمة؛ وحتّى إذا أسدت إليّ خدمة واحدة، فإنّها تجعل في مقابلها ألف مِنّة، بحيث إنّ كافّة هذه المنن تُبطل تلك الخدمات.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ﴾؛۱
فإذا تصدّقتم، أو مددتم يد العون، أو قدّمتم إحسانًا ـ مع أنّ دائرة الصدقة واسعة جدًّا، بحيث إذا أماط أحدٌ الأذى والأوساخ عن طريق المسلمين مثلاً، سيكون ذلك في حكم الصدقة ـ ، فلا تُبطلوا عملكم هذا بالمنّ والأذى؛ إذ حينما تُتبعون صدقتكم بالمنّة، فإنّها تمحقها؛ وكذلك عندما تلجؤون للأذى أو التجريح باللسان، فإنّ ذلك يُبيد الصدقة! في حين أنّ إلهي ليس بهذا النحو.
فكلّما نظرتُ إليه، وجدته ربّي؛ أي أنّه يقوم بتربيتي، وتربية وجودي بعدّة أنحاء وأنواع من التربية من أجل السير في مدارك الكمال ومعارجه.
وبالتالي، فإنّ هذا الإله يستحقّ كثيرًا أن أحمده، ولا أحمد غيره؛ فإذا كنت أملكُ هكذا إلهٍ عالم بالسرّ والخفيّات، وملِك الملوك، وسلطان السلاطين، وهو يحرسني ليلاً ونهارًا، وحبلي بيده، وأنا على مرأى ومسمع منه، وهو متكفّل بكافّة شؤوني، فلماذا لا أحمده، وأتوجّه إلى حمد سواه؟! ولماذا أعظّم غيره وأخضع له؟! ولماذا أمدح سواه وأثني عليه؛ في حين أنّه عبد ضعيف مثلي أنا؟!
بمُحَمّدٍ وآلِهِ الطاهرينَ وَصَلِّ على مُحَمّدٍ وآلِهِ أَجمَعينَ