19

سعة الرحمة الإلهيّة

شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

457
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةشرح دعاء أبي حمزة

التاريخ 1398/09/23


التوضيح

في هذه المحاضرة التي عقدها سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة لشرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ، تحدّث بدايةً عن شمول فيض الله تعالى حتّى للجاحد ربوبيّته، ثمّ أشار إلى السرّ في استيعاب الرحمة الإلهيّة لغير السائل؛ مبيّنًا في ضمن ذلك أنّ المحروم هو من حرم نفسه؛ وبعد ذلك، تطرّق إلى نموذج بديع على سعة الفيض الإلهيّ؛ ثمّ تحدّث عن أنّ الله تعالى هو وحده القادر على مدح نفسه؛ مُنبِّهًا إلى أنّ الموجودات بأجمعها مستهلِكة لا مولِّدة؛ وأشار كذلك إلى أهمّية الإلحاح على الله تعالى في السؤال، وأنّ المنبع اللامتناهي لا يَنقُص بالعطاء؛ ليختم كلامه بالحديث عن أهمّية توسّل السائل بمحبّة الصالحين وسؤالهم.

/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • سعة الرحمة الإلهيّة

  •  

  • شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ ـ الجلسة التاسعة عشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ 

  • قدّس الله نفسه الزكيّة

  •  

  •  

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

2
  •  

  •  

  • أَعوذُ بِاللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ

  • بسم الله الرّحمن الرّحيم‌

  • وصَلَّى اللَهُ على محمّدٍ وآلِهِ الطّاهِرينَ‌

  • ولَعنةُ اللَهِ على أعدائِهِم أجمَعين

  •  

  •  

  • شمول فيض الله تعالى حتّى للجاحد ربوبيّته

  • «وَأَلْبِسْنِي مِنْ نَظَرِكَ ثَوْبًا يُغَطِّي عَلَيَّ التَّبِعاتِ وَتَغْفِرُها لِي وَلا اُطالَبُ بِها، إِنَّكَ ذُو مَنٍّ قَدِيمٍ وَصَفْحٍ عَظِيمٍ وَتَجاوُزٍ كَرِيمٍ».

  • «التَبِعة» تعني نتيجة العمل، حيث يُطلق اسم التبعات على الآثار واللوازم التي تستتبع العمل الذي يُؤدّيه الإنسان؛ فانعكاس عمل الإنسان في الخارج، والجزاء الذي يترتّب عليه ـ سواءً كان جزاءً حسنًا أم سيّئًا ـ هو تبعة هذا العمل الذي قد يكون سيّئًا أو صالحًا؛ لكن، يبقى أنّ المراد من التبعات هنا خصوص الآثار التي تترتّب على الذنوب.

  • إلهي، اكسني من نظر رحمتك لباسًا وزيًّا وخلعة تُغطّي هذه التبعات، وتستر نتائج ذنوبي وسيّئاتي، ولا تُبقي أيّ واحد من عيوبي وخطاياي.

  • «وَتَغفِرُها»؛ فاغفر لي ذنوبي برمّتها.

  • ولا أُطالَبُ بَها؛ بحيث لا أقع أبدًا محطًّا للمساءلة، ولا يُقال لي: ما الذي فعلته وما الذي لم تفعله؟! فحينما تُغفر لي تلك الذنوب، وتُغطّى بتلك الخلعة، لا أعود مُطالبًا ومُساءلاً بتاتًا.

  • «إِنَّكَ ذو مَنٍّ قَديمِ»؛ فبالتأكيد، أنت يا إلهي صاحب عطاء قديم (المنّ يعني العطاء؛ والمنّ القديم يعني أنّ عطاءك ليس بالأمر الجديد، بل أنت صاحب عطاء منذ القديم).

  • «وَصَفحٍ عَظيمٍ»؛ (الصفح بمعنى التغاضي والعفو) أي أنّ عفوك كبير جدًّا.

  • «وتَجَاوُزٍ كَريمٍ»؛ فأنت تعفو بنحو كريم، لا أنّ عفوك يكون مستلزمًا للمنّ والأذى والإزعاج.

  • ويُراد من كريم هنا: أن تتجاوز وتتغاضى عن ذنوبي على نحو السماحة!

  • «إِلَهي، أنتَ الذي تُفيضُ سَيبَكَ عَلَى مَن لا يَسأَلُكَ وعَلَى الجاحِدينَ بَرُبُوبِيَّتِكَ، فَكَيفَ سَيِّدي بِمَن۱ سَأَلَكَ وأَيقَنَ أَنَّ الخَلقَ لَكَ والأَمرَ إِلَيكَ، تَبَارَكتَ وتَعَالَيتَ يا رَبَّ العَالَمينَ».

  • «السَّيب» بالسين يعني العطاء؛ والمُسَيِّب يعني المُعطي؛ فالذي يجود كثيرًا ويُعطي يُسمّى بالمُسَيِّب.

  • إلهي، أنت الذي تصبّ عطاءَك وتُفيضه، وتُعطي الذين لا يسألونك، بل وحتّى الذين يُنكرون ربوبيّتك وقدرتك وربّانيتك؛ فكيف سيكون ـ والحال هذه ـ شأنُك يا سيّدي ويا مولاي مع الذي يسألك ولا يقتصر على الإيمان بألاّ ربّ غيرك، بل هو على يقين من أنّ الخلق لك والأمر إليك؟! فأنت ـ يا ربّ العوالم بأجمعها ـ إلهٌ متعالٍ ومبارك!.

    1. خ ل: مَن سَأَلَكَ.

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

3
  • ففيض الله تعالى يتنزّل على الذين يسألون والذين لا يسألون:

  • «يا مَن يُعطي مَن سَألَه، يا مَن يُعطي مَن لَم يسأَله ومَن لَم يَعرِفه تَحَنُّنًا مِنه ورَحمَةً».۱

  • يا أيّها الإله الذي يتفضّل ويتكرّم على الذين يسألونه ويدعونه، ويجود ويُفيض على الذين لا يسألونه، بل حتّى على الذين لا يعرفونه بتاتًا».

  • «تَحَنُّنًا»؛ أي تَلَطُّفًا مِنكَ ورَحمةً مَنكَ بتلك الرحمة الواسعة وذلك اللطف العامّ؛ ولهذا، فإنّك لا تقصر إفاضة رحمتك على الذين يعرفونك ويسألونك، بل تصبّ فيضَك العميم ورحمتك الشاملة على كافّة الموجودات بما يشمل المؤمن والكافر، والعابد والفاسق، والسائل والطالب وغيرهما.

  • السرّ في استيعاب الرحمة الإلهيّة لغير السائل

  • حسنًا، فهذه الموجودات التي ظهرت على ساحة الوجود لم تسأل الله تعالى بحسب أصل وجودها؛ لأنّ الموجود الذي لم يوجد بعدُ أنّى له أن يسأل الله تعالى ويقول: «إلهي، أوجدني»؟! فينبغي أن يوجد الشيء أوّلاً، ثمّ يأتي السؤال بعد ذلك؛ أي أنّ الوجود يقع في المرتبة الأولى، ثمّ يأتي السؤال في المرتبة الثانية، حيث إنّ «كان» هنا تكون ناقصةً؛ في حين أنّ كان التامّة تُعبّر عن أصل الوجود؛ فنقول: «كان زيدٌ»؛ أي وُجد؛ وأمّا إن قلنا: «كان زيدٌ سائلاً»، فإنّ هذا السؤال هو هليّة مركّبة، وليس هليّة بسيطة؛٢ ولهذا، ينبغي أن يكون بعد الوجود؛ أي يتعيّن أن يتحقّق الوجود، ثمّ يأتي السؤال عن عوارض هذا الوجود. وعليه، أنّى للموجودات التي لم تكن موجودة ثمّ وُجدت بلطف الله تعالى أن تقدر هنا على السؤال؟! فهي ليست موجودة، حتّى تسأل!

  • وعليه، فالإله الذي أخرج بإرادته الأشياء من كتم العدم ـ أي من مقام السرّ والخفاء ـ وخلق الموجودات من دون أيّ استنقاذٍ أو طلبٍ أو سؤالٍ كيف يُمكنه أن يحرم المخلوقات التي أوجدها، وتسأله الآن؟! إذ هي ليست أقلّ من المخلوقات التي لا زالت معدومة.

  • وعلاوةً على ذلك، فإنّ الله العليّ الأعلى لا يتخلّى عن الموجودات التي خلقها؛ لأنّه خالق ومربّي في الوقت ذاته؛ أي أنّه يُفيض الوجود، وفي نفس الحين، يرعى المخلوق ـ الذي أوجده ـ في طريق كماله ويُربّيه.

    1. إقبال الأعمال، ج ٢، ص ٦٤٤، فقرة من الأدعيّة اليوميّة لشهر رجب.
    2. السؤال بواسطة الهليّة البسيطة سؤال عن وجود الشيء "هل الإنسان موجود؟"، وهي مفاد كان التامة، ويقابلها هل المركبة التي هي مفاد كان الناقصة؛ أي السؤال عن وجود شيء لشيء "هل الإنسان ناطق؟" (قاموس المصطلحات الفلسفية عند صدر المتألهين، ص ٤۸٢). المعرّب

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

4
  • وهذا هو معنى الربّ؛ أي الذي يرعى ويُربّي، فهو مُربٍّ! فالله تعالى ربّ؛ بمعنى أنّه لا يكتفي بالخلق فقط ثمّ يتخلّى عن خلقه، بل إنّه يُربّي هذا الخلق، ويُنمّيه إلى أن يوصله إلى الكمال؛ مع أنّ ذلك غير مختصّ بالإنسان فقط، بل إنّه تعالى يعمل على تسيير كافّة الموجودات التي خلقها في صراط التربية، حيث نجد هذه الموجودات تتحرّك بسرعة عجيبة لا يتسنّى للإنسان أن يُدركها بتاتًا.

  • فسواء كانت الموجودات ملتفتة أو غير ملتفتة، غافلة أو غير غافلة، نائمة أو مستيقظة، عالمة أو غير عالمة، جاحدة أو مسلّمة، فإنّها تكون ـ باعتبار رحمة الله تعالى الرحمانيّة وفيضه العامّ ـ مشمولة بهذه الرحمة، وتتحرّك طبقًا للفيض المقدّس والوجود المنبسط الذي استوعب الموجودات برمّتها.

  • ﴿ٱلَّذِيٓ أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ ٱلإِنسَٰنِ مِن طِينٍ﴾۱؛

  • ﴿قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيٓ أَعطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ﴾٢؛ أي أنّ ذلك الإله الذي خلق كلّ موجود أحسنَ خلق هذا الموجود، ثمّ هداه في طريق الكمال، حيث أمسك بزمامه بعد الخلق، وسيّره نحو الهدف المنشود.

  • وهذا الأمر لا يقتصر على السائلين فقط؛ بل وهل يقدر الإنسان في الأساس على طلب حاجاته؟! فنحن نملك الآلاف المؤلّفة من الحاجات من دون أن نطلب واحدة منها؛ أي أنّ هذه الحاجات لا تجري على لساننا، ولا تأتي على أذهاننا بتاتًا. فنحن نحتاج في وجودنا إلى مؤثّر، ونفتقر في علمنا وقدرتنا وحياتنا المادّية والمعنويّة وفي كلّ خليّة موجودة من خلايا بدننا إلى إفاضة الوجود! أ فهل ندعو ـ نحن الجالسون هنا الآن ـ الله تعالى أن: يا إلهي، شغّل كُليتنا، وحرّك قلبنا ومعدتنا، واجعل لرئتنا القابليّة على تصفية الهواء في كلّ لحظة؟! وهل نلجأ إلى هكذا دعاء، ونقول: إلهي، نسألك ألاّ تجعلنا ـ نحن الجالسون هنا ـ نسقط يمينًا أو يسارًا؟!

  • فنحن جالسون الآن؛ لكن، ما هو مقدار الأعمال المختلفة التي تُؤدّيها نفسُنا في آن واحد؟ فنحن في نفس الوقت نحافظ على توازننا حتّى لا نسقط، ونتحدّث، ونقف على أقدامنا، ونُحرّك رؤوسنا، وننظر بأعيننا، ونسمع بآذاننا، ونُحرّك أيدينا؛ فهذه أعمال مختلفة تُؤدّيها بأجمعها النفسُ بإرادة الله وقدرته؛ لكن، هل تجدنا نسأله تعالى كلّ واحد من هذه الأعمال؟! وهل ندعوه في وجودنا، ونسأله في مسألة جريان الدم داخل الشرايين والأوردة عن كيفيّة جريانه، وعن الأماكن التي ينبغي عليه الذهاب إليها، وعن الوظائف التي يجب عليها أداؤها؟! فالله تعالى يُلبّي في كلّ لحظة الملايين من حاجاتنا من دون أيّ سؤال، أو توجّه، أو معرفة! بل نحن جاهلون تمامًا بما ينبغي علينا أن نسأله، ولا علم لنا بطبيعة حاجاتنا الوجوديّة؛ وهذه المسألة هي على درجة من الدقّة، بحيث إنّ فكرنا لا يطالها!

    1. سورة السجدة، الآية ۷.
    2. سورة طه، الآية ٥۰.

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

5
  • وفي هذه الحالة، هل من شأن هذا الإله الرحيم واللطيف ـ الذي أوجدنا ويُفيض علينا الوجود ويصبّه على رؤوسنا كالمطر، ويوصل كافّة شؤوننا إلى مقام الكمال أثناء هذا السير ـ أن يحرمنا إذا سألناه شيئًا؟! ولماذا سيحرمنا؟! أَ وَهل يتّصف بالبخل؟! أو يتّسم بالحسد؟! أو يتحلّى بالطمع؟! أو يتملّكه شعور بالانتقام؟! أَ وَهل سيَنقُص شيءٌ من ملكه بسبب الإعطاء؟! وهل سينضاف شيء إلى شخصيّته واستكباره إذا لم يُعط؟! كلاّ! لا شيء!

  • إلهي، أنت الذي تُفيض عطاياك على الذين لا يسألونك، وعلى المنكرين لربوبيّتك الذين يقولون: «أنت لست بإله! والربّ هو موجود غيرك؛ نظير أرباب الأنواع التي تعمل بنحو منفصل عن إرادتك؛ والربّ هو العقل الأوّل، أو المادّة، أو الشمس، أو الموجودات الملكوتيّة التي تعمل في مقابل ذاتك وبشكل مستقلّ عن إرادتك وقدرتك، أو النجوم؛ فهي التي تُربّي الموجودات!»، حيث نجد أنّ كلّ واحد من هؤلاء اتّخذ لنفسه ربًّا. فإذا كنت تُفيض [سيبك] على الذين يُنكرون ربوبيّتك، «فَكَيفَ يا سَيِّدي» ستتعامل معنا نحن؟! وكيف سيكون حالك وعملك «بِمَن سَأَلَكَ وأَيقَنَ أَنَّ الخَلقَ والأَمرَ إِلَيكَ»؛ مع أنّه لا يسأل بشكل عبثيّ، ولا يُلقي الكلام على عواهنه، بحيث يقول: «فلأُلقِ سؤالاً، ثمّ لأنظر ما الذي سيحصل»؛ نظير السهم الذي يُطلقه أحدهم؛ فإن أصاب هدفه، فبها ونعمت؛ وإن لم يُصبه، سيكون الأمر قد اقتصر على إطلاق سهم وحسب! كلاّ! فأنا أسألك، وأنا عالم بأنّ السؤال ينبغي أن يكون منك أنت وحسب، ومتيقّن بأنّ عالَم الخلق متعلّق بك أنت فقط، ومِلك خالص لك؛ «والأَمر إِلَيكَ». فالمراد من عالَم الخلق: عالَم المُلك، ومن عالم الأمر: عالم الملكوت؛ أي أنّ كلاًّ من عالمي الجسم والروح، وعالمي الطبع والمعنى، وعالمي التقيّد والتجرّد مختصّ بك أنت فقط!

  • فاللام في «لَكَ» هي لام الاختصاص، أو لام الملكيّة؛ وبالتالي، فإنّ عالَم الخلق يكون مِلكًا لك، ويكون أمره وحقيقته، وواقعيّته وملكوته عائدًا إليك؛ وعليه، إذا كان ظاهر جميع الموجودات وباطنها، ووِجهتاها الإلهيّة والخلقيّة مختصّين بك ـ وأنا متيقّن بأنّ الأمر بهذا النحو ـ فإنّني أتوجّه بالسؤال إليك أنت؛ إذ لو سألتُ أيّ أحد، فإنّني سأكون قد سألتك أنت!

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

6
  • فجميع العوالم متعلّقة بك أنت؛ هذا، مع أنّه لا يوجد لدينا أزيد من عالمين: عالم الأمر وعالم الخلق؛ فعالم الأمر هو عالم التجرّد والملكوت بمختلف درجاته؛ إذ هناك الملكوت الأسفل الذي يُمثّل عالم الصورة، والملكوت الأعلى الذي هو عالم ما فوق الصورة، وله أيضًا درجات ومراتب مختلفة؛ وأمّا عالم الخلق، فهو عالم الطبع، حيث يتوفّر كلّ واحد من الموجودات بأجمعها على طبيعة خاصّة؛ وحينئذ، هل يُمكنني أن أسأل أحدًا غيرك، بحيث يكون خارجًا عن إرادتك ومحكوميّة أمرك ومعلوميّة علمك؟!

  • «تَبَاركتَ»؛ فأنت عليٌّ، وعظيم البركة، ومبارك، والخير والرحمة يُفاضان منك أنت؛ نظير النور الذي ينفصل عن الشمس، فيُضيء العوالم من دون أيّ بخل؛ وإلى أيّ حدّ تصل إضاءته؟ إلى تلك المواضع التي لا يستطيع الإنسان تصوّرها!

  • المحروم من حرم نفسه!

  • فحينما ترتفع الشمس في وسط السماء، فإنّها تُفيض نورها بكلّ سخاء؛ فهي لا تتّصف بالبخل، حتّى تأتي، وتقول: سأهب اليوم نورًا، وأمنعه في الغد؛ فاليوم، توجد مصلحة في إفاضته، وغدًا، لا توجد في ذلك مصلحة!

  • فالمحروم من نور الشمس هو الذي ذهب بنفسه إلى غرفة، وأغلق عليه النوافذ، ووضع الستائر، وأظلم على نفسه الجوّ؛ أو دخل إلى سرداب أو قبو أو بئر مظلم؛ أو حَدَثَ مانعٌ خارجيّ، فحجب عنه نورَ الشمس؛ نظير سحابة أو شيء آخر؛ وإلاّ، أ فهل يوجد منع في ذات الشمس؟! من منكم رأى ، أو سمع ، أو قرأ في كتاب أنّ الشمس ـ منذ أن كانت شمسًا ـ بخلت بنورها في يوم من الأيّام؛ أو أنّها رغبت في أن تُفيضه في يوم ما، وتحجبه في يوم آخر؛ أو أنّها أرادت أن تنقصه أو تزيده بحسب المواضع المختلفة؟! هل سبق لكم أن سمعتم بهذا الأمر؟! أو رأيتموه؟! أو طالعتموه في كتاب؟! وحينئذ، متى ما طلعت الشمس، فإنّها تُفيض نورها، وتُفيضه، وتُفيضه، وتُفيضه؛ لكن، إلى أيّ حدّ؟ فإلى أين يصل هذا النور؟ فيأتي هذا النور من هناك، إلى أن يصل إلى أرضنا؛ مع أنّ ذلك ليس هو نهايته! فهذا النور يطوف في الفضاء بأجمعه بقدر ما تسمح به الحسابات الرياضيّة، حيث إنّ هذا الحسابات تمنع استمرار إفاضة النور حينما تصل قدرة الشمس إلى حدّها الأقصى؛ وهناك، سوف يصل الدور إلى شموس أخرى؛ لكن، يبقى أنّها تتّصف في ذاتها بالإفاضة المستمرّة والدائمة؛ ومن هنا، تكون الشمس مباركة؛ أي أنّ بركتها وفيرة. وفي مقابل ذلك، هناك الموجود الذي يكون فيضه محدودًا، وإحسانه وعطاؤه يسيرًا، بحيث إذا حصل في الليل، فإنّه لا يحصل في النهار؛ وإذا وقع في النهار، فإنّه لا يقع بالليل؛ وإذا حدث في هذا المكان، فإنّه لا يحدث في المكان الآخر؛ وإذا تحقّق في هذه الظروف والأوضاع، فإنّه لا يتحقّق في ظروف وأوضاع أخرى؛ بخلاف فيض الله تعالى الذي يكون شاملاً وتامًّا وعامًّا ومن دون حساب؛ وهذا هو معنى «تَبَاركتَ»!

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

7
  • «وَتَعَالَيتَ»؛ فأنت في الأساس عليٌّ، وأُفُقُكَ رفيع؛ بل أنت عليٌّ جدًّا، وأعلى من كلّ ما نقوله وما نتصوّره، وأنت لا تتنزّل [عن ذلك العلوّ]، لكي تأتي، وتُقيّم أعمالنا وأفعالنا، وتُريد بذلك أن تقطع عنّا فيضك وتحرمنا منه! كلاّ، فلا شيء من هذا الكلام [صحيح]!

  • فحينما ينقطع عنّا فيضُك، فإنّ سبب ذلك هو نحن الذين نقطعه عن أنفسنا، حيث نحبس أنفسنا تحت الأرض أو داخل بئر، فلا يتمكّن نور الشمس من الوصول إلينا.

  • ایـن جهـان پُـر آفتـاب ونـور ومـاه***تــو بخفتــه ســر فــرو بــرده بــه چــاه
  • که اگر حـق اسـت پـس کـو روشـنی***ســر بــر آر از چــاه وبنگــر ای دنــی
  • جمله عالم شرق وغرب آن نـور یافـت***تا تو در چاهی نخواهد بر تـو تافـت۱
  • [يقول: هذا العالم مليء بضياء الشمس ونور القمر، وأنت في سُباتٍ قد قبعت في بئر.

  • تقول: إذا كانت الشمس والقمر حقًّا، فأين الضياء؟ أخرج رأسك من البئر، وانظر أيّها الدنيء

  • لقد وجد العالَمُ شرقُه وغربُه ذلك النور؛ لكن، ما دُمتَ أنت في البئر، فلن يشعّ عليك‌].

  • فجميع المعاصي التي تصدر من الإنسان تكون ـ في الأساس ـ نابعة من جهله وغفلته، وناتجة عن الحجاب الذي وضعه الإنسان بنفسه بينه بين ربّه؛ أ فلم يقل الإمام في أوائل هذا الدعاء: «وأَنَّكَ لا تَحتَجِبُ عَن خَلقِكَ إلاّ أن تَحجُبَهم الأعمالُ دونَكَ»؟!٢

  • ومن هنا، فإنّ الأعمال التي نُؤدّيها تكون سببًا لكي نضع ـ بأيدينا ـ ستارًا على أعيننا؛ وحينئذ، إذا وضع أحدٌ بيديه لباسًا داكنًا على وجهه، فلم يعُد قادرًا على رؤية الشمس، فلا يجوز له أن يشتكي باستمرار قائلاً: «أيّتها الشمس، إنّك كذا، وكذا، لأنّك لم تمنحيني النور، وحرمتني منها»! حسنًا أيّها السيّد، ارفع الستار، وانظر إلى الشمس! فمتى حرمتك؟! ولهذا، فإنّ كلّ نقص يعود إلى هذه الناحية؛ لأنّ الذنوب لوحدها تكون حجابًا؛ مع أنّ الحجاب يرجع إلى الشرور، والشرور تتعلّق بالنفوس، لا بذات الحقّ تعالى؛ «والشرُّ لَيسَ إليكَ».٣

  • والشرُّ أعدام فكم قد ضَلَّ مَن***يقولُ باليزدان ثُمَّ الأهرِمن٤
    1. المثنويّ المعنويّ، الكتاب الثالث، ص ٣٢٢:
      ایـــن جهـــان پُـــر آفتـــاب و نـــور مـــاه***تــو بهشــته ســر فــرو بُــرده بــه چــاه
      کـــه اگـــر حقّســـت کـــو آن روشـــنی***ســـر ز چَـــهْ بـــردار و بنگـــر ای دَنـــیّ
      جملـه عـالم شـرق و غـرب آن نـور***یافـت تـا تـو در چـاهی نخواهــد بـر تــو تافــت
      [يقول: هذا العالم مليء بضياء الشمس ونور القمر، وأنت مطلق العنان قد قبعت في بئر.و تقول: إذا كانت الشمس والقمر حقًّا، فأين الضياء؟ أخرج رأسك من البئر، وانظر أيّها الدنيءلقد وجد العالَمُ شرقُه وغربُه ذلك النور؛ لكن، ما دُمت أنت في البئر، فلن يشعّ عليك]
    2. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٥۸٣.
    3. الكافي، ج ٣، ص ٣۱۰، أدعية قبل تكبيرة الإحرام:عن الحّلّبي عن أبي عَبدِ اللهِ عليه السلام قالَ: «إذا افتَتَحتَ الصلاةَ، فَارفَع كَفَّيكَ، ثُمَّ ابسُطهُما بَسطًا، ثُمَّ كَبِّر ثَلاثَ تَكبيراتٍ، ثُمَّ قَل اللهُمَّ أنتَ المَلِكُ الحَقُّ... والشرُّ لَيسَ إليكَ».
    4. شرح المنظومة، ج ٣، ص ٥٢۸.

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

8
  • وهنا، توجد أبحاث مفصّلة جدًّا؛ لكن، عليكم الالتفات إلى جذور هذه المسألة، لكي تتعرّفوا على حقيقة الأمر!

  • إذن، «تَعَالَيتَ»؛ فأنت رفيع الدرجات، وعظيم، وعالي المرتبة، وتفيض بكلّ سخاء! ويا لها من إفاضة!

  • نموذج بديع على سعة الفيض الإلهيّ

  • ففي شهر رمضان من هذا العام، لم أدخل من ساحة البيت إلى الغرفة، بل وضعت فراشي وكتبي وأمثال ذلك في جانب الساحة، فانبثقت أمام المكان الذي أجلس فيه نبتةُ "شبّ الليل"؛ حيث بدأت هذه النبتة تلتفّ وتصعد إلى الأعلى. هل سبق أن رأيتم نبتة شبّ الليل؟ إنّها حقًّا مذهلة! فهي حساسّة وتتوفّر على شعور وإدراك إلى درجة لا يعلمها إلاّ الله تعالى! فما إن تظهر شعيراتها، حتّى تبدأ في الالتفاف، وتحيط بكلّ شيء تلتفّ حوله؛ فإذا التفّت حول غصن رقيق، فإنّها تبدأ في النموّ حوله بكلّ إحكام وبشكل حلزونيّ؛ وهكذا إذا التفّت حول شجرة ضخمة، أو حبل، أو كرة؛ فنجدها تقوم بالبحث حواليها، لتعثر على محلّ تصل إليه؛ فما إن تصل إليه، حتّى تبدأ بالالتفاف، حيث تلتفّ كثيرًا، وتضع أثقالها هناك، وتُحيط بذلك الموجود، إلى درجة أنّه لا يبقى لديه أيّ مفرّ بتاتًا! هذا، مع أنّها تنمو بسرعة عجيبة جدًّا! فعلى سبيل المثال، إذا وضعت بذرة شبّ الليل في الأرض، فإنّها تنمو فجأة، ليصل طولها إلى أربعة، أو خمسة أو ستّة أمتار؛ وهكذا...! فنجدها تُنبت الأوراق باستمرار، وتتحرّك بنحو دائم. فإذا غرس الإنسان شجرة، فإنّ طولها لا يتجاوز أربعة أمتار بعد مرور عدّة سنوات؛ وأمّا هذه النبتة، فإنّها تصل إلى هذا الحدّ في مدّة خمسة عشر يومًا! وحينئذ، هل قامت هذه النبتة بطلب شيء من الله تعالى فيما يرتبط بوجودها؟! وهل سَأَلَته شيئًا ما؟! [كلاّ] فنرى أنّ نبتة شبّ الليل الموجودة في منزلكم، والموجودة في منزلنا، أو منزل زيد، أو هنا، أو هناك كلّها بهذا النحو، حيث يُفاض عليها الوجود بأجمعها، ويتمّ تسييرها وتحريكها، كما يتمّ تحريك هذا الموجود، وذاك الموجود؛ فجميع الموجودات في حركة.. كلٌّ بحسب ماهيته الخاصّة؛ والله تعالى يُفيض عليها الوجود بأسرها.

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

9
  • فيُفاض الوجود على نبتة شبّ الليل المسكينة بهذا النحو ليلاً ونهارًا، من دون أن ينقطع عنها هذا الفيض، ولو لدقيقة واحدة.

  • فإذا قطعتموها بمقصّ، فإنّها ستموت؛ وحينئذ، سينتهي أمرها في نفس اللحظة! فسبب أنّها حيّة ومخضرّة هو أنّها لم تتعرّض للتلف للحظة واحدة، ولم ينقطع عنها الفيض لآنٍ واحد، ولم تُسلب منها الحياة، ولم يُنتزع منها ذلك المسير والهدف؛ وحينئذ، نجد أنّ هذه النبتة تمتلك مجموعة من الأجهزة؛ إذ تتوفّر على أمعاء وشرايين ودماغ وتناسل ونكاح ومقصد ومبدأ ومنتهى؛ ونراها تتحرّك بنحو ينسجم مع ذاتها؛ فيا لها من أمور تحدث في نبتة شبّ الليل هذه! وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة للبعوضة التي تصدر أزيزًا، وتمرّ على أذن الإنسان، حيث نجدها كذلك تتوفّر على مجموعة من الأجهزة، ولها أيضًا حسابها الخاصّ! ففي بعض الأحيان، يكون الإنسان منهمكًا في المطالعة، فتحطّ بعض أنواع البعوض على الكتاب؛ مع أنّه لا يصحّ أن نقول عنها بعوضة؛ لأنّها تكون عبارة عن حشرة صغيرة، بل هي على درجة من الصغر، بحيث لا يُمكن رؤيتها بالعين، ويكون الإنسان ملزمًا بالتركيز كثيرًا لكي يرى حركتها؛ وفي هذه الحالة، نجد أنّ هذه الحشرة تمتلك عينًا وأذنًا ورجلاً تتحرّك بها ومعدة وشرايينًا وأمعاءً، وتنقسم إلى ذكر وأنثى، وتلد صغارًا، وتضع بيوضًا، ولها حياتها الخاصّة وهدفها الشخصيّ، وتتوفّر على أماني ومقصد وحياة وموت؛ أ فهل بوسع عقل الإنسان أن يستوعب كلّ ذلك؟! فجميع هذه الموجودات تصرخ قائلة: إلهي، أوجدني! وأفض عليّ الوجود! ولا تبخل عليّ! فيُفاض عليها الوجود كلّها بهذا النحو... .

  • ﴿وَتَرَى ٱلجِبَالَ تَحسَبُهَا جَامِدَة (في مكانها ومتسمّرة على الأرض) وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَاب﴾.۱

  • الله تعالى هو وحده القادر على مدح نفسه

  • وحينئذ، هل يحقّ للإنسان أن يقول لله تعالى: «تَعَالَيتَ»؟ كلاّ! لأنّه إذا قال له ذلك، فإنّه سيكون قد قاله بقدر تفكيره؛ نظير الذي يخرج من الغرفة، ويُزيح الستار، ثمّ يُحدّق بطرف عينه في الشمس، ويقول: «أنعم به وأكرم! يا لها من شمس! لقد تعرّفتُ على الشمس!»؛ لكن، أنّى له أن يعرفها؟! فقد جاء من الظلام، وبدأ ينظر إلى الشمس من مسافة ضوئيّة تُقدّر بثمان دقائق وثلاثين ثانية؛ هذا، مع أنّه لم ينظر إليها بعينيه مباشرة، بل من وراء زجاجة داكنة، وإلاّ، لو نظر إليها [بشكل مباشر] قليلاً، لأصيب بالعمى؛ فهو ينظر إليها من مسافة تبلغ ملايين الفراسخ، ثمّ يأتي، ويقول: «لقد تعرّفت على الشمس!»؛ مع أنّه لم يتعرّف عليها.

    1. سورة النمل، الآية ۸۸.

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

10
  • مــادح خورشــید مــدّاح خــود اســت***که دو چشمم روشن ونا مُرمَد اسـت۱
  • [يقول: مادح الشمس إنّما يمدح ـ في الواقع ـ نفسه، فكأنّه يقول: إنّ عينيّ سليمتان ولم يصبهما الرمد‌]

  • والرمد يعني: مرض العين؛ فيُراد من "نا مُرمَد" أنّ عيني لم يُصبها الرمد؛ فهي غير مريضة. فمادح الشمس لا يمدحها هي حقيقةً، بل إنّما يمدح نفسه، ويقول: «إنّ عينيّ مفتوحتان، ولم تُصابا بالرمد، وأنا قادر على رؤية الشمس»؛ وعليه، فإنّ الذي يُحدّق في الشمس، ويقول: «أنعم به وأكرم!» يكون مراده من ذلك: «أنعم بيّ وأكرم؛ لأنّ عينيّ مفتوحتان، وباستطاعتي رؤية الشمس!»؛ وإلاّ، فإنّه لم يمدح الشمس بتاتًا!

  • ومع ذلك، تجدنا نمدح الله تعالى، ونُثني عليه، ونقول: «لَكَ الخَلقُ، لَكَ الأمَرُ، لَكَ الحُكمُ، أنتَ السَّميعُ، أنتَ العَليمُ، ذو مَنٍّ قَديمٍ وتَجَاوُزٍ كَريمٍ، تَبَاركتَ وتَعَالَيتَ»، حيث ينتهي هذا الكلام في الأخير إلى الله تعالى.

  • ولهذا، بعد أن يعرض الإمام السجّاد عليه السلام طلباته أمام الله تعالى، فإنّه يقول: «إِلَهي... أنتَ كَمَا تَقولُ، وفَوقَ ما نَقولُ»٢؛ فنحن لم نعرفك؛ ولذلك، لا نستطيع الحديث عنك؛ وأمّا أنت، فإنّك تعرف نفسك.

  • «أنتَ كَمَا أَثنيتَ عَلَى نَفسَكَ»٣؛ فأنت بنفسك تستطيع الثناء على نفسك وحمد ذاتك؛ وأمّا نحن، فلا نقدر على ذلك».

  • «سَيِّدِي، عَبْدُكَ بِبَابِكَ أَقَامَتْهُ الْخَصَاصَةُ بَيْنَ يَدَيْكَ، يَقْرَعُ بَابَ إِحْسَانِكَ بِدُعَائِهِ، فَلا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ عَنِّي وَاقْبَلْ مِنِّي مَا أَقُولُ؛ فَقَدْ دَعَوْتُكَ بِهَذَا الدُّعَاءِ وَأَنَا أَرْجُو أَنْ لا تَرُدَّنِي مَعْرِفَةً مِنِّي بِرَأْفَتِكَ وَرَحْمَتِكَ».٤

  • يا إلهي ويا سيّدي، أنا عبدك؛ فأنت المولى وأنا العبد! «إلى أيَن يَفِرُّ العَبدُ إلاَّ إلى مَولاه»٥؛فأنا عبدك، وأنت سيّدي؛ وقد أتيت إلى باب بيتك، لأحتمي به؛ وقد أوقفني هنا الفقرُ الذي أشعر به في نفسي؛ كما أنّني تسمّرتُ ـ بسبب هذه الفاقة ـ في مكاني بين يدي جمالك وجلالك، بحيث لم أعُد قادرًا بتاتًا على تخطّي هذه العتبة وباب الرحمة هذا!».

  • وذلك لأنّني عبدُك، وأنت الذي خلقتني؛ وذاتُ العبد مكتنَفةٌ بالفاقة والفقر؛ فلا يُمكنني المخالفة بالقول: «أنا لست فقيرًا»؛ وإذا قلتُ ذلك، فإنّني سأكون كاذبًا؛ والذين يقولون: «لسنا فقراء» كاذبون بأجمعهم.

    1. المثنوي المعنويّ، الكتاب الثالث، ص ٤٢٢.
    2. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٥٩٤.
    3. الكافي، ج ٣، ص ٣٢٤.
    4. البلد الأمين، ص ٢۱۱، فقرة من دعاء أبي حمزة الثماليّ.
    5. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٥٩۰: «إِلَى مّن يذهبُ العبدُ إلاّ إِلى مَولاهُ».

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

11
  • فالعالم بأجمعه يكذب؛ لكن لا يوجد أيّ إشكال في هذا الأمر؛ أ فهل يوجد أيّ إشكال في أن يكون كلّ العالم من أهل المجاز؟! أجل، يُستثنى من ذلك الذي أدرك أنّه فقير إلى الله تعالى؛ فهذا وحده يستطيع أن يقول: «أنا فقير»!

  • يقول أحد رفقائنا في النجف:

  • سمعت أنّ المرحوم القاضي رحمة الله تعالى عليه كان يعقد مجلسًا في شهر رمضان في نفس هذه الساعات (الساعة الثالثة أو الرابعة بعد حلول الليل)؛ فكان تلامذته يذهبون للجلوس عنده لمدّة ساعة ونصف، فيتحدّث إليهم قليلاً.

  • (يقول): لم أكن من تلامذة المرحوم القاضي؛ لكن، ذات ليلة، قلت في نفسي: «لأذهب إلى هناك، كي أسمع ما الذي يقوله».

  • فذهبت عنده من دون الولوج إلى وسط المجلس، وبقيت جالسًا في الخارج؛ فتحدّث لمدّة نصف ساعة؛ وحينما خرجت من بيته، انتابني شعور خاصّ، بحيث كنت أرى بكلّ وضوح أنّه: إمّا أنّني صرت مجنونًا، أو أنّ جميع الناس مجانين!

  • ولا يخفى أنّ كلامه صحيح؛ أي: إمّا أنّه صار بنفسه مجنونًا، أو أنّ جميع الناس مجانين، حيث يُراد من ذلك أنّ هذا الطريق لا يتّحد في المسار مع طريق الناس الذي هو عبارة عن طريق المجاز؛ إذ يتخيّل هؤلاء الناس أنّ الغرور والبطلان هو طريق الحقيقة؛ فيعدّ الإنسان نفسه مالكًا، ويتوفّر على مُكنة وسلطة وعلم ومكانة وحكومة؛ في حين أنّ ذلك كلّه باطل وفارغ؛ لأنّ ذات هذا الإنسان فقرٌ، والإمكان مستقرّ في قعر ذاته؛ فلا يقدر بتاتًا على ارتداء لباس العزّة، بل إنّ هذا اللباس لا يليق به أبدًا!

  • «الكِبريَاءُ إِزاري والعَظَمَةُ رِدائي»۱؛ فإذا ارتدى العبدُ والغلامُ لباس السيّد، فلن يليق به بتاتًا، وسيقول بنفسه في داخله: «لا يُناسبني هذا اللباس بتاتًا»؛ وذلك نظير طفلٍ وضع على جسده لباس رجل سمين وكبير، أو ولدٍ يبلغ من العمر عامين أو أربعة أعوام أمسك بيده لباس أحد الأبطال، أو ثعلبٍ اكتسى جلدَ أسد؛ فهو ثعلب، وليس بأسد؛ وحتّى لو ظلّ على تلك الحال لمدّة ألف سنة، فإنّ ارتداءه لباس الأسد لن يُصيّره أسدًا!

  • الموجودات بأجمعها مستهلِكة لا مولِّدة

    1. التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، ص ٣٦:
      «[قال الإمام عليه السلام... قال اللهُ تعالى:] يا موسى، إنَّ الفخرَ [العَظَمَةَ] رِدائي، والكِبرياءَ إزاري، مَن نَازَعَني في شيءٍ مَنهُما، عَذَّبتُه بِناري».

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

12
  • فالممكن له ارتباط بالواجب، ويُفاض عليه الوجود منه تعالى باستمرار؛ فنرى أنّ هذا المصباح المضاء في المسجد الآن يحصل على إضاءته من المصنع، وبشكل دائم، بحيث لا يُمكنه أن يقول: «أنا الذي أمنح النور، وأنا بنفسي الذي أفيضه»؛ بل إنّه يستقبل النور، ويمنحه؛ وإذا قال: «أنا هو منبع النور ومركزه، وأنا أفيضه من ذاتي»، فإنّه سيكون كاذبًا؛ لأنّ ذلك المصنع هو الذي يمدّه بالنور، والمولّد الكهربائيّ هو الذي يُفيضه عليه؛ فيستقبله هو؛ فهو مُجرّد مستهلِك، وليس مولّدًا؛ هل التفتّم؟! لكن، إذا أردتم أن [تسألوا] هذا الطفل: هل المصباح هو الذي يمنح النور؟ فإنّه لن يفقه من ذلك شيئًا، ولن يتمكّن من إدراك حقيقة المفتاح الكهربائيّ، بل سيكتفي بالقول: «حينما أضغط على المفتاح، فإنّ المصباح يُضيء»؛ أي أنّه يرى بأنّ النور يأتي من ذات هذا المصباح، ولا يُدرك أنّ ذلك المفتاح هو وسيلة للارتباط بالمولّد الكهربائيّ، وأنّ المصباح ليس مولّدًا، وأنّ المكواة ليست مولّدة، وأنّ المحرّك الكهربائي ليس مولّدًا؛ فلا شيء من هذه الأجهزة يكون مولّدًا للكهرباء، بل هي بأجمعها مستهلِكة.

  • فزيد وبكر وعمرو وخالد والحيوان والإنسان والجاهل والعالم بأجمعهم مستهلكون، وليسوا مولّدين؛ لكن، هل بوسع المرء إدراك هذا الأمر؟! وعليه، بما أنّ الإنسان مستهلِك، فقد «أَقَامَتهُ الخَصاصَةُ بينَ يَدَيكَ». فالحقّ هو الذي أتى بي إلى هنا؛ لأنّ ذاتي مستهلِكة، وأنا محتاج إلى الطاقة، بحيث إذا لم أحصل على هذه الطاقة، سأكون مُعتِمًا.

  • فأنت الذي خلقتني على شكل مصباح، ولا بدّ أن تمنحني الطاقة لأتمّكن من إفاضة النور؛ وإلاّ، فإنّني ظلمانيٌّ؛ وأنت الذي أوجدتني على شكل سماور كهربائيّ،۱ فلا بدّ أن تهبني الكهرباء لكي أتمكّن من غلي الماء؛ وإلاّ، فإنّني مجرّد جماد ملقىً في الزاوية؛ وأنت الذي خلقتني شجرة، أو إنسانًا، أو حيوانًا، أو أيّ شيء آخر؛ فلا بدّ أن تُفيض عليّ، لكي يتجلّى فيّ فيضُك؛ وإلاّ، فإنّني معدوم! أَقَامَتهُ الخَصَاصَةُ: يعني أنّ هذه الخصاصة أمر ذاتيّ؛ وهي التي أتت بي إلى هنا، وأوقفتني بين يدي رحمتك وكرمك، وجلالك وجمالك!

  • «يَقرَعُ بَابَ إِحسانِكَ» (باستمرار، و) بِدُعائِهِ (وطلبه، فإنّه لا يتوقّف بتاتًا عن هذا القرع).

    1. السماور: وعاء معدنيّ يُستخدم لتسخين الماء، وإعداد الشاي. المعرّب

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

13
  • «فَلا تُعرِض بِوَجهِكَ الكَريمِ عَنِّي».

  • فوجهك كريم، وليس عبوسًا ومُقطَّبًا، حيث توجد بعض الوجوه التي إذا نظر إليها الإنسان، لزمه بالضرورة أن يدفع كفّارةً، بحيث ينبغي على الإنسان أن يستعيذ بالله تعالى من أن يسألها شيئًا من الأشياء! وتوجد حكاية من هذا القبيل ذكرها الشيخ سعدي في كتابه الجلستان (روضة الورد)، وجاء فيها:

  • بــه تمنّــای گوشــت مــردن بِــه***کــه تقاضــای زشــت قصّــابان۱
  • [يقول: أن تموت وأنت تتمنّى أكل اللحم أفضل من سؤالك القبيح من القصّابين]

  • لكن، إذا كان الوجه كريمًا، فإنّه سيكون مفيضًا ولطيفًا وودودًا؛ فإذا سأل الطفل والدَه شيئًا، فلن يتشاجر معه، ولن يضربه على قفاه، بل سيُلاطفه، ويمسح بيده على رأسه، ويمنحه ما يُريد؛ ولهذا، فإنّ هذا الطفل يُحبّ دائمًا أن يجري، ويرتمي في حضه أمّه وأبيه، ويسألهما شيئًا ما.

  • وهذا بخلاف ما إذا كان الأب عبوسًا ومقطّبًا وجهه، بحيث ما إن يفتح ابنه فمه، حتّى يعلم بأنّه سيتلقّى ضربة على قفاه؛ ففي هذه الحالة، لن يطلب منه هذا الابن شيئًا بتاتًا؛ إلى درجة أنّه لو اشتهى يومًا ما حلوى أو سكاكر، لما تجرّأ على ذكر ذلك لأبيه أو أمّه!

  • لكنّ وجهك أنت كريم؛ فلا تُعرض عنّي بوجهك الكريم هذا! ولا تُدر بهذا الوجه عنّي!

  • أهمّية الإلحاح على الله تعالى في السؤال

  • «واقبَل مِنِّي ما أَقولُ».

  • وباختصار، لا بدّ أن تقبل كلامي؛ فحتّى إن لم ترحم، فلا بدّ أن ترحم؛ فإن أردت أن ترحمني، فبها ونعمت؛ وإن لم تُرد أن ترحمني، فالأمر كما تشاء أنت؛ غير أنّك "ابتُليت بنا"، فلا بدّ أن ترحمنا! وخلاصة القول، فإنّ سؤالنا هو بهذا النحو، وهو سؤال متسوّل يقول: «إن شئت أعطيت، وإن شئت لم تُعط؛ فالأمر يرجع إليك؛ لكن، في جميع الأحوال، لا بدّ أن تُعطينا!»؛ ولا يخفى أنّ هذا النوع من السؤال جيّد!

  • «فَقَد دَعَوتُ وأنَا أَرجو أن لا تَرُدَّني مَعرِفَةً مِنِّي بِرَأفَتِكَ ورَحمَتِكَ»؛

  • فقد مدحتك وذكرتك بواسطة هذا الدعاء الذي قرأته وهذه المناجاة التي ناجيتك بها، وكلّي أملٌ ألاّ تردّني؛ لأنّني اطّلعتُ على رأفتك ورحمتك، وأنا عالم بأنّك رحيم ورؤوف؛ ولهذا، فإنّني أدعوك وأسألك؛ وعلاوةً على ذلك، فإنّني فقير، وقد أتيت إلى باب بيتك، ولن أغادر هذا الموضع، بل سأظلّ جالسًا هنا!».

    1. الجلستان (روضة الورد) لسعدي، الباب الثالث، في فضيلة القناعة، الحكاية ٩.

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

14
  • «سَيِّدي، عَبدُكَ أَقَامَتهُ الخَصَاصَةُ بَينَ يَدَيكَ»؛ فلن أنصرف عن هذا الباب.

  • «إِلَهي، أنتَ الذي لا يُحفيكَ سائِلٌ ولا ينقصُكَ نائِلٌ».

  • إلهي، أنت الذي لا يُتعبك السائل، ولو سأل ما سأل.

  • فالسائل مُتعِب! أجل، يوجد بعض السائلين الذين لا يكونون سائلين حقيقة، بل مجرّد مدّعين؛ نظير السائل الذي أتى النبيّ ليسأله حاجةً ما؛ حسنًا، إن كنت تُريد شيئًا، فاطلبه؛ لكن، لماذا تسحب عباءة الرسول؟! حيث قام بسحب عباءة النبيّ عن كتفه [بشدّة]، إلى درجة أنّ هذه العباءة جرحته صلّى الله عليه وآله وسلّم!۱ أو كذاك الذي جاء عند الرسول في المسجد أو بيته، وسأله حاجة؛ لكن، ماذا سأله؟! عليكَ أن تملأ رحال جمالي بالزبيب والقمح؛ لأنّني أريد الذهاب إلى ...! فكانوا يسألونه أشياء كبيرة!

  • ذات يوم، جاء أحد هؤلاء بهديّة إلى النبيّ، فحمل صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الهديّة برفقة أصحابه؛ لكنّ ذلك الرجل ظلّ جالسًا؛ ما الذي حصل؟! أريد ثمن الهديّة! فضَحِكَ رَسولُ اللهِ حَتَّى بَدَت نوَاجِذُه.٢ فيأتي المرءُ بهديّة، ويكون قد نذرها، ثمّ يُريد بعد ذلك بإزائها مالاً! وعلى الأرجح أنّ هذا المال لا يُساوي قيمة تلك الهديّة!

  • في أحد الأيّام، كان النبيّ في طريقه إلى المنزل، فمسك أحدهم بحِمله، وقال له: «أنا أريد أن أحمله عنك»، حيث كان صلّى الله عليه وآله وسلّم يُمسك بيده شيئًا يُريد أن يأتي به إلى البيت؛ فقال ذلك الرجل بكلّ إصرار: «يا رسول الله، أعطني إيّاه لكي أساعدك»؛ فلم يقبل النبيّ بذلك، غير أنّه أخذه منه، إلى أن وصلا إلى باب البيت، فوضع الحِمل على الأرض، ثمّ ظلّ واقفًا هناك:

  • ـ حسنًا، يا رسول الله، بما أنّني أتيت بهذا الحمل، فإنّ لديّ حاجة!

  • ـ حسن جدًّا، تفضّل!

  • ـ حاجتي هي أن تضمن لي الجنّة!

  • أنعم به وأكرم، فشهيّته جيّدة أيضًا!

  • تأمّل النبيّ قليلاً، ثمّ قال له: «عليّ أن أفكّر في الأمر، لكن، بشرط أن تُعينني بطول السجود»؛ أي: عليك أن تُؤدّي سجدات طويلة!٣

  • فهو يطلب الجنّة ممّن هو رحمة للعالَمين؛ وحينئذ، هل يُمكن أن يقول له صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لن أمنحك إيّاها»؟! لكن، عليكَ أن تقوم في نهاية المطاف بشيء ما، وتُؤدّي عملاً ما، ولو بمقدار نَفَس واحد، وتقول شيئًا ما، ولو بمستوى: «يا الله، ولبّيك!»؛ فقال له الرسول: «أعنّي [أعنّا] بطول السجود».

    1. الطبقات الكبرى، ج ۱، ص ٣٥٤؛ مسند أحمد، ج ٣، ص ۱٥٣؛ صحيح البخاريّ، ج ٤، ص ٦۰.
    2. الكافي، ج ٢، ص ٦٦٣، مع اختلاف يسير.
    3. الكافي، ج ٣ـ ص ٢٦٦؛ تاريخ اليعقوبيّ، ج ٢، ص ٩٩ و۱۰۰، مع اختلاف يسير.

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

15
  • المنبع اللامتناهي لا ينقُص بالعطاء

  • إلهي، أنت الذي يسألك هذا السائل، ويُلحّ عليك بشكل مزعج، ويصرخ، ويصيح قائلاً: «لا بدّ أن تعطيني حاجتي» من دون أن يتراجع أبدًا، فلا تتعب، ولا تربط المسائل بهذه الكلمات؛ كما أنّ العطاء والإحسان الذي تقوم به لا يُنقص من ملكك شيئًا، بل ولا معنى بتاتًا لأن ينقص ملكُك؛ لأنّك منبع غير متناهٍ؛ إذ مهما أخذتم شيئًا من اللامتناهي، فإنّه لا ينقص.

  • فإذا تمكّن الإنسان من فهم معنى اللاتناهي بشكل جيّد، فإنّه سيُدرك أنّه مهما أخذ منه شيئًا، فلن ينقص أبدًا؛ لأنّ المحدود هو الذي يُنقص منه؛ وأمّا الأمر الذي لا نهاية له، فإنّه يبقى لا نهائيًّا، ولو أُ خذ منه ما أُخذ.

  • «أنتَ كَمَا تَقولُ وفَوقَ ما نَقولُ».

  • فإذا كنّا نذكرك بهذه الصفات؛ أي: «لا يُحفيكَ سائِلٌ ولا ينقصُكَ نائِلٌ» وأمثالها، فإنّ مدحنا هذا هو بمقدار قابليّتنا وفكرنا؛ في حين أنّك على ما أنت عليه! فأنت شمس، وأنت بنفسك عالمٌ بما أنت عليه! بينما نُناديك نحن من مكان بعيد، ومن وراء حجاب؛ فنحن نختلف عنك كثيرًا؛ ولهذا، بمقدار قدرتك وعظمتك وسعتك والمقام اللامتناهي من العلم والحياة والقدرة وبقيّة الصفات التي تتوفّر عليها وتُفيضها على عالم الوجود، أفض علينا أيضًا نحن الموجودات المحدودة!

  • «اللهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ صَبرًا جَميلاً وفَرَجًا قَريبًا وقَولاً صادِقًا وأَجرًا عَظيمًا».

  • إلهي، إنّي أسألك عدًدا من الأشياء: أوّلاً، الصبر الجميل، بأن تمنحني صبرًا وتحمّلاً؛ لكن بشرط أن يكون جميلاً؛ إذ من الممكن أن يصبر الإنسان، غير أنّ صبره لا يكون جميلاً، بل يكون مقترنًا بالشكوى والتذمّر؛ ففي هذه الحالة، لن يكون هذا الصبر جميلاً؛ فتجد الإنسان يصبر لكنّه يتذمّر في الوقت ذاته. فهبني صبرًا جميلاً؛ أي: فأقرر ظاهري وباطني بقضائك وبتلك الأمور المقدّرة عليّ التي فيها صلاحي، وامنحني السكينة والطمأنينة حتّى لا أشكو ولا أتذمّر!

  • «وفَرَجًا قريبًا»؛ ففرجّ عنّي لكي أتابع أعمالي، وافتح لي الأبواب، ولا تُغلقها في وجهي، فأنا أريد منك فرجًا قريبًا وسريعًا!.

  • «وَقَولاً صادِقًا»؛ فاجعل كلامي صادقًا، بحيث يكون كلّ ما أقوله ويمرّ على ذهني متحقّقًا بالحقّ، من دون أن يتخطّاه أو يفترق عنه!.

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

16
  • «وأَجرًا عَظيمًا».

  • مثل أجر ذلك الأعرابيّ الذي أتى النبيّ، وأحضر حمله إلى المنزل، حيث سأله الجنّة في مقابل ذلك؛ فلا بدّ أن تمنحنا أجرًا عظيمًا، ولا تنظر إلى عملنا الحقير، بل انظر إلى نفسك أنت!

  • «أنتَ كَمَا تَقولُ وفَوقَ ما نَقولُ»؛ فانظر إلى ذاتك أنت، ولا تنظر إلينا نحن؛ وبالتالي، تفضّل علينا بما نسأله!

  • «أَسأَلُكَ يَا رَبِّ مِنَ الخَيرِ كُلِّه مَا عَلِمتُ مِنهُ وَمَا لَم أَعلَم».

  • فلا تظننّ أنّه حينما مدحتك بكلّ صفاتك العليا أنّني سأتراجع، بل إنّني أسألك يا إلهي أن تفيض عليّ جميع الخيرات، ما علمتُ منها وما لم أعلم!.

  • فإن قيل: «إنّ ما تعلمه قليل»؛ وذلك لأنّ المقدار الذي لا يعلمه الإنسان أكبر بكثير من المقدار الذي لا يعلمه، فإنّني سأقول: «أسألك الخير بنحو عامّ، ما علمتُ منه وما لم أعلم».

  • توسّل السائل بمحبّة الصالحين وسؤالهم

  • «أَسْأَلُكَ اللّهُمَّ مِنْ خَيْرِ ما سَأَلَكَ مِنْهُ عِبادُكَ الصَّالِحُونَ، يا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ وَأَجْوَدَ مَنْ أَعْطى، أَعْطِنِي سُؤْلِي فِي نَفْسِي وَأَهْلِي وَوالِدَيَّ وَوُلْدِي وَأَهْلِ حُزانَتِي وَإِخْوانِي فِيكَ، [وَ] أَرْغِدْ عَيْشِي، وَأَظْهِرْ مُرُوَّتِي، وَأَصْلِحْ جَمِيعَ أَحْوالِي».

  • إلهي، إنّي أسألك أفضل شيء سألك منه عبادك الصالحون.

  • فأنا لستُ بصالح!

  • أُحبُّ الصالِحينَ ولَستُ مِنهم***لَعَلَّ اللهَ يرزُقُني صلاحًا
  • إذن، أنا لست صالحًا لكي أسألك، غير أنّني أسألك ـ لكن بفضلك ـ نفسَ المسائل المرضيّة التي سألك إيّاها صالحو العالم وذاكروه ومخلِصوه ومخلَصوه، الذين ساروا نحوك، ووصلوا إليك، وكانت لديهم مناجاة معك، وخلوة بك؛ إذ لو تفضّلت عليّ بهذه المسائل، فلن ينقص شيء من خزائنك؛ فتفضّل عليّ بها!

  • فهذه الليلة هي ليلة الثامن والعشرين من شهر رمضان؛ وها هو هذا الشهر الفضيل ينقضي! فلا تنظر إلينا، بل انظر إلى ذاتك؛ لكن، يبقى أنّ هذه المحبّة مكنونة في قلوبنا، بحيث نرى أنّ الأشياء التي يطلبها الصالحون منك هي أشياء جميلة؛ ونحن نُريدها أيضًا؛ لكن، ماذا عسانا أن نفعل؟! فالفقر والحاجة والحرمان والثقل والظلمة والذنوب والأماني والمحن والتعلّقات لا تسمح بانجذاب أنفسنا إلى مقامك المقدّس.

  • فالصالحون ساروا، ووصلوا، وسألوك؛ ونحن نقول باختصار: تفضّل علينا نحن أيضًا بما تفضّلت به عليهم، واستجب لنا بكرمك، ولا تتوقّع منّا هكذا أعمال؛ فنحن كسالى، ولا يصدر منّا أكثر من ذلك؛ وحينئذ، إن شئت أن تتفضّل علينا، فلك الحمد والشكر، وإن لم تشأ ذلك، فلن توجد لدينا أيّة مشكلة؛ غير أنّنا سنسألك!

سعة الرحمة الإلهيّة - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ- الجلسة التاسعة عشرة

17
  • لكن، أنت الذي قلت: سأستجيب لطلب السائلين؛ فتفضّل علينا بهذه المسألة أيضًا، وليَكُن عطاؤُك خاليًا من المشقّة؛ لأنّنا لا نملك قدرة كبيرة على العمل، بحيث نعبدك من الليل إلى الصباح، ونُصلّي ألف ركعة في كلّ ليلة، ونُجاهد في سبيل الله بهذا النحو؛ لأنّ هذه الأمور لا تتلاءم مع مزاجنا؛ غاية الأمر أنّه حينما نسمع أنّ أمير المؤمنين كان يُصلّي ألف ركعة، فإنّنا نفرح؛ هذا وحسب! وعندما نسمع أنّه كان يُجاهد بذلك النوع من الجهاد، ويتصدّق على الفقراء بتلك الطريقة، فإنّنا نفرح، حيث إنّ وجودنا قد اختُزل الآن في هذه المحبّة؛ فتساهل معنا بهذا النحو، واستجب لنا بلطفك وكرمك.

  • نرجو من العليّ الأعلى أن يتعامل معنا ـ إن شاء تعالى ـ بهذه الطريقة.

  •  

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.