المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء أبي حمزة
التاريخ 1398/09/15
التوضيح
هو العليم
محبّة الله تعالى والأمل به طريقٌ لنجاة الإنسان
شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثالثة عشرة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وصَلَّى اللَهُ على محمّدٍ وآلِهِ الطّاهِرينَ
ولَعنةُ اللَهِ على أعدائِهِم أجمَعينَ
الحبل الذي يصل المعشوق بالعاشق هو الذي يملي عليه تصرّفاته
«أَنَا يَا رَبِّ الَّذِي لَمْ أَسْتَحْيِكَ فِي الْخَلَاءِ ولَمْ أُرَاقِبْكَ فِي الْمَلَإِ، أَنَا صَاحِبُ الدَّوَاهِي الْعُظْمَى، أَنَا الَّذِي عَلَى سَيِّدِهِ اجْتَرَى، أَنَا الَّذِي عَصَيْتُ جَبَّارَ السَّمَاءِ، أَنَا الَّذِي أَعْطَيْتُ عَلَى مَعَاصِي الجَلِيلِ الرُّشَا، أَنَا الَّذِي حِينَ بُشِّرْتُ بِهَا خَرَجْتُ إِلَيْهَا أَسْعَى، أَنَا الَّذِي أَمْهَلْتَنِي فَمَا ارْعَوَيْتُ، وسَتَرْتَ عَلَيَّ فَمَا اسْتَحْيَيْتُ، وعَمِلْتُ بِالْمَعَاصِي فَتَعَدَّيْتُ، وأَسْقَطْتَنِي مِنْ عَيْنِكَ فَمَا بَالَيْتُ».
أنا الذي لم أستحيي ولم أخجل منك في حال الخلوة والوحدة، ولم أراعِ حقّك في حال الجلوة والظاهر.
حينما يكون العبد ماشيًا على صراط الله، ويكون هدفه الأعظم تحصيل الرضا الإلهيّ، ولا يرغب بتاتًا في أن يغضب تعالى منه ـ سواءً في الملاء أو الخلاء ـ ، فإنّه يسعى للقيام بما يرضي الله، والاحتراز عمّا لا يُرضيه؛ اعتمادًا على ذلك الحبل وتلك الأرضيّة اللذين يملكهما، واللذان يُمكّنانه من التعرّف بباطنه على مواطن الرضا والغضب الإلهيّين، حيث بوسع الإنسان ـ إذا خُلّي بينه وبين باطنه ـ إدراك هذا المعنى؛ وهذا بالضبط نظير العاشق الذي يشغل المعشوقُ كلَّ تفكيره، ويكون باله وتفكيره وباطنه منصبًّا ـ في السرّ والعلانية وبكلّ دقّة ـ على الفعل الذي يُحبّه معشوقه ليقوم به، والفعل الذي يُبغضه ليجتنبه؛ وهذا أمر ملازم للمحبّة؛ فكأنّ هذا العاشق يطوف يفكره حول حرم وجود المعشوق، ويحرص تمامًا لكي يكون حالُه خاضعًا لإشرافه ورعايته، بحيث لا يصدر منه أيّ فعل مخالف لرضاه، ولا يقوم بأيّ عمل يشعر أنّه سيُفضي إلى مضايقته، بل حتّى إن كان هذا العمل لن يُؤدّي إلى مضايقته، بل إلى تكدّر يسير جدًّا لخاطره تجاهه، فإنّه لا يقوم به. والأكثر من ذلك، إذا كان الأمر الذي يُحبّه المعشوقُ سيتحقّق على يد شخص آخر، فإنّنا نجد أنّ العاشق يسعى لتسهيله؛ وإن كان ما يكرهه المعشوق سيحصل بواسطة شخص آخر، فإنّنا نرى أنّ العاشق يعمل على تهيئة المقدّمات اللازمة لعدم تحقّقه؛ لكيلا يتأذّى معشوقه في الأخير؛ فهذا ما تقتضيه المحبّة، بحيث إنّ كلّ من يحبّ شيئًا، فإنّ ذلك يكون من آثار محبّته ولوازمها.
وعلى سبيل المثال، فإنّ فكر الأمّ التي تتعلّق بولدها وتُحبّه يدور دائمًا حول هذا الولد؛ سواءً كان معها أو لا، وسواءً كان مسافرًا أو موجودًا إلى جانبها، وسواءً كان نائمًا أو مستيقظًا، وسواءً كان مريضًا أو سليمًا، وسواءً كان موجودًا أمام عينيها أم لا؛ فنجد أنّ فِكرَها يحوم دائمًا هناك، وذهنَها يتتبّع ولدها باستمرار؛ وهذا الذي يُقال له: المراقبة! بحيث إنّ هذه الأمّ تعلم جيّدًا ـ بواسطة اتّصالها وارتباطها بابنها ـ ما هي الأشياء التي تُفرحه أو تُسيئه؛ فلا تحتاج الأمّ إلى من يُعلّمها، ويقول لها: قومي بالعمل الفلانيّ، لأنّ ولدك يُحبّه؛ ولا تقومي بالعمل الكذائيّ، لأنّ ولدك يكرهه! بل إنّها تعلم بكلّ ذلك من تلقاء نفسها، وتُدرك هذا المعنى بوجدانها وباطنها، وبنفس تحقّق هويّتها وشخصيّتها؛ فباعتبار أنّ للولد ارتباطًا واتّصالاً بأمّه، فإنّ حاله حال الغصن المتفرّع عن الشجرة؛ ولذلك، فإنّ الأمّ تكون مطّلعة تمامًا على خصائص هذا الولد وبواطنه.
ولا يخفى أنّ كلّ هذا الحبّ الذي يُكنّه الأب والأمّ والعاشق و... للمعشوق والمحبوب ما هو إلاّ شعاعٌ سَطَعَ من المحبّة الإلهيّة على هؤلاء؛ ولهذا، فإنّ أصل المحبّة يختصّ به تعالى؛ فإذا كان العبد يمشي في صراط المحبّة، وتوجّب عليه عدم تخطّي الأدب، ومراعاة مقتضيات هذه المحبّة ـ أي عدم تكدير خاطر المعشوق ـ لكي يقترب عن طريق هذه المحبّة من حرمه، فإنّ ذلك يستدعي من ذلك المحبّ الامتثالَ لمجموعة من الآداب والتكاليف، وإخضاعَ أعماله لمنهج معيّن اعتمادًا على هذه الآداب والتكاليف، بحيث لن تكون هناك أيّة حاجة إلى أن يُقال له: «افعل كذا، ولا تفعل كذا»، بل إنّه يكون عالمـًا ـ طبقًا للمنهج الذي يُحدّده بنفسه ويقيسه بباطنه ـ بما يُحبّه معشوقه فيقوم به؛ وبما لا يُحبّه فيُبعِده عنه.
دور زيادة المحبّة ونقصانها في مقدار اتّصال الإنسان بالله وقربه منه
وعلى نفس هذا المنوال، يمشي العبد في صراط الله تعالى، ساعيًا إلى التقرّب إليه أكثر عن طريق زيادة المحبّة، حيث يتعيّن بالضرورة مضاعفة هذه المحبّة؛ لأنّ مصدرها هو الباري عزّ وجلّ الذي ألقى بشعاع منها على كلّ الموجودات، فصار بعضها محبًّا وحبيبًا ومحبوبًا للآخر؛ فكلّما ازدادت المحبّة، ازداد القرب للمحبوب؛ وكلّما ازداد القرب، ساهم ذلك في إيجاد محبّة أكثر، بحيث يكون هناك تأييد وإمداد وتقوية بين كلّ درجة من درجات القُرب والمحبّة، إلى أن يصل المحبّ إلى حرم المحبوب؛ وحينئذ، فإنّ الذي يكون سائرًا في طريق الحبّ لن ينحرف عن هذا الطريق أبدًا؛ ومن هنا، فإنّ من شأن الأمّ التي تُفكرّ دائمًا في أطفالها أن تُفكّر فيهم وهي نائمة، أو مستيقظة، أو مدعوّة إلى مكان، أو تُطالع كتابًا، أو منهمكة في البيت في أداء الأعمال المنزليّة؛ من دون أن يغيب هذا التفكير عن ذهنها أبدًا، بحيث تكون في حديثٍ مع شخص آخر، لكنّ ذلك التفكير يكون حاضرًا في باطنها أكثر من المشاهد التي تُواجهها، والأفراد الذين تتحدّث معهم! فتجدها تتكلّم مع الناس، غير أنّ كلامها هذا أشبه بالكلام السطحيّ؛ في حين، يكون كلامها العميق مكنونًا في باطنها، فتتحدّث مع طفلها، ولو أنّه غائب عنها.
وأمّا إذا انحرف الإنسان عن صراط المحبّة، فإنّ هذه الأبعاد ستتلاشى بأجمعها، لينقطع ذلك الحبل؛ وحينئذ، سيدور أمر الإنسان مدار المسألة التي يُريد أن يعيشها؛ فإذا كان يسعى نحو المال، فإنّ حياته ستتمحور حول هذا المال؛ وإذا كان يهتمّ بالشهوة، فإنّ حياته ستدور حول الشهوة؛ وإذا كان يُريد الرئاسة، فستكون هذه الرئاسة محور حياته؛ وفي هذه الحالة، سيتلاشى ذلك الحبل.
«أَنَا يَا رَبِّ الذي لم أَستحيِكَ في الخَلاءِ وَلَم أُراقبكَ في المـَلاءِ»؛ أي: أنا العبد الذي يسير في طريق المحبّة، ويتعامل معك في السرّ والعلانيّة؛ لأنّ المراد من "في الخلاء": في السرّ؛ فيراك هذا العبدُ حاضرًا وناظرًا، ويكون تعامُله بأجمعه معك؛ وبالتالي، لن تصدر منه أيّة معصية أو ذنب أو خطيئة، ولو في السرّ؛ لأنّه يكون معك، وأنت موجود أينما كان؛ نظير الأمّ التي تنام في بيتٍ لوحدها، ويكون ابنها مسافرًا، حيث تكون هذه المحبّة سببًا لعدم ارتكابها في حالة الخلوة لأيّ فعل مخالف لرضا هذا الابن؛ فرغم أنّ ابنها لا يتواجد معها، غير أنّه يكون حاضرًا في قلبها؛ ولهذا، لا يصدر منها أيّ فعل مخالف لرضاه.
ومن هنا، فإنّ المحبّ لله تعالى لا يعصيه في السرّ، ولا تصدر منه أيّة مخالفة له، ولو كانت تركًا للأولى؛ لأنّ مؤشّر محبّة المحبوب حاضر في ذهنه باستمرار، بحيث ما إن ينوِ القيام بفعل ما، حتّى يتحرّك هذا المؤشّر، ويُحذّره ذلك الرادار، ليحول دون صدور تلك المخالفة منه؛ فهذا ما يخصّ حال السرّ والخلوة.
وأمّا بالنسبة لحال الجلوة والعلانية، وحينما يكون المحبّ بين الناس، ووسط الجماعات والضوضاء والاضطرابات والاجتماعات والقِتالات والمعاملات والمحاكمات، فإنّه لا ينفصل عن هذا الحبل؛ فتراه واقعًا في حيص وبيص۱ هذه المعاملات، لكنّ سرّ تلك المحبّة يبقى مكنونًا في باطنه، بحيث لا يُؤدّي خوضُه في الاجتماعات والحوارات إلى الغفلة عن ذلك المبدأ، والميل نحو هذه الظواهر؛ شأنه في ذلك شأن الأمّ المثكولة بولدها، والتي قد ترتدي لباس الفرح، وتذهب إلى العُرس، وتتفرّج عليه، وتقول لذلك الشخص: مبارك لك! فيُقدّم لها الحلوى، لتأكلها؛ غير أنّها لا تستطيع أبدًا أن تنفصل في باطنها عن ذلك الحبل؛ فصحيح أنّها تقوم بكلّ هذه الأفعال؛ لكن، لا شيء منها يشدّها إليه؛ وحتّى لباس الفرح الذي ارتدته وخرجت، فإنّه موضوع على ظاهر جسدها وحسب، وليس من شأنه إسعادَها، وإفراح قلبها؛ كما أنّها لا تنشدّ إلى ذلك المجلس، ولا يُمكن لجاذبيّته أن تسوقها نحوه. ومن هنا، فإنّ حال الذي يتعامل مع الله تعالى على أساس المحبّة هو بهذا النحو، بحيث يكون حبله الحقيقيّ محفوظ على الدوام، سواءً في الملاء، أو الحروب، أو الحوارات، أو المعاملات، أو الصفقات، أو السوق، أو الفتن والبلابل، بحيث لن تتمكّن هذه الفتن والبلابل من إدخاله في حال الاضطراب، بل ستكون مجرّد أمر صوريّ بالنسبة إليه.
لكن، إذا انقطع ذلك الحبل، فإنّ كلا الأمرين سيفسد؛ بمعنى أنّه: إذا انفصل الإنسان عن حبل المحبّة، فإنّ النقصان سيطرأ على سرّه وعلانيته، وعلى حال الخلاء والملاء، والخلوة والجلوة.
ففي حال الخلاء، لن يكون المحبوب موجودًا مع الإنسان؛ ممّا سيدفعه للعصيان؛ لأنّ عدم ارتكابه للمعاصي في الملاء والعلانية لم يكن بسبب المحبوب، بل بسبب أمر آخر؛ أي: لكيلا يقول الناس عنه إنّه من أهل المعصية والرشوة والقمار؛ لكن، حينما يكون في حال السرّ، فلن يكون الناس معه ليُؤاخذوه، وتُمسّ سمعتُه الظاهريّة، وتكون منزلته في خطر؛ ولهذا، نجده في الخلوة والسرّ يُقدم على المعاصي.
وأمّا في حال الملاء، فإنّ ما يفعله هو إرضاء الناس، من دون النظر بتاتًا إلى ذلك الخيط والحبل الكامن في باطنه، إلى درجة أنّه يندفع إلى كلّ ما يدعوه الناس إليه، سواءً كان فيه عصيانًا لله تعالى أم لا؛ إذ لن يعود المدار في أعماله هو الله تعالى و[عدم] معصيته، بل سيكون هذا المدار هو الأصدقاء ورغبات الناس وإرادتهم؛ وذلك لأنّ حياته صارت معتمدة على آراء هؤلاء الناس وأفكارهم؛ وبالتالي، فإنّ كلّ ما يرتضيه الناس سيفعله! وحتّى إذا احترز في الملاء والعلانية عن فعل الذنوب، فلأنّ الناس لا يُحبّون ذلك؛ وإلاّ، لارتكبها أيضًا.
اختلاف مراتب الذنوب بحسب اختلاف مراتب الناس
ومن هنا، نُلاحظ أنّ المعاصي تختلف باختلاف الأزمنة والأعصار؛ فعلى سبيل المثال، لم يكن الناس يحلقون أذقانهم في فترة من الفترات؛ لأنّ حلق اللحية كان قبيحًا عندهم؛ ولهذا، كانوا يرتكبون جميع الذنوب، ولا يجرؤون على القيام بذلك الفعل بسبب قبحه العرفيّ؛ لكن، حينما ارتفع هذا القبح العرفيّ، ارتفع معه [ذلك المانع]؛ لأنّ الله تعالى لم يكن موجودًا بينهم؛ وفي هذه الحالة، نجدهم يُلاحظون ما هي الأشياء القبيحة [وغير القبيحة] عند الناس؛ فإن كانت قبيحة، لا يقومون بها، وإن كانت غير قبيحة، فإنّهم يقومون بها؛ وحتّى إذا ارتفع القُبح مجدّدًا عن الأشياء القبيحة، فإنّهم يقومون بها؛ ولهذا، فإنّ أفعال الناس تدور مدار رغبات العموم وآرائهم؛ والتي يُعبَّر عنها في القرآن المجيد بالأهواء؛۱ أي الميول الفارغة للناس؛ وهذا الأمر مخالف لأساس الحقّ.
وحينئذ، كلّ من أراد المضيّ قُدُمًا في طريق محبّة الله تعالى، وسعى لكي يكون إيمانه أصيلاً، لا بدّ أن يُراقب الله تعالى في الخلاء والملاء؛ ولا يعتني أبدًا بالناس؛ ومن هنا، إذا أمر اللهُ تعالى الإنسانَ بشيء مخالف لما يرتضيه الناس، فليعترض العالم بأجمعه على هذا الإنسان، أو لا يعترض؛ فأيّة قيمة واعتبار لذلك؟! وبالتالي، على الإنسان مراعاة هذه المسألة باستمرار.
وهذا هو الأمر الذي يلوم الإمام عليه السلام نفسه عليه، ويشكوه إلى الباري عزّ وجلّ بقوله: «أَنَا يَا رَبِّ الَّذِي لَمْ أَسْتَحْيِكَ فِي الْخَلَاءِ ولَمْ أُرَاقِبْكَ فِي الْمَلَإِ».
«أَنَا صَاحِبُ الدَّوَاهِي الْعُظْمَى»؛ وبالتالي، فإنّني هو صاحب المصائب العظيمة جدًّا؛ إذ هل توجد مصيبة أعظم من أن لا يُراعي الإنسان حقَّ المحبوب في السرّ والعلانية؟! هذا، مع أنّ المسألة ترتبط هنا بأمور دقيقة؛ فلا ينبغي على الإنسان الاعتقاد بأنّ المراد هنا من المراعاة هو عدم ارتكاب الزنا في الخلوة أو الجلوة، أو عدم اقتراف الغيبة في السرّ والعلن؛ لأنّ الأمر في طريق المحبّة يتخطّى هذا الكلام، حيث تصير المسألة دقيقة، إلى درجة أنّه إذا خطر شيء على قلب الإنسان ـ كأن ترفّ ذبابة بجناحها وترحل ـ ، فإنّه سيكون قد تخلّف عن مقتضيات الحياء والمراقبة وسقط في العصيان؛ بل إنّ هذه المسألة تصير دقيقة إلى حدٍّ يُحيّر الإنسان ويُفقده عقله؛ إذ تختلف الدقّة باختلاف الموضوعات؛ مثلما أنّ المعاصي تختلف فيما بينها أيضًا؛ فنجد أنّ بعض المعاصي عادية يرتكبها عامّة الناس، معتقدين أنّ المعصية تقتصر على شرب الخمر والزنا والقمار وأمثال ذلك؛ والأدقّ من ذلك هي المعاصي التي تكون صغيرة، لكنّها في حكم الكبائر بالنسبة لبعض الأفراد الذين لم يقترفوا ولو معصية صغيرة واحدة في حياتهم. وهناك بعض الناس الذين لا يرتكبون الصغائر؛ وعلاوةً على ذلك، فإنّهم لا يفعلون حتّى المكروه؛ والأدقّ من هؤلاء هم الذين لا يرتكبون الأفعال التي تكون مكروهة ولو في الجملة. والبعض الآخر من الناس لا يُؤدّون حتّى الأفعال المباحة؛ بمعنى أنّ كافّة المباحات تكون ـ بمقتضى نية التقرّب ـ مستحبّة بالنسبة إليهم. وهناك أفرادٌ لا يقتصرون على الأفعال الخارجيّة، بل يعملون على تصفية أذهانهم، وتجنيبها المعاصي، إلى درجة أنّه إذا حلّت بقلوبهم خاطرة، فإنّ ذلك سيُعدّ بالنسبة إليهم في هذا الصراط الدقيق معصيةً.۱
فهناك، يصير الميزان في منتهى الدقّة، بحيث إذا مرّت خاطرة على ذهن الإنسان، فإنّه سيُعدّ في ذلك الوادي مجرمًا؛ وذلك لأنّ هذا الوادي هو وادي المحبّة؛ وفي ذلك الحين، سيضجّ بالأنين: «لقد صدر منّي هكذا فعل!». ففي الخارج، توجد لدينا بعض الموازين التي لا تصل دقّتها إلى أقلّ من كيلوغرامين، أو ثلاثة أو أربعة كيلوغرامات، بحيث إذا وُضعت أربعة كيلوغرامات في إحدى كفّتيها، فإنّ الكفّة الأخرى لا تتحرّك؛ وهذا هو حال بعض الموازين القديمة. وتوجد بعض الموازين تكون دقّتها أكبر؛ إذ يُمكنها وزن الأحمال الثقيلة، لكنّ دقّتها لا تصل إلى أقلّ من مائة غرام؛ وهناك موازين أخرى لا تبلغ دقّتها أقلّ من غرام واحد، وموازين تنتهي دقّتها عند جزء من مائة غرام. أ فهل تبلغ دقّة الموازين العادية التي تُستعمل في المتاجر جزءً من مائة غرام؟! وحينما تضعون جزءً من مائة غرام في كفّتها، هل تُظهرها؟! لا يُمكنها فعل ذلك بتاتًا! لكن، توجد بعض الموازين التي تبلغ درجة عالية من الدقّة، بحيث إذا وضعتَ ورقة في كلّ واحدة من كفّتيها، فإنّها تُشير تمامًا إلى استواء هاتين الورقتين في الوزن؛ وحتّى إذا رسمت خطًّا بالقلم على إحدى الورقتين، فإنّها تُظهر ثِقل أثر الحبر على الورقة! فما مدى الدقّة التي تتّصف بها هذه الموازين لكي تتمكّن من إظهار ذلك؟! فلدينا موازين بهذا النحو!
إنّ أعمال الذين يدّعون المحبّة لا تُقاس بالميزان الذي تبلغ سعته خمسين طنًّا، بحيث إذا أنقص أو زاد خمسين منًّا، فإنّ ذلك لن يكون مؤثّرًا بالنسبة لخمسين طنّ؛ ففي تلك المرتبة، وذلك المقام الأخير، يُؤتى بتلك الموازين [البالغة الدقّة]؛ فإذا وُجد خطُّ حبرٍ على هذه الورقة، سيُسأل الإنسان: يوجد خطّ هنا، فما هي حقيقته؟!
«أَنَا صَاحِبُ الدَّوَاهِي الْعُظْمَى»؛
«أَنَا الَّذِي عَلَى سَيِّدِهِ اجْتَرَى»؛
«أَنَا الَّذِي عَصَيْتُ جَبَّارَ السَّمَاءِ»؛ أي أنّني الذي تمرّدتُ على الإله القهّار الذي تستند أفعاله إلى العزّة والاستقلال، ويكون أمره ونهيه حقيقيّين، وتكون أعماله حازمة، وغير مكتنفة بالهزل والمزاح؛ ولذلك، فإنّ هذه مصيبة عُظمى!
«أَنَا الَّذِي أَعْطَيْتُ عَلَى مَعَاصِي الجَلِيلِ الرُّشَا»؛ رُشوة ورِشوة ورَشوة؛ وهي كلمة مثلّثةُ الراءِ جمعُها: رُشا ورِشا؛ أي المال الذي يُعطيه الإنسان ليُبطل حقًّا، أو يُحقّ باطلاً، فيعمل بهذه الطريقة على تغيير الواقع. فأنا الذي أعطيتُ على معاصي الإله الجليل الرشوة، وأجريت مجموعة من التغييرات، وأظهرت الحقّ بصورة الباطل، والباطل بصورة الحقّ، حيث سوّلت لي نفسي، وأظهرت بعض الأشياء الواقعيّة بصورة أخرى؛ فهذه هي الرشوة التي يُقدّمها الإنسان بواسطة نفسه، فيسقط بالتالي في عصيان الإله الجليل.
«أَنَا الَّذِي حِينَ بُشِّرْتُ بِهَا خَرَجْتُ إِلَيْهَا أَسْعَى»؛ «فأنا الذي حين بُشّرت بتلك المعصية، (وأُخبرت بأنّ توجد في المكان الفلانيّ معصية أو خطيئة أو جلسة مسامرة أو حديث)، فإنّني توجّهت إلى هذه المعصية من دون تأمّل أو دراية أو رعاية».
إمهال الله تعالى وستره لعبده في مقابل عصيانه له
«أَنَا الَّذِي أَمْهَلْتَنِي فَمَا ارْعَوَيْتُ»؛ أنا يا إلهي الذي أمهلتني، واستمررتَ في إمهالي، من دون أن أتراجع وأعود إلى نفسي أبدًا. ولدينا آية قرآنيّة شريفة جاء فيها أنّه حينما يقف الناس يوم القيامة في محضر الله، فإنّه تعالى يُخاطبهم بقوله: ﴿أَوَ لَم نُعَمِّركُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ﴾؛۱ هذا، مع أنّ الخطاب يكون موجّهًا هنا لأفراد بلغوا الثامنة عشرة من العمر، وارتحلوا عن هذه الدنيا بعد ذلك؛ ممّا يعني أنّ الذين تخطّوا سنّ البلوغ ببضع سنوات قد جرى إمهالهم كثيرًا لكي يتذكّروا؛ وحينئذ، فالله وحده العالم بحال الذين تجاوزوا هذا العمر!
«وسَتَرْتَ عَلَيَّ فَمَا اسْتَحْيَيْتُ»؛ فقد سترت عليّ سيّئاتي وذنوبي، لكنّني لم أخجل، بل ارتكبت هذه الذنوب مرّة أخرى، فأنت سترت، وأنا أزحتُ هذا الستار ثانيةً؛ ثمّ سترت مرّة أخرى، فرفعتُ هذا الستار مجدّدًا.
«وعَمِلْتُ بِالْمَعَاصِي فَتَعَدَّيْتُ»؛ وتجاوزتُ الحدّ، بحيث لم يكن لعملي بهذه المعاصي أيّ منتهى. فلم يكن لنفسي [الأمّارة] ـ مع كلّ المسائل التي غذّتها هذه النفس في ذهني، والأوهام والمخطّطات الباطلة التي أظهرتها لي في صورة الحقّ ـ أيّ حدّ لكي أقف عنده؛ ولهذا، لجأتُ إلى التعدّي بقدر ما استطعت.
«وأَسْقَطْتَنِي مِنْ عَيْنِكَ فَمَا بَالَيْتُ»؛ فقد أسقطتَني من عين رحمتك بسبب هذه المعاصي، حيث شعرتُ بظهور حالٍ من الكدورة والظلمة في نفسي؛ وهذا بُعدٌ عن رحمتك؛ فكان عليّ أن ألتفت لذلك، وأتراجع بسرعة. فقد كانت هذه الكدورة التي انتابتني آيةً وعلامةً على أنّك أبعدتَني عن نظر رحمتك، وكان لزامًا عليّ أن أتدارك هذا الأمر؛ لكنّني لم أفعل، وسمحت ببقاء تلك الكدورة؛ ثمّ ارتكبت معصية مجدّدًا، فازدادت الكدورة! وكان ذلك آية [على بُعدي]، فتوجّب عليّ أن أتراجع، غير أنّني لم أفعل، ومضيتُ قُدُمًا بهذا النحو؛ من دون أن أهتمّ بتاتًا بأنّني سقطتُ من عينك، وبأنّك لم تعُد تولي أيّ اهتمام لي.
«فَبِحِلْمِكَ أَمْهَلْتَنِي، وَبِسِتْرِكَ سَتَرْتَنِي؛ حَتَّى كَأَنَّكَ أَغْفَلْتَنِي، وَمِنْ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي جَنَّبْتَنِي؛ حَتَّى كَأَنَّكَ اسْتَحْيَيْتَنِي».
إلهي، لقد ارتكبتُ هذه المعاصي، وواصلتُ ارتكابها، وتجاوز الحدّ في ذلك، من دون أيّة مراعاة؛ فلم أُعظّم حقّك، ولم أخجل من الإله الذي يجب عليّ الاستحياء منه، وهتكتُ مرّة أخرى الستر الذي ألقيتَه عليّ، وأزحتُه؛ وبلغتُ حدًّا صار فيه حلمُك وصبرُك عليّ كثيرًا، إلى درجة أنّ المهلة التي منحتني إيّاها طالت، فأدمتَ وضعَ ذلك الستار على ذنوبي، بحيث كلّما أزحتُه، وضعتَه عليّ مرّة أخرى؛ نظير الطفل الصغير الذي ينام بالليل، فتضع أمّه عليه غطاءً، فيُزيحه؛ ثمّ تضعه عليه ثانيةً، فيُزيحه مرّة أخرى؛ ثمّ تضعه عليه مجدّدًا؛ وهكذا، إلى أن يُسرق النوم من عينيها بسبب خشيتها من أن يُزاح الغطاء عن ولدها، فيُصاب بنزلة برد؛ فيظلّ الطفل يضرب اللحاف برجليه، ويُنحّيه باستمرار، وتظلّ الأمّ تضعه عليه بصورة دائمة.
«حَتَّى كَأَنَّكَ أَغْفَلْتَنِي»؛ لقد أمهلتني كثيرًا، وأظهرتَ الكثير من الحلم والتسامح تجاهي، إلى درجة أنّني قلتُ: هذا الإله غير ملتفت إليّ؛ وإلاّ، لوبّخني؛ فما أطول المهلة التي منحني إيّاها! بل أراه قد تجاوز عنّي، وغفل عنّي؛ وإلاّ، لرجّني قليلاً بسبب هذه الذنوب، ولعاقبني ولو يسيرًا، ولحذّرني، وأبرز اهتمامه بي! فحلمُك عظيم إلى هذه الدرجة، والمهلة التي منحتني إيّاها اعتمادًا على هذا الحلم طويلة إلى هذا الحدّ!
«وَمِن عُقوباتِ المـَعاصي جَنَّبتَني»؛ فأبعدت عنّا العذابات والعقوبات التي كان مقرّرًا أن تنالنا جرّاء عصيانك؛ فعصيناك، لكنّك لم تُعاقبنا.
«حَتَّى كَأَنَّكَ استَحيَيتَني»؛ فنحن الذين يجب علينا الخجل منك؛ لكن، كأنّك أنت الذي خجلت منّا؛ فنحن نعصيك باستمرار؛ فيتعيّن أن تُعاقبنا؛ غير أنّك تستحيي، ولا تفعل ذلك؛ ثمّ نعصيك ثانيةً، ويكون من شأنك مؤاخذتنا، إلاّ أنّك تستحيي، ولا تلجأ إلى هذا الفعل؛ وهذا عجيب جدًّا! ثمّ نعصيك مجدّدًا، ويلزمك مرّة أخرى عقابُنا، لكنّك لا تفعل، وتستحيي من العقاب؛ فصارت المسألة بالعكس!
وقد بلغ الأمرُ حدًّا صار معه حلمُك واسعًا جدًّا، بحيث أدّت عظمتُك إلى العفوِ عن المعاصي التي ارتكبناها وكنّا نستحقّ عليها العقاب، وإلى تركِنا أحرارًا وطلقاء؛ فأنت إله واسع المغفرة وواسع الكرم إلى هذه الدرجة!
عدم جواز الاستهانة بالله تعالى وعقابه
«إِلَهِي، لَمْ أَعْصِكَ حِينَ عَصَيْتُكَ وأَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جَاحِدٌ، ولَا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌّ، ولَا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ، ولَا لِوَعِيدِكَ مُتَهَاوِنٌ؛ ولَكِنْ۱ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ، وسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي، وغَلَبَنِي هَوَايَ، وأَعَانَنِي٢ عَلَيْهَا شِقْوَتِي، وغَرَّنِي سِتْرُكَ الْمُرْخَى عَلَيَّ».
إلهي، رغم كلّ ما فعلته معي حينما استحييتَ، وأحجمتَ عن عقابي، إلاّ أنّني عصيتك مجدّدًا؛ ومع أنّك سترتَني، ولم تفضحني بين الخلائق، غير أنّني تجاسرتُ عليك ثانيةً؛ وعلى الرغم من أنّك تغافلتَ عنّي، لكنّني أذنبتُ مرّة أخرى؛ فقلتَ: إنّني لم أرَك بتاتًا؛ فبلغ الأمرُ إلى درجة «كَأَنَّكَ أَغْفَلْتَنِي»؛ غير أنّ هذه المعاصي التي ارتكبتُها ـ يا إلهي ـ لم تكن عن تجرٍّ وإنكار وعداوة ومبارزة لك! وإنّه لعجيب جدًّا أن يسعى الإنسان للإنكار في مقابل ربّه؛ ثمّ يلجأ ـ بعد اطّلاعه على حقيقة الأمر ـ إلى معارضة مولاه، ومعاداته، ومبارزته؛ قائلاً: إلهي، لقد فعلتَ كذا؛ فسأفعل في مقابلك كذا!. كلاّ! فالمسألة ليست بهذا النحو؛ لأنّ المعاصي التي صدرت منّي إنّما صدرت عن غفلة؛ فلأنّني وجدتُك إلهًا رحيمًا وكريمًا، ولا تُعجّل العقوبة، وتُمهلني مهما عصيتُك، فقد ساهم ذلك في مواصلتي لارتكاب المعاصي عن غفلة، لا عن تجرٍّ أو جحود؛ أي: ليس عن إنكار لذاتك المقدّسة، ومضاهاتك، ومبارزة أسمائك وصفاتك.
«إِلَهِي، لَمْ أَعْصِكَ حِينَ عَصَيْتُكَ وأَنَا بِرُبُوبِيَّتِكَ جَاحِدٌ»؛ فلم أعصك بسبب أنّني كنت جاحدًا لربوبيّتك؛ ثمّ قلتُ بعد ذلك: لا يوجد لدينا أيّ ربّ أو إله، فلأرتكب ما يحلو لي من معاصي!؛ كلاّ، فالمسألة لم تكن بهذا النحو!
«ولَا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌّ»؛ ولا أنّك أمرتني بألاّ أعصيك، فاستهنتُ بأمرك، وعصيتُك؛ كلاّ، فأنا لم أستخفّ بأمرك؛ لأنّني أعرفك.
«ولَا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ»؛ فأنا لم أجعل نفسي في معرض عقابك، بحيث كنتُ أعلم أنّك إله تُعاقب، ومع ذلك قلتُ: فليكن! سأرتكب المعصية، وأضع نفسي في معرض العقاب، لأرى ما هو نوع العقاب الذي سيُعاقبني به الله؛ [كلاّ] فأنا أعلم بأنّني لا أقدر على تحمّل عقوبتك؛ وبالتالي، فإنّني لم أُرد أن أتعرّض ـ بواسطة المعاصي ـ لعقابك؛ لأنّني مطّلع على عدم استطاعتي تحمّل هذا العقاب؛ إذ أنّى لي الاصطبار عليه! ومن هنا، فإنّ ارتكابي للمعصية لم يكن بسبب ذلك الأمر.
«ولَا لِوَعِيدِكَ مُتَهَاوِنٌ»؛ فحينما هدّدتَني، وقلتَ: سأدخلك جهنّم، وأخلّدك فيها، وأفعل كذا وكذا، فإنّني لم أكن مستهينًا بهذه التهديدات والترهيبات، ولم أقل: حسنًا، لقد ذكر الله تعالى كلامًا؛ لكن، أنّى لنا القطعُ بصحّته؟! أ فهل ذهب أحد إلى هناك ورجع [ليخبرنا بصحّته]؟! ؛ فارتكابي للمعاصي لا يرجع إلى أنّني استهنتُ بالتهديدات التي يُطلقها الله تعالى؛ كلاّ، لم يكن بسبب ذلك!
السبب الأساس لارتكاب الذنوب
إذن، ما هو السبب في اقترافنا للذنوب؟ «لَكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ، وسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي»؛ وزيّنتها لي، والتفّت حولها، وطفقت تُنمّقها وتزخرفها في عينيّ؛ هذا، مع أنّ المراد من الخطيئة في كلام الإمام هو الخطأ؛ أي: عرض لي خطأ، فجاءت نفسي، وسوّلته لي؛ فالنفس الأمّارة يقظة باستمرار، بحيث ما إن تعرض خطيئة على الإنسان، حتّى تأتي عنده بسرعة، وتقول له: «قم بهذا العمل، فهو بالنحو الكذائيّ، ويمتلك الخصائص الكذائيّة، و...»؛ فهذا الذي يُقال له التسويل، حيث جاءت نفسي، وأعانتني [على الخطيئة].
«وغَلَبَنِي هَوَايَ»؛ فتغلّب عليّ هوى نفسي الأمّارة.
«وأَعَانَنِي عَلَيْهَا شِقْوَتِي» [الذاتيّة]؛ إذ لو كانت ذاتي نقيّة وطيّبة وطاهرة، لما دعتني أبدًا إلى المعصية؛ لكنّني قلت: «إنّ الذات الإلهيّة المقدّسة هي التي تكون طاهرة؛ في حين أنّ كافّة الموجودات مكتنفة في ذواتها بالظلمة والشقاء، حيث يُلازمها هذا الشقاء بمقتضى إمكانها والهويّة التي تتوفّر عليها»؛ فجاءت حينئذ هذه المسألة، وأعانتني.
«وغَرَّنِي سِتْرُكَ الْمُرْخَى عَلَيَّ»؛ وعلاوةً على ذلك، فقد خدعني وأغواني الستار الذي كنت تضعه دائمًا على ذنوبي، ولا ترفعه أبدًا، بحيث أُفضح، ولا أعود أرتكب أيّة معصية؛ فالله تعالى لا يرفع بتاتًا هذا الستار الذي يضعه؛ أ فعل رأيتم لحد الآن شخصًا جيء به، وقد مزّق الله العليُّ الأعلى ستار ذنوبه، وأظهر بواطنه؟! ففي نهاية المطاف، تختبئ في أذهاننا أسرارٌ وأنواعٌ من جهنمّ لا يعلم بها إلاّ الله تعالى؛ إذ يوجد في ذهن كلّ واحد منّا مجموعة من الآمال والخيالات والأسرار، ويوجد فيه ميلٌ للمعصية، والمال، والخطيئة، والخيانة،؛ فنلاحظ وجود اختلاف بين الأفكار التي يتوفّر عليها أفراد الإنسان؛ وفي هذه الحالة، إذا تقرّر أن يُظهر الله العليّ الأعلى هذه الأفكار، فما الذي سيحصل؟! لكنّه تعالى يُخفيها، من دون أن يعلم أيّ أحد بما يجول في خاطر الآخر! كان المرحوم الشيخ الأنصاريّ رحمة الله تعالى عليه يقول: «تجد اثنين جالسين إلى جانب بعض؛ أحدهما في العرش، والآخر في الطابق السبعين تحت الأرض!»؛ فلا يعلم أحدهما بما يجري على الآخر، بحيث يكون هو في العرش، ويكون الجالس إلى جانبه في الطابق السبعين تحت الأرض؛ فيلتقي أحدهما بالآخر، ويتحدّثان مع بعض، من دون أن يعلم أحدهما بحال الثاني؛ فالمسألة بهذا النحو، وهي راجعة إلى ستر الله تعالى. والمراد بالباطن النفس وغرائزها وملكاتها وأخلاقها، حيث تكون هذه الأمور النفسيّة والأخلاقيّة ـ التي تتولّد منها الإرادة والاختيار ـ معلولة لكيفيّة إفاضة النفس؛ وهذا هو الذي يضع الله تعالى عليه ستارًا، حتّى لا يطّلع عليه أيّ أحد.
لقد وهب الله تعالى للإنسان عينين لكي يرى الخارج، ومنحه أذنين لكي يسمع الكلام، وأعطاه هذه الحواسّ الظاهرة بأجمعها؛ لكنّه لم يُمدّه بحاسّة يُدرك بها هذه الخيالات والأماني والجرائم والمخطّطات والخُدع؛ وهي نيران مـُستَعِرة عجيبة جدًّا، بحيث مهما أُلقي فيها، فإنّها تقول: هل من مزيد؟! وذلك يرجع كلّه إلى ظهورات النفس؛ وقد وضع عليه الله العليّ الأعلى ستارًا عجيبًا جدًّا، من دون أن يرفعه، ويقول: «أيّها الناس، أيّها الخلائق، تعالوا، لكي تروا ما الذي يدور في خُلد فلان!». هل سبق لكم أن شاهدتم في هذا الزمان أو في الأزمنة الفارطة أحد الأنبياء أو الأئمّة أو حتّى الله تعالى يقوم بهذا الفعل؟! لم نُشاهد بتاتًا ذلك!
اليأس أكبر معصية
فهذا هو حِلم الله تعالى الذي يُمهل الإنسان إلى أن يصل إلى عالَم الفعليّة المحضة، حيث ينعدم الاستعداد هناك؛ في حين أنّ هذا العالَم هو عالم الاستعداد وإمكانيّة العودة؛ كما أنّه تعالى يُحبّ جميع عباده؛ ولعلّ هؤلاء الأفراد الذين يتوفّرون على أذهان ونفوس ملوّثة يتراجعون؛ إذ ما دام الإنسان فيه رمق، فإنّه أمره لم يُحسم بعدُ. فلا يُمكن للسعيد الاغترار بسعادته، ولا للشقيّ اليأس من رحمة الله تعالى.. هذا اليأس الذي يُعّد أكبر معصية!۱ حيث لا يستطيع نفس هذا الشقيّ أن ييأس من الرحمة الإلهيّة؛ فإذا جاء شخص اتّصف بأعلى مرتبة من الشقاء، وسأل: «هل صرتُ يائسًا من رحمة الله؟!»، فإنّ رسول الله سيُجيبه: «هذه معصية؛ ويأسُك هذا ذنب، فدعه جانبًا، وعُد إلى الله تعالى، وسيتحوّل شقاؤك إلى سعادة».
ومن هنا، ما دامت سكرات الموت لم تحلّ بالإنسان، فإنّ مصيره لا يكون معلومًا، ولا يتبيّن هل هو من السعداء أم الأشقياء؛ لكن، حينما تأتيه هذه السكرات، فإنّ المسألة تصير ذات طرف واحد. فوجود الإنسان في هذه الدنيا شأنه شأن الشمع الذي تُمسكه بيدك؛ فتارةً تجعله على شكل أسد، وتارةً على شكل فهد، وتارةً على شكل إنسان، وتارةً على شكل شيطان، وتارةً على شكل فأرة، بحيث يكون بوسع كلّ واحد أن يصيغه في الشكل الذي يُريد؛ لكن، حينما يُشارف الإنسان على الموت، فإنّ هذا الشمع يتحوّل إلى حديد زهر لا يُمكن تغييره بتاتًا. وهنا، إذا صيغ هذا الحديد على شكل إنسان، فإنّه يظلّ إنسانًا؛ وإذا صيغ على صورة شيطان، فإنّه يظلّ شيطانًا؛ وإذا صيغ على شكل حيوان، فإنّه يظلّ حيوانًا. ولذلك، يُسمّى ذلك العالَم بعالَم الفعليّة، وهذا العالَم بعالَم الاستعداد.٢ فعالم الاستعداد والقابليّة هو العالم الذي يقبل كلّ تغيير وتبديل؛ ولهذا، فإنّ الإنسان يمتلك فيه الإرادة والاختيار إلى آخر لحظة من عمره؛ فيكون بمقدوره النُطق بكلمة: لا إله إلاّ الله، والتوبة، والصلاة، والتراجع عن أفعاله، حيث ستعني هذه القدرة أنّ القابليّة لا زالت موجودة؛ لكن، حينما تنتفي القُدرة، فإنّ عمل الإنسان سينتهي، ويصل إلى مرحلة الفعليّة. وفي هذه الحالة، إذا تمكّن الإنسان في الدنيا من صياغة وجوده ـ الذي كان على هيئة شمع ـ بصورة إنسان، فإنّه سيرحل عن هذا العالم على شكل إنسان؛ وإذا صاغه بصورة شيطان، فإنّه سيموت شيطانًا؛ وإذا صاغه على شكل حيوان، بحيث كان يميل إلى غريزة أحد الحيوانات كالخنزير والكلب وبقيّة الموجودات التي تُهيمن على الخلقة البدويّة لكلّ واحد منها صفة من الصفات، فإنّه سيرتحل عن دار الدنيا بنفس هذه الصورة.
إلهي، لقد غرّني وخدعني هذا الستار الذي وضعته عليّ، ورأيت أنّك لا تهتكه ولا تفضحني أبدًا؛ ولم أكن بالذي يُراقبك، بل يُراقب الناس وحسب، بحيث متى استحييتُ منهم، لم أُذنب؛ ومتى ما لم أستحي منهم، أذنبتُ؛ وبالتالي، فإنّ طاعتي ومعصيتي تدور مدار إراقة ماء الوجه وعدم إراقته بين الناس؛ كما أنّ جاهي واعتباري يتمحور حول إرادة هؤلاء الناس وعدم إرادتهم، ويدور مدار المكانة، والمجتمع، والمحيط، والعادات، والمصالح، والمنافع الشخصيّة؛ وباختصار: مدار عالم الاعتبار الذي نعيش فيه؛ وحينما وضعتَ ستًرا على هذا العالَم، فقد اغتررنا وخُدعنا، وقلنا: لن يهتك الله تعالى هذا الستر؛ فلنواصل إذن ارتكاب المعاصي.
«فَقَد عَصَيتُكَ وَخَالَفتُكَ بِجُهدي»؛ وعليه، فقد عصيتُ وأجرمتُ، وأذنبتُ بكلّ ما أوتيتُه من قدرة واستطاعة.
«فَالآنَ مِن عَذَابِكَ مَن يَستَنقِذُني»؟! ويأخذ بيدي.
فالآن، وبعد أن اعترفتُ بأنّ معصيتي لم تكن عن تجرٍّ عليك وعداوةً لك، بل كانت بسبب جوانب الغفلة فيّ؛ مع أنّ هذه الجوانب ملازمة للإمكان.. «خَطيئَةٌ عَرَضَت»؛ فالإنسان خطّاء؛ لكن، عليه أن يتراجع بسرعة من دون أيّ تأخير؛ كما لا ينبغي لليأس أن يتسلّل إليه، ويقول: «بما أنّني ارتكبت ذنبًا، فلأُلقِ حبلَها على غاربِها، ولأجعلهما اثنين، وثلاثة، وأربعة؛ إذ حينما يغمر الماء رأس الإنسان، لا يفرق في ذلك أن يكون هذا الإنسان قد غاص لمتر واحد أو مائة متر»؛ كلاّ! فمتر واحد يختلف كثيرًا عن مائة متر؛ لأنّ الذي غاص في الماء لمسافة متر واحد لا يفصله عن النجاة سوى هذا المتر الواحد؛ فيحتاج للرفع قليلاً لكي يخرج من الماء؛ في حين أنّ الذي غاص لمسافة مائة متر يحتاج إلى وقت طويل حتّى يتمّ سحبُه؛ ولهذا، على الإنسان أن يُقلع بسرعة عن الخطيئة التي اقترفها؛ وحينما يُقلع عنها، سيُقال له: «التائبُ مِن الذنبِ كَمَن لا ذنبَ لَهُ»؛۱ فيا أيّها السيّد، إنّ الله تعالى سيأتي بذاته، ويقول لك: سأجعل صفحة ذهنك نقيّة بيضاء؛ وكأنّك لم ترتكب أيّ ذنب! ؛ وفي هذه الحالة، إذا كان الله تعالى هو الذي يقول بنفسه هذا الكلام، هل سيبقى لنا ما نقوله نحن؟!
«وَمِن أَيدِي الخُصَماءِ غَدًا مَن يُخَلِّصُني»؟!
فبالنظر إلى كلّ هذه المعاصي التي ارتكبتُها، فإنّني اكتسبتُ أعداءَ كثيرين، من الملائكة القهّارين والجبّارين، وخزنة جهنّم، ومالك، والموجودات ذوات النفوس التي تكره الذنوب، حيث سيكون هؤلاء بأجمعهم خصمائي في يوم القيامة؛ وحينئذ، من الذي سيُخلّصني من أيديهم؟!
«وَبِحَبلِ مَن أَتَّصِلُ إِن أنتَ قَطَعَتَ حَبلَكَ عَنِّي» (وجعلتَ فاصلةَ بيني وبينك)؟!
ففي نهاية المطاف، أنا لا أملك إلهًا غيرك؛ والحبل الذي يصلني بك هو حبل المحبّة؛ فإذا صدر منّي خطأ، فاغفره؛ فلا يكون هذا الخطأ الذي ارتكبته سببًا ـ لا قدّر الله تعالى ـ في أن تقطع ذلك الحبل، وتكلني إلى نفسي؛ وإلاّ، فإنّك إذا وكلتني إلى هذه النفس، فوا ويلاه!
العوامل الثلاثة التي تمنع الإنسان من الشعور باليأس
«فَوَا سَوْأَتَا عَلَى مَا أَحْصَى كِتَابُكَ (وكتاب التكوين وعالم المـُلك) مِنْ عَمَلِيَ الَّذِي لَوْلَا مَا أَرْجُو مِنْ كَرَمِكَ وَسَعَةِ رَحْمَتِكَ وَنَهْيِكَ إِيَّايَ عَنِ الْقُنُوطِ، لَقَنَطْتُ عِنْدَمَا أَتَذَكَّرُهَا».
فكتابك هذا دقيق جدًّا إلى درجة أنّه: بالنظر إلى كلّ هذه الأعمال التي سجّلها عليّ، فقد كان يجب أن أصير كلّي يأسًا؛ لكنّ عدم صيرورتي بهذا النحو يرجع إلى ثلاثة عوامل: الأوّل أملي بكرمك؛ والثاني سعة رحمتك؛ والثالث نهيك إيّاي عن القنوط منك؛ ولهذا السبب، فإنّني لم أقنط؛ وإلاّ، لولا هذه الأشياء «لَقَنَطْتُ عِنْدَمَا أَتَذَكَّرُهَا»؛ «أي: حينما أتذكّر تلك الذنوب المـُسجّلة في كتابك التكوينيّ ـ والتي أخال أنّه لم يُسجّلها، في حين أنّه دوّنها والتقطها ـ فإنّ حالةً من اليأس والقنوط تستوعب وجودي بأجمعه». فالسبب في عدم قنوطي يتمثّل في سعة رحمتك، ورجاء رحمتك هذه وسعة كرمك، وكذلك في نهيك إيّاي بقولك: لا تقنط؛ فهذه الأمور هي التي حافظت علينا.
وقد أشرنا سابقًا إلى أنّ أصل حياة الإنسان يتمحور حول الأمل، حيث نُلاحظ أنّ الإمام السجّاد يعتمد كثيرًا في هذه الأدعية على مسألة الأمل وحسن الظنّ بالله تعالى. فمهما أذنب الإنسان، فإنّه بالإمكان أن يُغفر له ما دام يشعر بالأمل؛ لكن، حينما ينعدم شعوره بالأمل، فإنّه يصير كالثلج الذي يذوب، وتنتفي قابليّته للمغفرة؛ لأنّ الأمل هو الحبل الذي يصل الإنسان بالله تعالى؛ وبانقطاعه ينقطع هذا الحبل. فلنفرض أنّ إنسانًا علِق في قعر بئر، ويوجد حبلٌ يُمكنه رفعه إلى الأعلى؛ كما يوجد في هذا البئر أفاعي وعقارب ووحوش، ويوجد في قعره ماء وآلاف المصائب والبلايا؛ فهنا، نجد أنّ الإنسان يُعلّق أمله على ذلك الحبل ـ الذي هو حبل نجاة ـ بحيث إذا تمسّك به، فإنّه سيرتفع إلى الأعلى. فما دامت يده متمسّكة بهذا الحبل، [سيكون لديه أمل بالنجاة]، ولو واجهته ألف بليّة؛ لأنّ يده متشبّثة بالحبل؛ فإمّا أن يرفعه أحدهم، أو يرتفع هو بنفسه؛ ففي نهاية المطاف، يبقى أنّ هذا الحبل هو حبل نجاة؛ لكن، إذا انقطع الحبل، فإنّه بمجرّد حصول هذا الأمر، سيقع الإنسان في الهلاك والدمار؛ ولهذا، يتعيّن على هذا الإنسان ألاّ يرفع يده عن الحبل.
وهذا الحبل هو حبل الفقر والاستجداء، بحيث يتعيّن على الإنسان أن يُعلّق أمله بالله تعالى، ولا يفقد حال الالتجاء والتضرّع والمسكنة، ولا يأخذه الغرور والعُجب والإعجاب بالنفس؛ إذ ما إن تأخذه هذه الأمور، حتّى ينقطع ذلك الحبل؛ مثلما ينقطع تمامًا حينما ينتابه اليأس؛ فيهلك ذلك الإنسان.
نرجو من العليّ الأعلى أن يحفظنا إن شاء تعالى بواسطة هذا الأمل، وأن يزيده فينا، وأن يغفر لنا برحمته الرحمانيّة والرحيميّة كلَّ ما اقترفناه من الذنوب التي تلازم وجودنا وهويّتنا وظلمتنا الإمكانيّة، وأن يرفع رجاءنا، ويُثبّت إيماننا، ويعفو بكرمه عن خطايانا بأجمعها!
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد