المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء أبي حمزة
التاريخ 1398/09/17
التوضيح
هو العليم
سبب إمكانيّة تغيير النفس في عالم الدنيا دون الآخرة
شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الخامسة عشرة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أَعوذُ بِاللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وصَلَّى اللَهُ على محمّدٍ وآلِهِ الطّاهِرينَ
ولَعنةُ اللَهِ على أعدائِهِم أجمَعينَ
حاجة النفس إلى البكاء
«فَمَنْ يَكُونُ أَسْوَأَ حَالًا مِنِّي، إِنْ أَنَا نُقِلْتُ عَلَى مِثْلِ حَالِي إِلَى قَبْرِي، [وَ]لَمْ أُمَهِّدْهُ لِرَقْدَتِي، ولَمْ أَفْرُشْهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِضَجْعَتِي؟! ومَا لِي لَا أَبْكِي، ولَا أَدْرِي إِلَى مَا يَكُونُ مَصِيرِي، وأَرَى نَفْسِي تُخَادِعُنِي وأَيَّامِي تُخَاتِلُنِي، وقَدْ خَفَقَتْ عِنْدَ رَأْسِي أَجْنِحَةُ الْمَوْتِ؟! فَمَا لِي لَا أَبْكِي»؟!
وقد قال عليه السلام قبل هذه العبارات:
«وأَعِنِّي بِالْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِي، فَقَدْ أَفْنَيْتُ بِالتَّسْوِيفِ والْآمَالِ عُمُرِي، وقَدْ نَزَلْتُ مَنْزِلَةَ الآيِسِينَ مِنْ خَيْرِي»!
إلهي، أعنيّ بالبكاء على نفسي؛ لأنّ هذه النفس أوقعتني في الخسران والضياع الكبيرين، فقضيتُ كافّة عمري في التسويف والإهمال،۱ حيث يُراد من التسويف: إيكال الأعمال لليوم والغد، وتأخيرها باستمرار، والقول: سوف أفعل، سوف أفعل؛ أي سوف أقوم بالعمل الفلانيّ غدًا، أو سأُقدم عليه في اليوم الذي يليه، أو سأؤدّيه قريبًا،...؛ وأفنيتُ حياتي بالآمال والأماني والخيالات؛ فدخلت الآن في منزل الأفراد المصابين باليأس.
أي أنّ حالي هو حال اليأس؛ لأنّني أمضيت عمري بالتسويف والآمال، ولم أتمكّن من الحصول على أيّ شيء؛ وبالتالي، لا يوجد فيّ أيّ خير؛ ولهذا، فقد ولجت إلى منزلة الآيسين ومرحلتهم.
وعليه، فإنّني ـ يا إلهي ـ لا أرى في نفسي أيّ خير؛ فأعنّي على البكاء على هذه النفس التي أوقعتني في الحسرة والخسران والأذى والضياع؛ فهي بحاجة إلى البكاء؛ لأنّها أصبحت في غاية البؤس والشقاء.
«فَمَنْ يَكُونُ أَسْوَأَ حَالًا مِنِّي، إِنْ أَنَا نُقِلْتُ عَلَى مِثْلِ حَالِي إِلَى قَبْرِي، [وَ]لَمْ أُمَهِّدْهُ لِرَقْدَتِي، ولَمْ أَفْرُشْهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِضَجْعَتِي»؟!
فمن يا تُراه هذا الذي يكون حالُه أسوء من حالي؟! فحالي هو حال من قضى حياته في التهاون والتواني والتلكّؤ، وغرسِ الآمال والخيالات، ويُراد الآن العبور به من هذه المرحلة، وإدخاله القبر. فإذا انتقلتُ على هذا الحال إلى قبر لم أستعدّ له، ولم أُحضّر له أيّ شيء، فمن يكون حينئذ أسوأ حالاً منّي؟! لأنّ عمري انقضى، ولم يعُد بوسعي فعلُ أيَّ شيء؛ كما لا يوجد لديّ عمرٌ لكي أعوّض فيه؛ فقد أفنيتُ عمري بالتسويف والآمال؛ وها أنا ذا أرحل الآن خاليَ الوفاض، ونتيجة ذلك الحسرة والندم!
فمن يكون أسوء حالاً منّي إذا نُقلت إلى قبري على هذا الحال؟!
علّة البكاء على النفس
هذا القبر الذي:
«لَمْ أُمَهِّدْهُ لِرَقْدَتِي»؛ فلم أُعدّ هذا القبر بتاتًا لكي أرقد فيه.
«ولَمْ أَفْرُشْهُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ لِضَجْعَتِي»؛ ولم أفرشه بأيّ عمل صالح، لكي أرتاح وأسكن فيه.
فمتى ما أراد الإنسان أن ينام في مكان، فإنّه يقوم بإعداده لنفسه؛ كأن ينام في البرّية، فيقتلع الأشواك من الأرض، ويُنحّي عنها الحصى، ويختار موضعًا غير مبتلّ وغير طينيّ، ولا تسكن فيه العقارب والأفاعي؛ فيُخلي الأرض من كلّ شيء، ثمّ يفرش البساط، وينام. فإذا كنتُ أريد الرقود الآن في هذا القبر الذي لم أُعدّه بتاتًا، فكيف سيتسنّى لي ذلك؟! إذ ينبغي إعداد القبر عن طريق العمل الصالح، وليس البساط والحصير الأجنبيّ؛ فلا يهمّ هنا وجود الحصير أو عدم وجوده؛ وحتّى الكفن الذي يُلفّ به الإنسان، إنّما هو باعتبار الاحترام الذي ينبغي أن يحظى به جسده؛ وإلاّ، لو وُضع الإنسان في قبره عريانًا، أو ألقي بجسده في البحر، لما كان قي ذلك أيّ ضير؛ لأنّ المضجع الحقيقيّ الذي يتوفّر عليه الإنسان في عالم البرزخ ليس هو القبر؛ ولهذا، إذا زيّنتَ هذا القبر بالمرايا، فلن تجني من ذلك أيّة فائدة؛ لأنّه محلّ للبدن فقط؛ والبدن يتعرّض هناك للتعفّن، وعظامه تنفصل عن بعضها، وتصير رمادًا، وتندثر؛ فهو إذن مختصّ بالبدن. ومن هنا، على الإنسان أن يفرش ذلك العالم المثاليّ الذي ينتظره؛ وهو عالم الصورة، وعالم عذاب القبر وثوابه؛ مع أنّ فراشه هو العمل الصالح، والذي إذا أدّاه الإنسان، فإنّه فراشه سيكون جيّدًا، بل وتوجد هناك فُرُش جميلة أيضًا، حيث سيحظى الإنسان هناك ببدن برزخيّ، ويتمتّع بهدوء جيّد.۱
وحينئذ، إذا حُملت إلى قبري ـ في حين أنّني لم أقم بأيّ عمل صالح ـ، فكيف لا أبكي، حتّى أهدأ قليلاً وسط هذا القبر؟! إلهي، لا بدّ أن تُعينني بالبكاء على نفسي التي استولى عليها كلّ هذا المقدار من الوبال والخسران، بحيث أمضت عمرها بأجمعه في الآمال والتسويف، ولم تُعدّ أيّ شيء لمضجعها، مع أنّها تُريد أن ترحل الآن.
«ومَا لِي لَا أَبْكِي»، بل إنّني أهلٌ للبكاء، وقد انتاب هذا البكاء وجودي بأجمعه.
«ولَا أَدْرِي إِلَى مَا يَكُونُ مَصِيرِي»، فأنا لا أعلم بتاتًا إلى أين يُذهب بي، وأين يكون مصيري ومعادي.
فقد انقضى العمر، وهم يرحلون بالإنسان؛ لكن، إلى أين؟ لا أعلم! وهذا أمر يوقع الإنسان في اضطراب ووحشة كبيرة، حيث يُذهب به إلى مكان مجهول ومُعتم، ولا يعلم الإنسان أبدًا ما الذي سيحصل فيه.
«وأَرَى نَفْسِي تُخَادِعُنِي»، وعلاوةً على ذلك، فإنّني أرى الآن أنّ هذه النفس تُخادعني.
فنفسي تُريد الآن أن تخدعني، وتتعامل معي بمكر وحيلة! فقد أمضت كلّ هذا العمر بالتسويف والآمال، وخدعتني آلاف المرّات، حيث كنت أكتشف في كلّ مرّة أنّها تخدعني، ومع ذلك، فإنّها كانت تستعمل الخداع والمكر مرّة أخرى، وتُزيّن لي زخارف الدنيا والرئاسة والمكانة والجاه، وتُنمّي في قلبي غير الله تعالى، وتُظهر الباطل في هيئة جذّابة ورفيعة.. فنفسي هي الآن بهذا النحو!.
«وأَيَّامِي تُخَاتِلُنِي»، فتأتيني هذه الأيّام من ناحية الخَتل؛ أي المكر والخداع والغرور.
«وقَدْ خَفَقَتْ عِنْدَ رَأْسِي أَجْنِحَةُ الْمَوْتِ»؟!
يعني: كأنّ طائر الموت قد جاء من السماء، وتنزّل، وتنزّل، وتنزّل؛ وهو الآن قريبٌ من الهبوط على رأسي، ويُحرّك أجنحته بانتظام، ويُحلّق حول رأسي، ليهبط عليه؛ وقد بقيت لحظة أو ساعة واحدة على موعد هبوطه؛ ففي مثل هذه اللحظة الحساسّة، أرى نفسي تُخادعني، وتغويني مرّة أخرى، وتدعوني من هذه الناحية، وتُزيّن لي ثانيةً أحد المشاهد الدنيويّة، وتُريد مرّة أخرى إضعاف مبدأ من مبادئ الحقيقة في قلبي، من دون أن تتراجع أبدًا!.
«فَمَا لِي لَا أَبْكِي»؟!
فحينما أراجع حساباتي، وأرى صحيفة أعمالي بهذا النحو، فإنّني أجد نفسي أهلاً للبكاء! فلماذا لا أبكي والحال هذه؟! بل إنّ أساس تحقّقي بهذا الحال الذي أملكه هو بكاء؛ فإذا لم أبكِ، سيكون ذلك مخالفًا للأصل؛ لا أنّ الأصل بالنسبة إليّ هو الفرح والسرور، بينما يكون البكاء أمرًا خارجًا عن هذا الأصل، ويحدث لي كأمر طارئ وعارض؛ كلاّ، فالأمر ليس بهذا النحو! فحينما راجعتُ حساباتي، ورأيت أنّ وضعي بهذا الشكل، فإنّ الأصل الأوّلي بالنسبة إليّ يقتضي البكاء، بحيث إذا رآني أحد ضاحكًا، وجب عليه أن يتعجّب!
يقول المرحوم صاحب المعالم الذي يُعدّ من فقهاء الإسلام العظام، وكان ابنًا للشهيد الثاني:
عَجِبتُ وما عَجِبتُ | *** | لِكلِّ ذي عَينٍ قَريرةِ |
وأمامَهُ يومٌ عَظيمٌ | *** | فيهِ ينكشِفُ السَّريرةِ |
هذا، وإن ذَكَرَ ابنُ آدمَ | *** | ما يلاقي في الحَفيرةِ |
بَكى مِن هَولِ ذلِكَ | *** | مُدّةَ العُمُرِ الطَّويلة۱ |
يقول:
۱ـ أتعجّب من هذه الأعين القريرة والهادئة التي لا تُعاني من أيّة غُصّة أو حُرقة أو اضطراب، وكيف ظلّت في هذه الدنيا هادئة وليّنة وطريّة.
٢ـ في حين، أنّها ترى أمامها يومًا تنكشف فيه السرائر وخفايا الذهن ونيات القلب، ويُرفع عنها فيه الستار!
٣ـ فلو علم ابن آدم بالذي سيحلّ به في الحفيرة والقبر، وما هي الأشياء التي سيُواجهها هناك،
٤ـ لكان ذلك كافيًا لأن يعكف على البكاء الدائم طوال حياتهز
الدنيا عالم الاستعداد والآخرة عالم الفعليّة
«فَمَا لِي لَا أَبْكِي»؟!
«أَبكي لِخُروجِ نَفسي».
فحينما تخرج النفس من البدن، ينتهي الأمر؛ إذ بوسع الإنسان القيام بأيّ عمل، والوصول إلى أيّة درجة ومقام ومنفعة، والاحتراز عن أيّ ضرر؛ لكنّ ذلك مقتصر على وجوده في الدنيا وعلى زمان حياته؛٢ والسبب في ذلك أنّ وجود الإنسان يتوفّر أثناء حياته على القابليّة والاستعداد؛ بمعنى أنّه يكون قادرًا على تغيير نفسه، والانتقال من جهة إلى أخرى، وتكون له القابليّة للتربية، ويستطيع صياغة نفسه بأشكال مختلفة؛ لأنّ هذا العالم هو عالم الاستعداد؛ والله العليّ الأعلى منح الإنسان البدن بصفته آلةً؛ وهو أمر مادّي يقع في الزمان والمكان، ويخضع للكون والفساد؛ ولهذا، نجده ينتقل ـ في ظلّ الحركة الدائريّة التدريجيّة للعالم ـ من مرحلة القابليّة إلى مرحلة الفعليّة، إلى أن يُشارف على الموت. فمع ذلك النَفَس الأخير، ينتهي كلّ شيء، ويُختم على الإنسان مع جميع الأعمال التي قام بها، ويتمّ الأمر، أيًّا كان ذلك! وهذا الذي يُقال له: الفعليّة.
ففي عالم البرزخ، لا يوجد استعداد، بل ولا يُعقل وجوده هناك؛ لأنّ البرزخ عالم التجرّد والخيال؛ مع أنّ المراد من الخيال ليس هو التصوّرات الوهميّة، بل هو عالم المتخيّلة والصورة، والذي يُعبر عنه بالمثال والخيال، ويكون مجرّدًا وغير مادّي؛٣ والعالم الذي يكون مجرّدًا هو عبارة عن فعليّة محضة؛ فكلّ عمل قام به الإنسان تكون نتيجته هناك؛ وهذا هو معنى: «اليَومَ عَمَلٌ ولا حِسابٌ، وغَدًا حِسابٌ ولا عَمَلٌ»؛٤ أي: في هذا اليوم، على الإنسان أن يعمل، من دون أن يوجد حساب؛ واليوم الذي يُحاسب فيه الإنسان هو اليوم الذي يُغلق فيه ملفّه.
وَلَقَد عَجِبتُ وما عَجِبتُ | *** | لِكلِّ ذي عَينٍ قَريرةِ |
وأمامَهُ يومٌ عَظيمٌ | *** | فيهِ تنكشِفُ السَّريرةِ |
هذا، ولو ذَكَرَ ابنُ آدمَ | *** | ما يلاقي في الحَفيرةِ |
لبَكى دمًا مِن هَولِ ذلِكَ | *** | مُدّةَ العُمُرِ القصيرة |
فَاجهَد لِنَفسِكَ في الخلاصِ | *** | فَدونَهُ سُبُلٌ عسيرة |
ففي هذا العالم، لا يُغلق ملفّ الإنسان أبدًا، ولا يستطيع أيّ أحد القطع بأنّه من أهل الجنّة أو من أهل النار؛ لأنّه من الممكن أن يصير المستحقّ لجهنّم من أهل الجنّة بسبب عمل صالح؛ كما يُمكن أيضًا أن يُصبح المستحقّ للجنّة من أهل النار! فبكلمة واحدة، قد يصير الكافر مسلمًا؛ وبارتداد وإنكار واحد، يصير المؤمن كافرًا! وهذا كلّه بسبب [القابليّة على] التغيير والتحوّل؛ نظير قطعة ذهب تُسلَّم لصائغ، ويُقال له: «يا سيّدي، بوسعك أن تصوغها في أيّ شكل تريد إلى اليوم الفلانيّ، حيث سنأتي في ذلك اليوم، ونستلمها منك! وهنا، لا يهمّ الشكل و لا تهمّ الطريقة التي تُريد صياغتها بها؛ فأنت أعلم بذلك». وحينئذ، قد يجعلها في اليوم الأوّل على شكل خاتم، ثمّ يُتلفها في الغد ويجعلها على شكل قلادة، ثمّ يصوغها في اليوم الذي يليه على شكل أقراط، وفي يوم آخر على شكل سبيكة؛ أو قد ينهمك في صياغتها منذ اليوم الأوّل، بحيث يعمل في كلّ يوم على صناعة جزء منها؛ ويظلّ يشتغل عليها بهذا النحو طيلة شهر واحد؛ وحينما يأتون لأخذها منه، يقولون له: «لقد انتهى الوقت»؛ فيقول لهم: «أمهلوني لدقيقة واحدة، حتّى أُلمـّعها»؛ فيقولون له: «لقد انتهى الأمر، وأُغلق الملفّ، وكانت لديك فرصة للعمل إلى هذا الحين!».
ونفس الشيء ينطبق على النفس؛ إذ ما دام يتوفّر الإنسان على بدن، يكون بمقدوره صياغة نفسه بصور مختلفة؛ لأنّ هذه النفس ليست لها صورة محدّدة، بل إنّ الصورة التي تتّخذها تكون تابعة لنية الإنسان وعمله، بحيث نجد شكل نفس هذا الإنسان يختلف عند قيامه بأيّ عمل صالح أو عمل سيّء؛ واختلافه يكون حقيقيًّا! فكما يوجد اختلاف بين الناس في الصور [الظاهريّة]، فإنّه يوجد بينهم أيضًا اختلاف في الصور النفسيّة والملكوتيّة، بل ويوجد اختلاف بين الصور الملكوتيّة لكلّ فرد منهم بحسب اختلاف أفعاله؛ ولهذا، فإنّ النفس تكون بالضبط مثل الشمع الذي تحمله بيدك، ويكون بوسعك صياغته في كلّ لحظة بشكل خاصّ؛ فهي أيضًا تكون بهذا النحو.
يُقال: «النفسُ هَيولانِيَّةٌ»؛ أي أنّها تكون في بدايتها عبارة عن قابليّة محضة؛۱ لأنّ الهيولانيّ هو الذي له القابليّة المحضة؛ وبالتالي، يكون بوسعكم صياغتها بالشكل الذي تُريدون؛ فتتهذّب هذه النفس بالعمل الصالح والنية [الحسنة] وفعل الخير والجهاد في سبيل الله تعالى والإيثار والجهاد الأكبر، وتُصقل، فتتشكّل بصورة إنسانيّة؛ وأمّا إذا وضع الإنسان نفسه في مسار آخر، فإنّها ستتشكّل بصورة مختلفة؛ لكن، من دون أن يشعر هو بذلك؛ لأنّ هذا العالم هو عالم الظاهر، والحقائق تكون فيه خلف الستار محجوبةً وغير مرئيّة؛ ولهذا، فإنّ الأمر الذي يُشاهد في الناس يقتصر على الشكل والملامح الظاهريّة؛ في حين أنّ المسألة تكون في العالم الآخر بالعكس، حيث يضمحّل هناك هذا الشكل وهذه الملامح الظاهريّة، ويظهر الشكل والملامح الحقيقيّة؛ فإذا طبع الإنسان في الدنيا على نفسه ـ التي كانت تتوفّر على قابليّات متعدّدة ـ بقابليّة معيّنة، فإنّ هذه النفس ستنطبع ويُختم عليها بهذه القابليّة.
لكن، بعدما تتحقّق الفعليّة، سيكون من الخطأ الحديث عن القابليّة؛ لأنّ الأمر الذي حاز على الفعليّة لا يُمكنه بتاتًا الرجوع إلى مرحلة القابليّة؛ فبذرة التفّاح تتوفّر على القابليّة للتحوّل إلى شجرة تفّاح، بحيث إذا زرعها الإنسان، واعتنى بها باستمرار، فإنّها ستصير شجرة تفّاح؛ وحينئذ، تتحقّق فعليّتها؛ لكنّ التفّاح لا يستطيع التحرّك والتغيّر بهذا النحو إلى أن يصير بذرة تفّاح، ولا يقدر على الرجوع من نفس الطريق الذي ذهب منه؛ لأنّه أمر محال؛ أي: يستحيل الرجوع من الفعليّة إلى القابليّة.
فحينما يخرج الإنسان من رحم أمّه، ويكبر، ويصير شيخًا، ويُدفن في القبر، فإنّه من المحال أن يلج مرّة أخرى في رحم هذه الأمّ، ثمّ ينتقل بعد ذلك إلى عالم الذرّ. وقد ينتقل الإنسان من الشباب إلى الشيخوخة، لكن يستحيل أن يعود من الشيخوخة إلى الشباب؛ لأنّه حوّل ـ في المراحل التي قطعها من الشباب إلى الشيخوخة ـ القابليّةَ إلى فعليّة، ولا يُمكنه الرجوع من هذه الفعليّة إلى القابليّة.
فأنتم الجالسون هنا الآن تتوفّرون على قدر من الكمالات العلميّة يُمثّل حصيلة الجهود التي بذلتموها، والمطالعات التي قمتم بها، والدروس التي تلقّيتموها، حيث يكون هذا القدر من الكمالات العلميّة الذي تمتلكونه عبارة عن فعليّة، ويكون بمقدوركم الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ لأنّ هذه الفعليّة تكون قابليّةً بالنسبة إلى مرحلة أخرى، وليست فعليّة محضة؛ وبالتالي، يُمكنكم تحويل هذه الفعليّة ـ التي هي قابليّة بالنسبة إلى مرحلة أخرى ـ إلى فعليّة أخرى؛ لكنّكم لا تستطيعون الرجوع إلى الخلف؛ أي: لا تقدرون على القيام بعملٍ يُرجع علومكم باستمرار إلى مرحلة البساطة والسذاجة؛ فتُؤدّون فعلاً يُساهم الآن في إنقاص هذه العلوم شيئًا فشيئًا، إلى أن تصل إلى درجةٍ؛ وكأنّكم تُريدون الذهاب للتوّ إلى المدرسة، وتعلّم أحرف الهجاء، وتصيرون بنفس هذه الحالة؛ فهذا أمر محال!.
دليل على بطلان التناسخ
واعتمادًا على هذا الدليل بعينه، يُستدلّ على بطلان التناسخ، حيث توجد طائفة تقول: حينما ترتحل الروح عن دار الدنيا، فإنّها تنتقل إلى بدن آخر؛ فإذا كان الإنسان من السعداء، فإنّ روحه تحلّ بجسد إنسان سعيد يفعل الخيرات؛ وإن كان من الأشقياء، فإنّ روحه تحلّ بأحد أبدان الأشقياء. وعلى سبيل المثال، فإنّ روح يزيد الذي كان من الأشقياء تحلّ ببدن إنسان شقيّ، وتحلّ روح فرعون ببدن يزيد؛ كما أنّ روح الإنسان الذي كان صالحًا ومن السعداء تحلّ في بدن صالح. وتوجد العديد من البراهين على إبطال هذا الكلام، بل ولا شكّ بتاتًا في بطلانه؛ ومفاد أحد هذه البراهين أنّه: في اليوم الذي يُتوفّى فيه الإنسان، يتحقّق بالفعليّة، فيستحيل بالنسبة إليه الخروجُ من مرتبة الفعليّة والانتقال إلى القابليّة؛ إذ حينما تُريد الروح أن تحلّ بالبدن، فإنّها تحلّ في بدن طفلٍ يتوفّر على قابليّة محضة، ويكون بوسعه تجاوز هذه القابليّة، وقطع مجموعة من المراحل؛ فينتقل من النطفة إلى العلقة، ثمّ يصير مضغة، ثمّ تكتمله عظامه، ويُصبح طفلاً سويًّا، ويخرج إلى هذا العالم، ويتقدّم بهذا النحو؛ وحينئذ، إذا تُوفّي في مرحلة من مراحل تقدّمه، فإنّه سيكون متوفّرًا على فعليّة خاصّة؛ ومن المحال أن يرجع بهذه الفعليّة إلى مرحلة القابليّة مرّة أخرى؛ وبالتالي، يستحيل التناسخ، حيث تثبت استحالته عن طريق هذا البرهان الفلسفيّ.۱
وهنا، نجد الإمام عليه السلام يقول:
«فَمَا لِي لَا أَبْكِي؟! أَبكي لِخُروجِ نَفسي».
لأنّه إذا خرجت النفس، انتهى الأمر؛ وبحقّ، فإنّ المسألة تستحقّ البكاء؛ وإذا كنّا لا نبكي، فلأنّنا نفتقد الشعور والإحساس؛ وأنا هنا أتحدّث عن نفسي؛ إذ لو استحضر الإنسان مسألة أنّ الأمر سينتهي حين خروج نفسه، فكيف سيتسنّى لنا البقاء هادئًا؟! حيث سينتهي عمله، ويُختم على فعليّته!۱
فما دامت اللبنة لم تدخل إلى الموقد، ولم تُطبخ، فإنّها تكون طينًا وطريّة، ويكون بوسع الإنسان صياغتها على شكل لبنة أو جرّة أو صحن أو أيّ وعاء يُريده؛ لأنّها تتوفّر على قابليّة واستعداد؛ لكن، حينما تُدخل إلى الموقد، فإنّ أمرها ينتهي، ولا يُمكن جعلها مرّة أخرى طينًا؛ إذ لم تعُد تقبل أن تصير طينًا. فحينما تُكسر الجرّة، يتعيّن رميها في القمامة، ولا يُمكن جعلها طينًا، وصياغتها بشكل آخر؛ لأنّ فعليّتها تحقّقت؛ والنفس هي بهذا النحو؛ فحينما تخرج [من البدن]، يُطبع عليها بختم الفعليّة.
والإمام السجّاد عليه السلام يعلم بحقيقة المسألة؛ وأمّا نحن، فعندما يُطبع على النفس بختم الفعليّة، فإنّنا لا نعلم بذلك؛ ولهذا، يقول عليه السلام: إنّ خروج النفس لأمر عظيم! فكم يتعيّن على الإنسان أن يكون منتبهًا ومراقبًا؛ لأنّه قد يُشاهد حلول الموت به في أيّة لحظة من لحظات عمره! وكم ينبغي عليه أن يُحاسب أعمال نفسه في كلّ دقيقة، حتّى إذا أراد أن يرتحل عن دار الدنيا، تكون فعليّته حسنة! وإلاّ، إذا تقرّر أن يقضي هذا الإنسان أيّامه في الغفلة، فإنّ فعليّته ستتحقّق، وتتشكّل طينتُه على شكل جرّة، لكنّها جرّة مثقوبة.
ومن هنا، فإنّ الذين يعملون على إعداد الطين ليصنعوا منه جرّة، إذا اشتغلوا بشكل جيّد، سيحصلون على جرّة مكتملة؛ وأمّا إذا لم يشتغلوا بطريقة مناسبة، فإنّ هذا الطين سيبرد ويُكبَس؛ وحينما يُوضع في الموقد، ويُخرج منه، فإمّا أن يظهر ثُقب أسفله ويُطبخ على هذه الحالة؛ وحينئذ، لا تعود الجرّة صالحة للاحتفاظ بالماء، بحيث كلّما سُكب فيها ماء، تدفّق من ذلك الثقب؛ وإمّا أن تتصدّع الجرّة، وتُصبح جودتها رديئة جدًّا، ولا تعُد فيها أيّة فائدة.
حقيقة عالَم القبر
«أَبكي لِظُلمَةِ قَبري، أَبكي لِضِيقِ لَحدي»؛ بحيث إذا كان هذا القبر مظلمًا، فما عساي أن أفعل؟!.
والمراد من ظلمة القبر ليست الظلمة التي توجد في قبر البدن؛ لأنّ المراد من القبر هنا هو عالم المثال؛ وإلاّ، فإنّ الجميع يُدفنون في قبر مُظلم بمن فيهم الأنبياء، بل حتّى أمير المؤمنين وُوري داخل قبر مُعتم؛ فإذن، المقصود من هذا القبر ليس هو قبر الجسد، بل هو قبر لا يُضاء فيه المصباح؛ هذا، مع أنّ منكر ونكير لا يحلاّن بقبر الجسد، ولا يتحدّثان مع هذا الجسد المكوّن من اللحم، والذي عرضه الموت. فالروح تتعلّق [بعد الموت] بصورة مثاليّة، حيث يُقال لعالم المثال «عالم القبر»؛ وحينئذ، قد يكون هذا العالم مضيئًا وغير مظلم. افرضوا أنّ بدنكم موجود في هذا المسجد، وأنّه مستنير؛ وهنا، إذا أُضفأت مصابيح المسجد وصار معتُمًا، فإنّ بدنكم سيصبح أيضًا معتمًا؛ لكن، هل سيُصبح قلبكم أيضًا بهذا النحو؟ كلاّ، قد يكون مضيئًا! حيث يوجد في قلبكم آلاف العلوم، وتتوهّج فيه آلاف المصابيح الوضّاءة، من دون أن يكون لذلك أيّة علاقة بظلمة المسجد، وسواءً كان هذا المسجد مُظلمًا أو مضيئًا؛ لأنّ نوع تلك الإضاءة وماهيتها مختلفان تمامًا؛ وعليه، فإنّ المراد من ظلمة القبر: ظلمة عالم المثال.۱
فأنا أبكي للظلمة والعتمة التي تنتظرني في عالم المثال؛ إذ لا بدّ لي من عبور هذه الطرق؛ في حين أنّها مظلمة بأجمعها؛ وحينئذ، كيف يُمكنني عبورها؟!
«أَبكي لِضِيقِ لَحدي»؛ فأنا أبكي لضيق اللحد الذي سيوضع عليّ، إذا كان هذا اللحد ضيّقًا جدًّا.
واللحد هنا هو أيضًا كناية عن عالم البرزخ، وليس المراد منه هذا اللحد [الظاهريّ]، والذي لا يهمّ أن يكون ضيّقًا أو واسعًا؛ ومن هنا، فإنّ الهدف من توسعة اللحد هو إبداء الاحترام لجسد الميّت، وليس لروحه؛ وإلاّ، فلا يهمّ أن يكون هذا اللحد ضيّقًا أو غير ضيّق، مرتفعًا أو منخفضًا، بل ولا يهمّ أن يُجعل جسد الإنسان طعامًا للحيوانات، أو يُلقى به في البحر؛ لأنّ السبب في المراسم التي يخضع لها الجسد هو أنّه خدم النفس لمدّة معيّنة؛ ولهذا، يكون بدن المؤمن محترمًا، حيث يُبرز هذا الاحترام بغسله، وتكفينه ودفنه؛ لكن، لا يوجد هنا أيّ كلام عن الجسد، بل الكلام كلّه هو عن عالم المثال، حيث يكون ضيق اللحد (والصحيح أن نقول اللَّحْد وليس اللَّحَد) وضمّته كناية عن ضيق عالم البرزخ.
الأمور التي سيُسأل عنها الإنسان في القبر
«أَبكي لِسُؤَالِ مُنكَرٍ ونَكيرٍ إِيّايَ».
حيث سيسألانني عن عمري فيما قضيته، وعمّا فعلته؛ لكن، هل سيسألاني عن معنى كمّثرى «نطنز»۱؟! أو عن طعم تُفّاح مشهد؟! أو عن خصائص بطّيخ المكان الفلاني؟! أو عن موضع الثروة الفلانيّة والسلعة العلاّنية؟! أو عن مكان وجود نهر الميسيسيبي؟! أو عن موقع وجود جبال الهيمالايا؟! أ فهل سيُوجّهان للإنسان هكذا أسئلة؟!
فلو وجّها للإنسان هذه الأسئلة، وكان هذا الإنسان قد قضى عمره في دراسة هذه العلوم، لكان ذلك جيّدًا، حيث سيتوجّب عليه حينئذ أن يتعلّم بعض الأشياء، ليتمكّن من الجواب هناك. لكن، هل سيُسأل الإنسان عن الأسئلة التالية: ما هي السنة التي تُوفّي فيها نادر شاه؟ وفي أيّ عام انتصر تيمورلنك؟ وعن ماذا يتحدّث ذكر الحمام وأنثاه القابعان أعلى شجرة الدلب؟ فلو حصل الإنسان على جميع العلوم الدنيويّة من تاريخ وجغرافيا وفيزياء وكيمياء ورياضيات، بل ولو تخطّى كلّ هذه العلوم ليحصل على علم الغيب، لكنّه يكون علم غيب متعلّقًا بالمادّيات؛ كأن يعلم بما يتحدّث به زوج الحمام، فهل سيُفيده ذلك في شيء؟! [كلاّ]؛ لأنّ منكر ونكير لن يسألاناه عن هذه الأشياء!
فهذه العلوم ظاهريّة، وتحظي بقيمة لمجرّد كونها مقدّمة لأمور معنويّة؛ فإذا سقط عنوان مقدّميتها، لم تعُد تُساوي شروى نقير! فإذا سعى الإنسان إلى تحصيل العلوم الرياضيّة والفيزيائيّة وأمثال ذلك لكي يتعلّم شيئًا، ويتمكّن من إعانة روحه ونفسه، ويكون ذلك مقدّمة لتنمية وجوده والمسلمين، وتلبية حاجات الناس، فإنّ فائدة هذه العلوم ستقتصر على هذه الأمور، وإلاّ، فإنّها لا تتوفّر على أيّة موضوعيّة، بل هي صفر. وفي هذه الحالة، سيتعيّن على الإنسان الاهتمام بهذه العلوم بمقدار ما تملكه من مقدّمية؛ لكن، إذا تعدّى الإنسان هذه المقدّمية، واعتبر تلك العلوم أصيلة في نفسها، فإنّ ذلك سيكون هو الشقاء بعينه!.
قيمة كلّ من العلوم الظاهريّة والإلهيّة
يقول الرسول الأكرم: «اللهُمَّ إنّي أَعوذُ بِكَ مِن عِلمٍ لا يَنفَعُ»؛٢
وليس المراد هنا العلم الكاذب والخاطئ، بل العلم الصحيح؛ لكن، الذي لا توجد فيه أيّة فائدة. فنلاحظ وجود آلاف العلوم في هذا العالم؛ لكن، في ماذا تنفعنا؟! فهل إنّ علم الموسيقى صحيح أم خاطئ؟ إنّه علم دقيق جدًّا، ومسائله تتّصف بدقّة عالية، ولها تأثيرات حقيقيّة في الخارج؛ إذ تجعل الموسيقى أحدهم نائمًا، والآخر مستيقظًا، وتتسبّب في ضحك الأوّل، وبكاء الثاني، وجنون الثالث؛ ولهذا، تُستخدم الموسيقى من أجل سوق الناس إلى الحروب، حيث تعمل على إفقاد هؤلاء الناس عقولهم، إلى درجة أنّهم يندفعون للقتال، من دون أن يشعروا بأيّ شيء؛ فهذا هو تأثيرها! ومع ذلك، فإنّها من العلوم المحرّمة؛ لأنّ هذه الآثار الظاهريّة مخالفة لمصلحة الإنسان. وعلم السحر أيضًا من العلوم الواقعيّة، حيث يعمل مثلاً على إيجاد المحبّة بين شخصين؛ لكنّه محرّم؛ لأنّه يتعارض مع مصلحة الإنسان؛ وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة لعلم الكهانة٣.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة همّام حين وصفه للمتقّين: «ووَقَفوا أَسماعَهُم عَلَى العلِمِ النافِعِ لَهُم»۱و٢
فهم لا يسعون إلى تحصيل أيّ علم كيفما اتّفق، ولا إلى سماع أيّ حديث كيفما كان، ولا يصغون إلى كلام أيّ شخص أيًّا كان، ولا يذهبون إلى أيّ مجلس كيفما كان؛ لأنّ الكلام كثير جدًّا في هذه الدنيا، وحينما يستمع الإنسان إليه، يستقرّ في قلبه. فتجدون أنّكم لا زلتم تتذكّرون الكلام الذي سمعتموه قبل عشر سنوات؛ لأنّه استقرّ في قلوبكم؛ وحينما يستقرّ الكلام في القلب، فإنّه يملأه؛ وحينئذ، لن يبقى فيه أيّ موضع لله تعالى، حيث يأتي كلام الله تعالى، فيجد القلب مملوًّا، فيعبره، ويُودّعه، ويرحل! ولهذا، يُقال: على الإنسان إفراغ قلبه ليبقى فيه مكان لكلام الله تعالى.
وهذا هو السبب الذي يجعل الذين يتوغّلون ويغوصون كثيرًا في العلوم الظاهريّة خالي الوفاض من العلوم الحقيقيّة، حيث تركوا أنفسهم جوعى وفارغين في هذا المجال، ولم يبق لهم أيّ استعداد بتاتًا لتلقّي العلوم الإلهيّة.
يقول الشهيد الثاني ما مفاده: «على طلبة العلوم الدينيّة التحليق بجناحين: الأوّل جناح العلم، والثاني جناح العمل».٣
فعليهم أداء صلاة الليل والدراسة؛ وأمّا إذا خاضوا في الدراسة والمطالعة، ولم يهتمّوا بصلاة الليل، فإنّ علومهم الذهنيّة سترتقي، لكنّهم لن يحصلوا على العلم القلبيّ والوجدانيّ؛ فيظلّون جافّين إلى آخر عمرهم.
وهذا كلام صحيح تمامًا؛ إذ سيحصل للقلب إشباع بهذه المسائل؛ وحينئذ، لن يبقى له أيّ مجال وأيّ مكان لاستقبال تلك العلوم؛ لكن، إذا اشتغل الإنسان بالتهذيب والتزكية منذ البداية، فلن يفقد هذه القابليّة وهذا الاستعداد لتلقّي صور تلك المعارف الملكوتيّة.
اهتمام كلّ واحد بنفسه في يوم المحشر
«أَبكي لِخُروجِي مِن قَبري عُريانًا ذَليلاً حامِلاً ثِقلي عَلى ظَهري»؛
أنظُرُ مَرَّةً عَن يَميني وأُخرى عَن شِمَالي»؛ فأنظر في المحشر فجأة إلى هذه الناحية، ثمّ أنظر إلى الناحية الأخرى، وأنظر إلى الجهة اليُمنى والجهة اليُسرى.
«إِذِ الخَلائِقُ في شَأنٍ غَير شَأني»؛ فكلّ موجود ومخلوق وإنسان يعيش في أجوائه الخاصّة التي تختلف عن أجوائي؛ والجميع منهمكون في أعمالهم، ومنشغلون بأنفسهم.
فلا يقدر أيّ أحد على مساعدة الآخر؛ بل حتّى الوالد لا يستطيع إعانة ابنه؛ لأنّه واقع في ورطة كبيرة، إلى درجة أنّه لا يقدر على مساعدته بتاتًا!.
فحينما يحدث زلزال، وتبدأ البنايات فجأة بالانهيار، نجد أنّ الأمّ التي تُبدي المحبّة لطفلها الرضيع تتركه وحيدًا في الغرفة، وتهرب إلى الخارج؛ ثمّ تنتبه إلى أنّه تركته وهربت بجلدها! فحبّ النفس هو بهذا النحو؛ إذ حينما يتلقّى الإنسان ضربة، ويُصاب بالدوار، فإنّه يتحرّك نحو مراده؛ وبما أنّ مراده الأوّلي هو حفظ النفس، فإنّه ينسى طفله، وأباه، وزوجته، وابنه؛ فينسى كلّ هؤلاء.
﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ٣٤ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ٣٥ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ٣٦ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ٣٧ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ٣٨ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ٣٩ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ٤٠تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ٤١ أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ٤٢﴾.۱
فحينما يحصل الاضطراب، وتقوم القيامة، يهرب الإنسان من أبيه؛ هذا، مع أنّ محبّة الوالدين هي أهمّ محبّة في الدنيا؛ لأنّ بدن الإنسان تَكَوَّن من الأب، والأمور تبتني في هذا العالم على أساس المادّة؛ في حين أنّه لا مكان لهذه الاعتبارات في العالم الآخر، حيث سيضمحّل هذا الأساس، وتفنى كلّ هذه الاعتبارات.
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾.٢
فالنسَب مقتصر على الدنيا؛ بينما تكون العلاقات هناك قائمةً على أساس الأنساب الحقيقيّة والمعنويّة؛ ولهذا، يفرّ الإنسان من أبيه، وأمّه، وأبنائه، وزوجته، وأخيه؛ ويكون كلّ واحد منشغلاً بأعماله وخواطره، ومهتمًّا بنفسه فقط.
﴿ضَاحِكَةٌ مُّسۡتَبۡشِرَةٌ﴾؛ «فتوجد هناك وجوه بشوشة، وجميلة، وفرحة، ومسرورة، وجَذِلَة، تُقَهقِهُ، وتتحرّك في عالم المحشر من هذه الجهة إلى تلك، وهي لا تضحك وحسب، بل إنّ ضحكتها تصدر عن بشاشة».
وكأنّ هؤلاء قد انتابهم السرور إلى درجة أنّهم سيطيرون فرحًا؛ وكأنّهم ينتظرون نهاية عالم الحشر، وعالم النشر بعده، ليتمّ حسابهم، ويتمكّنوا من التحليق!.
﴿وَوُجُوهٌ يَوۡمَئِذٍ عَلَيۡهَا غَبَرَةٌ﴾؛ «وهناك أيضًا وجوه يعلوها الغبار والتراب».
﴿تَرۡهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾ [وَذِلَّةٌ]؛ «وأُضيف وقُرّب إلى هذا التراب الفقرُ والشقاء».
أ لم تُلاحظوا بأنّ بعض المساكين لا يغسلون وجوههم بالماء، فتصير مغبرّة، ويتغيّر لونُها، وتتحوّل بشاشتها إلى قتامة، لا سيّما إذا اقترن ذلك بالفقر؟ فهذه الوجوه تظهر في ذلك العالم بهذا النحو؛ لأنّها فقيرة معنويًّا، كما أنّها لم تتنظّف من الناحية المعنويّة.
﴿أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَفَرَةُ ٱلۡفَجَرَةُ﴾؛ «أولئك هم الفجّار والفسّاق والكفّار الذين ملأ صدى فضيحتِهم أسماعَ كلِّ العالم، وهم أشقياء، وأيديهم فارغة وقاصرة، حيث سـتُصبّ هذه المصائب على رؤوسهم هناك».
يقول الإمام عليه السلام: أنا أبكي لخروجي من القبر عريانًا؛ أجل، عريانًا! وذلك لأنّ اللباس الذي يرتديه الإنسان هناك ليس هو هذا الكفن، بل هو كفن آخر يتعيّن عليه اصطحابه معه من هنا؛ فهذا الكفن [الدنيويّ] قد يتلاشى في القبر؛ وحتّى البدن الذي يحضر به الإنسان في صحراء المحشر ليس هو البدن المقبور به، بل هو بدن آخر. فصحيح أنّ الإنسان يأتي إلى المحشر ببدن جسمانيّ وأنّ معاده جسمانيّ، لكنّ هذا البدن ليس هو البدن المادّي الذي وُضع في القبر، حيث يكون الكفن قد تحلّل، بل كلّ شيء سيكون قد اندثر، ويكون الإنسان بحاجة هناك إلى كفن يتمثّل في كفن ملكوتيّ يتناسب مع الجسم الذي تعلّقت به روحه في عالم الحشر؛ وحينئذ، لا يوجد إلاّ حجاب العصمة الإلهيّة الذي يكون من شأنه ستر عيوب الإنسان وأخطائه، وإلاّ، سيُعدّ الإنسان عُريانًا! ولهذا، لدينا في العديد من الروايات أنّ الذي يرتكب المعصية الفلانيّة سيُحشر في القيامة عُريانًا؛۱ وفي هذه الحالة، حتّى إذا ألبس المؤمنون هؤلاء أكفانًا بقيت لمدّة مائة ألف سنة، فإنّهم سيُحشرون هناك عرايا.
«ذَلِيلاً»؛ فأنا أبكي لخروجي من قبري مقرونًا بحالة من الذلّة.
أي: أنّني أرى جميع النفوس قد بذلت مجهودًا، وجاهدت، وقطعت مجموعة من الطرق، ووصلت إلى عدد من الكمالات؛ فهي عزيزة هناك؛ في حين، أرى نفسي ذليلاً ولم أُقدّم أيّ عمل. فالجميع سلكوا الطريق، ووصلوا، بينما خُدعت أنا عن نفسي في الدنيا، ممّا نتج عنه الذلّة في العالم الآخر.
«حَامِلاً ثِقلي عَلَى ظَهري»؛
ولا يوجد من يُعينني، ويحمل عنّي قليلاً من الذنوب، ويضعها على ظهره، ويقول: «أنت تعبان جدًّا أيّها المسكين، وقد أرهقت هذه الذنوب أكتافَك؛ فأعطني قليلاً منها لأحملها عنك!»؛ كلاّ، لأنّهم أيضًا لو وجدوا أحدًا، لسعوا إلى تحميله بعضًا من ذنوبهم؛ لأنّ حمل الذنوب هناك صعب جدًّا، حيث يكون مثقالٌ من هذه الذنوب بحجم جبل أبي قبيس؛ وحينئذ، كيف سيتسنّى للإنسان حملها؟!.
توجد رواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول فيها ما مفاده:
كلّ من يموت، وتكون لديه مظلمة تجاه حقوق أحد من الناس، يقول اللهُ العليّ الأعلى له في يوم القيامة: «رُدّ إليه مظلمته؛ سواءً كانت درهمًا أو دينارًا، وسواءً كانت في العِرض أو المال؛ فكيفما كانت هذه المظلمة، عليك أن تردّها!». هذا، مع أنّه لا وجود هناك للأموال وأمثال ذلك، حتّى يُعطيها إيّاه؛ وحتّى لو تمكّن [فرضًا] من إعطائها إيّاه، فلن توجد فيها أيّة فائدة؛ فلا وجود للمال في ذلك العالم، بل إنّه مختصّ بهذا العالم؛ وحينئذ، سيُؤخذ من حسناته، لتُعطى إلى الذي هضمه حقّه؛ وإذا لم تكن له أيّة حسنة، يُؤخذ من سيّئات صاحبه، وتُضاف إلى سيّئاته هو!۱.
وجاء في رواية أخرى: «كَفّارةُ المـُغتابِ أن تَستَغفِرَ لَهُ»؛٢
فمع أنّ الغيبة بحدّ ذاتها مَظلَمة؛ لكن، لا ينبغي على الإنسان أن يسعى لاسترضاء المستغاب؛ لأنّه إذا ذهب عنده، وقال له: «لقد اغتبتُك»، سينتبه هذا المستغاب، ويتسبّب ذلك في تكدّره وانزعاجه؛ ولهذا، قال النبيّ الأكرم عن مظلمة الغيبة خاصّة: «كفّارةُ مّنِ استَغَبتَهُ أن تَستَغفِرَ لَهُ».
فليس هناك من حاجة لاستحلاله، وإعلامه بأنّك استغبته.
أجل، إذا التفت إلى أنّك اغتبته، يتوجّب عليك حينئذ ـ لإخراج هذه الكدورة من قلبه ـ أن تقول له: «أعتذر إليك»، حيث سيكون الاعتذار هنا مؤثّرًا.٣
فطريقة الجمع بين هاتين الروايتين هي كالآتي: كفّارة المظلمة في باب الغيبة هي الاستغفار؛ في حين أنّ الكفّارة في بقيّة المظالم تكون بالنحو الذي جرت الإشارة إليه.
«أَبكي لِخُروجِي مِن قَبري عُريانًا ذَليلاً حامِلاً ثِقلي عَلى ظَهري؛ أنظُرُ مَرَّةً عَن يَميني» (أي إلى جهة السعادة).
فاليمين كناية عن جهة السعادة؛ وأصله من مادّة اليُمن، بمعنى البركة. ويُقال لأحد يدي الإنسان: يمين؛ لأنّه يُؤدّي بواسطتها كافّة أفعاله ونشاطاته؛ ولهذا، يُقال لها: يد البركة؛ وأمّا يد الإنسان اليُسرى، فهي أضعف؛ ولذلك تُسمّى بهذا الاسم. فأصحاب اليمين هم الذين يكونون في جهة السعادة؛ وأمّا أصحاب الشمال، فهم الأشقياء الذين يتواجدون في جهة الشقاء؛ فالمراد من أصحاب اليمين أهل الجنّة، ومن أصحاب الشمال أهل جهنّم.٤
فأخرجُ من قبري، وأُلقي نظرةً على هذه الجهة، فأرى أصحاب اليمن، وأُلقي نظرة على تلك الجهة، فأرى أصحاب الشمال؛ وأجدهم منشغلين جميعًا بأنفسهم!.
«إِذِ الخَلائِقُ في شَأنٍ غَيرَ شَأني»؛
ولا أحد يُفكّر في الشقاء الذي يحلّ على رأس هذا العبد المسكين، فيأتي لمساعدته قليلاً، بل ولا يخطر ذلك على باله بتاتًا!
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ٨٨ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ٨٩﴾.۱
«فهو يومٌ لا ينفع الإنسانَ هناك مال ولا أولاد، إلاّ من أتى عند الله تعالى بقلب سليم؛ فوحده القلب السليم الذي ينفع الإنسان».
أساس المحبّة الدنيويّة وأساس المحبّة الإلهيّة
فهذا هو حال الدنيا! فجميع هؤلاء الذين يُبدون المحبّة تجاه بعضهم لا تمتلك محبّتهم أيّ أساس؛ فمع أنّهم صاروا عشّاقًا، ويقومون بكثير من الأعمال لأجل العشق؛ لكنّ مآل ذلك كلّه هو الدنيا.
عشــقهایی کــز پــیِ رنگــی بــوَد | *** | عشـق نبـوَد، عاقبـت، ننگـی بـود٢ |
[يقول: إن الحبّ الذي يكون لأجل الزخارف ليس حبًّا، بل سيعقب عارًا وشنارًا]
فإذا كانت الأمّ تُحبّ ابنها، والرجل يُحبّ زوجته، والأخ يُحبّ أخاه، فإنّ ذلك بأجمعه يتّكئ على أساس؛ ألا وهو تلبية المنافع الشخصيّة؛ لكن، إذا تضعضع هذا الأساس، فإنّ هؤلاء المحبوبين سيُصبحون أكره الناس عند المحبّ.
فنجد أنّ الشريك يُحبّ شريكه؛ وحينما يُقرّران فتح المتجر، فإنّه يسعى لمساعدته بشكل كبير، فيُنظّف المرآة، ويكنس المحلّ، ويغسل الزجاج، ويتبادلان السكاكر والحلويات من فم بعضهما! والسبب في ذلك أنّهما صارا شريكان، وبدأ الزبائن يأتون إليهما، فعليهما أن يتعاضدا من أجل إفراغ جيوبهم؛ ولهذا، نجدهما يُحبّان بعضهما، إلى درجة أنّه إذا تطاول شخص ما على أحد الشريكين، فإنّ الآخر سيغضب حقيقة، وتنتفخ أوداجه، ويحمرّ وجهه؛ لكن، نستجير بالله تعالى من اليوم الذي تنفضّ وتنحلّ فيه هذه الشركة، ويحصل خلاف بين الشريكين، ويُسيء أحدهما الظنّ بالآخر، ولا يعودان يعملان مع بعضهما اعتمادًا على ذلك الأساس؛ ففي ذلك اليوم، سيُشيح الأوّل بوجهه عن الثاني، ويُعرض الثاني أيضًا بوجهه عن الأوّل؛ ويتجنّب الأوّل السلام على الثاني، ويحترز الثاني أيضًا عن السلام على الأوّل؛ ثمّ يأتي أحدهما ويشتكي شريكه، وينسب إليه كلّ سيّئة في هذه الدنيا؛ وهذا عجيب جدًّا، حيث نجده يقول: «يا حضرة السيّد، إنّ لديّ على ما أقول هذا الدليل، وهذا الدليل، وهذا الدليل، و...؛ فعليك أن تُصغي إلى كلامي؛ لأنّه صحيح بأجمعه!»؛ يا أيّها السيّد، إنّ صديقك الذي يكون شريكًا لك قال عنك هذا الكلام بعينه؛ فقد قال أيضًا: «إنّك تتّصف بكافّة العيوب، ولا توجد مثلبة خلقها الله تعالى، إلاّ وهي موجودة فيك، وكذا، وكذا، وكذا». فلأنّ أساس [المصلحة القائمة بينهما] قد تزلزل، فإنّ هذه المحبّة قد تحوّلت إلى عداوة.
ونرى أيضًا أنّ الزوجين يُحبّان بعضهما بسبب الغريزة التي أُودعت فيهما؛ وبناءً على هذا الأساس، فإنّهما يجذبان بعضهما؛ لكن، حينما يهتزّ هذا الأساس، فإنّ الزوج سيسعى إلى وضع زوجته في منجنيق، ويُلقي بها بعيدًا! كما أنّ الزوجة ستقول: «أرجو أن تتهدّم إن شاء الله تعالى جبال العالم بأسرها على رأس هذا الزوج الطالح؛ إذ لا يوجد من هو أسوء وأقذر وألأم منه!»؛ فتأتي هذه المرأة فجأة، وتبدأ بادّعاء هكذا أمور!.
يا ليت الرفقاء كانوا موجودين معنا بأحد أسفارنا إلى مكّة؛ فحينما ذهبنا إلى منى، ورمينا الجمرات، جاء أحد أفراد قافلتنا ـ وكان رجلاً جيّدًا جدًّا وطيّب القلب أيضًا ـ ، وقال:
لقد ذهبنا يا سيّدي، ورمينا حجارتنا؛ لكنّ المشهد كان عجيبًا جدًّا، وكانت الجموع بالنحو الفلانيّ، و... .
ثمّ قال:
كان البعض يرمي بنعله بدلاً عن الحجارة، ويلعن الشيطان؛ وكان أحدهم يرمي بعصاه، وآخر بفردة حذائه؛ فجاءت امرأة، ورفعت فردة حذائها، وأرادت أن ترمي بها ذلك العمود، فقلت لها: «لا فائدة يا سيّدتي من فردة الحذاء، وعليك أن ترمي بالحجارة!»، قالت: «لقد رميت حجارتي، لكنّي أريد الآن رمي هذا بدلاً عن زوجي!»؛ وحينئذ، رفعت فردة حذائها، وبدأت في الرمي، وهي تقول: «أيّها اللعين! أنت الذي خدعت زوجي!»؛ فكانت تقول للشيطان: «أيّها اللعين! أنت الذي خدعت زوجي!».
هذا، مع أنّه لو سُئلت هذه المرأة في ليلة العرس عن هذا الزوج، لقالت: «إنّه عبارة عن روح ملكوتيّة! فلا يجوز أن نطلق عليه اسم الإنسان بتاتًا! فهو عبارة عن روح، وهو روح الله، وتجلٍّ لحضرة عيسى بن مريم في هذه الدنيا!»؛ لكنّها ماذا تقول عنه الآن؟ تقول: «هو في قعر جهنّم!»؛ والسبب في ذلك كلّه أنّ الأساس تزلزل.
﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾؛۱ «فهناك، تتبدّل محبّة الذين يُحبّون بعضهم إلى عداوة، اللهمّ إلاّ بالنسبة للمتقّين الذين يدور أساس محبّتهم على محور التقوى الإلهيّة؛ فهؤلاء يُحبّون بعضهم اعتمادًا على المعنى».
وفي هذه الحالة، قد يكون الزوجان بهذا النحو، وقد يكون الأخوان أيضًا بهذا النحو؛ فيُحبّان بعضهما في سبيل الله تعالى؛ كما قد يكون الأب وابنه بهذا الشكل، وكذلك الشأن بالنسبة للرفقة التي تجمع الإنسان برفقائه وإخوانه الدينيّين؛ وحينئذ، سيظلّ هذا الأساس قائمًا؛ لأنّ أساس هذه المحبّة معنويّ وملكوتيّ؛ وهو باقٍ هناك؛ وأمّا بقيّة الأساسات التي تتكّئ عليها المحبّة، فستتزلزل بأجمعها!٢.
فلا تُصغوا إلى كلّ الكلمات التي تُبرز فيها المحبّةُ تجاهكم! ولا تلتفتوا إلى التسليمات والصلوات [على محمّد وآل محمد] التي تُقرأ لأجلكم! فذلك هراء بأجمعه!.
وإذا رأيتَ أنّك دُعيت يومًا إلى مجلس، وقيل لك: «يا سيّدي، عليك أن تأتي حتمًا لحضور مائدتنا؛ إذ لا فائدة بتاتًا في المجلس الفلانيّ من دون وجود نور جمالك المبارك»، فاعلم أنّ ذلك باطل بأجمعه! لأنّهم يُريدون أن يأتون بك إلى هناك، ثمّ يتلاعبون بك، ويضحكون على ذقنك، ويُسيئون الاستفادة من وجودك، لكي يتمكّنوا من تحقيق مصالحهم الوهميّة والباطلة؛ هذا، وحسب، ومن دون يوجد لديهم أيّ هدف آخر من وراء ذلك!.
فإذا زاحمتَهم يومًا ما في أمورهم المادّية ومنافعهم الشخصيّة، فما الذي سيفعلونه؟! سيقولون: «لا يوجد في هذا العالم من يكون أسوأ حالاً منك!»؛ فيختلقون ويصوغون لك مئات العيوب، ويُنكرون جميع محاسنك.
فرجل الحقّ هو الذي يقول:
خلــق را تقلیدشــان بــر بــاد داد | *** | ای دو صد لعنت بر ایـن تقلیـد بـاد۱ |
[يقول: لقد جعل التقليدُ الناسَ في مهبّ الرياح، فألف لعنةٍ على هذا التقليد]
وهو ذاك الذي يترك قُبلةً٢ على الأهواء والنزوات وإعظام الناس وتنقيصهم ومدحهم وتمجيدهم، ثمّ يقول: «هنيئًا لكم بكلّ ذلك!»، لكي يَدَعُوُه يتنفّس قليلاً؛ وحتّى إذا لم يدعوه، فإنّه لا يهتمّ لأمرهم!.
﴿لِكُلِّ ٱمۡرِئٍ مِّنۡهُمۡ يَوۡمَئِذٍ شَأۡنٌ يُغۡنِيهِ﴾؛٣ «فكلّ واحد هناك منشغل ببلاء معيّن، وله شأن مختصّ به يُغنيه عن الاهتمام بشأن آخر».
فلا يأتي على باله بتاتًا الاهتمام بشأن أحد آخر، ومتابعة أفعال غيره، بل إنّ كلّ واحد هناك عاكف على حسابه الخاصّ.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.