المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء أبي حمزة
التاريخ 1398/09/08
التوضيح
هوالعليم
حقيقة الستر الإلهيّ لعبده العاصي
شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ - الجلسة السادسة
محاضرة القاها
سماحة العلامة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذ بالله مِن الشّيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصَلَّى اللَهُ على محمّدٍ وآلِهِ الطاهِرينَ
ولَعنةُ اللَهِ على أعدائِهِم أجمَعينَ
العلاقة بين الأمل بالله تعالى وغفران الذنوب
"عَظُمَ يا سَيِّدي أمَلي وساءَ عَمَلي، فَأَعطِني مِن عَفوِكَ بِمِقدارِ أمَلي، ولا تُؤاخِذني بأَسوَأ عَمَلي؛ فَإِنَّ كَرَمَكَ يَجِلُّ عَن مُجازاةِ المـُذنِبينَ، وحِلمَكَ يَكبُرُ عَن مُكافاةِ المـُقَصِّرينَ"؛
يقول عليه السلام: حينما توجّهت إليك الآن، فقد توجّهت إليك وخطاياي جسيمة، وحيائي وتقصيري تجاهك كبير جدًّا؛ فهذا هو الذي أراه صدر منّي أنا؛ وأمّا الأمر المكنون في داخلي تجاهك، فهو الأمل الكبير، والرجاء العظيم جدًّا؛ فهذا هو الذي أشعره به في نفسي تجاه ساحة مقامك المقدّس؛ فطبقًا للمعرفة التي حصلت لي بك، فإنّك جليل وكريم ورحيم وعظيم؛ ولهذا، فقد عقدتُ أملي عليك، وعلّقت قلبي بك؛ وبالتالي، فقد صار رجائي كبيرًا جدًّا؛ لأنّ هذا الرجاء يتمثّل في لقائك والوصول إليك، والفناء في ذاتك المقدّسة؛ وهذا أمر مهمّ جدًّا!
فهذه المسألة المهمّة مكنونةٌ في نفسي؛ غاية الأمر أنّها نابعة منك أنت؛ إذ لأنّك عظيم، فإنّ إشراق هذه العظمة على قلبي فرض عليّ أن أجعل الوصول إلى مقام لقائك أملي وهدفي ومرادي؛ وأمّا الذي أراه من نفسي أنا؛ فهو أنّني لا أملك أيّ شيء، سوى العمل السيّء؛ ولهذا، فإنّني أسألك أن تعفو عنّي بمقدار الأمل العظيم الذي أتوفّر عليه.
وحينئذ، فإنّ جميع معاصيّ وسيّئاتي وذنوبي ستُمحى وتُذرى؛ لأنّ أملي عظيم وقويّ؛ ومتى ما تحقّق هذا الأمل، فلن يبقى هناك ـ في ذلك المقام من التحقّق ـ معنى لأيّ ذنب أو معصية؛ وذلك لأنّ سوء الظنّ بالله من المعاصي الكبيرة؛ وبالعكس، فإنّ حُسن الظنّ به تعالى أعظم باب للرحمة والسعادة بالنسبة للإنسان؛۱ فكما أنّه إذا كان لأحد سوء ظنّ بالله، فإنّ ذلك يستجلب المعاصي بأجمعها، فكذلك إذا كان له حُسن ظنّ به تعالى، فإنّ جميع ذنوبه ستُمحى.
فالمعصية هي السيّئة التي يرتكبها الإنسان في كلّ مرتبة من المراتب وكلّ منزل من المنازل؛ فإذا تمكّن الإنسان من عبور أحد هذه المراحل، والوصول إلى مقام أعلى، واجتازَ درجة من درجات الأنانيّة والعُجب، وبلغ مرحلة معيّنة من مقامات التوحيد، فإنّ كافّة المعاصي التي ارتكبها في المراحل السابقة ستُمحى وتفنى وتضمحّل بصورة تلقائيّة؛ لأنّ قدرة مقام التوحيد وعظمته لا تسمحان في تلك الدرجة من التوحيد ببقاء المعاصي المرتكبة في الدرجات الأدنى.٢
ومن هنا، نجد الإمام عليه السلام يسأل ربّه، ويقول: بما أنّ أملي حسنٌ جدًّا وعظيم، فإنّني أسألك أن تتفضّل عليّ بعفوك بمقدار كِبر وعظمة أملي؛ والذي إذا ما تحقّق، فإنّك ستغفر جميع ذنوبي وتمحوها؛ ولهذا السبب، حقّق أملي هذا، لكي تُمحى كافّة معاصيّ بتبع ذلك.
«ولا تُؤاخذني بأسوأ أعمالي»؛ لماذا؟ «فإنَّ كَرَمَكَ يَجِلُّ عَن مُجازاةِ المـُذنبينَ، وحِلمَكَ يَكبُرُ عَن مـُكافاةِ المـُقَصِّرينَ».
فصحيح أنّنا عصاة ومقصّرون؛ لكنّ معاصينا هذه لم تكن عن تجرٍّ وعناد وعداوة وإنكارٍ لك، بل كانت عن جهل؛ كما أنّ تقصيرنا لم يكن من باب المحاربة والمبارزة لك، بل كان بسبب تسويل النفس، والاغترار بالدنيا، والتوجّه للأمور الجزئيّة والمتدنّية والفانية التي أبعدتنا عن ساحة قربك المقدّس، وعن التوجّه لعالم المجرّدات والكلّيات؛ وفي مقابل كوننا مذنبين ومقصّرين بسبب هذا الجهل والغفلة، فإنّ كرمك وفير، وحلمك كبير جدًّا؛ ولهذا، فإنّ:
كرمك أعظم من أن تلجأ إلى مجازاة بعض المذنبين (والذنب يعني المعصية؛ كما أنّ المذنب يعني العاصي) الذين ارتكبوا فعلهم ذاك عن غفلة، وكرمك أجلّ من ذلك؛ كما أنّ حلمك أكبر من أن تقوم بمكافأة المـُقصّرين.
فالذين قصّروا، لكنّهم لم يُحاربوك ولم يُبارزوك عن عناد وعداوة، قد وقعوا في جانب التفريط، فبدرت منهم معصية بسبب التوجّه إلى عالم المادّة والطبع، وغلبة الغرائز المادّية؛ لكن، شتّان بين حلمك، وبين ذلك؛ إذ لا يُمكن مقارنته بتاتًا بهذه التقصيرات؛ لأنّ ذلك الحلم العظيم سيُفنيها بأجمعها!
«وأنا يا سيّدي عائذٌ بِفَضلِكَ هاربٌ مِنكَ إليكَ».
يا إلهي، وسيّدي، لقد التجأتُ إلى فضلك، وهربتُ وفررتُ منك إليك، أي أنّني لا أجد في عالم الوجود إلهًا أهربُ منه، وأتوّجه إليك، أو أهربُ منك، وأتوجّه إليه باعتباره إلهًا ومبدأ أصيلاً؛ لأنّ وجودك وسلطانك مهيمنان على كلّ مكان؛ وبالتالي، فحينما أفرّ من الذنوب والمعاصي والجهل والغفلة، فإنّني أفرّ في الحقيقة منك أنت، حيث إنّ الموضع الذي استولى فيه عليّ الجهلُ والغفلة والنفس الأمّارة، فعصيتُك فيه، غيرُ خارجٍ عن حكومتك وسلطانك؛ ففي نفس المكان الذي استحوذت فيه الغفلةُ عليّ، كان هناك وجودُك، وعلمُك، وقدرتك، وكافّة شؤونك.
وعندما قارفتُ ذنبًا في موضع الخلوة، فإنّ هذا الموضع كان خلوةً بالنسبة إليّ أنا، وأمّا بالنسبة إليك، فلم يكن خلوةً؛ لأنّ عالم الوجود بأسره على مرأى ومنظر منك، وهو واقع أمامك؛ ولهذا، حينما عصيتُك، فإنّ ذلك تحقّق في محضرك؛ وحينئذ، متى ما فررت من المعاصي، فإنّني أفرّ [في الحقيقة] منك، وأتوجّه إليك؛ أي أنّني أهرب منك إليك.
عاقبة كلّ من حسن وسوء الظنّ بالله تعالى
«مُتَنجِّزٌ ما وَعَدتَ مِن الصفحِ عَمَّن أحسَنَ بِكَ ظَنًّا»، حيث يُراد من الصفح: العفو والتغاضي؛ فأنتَ وعدت أن تتغاضى عن الذين يُحسنون بك الظنّ، وتغضّ الطرف عن ذنوبهم، وتعفو عنهم؛ وأنّا متنجّزٌ بالنسبة لهذا الأمر.
أي أنّني راسخ وثابت على هذا الكلام، ولن أتزعزع عنه أبدًا، وأنا متشبّثٌ به! فالتنجيز يقع في مقابل التعليق؛ فالمعلَّق هو الشيء المهزوز في الفضاء الذي لا يتّكئ على موضع ثابت ولا يستند إليه؛ نظير الشيء الذي يُعلّقه الإنسان [على الحائط مثلاً]، حيث نجده يتحرّك حينما يُلمس أو تهبّ عليه الريح؛ فهذا الذي يُقال له: المعلّق؛ بخلاف الشيء الذي يكون قائمًا على الأرض، فإنّه يُسمّى بالثابت والمنجَّز؛ أي الراسخ والمتين.۱ «مُتَنجِّزٌ ما وَعَدتَ»؛ أي أنّني ثَبَتُّ على ما وعدتَ به، وتشبّثُ بهذا الكلام؛ فأنت وعدتَ بأن تعفو عن الذين أحسنوا الظنّ بك، وأنا أخذت بهذا الكلام؛ مع العلم أنّني أيضًا أحسنتُ ظنّي بك؛ فأنا أخذت بهذا الكلام، ولن أتخلّى عنه؛ وأنت وعدتَ، وأنا تشبّثتُ بهذا الوعد.
ولدينا آية كريمة في سورة فصّلت جاء فيها أنّه: حينما يرد الناس على صحراء المحشر، فإنّ الأيدي والأرجل والجوارح والجلود والأعين تشهد ـ في مقام العجز ـ على الأعمال التي ارتكبها الإنسان:
﴿حَتَّىٰ إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.٢
أي: سيأتي يوم، وتشهد الأيدي والأرجل والجلود والأعين و... على الأعمال التي ارتكبها الإنسان في دار الدنيا
﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾.٣
وآنذاك، سيلتفت الإنسان إلى يده ورجله وعينه وجلده، ويقول: كيف لكم أن تشهدوا ضدّي وأنتم منّي؟! يا يدي، ويا عيني، ويا جلدي؛ لماذا تشهدون ضدّي؟! فتُجيبه هذه الأعضاء والجوارح: إنّ الله تعالى الذي أنطق كلّ شيء هو من أنطقنا!.
ففي ذلك العالم، تنطق كافّة الأشياء، فتُظهر السرائرَ والخفيّات بلسانٍ فصيح.
وبعد ذلك، يأتي الخطاب:
﴿وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ، وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.۱
فيجئ الخطاب من ملائكة الله تعالى إلى الإنسان: إنّك لا تملك القدرة على أمرِ اليد والرجل والعين والجلد بأن: اكتمي عليّ ذنوبي! فهكذا قدرة لا تليق بك أنت، حتّى تتمكّن هنا من إخفاء هذه الذنوب وراء الستار والغطاء؛ غاية الأمر أنّك كنت تظنّ في دار الدنيا أنّ الله تعالى غير مطّلع على العديد من الأفعال التي قمتَ وتقوم بها؛ وقد أرداك هذا الظنّ بالله تعالى، وأهبطك إلى مقام ردئ (أي دنيّ)، وأهلكك، ﴿فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾؛ فتبيّن في الأخير أنّك من الخاسرين.
ففي هذه الآية، مع أنّ الملائكةَ عدّتِ الإنسانَ من الخاسرين بناءً على شهادة الجوارح والأعين والآذان والجلود عليه بالمعصية، إلاّ أنّها لم تقل في خطابها له: بما أنّ [هذه الجوارح] شهدت بالمعصية، وقد عصيتَ بواسطة هذه العين والأذن وهذا الجلد، فأنت الآن من الخاسرين، بل قالت: إنّ شهادة العين والأذن والجلد والجوارح تدلّ على أنّك كنت تظنّ أنّ الله تعالى غير مطّلع على العديد من أفعالك وغير عالم بها؛ وهذا الظنّ هو الذي أهلكك!.
وعليه، فإنّ المعاصي تُؤدّي إلى سوء الظنّ بالله تعالى؛ وسوء الظنّ هذا هو الذي يُلقي الإنسان في أتون النار؛ ومن هنا، إذا كان سوء الظنّ بالله يكبّ الإنسان في جهنّم، فإنّ ضدّه ـ أي حسن الظنّ به تعالى ـ يُنجيه منها؛ وبالتالي، إن امتلك هذا الإنسان لحسن الظنّ بربّه، فإنّ حسن الظنّ بذاته سيُفضي إلى تكفير ذنوبه وغفران سيّئاته.
وبمقتضى هذه القاعدة بعينها، وعدَ اللهُ تعالى، وكتب على نفسه أن يعفو عن الذين يُحسنون الظنّ به.
ولهذا، نجد الإمام عليه السلام يُحسن الاستفادة من الفقرة التالية: «مُتَنجِّزٌ ما وَعَدتَ مِن الصفحِ عَمَّن أحسَنَ بِكَ ظَنًّا»؛ أي أنّني متشبّثٌ بهذه المسألة؛ لكن، أيّة مسألة؟ إنّها عبارة عن الوعد الذي قطعته بأن تغضّ الطرف عن الذين أحسنوا الظنّ بك، وتتجاوز عن ذنوبهم.
«وما أنا يا ربِّ وما خَطَري؟!»
"ما" هنا ليست نافية، بل استفهامية؛ فمع أنّه كان عليه القول: «من أنا؟!»، غير أنّه يعدّ نفسه في غاية الصغر، إلى درجة أنّه لا يُريد في مقام التذلّل أن يُطلق على نفسه اسم الإنسان العاقل، فيُعبّر عنها بـ "ما" الموصولة التي تُستعمل في غير ذوي العقول،۱ ويقول: ما أنا يا ربّ؟
وما خَطَري؟! فما هي عظمتي؟! وأيّ شيء تكون رفعتي؟! وأيّة أهمّية أحظى بها؟! وماذا أكون؟!
«هَبْني بِفَضلِكَ»؛
فلا تعفو عنّي بي أنا، بل اعفو عنّي بفضلك!
أي: ليس بأن تنظر إليّ، فترى فيّ فضيلة أو كمالاً، فتغفر لي بسبب ذلك؛ كلاّ! فأنا لا شيء، بل وبلغت مستوى من اللاشيئيّة، إلى درجة أنّني واقع في مرتبة أدنى من مرتبة الإنسانيّة، بحيث لا أُعدّ من ذوي العقول، لكي تأتي، وتغفر لي بعنوان أنّك غفرتَ ذنبًا لإنسانٍ؛ وذلك لأنّه عليه السلام يقول: ما أنا؟ «هَبني بِفَضلِكَ!».
عظمة الستر الإلهيّ على الإنسان العاصي
«وَتَصّدَّق (ومُنَّ) عليَّ بِعَفوِكَ» (ومغفرتك)
«أي ربِّ جَلِّلني بِسِترِكَ، واعفُ عن توبيخي بِكَرمِ وَجهِكَ»؛
جَلِّلني تعني: ألبسني؛ إذ يُطلق الجُلُّ على الثوب الذي يلبسه الإنسان، بحيث لا يعود بدنه بارزًا؛ نظير الرداء والعباءة؛ فيُقال: جَلَّلهُ بالعباءة والرداءِ؛ أي: ألبسه إيّاهما؛ كما يُطلق أيضًا في اللغة الفارسيّة على الشيء الذي يوضع على الحمار وأمثاله؛ وذلك باعتبار إلباسه إيّاه؛ فالمراد من جَلِّلني: ألبِسني! لكن، بماذا؟ بسترك، وبالغطاء الذي تُلقيه عليّ بذاتك من ذاتك، فتستر عليّ به قبائحي.
واعفُ عن توبيخي وتأنيبي؛ لكن بماذا؟ ليس بحسناتي، بل «بِكَرمِ وَجهِكَ»؛ أي بكرم وجهك ورفعة شأنه، حيث إنّ هذا الوجه رفيع إلى درجة أنّه لا يتنزّل أبدًا، فيُواجهني بسيّئاتي، ويقول: لقد عصيتَ، ويلومني، ويوبّخني.
«فَلَوِ اطَّلَعَ اليَوْمَ عَلى ذَنْبِي غَيْرُكَ ما فَعَلْتُهُ، وَلَوْ خِفْتُ تَعْجِيلَ العُقُوبَةِ لاجْتَنَبْتُهُ، لا لأَنَّكَ أَهْوَنُ النَّاظِرِينَ [إليَّ] وَأَخَفُّ المـُطَّلِعِينَ [عَليَّ]، بَلْ لأنَّكَ يا رَبِّ خَيْرُ السَّاتِرِينَ، وَأَحْكَمُ الحاكِمِينَ وَأَكْرَمُ الاَكْرَمِينَ، سَتَّارُ العُيُوبِ، غَفَّارُ الذُّنُوبِ، عَلّامُ الغُيُوبِ، تَسْتُرُ الذَّنْبَ بِكَرَمِكَ، وَتُؤَخِّرُ العُقُوبَةَ بِحِلْمِكَ».
يا إلهي، لو كان غيرك سيطّلع على ذنبي، لما كنت مستعدًّا لارتكابه؛ ولو كنتُ أخاف أن تُعاقبني وتجازيني فورًا على معصيتي، لاجتنبتُها؛ لكنّني اقترفتُ ذلك الذنب لعلمي بأنّك أنت الذي تطّلع عليّ لا غيرُك، وارتكبتُ هذه المعصية لاطمئناني إلى أنّك لن تُعجّلني بالعقوبة، وليس لأنّني أعلم أنّك مطّلع عليّ فنزّلتُ من مقامك، وليس لأنّك أخسُّ الناظرين إليّ، فقلتُ: فلأعصِ هذا الإله، وحتّى لو اطّلع عليّ، فلا يهمّ؛ كلاّ! ليس لهذا السبب!
كما أنّ سبب عصياني لا يرجع إلى أنّك لا تُعجّل عقوبتي، ولا تقدر على تعجيل هذه العقوبة، ولا إلى أنّ قدرتك أقلّ من كافّة المطّلعين على معصيتي؛ فتكون استطاعتك على عذابي وعقابي أقلّ؛ لا، ليس هذا هو السبب، «بَلْ لأنَّكَ يا رَبِّ خَيْرُ السَّاتِرِينَ، وَأَحْكَمُ الحاكِمِينَ»؛ أي لأنّني أعلم أنّك أفضل من كافّة الساترين والمـُخفين للذنوب.
لقد عصيتُ، غير أنّك تملك دواعٍ كثيرة لستر معصيتي.
حينما يرتكب الإنسان ذنبًا، فإنّ الناس يُحبّون إفشاءه؛ والأنكى من ذلك، أنّنا نجدهم يُلبسون العمل العادي لباسَ المعصية والقُبح، ويسعون لإذاعته؛ وفضلاً عن الأعمال العادية، فإنّهم يتلقّون الحسنات والأعمال الصالحة، ويعمدون إلى تأويلها، لينشروها بعد ذلك على شكل معصية وسيّئة؛ غير أنّك لا تلجأ إلى هذا الفعل؛ فعلاوةً على أنّك لا تُلبس أعمالَنا الحسنة رداءَ المعصية، فإنّك لا تُذيع معاصينا الحقيقيّة؛ مع أنّنا ارتكبناها في حقّك، لا في حقّ غيرك؛ وحتّى لو أردت نشرها، فبين من ستنشرها؟ ستنشرها بين المخلوقات! إلاّ أنّ هذه المخلوقات مملوكة بأجمعها لك، وتعيش كلّها في بلادك؛ وبالتالي، فلن تكون قد نشرتها بين الغرباء؛ لكن، مع ذلك، فإنّك لا تقوم بهذا العمل!
والأرقى من ذلك كلّه أنّك تتوفّر على داعٍ لستر ذنوب الإنسان، لكي لا يطّلع عليها أحد، ولا يعلم بها نظراؤه وأقرانه؛ بل إذا عمد أحدٌ إلى إفشاء ذنوب الإنسان، فإنّك تُدخله جهنّم، وتضربه بالسوط على إذاعة معاصي هذا الإنسان، مع أنّها صدرت منه بكلّ تأكيد؛ ولهذا، فإنّك إله ذو ستر عظيم، وسترك هذا لطيف جدًّا ومحبوب.
فأنت «خَيرُ الساترينَ» إلى هذا الحدّ؛ وقد رأيت أنّك بهذا النحو، فعصيتُكَ؛ وإلاّ، لو علمتُ أنّك لست خير الساترين، وأنّك مثل الناس الذين يُفشون ذنوب الآخرين، لما عصيتُك أبدًا؛ فأنت مسكين ـ أستغفر الله ـ إلى هذه الدرجة، وقد بلغَت "طيبتُك" حدًّا، بحيث أسأنا الاستفادة منها، فعصيناك.
وهذا نظير ما حصل مع أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة رسول الله؛ فقد كان مؤمنًا وموحّدًا ولا يتعدّى الحدود، إلى درجة أنّ الآخرين أساؤوا الاستفادة من هذا العدل والإيمان والتوحيد، فغصبوا حقّه، وقالوا: بما أنّ عليًّا سيعمل بوصيّة النبيّ، ولن يُهرق الدماء بعد وفاته صلّى الله عليه وآله وسلّم، فلنفعل كلّ ما يحلو لنا!
وهذا ليس بسبب أنّ عليًّا عليه السلام لم يكن قادرًا على استرجاع حقّه، بل لأنّه كان شهمًا. خيرُ الحافظين، خيرُ الساترين؛ فكانت الأفعال التي قام بها هؤلاء شأنها شأن بعوضة حطّت في مزبلة؛ فحينما يمرّ من هناك شخص عظيمٌ وشهمٌ، فإنّه لا يرغب بتاتًا في رؤية تلك المناظر؛ وكذلك الذين يتعاركون على السلطة الدنيويّة، فإنّ حكمَهم حكمُ كلابٍ تتهارش على جيفة.۱
ومن هنا، فقد عصيتُك، لأنّني رأيتُكَ خيرَ الساترين وأحكمَ الحاكمين، وفي بعض النسخ: «وأحلَم الأحلَمين»،٢ حيث يُراد من الحليم هنا الصبور، وليس ذلك الطعام الخاصّ،٣ بحيث يكون رطبًا، والزيت والسكر المـُستخدمان فيه جيّدين، ولا يعلق في الحلق أبدًا! كلاّ يا عزيزي، بل الحليم يعني الصبور؛ أي أنّك أصبر من كافّة الصابرين.
«وَأَكرمُ الأكرَمين»؛
فما إن نَقُل: إلهي، اعف عنّا، حتّى تقول: حسنًا!؛ فلا تحتاج لأن تُعاتبنا دائمًا، وتُضايقنا، حيث تجدنا نرتكب معصيةً في حقّ الساحة الإلهيّة المقدّسة، ونقترف خطأً تجاه مقام عظمته التي أمسكت بقبضتها السموات والأرض، فلا يُؤاخذنا على هذا الخطأ؛ فأسأنا الاستفادة من هذا الأمر، وارتكبنا الذنوب.
«سَتّارُ العُيوبِ»؛
ولم يقل هنا: ساتر العيوب؛ فستّار على وزن فعّال؛ أي أنّك تستر كثيرًا؛ كما أنّ العيوب جمع محلّى بالألف واللام، وهو يدلّ على العموم؛ فيُصبح المعنى: إنّك تستر جيّدًا كافّة العيوب.
«غفّارَ الذُنوبِ»؛ تغفر الذنوب جيّدًا
«علاّمُ الغُيوبِ»؛ تعلم جيّدًا بالأمور الغيبيّة والمخفيّة
«تَستُرُ الذنبَ بِكَرمِك وَتَؤَخّرُ العُقوبةَ بِحِلمِكَ»؛ ترى المعصية، لكنّك تسترها بكرمك، وتضع عليها غطاء؛ كما أنّك قادر على العقوبة، غير أنّك تُؤخّرها دائمًا بحلمك وصبرك.
فأنت تؤخّر، وتستمرّ في التأخير، إلى أن يصدر فعل من هذا العبد المؤمن، فتُلغي العقوبة نهائيًّا؛ فأنت تؤخّر العقاب على الدوام، ولا تُعجّله!
أهمّية مزج العلم بالحلم وصعوبته
«فَلَكَ الحَمدُ على حِلمِكَ بَعدَ عِلمِكَ وعلَى عَفوِكَ بعدَ قُدرتِكَ».
فإن كان أحد لا يمتلك علمًا، لكنّه حليم، فلن يكون ذلك أمرًا ذا بال؛ وأمّا إن كان العالم حليمًا، فهذا مهمّ جدًّا؛ لأنّ العلم قاطعٌ؛ فإذا صدر في مقابله خطأٌ ما من أيّ أحد، فإنّ سيف العلم سيقطعه، وينقضه؛ فما إن يصدر هذا الخطأ، حتّى يقول العلم: هذا خطأ، تنحّ جانبًا!
ألم تروا الأطبّاء في السابق، ورؤساء الأطبّاء الذين كان لديهم ـ حقيقةً ـ علمٌ ودراية بمهنتهم، حيث لم يكن الناس يتجرّؤون على الحديث معهم؛ فما إن يفتح أحدهم فمه بالكلام، حتّى يرمي الطبيبُ القلمَ والدواة خارجًا، ويقول له: اصمت! سأصف لك الدواء، فاكتبه، واذهب لإحضاره!؛ وذلك لأنّ هذا المريض تكون له رغبة في أن يشكو إليه همومه، ويقول له: يا سيّدي، حينما تناولت ذلك الدواء، حصل لي انتفاخ في داخل أذني، وصار في عيني كذا، وبدأت تصدر أصوات من بطني!؛ في حين أنّ ذلك الطبيب يكون عالمـًا بكلّ هذه الأمور، ولا يريد إضاعة وقته فيها؛ غير أنّ المريض يظنّ أنّه لا يعلم بها؛ ولهذا، فإنّه يسعى لكي يشرح له جميع خصائص ذلك الدواء وتأثيراته؛ لكن، بما أنّ علم الطبيب قاطع، فإنّه يُلقمه حجرًا، ويقول له: اصمت!؛ ومن هنا، نجد أنّ الأطبّاء المتقدّمين كانوا بأجمعهم ـ كما قلتُ ـ سيّئي الأخلاق، ولم يكونوا حلماء، بل كان تحمّلهم قليلاً. وفي هذه الحالة، إذا كنّا نرى الأطبّاء في هذا العصر يتّصفون بحلم كبير، ويتعاملون مع الناس مثل "الحليم"۱، فلأنّ أيديهم فارغة، ولا يملكون شيئًا [من العلم]؛ فيتوسّلون بهذه الابتسامة وأمثالها لخداع الناس؛ وذلك نظير التاجر المفلس الذي أخذت البنوكُ كلّ أمواله، فصارت حقيبتُه خالية، وصندوقه فارغًا؛ ففي هذه الحالة، عندما يأتيه المشترون، نجده يتوسّل بالابتسامة والترحيب ومثل ذلك لكي يُفرغ جيوبهم؛ وباختصار، فإنّ هؤلاء يعملون على إفراغ جيوب الناس عن طريق إبداء حُسن الخلق، والتبسّم؛ أجل، هذا يصدق على البعض منهم، لا كلّهم؛ غير أنّ هذا البعض استوعب الأغلبيّة، أو بالأحرى، لم يبق إلاّ قليل، حتّى يستوعبها.
وعليه، من المستبعد جدًّا أن يكون العالِم حليمًا؛ ولهذا، لدينا في العديد من الروايات أنّ العالم هو الذي يمزج علمه بحِلمه؛٢ أي يصير علمُه حلمَه، وحلمُه علمَه.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في صفات المتّقين:
«يَمزُجُ العلمَ بِالحلمِ»؛٣ «أي أنّ المتّقين هم الذين يمزجون (وليس يخلطون) العلمَ بالحلم».
فتارةً، تجمعون بين الحمّص والفاصوليا، فيُقال لذلك: خلطٌ، حيث يكون بوسعكم بعد ذلك الفصلُ بينهما؛ وتارةً أخرى، تجمعون بين الخلّ والعسل، فتحصلون على شراب السكنجبين؛ وهنا لا يُمكنكم أن تفصلوا بينهما، ويُقال لهذا التركيب: تركيب مزجيٌّ؛ أي: حينما ينفذ الخلّ في باطن العسل، وينفذ العسل في باطن الخلّ، ويصيران شيئًا واحدًا، فإنّه يُطلق على هذا التركيب اسم التركيب المزجيّ.
فالعالم والمتّقي هو الذي يمزج العلم بالحلم، فيضع علمه مع حلمه في المهراس، ويدكّهما معًا، حتّى يصيرا شيئًا واحدًا؛ غير أنّ هذا الأمر صعب جدًّا، وأنتم غير مطّلعين على مقدار صعوبته؛ فأن يُدكّ جبل أبو قبيس على رأس أحدهم أهون عليه من أن يمزج العلم بالحلم! هل التفتّم؟!
«فَلَكَ الحَمدُ عَلى حِلمِكَ بعدَ عِلمِكَ»؛ أي أنّ الحمد مختصّ بك أنت على أنّه: مع علمِك بكافّة نقاط وزوايا الضعف في نيّاتنا. ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾،۱ واطّلاعِك المباشر على أعيننا الخائنة التي تُلقي النظر خُفيةً على امرأة أجنبيّة من دون أن يعلم أحدٌ بذلك، بحيث تكون مراقبتُك ودقّتك أكبر إلى هذه الدرجة؛ لكن، مع ذلك، فإنّ حلمك قد حلّ، واستوعب هذا العلم بأجمعه؛ فأنت عالم وحليم!
بيانٌ لحقيقة العفو
«وعَلَى عَفوِكَ بعدَ قُدرتِكَ»؛ فقد يلجأ الذي لا يتوفّر على قدرةٍ إلى العفو؛ كأن يأتي مثلاً قائدُ الشرطة، ويصفع أحدهم في الشارع على وجهه، فيقول هذا الأخير: يا سيّدي، لقد عفوتُ عنكَ؛ حسنًا، فلو أنّك لم تعف عنه، فما الذي كان بوسعك أن تفعله؟! كنتَ ستتلقّى صفعةً أخرى! فلكيلا يُصفع ثانيةً، توجّب عليه القول: عفوتُ عنكَ؛ وهذا ليس عفوًا، بل قلّة حيلة، ووجع قلب! فالعفو يصحّ من الذي يكون قادرًا عليه؛ أي: عليه أن يكون مالِكًا للعفو؛ وحينئذ، يقول: عفوتُ عنكَ؛٢ فمالكُ العفو هو الذي يمتلك القدرة على الانتقام، بحيث إذا صفعه أحد، يكون قادرًا على مقابلته فورًا بصفعة، لكنّه يقول: لن أصفعك، فقد عفوت عنك؛ فهذا يكون عفوًا؛ وذلك نظير الصبر الذي يُبديه من ارتحل أحد أحبّته عن دار الدنيا، فيقول: سأصبر على قضاء الله تعالى!.
فالصبر يصحّ من الذي يكون في موقفٍ يُخيّر فيه في أمر وفاة ذلك الحبيب وفقده، فيقول: أنا راضٍ حتّى بفقده؛ وهذا هو معنى الصبر؛ لا أن يقول بعدما كُسر الزجاجُ [مثلاً]، وسُكب زيتُ المصباح: سأجعله وقفًا على ضريح ابن الإمام، وأصبر! وهنا، نجدهم يقرؤون هذا البيت الشعريّ:
در كف شير نر خون خواره اى | *** | جز به تسليم و قضا كو چاره ای؟٣ |
جز كه تسليم ورضا كو چاره ای | *** | در كف شير نرى خون خواره اى |
[يقول: من كان في قبضة أسدٍ سفّاك للدماء، هل توجد له حيلة، سوى الرضا والتسليم؟!]
يعني أنّ شأنَ هذا الإله الذي أخذ ابني شأنُ أسدٍ جاء، وأمسك هذا الابن بمخالبه، وذهب به؛ فعلينا هنا أن نُسلّم، من دون أن نملك أيّة حيلة أخرى! لكنّ هذا ليس تسليمًا وصبرًا، بل هو شتم وسبّ!
فالعفو يصحّ من صاحب القدرة الذي يقدر على الانتقام؛ والله العليّ الأعلى قادر على أنّه: متى ما عصى الإنسان، فإنّه يُؤاخذه فورًا ﴿أخذَ عزيزٍ مُقتدِرٍ﴾؛۱ لكنّه لا يفعل، بل يعفو.
وحينئذ، إذا مدح الإنسان هذا الإله، ألا يكون مستحقًّا لذلك، أم لا؟! فيقول: إلهي، كم أنت جميل! يا جميلَ العفوَ! يا حسنَ التجاوز! يا وَاسِعَ المغفرة!٢
وهذا نظير أن يقول الإنسان أمام محبوبه: أنعم وأكرم! يا من لا يملك أحد في العالم مثل قامته الرشيقة! يا من لا يوجد في العالم من له مثلَ عينيه! يا من حاجباه كذا! ويا من عِقدُ أسنانه الصدفيّة كذا! ؛ فيبدأ بكيل هذه المدائح ـ واحدًا واحدًا ـ في حقّ هذا المحبوب الجزئيّ؛ وهنا، نجد [الإمام عليه السلام] يمدح الله تعالى أيضًا، ويقول: «يَا مَن أظهرَ الجميلَ وسَترَ القبيحَ، يا مَن لم يُؤاخِذ بِالجَريرة»؛٣ غير أنّ هذه المدائح أرقى بكثير من تلك المدائح آلاف المرّات، بل حينما تُطرح هذه الثناءات، فإنّ تلك الثناءات تضمحّل بأجمعها.
فَلَكَ الحمدُ على حِلمِكَ بَعدَ عِلمِكَ، وعلى عَفوِكَ بَعدَ قُدرتِكَ؛
«ويَحمِلُني ويُجَرِّئني على مَعصِيَتِكَ حِلمُكَ عَنّي، ويَدعونِي إلى قِلَّةِ الحَياءِ سِترُكَ عَلَيَّ».
فلأنّك حليم وصبور، فإنّ حلمك هذا جرّأَني على المعصية؛ وإلاّ، لو أنّك عاقبتني فورًا على كلّ معصية صدرت منّي، لما عصيتُك ثانيةً! فلو أنّني كنتُ أُضرب فورًا على قفاي، متى ما ارتكبتُ معصيةً، لوقفتُ في حالة تأهّب، ولم أتجرّأ على المعصية؛ لكنّني حينما اقترفتُ أوّل معصية، رأيتُ بأنّ العقاب لم يأت فورًا؛ فقلت: هذه واحدة!؛ ثمّ اقترفتُ الثانية، فرأيت أنّ العقاب لم يحلّ بي أيضًا؛ لأنّك تُمهل، وحليم! بل حينما نُدقّق النظر، فإنّنا نقول: يبدو أنّه لم يطّلع علينا؛ فنرتكب معصية أخرى خُفيةً، ونقول: يبدو أنّه لم يطّلع على هذه المعصية الثالثة! ، وهكذا بالنسبة للرابعة؛ فحلمُكَ الذي غمرتَنا به هو بعينه الذي جعَلَنا متجرّئين ومتجاسرين على المعصية.
«وَيَدعوني إلى قِلَّةِ الحَياءِ سِترُكَ عَلَيَّ».
فالأمر الذي يدفعني إلى أن أهتك أمامك ستار الحياء، وأعصيك، هو أنّني مهما هتكتُ هذا الستار، فإنّك تضعه عليّ مرّة أخرى!.
وهذا عجيب جدًّا! فنحن نرفع ستار البيت على الدوام، فتكون أنت موجودًا هناك، فتضعه فورًا؛ ونحن نهتك ستار القلب بشكل مستمرّ، وأنت تضعه أيضًا باستمرار، من دون أن ينتاب يديك التعبُ أبدًا؛ فتضع هذا الستار بنحو سريع جدًّا، إلى درجة أنّ ذلك يدفعنا للقول دائمًا: فلنخرق هذا الستار؛ إذ ما إن نخرقه، حتّى يضعه هو.
سبب تجرّؤ الإنسان على ارتكاب الذنوب
«وَيُسرِعُني إلى التوثُّبِ على مَحارِمِكَ مَعرِفَتي بِسَعَةِ رَحمَتِكَ وعَظيمِ عَفوِكَ».
فلأنّني علِمتُ أنّ رحمتك واسعة، فإنّ سعة هذه الرحمة دفعتني إلى أن أتوجّه إلى المعاصي؛ وذلك لأنّ رحمتك واسعة!
فهذه الرحمة الواسعة تستوعب كلّ معصية نرتكبها؛ وإلاّ، لو لم تكن واسعة، لَبدَأَت في الحلول شيئًا، فشيئًا، شيئًا فشيئًا، إلى أن تصل إلى المعصية، فتتوقّف عندها؛ وفي ذلك الحين، سيتعرّض الإنسانُ للعقاب، وتجري مؤاخذتُه فورًا، وتُعجّل له العقوبة؛ لكن، إذا كانت الرحمةُ واسعةً، فإنّها عندما تأتي، ستشمل حتّى المعصية؛ فتستوعب الرحمةُ الواسعة هذه المعصية، وتذهب بها؛ يعني أنّ سعة هذه الرحمة ستمرّ من المعصية وتتجاوزها؛ وهذه المسألة دفعتني للجرأة والتوثّب؛ أي: لكي ألقي بنفسي وسط محارمك؛ وأيّة مسألة هي؟ «معرِفَتي بِسَعَةِ رِحمَتِكَ».
ففي كلّ ليلة، تغفر لملايين الملايين من العُصاة؛ وفي مقبرة واحدة، ترفع العذاب عن كافّة أهلها ببركة مرور مؤمن من هناك، وقراءته سورة الفاتحة، أو بسبب دفنِ مؤمنٍ فيها كان من أهل الصلاة وزيارة عاشوراء، ومن المخلِصينِ؛ فأيّة مناسبة بين ذلك، [وبين هذا العفو]؟ إنّها سعة الرحمة!
«وعَظيمَ عَفوِكَ»؛ فلأنّني علمت أنّ عفوك عظيم وكبير، فقد دفعني ذلك إلى ألاّ أرى أيّ إشكال في عصيانك!
«يا حَليمُ، يا كَريمُ، يا حيُّ، يا قَيّوم».
أيّها الإله الذي يتّصف بالحلم الكبير، أيّها الإله الذي يتّسم بالكرم العظيم، أيّها الإله الذي هو حيّ على الدوام، أيّها الإله الذي يتقوّم به بقاء الموجودات بأجمعها
«يا غَافِرَ الذنبِ، يا قَابِلَ التوبِ، يا عَظيمَ المـَنِّ، يا قَدِيمَ الإحسانِ».
يا من يغفر ذنوبي، يا من يقبل توبتي، يا من عطاؤه جليل وإنعامه عظيم، يا من إحسانه وتفضّله في حقّ عباده ليس بالأمر الجديد، بل هو قديم الإحسان؛ أي أنّ هذا الاسم كان يتّصف به منذ القديم.. يا قديم الإحسان!
«أَيْنَ سَتْرُكَ الْجَمِيلُ؟ أَيْنَ عَفْوُكَ الْجَلِيلُ؟ أَيْنَ فَرَجُكَ الْقَرِيبُ؟ أَيْنَ غِيَاثُكَ السَّرِيعُ؟ أَيْنَ رَحْمَتُكَ الْوَاسِعَةُ؟ أَيْنَ عَطَايَاكَ الْفَاضِلَةُ؟ أَيْنَ مَوَاهِبُكَ الْهَنِيئَةُ؟ أَيْنَ صَنائِعُكَ السَّنِيَّةُ؟ أَيْنَ فَضْلُكَ الْعَظِيمُ؟ أَيْنَ مَنُّكَ الْجَسِيمُ؟ أَيْنَ إِحْسَانُكَ الْقَدِيمُ؟ أَيْنَ كَرَمُكَ يَا كَرِيمُ؟»
كيفيّة تحويل الستر الإلهيّ قُبحَ الإنسان إلى جمال
إلهي! إن كنتَ بهذا النحو، فذلك راجع إليك أنت؛ لكن ما عساي أن أفعل؟! فأنا المسكين! فحينما عدّدتُ لك كلّ تلك الصفات، وقلتُ عنك: إنّك معشوق، وعيناك كذا، وعِقد أسنانك كذا، وقامتك مثل شجرة سرو في بستان و...، فإنّ هذا صحيح بأجمعه؛ غير أنّ مركز الجمال هذا لا يرضى بإلقاء نظرة واحدة على هذا العاشق؛ وحينئذ، ما عساه أن يفعل هذا المسكين؟!
فتعال، وامدح الله تعالى باستمرار، لكن، بماذا سيُفيدك هذا المدح؟! ولهذا، على الإنسان أن يقول: «أينَ سترُكَ الجميل؟»؛ أي أنّني أريدك أن تسترني، لكن استرني جيّدًا! فأنت ستّار وساتر؛ غاية الأمر أنّ الستّارية والستر يتحقّقان بعدّة أنحاء؛ أحدها: بنحوٍ قبيح؛ أي أن يُستَر الذنب بصورة قبيحة؛ وذلك بأن يُستر القبيح بقبيح آخر؛ نظير الطوب والملاط الذي يكون في الحائط، ويُطلى ـ من أجل تغطيته ـ بالزفت عوضًا عن الجصّ والطلاء والصباغة؛ فصحيح أنّ قبح الطوب والملاط الموضوع على الواجهة قد غُطّي وسُتر، لكنّه غُطّي بشيء مثله [في القبح]!
وفي هذه الحالة، إذا أراد الإنسان ستر هذه الأمور بشيءٍ جميلٍ، فما الذي عليه فعله؟ عليه طلي ذلك الطوب بطبقة من الطين والقشّ، ثمّ يضع فوق هذه الطبقة طبقة من الجصّ؛ وبعد ذلك، يذهب عند الصبّاغ، ويقول له: «تعال يا سيدّي، لتصبغ لي الجدار»؛ ونعوذ بالله تعالى من أن نُبتلى بهذا الأمر، حيث يكون هذا الموضع، موضع ظهور حلم الله تعالى!!! فيستلم ذلك الصبّاغ مهمّته، ولا يفرغ منها إلاّ بعد مرور شهرين! فيصبغ أوّلاً، ويدهن الأسفل بالزيت، ويصقل الحائط بالصنفرة، ويملأ الشقوق بالمعجون، ويدهن السطح، ويضع الطلاء الأساس، ويغيب يومًا، ويأتي يومًا آخر!! وعندئذ، يصبح لدينا سترٌ جميل؛ فحينما ينظر الإنسان إلى الغرفة، يتعجّب من هذه الصباغة، بحيث إنّ صورته تنعكس بكلّ وضوح [على الحائط]؛ هذا، ويُكره للإنسان أن يضع أمامه مرآة حينما يريد أداء الصلاة؛۱ وحينئذ، أيّة صلاة سيُؤدّيها أمام هذه الجدران التي صبغها بكلّ هذا اللطف؟! وذلك لأنّها على درجة من الجمال، بحيث إنّ صورته ستنعكس فيها!
إلهي، أريدك أن تغفر لي ذنوبي؛ لكن بهذا النحو! فيكون ذلك على درجة عالية من الجمال والروعة، فتذرّ عليّ المساحيق، وتسترني بنحوٍ جميل، إلى أن ينفذ هذا الجمال إلى الباطن، وينفذ، وينفذ، فيعمل على تجميل هذا الباطن؛ ويكون هذا الطلاء على درجة من الروعة، بحيث يسري إلى باطن الحائط، ويُزيح الجصّ والجير وهذه الأشياء بأجمعها، إلى أن يصل إلى ذرّات الحائط؛ وحينئذ، إن سألتم هذا الحائط: «ما أنت؟»، فإنّه سيقول: «لقد صرت ببركة يد الصبّاغ جمَالاً محضًا!».
إلهي، أريدك أن تُزيح ذنوبي بهذا النحو؛ وأمّا إذا بقيت هذه الأوساخ في الباطن، فإنّ سِترَكَ لي حينئذ سيكون مضاهيًا لستر "كبسولة"؛ الأمر الذي لا تُرجى منه أيّة فائدة؛ ولهذا، عليك أن تُصلحني بذلك النحو!
فإذا كنتُ أمدحُكَ على الدوام، فإنّ مدحي هذا لا يخلو من الطمع! وإن قلتُ في حقّك: أنت يا إلهي كذا وكذا، فأنت كريم، و...، فلكي تستجيب لطلبي؛ وإلاّ، فأنا لستُ مجنونًا، حتّى آتي إلى هنا في هذه الليلة من ليالي شهر رمضان، وأجلس، وأقول: كذا، وكذا! فنحن قليلو الأدب، ونطلب منك تحقيق هذه الأشياء! ولا يخفى أنّ هذا الكلام من عندي أنا؛ ولهذا، عليّ أن أستغفر الله تعالى؛ لأنّ الإمام السجّاد عليه السلام لم يتحدّث بهذا النحو!!
«أين سترُكَ الجَميلُ؟» أين هو سِتارك الجميل، لكي يُغطّي ذنوبنا؟؛ فهو جميل إلى درجة أنّه يُحوّل كافّة القبائح إلى جمال؛ أ فهل رأيتم إلى حدّ الآن هكذا ستار؟! فحينما يتّسخ بدن الإنسان، فإنّه يذهب إلى الحمّام، فيغسله، فيُصبح نظيفًا، لكنّه لا يصير جميلاً. هل تعلمون أيّ حمّام يجعل الإنسان جميلاً؟ إنّه الحمّام الذي إذا دخل إليه الأعمى، صار بصيرًا؛ وإذا ولج إليه الأصمّ، أضحى سميعًا؛ وهو الحمّام الذي يُعالج الأيدي والأرجل التي أصيبت بالشلل؛ ويُداوي القلوب المريضة؛ ويدخل إليه فجأةً أصحابُ العيون الممدودة ـ نظير المغول ويأجوج ومأجوج ـ ، فتصير أعينهم كعيون غزال المسك؛ ألا يُمكن أن يكون الأمر بهذا النحو؟! وتتبدّل فيه الوجوه الطويلة والنحيفة إلى وجوه مشرقة وورديّة؛ ويتحوّل فيه الجهل إلى علم، والعجز إلى قدرة، والموت والوهن إلى حياة ومُكنة؛ فهذا هو الحمّام الذي يُصيّر الإنسان جميلاً بحقّ!
لكن، هل تُصنع مثل هذه الأدوية، بحيث إذا تناولها أحدٌ صار بهذا النحو؟! لو لم تكن مصنوعة، لما طلبها الإمام عليه السلام؛ وبالتالي، فإنّ الطلب يدلّ بنفسه على أنّه ثمّت شيءٌ هناك؛ وإلاّ، لما تحقّق هذا الطلب من أصله في وجود الإنسان.
«أينَ سترُكَ الجميلُ؟ أين عفوُكَ الجَليلُ؟أين فرجُكَ القريب؟»
فتعال الآن، وخذ بيدي، ولا تقُل: إلى يوم القيامة، ولا تقُل: إلى عالم البرزخ، ولا تقُل: إلى أن تصل إلى آخر عمرك»؛ فلا قدرة لي على التحمّل؛ فتعال! وبسرعة!
«أينَ غِياثُكَ السريعُ؟» أين إعانتك التي تأتي فورًا، وتُغيثنا بنحو سريع
«أينَ رحمَتُكَ الواسِعةُ؟» أين هي هذه الرحمة، لكي تحلّ الآن، وتعمّنا؟
«أينَ عطاياكَ الفاضِلَةُ؟» أي عطاياك الحسنة والفاضلة، لكي تأتي فورًا، وتشملنا من أمّ رأسنا إلى أخمص قدمينا؟»؛
«أينَ مواهِبُكَ الهنيّةُ؟»۱ أين تلك الأوسمة العظيمة، وتلك الشارات الباهظة الثمن التي تهبها لعبادك؟»؛
«أين صَنائِعُكَ السنيّةُ؟» أين تلك الجوائز الرائعة، وتلك الأوسمة العظيمة؟؛
«أينَ فضلُك العَظيمُ؟»
«أين منُّكَ الجَسيم؟» أين عطاؤُكَ المـُبهر والضخم؟؛
«أينَ كرمُكَ يا كريمُ؟»
«بِهِ فَاستَنقِذني!»
أرجوك أن تُنقذني بكرمك هذا!
فخذني، وأنقذني، ونجّني من هذا البلاء، واجذبني؛ فقد وقعتُ في البحر، وها أنا ذا أغرق؛ مع أنّ هذا البحر خالٍ من ماء الحياة؛ لأنّه عبارة عن مستنقع؛ وقد غُصتُ في أطراف هذا الهور العفِن، وأنتنتِ الدنيا والآمالُ والأباطيل وعالم الغرور والخيال سمعي، فلم يعُد صوتك يصل إلى أذني؛ فاستَنقِذني؛ وخذني واجذبني، واقذف بي إلى الخارج!.
«وَبِرَحمتِكَ فَخَلِّصني»؛
بِمَحبّتك ورحمتك خذ بيدي وخلّصني
«يا مُحسنُ، يا مُجمِلُ، يا مُنعِمُ، يا مُفضِلُ؛ لَستُ أتَّكِلُ في النجاةِ مِن عِقابِكَ عَلى أعمالِنا، بَل بَفَضلِكَ عَلَينا لِأَنَّكَ أهلُ التقوى وأهلُ المـَغفِرةِ».
وهذه عبارات مستقلّة، أرجو من العليّ القدير ـ إن شاء تعالى ـ أن يُوفّقنا للكلام عنها في ليلة غد؛ لأنّنا تحدّثنا في هذه الليلة كثيرًا، وفسّرنا كثيرًا، حيث إنّ النهج الذي سلكناه في تفسير دعاء أبي حمزة يقتضي ألاّ نتأخّر في ذلك كثيرًا، لكي يأتي آخر شهر رمضان، ونرى أنّنا فسّرنا صفحة واحدة! فهذا الدعاء عبارة عن ثلاث عشرة صفحة؛ وكان الإمام عليه السلام يقرؤه في كلّ ليلة من شهر رمضان؛ لكن، ليس كقراءتنا نحن، بل كان يُنشئه من قلبه؛ في حين أنّنا نقتصر على مجرّد الحكاية؛ وهو ينشئه!
نرجو من العليّ الأعلى أن يُحوّل كذبنا هذا وحكايتنا هذه إلى صدق وحقيقة برحمته؛ وأن يجعلنا ببركة مناجاة الإمام عليه السلام من ضمن المناجين أيضًا؛ وأن يشملنا برحمته العظيمة والواسعة، وفضله الجسيم؛ ويجعل آمالنا وأهدافنا لقاء ذاته المقدّسة؛ وأن يعفو ـ بناءً على ذلك ـ كافّة ذنوبنا.بِمحمّدٍ وآلِه الطاهرينَ،
صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد.