المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1430
التاريخ 1430/11/19
التوضيح
ما الفرق بين نظرة الإمام إلى نفسه ونظرتنا نحن إلى أنفسنا؟ لماذا يبكي على الأئمّة حتّى أعداؤهم؟ أيّهما أفضل أن يعطي الإنسان لنفسه درجة مائة أم درجة صفر؟ ما هي أعمال شهري ذي القعدة وذي الحجّة؟
تجيب هذه المحاضرة عن هذه الأسئلة الأساسيّة خلال شرح فقرة إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت.
هو العليم
كيف ننظر إلى أنفسنا وكيف ينظر الإمام إلى نفسه؟
ضرورة التفات الإنسان إلى فقره.
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۰ هـ - الجلسة التاسعة عشرة (شرح حديث عنوان البصري الجلسة ۱۷٣)
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدّس الله سرّه
أعوذ باللَه من الشيطان الرجيم
بسم اللَه الرحمن الرحيم
والحمدلله رب العالمين
و الصلاة و السلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
إن كان الرفقاء يذكرون فقد كان الحديث في الجلسات السابقة حول كيفيّة الرياضات الشرعيّة وضرورتها في الوصول إلى المطلوب والعبور من مراتب النفس في كلّ مرتبة وفي كلّ مرحلة، وقد جرى الحديث استطرادًا حول بيان الإمام السجّاد عليه السلام في دعاء أبي حمزة، وتقدّمت أبحاث ومحاضرات حول كيفيّة تصوّر الذنب في هذه الفقرات بالنسبة إلى الإمام المعصوم عليه السلام، وقد انتهى البحث في ذلك.
والآن قبل الدخول في تلك الأبحاث السابقة والمتابعة في بحث لزوم الرياضات الشرعيّة نتعرّض لنتيجة البحث السابق ضمن بضع دقائق ونكتفي بها، ثمّ نتابع تلك الأبحاث السابقة والمترابطة.
خلاصة الكلام حول انتساب الذنب إلى الإمام
وكما يذكر الرفقاء فقد تقدّم حول كلام الإمام السجّاد عليه السلام أنّ الإمام يجد في الحيثيّة الوجوديّة لنفسه حقيقة الذنب والابتعاد، وفي مقام خطاب الله لا يمكن للإمام عليه السلام أبدًا أن ينظر إلى الحقائق التوحيديّة وكوليّ كامل وعارف كامل نظرة الفرد المستغني والمستقلّ والمقابل للمقام الربوبيّ، تمامًا على العكس ممّا عليه نحن في علاقتنا مع الملكين الرقيب والعتيد والحساب والكتاب ومقام مخاطبة الله، حيث ننظر إلى أنفسنا ونرى لها حسابًا وشأنًا.
العارف الكامل في أيّ موقع كان يلاحظ ذلك الجانب من العبوديّة والمسكنة في نفسه، وهذه النظرة كما تقدّم ليست نظرة اعتباريّة وإجباريّة كما يتّخذ عامّة الناس لأنفسهم هذه الحالة في علاقاتهم، هؤلاء الناس الذين هم في أجواء وأحوال أخرى، ولكنّهم يبدّلون صورتهم في علاقتهم مع الناس، كما أنّ الإنسان عندما يكون في المنزل تكون طريقة ثيابه مختلفة عمّا لو أراد أن يخرج، فهو في المنزل يرتدي ثيابًا مريحة، فيرتدي قميصًا وبنطالاً أو غيرهما، وكلّ إنسان يختار في المنزل الثياب التي تناسبه، ولكنّه إذا أراد أن يخرج لا يطبّق قواعد البيت في الخارج، بل يلبس ثيابًا رسميّة، أو يلبس مثلنا العباءة والعمامة، وكذلك يختار اللباس المناسب للمجلس الذي يقصده، ففي مجالس الاحتفال والسرور والأعراس لا يلبس الثياب الغامقة اللون.
بين كراهة لبس السواد وأهميّة إعلان العزاء
ولا أدري لماذا هذه الألبسة الغامقة التي صارت متعارفة كأن يلبس العريس ثيابًا سوداء أو كحليّة؟ لماذا؟! فهذه ليست جيّدة، وأثرها ليس جيّدًا، فالثوب نفسه يؤثّر في أجواء المجلس أيضًا، وطبعًا سنبحث ذلك لاحقًا، بعد موضوع كيفيّة التغذية، وسنبيّن أنّ الثياب لا بدّ أن تكون فاتحة اللون بيضاء، ثيابًا تبعث على النشاط بشكل كامل، فالثياب تؤثّر في الأحوال والأجواء، وموضوع الثياب ليس بالموضوع البسيط، وفي بعض المراتب كان الأعاظم يعيّنون لتلامذتهم نوع الثياب أيضًا وأنّ عليك أن تلبس من أيّ لون، وجنسه ماذا يكون، فليس الأمر هكذا فوضى وأنّ الإنسان يلبس هكذا أيّ ثوب، ثمّ بعد ذلك يكون متوقّعًا لبعض الأمور، كلاّ، فارتداء الثياب الغامقة هو أمر غير جيّد وغير صحيح بصورة عامّة، ولا بدّ أن يكون الثوب فاتحًا، وكون الثوب فاتحًا يؤثّر على المحيط وكذلك على صاحبه أيضًا.
والأمر نفسه بالنسبة إلى حجاب النساء، وطبعًا المتعارف الآن هنا هو الشادور وهو أسود بالطبع، ولكنّ الحجاب لا ينحصر بالشادور، الحجاب يعني الحجاب الذي يمكنه أن يخفي حجم البدن ولا يكون ملفتًا، فهذا الحجاب هو الحجاب الإسلاميّ، لا ما نشاهده في المستشفيات وأمثالها من هذه الثياب البيضاء التي تجسّد، فهذا ليس صحيحًا، ويجب أن لا يُلبس، ولكنّ هذا الثوب الأبيض نفسه إذا كان شرعيًّا بشكل كامل وإسلاميًّا فلا إشكال فيه. فما المشكلة أن تلبس كافّة النساء في الشوارع وفي الملأ العامّ ثيابًا فاتحة، لكن لا ثيابًا فاتحة ملفتة، وحتمًا ليس هناك دليل على الثياب الغامقة وهي ليست صحيحة.
والأمر نفسه جار أيضًا حتّى في مجالس العزاء، فارتداء الثياب السوداء في مجالس العزاء ليس صحيحًا أيضًا، وفي مجالس الفاتحة وطلب الرحمة أو كما يقول أهل هذا الزمان مجالس التأبين، ولكن نحن نقول الفاتحة وطلب الرحمة فنحن من القدماء ونقول هذا! أمّا أهل هذا الزمان فيقولون: تأبين وعبارات أخرى، ولا أدري هناك أشياء أخرى قد دخلت إلى هذه المجالس لا داعي لها كأن يلبس صاحب العزاء الثياب السوداء، فلماذا يلبس الثياب السوداء؟ فالثوب الأسود بصورة عامّة مكروه، ولم يستثن منه إلاّ العباءة والعمامة، وأمّا الثياب الأخرى فإنّها مكروهة، وحتّى في الصلاة على الإنسان أن لا يلبس الأسود. وعندما كان المرحوم العلاّمة والأعاظم يصلّون في المنزل لم يكونوا يلبسون عباءة سوداء، بل كانت عباءتهم بيضاء أو صفراء، وكان نوع الثياب يختلف في المنزل وسائر الأماكن، وحتّى في الاحتفالات كانت عباءته تختلف عن سائر المجالس الأخرى.
فلماذا لا بدّ أن يكون الثوب أسود؟ ليكن الثوب من سائر الألوان، حسنًا لقد توفّي أحدهم فليكن، رحمه الله، على الإنسان أن يسير وفق ما أمر الله، ليس لدينا استثناء أنّه حين الوفاة لا بأس بذلك، لو كان لدينا ذلك فهو جيّد، ولكن ليس لدينا، ليس لدينا استثناء، حتّى حول الأئمّة ليس لدينا استحباب لبس السواد، وأن يلبس الإنسان السواد لإظهار العزاء وإظهار حزنه في شهادات الأئمّة عليهم السلام، كلاّ فليكن الثوب أبيض فما المشكلة؟! لقد رفعت هذه الكراهة فقط فيما يرتبط بسيّد الشهداء، وهي لا تعني أنّه مستحبّ وجيّد وواجب. في عزاء سيّد الشهداء عليه السلام ارتداء الثوب الأسود لا إشكال فيه، والمراد من عدم الإشكال عدم الكراهة، ولكن اللباس الأبيض أيضًا لا إشكال في أن يرتديه الإنسان أيضًا، وبالطبع سيكون حينها عاملاً بالسنّة.
نعم تعليق الأقمشة السوداء والرايات السوداء والعلامات السوداء لا السواد المطلق بل أن يكون فيها سواد هذا لا إشكال فيه كما كانت السنّة كذلك، ولدينا في سيرة الأئمّة عليهم السلام أنّ السيّدة زينب سلام الله عليها أمرت في موارد عديدة وفي حادثة الأربعين، حينما كانوا في الشام ووصلوا إلى المدينة، وكذلك في سنّة سائر الأئمّة بعد حادثة عاشوراء مثل الإمام السجّاد والإمام الصادق والإمام الرضا عليهم السلام فإنّا نجد أنّهم أمروا أن تجعل الرايات السوداء في المنازل، والتي تحكي عن العزاء، ولكنّهم لم يكونوا هم يلبسون ثيابًا سوداء، نعم لا بدّ أن يكون الثوب غامق اللون حين العزاء، أي يكون غامقًا أكثر، فمن الطبيعيّ للإنسان أن يجعل فارقًا بين مجلس الفرح والسرور المُقام للإمام عليه السلام ومجلس عزاء الإمام، ولكن لا أن يكون أسود، فليس لدينا أمر بأن يكون أسود، ودأب الأعاظم لم يكن على ذلك. لا بدّ أن يكون الثوب من الثياب الأخرى المتعارفة. وقد كنت يومًا في مشهد في تلك الأيّام، فأتيت إلى منزل المرحوم العلاّمة متأخّرًا عند الصباح، وكان من المقرّر أن أكون أنا الخطيب، ووصلت متأخّرًا، وعندما وصلت كانت ثيابي غامقة، أي أنّها كانت أغمق من اللون الأزرق بقليل، وكانت عباءتي سوداء، ويبدو أنّ الأيّام لم تكن خريفيّة وكان الهواء باردًا إلى حدّ ما، وقبل أن أرتقي المنبر ويحلّ وقت المحاضرة قال لي المرحوم العلاّمة: ارجع إلى المنزل وغيّر ثيابك، وغيّر عباءتك أيضًا. فذهبت ولبست جبّة أخرى. فقد كان الأعاظم يهتمّون بالأمر إلى هذا الحدّ، وقولهم: اذهب وغيّر ثيابك. يعني أنّ وجود الثوب على قامة خطيب يؤثّر على الجوّ المعنويّ للمجلس، فلا تظنّ أنّ المسألة هكذا، وأنّها أمر بسيط، وأنّه لو كان بهذا الشكل سيكون أفضل، كلاّ بل هناك حقيقة وراء هذا الأمر، هناك حقيقة وراءه، وأخبركم أنّي حين بدّلت ثيابي تغيّرت حالتي، وهذا أيضًا شاهد على صحّة هذا الأمر.
فلاحظوا إذن، هذه الأمور التي ذكروها ليست عبثًا! بل ذكرت على أساس حساب دقيق. فهذا ما يرتبط بالأمور البسيطة وينتهي إلى أمور أخرى كالقيام مثلاً بعمل من الأعمال حيث على الإنسان أن يرتدي ثوبًا معيّنًا، ففي حالة الذكر مثلاً لكلّ ذكر خاصّ لباس خاصّ، ومكان خاصّ، وهذه أمور إن شاء الله ووفّقنا سنصل إليها في وقتها المناسب.
فنحن في الخارج نبدّل ثيابنا، ففي النهاية يختلف الأمر والإنسان في كلّ حالة له نوع من الثياب، فلو كان الإنسان يخرج من منزله بتلك الحالة التي يكون عليها في البيت… وبعض الناس يفعلون ذلك، وقد شوهد ذلك في كلّ مكان وهم يفتخرون بذلك. فهذا بسبب التنوّر الفكري فقد تنوّر إلى حدّ بحيث صار كامل وجوده نورًا محضًا ولم يبق لديه حجاب! فهو لم يعد يرى غيرًا، أصلاً لا يرى أحدًا على أنّه من غير المحارم عليه! لقد سيطر التنوّر الفكريّ عليهم بحيث جعلهم يخرجون إلى الشوارع كما ولدتهم أمّهاتهم ويخرجون أمام الملأ العامّ كما ولدتهم أمّهاتهم، فهذا نوع من التنوّر الفكريّ والحداثة!
ضرورة التفات الإنسان إلى واقعه الفعليّ ووجهه الحقيقيّ
وعلى كلّ حال على الإنسان أن يفرّق، فالإنسان يتّخذ لنفسه حالات مختلفة في المواقع المختلفة، فمثلاً أحيانًا يكون هناك منافق شديد النفاق وأهل خداع واحتيال، ولكنّه عندما يريد أن يتكلّم مع الإنسان فإنّه يظهر بصورة المظلوم ويركّب كلمات متواضعة بحيث يقول الإنسان: ما شاء الله ما شاء الله! لقد وضع سلمان وأبا ذرّ في جيبه! وهو في صدر الجنّة! ولكن لا يعلم ماذا في الداخل، وأنّ هذا التعيس الحظّ الذي لا نظير له قد ظهر بهذه الحالة، فهذا تمثيل وهذا فنّ، أي ينتقل الإنسان من شكل إلى آخر، ويترك الشخصيّة الأولى ويتلبّس بشخصيّة أخرى، ففي الملأ هو بصورة أخرى، فهؤلاء هم هكذا ولكنّا نرى أنّ الواقع شيء آخر، الواقع يختلف.
فنحن أمام الله في واقع وحالة معيّنة، وهذه الحالة هي عبارة عن الإحساس بالاستقلال، الإحساس بالأنانيّة، الإحساس بوجود مستقلّ، الإحساس بالوجود، لقد فتح لنفسه حسابًا خاصًّا، لمكانته، للأتعاب التي تحمّلها، للمراتب التي نالها، للمعلومات والعلوم والحِرف والفنون التي حصّلها، للمقام الذي افترضه لنفسه، وهذا الأمر يظهر بوضوح في حركاته، ويظهر في سكناته عند التعامل مع الناس، فموقعه ووضعه أنّه إذا ما سلّم عليه اثنان لا يعود يدري من هو، يا عزيزي بالأمس لم يكن أحد يردّ على سلامك، أتخال الآن أنّك صرت شيئًا مهمًّا؟! هذا لأنّ ذلك المقام الذي عليه النفس الآن والحالة الفعليّة التي هو عليها هي حالة عناد واستكبار، لا حالة عبوديّة، فلو كانت هناك حالة عبوديّة فينبغي أن لا تتغيّر في الموارد المختلفة، ينبغي أن لا يختلف الأمر في حالات الابتلاء والمدّ والجزر.
فالعبد عبد أمام مولاه، سواء في منزل المولى أو خارجه، وسواء خارج منزل المولى أو لو كان أمام المولى، وسواء كان وراء المولى أو أمامه، العبد عبد، وهو لا يتخلف في حال من الأحوال، لأنّه يرى نفسه عبدًا، لم يتّفق يومًا أن ينظر عبد من العبيد إلى نفسه نظرة استقلاليّة، فالظروف لا تسمح له بذلك، الأحوال لا تسمح له بذلك، ربّما لو تغيّرت الظروف لابتلي بذلك البلاء ولنسي مقامه الحقيقيّ، الإحساس بحقيقة الأمر شيء مهمّ جدًّا لم أتمكّن في الجلسة السابقة من المتابعة في بيانه، لم أكن قادرًا على ذلك وبقي هذا الموضوع ناقصًا.
فانظروا، نحن في الحالة الواقعيّة التي نحن فيها واقعنا هو واقع الاستكبار، نكذب فنقول: نحن لسنا شيئًا، أقولها بصراحة وبلا مجاملة نحن نكذب، نحن نكذب بالقول بأنّنا أمام الله لسنا شيئًا، نكذب حين نقول {وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَه}۱ كلاّ فهذا الكلام لا واقع له عندنا، ولدينا كذب إلى ما شاء الله، بعضهم بنسبة مائة في المائة، وبعضهم بنسبة سبعين في المائة، وبعضهم بنسبة ستّين في المائة، وبعضهم بنسبة ثلاثين في المائة، فالنسب تختلف. وقولي أنّا نكذب هو لأنّي أردت أن أتكلّم بصراحة عالية، ولا يكون كلامي مغلّفًا بغطاء وأمثال ذلك، ففي النهاية هناك مراتب مختلفة في ذلك، وهذا الأمر واضح من حالاتنا وسكناتنا وأوضاعنا، وإن شاء الله نحن في طريق الإصلاح، فلو لم نكن في طريق ذلك لما أتينا إلى هنا ولما طرح البحث حول هذه المواضيع، وهذا الطريق مفتوح للجميع، غاية الأمر أنّ بعض الناس لا يختارون هذا الطريق ويختارون غيره، وهذه الأمور لا تصل إلى الآذان بل تصل بنحو آخر، ولكن إذا أراد الإنسان أن يكون في طريق الإصلاح فهذا في نفسه فخر، فهو فخر أن يبدّل كذبه إلى صدق، وأن يبدّل نفاقه إلى صفاء وخلوص! وفخر أن يبدّل مكر النفس وحيلها وخصوصيّاته النفسيّة وميوله إلى شؤون الدنيا إلى ميول وركون إلى حقائق عالم الآخرة واعتماد عليها، فهذا فخر، وهذا الفخر لا يكون من نصيب أيّ إنسان، وحقًّا لا بدّ من التفكير والالتفات وعدم تفويت الإنسان للفرصة: اغتنموا الفرص فإنّها تمرّ مرّ السحاب.٢
فلهذا إذا أردنا أن ننظر إلى أنفسنا نجد هذه الحقيقة وهي أنّ كلّ إنسان يمكنه الوصول إلى هذا الأمر بمستوى معيّن، وهذا ليس في غاية الصعوبة، ويمكن للإنسان أن يقوم بجولة في نفسه، ويمكنه أن يقوم بتمرين في نفسه، ويمكنه أن يوجد في نفسه نظرة. فهناك واقع موجود وهو أنّا نواجه ونحارب الحقائق التوحيديّة، وأنّنا نقف في مقابل المسائل الربوبيّة، ونحن نقف وجهًا لوجه أمام الحقائق والواقعيّات، وطبعًا تختلف نسب ذلك، وقد ذكرت أنّ جميع الأمور التي يأمر بها الأعاظم لأجل المراقبة والتزكية وأمثال ذلك هي للوصول إلى هذا الأمر، وأن تتحوّل هذه المواجهة والمحاربة شيئًا فشيئًا إلى موافقة ومرافقة، وترجع تلك الأنانيّة إلى العبوديّة، وذلك الاستكبار إلى تواضع أمام عالم الوجود وأمام الإرادة الربوبيّة، كلّ البرامج هي لأجل هذا، وبمقدار ما يتقدّم الإنسان وبمقدار ما يفتح أذنه فإنّه يفلح، بعضهم يفتحون آذانهم أثناء المحاضرات والأحاديث، وبعضهم يفتحونها بمقدار النصف، وبعضهم يختلف حالهم من مكان إلى آخر، يصلون إلى مواضع {يجعلون أصابعهم في آذانهم}۱ هكذا، فأنا لا أسمع، وبعضهم إذا وصلوا إلى مواضع وجدوا أنّها توافقهم فلا يقتصرون على فتح أربع آذان بل يفتحون كلّ شيء لكي يسمعوا الكلام بشكل أفضل وصحيح؛ لأنّه ينتهي إلى ما نبحث عنه. والحاصل أنّه لا بدّ من السير في هذا الطريق، فهذا هو الطريق، وعلى الإنسان أن يهتمّ بهذه الأمور ويدقّق بها.
فالحقيقة التي نحن عليها هي هذه، إنّها عبارة عن أنّنا فرد مستقلّ وإلى جانب الحقّ، وكلّ باطل نرتكبه فإنّا نظهره بمظهر الحقّ، ونجعله موافقًا لرضا الله ومطابقًا للتكاليف الإسلاميّة، وإن كان باطلاً مائة في المائة. هذه هي الحالة التي نحن عليها في الواقع ولا تقبل الإنكار، وقد جاء الأعاظم والأنبياء والأئمّة والأولياء والعرفاء لأجل التنبيه على هذا الأمر، ولوضع اليد على هذه النقطة، وللإشارة إلى هذه المنقصة التي تسبّب الوبال والهلاك، فلو عمّر هذا المسكين ستّين سنة أو سبعين سنة ولكنّه هكذا في غفلة يقضي يومًا بعد آخر، ويبقى في تلك الأنانيّة، ويرى نفسه محقًّا، ويعلن أنّي محقّ والآخرون في باطل.
فهذا الواقع المتحقّق لدينا جميعًا واقع الاستكبار، بهذا الواقع نحن نواجه الله ونخاطبه ونتكلّم معه وإن قلنا كذبًا وبكينا وطأطأنا رؤوسنا تواضعًا، وظهرنا بمظهر العبوديّة، فهذه ليست واقعًا إنّها مسرحيّة، هذه الحالة هي مسرحيّة، هي فنّ تمثيل، الصلاة التي نصلّيها هي تمثيل، الصيام الذي نصومه هو تمثيل، الزيارة التي نقرأها ونقف أمام الإمام الرضا عليه السلام ونقرأ زيارة أمين الله أو الزيارة الخاصّة بالإمام الرضا، ونطأطئ رؤوسنا ونبكي… يا أيّها الكاذب أنت إذ تقرأ هذا الآن لماذا كنت تكذب؟! لقد كنت تكذب خارج الحرم والآن جئت إلى هنا؟ فماذا سينفعك الإمام الرضا؟! من أين يأتي هذا البكاء؟! ومن أين تأتي هذه الآهات؟! ومن أين يأتي هذا التواضع؟! هل أمرك الإمام الرضا بالكذب؟! هل أمرك الإمام الرضا بالخداع؟! هل أمرك الإمام الرضا أن تخادع الناس؟! هل أمر بذلك؟! فلو دخلت الحرم وقرأت بدلاً من زيارة أمين الله مفاتيح الجنان كلّه من أوّله إلى آخره فما فائدة ذلك؟! لا فائدة منه، هذه الحالة الثانية، هذه الشخصيّة الثانية، الشخصيّة الثانية التي هي بديل عن الشخصيّة الأولى، ولكنّ الإمام الرضا لا يخدع، فمن تخادع أنت؟! لقد ظننت أنّ الإمام الرضا مثلك حتّى اتّخذت لنفسك هذا المظهر وإلا لما وضعت رجلك في إيران كلّها لا في مشهد فقط ولا في الحرم فقط، أيّها المسكين التعيس الآن تأتي إلى الحرم؟! كلاّ فأنت لم تعرف الإمام الرضا، فلو عرفته لذبت من الخجل، ولدخلت في الأرض كالقطرة.
فإذن ما هذه الحالة؟ إنّها حالة نفاق، إنّها تمثيل بالدمى المتحرّكة، إنّها ممارسة للفنّ، وهذا الأمر عامّ لدى الجميع، الجميع، جميع الناس في أيّ مرتبة كانوا وفي أيّ موقع، فالأمر لا يختلف بينهم، ولا يمكننا أن نخدعهم، نعم يمكن أن نخدع أنفسنا، لقد خدعنا أنفسنا كثيرًا ولا زلنا وسنبقى هكذا، وكما يقول المرحوم العلاّمة: كما نخدع الآخرين فإنّا نخدعك أيضًا.
لقد نقلت يومًا للرفقاء قصّة قال المرحوم العلاّمة بعدها: قلت له في نفسي، نظرت إليه ولكن لم أقل له ـ لم أذكر الاسم ـ : بعد كلّ هذا الإحسان تتجاهل وتخدعني؟! شكرًا لك، إن كان الأمر هكذا فستختلف الأحوال.
لئن خادعنا الجميع وأنكرنا جميلهم فلا يمكن أن نخدع الإمام الرضا أو سيّد الشهداء الإمام الحسين وأمير المؤمنين والملائكة وأمثال هؤلاء، فهؤلاء لا يمكن أن يخدعهم الإنسان، إذا أراد الإنسان أن يخادع هؤلاء فمن الواضح أنّه لم يعرفهم، ولو كان يعرفهم لما تصرّف هكذا، ولما كانت له هذه الخصوصيّة. فإذن هذه هي حالنا، ولكنّا وبهذه الحالة نقرأ دعاء كميل، ونبكي أثناء قراءتنا له، نرفع أصواتنا.
دعاء باتّاجاه الكاميرا
وقد أخبرتكم عن قصّة دعاء كميل، فقد كنت في مكان، في زيارة السيّدة زينب، في هذه السنة في الصيف تشرّفت بزيارتها وكانت ليلة جمعة، فرأيت فجأة أنّ هناك جماعة تريد أن تقرأ دعاء كميل في الصحن ويلتقطوا الصور ويصوّروا فلمًا عنه، ويعرضوه، وكان هذا الرجل ينادي على مكبّر الصوت: تفضّلوا أيّها السادة ستعرض صوركم على شاشة التلفاز. وكان من المقرّر أن يعرض في تلك الليلة أو الليلة الآتية. فكان الناس يأتون الواحد تلو الآخر، ثمّ رأينا فجأة أنّ الناس قد اجتمعوا وازدحموا وجلسوا، فلمّا أرادوا أن يقرؤوا دعاء كميل والذي لا بدّ أثناء قراءته من التوجّه إلى القبلة، وجدناهم جالسين وظهورهم إلى القبلة، وكانوا يقولون: بما أنّ الكاميرا في هذه الجهة ولا يمكن أن نغيّرها، لذلك سنقرأ الدعاء هذه المرّة استثناء وظهورنا إلى القبلة لأجل الكاميرا، ويبدو أنّ إخلاص الدعاء كان عاليًا جدًّا وقد تجاوز القبّة ويبدو أنّه وصل إلى عرش الله، فهذا هو الإخلاص! وعلى الإنسان أن يبذل روحه لتحصيل هذا الإخلاص، فعندما يجد أنّ أمور الإنارة والتصوير وأمثال ذلك توجب أن لا تتوجّهوا إلى القبلة فاقرؤوا هذه الليلة استثناء مستدبرين القبلة، ولكن اعلموا أنّه لا بدّ أن يكون دعاء كميل إلى القبلة، وكان يقول مرارًا أو مرّتين: نحن لسنا متوجّهين إلى القبلة بسبب هذا المانع، وأيّ مانع هو؟! فالدعاء إلى القبلة مستحبّ وهذه الموانع أحيانًا تقف أمام الواجب أيضًا، لا المستحبّ فقط، أحيانًا تمنع من الواجب أيضًا، فالمانع مانع في النهاية، وفي كلّ مكان تأتي النفس بدليل لتتقدّم، نعم فالليلة ليلة جمعة، وهذه شعائر وأمثال ذلك الكلام، نعم نعم! ثمّ ينشر التسجيل ويراه الجميع، ولا بدّ من إعداد الأمر على أفضل ما يكون، وكان هذا القارئ يرفع صوته وينظر إلى الكاميرا حتّى يكون الأمر على أفضل نحو ويراه الجميع، ثمّ يسبّب هذا الأمر أن لا يجلسوا متوجّهين إلى القبلة فلا بأس، فليكونوا ظهورهم إلى القبلة، فالملائكة تسمع، نرفع أصواتنا أكثر بقليل من المعتاد حتّى يسمعونا بشكل أفضل! فسيسمعون ولن تكون هناك مشكلة في البين فهل التفتّم؟! هذا كلّه بسبب ذلك الوجه الحقيقيّ، ذلك الوجه الحقيقيّ الذي يجعله يقول تمثيلاً في دعاء كميل: «يا ربّ يا ربّ» وهو يبكي، والجميع يحسبون أنّك صادق في بكائك وليس في عينك مقدار جناح بعوضة من الدمع، فهذا البكاء التمثيلي هنا يظهر، أمّا أن تتوقّف وتجلس إلى القبلة فلا. ولأنّ وضع الكاميرا لا يسمح لي بذلك، فأنا أتنازل عن خيرات التوجّه إلى القبلة وأكون في وصال الكاميرا، هذا هو العشق، فسواء كان هو إلى القبلة أم إلى غيرها، ومن توجّه إلى القبلة فهنيئًا له، أمّا أنا فعليّ أن أحقّق هذا الهدف الآن، هذا هو الوجه الحقيقيّ، فانظروا انتهى الأمر! بمجرّد أنّكم شاهدتم التصوير في أمان الله! لا تنتظر كثيرًا، إذا انتظرت كثيرًا فقد خسرت، وما دمت تنظر إلى هذا الأمر فأنت لا تنسجم مع هذا الحساب الإلهيّ، لا تنسجم مع ذلك البرنامج، انتهى الأمر.
طبعًا قولي انتهى الأمر لا يعني أنهوا الدعاء بسرعة! كلاّ بل على الإنسان أن يذكّرهم ويعظهم، وربّما كانوا مشتبهين فيرجعون، لا أنّ نعدّ الأمر قد انتهى، والحاصل أنّ هذا الإنسان قد وقع على سكّة القطار هذه فلا بدّ أن يعلم حقيقة الأمر. فهذه المسألة يواجهها الإنسان، أي عندما يتعامل الإنسان مع الله في صلاته فلا بدّ أن يتعامل معه بوجهه الحقيقيّ لا بالعبوديّات الأخرى! وعندما يدعو الإنسانُ فلا بدّ أن يدعو بذلك الوجه الحقيقيّ لأنّه لم يتغيّر.
ما هو الواقع الفعليّ والوجه الحقيقيّ للإمام عليه السلام ولوليّ الله؟
والآن ما هو الوجه الحقيقيّ للإمام عليه السلام ووليّ الله؟ ما هو ذلك الوجه الحقيقيّ الذي لديهم والذي يرونه في أنفسهم؟ ذلك الوجه الحقيقيّ هل هو الذي نراه نحن أيضًا فنقول: نحن علماء، نحن أصحاب مقام واعتبار، لدينا هذا العدد من المريدين، لدينا هذا العدد من الرفاق، لدينا هذا المقدار من الصيت والشهرة والمعروفيّة، والآن الدنيا كلّها تعرفنا، صورنا تنشر في جميع التلفزيونات في الدنيا، الجميع ينظرون إلينا نظرة مختلفة؟ فهل الإمام هكذا يقرأ دعاء أبي حمزة بين يدي الله؟ هكذا يقرأ دعاء كميل؟ هل أمير المؤمنين الذي يقرأ دعاء كميل ويكون في مقام خطاب الله يطرح مسألة حكومته أمام الله؟ وهل يأتي بعنوان حاكم الإسلام وبعنوان خليفة المسلمين وبعنوان القائد العامّ لجيش المسلمين وبعنوان القطب الأوحد في عالم الإسلام على الأرض، والإسلام كلّه مرتبط بوجود أمير المؤمنين لأنّه كان أمير المؤمنين حقًّا، ولا بدّ أن يكون الإسلام كلّه مرتبطًا بوجوده وهو كذلك في الواقع، ولكن عندما ينظر هو نفسه إلى الله، لو غصنا في قلبه وفي فكره وفي مغزى مطالبه التي يقولها وفي نيّته وبحثنا وفتّشنا بما يناسب قدرتنا نحن فماذا نرى؟ هذا هو الحدّ الأدنى الأدنى الذي ندركه والذي لا يقبل الإنكار من قبل أحد حتّى العدوّ ـ فانظروا ماذا أريد أن أقول ـ فهذا الأمر غير قابل للإنكار إلى يوم القيامة حتّى من قبل أعدى أعدائه كمعاوية وعمرو بن العاص. وما الشاهد على ذلك؟
عبوديّة الأئمّة لله يدركها حتّى أعداؤهم
عندما يذهب حجر بن عديّ إلى الشام بعد شهادة أمير المؤمنين وعندما يذهب الآخرون أيضًا كصعصعة وغيرهم يقول معاوية لحجر: أخبرني عن عليّ! فما هي حاجة معاوية إلى أن يقول أخبرني عن عليّ. أنت الآن جلست على كرسيّ الخلافة وتربّعت على عرشها فلماذا تقول: حدّثني عن عليّ؟! لماذا تقول ذلك؟! ماذا تقول؟! ما هو دافعك وما هو داعيك؟! لماذا يقول: حدّني عن عليّ لماذا؟ لأنّه يشعر بالحاجة، يعلم أنّه ضلّ الطريق، يعلم أنّه انتصر على عليّ بالخداع والكذب والنفاق، يعلم ذلك، يعلم كلّ ذلك، فبماذا تغلّب عمرو بن العاص على أبيّ موسى الأشعريّ؟ بالخداع، الخداع في ماذا؟! الخداع في الرأي وفي الإرادة، كانا قد اتّفقا أن يأتي كلّ منهما ويعزل صاحبه، فخدع ذلك الأحمق ولم يعلم أنّ أمامه عمْرًا بن العاص أوّلَ مكّار في العالم، لقد خدع به، فجاء ونصب معاوية في الخلافة كذبًا، حسنًا فماذا حصل أيّها المسكين الشقيّ؟ حسنًا لقد قتلوا عليًّا في المحراب، فكم سنة بقي بعد عليّ؟! عشر سنوات، فهل تستحقّ ذلك؟ ألا تذكرون أنتم ما قبل عشر سنوات؟! كأنّها أمس القريب، فهل تستحقّ عشر سنوات أن تكذب على الناس؟ أن تخادع؟ أن تمكر؟ أن تدوس على الحقّ، أن تحارب عليًّا، أن تشعل معركة في الشام؟! هل تستحقّ السنوات العشر ذلك؟! فلنفترض أنّها مائة سنة أو ألف سنة فماذا في النهاية؟! فلتكن عشر سنوات، فكم مضى من عمرنا الآن؟! كأنّها كانت بالأمس القريب، ثلاثون سنة؟ أربعون سنة؟ خمسون سنة؟ أو ستّون سنة مثلاً فإنّها تمرّ في الذهن كخيال وتمضي.
ما أودّ قوله هو أنّ صفاء أمير المؤمنين هذا لم يتمكّن حتّى معاوية من إنكاره، صدقه لم يتمكّن حتّى معاوية من إنكاره. وعندما يتكلّم حجر عن أمير المؤمنين أمام معاوية تجري دموع معاوية، فهل هذا لكي يقول الناس إنّه إنسان رؤوف ورقيق وعندما يسمع الكلام يتأثّر به؟! كلاّ، فمعاوية لم يكن يحتاج إلى هذا الكلام؛ لقد استقرّ على حكومته ولم يكن بحاجة إلى ذلك.
أو ذلك البكاء الذي بكاه المأمون عند شهادة الإمام الرضا ماذا كان؟! لقد كان حقيقيًّا، لم يكن كذبًا، لم يكن كذبًا، ونظير هذه الأمور موجود، أمثال هذه الأمور موجودة حتّى أكثر أهل الدنيا سفكًا للدماء وأقسى الناس عندما يرى حقيقة ما فلا يمكنه أن ينكرها، لا يمكنها أن يردّ ما يراه في الواقع، فيتأثّر، ولكنّه في الوقت نفسه يستمرّ. ولو عاش الإمام الرضا من جديد فإنّ المأمون سيقتله أيضًا فهذه هي الخلافة في النهاية، وهذه هي الحكومة، لا بدّ أن تقوم الحكومة على الكذب وإلا لا تكون حكومة، لا بدّ في الحكومة من قتل الإمام الرضا، لا بدّ في الحكومة من قتل أمير المؤمنين في المحراب، لا بدّ في الحكومة من استشهاد الإمام الحسن المجتبى مسمومًا، وإلا لو لم يفعلوا ذلك فلا بدّ أن يتخلّى عن العرش، وهو لا يريد ذلك فإذن لا بدّ أن يزاح الإمام جانبًا، لا بدّ أن يبقى الحقّ تحت الأرجل، ولا بدّ من الوقوف على الباطل حتّى يتمكّن الإنسان، وإلا فلن يتمكّن.
ولذلك ما دام هناك تاريخ وزمان فإنّ كلّ من سيأتي وينظر إلى سجلّ أمير المؤمنين سيذرف الدمع، وهذا الأمر لا يختصّ بمعاوية، كلّ إنسان ينظر سيقول: هذا حقّ وعمله حقّ، وفعله حقّ وفعله كان في مكانه، لقد كان فعله صحيحًا. أليس كذلك؟! أفهل كان أمير المؤمنين من الحكّام الذين يرى الناس في حكوماتهم مخالفة لسنّة رسول الله وأحكامها؟! هل كان؟! لئن كانوا في ذلك الزمان جاهلين فماذا عن الآن فقد مضى ذلك الزمان؟! كلاّ أبدًا وبكلّ وضوح السجلّ ناصع ليس فيه أيّة نقطة ضعف.
محاربة الإمام عليّ عليه السلام والتنحّي عنه خسران
لذلك فإنّ محاربة أمير المؤمنين هذا هي محاربة لله، والسكوت أمام عليّ والتنحّي جانبًا عنه هو محاربة لله، فسواء واجه الإنسان أمير المؤمنين سيكون محاربًا لله، أو لم يواجه بل تنحّى فقط كما فعل الزبير، فالزبير في معركة الجمل قال: لا في هذا الجانب ولا في ذاك. لقد أخطأتَ، لا معنى لهذا الكلام، فذاك الجانب على الباطل وهذا الجانب حقّ، حقّ، "حا" و"قاف"، ولأنّه حقّ لا يمكنك أن تتنحّى وتقول {لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء}، أتنحّيت؟! طبعًا أنت خير من هؤلاء الذين واجهوا وشهروا السيف، لا شكّ في ذلك، ولكنّك رغم ذلك خسرت حياتك، فأنت لا تحسب في صفّ أمير المؤمنين، لماذا؟! لأنّه هو عليّ وهو أمير المؤمنين؟
هذا المنهج هو منهج أمير المؤمنين، وذاك أيضًا منهجنا في المقابل، عندما نتكلّم مع الله فإنّنا نتعامل مع الله على أساس واقعنا الحقيقيّ، فذاك هو الواقع غاية الأمر أنّ ظاهرنا ماذا؟! ظاهرنا أنّا نغيّر ثيابنا، نطأطئ رأسنا، نصدر الآهات باكين، نتظاهر بأنّنا في حالة رقّة وأمثال ذلك ممّا يعلمه أهل الخبرة في هذه الأمور، فهناك أساليب مختلفة لهذه الأمور.
مظاهر التمثيل في مجالس العزاء
وحقًّا يشاهد الإنسان أحيانًا وخصوصًا في مجالس العزاء والمواكب ومجالس سيّد الشهداء أمورًا توجب الخجل، كأن يقوم إنسان بالعزاء بهذا النحو، يفعل كلّ شيء وينقل كلّ شيء ويقرأ أيّ شعر وجميع الأمور والمسائل حتّى يقولوا ماذا؟ حتّى يقولوا إنّ فلانًا يدير الأمر بشكل جيّد، فلان يبثّ الحرارة والحماس في المجلس، وفلان وفلان هذه هي تملأ ذهنه، وجميع أدائه وأحواله تحكي عن تلك الحقيقة وأنّه في أيّ عالم يسير، ومسكين هو الإمام الحسين في البين مثل كبش المحرقة يتناول منه كلّ واحد قطعة ويصادره لأجل مصالحه! أتصادر الإمام الحسين لأجل مصالحك؟! التعامل مع هذا الأمر هكذا هو تغيير للوجه.
وحدة حال الإمام في الخلوة وبين الناس
الإمام عليه السلام ووليّ الله يأتيان بوجهيهما الحقيقيّين إلى هذا المقام، بذلك الوجه الذي هو لهما في الباطن، وبتلك الحقيقة التي يشعران بها والتي يريانها والتي لا يتمكّنان من كتمانها وإخفائها، وهي عبارة عن العبد الذي هو في مقام التمرّد، فنفسه تقتضي التمرّد، نفسه تقتضي المواجهة للمولى، نفسه وذاته تقتضي ذلك لولا عناية الله، نفسه تقتضي القيام بالعمل المحرّم، تلك النفس التي هي قبل عناية الله بها تمتلك الميل إلى شهوات الدنيا والأهواء والهوى والهوس والاعتداء، تلك الحقيقة يرونها دائمًا في داخلهم، فلا فرق عند الإمام بين حال الخلوة وحال الكون بين الناس، لا فرق بينهما ولو بمقدار رأس إبرة، سواء كان يتكلّم في مجلس فيه مائة إنسان يصغون إليه، أو كان في حال الخلوة مع نفسه وليس معه أحد، وينظر إلى نفسه ويفكّر فيها، ويراها صفرًا، ويعيد جميع النعم التي أعطاه الله إيّاها إلى صاحبها الأصليّ، ليس بين هذين المجلسين أيّ فارق، لا فرق بينهما أبدًا، لا فرق، لذلك فإنّ كلام الإمام واحد، في الخلوة أيضًا هو يتكلّم بهدوء، ويتعامل معك بطريقة واحدة. وما لدينا من أنّ أولياء الله كتبوا في كتبهم أنّه إذا أردت أن تكون لك علاقة مع إنسان وتريد أن تذهب معه إلى مكان وتريد أن تثق به، فلا تقتصر على المجالس العامّة وتنظر إليه خلالها، بل اذهب إلى خلوته أيضًا، وسافر معه أيضًا، لأنّ السفر فيه أوضاع مختلفة، فاذهب إليه وهو في خلوته، اذهب إليه وهو يتكلّم مع اثنين فقط أو مع واحد، وانظر إلى كيفيّة ضحكه وكيفيّة كلامه وكيفيّة ارتفاع صوته وانخفاضه وكيفيّة أطواره وأدائه وتصرّفاته وخصوصيّاته، فانظر إلى كلّ ذلك واجعل بعضه إلى جانب بعض وقارنه بأحواله وهو أمام الناس خصوصًا إذا كان يسيطر عليه الحياء منهم وهكذا إذا لم يكن كذلك، فهل يختلف الحال أم لا؟ وإن كان يختلف فكم يختلف؟ فهذا ما يوصي به الأعاظم، وقد وصلتُ بواسطة ذلك إلى نتائج مهمّة.
فهناك الكثير من الناس الذين هم في أعين الناس أصحاب مراتب من القداسة والتقوى امتحنتهم وجرّبتهم ورأيت أنّ كلّ ذلك كان تمثيلاً وكان مسرحيّة، وقد كان المحكّ جيّدًا، وكانت التجربة منتجة، حيث يرى الإنسان أنّ ارتباطه مع الناس هل صار ملكة أم هو حال يأتي ويذهب، فهذه الأمور هي أحوال، فلا يتمكّن الإنسان دائمًا من ضبط نفسه، ولكن بعضهم غرقوا كثيرًا في التمثيل والمسرح حتّى صاروا بأنفسهم أفلامًا، أي صار وجودهم هو الوجود الثانوي لهم وهذه الهيئة والأطوار وطريقة الكلام… .
سلام تمثيليّ بين جماعة وآخر عفويّ بعيدًا عنها
كان المرحوم العلاّمة يقول: تشرّفت بزيارة مشهد في يوم من الأيّام وتشرّفت بزيارة الحرم، فرأيت أحد العلماء ـ وهو لا يزال على قيد الحياة الآن ـ فهؤلاء العلماء إذا أرادوا التشرّف بزيارة الحرم لا يمكنهم أن يذهبوا وحدهم، لا يمكن، فالزيارة لا تُقبل أصلاً! ولا بدّ أن يكون معهم عشرون مرافقًا أو ثلاثون يحيطون بهم! فهكذا يتشرّفون بزيارة الحرم! ففي النهاية للزيارة حساب وكتاب، ولكلّ شيء حساب وكتاب، وكم هو مظلوم الإمام الرضا هذا! وفي النهاية زار الحرم برفقة العشرين أو الثلاثين مرافقًا وكانت زيارته مقبولة! نعم وبعد ذلك… طبعًا أنا أضيف هذا الكلام ولم يقله العلاّمة، إنّه لي، وهذه الحواشي أنتم تحذفونها فالحذف والتصفية بعهدتكم.
قال العلاّمة: وصلت وأردت أن أدخل فقال لي فجأة: سلام عليكم. ومدّ بـ «عليكم» فقلت له: عليكم السلام.
ـ كيف أحوالكم الشريفة؟
ـ الحمد لله، مؤيّدون إن شاء الله، وأمثال هذا الكلام. فقد كان هذا المقدار منه هو، أمّا تتمّته فأكملوها بأنفسكم بمعرفتكم.
قال العلاّمة: دخلت وزرت ولحسن الحظّ أثناء الرجوع التقيت به أيضًا، ولم تكن معه تلك الجماعة، وكان من المعلوم أنّه ذهب إلى مكان ما لساعة وهو يرجع إلى المنزل لا على تلك الحال، وما إن التقيت به حتّى قال: سيّد فلان سيّد فلان تعال لديّ عمل معك، سلام عليكم كيف أحوالكم؟ ذاك السلام الذي سلّمتَه أوّلاً كان سلام المرجعيّة، وهذا السلام الآن نريد أن يكون سلامًا عفويًّا فيما بيننا نحن، سلام حقيقي وواقعي، فهكذا كانت عبارته، ذاك السلام كان سلام المرجعيّة، وهذا السلام هو سلام عفويّ ولا بدّ أن يكون هذا السلام هكذا، والحاصل أنّه كان لديه من أمثال هذه الأمور.
أمّا الإمام عليه السلام فليس كذلك، الإمام عليه السلام خلوته وكونه بين الناس واحد، لو أراد الإمام أن يلتقي بك وهو برفقة عشرين مرافقًا فإنّه يكون على الحال التي يكون عليها عندما يكون في منتصف الليل، لا يختلف الأمر أبدًا، ووليّ الله أيضًا هو هكذا، فحالتا مواجهة ما يوافق النفس وما يخالفها متساويتان عند الإمام عليه السلام ووليّ الله، لماذا هما متساويتان عندهما؟ لأنّه يرى نفسه ويشعر بنفسه، يرى نفسه وواقع نفسه.
الفرق بين رؤيتنا لأنفسنا ورؤية الإمام عليه السلام والوليّ
ولا يعني ذلك أنّنا نحن لا نراها، كلاّ بل نحن نراها بنسبة ما قلّت أو كثرت، ولكنّه هو مصدّق بهذه الرؤية، نحن غير مصدّقين، هذا التصديق هو المهمّ، أمّا الرؤية فليست مهمّة، ونحن أيضًا يمكننا أن نرى، غاية الأمر أنّا لدينا تكليف بذاك المقدار من الرؤية. فأنا لا أريد أن أقول إنّه يجب أن تكون رؤيتنا كرؤية الإمام، فهذا ما لا يحصل إلاّ لمن وصل إلى مقام الولاية، فسيحصل لديه ذلك، أمّا بالنسبة إلينا فالحصّة الوجوديّة تختلف والمقدار الذي نعطيه لأنفسنا من هذا الوجود يختلف، فأحدهم يجعل لنفسه من ذلك الوجود نسبة مائة في المائة، وكأنّه لا يوجد إله، وكأنّه لا يوجد مبدأ للوجود، وكأنّه لا مبدأ للفيض والإفاضة، وكأنّه لا حكم نزل، فهؤلاء تكليفهم معلوم، والناس مختلفون باختلاف مراتبهم، فبعضهم يجعلون لأنفسهم نسبة تسعين في المائة، وثمانين في المائة وسبعين في المائة وثلاثين في المائة، وهكذا تتضاءل النسبة، وهذه والمراقبات وهذه البرامج وهذا التهذيب والتربية تؤدّي أن يجعل الإنسان النسبة المئويّة الأكبر من مراتب الوجود لله تعالى وأن يفوّضها إليه، وأن ينقص من نفسه، فيأخذ من نفسه على الدوام، وينحت من نفسه على الدوام إلى أن يصل إلى مرحلة يرى فيها أنّ الحقيقة الوجوديّة المطلقة هي فقط وفقط وفقط في طرف واحد من طرفي العلاقة وأنّها في الطرف الآخر هي صفر، علامة صفر، صفر كبير لا صفر صغير، صفر، فالصفر هذا الإمام هو من يدركه، الإمام المعصوم ـ وقد صار من الضروريّ أن نأتي بقيد المعصوم بعد كلمة الإمام! ـ فالإمام المعصوم يدرك هذا الأمر، ووليّ الله يدرك هذا الأمر، وحده الإمام عليه السلام يعرف الصفر، نحن لا نعرفه، أمّا نحن فنعطي لأنفسنا علامات مختلفة من الصفر إلى المائة، فبعضهم علامته مائة، ما شاء الله لا شيء لله، كلّ شيء هو لهم، فالعلم هو منهم، والقدرة هي منهم، ويقولون إنّ الشخصيّة هي منهم، والمحبّة التي يكنّها الناس لهم هي منهم، وجميع الكمالات هي منّا، لقد تعبنا في تحقيقها، وقصدنا هذه الناحية وتلك والآن تريد أن نخسرها؟! أبدًا بل نتمسّك بها جيّدًا.
دخلت حشرة تحت ثوب أحدهم فمنعته من النوم، ومهما تقلّب وحاول النوم لم يستطع، ورأى أنّ الأمر لا يحتمل، فأمسك ببعض الوسائل والتقط الحشرة، وظلّ ماسكًا لها بيده، فقال له آخر: دعها! اقتلها!
ـ لو قتلتها لانتهى الأمر، أريد أن أحتفظ بها، فأنا لم أمسك بها بسهولة، لقد آذتني كثيرًا وحرمتني من النوم، فلن أتركها هكذا، سأحتفظ بها حتّى تموت.
والآن هؤلاء الناس سعوا في تحصيل هذه الأمور ووصلوا إليها فيقولون: هل نتخلّى عنها؟! كلاّ، نجعل لأنفسنا علامة مائة، ولا تظنّوا أنّ هؤلاء أناس بسطاء من عامّة الناس، بل حتّى المعمّمون، فهؤلاء يجعلون لأنفسهم علامة مائة.
كيفيّة رؤية أهل العلم وكبار السنّ لأنفسهم
وهذه هي الآفة التي تهدّد أهل العلم في هذا المجال أكثر من الآخرين، فغير المعمّمين يجعلون لأنفسهم علامات أدنى وهنيئًا لهم، والشباب علاماتهم أدنى بكثير من المسنّين، الشباب هؤلاء الشباب الذين هم في الثامنة عشرة والعشرين والخامسة والعشرين، فلا تنظروا إلى ظواهرهم، فهؤلاء علاماتهم هنا متدنّية جدًّا، أمّا الذين هم في أعمار متقدّمة فنعوذ بالله نعوذ بالله، هؤلاء علاماتهم مائة على اختلاف أصنافهم، ولا كلام في ذلك، ولكن ما هو الأمر الذي لا كلام فيه؟! فالأمر مشكل جدًّا هناك، فلكي يجعل الإنسان علامته هناك أدنى يحتاج إلى جهد كبير، فكم يحسن أن يحافظ عليها متدنيّة وهو في عمر الشباب، وهذا معنى عليكم بالأحداث، وما دامت علامة الشاب والحدث متدنيّة فإنّ بإمكانه أن يحافظ عليها هكذا، ثمّ شيئًا فشيئًا يوصلها إلى الصفر، وهي تصل إلى الصفر، أمّا إذا ما ارتفعت وازدادت تعلّقات الإنسان وميوله والعقد التي عقدها مع هذه الدنيا ومع الأقارب والأرحام ومع الشهرة، وآه من هذه الشهرة، آه من هذه الشهرة، آه من هذه المحبوبيّة، آه وألف آه من هذه الأمور التي لا تجلب للإنسان إلا الشقاء، إذا ما وصل الإنسان إلى هذه الأمور صارت علامته مائة، وإذا ما ارتفع العدد فإنّ الهبوط به صعب جدًّا، صعب جدًّا، لذلك يقولون ابدؤوا من سنّ الشباب، فالشاب لديه سرعة في السير والسلوك إلى الله، يقفز قفزًا، يقفز، فإن كان الكبار في السنّ يمشون مشيًا فإنّه يطير طيرانًا، وهذا يختلف كثيرًا، يختلف كثيرًا.
والإمام عليه السلام هو في هكذا حالة، يرى نفسه صفرًا، ولا يعطي لنفسه حتّى علامة نصف، بل علامة صفر، ودائمًا علامتهم هي صفر، صفر صفر، لا شيء، ومقام «الفقر فخري»۱ يرتبط بكونهم صفرًا، مقام العبوديّة المحضة والمطلقة يرتبط بكونهم صفرًا، ومقام الفناء الذي يعبّرون عنه بانمحاء كلّ الأسماء والصفات في ذات الله يرتبط بمقام الكون صفرًا هذا، فعندما يصل إنسان ما إلى مقام الفناء، فإنّ علامته تصبح صفرًا، فلو علمتم كم علامة الصفر عالية خلافًا لما نفكّر، فهناك الصفر هي مكان المائة والمائة هي مكان الصفر.
الإمام عليه السلام يكون في حالة كهذه عندما يدعو، عندما يريد أن يجعل نفسه أمام الله فبأيّة حالة؟ إنّه يدعو بتلك الحالة الواقعيّة، بتلك الحالة من الكون صفرًا، بتلك الحالة التي هو عليها.
لا داعي للسؤال عند وضوح الأمر
فإذن النتيجة التي تستنتج من قبلنا هي أنّ علينا أن نعمل على هذا الأمر، علينا أن نفكّر في هذا الأمر أكثر، علينا أن نفكّر في هذه الحقيقة وهذا الواقع أكثر، وأن نوجد هذه الحالة في أنفسنا، أن نرى هذه الحالة في أنفسنا، أن نختار الطرق التي توصلنا إلى هذا الطريق وهذه الحالة، أن لا تكون هناك حاجة إلى أن يقولوا لنا دائمًا ويذكّرونا، نحن بأنفسنا نمضي، نحن بأنفسنا نعلم أيّ طريق يوصلنا إلى الصفر، فلا ننتظر أن يأتي الأمر من الأعلى، أو أن يأتي الله حتمًا في المنام ويقول لنا! فلنفعل بأنفسنا.
كان المرحوم العلاّمة يقول لي: لقد كنت في علاقتي مع أستاذي السيّد الحدّاد أقدم بنفسي في أكثر هذه الموارد دون أن أسأله أيضًا، ولم يكن الأمر أنّي في كلّ مسألة لا بدّ أن أذهب إليه أو أرسل إليه رسالة أن ماذا أفعل في هذا الأمر يا سيّد؟ فالأمر واضح، الطريق واضح. وقد كان هو عالمًا وذا خبرة في الأمور والحقائق فيعلم، وفي المقابل من المعلوم أنّ وليّ الله يدير الأمور من الباطن، فهو مطّلع، وهو مشرف، له إشراف على النفوس. فهؤلاء يربحون، أي هؤلاء الذين لا يبقون منتظرين، لا ينتظرون أن تطرح المسألة بنحو خاصّ حتّى يعملوا، لا ينتظرون أن يصل الأمر إلى آذانهم بنحو من الأنحاء فيرتّبوا عليها الأثر، كلاّ بل على الفور حينما يدركون الأمر، كأن يدرك أنّ هذا الطلب الذي طلبه منه رفيقه مضرّ للنفس ينتهي الأمر، صحيح أنّ الرفيق طلب، فماذا سيحصل إذا كسرت قلبه؟! فهذا مضرّ بالنفس فدعه، ولا تستجب لهذا الطلب، افترض أنّك الآن قمت بهذا العمل فهل ينسجم مع القواعد أم لا ينسجم! لا يحاول الإنسان الدور حول الموضوع ويقول: هذه حاجات المؤمنين وطبعًا يقول: معمنين٢ بالعين لا مؤمنين بالهمزة! فهكذا تصبح غليظة شيئًا ما، فترتفع العلامة، فالهمزة تتحوّل إلى عين والحاء تتحوّل إلى خاء، وهؤلاء المؤمنون تتغيّر أماكنهم كائنًا من كانوا، قالوا: هذا مضرّ انتهى الأمر. فالذي يفعل ذلك يتقدّم. أمّا إذا أراد الإنسان أن يبدأ بالتبرير والتأويل فإنّ تلك الحالة تزول.
هذا هو الأمر الذي تقدّمه هذه الفقرة من دعاء أبي حمزة للإنسان، فهي تبيّن المقام الذي نملكه عندما خطاب عزّ الربوبيّة، وعند مخاطبة الله، ومقام الخطاب هذا لا يختصّ بأسحار شهر رمضان المبارك، ولا يختصّ بالليالي، بل مقام خطاب العزّ الربوبيّ هذا يرتبط بحياة الإنسان لحظة بلحظة، والإمام السجّاد لم يتفضّل بدعاء أبي حمزة لأسحار شهر رمضان فحسب، لقد بيّن الإمام السجّاد حالتنا في هذه الدنيا وأنّا نحن هكذا، ووضعنا هذا هو، وحالتنا هي هذه، وواقعنا هو هذا، إذا شملتنا العناية الإلهيّة نصبح ماذا؟ وإن لم تشملنا… .
وقد ضربت لكم مثال المصباح، فلو أطفأتم هذا المصباح فإنّه ينطفئ، وماذا يحلّ بهذا المجلس إذا انطفأ؟ لقد انقطع الاتّصال لحظة، وما إن انقطع نلتفت إلى تغيّر غير متوقّع، فلو فرضنا أنّ النور لا يأتي من هنا فكيف ستكون الأحوال؟ كلّ المكان سيكون مظلمًا مظلمًا، لا ترى العين عينًا، لا ترون شيئًا، ألم تروا السجون؟! لا أدري رأيتموها أم لا؟! لقد رأيت سجنًا، وليس هنا، وحتّى الآن لم يقسم لي أن أرى هنا، رأيته في الخارج، فقد زرت يومًا في لبنان تلك الأماكن التي كانت محتلّة من قبل إسرائيل وعملائها، وكان هناك سجن وزنازين في معتقل الخيام، والزنزانة كانت مترًا في متر، وكانوا يلقون المسكين في متر مربّع وليس هناك نافذة حتّى بمقدار رأس إبرة، قلت أريد أن أدخل إليها لأشعر بحالتي فدخلت وأغلقوا عليّ الباب وصرت من السجناء، ولكنّهم فتحوا بسرعة، بعد دقيقة أو دقيقتين طرقت الباب ولم أدع الأمر يطول أكثر، ففتحوا لي. وقد أدركت هناك ماذا كان يجري لهذا المسكين الذي كان يوضع في تلك الزنزانة التي ليس لها حتّى منفذ واحد، ليس لها حتّى منفذ واحد، ظلمة محضة ومطلقة، حتّى إنّه لو وجد نقطة من النور بقدر عقلة الإصبع لأسرع إليها يلهث، فنفسه تميل إليها وترغب بها.
فعندما ننظر نحن إلى أنفسنا نجد أنّنا هكذا، نحن تلك الظلمة، ولكن ما إن تفتح فجأة نافذة يتبدّل المكان كلّه إلى نور، فمن أين جاء هذا النور؟ لو كان موجودًا فلماذا لم يكن قبل هذا؟ لو كان هذا النور للمصباح نفسه فلماذا لا ترونه عندما يقطع التيّار؟ لماذا ترون الظلمة المحضة عندها؟ فلننظر إلى ظلمتنا دائمًا وفي كلّ لحظة، الإمام عليه السلام يراها دائمًا، وليّ الله يراها دائمًا، يسير بها برفقته، بل هي تسير معه وهي معه لا أنّه هو يسير بها، أي هي موجودة ولا تحتاج إلى أن يسير بها، لا تحتاج إلى تذكير، وفي وجود الإمام عليه السلام مرافقة الظلمة ومرافقة الفقدان والنقصان والعصيان متحقّقة ولا يذكّر نفسه بها، هي موجودة، ودائمًا موجودة، عندما يدعو تكون هذه المرافقة متحقّقة، وعندما يتكلّم مع عباد الله في الوقت المناسب فهو صفر.
عندما تتكلّمون مع أولياء الله وقد كنت معهم، كنت معهم لسنوات طويلة، فقد كان لي معهم عشرة ومراودة، والرفقاء الذين أدركوا محاضر الأعاظم والأولياء مطّلعون طبعًا على هذه الأمور، ولديهم هذه التجربة، فعندما كنّا نتكلّم معهم كنّا نشاهد فيهم حالة الكون صفرًا هذه، حقًّا كنّا نشاهدها، كانوا على حال واحدة في خلواتهم وبين الناس، لم يكن هناك فرق، ولم يكونوا ينحرفون عن ذلك الخطّ في الحالات المختلفة وفي حالات الإخفاق المختلفة، كان ذلك الخطّ هو المميّز لهم، كانت ميزتهم في ذلك الخطّ، لم يكونوا يميلون إلى هذه الجهة وتلك، وهذا هو الموضع الذي على الإنسان أن يلاحظه، فانظروا لا بدّ أن يجعل هذه المسائل هي المعيار لأموره.
هذه هي الدقائق المعدودة التي وعدنا بها الرفقاء، وحقًّا هي بضع دقائق فنحن لم نكذب. يقال إنّ شابًّا كان عمره خمس وعشرون سنة ولم يتزوّج بعد، فقلت له: لماذا لا تتزوّج؟! فقال: أنا دائمًا عمري ثماني عشرة سنة وبضعة أشهر، فلا تزال هناك فاصلة بعيدة بيني وبين الزواج.
حسنًا نترك تتمّة الكلام إلى المجلس اللاحق إن شاء الله. وليكن لدينا كلام حول ما يستقبلنا من أمور وظروف.
وصايا حول شهر ذي القعدة وعشرة ذي الحجّة
الرفقاء مطّلعون ويعلمون أنّ شهر ذي القعدة وهكذا الأيّام الآتية التي هي عشرة ذي الحجّة، كم أكّد الأعاظم عليها. ولدينا في الروايات حول هذه الأيّام أحاديث عجيبة جدًّا.
الزيارة الخاصّة للإمام الرضا عليه السلام في ٢٣ ذي القعدة وآداب الزيارة عمومًا
فأوّلاً في الأيّام القادمة يوم الثالث والعشرون من ذي القعدة يوم زيارة الإمام الرضا عليه السلام، وهو يوم مهمّ للغاية، فمن تمكّن من التشرّف بالزيارة فإنّه سينال توفيقها، والذين لا يتمكّنون هم معذورون فليزوروا عن بعد ليكتب لهم عين ثواب الحضور.
وقد سمعت بنفسي من المرحوم العلاّمة أنّه يقول: كلّ من كان من الأولياء سواء وصل إلى تلك المرتبة الاصطلاحيّة الخاصّة أم لم يصل إليها فإنّه يأتي إلى مشهد بأيّ نحو من أيّ نقطة من الدنيا، فهذه كانت جملة سمعتها منه، فقد كان للأعاظم وأولياء الله اهتمام كبير بهذا اليوم، والحمد لله يشاهد اليوم أنّ هذا الأمر صار رائجًا بين مختلف الناس، لم يكن الأمر هكذا سابقًا، بل كان الخواصّ وحدهم يعرفون هذه الزيارة، أمّا الآن فنرى أنّ الناس بأنفسهم يهتمّون بهذا الأمر… وطبعًا الولاية أمر واضح، وهي خارجة عن تخيّلنا وتوهّمنا، إنّها الولاية التي تجذب القلوب والنفوس من الباطن، وهي تختلف "قليلاً" عمّا ندّعيه نحن! تختلف «قليلاً» عمّا نطرحه نحن، تختلف «قليلاً».
على كلّ حال فإنّ مسألة زيارة الإمام الرضا عليه السلام مهمّة للغاية، وقد سمعت حولها أمرًا آخر وهو أنّه لو جاء إنسان من الطرف الآخر من الكرة الأرضيّة زحفًا على الثلج إلى مشهد فهو لم يصنع شيئًا كثيرًا، فهذه هي العبارة التي سمعتها أيضًا. والحمد لله الآن جميع الوسائل مؤمّنة، فهذه عين العبارة التي سمعتها منه. وكذلك هناك أمر آخر ذكرته للرفقاء ولا بدّ من الالتفات إليه وهو أنّ من يقصد زيارة الإمام الرضا عليه السلام فعليه أن لا يجعل في ذهنه زيارة أخرى، فإن كان يطوي الطريق بالسيّارة فهناك في أثناء الطريق أعاظم قد دفنوا وأولياء لله قد دفنوا، ويجب أن لا تكون زيارتهم في ذهنه، ولا بدّ أن يكون في ذهن الزائر الإمام الرضا فقط وفقط، نعم حين العودة لا إشكال في ذلك، فحين العودة من مشهد هناك في نيشابور بعض أبناء الأئمّة والعطّار ذلك العارف الكبير الذي يقول عنه مولانا:
هفت شهر عشق را عطار گشت | *** | ما هنوز اندر خم یك كوچهایم |
يقول: لقد جال العطّار في مدن العشق السبع ولا نزال نحن على منعطف زقاق واحد
ويبدو أنّنا لا زلنا على منعطف زقاق واحد، وحقًّا كان العطّار من الكمّل وقد وصل إلى الكمال، العطّار، فريد الدين العطّار النيشابوري، كان رجلاً جليلاً جدًّا جدًّا، ويمكن عدّه من الكمّل، وقد استشهد في فتنة المغول فقد قتله هؤلاء. وهكذا أعاظم كهادي السبزواري، وفي شاهرود هناك عدد من الأعاظم كبايزيد البسطامي الذي كان من أعاظم العرفاء وأجلاّئهم، والشيخ أبي الحسن الخرقاني، فقد كان رجلاً جليلاً جدًّا، وإلى جانب بايزيد هناك أحد أبناء الأئمّة ابن الإمام الصادق عليه السلام والذي أوصى بايزيد نفسه أن يدفن في فناء ذلك المقام وقد دفن هناك بوصيّة منه، فهؤلاء كانوا من الأعاظم سواء في نيشابور أم في سبزوار أم في شاهرود، ولكن على الإنسان أن لا يفكّر أثناء الذهاب بهم، التفكير لا بدّ أن يكون في الإمام المعصوم ولا فائدة من غيره للإنسان، بل هو يسبّب الضرر وقلّة النصيب، ينقص نصيب الإنسان وسهمه، نعم لا إشكال من زيارتهم أثناء الرجوع.
وهكذا عندما يريد الرفقاء الانطلاق إلى زيارة الإمام الرضا في أيّ وقت عليهم أن لا يجعلوا في نيّتهم عند الانطلاق من محلّ إقامتهم أن يزوروا المرحوم العلاّمة، أبدًا فالزيارة لا بدّ أن تكون للإمام الرضا وحده لا غير، نعم إذا ما ذهبتم إلى هناك ثمّ كان لديكم مجال وقدرة فلا بأس بأن يذهب الإنسان إلى مراقد الأعاظم ويقرأ فاتحة ودعاء ويتوسّل، فلا إشكال في ذلك، غاية الأمر أنّه عليكم أن لا تذهبوا بشكل جماعيّ، بل يذهب الإنسان وحيدًا، لا أن يذهب بشكل يجعله يقف هناك ويسبّب الازدحام ويصوّر في أعين الناس أنّ هناك شخصيّة يُهتمّ بها في مقابل الإمام الرضا، فهذا كلّه باطل، كلّه باطل، وهو بلا شكّ مخالف لأولياء الله، ولا بدّ أن لا يكون في مشهد إلا الإمام الرضا فحسب.
لقد شوهد البعض يتعمّدون أن يخرجوا من الحرم حفاة إلى مرقده، لا معنى لهذا، ولا داعي له، لقد كان الأعاظم يمشون في الصحن منتعلين لأحذيتهم، نعم إن كان هناك سجّاد كانوا ينزعون أحذيتهم، أمّا لو لم يكن هناك سجّاد فلا داعي للمشي حافيًا، نعم أحيانًا يكون حذاء الإنسان في مكان آخر ولا يحبّ الآن أن يأخذه فلا إشكال، إن كان بهذه النية فلا إشكال، ولكن إذا أراد أن تكون نيّته أن يخرج من الحرم حافيًا حتّى يصل إلى هناك فهذا كلّه تخيّلات وكلّه باطل، وكلّ ذلك مذموم، لقد كان فخر المرحوم العلاّمة ما قاله أن ادفنوني تحت أقدام الإمام الرضا، كان هذا فخره وكفى به فخرًا، ولا حاجة إلى شيء آخر، ولذلك يجب أن لا يحصل هناك ازدحام، والإنسان يذهب إلى هناك ويقرأ فاتحة ويطلب الهمّة، الهمّة، فعندما يصل الإنسان إلى قبور الأولياء عليه أن يطلب منهم الهمّة، وأن يرفعوا همّته عاليًا، فهؤلاء يجعلون همّة الإنسان وعزمه عاليين، فالإنسان يعلم الكثير من الأمور، ولكنّه لا يمتلك الهمّة والعزيمة للقيام بها، تلك النيّة المحكمة التي يمتلكها لتحصيل رزقه فيخرج كلّ يوم من منزله بأيّ نحو ويسعى وراء رزقه، لأنّه سيخضع للحساب والعتاب عند رجوعه بما لا يمكن دفعه، لماذا؟! لأنّه لا مفرّ. أمّا في هذه المسائل فنرى أنّه ليس هكذا، فهو لا يمتلك ذلك العزم والهمّة، ولا بدّ من طلب العزم من مراقد الأولياء هذه.
كنت جالسًا ذات يوم في زاوية الصحن، فرأيت فجأة… طبعًا هذا يحدث أحيانًا وليس دائمًا، فأحيانًا بعد أن أزور أذهب وأجلس جانبًا لساعة أو نصف ساعة، في هذه الباحات والحجرات وفجأة رأيت عددًا من النساء جئن إليّ وقلن: أين قبر الشيخ حسن علي النخودكي رحمه الله؟ نريد أن نزوره. فقلت لهنّ: مرقد الإمام الرضا هناك. فظنّن أنّي لم أسمع، فقلن مرّة ثانية: نقصد الشيخ حسن علي النخودكي رحمه الله. فقلت أنا أيضًا: أنا أقصد الإمام الرضا. قلت الإمام الرضا. فالتفتن إلى حقيقة الأمر، فودّعن وانصرفن.
فعندما يأتي الإنسان إلى ذلك المكان فلا بدّ أن يكون في باله الإمام الرضا فحسب، لا بدّ أن يكون وحده، وهو كلّ شيء، فالشيخ حسن علي النخودكي رحمه الله ومن هو أعلى منه وأعلى بكثير أمثال العرفاء الكمّل هم تراب أقدام هذا الحرم، وإنّما نالوا شأنًا ومقامًا من فيض هذه البقعة المباركة، وإلا لو لم يكن ذلك لما اختلفوا عن الآخرين. فمن هنا توجّهت إليهم العناية، وكلّ ما هو موجود لا بدّ أن يكون من هنا، وعلى الإنسان أن لا يقصد مزاراتهم بقصد الاستقلال لا قدّر الله، كلاّ بل عليه أن يذهب إلى الواحد منهم لأنّه في كنف حماية الإمام عليه السلام، لأنّه موضع عنايته ومحبّته فهو يجذبه إليه، فلا بدّ للناس والأصدقاء من رعاية هذا الأمر حتمًا عندما يزورون وأن يلفتوا أنظار الآخرين إليها، والحاصل أنّ الأمر مهمّ جدًّا، وكم يحسن بالإنسان إذا ذهب لزيارة الأئمّة عليهم الشلام وأولياء الله أن ينال نصيبًا أكثر، نصيبًا أكثر، فإن كانوا سيوزّعون نعمة ما، فلماذا يحمل الإنسان بيده إناءً صغيرًا ويمضي بهذه الظرفيّة المحدودة؟! إن أخذت إناءً كبيرًا أعطوك من الحساء على قدر سعته، ولو أخذت قِدرًا كبيرًا لأعطوك بقدره أيضًا، فلا حدّ لعطائهم لا حدّ. لا بدّ في زيارة الأئمّة عليهم السلام من رفع مستوى الفهم بدلاً من البكاء والأسى ولطم الرأس، إذا زاد الفهم ارتفع النصيب، سواء حصلت حالة بكاء وابتهال وتوجّه أم لم تحصل.
ضرورة الحفاظ على الهدوء في المشاهد المشرّفة
ذهبنا ذات مرّة برفقة عدد من الرفقاء وتشرّفنا بزيارة المشاهد المشرّفة وحرم أمير المؤمنين، وكان تصوّر ذلك الرجل أنّه إذا وصل إلى الحرم ـ وكان يزوره لأوّل مرّة ـ فإنّ بكاءه سيرتفع إلى السماء وسيلطم على رأسه ويقع مغشيًّا عليه! وعندما وصلنا إلى النجف وقبل أن نصل إلى الحرم جاء إليّ وكان مضطربًا جدًّا فقال: لا أدري ماذا أصابني. فقلت: ماذا جرى؟ ما الأمر؟ فقال: إنّ حالتي ليست جيّدة أبدًا، ليست لديّ حالة بكاء، لا أدري كنت أتصوّر أنّي إذا رأيت القبّة فسيحدث لي أمر ما!
ـ لقد تصوّرت أنّك إذا وقعت عينك على القبّة فستطير كالحمامة؟! إن حصل ذلك فقد حصل، حسنًا ماذا جرى؟ فنحن ذاهبون! نحن أبناء أمير المؤمنين وذاهبون لرؤية أبينا، فلا داعي للصراخ والبكاء، كان يظنّ ذلك، ولكنّا كنّا مسرورين ونتحدّث ونضحك وكنّا فرحين. فخرج ذلك الرجل من تلك الحالة وكان الأمر ممتعًا له، واتّضحت له الكثير من الحقائق، وكان هناك آخرون في المقابل بوضع آخر وثقافة أخرى واستنتاجات أخرى، كان هناك آخرون يصرخون في حرم سيّد الشهداء. حسنًا لماذا تصرخ؟! اذهب واصرخ في بيتك! أنت تسلب الجميع توجّههم وسكينتهم فلماذا الصراخ والبكاء ماذا حصل؟! ثمّ جاء رجل من حزب البعث من حزب البعث وقال: هذا الرجل الذي تراه يفعل هكذا أنا أوقظه على صلاة الصبح وإلا صارت قضاء، فهل هذا جيّد؟! أهكذا يجب الذهاب إلى الزيارة وهذه الزيارة هي المقبولة؟! أم لا بل لا بدّ أن تكون الزيارة على أساس الفهم، على أساس الإدراك، على الإنسان أن ينال من هذه الزيارات أمرًا آخر ويدّخره لنفسه، عليه أن يجعل وجوده ذائبًا في وجود الإمام عليه السلام، أن يجعل علامته متدنّية، أن يتصوّر نفسه في زمان الإمام، أن يرى نفسه في تلك الظروف، فلو كان هناك ما هي العلامة التي كان سينالها؟! لا بدّ أن يلاحظ هذه الأمور، وتلك الزيارات التي نقرأها كلّها تحكي عن هذا الأمر.
إنّ المفاهيم والحقائق التي في زيارات الأئمّة كلّها توصل الإنسان إلى هنا، توصل الإنسان إلى هذه النقطة، أهكذا يصرخ الإنسان ويعوِل؟! انظروا إلى حرم سيّد الشهداء فهذا يبدأ بقراءة العزاء وقبل أن ينتهي يبدأ آخر ويستمرّ، وقبل أن ينتهي يبدأ ثالث وهكذا… فما الأمر يا عزيزي؟! اذهب واقرأ في دارك، لديك حسينيّة، فاذهب إلى حسينيّتك واقرأ فيها، لماذا تقرأ هنا؟! لماذا لا بدّ أن يسلب التوجّه هذا؟ لماذا أنت عديم الثقافة إلى هذه الدرجة بحيث تحرم هذه الجماعة التي وصلت إلى شيء من تلك النعمة والبركة والفيض وأن لا يلتفتوا إلاّ إلى صراخك؟! فلماذا؟! وحقًّا هذه خيانة أن يسلب إنسان الفيض من الآخرين، الأمر لا يحتاج إلى صراخ وعويل، أنت تمرّ في حالة معيّنة فلتخرج من كربلاء ولتصرخ حتّى تسقط على الأرض، حسنًا، فهناك الإمام الحسين يسمع أيضًا، اصرخ حتّى يسمعك أكثر، لماذا تأتي إلى الحرم الذي هو مكان للتوجّه ومكان للذكر ومكان للفكر، إن لم يفكّر الإنسان هناك فمتى ستحصل له هذه الفرصة التي يتخلّص فيها من مستنقع تخيّلاته واعتباراته وأنانيّاته؟ فأيّ مكان هو خير من هذا المقام النورانيّ والروحانيّ الذي يمكنه أن يعين الإنسان على التغيّر والتبدّل؟! أفيقضي على كلّ ذلك بتلك الأعمال؟ نحن لم نرَ هذا في منهج الأعاظم.
حسنًا فهذا ما يرتبط بزيارة الإمام التي أكّد عليها كثيرًا وقد سألت المرحوم العلاّمة مرّة: هل مسألة الثالث والعشرين لها سبب خاصّ للزيارة؟! وهل هي شهادة الإمام في مثل هذا اليوم والمعروف أنّها في يوم آخر؟! فلم يجب وربّما لم يكن ينبغي أن يبيّن هذه المسألة. وقال بنحو الإجمال ربّما بناء على بعض الأقوال يحتمل شهادته، هكذا قال، وطبعًا ربّما لم يكن رأيه أن يجيب.
وعلى كلّ حال هي مسألة تعتبر أهمّ حتّى من ذكرى شهادة الإمام الرضا عليه السلام وولادته، فهذا المقدار من المسألة مسلّم.
أعمال وآداب ذي الحجّة
الأيّام التي أمامنا هي أيّام ذي الحجّة حيث يستحبّ الصيام وقد كان الأعاظم يؤكّدون على المراقبة في هذه الأيّام الأربعين على الخصوص، وخصوصًا تلك الأذكار الواردة في هذه الأيّام، الأذكار التوحيديّة التي لدينا في الروايات أيضًا أنّها تقرأ يوميًّا عشر مرّات، ولها تأثير كبير إذا قرأها الإنسان بتدبّر وفهم للمعنى: «لا إله إلا الله عدد الليالي والدهور» إلى قوله: «من اليوم إلى يوم ينفخ في الصور».۱ وإذا وفّق الله لذلك حقًّا فستتجلّى للإنسان حقائق وأسرار في هذا الدعاء، فهو دعاء عجيب جدًّا جدًّا، وقد كان الأعاظم أنفسهم يواظبون على قراءته أيّام ذي الحجّة لعشر مرّات في اليوم. وأذكر أنّ السيّد الحدّاد رضوان الله عليه خاصّة كان شديد الاهتمام بقراءة هذا الدعاء في أيّام ذي الحجّة هذه. وصيام هذه الأيّام هو مهمّ جدًّا جدًّا أيضًا، وهكذا سائر المراقبات كلّما قام بها الإنسان أكثر ازداد نصيبه.
نسأل الله تعالى أن يضاعف فهمنا لهذه الحقائق يومًا بعد يوم، ويضاعف توفيقنا للوصول إلى هذه المراتب التي ذقنا منها شيئًا ما، وكما كان يقول المرحوم العلاّمة عندما كان يُسأل عن أحد أن كيف فلان؟ فكان يقول: لقد ذاق الحساء، ذاقه ولن يتركه، فنحن الحمد الله جميعًا ذقنا هذا الحساء، وأدركنا ماذا هناك، وإن كنّا لم نأكل منه ولكنّه على الأقلّ أحرق أفواهنا، وعرفنا أنّه يحتوي من ذلك النوع من الفلفل الحادّ وأمثال ذلك، ولكن لم نحصل على فوائده وحلاوته ولذّته، فتلك اللذة لا يقابلها شيء لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة، تلك لذّة عجيبة، تلك اللذّة هي التي يقول عنها زهير: لو قطّعت ألف مرّة وحرّقت لما تركتها. فقد ذاق منها وأدرك من هذه الأمور وعرف ماذا هناك وما حقيقة الأمر.
الحمد لله، لهؤلاء الأعاظم وأولياء الله وللطف الله منّة على رؤوسنا حيث صارت هذه الحقائق في متناول أيدينا. وسأخبركم بهذا الأمر أيّها الرفقاء: كلّما مرّ يوم أشعر أنّا قاصرون عن أداء شكر لطف الأعاظم وكرمهم، حقًّا فقد رأيتم بأنفسكم وأحسستم بتجربة اتّباع الأعاظم في هذه الأمور، ولكن في النهاية يشعر الإنسان ببعض الندم أن ليتني فعلت هذا وليتني لم أفعل هذا، ولكن الإنسان يرى أنّه لا داعي للندم، فالطريق مفتوح، لأنّه عمل بما أمروا، عمل بما طلبوا، عمل بما بيّنوا، فهو مطمئنّ البال، لا مشكلة لديه أيضًا، وطريقه واضح ومعيّن، لماذا ذلك؟! هذا يرجع إلى كيفيّة بيان الأمر، كيفيّة تقديم المسألة، وإلا هذا الكلام بعينه يبيّنه آخر بطريقة أخرى ويجرّ الناس خلفه وفجأة يلطم على رأسه، آه آه بعد مرور زمان طويل أخطأنا، لقد أخطأنا، أمّا لو أنّ الإنسان لم يكن باحثًا عن كلام هذا وذاك، بل كان باحثًا عن كلام الأعاظم فإنّه لا يندم، ولا معنى لـ «أخطأنا». فهل التفتّم؟
لماذا كلّ ذلك؟ هذا لأنّ هؤلاء سهّلوا طريقنا، أخرجونا من حالة القلق، قالوا: تعال معنا وألق حملك على عاتقنا وكن مرتاح البال مطمئنًّا. وماذا عن المسؤوليّة؟ إنّها في عهدتهم هم، تعال معنا فإنّا نسهّل طريقك، لن يكون لديك عذاب وجدان بعد عشرات السنين، لن يكون لديك عذاب وجدان بعد مضيّ هذه المدّة، لن تأكل نفسك حنقًا، لن تقول: آه آه، لقد طويت الطريق من البداية بما يرضاه الله، وليس عليك تبعات.
أدام الله الظلّ المبارك لوليّ العصر فوق رؤوسنا، فهو وليّنا الحقيقيّ والواقعيّ، وقد كان المرحوم العلاّمة والأعاظم يقولون لا تنسوا الدعاء والصدقة لأجل سلامته كلّ يوم.