17

غربة الإنسان وكرم الله تعالى

شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

1143
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةشرح دعاء أبي حمزة

التاريخ 1398/09/20


التوضيح

في هذه المحاضرة التي عقدها سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة لشرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ، تحدّث بدايةً عن خضوع كافّة الموجودات لله، ثمّ أشار إلى عجز الإنسان وانقطاع حجّته أمامه تعالى؛ مبيّنًا في ضمن ذلك أنّ الباري عزّ وجلّ هو المتّكأ الوحيد للإنسان؛ وبعد ذلك، تطرّق إلى مسألة تطلّع الإنسان لكرم الله تعالى ومعروفه؛ ثمّ تحدّث عن علّة نزول الإنسان من عالم الملكوت إلى الدنيا؛ مُنبِّهًا إلى أنّ نار البعد عن الله تعالى أعظم من النار الظاهريّة؛ وأشار كذلك إلى أنّ الاعتراف بالذنب والتقصير رأس مال الإنسان في الطريق إليه تعالى؛ ليختم كلامه بالحديث عن غربة الإنسان في الدنيا ووحدته في القبر وطريق رفعهما.

/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

1
  •  

  • هوالعليم

  •  

  • غربة الإنسان وكرم الله تعالى

  •  

  • شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • سماحة العلامة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله نفسه الزكيّة

  •  

  •  

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

2
  •  

  •  

  • أَعوذُ بِاللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ

  • بسم الله الرّحمن الرّحيم‌

  • وصَلَّى اللَهُ على محمّدٍ وآلِهِ الطّاهِرينَ‌

  • ولَعنةُ اللَهِ على أعدائِهِم أجمَعينَ

  •  

  •  

  • خضوع كافّة الموجودات لله تعالى

  • «فالأَمرُ لَكَ وَحدَكَ لا شريكَ لَكَ، والخَلقُ كُلُّهم عِيالُكَ وفي قَبضَتِكَ، وكُلُّ شَيءٍ خاضِعٌ لَكَ تَبَارَكتَ يا ربَّ العالَمينَ».

  • فالأمر مختصّ بك أنت أيّها الإله الأحد، ولك الوحدانيّة في الأمر والخلق وبقيّة الصفات الفعليّة والذاتيّة، بحيث لا يوجد لك أيّ شريك، سواء في ذاتك أو أسمائك أو صفاتك أو أفعالك، بل إنّك واحد في ذاتك واسمك وفعلك.

  • «والخَلقُ كُلُّهم عِيالُكَ»؛ وجميع المخلوقات ـ أي كافّة ما سواك، والمتمثّل في الخلق الذي تكون أنت علّةً وخالقًا له بأجمعه ـ تقتات على رزقك، وتدخل في زمرة عيالك، وتقع أعباؤها على عاتقك.

  • «وفي قَبضَتِكَ»؛ وفي يد قدرتك، وفي كنف سطوتك وعظمتك.

  • «وكُلُّ شَيءٍ خاضِعٌ لَكَ»؛ والموجودات صارت بأسرها في حالة خضوع وذلّة وفقر أمامك؛ لأنّك عزيز وقيّوم عليها.

  • (وبالتالي، أضحت ـ بالملازمة ـ في مقام الليونة والانفعال والخضوع تجاهك).

  • «تَباركتَ»؛ فأنت عالي المرتبة جدًّا، وجليل القدر، وعظيم المنزلة، ورفيع الدرجة، ومبارك، بل وكثير البركة.

  • «يا ربَّ العالَمينَ»؛ يا أيّها الإله المبدِع والخالق للعالمين بأسرهم!.

  • عجز الإنسان وانقطاع حجّته أمام الله تعالى

  • «إِلهي، ارْحَمْنِي إِذَا انْقَطَعَتْ حُجَّتِي، وكَلَّ عَنْ جَوَابِكَ لِسَانِي، وطَاشَ عِنْدَ سُؤَالِكَ إِيَّايَ لُبِّي؛ فَيَا عَظِيمَ رَجائي، لَا تُخَيِّبْنِي إِذَا اشْتَدَّتْ فَاقَتِي، ولَا تَرُدَّنِي لِجَهْلِي، ولَا تَمْنَعْنِي لِقِلَّةِ صَبْرِي؛ أَعْطِنِي لِفَقْرِي، وارْحَمْنِي لِضَعْفِي»‌.

  • فيا ربّي، ويا معبودي، ويا إلهي، ارحمني في ذلك الوقت الذي تنقطع فيه حجّتي، ولا أعود قادرًا على إقامة أيّ دليل أو برهان...!.

  • أي: مادام يرى الإنسان لنفسه موجوديّةً، فإنّه سيرغب في إقامة برهان ودليل على صحّة أعماله؛ غير أنّ الدليل والبرهان هنا هو إلى جانب الله، لا إلى جانبنا نحن؛ لأنّ جميع الأفعال التي يقوم بها تعالى حقّ، والمصير الذي يُقدّره للإنسان حقّ؛ وبالتالي: 

  • «ولَكَ الحُجَّةُ عَلَيَّ في جَميعِ ذلك، ولا حُجَّةَ لي في ما جرى عَلَيَّ في قَضاؤُكَ»۱؛

  • فالحجّة لك أنت، لا لي أنا؛ لأنّ الأمور التي قدّرتَ عليَّ قائمةٌ على سلسلة من الأسباب الخاضعة لإرادتك؛ وبالتالي، فإنّ إقامة البرهان والحجّة ـ على ذلك الأساس الذي قدّرتَه وفقًا للمصلحة والحكمة ـ من شأنك أنت، وأنا لا أقدر على إقامة حجّةٍ مخالفة للحجّة التي تُقيمها أنت؛ وحتّى إذا أقمتُ حُجّةً، فإنّها ستكون باطلة!.

    1. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ۸٤٦؛ فقرة من دعاء كميل.

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

3
  • ولهذا، فإنّ إقامة هكذا حجّة ستكون مفيدةً ما دام لم ينكشف الواقع للإنسان، ولم تأت حجّة أخرى أقوى؛ وإلاّ، إذا جاءت حجّة أقوى أبطلت حجّة الإنسان، فإنّ هذا الإنسان سيصمت، وتنقطع حجّته.

  • فكلّ من أقام ـ أثناء النزاعات والاختلافات ـ حجّة، وأورد برهانًا على مدّعاه، فإنّ هذا المدّعى سيظلّ ثابتًا، إلى أن تأتي حجّة أخرى أقوى، وتُبطل حجّته؛ وفي هذه الحالة، سيضطرّ للسكوت شاء أم أبى، ولن يعود لسانه قادرًا على الدفاع عن حريمه الشخصيّ؛ بمعنى: ما دام لم يسطع النور على قلب الإنسان، سيظلّ معتقدًا ـ اعتمادًا على خيالاته ـ بصحّة أعماله، معتبرًا أنّ هذه الأعمال حسنةٌ، حيث ستقوم نفسُه ـ بأقصى سرعة ممكنة ـ بترتيب مقدّمتين (صغرى وكبرى) ضمنيّتين وإجماليّتين في باطنها؛ ولهذا، فإنّ الأعمال التي يقوم بها هذا الإنسان تكون متّكئةً على هاتين المقدّمتين الصغرى والكبرى اللتين تُنسّق نفسه بينهما بشكل غير واعٍ ومن حيث لا تشعر، لتحصل على النتيجة، وتصدر منها الإرادة، وتسوق الإنسان نحو الفعل؛ هذا كلّه ما دام لم تأت حجّةٌ أقوى، أو ينبع نور من الباطن، فيحرق كافّة الحجج التي أقامها الإنسان بنفسه، ويقضي على هذه الحجج الظلمانيّة بأجمعها؛ وخلاصة القول: حينما تأتي حجّة أقوى، فإنّ حجّة الإنسان ستبطل.

  • وبكلّ تأكيد، فإنّ الإنسان ملزم في هذا الطريق بأن يعرض [أحواله] على الله تعالى؛ لأنّه لم يُخلق مهمَلاً: ﴿أَيَحۡسَبُ ٱلۡإِنسَٰنُ أَن يُتۡرَكَ سُدًى﴾۱؛ فهذا أمر خاطئ تمامًا! 

  • ففي هذا الطريق الذي يسلكه، سيُواجه في الأخير عقبةً تُفحَص فيها جميعُ أعماله، وتُقيّم هذه الأعمال اعتمادًا على حُجّة الواقع؛ وهي حجّة قويّة جدًّا، إلى درجة أنّه مهما حاول الإنسان الدفاع عن نفسه، وإظهار الباطل الذي ارتكبه في صورة الحقّ، وسعى للقول عن ذلك الحقّ الذي تركه: «لقد كان باطلاً، ولهذا تركتُه»، فإنّ هذه الحجّة ستتغلّب على حجّته، وتدمغها؛ وفي هذه الحالة، ستنقطع حُجّة الإنسان، ويخرس لسانه، ويعجز عن الدفاع.

  • «إلهي، ارحَمني إذا انقَطَعَت حُجَّتي»؛

  • «وَكَلَّ عن جوابِكَ لِساني (وثقُل) »؛

  • فكم يبلغ وزن اللسان في الفم؟ سيرًا واحدًا٢ أو سيرين! افرضوا أنّ هذا اللسان تورّم، وصار يزن كيلوغرامين، فحاول الإنسان استخدامه من أجل الدفاع عن نفسه؛ فكيف سيتسنّى له ذلك؟! فهو عاجز عن الحركة؛ لأنّه صار ثقيلاً جدًّا! هل لاحظتم أنّه في بعض الأحيان يعرض على الإنسان شعور بالانقباض، فلا يستطيع الكلام، حيث يصير في تلك الأثناء لسانُه ثقيلاً بهذا النحو، فلا يعود قادرًا على الكلام؟!

    1. سورة القيامة، الآية ٣٦.
    2. السير (بالإنجليزية: Seer)‌، هي وحدة تقليديّة للكتلة والحجم استُخدمت في أجزاء كبيرة من آسيا قبل منتصف القرن العشرين؛ وهي لا زالت تُستعمل في بعض البلدان مثل أفغانستان وإيران، وأجزاء من الهند. المعرّب

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

4
  • «وَطاشَ عِندَ سُؤالِكَ إيَّايَ لُبّي».

  • وحينما تسألني، يصير عقلي وإدراكي فارغًا، ويفقد لبّي وعقلي قوّة الدفاع، ويصير متّصفًا بالخفّة، فلا يقوى على الدفاع.

  • فأنا أعتمد في أعمالي على قلبي وقوّتي العاقلة، حيث يدلّني هذا العقل على بعض الطرق، ويُلجئني للمشي فيها؛ لكن، حينما تسألني، فإنّ قلبي يتوقّف، حيث يُراد هنا من القلب: القلب الحقيقيّ الذي يُعدّ مركزًا للإدراكات. فبما أنّ أفكاري قائمة بأجمعها على أساس الباطل؛ في حين أنّك تطرح على الإنسان سؤالاً حقًّا، فإنّ قلبي المليء بمخزون فكريّ خياليّ لا يقدر على الثبات في عالم الواقع والوجدان، ولا يتمكّن من الاستقامة هناك؛ ولهذا، فإنّه يهلك!

  • «فَيا عَظيمَ رَجائي»؛

  • «لا تُخَيِّبني إذا اشتَدَّت فاقَتي»؛

  • فحينما يزداد فقري، وتتضاعف فاقتي، وأصير عاجزًا، ولا يعود قلبي قادرًا على التفكير ولا على مساعدتي، ويتوقّف لساني عن الكلام، وتنقطع حجّتي، أعنّي حينئذ، ولا تُؤيسني!.

  • «ولا تَرُدَّني لِجَهلي».

  • فأنا أعترف بنفسي بأنّني جاهل؛ ولهذا، أثناء هذه المرحلة من المساءلة، حينما يستوعب الجهلُ كافّة أرجاء وجودي، لا تُلق بعنان هذا الجهل بيدي، بل أمسكه بيدك، وتغاضَ عن جهلي، وسَيِّرني [في الطريق].

  • «ولا تَمنَعني لِقِلَّةِ صَبري».

  • فلا تجعلني أتخلّف عن القوافل التي رحلت! حيث كان هؤلاء يتمتّعون بالرشاقة؛ ولهذا، تقدّموا إلى الأمام، وتمكّنوا من بلوغ مجموعة من المقامات والأهداف؛ بينما لم تكن لي طاقة على التحمّل، وكان صبري قليلاً، فتخلّفتُ؛ فلا تقطعني، ولا تمنعني بسبب ذلك!

  • فأنت أرحم الراحمين، وبمقدورك إعانتي وتحريكي.

  • «أعطِني لِفَقري وارحَمني لِضَعفي».

  • أعطني؛ لأنّني فقير، والفقير يجب أن يُعطى! وارحمني، لأنّني ضعيف، والضعيف من شأنه أن يُرحم!.

  • فالأغنياء ليسوا بحاجة لكي يوهب لهم شيء من الأشياء؛ كما أنّ الأقوياء الذين لديهم مُكنة لا يحتاجون إلى الرحمة؛ لكن، بما أنّني فقير وضعيف، فإنّني أفتقر إلى عنايتك ورحمتك.

  • الله تعالى هو المتّكأ الوحيد للإنسان

  • «سَيِّدِي عَلَيْكَ مُعْتَمَدِي ومُعَوَّلِي ورَجَائِي وتَوَكُّلِي، وبِرَحْمَتِكَ تَعَلُّقِي، وبِفِنَائِكَ أَحُطُّ رَحْلِي، وبِجُودِكَ۱ أَقْصِدُ طَلِبَتِي، وبِكَرَمِكَ أَيْ رَبِّ أَسْتَفْتِحُ دُعَائِي، ولَدَيْكَ أَرْجُو فاقَتي٢، وبِغِناكَ أَجْبُرُ عَيْلَتِي، وتَحْتَ ظِلِّ عَفْوِكَ قِيَامِي، وإِلَى جُودِكَ وكَرَمِكَ أَرْفَعُ بَصَرِي، وإِلَى مَعْرُوفِكَ أُدِيمُ نَظَرِي؛ فَلَا تُحْرِقْنِي بِالنَّارِ وأَنْتَ مَوْضِعُ أَمَلِي».

    1. خ ل: «ولِجودِكَ».
    2. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٥٩٣، مع اختلاف يسير: «أرجو غِنى فاقَتي»؛ المصباح للكفعميّ، ص ٥٩۷.

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

5
  • يا سيّدي، ويا مولاي، عَلَيكَ مُعتَمَدي، واتّكائي هو عليك أنت وحسب!.

  • فإذا زال هذا المـُتّكأ، لم أعُد أملك أيّ متّكأ! فنرى أنّ الفانوس المعلّق هنا يتّكئ على السقف، بحيث إذا بُتر هذا المتّكأ ـ كأن يأتي أحدٌ ويقطع حبله وسلسلته ـ فعلى أيّ شيء سيتّكئ ذلك الفانوس؟! فيكفي أن يُقطع الحبلُ لكي يسقط الفانوس، وينكسر! لقد أدركتُ أنّك معتمَدي ومتّكئي، حيث يُراد من المتّكأ: المعتَمد؛ فلا تقطع اعتمادي هذا، ولا تُضعفه، بل عاملني طبقًا للاتّكاء الذي أتوفّر عليه، ورسّخ هذا الاتّكاء، واحفظه! فأنت أملي ورجائي، وتَوَكُّلي عليك أنت، وأنا سأتخلّى عن نفسي في شؤوني، وأوكّلك إيّاها، لكي تكون أنت صاحب الإرادة والاختيار في هذه الشؤون، عِوضًا عن إرادتي واختياري؛ فأنا سأقوم بهذا العمل!

  • «وبِرَحمتِكَ تَعَلُّقي»؛ فأنا أتشبّث، وأعلّق نفسي دائمًا برحمتك.

  • «وبِفِنَائِكَ أَحُطُّ رَحْلِي».

  • فأنا إنسان عاجز ومُنهك، قد وصل من السفر للتوّ؛ ولهذا، فإنّني أُلقي بأحمالي في عتبة بيتك، ولا ألقيها في أيّ موضع آخر.

  • «وبِجودِكَ أقصِدُ طَلِبَتي»؛ فأنا أقصد وأنوي بجودِكَ هذه الطلبات والحوائج التي أريدها منك؛ وقد قصدتُ بمقام جودك وكرمك قضاءَ هذه الحوائج وتلبية هذه الأمور.

  • «وبِكَرَمِكَ أي رَبِّ أستَفتِحُ دُعائي»؛ وأنا أستفتح وأبدأ بكرمك هذا الدعاء الذي أدعوه وهذه المناجاة التي أقوم بها.

  • فأقول في البداية: «يا كَريمُ، يا رَحيمُ، يا رَحمانُ»، ثمّ أشرع بعد ذلك في الدعاء؛ ففي هذا الدعاء الباطني والخفيّ الذي أتقدّم فيه بطلبتي، أستفتح فيه حاجتي إليك برحمتك وكرمك؛ أي أنّني ألتجأ في السرّ والباطن إلى كرمك، وأريد أن تبدأ من هناك إفاضة الوجود عليّ، واستجابة دعائي!

  • «وَلَدَيكَ أرجو فاقَتي»؛ فأنا أرجو لديك أنت أن تُؤتَى فاقتي وحاجتي ثمارها، وتصل إلى غايتها المنشودة.

  • إذ لو توجّه الفقير وصاحب الحاجة إلى غيرك، لما كان هناك أيّ أمل بالنسبة إليه، ولَرَجع خالي الوفاض، وصارت يداه فارغتين أكثر؛ لكنّني وجّهتُ إليك فاقتي وفقري، وأنا أرجو أن يتحوّلا إلى غنىً ببركة غنى ذاتك المقدّسة!

  • «وبِغِناكَ أجبُرُ عَيلَتي»؛ فبغناكَ أنت أجبر ثقلي، وأريد من خلاله جبر حِملي الثقيل.

  • ويُراد من الجبر: إصلاح كسر العظام، حيث يرجع أصل معنى الجبر إلى شدّ العظم المكسور وتجبيره؛ أي أن يلتئم هذا العظم ويُجبر.

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

6
  • «بِكُم يُجبَرُ المـَهيضُ»۱؛ بِبَركتِكم أنتم ـ أيّها الأئمّة الكرام ـ يُجبر العظمُ المكسور.

  • أي: يلتئم ولا يعود مكسورًا؛ ومن هنا، يُطلق الجبر على بقيّة الموارد التي يُتَدارك ويُصلح فيها شيء من الأشياء؛ كما أنّ كلمة الجُبران مشتقّة في الأساس من الجبر، حيث يدلاّن معًا على إصلاح العظم؛ وذلك بأن يُخضع هذا العظم لإجراء يعود من خلاله إلى حالته الأصليّة تدريجيًّا، ويلتئم شيئًا فشيئًا؛ ولهذا، يُقال لعمليّة الإصلاح في بقيّة الموارد: «جبر». وفي هذه الحالة، حتّى إذا لم يُكسر العظم، لكنّ اللحم تمزّق، وجرت خياطتُه، وتماثل إلى الشفاء، فإنّه يُقال: «لقد تمّ جبره»؛ وهكذا أيضًا إذا سرق أحدُهم مالاً من آخر أو سلبه حقًّا، [وأرجعه إليه]، فإنّه يُقال: «لقد جبره»؛ هذا كلّه بنوع من العناية؛ وإلاّ، فإنّ أصل معنى الجبر هو إصلاح العظم.

  • فَبِغِناكَ أجبر عيلتي؛ أي هذه العيلة التي أثقلت كاهلي؛ لأنّ أثقالي كثيرة جدًّا! فكم هي كثيرة أثقال الإنسان؟! ولاحظوا حينما يُريد الإنسان السفر لمدّة يومين، فإنّه يسعى لتخصيص اليوم السابق من أجل ترتيب أموره؛ وحينئذ، إذا أراد القيام بسفر أبديّ، فكم سيلزمه من التحضير؟! وكم سيُعاني من الضغط؟! وكم سيكون لديه من خواطر وأفكار؟! وكم سيحتاج من وقت، إذا أراد تطبيق هذه الأفكار في الخارج؟! وما مقدار الضغط الذي سيُمارسه عليه هذا الأمر؟! وكم سيكون ذلك مُتعبًا ومُمِلاًّ! فبِغِناكَ أنتَ، سأجبر كلّ هذا التعب والملل والكسل الذي يُكسّر وجودي ويُهشّم عظام كينونتي! 

  • فحينما يحلّ غناك، لن تعود هذه الأمور مزعجةً بالنسبة إليّ؛ وحتّى إذا هُشّمت بعضُ عظامي، فإنّ غناك سيضع عليها في نفس تلك اللحظة دواءً، فتلتئم في الحال، حيث يقول البعض إنّهم كانوا يتوفّرون سابقًا على بعض الأدوية التي يضعونها على موضع الكسر من العظم، ويُضمّدونه، ثمّ يفتحون الضماد بعد أربع وعشرين ساعة؛ فإذا بالعظم قد التأم، ورجع إلى حالته السابقة في أربع وعشرين ساعة فقط! وحينئذ، إذا اعتمد الإنسان على غنى الله تعالى، فإنّ هذا الغنى سيجبُر كسرَه سريعًا وفي الحال، من دون أن يتطلّب الأمر أربعة وعشرين ساعة، أو أربعة وعشرين دقيقة؛ كلاّ! بل في أقلّ من أربعة وعشرين ثانية؛ هذا، مع أنّني لو شئت، لذكرت ما هو أقلّ من ذلك، لكنّني لا أمتلك الجرأة على هذا الأمر، وإلاّ، فإنّ المسألة تتطّلب وقتًا أقلّ. فببركة غناك، أستطيع جبر حمليَ الثقيل.

    1. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ۸٢۱؛ فقرة من زيارة المشاهد المشرّفة في شهر رجب.

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

7
  • «وتحتَ ظِلِّ عَفوِكَ قِيامي».

  • فوجودي في الأساس قائم ومنتصب تحت ظلّ عنايتك وعفوك؛ ولولا عفوك، لما قُمتُ، بل لسقطتُ، وهلكتُ، وقُضي عليّ.

  • تطلّع الإنسان لكرم الله تعالى ومعروفه

  • «وإلى جودِكَ وكَرَمِكَ أرفَعُ بَصَري»؛ فحينما أرفع عينيّ، وأحدّق بهما متطّلعًا إلى الرعاية والاهتمام، فإنّ ذلك يكون إلى جودك وكرمك فقط.

  • ولولا جودك وكرمك، لما تمكّنت الآن من فتح عينيّ، والنظر بهما، وتعليق الأمل على موضع معيّن، والتطلّع إليه.

  • «وإلى مَعروفِكَ أُديمُ نَظَري».

  • فأظلّ أنظر، وأنظر باستمرار؛ لأنّ هذا المعروف مختصّ بك، وهذا الإحسان متعلّق بك؛ فكلّما نظر الإنسان إليه أكثر، ازدادت لذّته، ولم تعُد له أيّة رغبة في أن يشيح ببصره عنه؛ فنجد الإنسان ينظر باستمرار، ويلتذّ بصورة دائمة، بحيث ستكون كلّ لحظة بالنسبة إليه ـ بواسطة إدامته للنظر ـ استمرارًا للذّة والبهجة.

  • فمعروفك ـ أي تلك الأفعال التي تصدر منك وتكون معروفة جدًّا ـ حلو للغاية! فنظري متعلّق بهذا المعروف، والذي يُقابل المنكر، حيث يُراد من المنكر الفعل الذي يؤدّي لحصول الاشمئزاز، ولا يحظى بالقبول، ولا يتلاءم مع الطبع؛ فتجد الإنسان يُلصق بالصمغ ورقة بورقة أخرى، فتلتصقان؛ في حين أنّه إذا أراد أن يُلصقهما بمادّة أخرى، فإنّهما لا تلتصقان، ولو فعل ما فعل! فحينما يصدر فعلٌ من الإنسان، فيراه الناس، ولا يرتضونه، بل يشمئزّون منه، فإنّ هذا الفعل يُسمّى بالفعل المـُنكر؛ خلافًا للفعل المعروف الذي يقول عنه الجميع: «أنعم به وأكرم! يا له من فعل حسن!»؛ كأن يأتي أحدٌ، فيُسلّم على رفيقه، حيث سيُقال له: «يا له من فعل حسن!»؛ لكن، إذا أتى، وحدّق بنظره إلى هذا الرفيق من دون أن يُسلّم عليه، فإنّ فعله هذا سيتسبّب في حصول الاشمئزاز والنفور؛ وهذا الذي يُقال له: «المـُنكر».

  • ففعلك يا إلهي كلّه معروف؛ أي أنّه يتّصف بأجمعه باللطف والإحسان والمودّة والفيض والرحمة؛ ولهذا، فإنّني أتطلّع إلى هذا المعروف باستمرار، بحيث كلّما نظرت إليه، حصلتُ على إشباع أكثر، من دون أن أقدر بتاتًا على الإشاحة ببصري عنه؛ فإلى هذا الحدّ يجذبني معروفك!

  • بعد منتصف الليل، أراد الإمام السجّاد عليه السلام أن يتوضّأ لأداء صلاة الليل، فوقعت عيناه على صورة القمر في السماء، فظلّ يُحدّق فيه باستمرار، إلى أنّ حلّ أذان الصبح؛ فأيّ نوع من النظر هذا؟! إنّه جمال الله تعالى الذي سطع على هذا القمر الذي صار نورانيًّا في الليلة الرابعة عشرة، فأنار السماء، وأضاء الأرض، كما أنّه يتحرّك في مسار محدّد، وله مبدأ خاصّ، ومقصد معيّن؛ وعلى الأرجح أنّ الإمام عليه السلام كان كلّما نظر إلى القمر، كانت تنتابه حالة من الانشراح واللذّة والابتهاج، فغشيته هذه الحالة إلى أن رُفع الأذان.

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

8
  • «إلى مَعروفِكَ أُديمُ نَظَري»؛ ويعني: حينما أنظر إلى معروفك وأفعالك وإحسانك، وإلى تلك الألطاف التي تلطّفت بها عليّ، وتلك الأضرار وأنواع الموت والمصائب التي جنّبتني إيّاها طيلة حياتي، وإلى الأخطار التي أبعدتها عنّي والنعم التي تفضّلت بها عليّ، وحينما أتأمّل في كلّ واحد من هذه الأمور، فإنّ نظري يبقي عالقًا فيها باستمرار، إلى درجة أنّه لا ينزاح عنها؛ بمعنى أنّ لطفك هو رائع وجذّاب جدًّا، إلى حدّ أنّه لا يسمح للإنسان بأن يتوجّه إلى غيره؛ فهو على هذا القدر من الروعة!

  • «ولا تُحرِقني بِالنارِ وأنتَ مَوضِعُ أَمَلي»۱.

  • فإذن يا إلهي، لا تُحرقني بالنار! فأنت مرتكز لأملي (فالموضع يعني المحور والقطب والمرتكز والقاعدة)، فكيف يُمكنك إحراقي بالنار؟!.

  • لكن، أيّة نار؟! إنّها نار الانفصال التي قال عنها عليه السلام:

  • «لا تَمنَعني لِقِلِّةِ صَبري، لا تُرَدَّني بِجَهلي، لا تُخَيِّبني إذا اشتَدَّت فاقَتي».٢

  • علّة نزول الإنسان من عالم الملكوت إلى الدنيا

  • فأنا أحمل على عاتقي كلّ هذه المصائب لأجلك أنت؛ وقد أتيت من عالم الملكوت إلى هنا، متحمّلاً كافّة هذه المشاكل في سبيلك أنت؛ وإلاّ، أ لم نكن في عالم الملكوت؟!

  • مرغ باغ ملکـوتم نـیَم از عـالم خـاک***چند روزی قفسی سـاخته اند از بـدنم
  • من ز خود نامده ام تا که به خود بـاز روم***آنکه آورد مـرا بــاز بَــرد در وطنم
  • [يقول: أنا طائر روضة الملكوت ولستُ من عالم التراب، و لقد صنعوا لي قفصًا من بدني لأيّام معدودات.

  • فلم آتِ بطوع إرادتي لأذهب بِمشيئتِي، بل انّ من جاء بي سيردّني إلى وطني].

  • همه روز درد من این است و همه شب سخنم***که چرا غافل از احوال دل خویشتنم٣
  • [يقول: همّي في كلّ نهاري، وحديثي طوال ليلي: لماذا أنا غافل عن أحوال قلبي؟].

  • فنحن كنّا متواجدين بذلك العالم:

  • تو را ز کنگرەء عرش می زنند صفیر***ندانمت که در این دامگه چه افتاده است٤
  • [يقول: يأتيك النداء من شرفات العرش: أنا لا أعلم كيف وقعتَ في هذه الأحبولة والمصيدة!]

  • فإذا كنّا أتينا إلى هنا من عالم الملكوت، فبسبب عشق الله تعالى، وإلاّ، فإنّ ذلك المكان كان رائعًا جدًّا؛ إذ لم تكن هناك شمس، ولا حرارة، ولا جوع، ولا عري، ولا نفقات الأهل، ولا بكاء الأطفال، ولا بقيّة المتاعب الأخرى، بل كان هناك هدوء، لكنّه هدوء التوقّف الذي لا يسمح للإنسان بالحركة.

    1. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٥٩٣: «فَلا تُحرِقني بِالنارِ وأنتَ مَوضِعُ أَمَلي».
    2. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٥٩٢: «لا تُخَيِّبني إذا اشتَدَّت فاقَتي، ولا تُرَدَّني لِجَهلي، ولا تَمنَعني لِقِلِّةِ صَبري».
    3. المثنوي المعنوي (ميرخاني)، الكتاب الرابع:
      روزها فکر مـن ایـن اسـت وهمـه شـب سـخنم***کـــه چـــرا غافـــل از احـــوال دل خویشـــتنم
      از کجـــا آمـــده ام آمـــدنم بهـــر چـــه بـــود***بکجــــا مــــیروم آخــــر ننمــــائی وطــــنم
      مـــرغ بـــاغ ملکـــوتم نـــیم از عـــالم خـــاک***دو ســـه روزی قفســــی ســــاخته اند از بــــدنم
      مـن بـه خـود نامـدم اینجـا کــه بخــود بـاز روم***آنکــــه آورده مــــرا بــــاز بــــرد در وطــــنم
      [يقول: *** فكري في كلّ نهاري وحديثي طوال ليلي: لماذا أنا غافل عن أحوال قلبي؟ من أين جئتُ؟ وما علّة مجيئي؟ وأين سأذهب؟ فوطني لم يتّضح لي أخيرًاأنا طائر روضة الملكوت ولستُ من عالم التراب، ولقد صنعوا لي قفصًا من بدني لأيّام معدودات.فلم آتِ بطوع إرادتي لأذهب بِمشيئتِي، بل انّ من جاء بي سيردّني إلى وطني]
    4. ديوان حافظ، الغزل ۱٦.

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

9
  • حيث أحضروا من مقام الذات المقدّسة غصنًا من الريحان، وعرضوه على الإنسان، فاستنشقه هذا الإنسان، فصار عاشقًا لله، وطفق يبحث عنه تعالى، وجاء إلى هذا العالم كالمجنون ليعثر عليه فيه؛ ولهذا، فإنّ مجيئنا لهذا العالم هو في الأساس لكي نجد الله تعالى، وإلاّ، فإنّنا لم نأت إلى هنا من دون طائل!

  • من که ملول گشتمی از نَفَس فرشتگان***قیل و مقال عالمی میکشم از برای تو۱
  • [يقول: أنا الذي كنتُ أتكدّر بأنفاس الملائكة، صرتُ أتجرّع لأجلك عَذْلَ الخلائق‌].

  • فالإنسان يعثر على الله تعالى في هذا العالم، حيث إنّ هذا الكفاح وهذه الأتعاب والآلام والأشغال والأعمال والزواجات والتجارات والزراعات والأسفار إلى الشرق والغرب إنّما هي بحثٌ عن الله لأجل العثور عليه تعالى! فعالم الوجود بأسره يُفتّش عنه لكي يعثر عليه، وجميع الموجودات تبحث عنه، وتُريد بأجمعها أن تجده؛ غير أنّ الناس جميعًا أضلّوا الطريق، فتراهم يُتعبون أنفسهم في الخيالات والأوهام، فيُخفقون؛ في حين، تجد الذي يمشي في الطريق المستقيم يتحرّك بنحو جيّد، ليعثر عليه تعالى!

  • يقول أبو علي بن سينا في كتابه الإشارات: العَارِفَ هَشٌّ بَشٌّ يُبَجِّلُ الصغيرَ كَمَا يُبَجِّلُ الكَبيرَ، ويَنبَسِطُ مِنَ الخامِلِ كَمَا يَنبَسِطُ مِنَ النَّبيهِ٢.

  • أي: مثلما أنّ العارف يحترم الكبار، فإنّه يحترم الصغار أيضًا؛ وإذا أتى عنده شخص مأفون أو خامل (أي ناقص العقل)، فإنّ نفسه تكون منشرحة ومنبسطة، مثلما تكون حينما يأتيه شخص ذكيّ وفطِن، من دون أيّ فارق!

  • ثمّ يذكر بعض العبارات الأخرى، إلى أن يصل إلى قوله: «وكيفَ لا يَهُشُّ وهو فرحانٌ بِالحَقِّ؟!٣

  • وكيف لا يكون بهذا النحو، وكيف لا يعيش حالة المرونة والليونة، وكيف لا يكون في طريق الوصال، وهو فرحان بالله تعالى، ومتحقّق بالحقّ على الدوام؟!.

  • «وكَيفَ لا يُسَوِّي والجَميعُ عِندَهُ سواسِية».

  • فكيف يُفرّق بين الموجودات، ولا ينظر إليها بنظرة واحدة؛ في حين أنّه يراها بأجمعها مخلوقة لله تعالى، ويعدّها متساوية برمّتها؟!.

  • وهذا الأمر يختصّ بالذي قطع صراطه المستقيم، وتخطّى فتن هذا العالم ومِحَنه، وكان مراده في هذه الشدائد هو الله تعالى، فسلك الطريق والصراط، لكي يصل إليه.

    1. ديوان حافظ، الغزل ٤۱۷:
      مـن کـه ملـول گشـتمی از نَفَــس فرشــتگان***قـال ومقـال عـالمی میکشـم از بـرای تـو
      [يقول: أنا الذي كنتُ أتكدّر بأنفاس الملائكة، صرتُ أتجرّع لأجلك عَذْلَ الخلائق]
    2. الإشارات والتنبيهات، ص ۱٤۷:«العَارِفَ هَشٌّ بَشٌّ بَسَّامٌ، يُبَجِّلُ الصغيرَ مِن تَوَاضُعِهِ كَمَا يُبَجِّلُ الكَبيرَ، ويَنبَسِطُ مِنَ الخامِلِ مِثلمَا يَنبَسِطُ مِنَ النَّبيهِ؛ وكيفَ لا يَهُشُّ وهو فرحانٌ بِالحَقِّ وبِكُلِّ شَيءٍ فَإنَّهُ يَرى فيهِ الحَقَّ؟! وكَيفَ لا يَستوي والجَميعُ عِندَهُ سَواسيَة؟! أهل الرحمةِ قَد شُغِلوا بِالباطلِ». 
    3. المصدر نفسه.

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

10
  • فالمسألة الأساسيّة تتمثّل في السير والحركة، وإلاّ، فإنّ الموجودات بأسرها تبحث عنه تعالى؛ إذ حينما يستيقظ التاجر في الصباح لكي يذهب إلى دكّانه ـ سواءً كان هذا التاجر نصرانيًّا أو يهوديًّا أو مادّيًا أو مشركًا ـ ، فإنّه يكون في صدد البحث عن الله؛ فيبحث عنه في الصباح، وعندما يأتي عنده مُشترٍ، وحينما يكون منهمكًا في عمله، وعندما يكون جائعًا فيتناول الغداء، وحينما ينام، وعندما يرجع في الليل إلى البيت؛ فنجده يقضي أيّامه كلّها بهذا النحو!

  • وهذا حال كلّ موجود من الموجودات، وكلّ حيوان من الحيوانات؛ وبشكل عامّ، فإنّ عالم الوجود يتحرّك طبقًا لهذه القاعدة، بحيث إنّ حركة الأجرام السماويّة تكون قائمة على أساس العشق، بل إنّ جميع الموجودات صارت تتحرّك بواسطة هذا الشوق والعشق!

  • «وأَنتَ مَوضِعُ أَمَلي».

  • نار البعد عن الله تعالى أعظم من النار الظاهريّة

  • فقد جئتُ، وصرتُ مبتلىً بهذه المصائب لأجلك أنت، وفي سبيل رضاك، ومن أجل الرجوع إليك؛ وإلاّ لما تنزّلت من ذلك العالَم أبدًا؛ وهو العالم الذي كنت أعيش فيه دائمًا تحت الأشجار الخضراء ﴿جَنَّٰاتٍ تَجرِي مِن تَحتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ﴾۱؛ أجل، يبقى أنّها جنّة مثاليّة خالية من الحرارة والبرودة والجوع والعُري. فلولا ذلك، لما بليتُ نفسي بهذه الشدائد؛ وحينئذ، إذا كان الأمر بهذا النحو، فلا تُحرقني بنار فراقك، ولا تُقصني من رحمتك، ولا تُبعدني عن مقام قُربك؛ فكلّ مرتبة من مراتب الهجران تترافق مع نوع من أنواع الجحيم، حيث تكون هذه الجحيم التي تستعر في القلب أكثر إحراقًا من الجحيم التي في الخارج!

  • فإذا نظرنا إلى الأمّ التي يكون ابنها مريضًا ويُنازع الموت، أو يكون قد مات فعلاً، سنجد أنّ في قلبها لهيبًا حارقًا، بحيث لو ذهبوا بها إلى أيّ مكان، أو أخذوها إلى أيّ منظر جميل، فإنّ تلك النار تظلّ تشتعل في قلبها، بل حتّى لو أحضروا لها أفضل طعام وأحسن لباس، واصطحبوها إلى أرقى المراكز الترفيهيّة، وسافروا بها إلى أحسن الأماكن، فإنّ تلك النار تظلّ موجودة! فهذه النار هي على درجة عالية جدًّا من الإحراق، إلى حدّ أنّه إذا دخلت تلك الأمّ في النار الظاهريّة، فإنّها ستحترق من دون أن تشعر بذلك؛ فتحترق يدُها، ويحترق لباسُها وبدنها. فحرارة هذه النار كبيرة جدًّا، بحيث لا يبقى للنار الظاهريّة في مقابلها أيّ ظهور، فلا تشعر تلك الأمّ بها.

    1. سورة البقرة، الآية ٢٥؛ سورة آل عمران، الآيات ۱٥ و۱٣٦ و۱٩٥ و۱٩۸.

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

11
  • تمامًا مثل مصباح ذي ألف واط يكون مضيئًا في المسجد، فنعمل على تشغيل مصباح ذي واطين، فهل سيُضيئ هذا المصباح في مقابل الآخر؟! إنّ النار المستعرة في صدر تلك الأمّ وقلبها هي ملتهبة ومحرقة إلى درجة أنّ النار الظاهريّة لا تملك في مقابلها أيّ ظهور! وفي هذه الحالة، فإنّ هذه النار تتوفّر في كلّ عالم من العوالم على مظهر خاصّ، بل إنّها تكون بنفسها من مظاهر جهنّم؛ وإلاّ، فإنّ جهنّم تختصّ في الأساس بالمـُبعَدين؛ لأنّ عالم القُرب لا توجد فيه جهنّم، بل هناك الجنّة! وعليه، كلّما كانت درجة القرب أعلى، كانت الجنّة هناك أقوى؛ وكلّما كانت درجة البُعد أكبر، كانت جهنّم هناك أشدّ؛ فدركات جهنّم تختلف باختلاف درجات البُعد، ودرجات الجنّة تختلف باختلاف درجات القُرب.

  • «ولا تُحرِقني بالنارِ» (يا موضع أملي، ومحور رجائي، ومركز غاية حركتي، ومقصد سيري).

  • «ولا تُسكِنّي الهاوِيَةَ»؛ ولا تُلقني في النار وسط أعدائك، وتفصلني عن أحبّائك، وتجعلني في عالم بُعدك.

  • «فإنَّكَ قُرَّةُ عَيني».

  • فذكرك يُسكّن قلبي، ويُبرّد عيني الملتهبة والمشتعلة التي صارت بهذا النحو بسبب الهجران، ويمنح النور للعين التي فقدت نورها.

  • «يا سَيِّدي، لا تُكَذِّب ظَنّي بِإحسانِكَ ومَعروفِكَ».

  • فلا تقم بفعلٍ يُفضي إلى تبدّل ظنّي إلى يأس، ويتغيّر ظنّي بمعروفك وإحسانك وفعلك الحسن؛ لأنّ ظنّي هذا قائم على أساس الصدق؛ فإذا أصبتني باليأس، فإنّني سأعدّ ذلك الظنّ كاذبًا! فلا تفعل ذلك، بل قُم بشيء يُقوّي ظنّي، ويختمه بختم الصحّة، فيصير يقينًا محضًا!

  • «فَإنَّك ثِقَتي»؛ لأنّك محلّ ثقتي، وأنا لا أملك أيّ أحد أثق فيه غيرك.

  • «ولا تَحرِمني ثَوَابَك (وأجرك) »؛

  • «فَإنَّكَ العَارِفُ بِفَقري» وأنت تعرف إلى أيّة درجة أكون محتاجًا.

  • فالناس لا يعلمون بمقدار فقري وحاجتي، بل ينظرون إلى ظاهري وحسب، شأني في ذلك شأن بقيّة الأفراد؛ بخلافك أنت الذي تطّلع على سرّي ومكنوني؛ ولهذا، فإنّني أخصّك أنت فقط من دون غيرك بهذه المناجاة؛ لأنّك العالم بمستوى فقري، وبحاجتي، والمطّلعُ على مقدار فاقتي.

  • الاعتراف بالذنب والتقصير رأس مال الإنسان في الطريق إلى الله تعالى

  • «إلهي، إن كان قَد دَنا أَجَلي ولم يُقَرِّبني مِنكَ عَمَلي، فَقَد جَعَلتُ الاعتِرافَ إلَيكَ بِذَنبي وَسائِلَ عِلَلي».

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

12
  • إلهي، لقد عشتُ إلى الآن وأنا أبحث عنك، خائرَ القوى ومقترفًا للعديد من الأفعال؛ فإن كان أجلي وموتي قد اقترب من دون أن أقوم بأيّ عمل أفوز عن طريقه بمقام قُربك، وأدنو بواسطته منك، ومن غير أن يتوفّر عملي على قوّة تتمكّن بها نفسي من الوصول إلى منزلة قربك، إلاّ أنّني أملك هنا شيئًا واحدًا وحسب؛ ألا وهو الاعتراف بذنبي، حيث إنّ أفضل وسيلة أتّخذها للاعتذار هي أنّني معترف بنفسي بالذنب!.

  • لقد انقضى العمر، واقترب الأجل، ولا يوجد شيء في رأس مالي لكي يُحرّكني؛ لكنّني أعترف بتقصيري وذنبي، من دون أن أكون متجرّأ عليك؛ فالذنوب التي ارتكبتها لم تكن عن جسارة وتجرّأ، أو عن وجحود وإنكار، أو عن خصام ومحاربة لك، بل كانت عن جهل؛ وها أنا ذا أعترف، وأجعل ذلك وسيلة للاعتذار، لكي تقبل عذري!

  • فنحن عباد مذنبون؛ وفي المقابل، أنت إله رحيم؛ ففي نهاية المطاف، لكلّ شيء مقابل؛ فالنهار يُقابل الليل، والبياض يُقابل السواد، والحلاوة تُقابل المرارة؛ وأنت إله كريم، فما الذي يقع في مقابل ذلك؟ نحن العباد العصاة! وأنت إله جيّد، فما الذي يقع في مقابل ذلك؟ نحن العباد السيّئون! هذا، مع أنّه لا يُمكننا ادّعاء الربوبيّة؛ وإلاّ، لو ادّعيناها، وكنّا من الآلهة، لكنّا نمتلك الأمور الحسنة.

  • إذن، لا تتوقّع منّا يا إلهي أكثر من ذلك! لأنّ معدن هذه الموجودات الممكنة وجوهرها أسود، ولا يُمكنها أن تصير ذهبًا؛ لأنّك أنت هو الذهب؛ بينما هي عبارة عن معادن مطليّة بالذهب تلجأ للخدعة، حيث استقت في هذه الدنيا ماءً من جوهرك، وسَكَبتهُ على معدنها، فصارت تبدو كأنّها ذهب أو فضّة، وبدأت تقوم ـ تحت هذا العنوان ـ ببعض الأفعال في هذا العالم؛ لكن، حينما يُراد أن يُتجاوز بها من هذا المعبر إلى هناك، وعندما يُراد أن يُعبر بها من الموقد، يُسكب عليها ذلك الماء، فتُبرز هذه المعادن ذاتها، سواءً كانت حديدًا أو فولاذًا أو نحاسًا أو أيّ شيء آخر؛ لكنّها ليست بذهب ولا إبريز۱.

  • فلا تتوقّع منها عكس ذلك؛ لأنّها في الأساس ممكنة [الوجود]، وممكن الوجود مخلوق، والمخلوق محدود ومكتنف بالعيب والنقص، ومقيّد! وأنت هو صاحب الصفات العليا والأسماء الحسنى، ونحن لسنا كذلك؛ غاية الأمر أنّ برقًا سطع من عالم غيبك، فصعقنا، وجعلنا عاشقين لك، ووالهين بك؛ وحينئذ، تجدنا نسعى للمسير إليك، خائري القوى، وبهذا الجوهر القصديريّ، وبهذا الإمكان وهذه الحدود التي نمتلكها! فشتّان بيننا وبينك!

    1. المحيط في اللغة، ج ٩، ص ٤٩: «الإبريزُ والإبرِزِيُّ: الذهبُ الخالصُ». المعرّب

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

13
  • لكنّ لطفك عظيم؛ ولهذا، فإنّه يجذبنا؛ وهذا اللطف مختصّ بك أنت، وليس بنا نحن؛ إذ لا يليق بنا نحن فعل أيّ شيء؛ ونحن نعترف بأنّنا لا نقدر على فعل أيّ شيء؛ فاجعل اعترافنا هذا سببًا ووسيلةً، وأوصلنا [إليك] من نفس المسار الذي جاء منه ذلك البرق الذي سطع من عالم الغيب، وأصابنا بالإجهاد والتعب؛ إذ لو لم نكن نمتلك القابليّة للوصول، لما سطع ذلك البرق، ولما وُجدت فينا هذه الرغبة؛ فكلّ رغبة موجود في الإنسان دليل وعلامة على أنّه يتوفّر على القابليّة لبلوغ تلك الغاية؛ وإلاّ، لما وُجدت فيه تلك الرغبة بتاتًا. فكلّ موجود فاقد لهذه الرغبة لا يتوفّر على أهليّة الوصول؛ فإذا كانت موجودة في الإنسان، فمن الواضح أنّه يتوفّر على شيء ما.

  • «إلهي، إن عَفَوتَ فَمَن أَولَى مِنكَ بِالعَفوِ»۱ ؟! 

  • فالعفو مختصّ بصاحب القدرة؛ وأمّا الذي يكون مفتقرًا لهذه القدرة، ويعفو، فإنّ عفوه هذا يكون ناشئًا من قلّة الحيلة؛ إذ حينما لا يقدر على فعل أيّ شيء، فإنّه يقول: «لقد عفوتُ!»؛ كلاّ، فالذي يكون قادرًا على الانتقام، ويكون صاحب شوكة، ثمّ يقول: «عفوتُ»، هو الذي يكون مالكًا للعفو، ويكون قد عفا حقًّا! ومن هنا، فإنّ العفو يكون مستحسَنًا إذا صدر من القادر؛ لكن، من عساه أن يفوقك في القدرة؟! والعفو يكون مستحسنًا إذا صدر من الكريم؛ ومن عساه أن يفوقك في الكرم؟! ولهذا، إذا عفوتَ، فلن تكون قد تعاملتَ خلافًا لمقتضى صفاتك، بل ستكون قد تصرّفت طبقًا لنفس هذا النهج؛ وهذا لُطف كبير منك!

  • فإن عفوتَ، فما أحسن ذلك؛ وإن عذّبت، فلن تكون قد أخطأت، بل ستكون قد عذّبت طبقًا لعدلك؛ لأنّك أمرتنا، فعمدنا ـ نحن العباد ـ إلى مخالفة أوامرك، فحلّ علينا العذاب؛ مع أنّ هذا العذاب نابع من عدلك.٢ لكن، نحن نرجوك ألاّ تُعاملنا بعدلك، بل تُعاملنا بعفوك؛ إذ يصعُب علينا عدلُك كثيرًا، بحيث إذا أردنا أن نضع أنفسنا في ميزان هذا العدل، لتتعامل معنا على أساسه، فإنّ ذلك سكون سيّئًا جدًّا بالنسبة إلينا.

  • ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ﴾٣.

    1. مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٥٩٣: «فَمَن أولى مِنكَ»؛ الإقبال بالأعمال الحسنة، ج ۱، ص ۱٦٩.
    2. الصحيفة السجّادية، ص ٦۰:
      «اللهُمَّ إن تَشَأ تَعفُ فَبِفَضلِكَ؛ وإن تَشَأ تُعَذِّبنا فَبِعَدلِكَ؛ فَسَهِّل لنا عَفوَكَ بِمَنِّكَ، وأَجِرنا مِن عَذَابِكَ بِتَجاوُزِكَ...».
    3. سورة النحل، الآية ٦۱.

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

14
  • أ فهل يوجد أحد على هذه الكرة الأرضيّة لم يرتكب ظلمًا؛ سواءً كان ظلمًا للغير أو للنفس، وسواءً كان ظلمًا كلّيًا أو جزئيًّا؟! وحينئذ، لن تبقى هناك أيّة دابّة! ومن هنا، فإنّك لستَ بسريع للعقاب، بحيث تُؤاخذ الإنسان بسرعة على ذنوبه وظلمه، بل إنّ عفوك غالب؛ وعلاوةً على ذلك، فإنّ عدلك إنّما هو بمقتضى مقام جلالك؛ أي لأنّك عظيم وجليل، فإنّك تقول: لقد عصيت، فينبغي عقابك!.

  • فعفوك نابع من مقام جمالك ورحمتك الرحيميّة.. «يا مَن سَبَقَت رَحمَتُهُ غَضَبَهُ»۱؛ ومتى ما حلّ هذان الاثنان، فإنّ رحمتك تنزل، وتمحي ذلك الغضب؛ فالمسألة هي بهذا النحو!

  • فالماء هو مظهر في هذه الدنيا لرحمتك؛ أليس كذلك؟! والنار مظهر للإحراق وغضب الله تعالى؛ لكن، هل بوسعهما أن يكونا في موضع ما معًا وجنبًا إلى جنب؟! إنّ الماء سيضرب النار، ويُطفئها، من دون أن يُبقي لها أيّ أثر. فحينما لا يكون ماء، هناك تندلع النار، وتشتعل، وتتأجّج، وتتطاير شرارتها، وتزفر، وتشهق؛ لكن، حينما يكون الماء، [لا يبقى لها أيّ أثر].

  • إلهي، إنّك عادل وعفوّ في الوقت ذاته؛ كما أنّ لديك في نفس الحين غضب ورحمة، وكذلك جلال وجمال؛ غير أنّنا أدركنا بأنّ جمالك غالب على جلالك؛ أي أنّ جمالك يسحبه ويذهب به عن طريق ابتسامتك؛ فلا يصدح جلالُك في ذلك المقام بنداء الإبعاد؛ لأنّ جمالك يكون قد أزاحه؛ فعامِلنا بعفوك! «اللهُمَّ لا تُؤَاخِذنا بِعَدلِكَ».

  • «إلهي، إن عَفَوتَ فَمَن أولى مِنكَ بِالعَفوِ، وإن عذَّبتَ فَمَن أَعدَلُ مِنكَ في الحُكمِ»؟!

  • فعدلك قائم أيضًا على أساس الإحكام في العمل!

  • غربة الإنسان في الدنيا ووحدته في القبر وطريق رفعهما

  • «اِرحَم في هذه الدنيا غُربَتي وَعِندَ المـَوتِ كُربَتي».

  • فنحن في هذه الدنيا غرباء ونعاني من الوحدة؛ وحتّى هذه المخلوقات الموجودة في عالم الدنيا التي يأنس بعضها ببعض، فإنّها تُعادي بعضها؛ غاية الأمر أنّها سعت لإقامة عقد أخوّة مع الإنسان بسبب مجموعة من المصالح؛ فالأموال بأجمعها أجرت عقد أخوّة معه؛ وكذلك الأمر بالنسبة للباب والجدار، والحيوانات، وبقيّة أفراد الإنسان؛ وهكذا إلى ما شاء الله، حيث تمّ إجراء عقود مع الإنسان بعدد كلّ هذه التعلّقات؛ مع أنّ الهدف من جميع تلك العقود هو قطع رأس الإنسان واستغلاله؛ نظير ما يُفعل مع جمل الأُضحية. لكن، حينما ينتهي أُنس هذه الموجودات بالإنسان، فإنّها ستضعه في منجنيق، وتقذف به إلى مكان لا يستطيع العودة منه! وهذه حقيقة لا غبار عليها؛ وإن شئتم، فاختبروا ذلك!

    1. كتاب المزار (للمفيد)، ص ۱٦۱؛ مصباح المتهجّد، ج ٢، ص ٦٩٦.

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

15
  • وعليه، فإنّني في الحقيقة غريب؛ ومن أكون أنا؟! إنّني ذاك الذي جاء من عالم الملكوت، ولا يُريد أن يتخلّى عن ذلك الحبل، بل يسعى لكي يثور على وجوده، ويدكّه في وجود الحقّ تعالى! في حين أنّ كافّة المخلوقات التي تتوفّر في هذا العالم على وجود تدعو الإنسان إلى وجودها وربوبيّتها.

  • فهذا الطريق هو طريق تخطّي الموجوديّة والكينونة؛ ولهذا، فإنّ موجودات العالم بأسرها تكون عدوّة للإنسان وللعارف؛ وحتّى الحجر الموجود في الصحراء يكون عدوًّا له؛ وذلك لأنّه يقول: «أنا لديّ وجود ومحبوبيّة وتقيّد؛ ولا بدّ لي من المحافظة في هذا الوجود على محبوبيّة ماهيّتي!»؛ كما أنّ الطائر يقول: «تلزمني المحافظة على كينونتي!»، ويقول الحائط: «لا بدّ لي من المحافظة على هذا الأساس؛ فأنا لديّ شخصيّتي!»؛ في حين، يقول العارف: «يجب أن تندكّ جميع الشخصيّات في ذات الحقّ تعالى؛ إذ لا توجد في هذا العالم سوى شخصيّة واحدة؛ وهي تختصّ بالحقّ!»؛ وبالتالي، فإنّ هذا النداء سيُؤدّي إلى إثارة عداء جميع الأفراد الذين يصل إلى مسامعهم.

  • فحينما أعلى الرسول الأكرم نداء (لا إله إلاّ الله)، لماذا أُثيرت كلّ تلك الضوضاء، وصارت جزيرة العرب بأسرها عدوّة له صلّى الله عليه وآله وسلّم؟!۱ أ فهل تحدّث بكلام سيّء؟! [كلاّ] بل لأنّه يوجد في أعماق كلمة (لا إله إلاّ الله) هذا المعنى المكنون: عليك أن تتخلّى عن كلّ شيء، وتقطع كافّة تعلّقاتك؛ فينقطع تعلّقك بكلّ شيء: بجبل أبي قبيس، وببساتين الطائف، وبكلّ شيء؛ فتبتر هذه التعلّقات بأجمعها، وتنقطع إلى الله تعالى.. ﴿وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾٢؛ وهذا ليس بالأمر السهل، بل هو في غاية الصعوبة! ومن هنا، فإنّ الذي يرفع هذا النداء، سيظلّ غريبًا وحيدًا!

  • «اِرحَم في هذه الدنيا غُربَتي».

  • والمراد من ذلك: لا تتركني غريبًا؛ أي: لو صالحتَني مع أيّ موجود من موجودات الدنيا، ولم تكن معي، لكنتُ مع ذلك غريبًا.

  • فأرجوك أن تقوم بعمل يُساهم في صلحي مع جميع الموجودات؛ لكن، متى أتصالح مع هذه الموجودات؟ حينما أتصالح معك أنت! ففي هذه الحالة، سأتعرّف على كافّة الموجودات؛ إذ متى ما رفعت الموانعَ عن طريقك، رفعتها أيضًا عن طريق كافّة الموجودات؛ ومتى ما عرفتك، عرفت هذه الموجودات بأسرها؛ ومتى ما هُديت إليك، هُديت إلى جميع المخلوقات؛ فتصير هذه المخلوقات التي كانت تُعاديني من أحبّائي ورفقائي؛ لأنّ عنوان الاثنينيّة ارتفع فيما بيننا، وحلّ محلّه عنوان الوحدة؛ فيُصبح ارتباط هذه الموجودات بالإنسان من جهة أنّها متعلّقة بوجود الذات الإلهيّة، وليس من جهة أنانيتها وشخصيّتها؛ وحينئذ، ستتحوّل العداوة التي كانت تُكنّها جميع المخلوقات لهذا الإنسان إلى محبّة.

    1. مناقب آل أبي طالب، ج ۱، ص ٥٦؛ إعلام الورى، ص ٥٣ ـ ٥٤؛ تاريخ الطبريّ، ج ٢، ص ٣٢٣ ـ ٣٤٩.
    2. سورة المزمّل، الآية ۸.

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

16
  • «اِرحَم في هذه الدنيا غُربَتي، وعِندَ الموتِ كُربَتي».

  • فحينما يُشرف الإنسان على الموت، يُواجه العديد من المتاعب، وتكون لديه تعلّقات، فارحمه! وقل لهم أن يأتونه بالريحانتين اللتين من المفروض أن ترسلهما: إحداهما من مقام جلالك، والأخرى من مقام جمالك؛ فيشمّهما هذا الإنسان، فيفقد الشعور، ثمّ يرى نفسه فجأةً حاضرًا في حرمك المقدّس!۱ فتفضّل علينا بهذا الإحسان، فأنت ـ بحقّ ـ أهل لذلك!

  • «و(ارحم) في القبرِ وَحدَتي».

  • فأنا وحيد هناك، ولا يوجد من يُعينني؛ لا أب، ولا أمّ، ولا عشيرة، ولا مال، ولا أيّ شيء آخر! حيث سيضعونه هناك، ويُهيلون عليه التراب بالمجرفة، ويقرؤون عليه الفاتحة، ثمّ يرحلون عنه إلى الأبد، تاركين إيّاه وحيدًا فريدًا؛ ويا ليت جسد الإنسان هو الذي كان سيبقى وحيدًا هناك! بل إنّ برزخه هو الذي يُعاني في ذلك العالم من الوحدة، حيث سيلج هذا الإنسان إلى عالمٍ يكون فيه غريبًا من جميع الجهات؛ فارحم غربتنا هناك!

  • «وفي اللَّحدِ وَحشتي»؛ فحينما يضعونني في اللحد، ارحم وحشتي هناك.

  • «وإذا نُشِرتُ لِلحِسابِ بَينَ يَدَيكَ ذُلَّ مَوقِفي».

  • فحينما أخرج من القبر من أجل الحساب في عالم الحشر، وأقف بين يديك، ارحم موقفي في ساحتك ذليلاً وعاجزًا.

  • فذلك الموقف عجيب جدًّا؛ لأنّه وقوف في مقابل السلطان والقادر الذي يكون كلّ حكم حكمه، وكلّ أمر أمره، وكلّ نهي نهيه! وهناك، يكون الإنسان في غاية الذلّ، وعليه أن يذهب للحساب؛ مع أنّ هذا الحساب لا يتعلّق بيوم واحد أو يومين، بل هو حساب العمر بأسره، وحساب الخيالات والأفكار والأعمال الباطلة برمّتها؛ فارحمنا هناك! وبحقّ، فإنّ الإنسان يكون محتاجًا في تلك المواقف إلى الرحمة!

  • فإذا كان الإمام السجّاد عليه السلام يرفع صوته بهذه المناجاة وهذا الأنين، فلا ينبغي أن يُتوهّم أنّه يسعى من وراء ذلك إلى تعليمنا وحسب؛ لأنّ ذاته المطهّرة كانت ـ من خلال عرفانها وسعة اطّلاعها ـ ترى أمامها جميع هذه المراحل والعقبات التي تنتظر الإنسان، بحيث ما لم يتوجّه بالدعاء لله تعالى، ولم يكن في صدد إصلاح نفسه، فلن يتمكّن من تخطّيها بتاتًا٢.

  • نرجو من الله أن يُوفّقنا ـ إن شاء تعالى ـ ، ويوقظنا، ويدفعنا نحو التوبة والعمل الصالح وذكر الموت، لكيلا نُصاب بالغرور.

    1. الأمالي (للطوسيّ)، ص ٤۱٤: «أخبَرَنا محمّدُ بنُ محمّد، قال أخبَرَني أبو حفص عُمَرُ بنُ محمّد بن علىّ الصوفي، قال حدّثنا أبو علىِّ محمّدُ بنُ هَمّام الإسكافيّ، قال حدَّثَنا جعفرُ بنُ محمّد بن مالك الفَزاري، قال حدّثني سعيدُ بنُ عمروٍ، قال حدَّثَني الحسنُ بنُ ضوءٍ، عن أبى ‌عبد الله (عليه السّلام) قال: "قالَ علىُّ بنُ الحسين زينُ العابدين‌ (عليهِما السّلام) قالَ اللهُ (عزّوجلّ): ما مِن شَيءٍ أتَرَدَّدُ فيه مثل تَرَدُّدي عِندَ قَبضِ روحِ المُؤمن، يكرَهُ المَوتَ وأنا أكرَهُ مَساءَتَه، فإذا حَضَرَهُ أجَلُه الّذى لا تَأخيرَ فيه، بَعَثنا إليه بِرَيحانَتَينِ من الجنّة تُسَمّى إحداهما المُسخِيَة والأُخرى المُنسيَة، فأمّا المُسخية فَتُسخيهِ عَن ماله، وأمّا المُنسِيَة فَتُنسيه أمرَ الدّنيا"».
    2. لمزيد من الاطّلاع على مسألة أنّ التضرّع والندبة والمناجاة والابتهال الذي كان يقوم به الأئمّة عليهم السلام لم يكن تصنّعًا ولأجل إرشاد العباد وتعليمهم، راجع رسالة لبّ اللباب، ص ٩٤ ـ ٩٥.

غربة الإنسان وكرم الله تعالى - شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة السابعة عشرة

17
  • يقول النبيّ الأكرم:

  • «أكثِروا ذِكرَ هادِمِ اللذّات؛ قيل: وما هو هادم اللذّات؟۱ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: الموت! »

  •  

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد

    1. الجعفريّات، ص ۱٩٩:
      « أخبرنا عبدالله بن محمّد قال أخبرنا محمّد بن محمّد قال: حدّثني موسى بن ‌إسماعيل قال: حدَثنا أبى عن أبيه عن جدّه جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه عليّ بن الحسين عن أبيه عن عليّ بن أبي ‌طالب عليه السّلام قال: "قال رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "أكثِروا مِن ذِكِر هادِمِ اللَّذّات، فَقيلَ: يا رَسولَ الله: وما هادِمُ اللَّذّات؟ قال: الموتُ؛ فإنَ أكيَسَ المؤمنينَ أكثَرُهُم لِلمَوتِ ذِكرًا، وَأحسَنَهُم لِلموتِ اسْتِعدادًا"».