15

فطريّة الأحكام الإلهيّة

تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

2363
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1430

التاريخ 1430/09/29


التوضيح

هل حرمة الكذب حرمة شرعيّة فحسب أم فطريّة؟ كيف تتطابق أحكام الإسلام وأحكام الفطرة؟ كيف تتجلّى الفطرة عند الأطفال وما معنى كلّ مولود يولد على الفطرة؟ كيف تتجلّى الفطرة في مواقف الأئمّة عليهم السلام؟ وما هو السرّ في بكاء الأعداء على الأئمّة عليهم السلام؟ هل يمكن أن يصدر الكذب من الإمام وكيف نفسّر نسبته الذنب إلى نفسه مع أنّه لم يصدر عنه في الخارج؟
تجيب هذه المحاضرة على تلك الأسئلة في سياق شرح فقرة إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت.

/۱٩
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • فطريّة الأحكام الإلهيّة 

  • تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۰ هـ. ق - الجلسة الخامسة عشرة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني

  • قدس الله سرّه

  •  

  •  

  •  

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

2
  •  

  •  

  • أعوذ باللَه من الشيطان الرجيم‌

  • بسم اللَه الرحمن الرحيم‌

  •  

  •  

  • «إذَا رَأيتُ مَولاي ذُنُوبِي فَزِعتُ، وَإذَا رَأيتُ كرَمَك طَمِعتُ فَإن عَفَوتَ فَخَیرُ راحِمٍ وَإن عَذَّبتَ فَغَیرُ ظالِمٍ‌».

  • عندما أنظر إلى ذنوبي وتقصيري تسيطر عليّ حالة من الوحشة واليأس اللامتناهيين، وأشعر أنّي آيس من رحمتك، وعندما أنظر إلى كرمك وعظمتك فإنّي لا يمكن أن أرى هذه التقصيرات والذنوب والأخطاء والزلاّت إلى جانب كرمك، وتسيطر عليّ حالة من الرغبة والطمع بعناياتك وعظمتك.

  • إشارة إلى ما تقدّم

  • لقد طُرِحَ للرفقاء بعض الكلام في الليالي السابقة حول هذه الفقرة الشريفة، ويبدو أنّ الليلة هي الليلة الأخيرة لكلامنا، لا أدري هكذا يبدو، والله كبير، فإن أتممنا الموضوع اليوم فبها، وإلا فلسنا نستحقّ على الله شيئًا ولن يحدث إلا ما قسم لنا.

  • تقدّم للرفقاء أنّ هذا العمل الخارجيّ والماديّ حيث إنّه عمل وجوديّ وتكوينيّ فهو لا يردّ ولا يبدّل، وإنكار العمل الخارجيّ باطل، وليس فقط الإمام عليه السلام بل أيّ إنسان غيره لا يمكن أن ينكره. والأمر سواء في الإثبات أو النفي، فلو أنّنا قلنا عمّا لم يتحقّق في الخارج إنّه تحقّق، كما لو لم يأت صديقنا اليوم إلى منزلنا وأنا أقول إنّه جاء الساعة العاشرة، فهذا إنكار للحقيقة الخارجيّة، هذا العمل حرام وباطل، إنّه محرّم أن يصدر من عامّة الناس فكيف بالإمام؟! وهكذا لو أنّه جاء بعض الأصدقاء إلى المنزل وأنا أقول إنّه لم يأت، فهذا إنكار أيضًا، الإنكار عمل خارجيّ وفعل خارجيّ، وإنكار العمل الخارجيّ والفعل الخارجيّ باطل، لأنّه عندما يتحقّق وجود في الخارج فقد تحقّق، ولا معنى لأن ينفيه الإنسان، والنسخ غير جائز للأناس العوامّ.

  • قبح الكذب أمر فطريّ

  • وهذا الأمر لا يرتبط بالإسلام وغيره، فاليهود والنصارى والمجوس والزردشتيّون والملحدون عديمو الدين والشيوعيّون والبوذيّون كلّهم متّفقون على هذا الأمر، وهذا الأمر نابع من فطرة الإنسان ولا ارتباط له بدين وقوم ومذهب وملّة خاصّة، والأمور التي ترتبط بفطرة الإنسان، والتي تقرّر فيها فطرة الإنسان لا تختلف بين مدرسة الإسلام وسائر المدارس، فلا خلاف في ذلك، الكذب حرام وباطل، فنحن نعدّه حرامًا وغيرنا يعدّه ممنوعًا كلاهما واحد، فالممنوع هو الحرام ولا فرق بينهما، لا فرق في ذلك بين الحرام وبين الممنوع عند الآخرين، لا فرق؛ لأنّ الجوهر واحد، يحكي عن بطلان عمل خارجيّ تنفيه الفطرة، وفطرة الإنسان لم تأت من البداية مع الإسلام، فهي لم تأت مع الإسلام وبهذه الخصوصيّة، فالإسلام يرجع إلى ألف وأربعمائة سنة سلفت، وقبل الإسلام كانت المسيحيّة واليهوديّة، وقبلها كانت أديان أخرى، كان دين إبراهيم، وكان سائر الأنبياء.

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

3
  • لا تكذب حتّى على عدوّك وأدّ إليه الأمانة

  • وهنا نصل إلى هذه النقطة الجميلة جدًّا والدقيقة في مدرسة أهل المعرفة وأهل العرفان، وهي: لا تكذب حتّى على عدوّك! فأن لا تكذب على صديقك ليس بالأمر الصعب، لأنّ الإنسان مع صديقه كثيرًا ما يراعي المصالح الشخصيّة، ولكنّ الإمام عليه السلام يقول: لا تكذب حتّى على عدوّك، لا تنافق على عدوّك، وهذا عجيب جدًّا، عجيب جدًّا، لا تكن ذا وجهين مع عدوّك، كن واضحًا، لماذا تكذب عليه؟ لماذا تقول له ما يخالف الواقع؟! كن أمينًا مع عدوّك، يقول الإمام السجّاد عليه السلام في باب الأمانة: «لو أنَّ قاتل أبي الحسين بن علي عليهما السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه».۱ فما معنى هذا الكلام للإمام؟! معناه أنّ هذا العمل القبيح الوقح الذي هو القضاء على بريء، إنهاء حياة بريء، هذه الجريمة الفاضحة، كما هي مدانة عند الله، مدانة عند العقل والوجدان والفطرة، فهذا العمل له حسابه والعمل الآخر الذي لا يشبهه له حسابه، فهذان العملان يوزنان معًا، فكما أنّ القضاء على حياة بريء وإراقة دم بريء هو جريمة، جريمة عظيمة تقضي على فاعلها وتجعله عرضة للبوار والهلاك وتجعله في نار جهنّم خالدًا فيها، كما أنّ هذه المسألة في هذه المرتبة من الوقاحة والخسّة والرذالة، ويقاس مستوى ذلك فيها لا على أساس حكم الله بل على أساس حكم الوجدان والفطرة، فعلى هذا الأساس نفسه أيضًا للعمل الآخر الذي هو رعاية الأمانة مكانته وحكمه الخاصّ.

  • يقول الإمام السجّاد إنّه كم هو قتل ابن رسول الله جريمة عظيمة ورذيلة ووقحة وقبيحة وليس هناك ما هو أقبح منهاـ حيث يسفك الإنسان دم بريء، فلا يوجد ما هو أوقح من ذلك في الدنيا، لا ذنب أقبح من ذلك، فإلى جانب هذا لو أنّ الإنسان جاء بهذا السلاح وهذه البندقيّة التي سفك بها دم ذلك البريء وأعطاها لإنسان صاحب عزّ، صاحب الدم، وارث ذلك الدار وذلك البيت، وقال له اجعل لي هذا أمانة عندك، فلا بدّ حين الاسترداد من إرجاعه إليه! فحفظ الأمانة وظيفة مستقلّة، وأمّا أنّك أرقت هذا الدم فإنّ الله سيعاقبك، وهذا أمر آخر. 

    1. عن أبي حمزة الثمالي، قال: سمعت سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول لشيعته: «عليكم بأداء الأمانة، فوالذي بعث محمّدًا بالحقّ نبيًّا، لو أنَّ قاتل أبي الحسين بن علي عليهما السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه».

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

4
  • يقول الإمام السجّاد عليه السلام: «لو أنَّ قاتل أبي الحسين بن علي عليهما السلام ائتمنني على السيف الذي قتله به لأدّيته إليه». فلو أنّهم أودعوا عندي في داري ذلك السيف الذي قطعوا به رأس أبي لأدّيته إليهم. فهذا المعيار هو معيار الفطرة، معيار الوجدان، ووجدان الإنسان لا يعرف إسلامًا أو غير الإسلام، فلو لم يكن الإنسان مسلمًا أيضًا لحكم هكذا أيضًا، وإن كان مسلمًا يحكم هكذا أيضًا، ولو كان يهوديًّا يحكم هكذا أيضًا، إلا أن يكون لديه دواع سيّئة وأغراض باطلة، فهذا أمر آخر. 

  • فطريّة أحكام الإسلام وكيفيّة تشكّلها

  • لذلك فقد جاءت أحكام الإسلام على أساس الفطرة: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَك لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَه الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَه ذلِك الدِّينُ الْقَيمُ وَ لكنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يعْلَمُونَ﴾‌ 

  • فهذه الفطرة التي يجري الكلام عنها هي فطرة وأمر وحقيقة خارجيّة قد تحقّقت وتنظّمت من قبل الله ونظام الخلقة، وليس الأمر اعتباريًّا، ولا يرجع إلى تلك المسائل التنزيليّة والتي هي بالاعتبار والمجاز والوضع والتقنين وأمثال ذلك، الأمر الذي يتشكّل على أساس نظام الخلقة والذي يتضمّن الصدق ابتداء من ذات الباري والملائكة التي تعمل تحت أمر الله وهكذا الملائكة الذين هم أدنى والأنبياء والرسل والأولياء والذين هم في هذه الدنيا، فهؤلاء لم يتلوّثوا بقاذورات الدنيا، ولم يمزجوا الحقائق بالمصالح الدنيويّة. 

  • صفاء فطرة الأطفال وفساد فطرة الكبار

  • هل رأيتم الأطفال؟! هل يكذب الأطفال؟! لا يكذبون، يقولون الحقّ، لذلك فمن الموارد التي يمكن الاستفادة منها في المحكمة شهادة الطفل قبل أن يخدعوه، وقبل أن يرغّبوه، بل ذلك الكلام الأوّل له أنّ الأمر كذا وكذا، أمّا إذا هدّدوه: إن قلت كذا سنضربك! فإنّ الطفل يخاف ومن الطبيعيّ أن لا يقول ذلك، وكذا إذا رغّبوه… فانظروا إلى الفطرة الأوليّة للطفل فإنّه يقول الحقّ دائمًا، لا يقول الكذب.

  • أمّا نحن ففطرتنا الأولى أن نكذب، نحن على العكس منه! هو يقول ما رأى دون تصرّف، ودون إفساد، ودون مقايسة مع المصالح الشخصيّة، ودون أن يقلّب الأمر ويزنه ثمّ يخرجه بتركيبة معيّنة فيقدّمه للناس وكأنّه نوع من الحساء الممزوج باللحم، بل الطفل يخبر بما رأى وبما انتقش في ذهنه الصافي، هكذا يخبر. لذلك فإنّ فطرة الطفل هي على أساس تلك الفطرة الواقعيّة والفطرة الأصليّة.

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

5
  • ولكنّ هذا الطفل الصادق إذا ما وصل إلى العشرين من عمره والخامسة والعشرين… بل حتّى هو في عمر العشرين يكون لا يزال أفضل نوعًا ما، ما شاء الله كلّما كبر ازداد سوءًا مثل الباذنجان كلّما كبر ازداد مرارة في طعمه، فعند الثلاثين والأربعين والخمسين و الستين والسبعين لا يمكن أن تصنع للكذب عنده شيئًا، عند السبعين، فهل التفتّم؟! وخصوصًا بعض أصناف الناس فإنّه عندما يصل إلى السبعين والثمانين تنقلب فطرته فلا يعود للصدق عنده أيّ موضع، لا مكان عنده، فكيف يقول الصدق؟! فما أقوله موجود، ولست أمزح، لا قدّر الله أن يأتي يوم للإنسان يكون هكذا، وأخذ الله بأيدينا في فتن آخر الزمان والحمد لله رأينا كلّ شيء، يصل بنا الأمر إلى موضع بحيث أنّي أنا الذي كنت صغيرًا وكنت أتعجّب في عالمي الخاصّ وفي عالمي الصادق والصافي إذا قيل لي: لا تقل هذا لا تقل هذا، كنت أتعجّب وأقول: كيف يمكن أن يقول لي عمّا رأيته أنا بعيني لا تقله وقل شيئًا آخر؟! يأتي الكبير وماذا يقول للصغير؟ يقول له: لا تقل هذا بل قل ذاك! لا تقل إنّ فلانًا فعل كذا! إن قلت ذلك لن أعطيك من السكاكر! ولن أشتري لك المقرمشات! ولن أفعل كذا وكذا! أو سأضربك بالعصا! سأشدّ أذنك! لن آخذك في نزهة! تهديد، وهذا النوع من التهديدات التي هي موجودة دائمًا، نعم إلى ما شاء الله هناك تهديد وترهيب، أو ترغيب إلى ما شاء الله، لقد سيطر الترغيب والترهيب على الدنيا كلّها، فقبل هذا العمر يتعجّب الإنسان، هو في عالمه الخاصّ من الصدق والصفاء يتعجّب أن لماذا يقول لي: لا تقل ما رأيته أنا بنفسي؟! لا يمكنه أن يحلّل ويدرك السبب في أن يقول خلاف ما حدث. إنّه لم يتلوّث بعد، لم يتعلّم بعد الشقاوة، لم يتعلّم الخداع والغشّ والنفاق، فإذا وصل هذا الطفل عينه إلى الثمانين ووصل إلى السبعين وما فوق واستحكم تعلّقه بهذه الدنيا بحيث أنّ الدنيا لو أرادت أن تتركه لما تركها هو، ففي النهاية ينقلب الأمر، فأمير المؤمنين يقول إنّ هذه الدنيا لحقت بي ومهما قلت لها انصرفي تلحق بي، اذهبي «فقد طلّقتك ثلاثًا» طردتك فماذا تريد هذه الدنيا منّي حتّى لحقت بي؟!۱ أمّا نحن فليست الدنيا تلحق بنا فسحب بل لو أرادت أن تتركنا فإنّنا متمسّكون بها بقوّة، وكأنّنا ألصقناها بنا بأقوى لاصق، بتلك المادّة اللاصقة التي يمزجونها بأخرى فتصبح شديدة الصلابة، فالدنيا هي إحدى المادّتين ونحن المادّة الأخرى فنمزجهما معًا ونجعل أنفسنا مرتبطة بمسائل الدنيا تلك، بتلك الخصوصيّات وتلك المواقع للأمر والنهي وتلك الرئاسات، وبهذه الأمور، وكأنّه لا خبر لديه، أيّها التعيس الحظّ فأنت ستموت بعد يومين! 

    1. نهج البلاغة، ص: ٤۱۸‌: «يَا دُنْيَا يَا دُنْيَا إِلَيْكِ عَنِّي أَ بِي تَعَرَّضْتِ أَمْ إِلَيَّ تَشَوَّقْتِ لَا حَانَ‌ حِينُكِ هَيْهَاتَ غُرِّي غَيْرِي لَا حَاجَةَ لِي فِيكَ قَدْ طَلَّقْتُكِ ثَلَاثاً لَا رَجْعَةَ فِيهَا فَعَيْشُكِ قَصِيرٌ وَ خَطَرُكِ يَسِيرٌ وَ أَمَلُكِ حَقِيرٌ آهِ مِنْ قِلَّةِ الزَّادِ وَ طُولِ الطَّرِيقِ وَ بُعْدِ السَّفَرِ وَ عَظِيمِ الْمَوْرِدِ‌»

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

6
  • عجوز يبحث عن الذهب

  • حكى لي أحد الرفقاء والأصدقاء ـ ولا أدري ما إن كنت أخبرتكم بذلك أم لا ـ كان هناك سيّد بسيط وقد توفّي، وكنت قد التقيت به أنا أيضًا، كان كبير السنّ، كان عمره عندما التقيت به حوالي ثمانين سنة، نعم ثمانين سنة، وكان عمري حوالي ثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة عندها، فكان سيّدًا كبيرًا وكان قليل العلم، ولكنّه كان صافيًا جدًّا جدًّا، وقد بدأ بالبحث في عمر السبعين والثمانين عن مادّة الإكسير والكيمياء وهذه الأمور والذهب وما شابه، وكان يتحدّث هنا وهناك حول ذلك، وكنت صغيرًا حينها ويعجبني سماع هذه الأمور، فكنت أطلب منه أن يتكلّم عن تجاربه، فكان يقول: ذهبت إلى الجبل وأتيت بتلك العشبة من جبل كذا، ثمّ سافرت إلى الهند، وفي إحدى مدن الهند صنعت ذلك العقّار، وكان يحدّثني بهذه الأمور فكنت أفرح بها، وأحيانًا كان يتحدّث بها أمام الناس ولكنّهم كانوا يضحكون لحاله، وبعضهم كانوا يصغون إليه، فقد كانوا مثلي أطفالاً أو أكثر منّي طفولة، فكانوا يصغون، وذات يوم توفّي هذا الرجل، وقد نقل أحد أقاربه أنّه ذهب إلى مشهد في الأشهر الأخيرة من عمره ليكون مجاورًا للإمام، كان قد تجاوز الثمانين فأراد أن يبقى في مشهد ويكون متوسّلاً بالإمام الرضا عليه السلام حتّى يحصل في النهاية على الإكسير ويعطيه الإمام ذلك، فيفتح الدنيا أن ها قد حصلت على الإكسير، وهذا الذهب عندي، وسأجعل كلّ هذه الأواني ذهبيّة.

  • إنّه يتصوّر أنّ الذهب يؤكل أيضًا، يا عزيزي الذهب ليس طعامًا، فكم تتّسع بطنك؟! أنت الآن ترزق بهذا المقدار منه، وأمّا الأمور الأخرى فماذا نقول عنها؟! فلتذهب يا عزيزي ولتفكّر في اليومين الباقيين من عمرك، فعندما يقع الإنسان في هذه الأمور ينصرف عن الحقيقة ويميل نحو الانحراف ويبتلى بهذه الأمور وهذه المشاكل.

  • شدّة سرور المرحوم العلاّمة لعدم ابتلائه بالمراكز الدنيويّة

  • والآن أنا أعي كلام المرحوم العلاّمة عندما قيل له: لقد تقرّر بشأنك قرار ما. فأصابته حالة من الوحشة بحيث قال لي: إنّي لم أنم تلك الليلة حتّى الصباح، لم أنم تلك الليلة حتّى الصباح، وقلت: إلهي إن أراد الملائكة وأمثالهم أن أكون هكذا فإنّي سأقضي على المنظومة كلّها… فهذا من الكلمات المعدودة التي سمعتها منه في عمري وهو من نوادر كلماته، وحاصله أنّهم إذا أرادوا… فليست مشكلتي معك أنت، ولكن إذا أرادت المدبّرات وأمثالها وعالم التقدير أن تدخلني في هذه الأمور والمواقع فإنّي سأقضي على تلك المنظومة كلّها من المدبّرات وأمثالها. وفي ذلك اليوم كان يقول: كنت في سيّارة أجرة أقصد مكانًا فقال لي السائق: هل سمعت أنّه حدث كذا ونصّب فلان في ذلك المنصب؟! وما إن سمع بذلك حتّى رفع يديه إلى الأعلى وقال: ﴿وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ﴾۱ ويا لهما من آيتين، الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن والغمّ والهمّ ورفعها عن كاهلنا، رفع الحزن والهمّ وأراحنا، ويبدو أنّ الله قد رأى أنّه لا مزاح في البين وسنقضي على المنظومة كلّها، وإلاّ فإنّ أمره كان محسومًا تقريبًا، وذلك الذي أخبره كان قد قال إنّ الأمر محسوم، ولم يكن عديم الاطّلاع، والآن يدرك الإنسان أنّ هؤلاء الأعاظم ماذا كانوا يدركون، وفي أيّ عالم كانوا.

    1. سورة فاطر (٣٥) الآيتان (٣٤ و ٣٥)

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

7
  • أحيانًا يحدث لي ـ وحقًّا أقول وأقسم عليه ـ أنّي عندما أشعر أنّه لا قدّر الله سيحصل أمر ما، فمن شدّة وحشته لا أريد أن أتصوّره في ذهني وأتخيّله وأن تقيّد الإنسان المسائل الدنيويّة والمناصب، أفلا يستحقّ هذا الشكر؟! أليس علينا حقًّا أن نشكر الله أن الحمد لله الذي أبعدنا عن هذه الأمور، ألم تفكّروا بذلك في أنفسكم؟! أبْعَدَ هذه المسائل عن تصوّراتنا، عن ذهنيّاتنا، عن ميولنا، عن رغباتنا.

  • عدم التصدّي للمناصب إلا عند التكليف الواضح

  • تارة يكون هناك تكليف، فهذا أمره يختلف والتكليف لا يدركه الإنسان بهذه السهولة، فليس الأمر هكذا وكلّ من يرتكب خطأ يقول هناك تكليف وما شابه، كلاّ، علينا أن لا نلقي بذلك التكليف على الله، هذه تكاليف تختلقها تلك "النفس الشريفة" ولم تنزل من العالم الأعلى، نعم علينا أن لا ننسبها إلى الله، فالله لا يُخدع. لقد أوضح الله لنا الحقائق بواسطة إنسان كهذا، وعلينا أن لا ننسى أولياء نعمتنا، علينا أن لا ننسى هؤلاء الأعاظم الذين بذلوا مهج قلوبهم حتّى أوصلوا إلينا هذه الحقائق وأفهمونا إيّاها وبيّنوا لنا الحقيقة والمجاز ومآل وعاقبة هذين الطريقين وأنّه ما هي عاقبة ذلك، وأنتم بأنفسكم ترون، فهذا ليس من أحاجي فيتاغور، أنتم بأنفسكم ترون ماذا يجري في الدنيا وماذا يحدث وكيف هي الأحوال، لا إله إلا الله، حقًّا أمور لم نكن حتّى نتخيّلها، لم نكن حتّى نتخيّلها، لم تكن تخطر حتّى في الخيال، ونرى الآن أنّها تحدث في الدنيا، ونرى أنّها تتحقّق في الدنيا وتتحقّق، تحدث لا أنّها لا تحدث، كلّا بل تحدث وليست كذبًا، هي حقّ وواقع، وهي تحدث. وهنا علينا في النتيجة أن نتّبع المعايير التي جعلها الأعاظم بين أيدينا وذلك المسير الذي حدّدوه لنا، وهي في هذه الموارد تساعدنا وفي هذه الفتن تأخذ بأيدينا وتحفظنا في طريقنا.

  • وقد ذكرت لكم ليلة أمس أو قبلها أنّ الطريق الذي عيّنه لنا هؤلاء هو لا يميل إلى هذا الجانب ولا إلى ذاك، فركّز النظر في طريقك وامش ولا تصغ إلى هذا النوع من الكلام، فهو كلّه باطل، كلّه باطل والسلام.

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

8
  • جنگِ هفتاد و دو ملّت همه را عُذر بِنِه***چون ندیدند حقیقت رَهِ افسانه زدند۱
  • يقول:

  • اعذر صراع الاثنتين والسبعين فرقة *** فحين لم يروا الحقيقة سلكوا طريق الخيال

  • لقد جاء الأعاظم وبواسطة منهجهم وكلامهم جعلوا بين أيدينا المنهج لكي نستفيد منه نحن الآن، تفضّلوا إلى مائدة موضوعة ومجهّزة، فمن الذي وضع هذه المائدة المبسوطة الآن؟! أنا؟! أكون مخطئًا إن زعمت أنّي أتجرّأ بعد ألف سنة أن أعدّ الخضار التي هي مقبّلات هذه المائدة، فأين أنا وأين هذه المائدة؟! هذه المائدة وضعها الأعاظم وقالوا تفضّل مطمئنًّا مرتاح البال واجلس إليها ما دمت تعمل بواجبك وبوظيفتك وبتكليفك، فليس الحال أن تجلس هكذا وتنظر، كلاّ بل ما دمت تعمل بواجبك، ولا معنى للتمايل نحو هذه الناحية وتلك في كيفيّة سيرك وفي تصرّفاتك، وهؤلاء الذين اعتزلوا مسير مدرسة العلاّمة وأوجدوا انحرافًا سيبيّن الله لهم، انظروا الآن هذه الأعمال، انظروا الآن الحقيقة، انظروا الآن التأييدات وانظروا الآن الطريق وانظروا الآن الطرق! أهكذا كان المرحوم العلاّمة؟! لو كان المرحوم العلاّمة حيًّا أهكذا كان فعل؟ وهل كنتم أنتم أيضًا تفعلون ذلك؟ هل كنتم ستنفّذون هذا البرنامج؟ هل كنتم ستتدخّلون وتغيّرون هكذا؟! فهذا هو الفرق بين الالتزام بهذه المدرسة القويمة والقيام بالواجبات التي فيها وبرامجها التي يحفظ الله بها الإنسان وبين غيرها، وإلاّ فإنّ الله يلقي بك في ذلك المكان الذي ألقى فيه الآخرين، يلقي الإنسان في تلك المهلكة التي يبتلى بها الجهلاء، يبتليهم بهذه المشاكل وبهذه الأمور، فهذه هي النتيجة، وهذا هو مآل التخطّي عن مدرسة الأعاظم، والآن عليكم أن تجيبوا عن هذا العمل الذي قمتم به، وهذا البرنامج الذي قمتم به، وهذه المسألة التي قمتم بها، وهذا الانتخاب الذي انتخبتموه، سيكتبون لك جميع تلك الأعمال في ذمّتك أنت، وكلّ أمر حصل أو سيحصل يجعلون لك منه نصيبًا.

  • ألم يقل والدنا مرارًا ومرارًا لا تعملوا بما لا يقين لكم به! لا تخطوا في المكان الذي لا تعرفونه! لا تمشوا في أمر لم تتّضح لكم جميع جوانبه! ألم يقل ذلك؟! فأين هي الأذن الواعية؟! أين؟! حسنًا تفضّل بسم الله وشاهد نتائج هذا التمرّد يومًا بعد يوم، مبارك عليك.

    1. ديوان حافظ، الغزل ۱۸٤. 

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

9
  • على كلّ حال فالطريق والمنهج الذي جعل الإسلام على أساسه مبادئه هو منهج للجميع ويسمّى الفطرة، والفطرة لا تعرف إسلامًا ويهوديّة ومسيحيّة، الفطرة حقيقة أرفع من الأديان حسب اصطلاح أهل هذا العصر، فوق الدين، وإلاّ فإنّ أصل الدين يساوي الفطرة، والدين الحقيقيّ لا المخترع من أمثالي، الدين الحقيقيّ لا يتجاوز الفطرة، فلدينا في الدين أنّ علينا أن نكون صادقين، والفطرة تقول: علينا أن نكون صادقين. الدين يقول: الكذب حرام، والفطرة تقول الكذب ممنوع. الدين يقول: أدّ الأمانة إلى صاحبها، والفطرة تقول: عليك أن تؤدّي الحقّ الذي لديك إلى صاحبه، الدين يقول: إقامة العدل واجبة، والفطرة تقول: لا بدّ أن يكون كلّ شيء في مكانه. فانظروا! الدين يقول: أن تكون ذا وجهين حرام، النفاق حرام، والفطرة تقول ذلك، فانظروا الفطرة تقول عين ما يقوله الدين.

  • لذلك كان المرحوم العلاّمة يقول: على المسلم أن يتكلّم بصدق مع الجميع، حتّى لو كنت تتكلّم مع رئيس جمهوريّة أميركا عليك أن تتكلّم بصدق، الصدق الصدق، وينبغي أن لا تقول الكذب، لماذا؟! لأنّه هو أيضًا إنسان، هو أيضًا بشر، هو أيضًا له عقل، إن كان يسير في طريق خاطئ فليكن، أفلا نسير أنا وأنت أيضًا في طريق خاطئ؟! حسنًا فهو أيضًا يسير، فهذا ليس مشكلة، هو أيضًا لديه عقل، وهو أيضًا لديه فطرة، وهو أيضًا بشر، وهو أيضًا إنسان، وإن كان لا بدّ أن يسمع رئيس جمهوريّة أميركا صدقًا فليسمعه منّا نحن؟! دقّقوا جيّدًا! لماذا يسمع منّا الكذب؟! ما دام سيدرك لاحقًا أنّه كذب، إن لم يدرك على الفور فسيدرك بعد سبع عشرة ساعة أو خمس عشرة ساعة فهذه بالنسبة إليه ليست شيئًا يذكر، فلماذا؟ إن لم يدرك اليوم فسيدرك بعد شهر أنّي سمعت الكذب من هذا المسلم المدّعي اتّباع سنّة نبيّ الإسلام، لقد سمعت الكذب، سمعت الكذب، أصحيح هذا؟! كلاّ ليس صحيحًا.

  • لذلك فإنّ المرحوم العلاّمة عام اثنين وأربعين حين أسس هذه النهضة مع السيّد الخمينيّ رحمة الله عليه وسارا بها معًا كان شرطه الأوّل والأساس لدخول الأفراد في هذه المجموعة وفي هذه النهضة كان شرطه الأوّل هو الصدق في جميع الموارد، كان يقول: علينا أن نكون صادقين حتّى مع الشاه، ومع الجميع علينا أن نكون صادقين، مع رئيس الوزراء علينا أن نكون صادقين، ومع الشاه علينا أن نكون صادقين، يجب أن لا يكون لدينا غشّ، يجب أن لا يكون لدينا نفاق، فنحن هكذا تفضّل، هذا باطننا وهذا ظاهرنا، هذا كلامنا وليس لدينا شيء نقدّمه، نحن هكذا ومن الجيّد أنّنا هكذا، نعم لا أن يكون ظاهرنا يبدو أنّه النبيّ، وباطننا باطن أيّ إنسان متعارف، كلاّ فهو يدرك وهو يميّز، وهو يرى ذلك… .

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

10
  • والعجيب أنّ هناك مذكّرات لعَلَم، علَم وزير محمّد رضا شاه، لديه مذكّرات فيها كلام جميل، وهي بضعة أجزاء لا أدري كم جزءًا منها لديّ، وقد كنت أطالعها سابقًا، فرأيت أنّ فيها كلامًا جيّدًا وعجيبًا رغم كلّ مشاكله وأخطائه، ولكنّ ما كتبه حول معرفته كان صحيحًا، معرفته بالأفراد والشخصيّات، فما رأيت من حكمه على بعض الأفراد الذين كانوا معروفين آنذاك ومشهورين كان مطابقًا لما حكمت به أنا في حقّهم، عين ما حكمت به أنا الطهراني، أنا لم أكن من المتردّدين على القصر فلم أكن وزيرًا ولا محاميًا ولا رئيس وزراء، لا شيء من ذلك بل إنسان كسائر الناس كما أنا الآن، فأنا الآن لست صاحب اسم وموقع، وقد انتهى الأمر الآن، والحمد لله الحمد لله لقد كنت حتّى هذه اللحظة هكذا، ومن الآن فصاعدًا إن شاء الله لا يصرف عنّي الإمام عنايته ونظره، ويأخذ بيدي في هذا الصراط الذي هو صراط أولياء الله. حقًّا إنّه لأمر عجيب، علينا أن ندعو، أن ندعو أن لا يصرف عنّا نظره، فكلّ حقيقتنا وكلّ وجودنا لا بدّ أن يتوجّه إلى الإمام، وكلّ فكرنا وكلّ شراشر وجودنا لا بدّ أن تكون هناك، ولا قدّر الله أن تكون هذه الأمور والأحداث والتغيّرات سببًا لمنعنا عن التوسّل بالإمام والقيام به والاتّكاء عليه والتوجّه إلى هذا الجانب أو ذاك، مطلقًا وأبدًا، فإنّه لو حصل ذلك كانت خسارتنا. فأنا لم أكن شيئًا حتّى أحكم على الناس. فكنت أرى أنّ هذا الرجل رغم كلّ ذنوبه ومشاكله ووضعه المعلوم حيث كان جزءًا من النظام، ولكنّ معرفته بالناس من حيث صلاحهم وخصوصيّاتهم كانت دقيقة، فقد سمّى أحدهم بمستغلّ الفرص وعبّر عنه بتعبير ينطبق عليه ولكنّي لا آتي به وأكتفي بأنّه ينتهز الفرص وأنّه كان يسيء الاستفادة من الظروف والأوقات في هذه الأمور، وقد عبّر عنه بلقب آخر أيضًا أيضًا لا نقوله نحن، وكان مقتضى خصوصيّته أن يضمّ ذلك اللقب إلى سجلّه، ولكنّي كنت رضيت له بلقب مستغلّ الفرص، فنظرت وتعجّبت فقد كنت أنا أعتقد ذلك في حقّه. وقد ذكر هناك إنسانًا آخر ظاهره وباطنه واحد ومن النوادر في العلماء، فرأيت أنّ رأيي في هو ذلك أيضًا، رحمة الله عليه، وهو الحاجّ الشيخ علي أصغر وحيدي، وحيد أو وحيدي، الشيخ علي أصغري رحمة الله عليه، فقد كان عالمًا فاضلاً في طهران وفي المنطقة التي كنّا نعيش فيها منطقة الأحمديّة قرب مسجد قوّامي، وكان إمام جماعة هناك، وفي بعض ليالي الأعياد في ذلك الزمان كان المرحوم العلاّمة بعد أن يخرج من المسجد يأتي إلى مسجده، حيث يقام احتفال، وبعده صار عمّنا رحمه الله يصلّي فيه، وكان له فيه نشاط وأعمال، رحم الله الحاج علي أصغر وحيد أو وحيدي، لا أدري هل اسمه وحيد أم وحيدي؟ فقد رأيت أنّه يمدحه في هذا الكتاب، وهو حقّ. وهكذا هو الحال بالنسبة إلى سائر الناس، فهذان نموذجان منه. فانظروا لكلّ إنسان وجدان، وهذا الوجدان لا يزول رغم كون الإنسان من أهل الباطل، وعمله باطلاً، ومسير حياته باطلة، ولكنّه في أعماق قلبه يدرك الحقّ.

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

11
  • لماذا بكى الطغاة على الأئمّة عليهم السلام؟

  • لماذا بكى معاوية عندما ذهب حجر بن عديّ إلى الشام ومدح أمير المؤمنين بعد شهادته لماذا؟ فمعاوية هذا رجل خبيث رجل فاسق رجل مخادع، ومهما قلتم في حقّه فهو يليق به، فلماذا جرى دمعه؟ لم يكن معاوية ممثّلاً، عمرو بن العاص كان ممثّلاً، وهو أيضًا بدوره كان يذكر أمير المؤمنين. 

  • ولماذا كان المأمون العبّاسيّ يذكر الإمام الرضا عليه السلام؟ ولماذا كان يبكي؟ حتى أنّه كان يقيم المآتم على الإمام الرضا أحيانًا بحيث يدعو من يرثي الإمام الرضا، هو الذي قتله، ولكنّه لم يستطع أن يقتل وجدانه، الوجدان مرافق له، وهذا الوجدان يؤذيه، يقتله في كلّ ساعة، في كلّ لحظة يؤذيه هذا الوجدان الذي جعله في نفس الإنسان، تلك الفطرة، الفطرة المعبّأة في النفس، تلك الفطرة المدّخرة والتي جعلت كذخيرة إلهيّة، قال الله: بدلاً من أن أقول لك قل الصدق، جعلت هذا الكلام في فطرتك، حفرته فيها مزجتها به، ركّبت هذا الصدق فيك، وبدلاً من أن أقول لك أيّها الإنسان الذي يمشي على رجلين لا تكذب على الناس حفرت في نفسك قبح هذا الكذب في نفسك وفي ذهنك، حسنًا، فإذن أنا حاضر، أنا الله المتعال حاضر بصفاتي الجلاليّة والجماليّة في نفسك تحت اسم الفطرة، فكلّ إنسان إذن الله حاضر عنده، لماذا كان يبكي معاوية؟ لماذا عندما يُتكلّم عن أمير المؤمنين عليه السلام بعد شهادته تتساقط دموع معاوية؟ لأنّ لديه فطرة! ينظر إلى خداعه، وينظر إلى صفاء وصدق وحريّة وتحرّر وشهامة عليّ عليه السلام، يقارنهما معًا، يشتعل وجدانه، يشتعل وجدانه، لا يدعه يستريح. لماذا كان المأمون إذا ذكر اسم الإمام الرضا يترقرق الدمع من عينيه؟ لأنّه ينظر إلى شقائه، ينظر خداعه وغشّه وقتله الإمام عليه السلام، لأنّه أراق دمًا بريئًا، ينظر إلى ذلك، فلا يحتمل صفاء الإمام الرضا عليه السلام ومحبّة الإمام الرضا عليه السلام وعشق الإمام الرضا عليه السلام ومراتب الإمام الرضا عليه السلام وخلوص الإمام الرضا عليه السلام، لا يمكن أن يحتمل، لا يمكنه أن يقارن بين هذين الأمرين.

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

12
  • فلو أنّ أمير المؤمنين عليه السلام تعامل مع معاوية في معركة صفّين كما تعامل معاوية معه فهل كانت دموعه ستجري عليه، لو أنّ أمير عليه السلام كان يصغي لكلام المغيرة بن شعبة وخادع معاوية بالأساليب السياسيّة من المكر والاحتيال والخداع ثمّ استفاد من معاوية بواسطة الخداع، وقد تحدّثت في مجالس عنوان البصري حول هذا الموضوع بمقدار ما، فلو أنّه فعل ذلك هل كان سيجري دمعه عليه بعد عشر سنوات من شهادته أو خمس سنوات أو أربع سنوات أو ثلاث سنوات أو سنتين؟ كلاّ يا عزيزي بل سيقول: عليٌّ مثلنا، ولكن نحن تغلّبنا عليه، لقد حاول أن ينازعنا، حاول بواسطة أساليبنا المخادعة بعينها، حاول بواسطة ألاعيبنا نحن، ولكنّا نحن في النهاية هكذا ضربناه على يده. فهذه الدموع التي تنهال على أمير المؤمنين من عيني معاوية أتدرون لماذا هي؟ لأجل صدق أمير المؤمنين، لأجل صفاء أمير المؤمنين، وحتّى الموت لم يكن أمير المؤمنين يتخلّى عن ذلك حتّى الموت، لقد كان عليّ صادقًا، كان محقًّا، كان عمله صائبًا، لقد فعلت أنا هذا، وفعل هو ذاك، أنا قمت بهذا وهو قام بذاك، أنا كذبت هنا، وهو كان صادقًا معي، كان بإمكانه أن يكذب ويربح وينتصر ولكنّه لم يفعل.

  • لماذا عفا أمير المؤمنين عليه السلام في مواقف صفّين رغم أنّها أدّت إلى هزيمته ظاهرًا؟

  • إتاحة الماء بعد السيطرة عليه

  • عندما منعتُ الماء في صفّين ولم أسمح لجيش عليّ أن يشرب، جاء وتغلّب علينا ونحّانا جانبًا، وقال: تعالوا واشربوا جميعكم فالماء ماء الله، فهذا النهر يجري، فما ذنب الحيوانات حتّى نمنعها نحن الماء؟! فالخيول ومساكينكم أنتم، أنتم أيّها المخدوعون، أيّها الجهلة، تفضّلوا واشربوا، فإذا ما شهرتم علينا سيفًا نتقدّم وندافع، فلماذا أغلق الماء؟! فانظروا هذه هي الفتوّة، هذه هذ الفتوّة، وما دامت الدنيا موجودة علينا أن ننظر إلى هذا، علينا أن ننظر إلى منهج أمير المؤمنين عليه السلام هذا، وعلى الإنسان أن يطابق بين نفسه وبين هذا المنهج، ولو نظرنا إلى ما هو أدنى من ذلك فقد خسرنا، كلاّ بل وحده أمير المؤمنين عليه السلام والسلام. ولكنّا ننحّي ذلك المنهج! فلماذا ننحّيه؟! لأنّنا نخال أنّنا ركن من الأركان، نخال أنّنا ركن من الأركان، والحال أنّا لسنا هكذا، نخال أنّ لنا دورًا، ولا يمكن التقدّم بواسطة ذلك المنهج، فنضطرّ أن نستبدله بتلك الحيل، وقد قال المرحوم العلاّمة أيضًا: أتستبدلونه بالحيل؟! فإنّ لهم اليد العليا، فماذا يحصل؟! لا شيء سيتقدّمون. لماذا نحن نقوم بذلك؟ نحن علينا أن لا نقوم بذلك، نحن علينا أن نرى أمير المؤمنين عليه السلام ماذا فعل فنفعل مثله نحن أيضًا، فإن خسرنا فقد خسرنا وإن لم نخسر لم نخسر، أمير المؤمنين عليه السلام خسر بحسب الظاهر في صفّين، لا مزاح في الأمر فقد خسر، خسر في النهاية فما معنى ذلك؟ معناه أنّ خدعة عمرو بن العاصّ انتصرت، فقد خادع عمرو بن العاصّ في النهاية.

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

13
  • عدم قتل أمير المؤمنين عليه السلام لابنِ العاص

  • ارتفع سيف أمير المؤمنين فوق رأسه ليهوي عليه فخلع ثوبه، فقط، ويا له من خبير بالظروف المناسبة! يا له من دقيق! ويا له من عالم بالظروف والأوقات! فعمرو بن العاص هذا داهية، أراد أمير المؤمنين أن يضربه ففعل ذلك. وقد قلت لكم إنّ معركة صفّين كانت تحت إدارة عمرو بن العاصّ ولم يكن لمعاوية دور فيها. لو كنّا نحن مكانه هناك لقلنا أهلاً وسهلاً أتخلع ثوبك؟! فبدلاً من أن نضربك على رأسك نضربك في مكان آخر يا من تخادعني، بما أنّك تخادع الآن سأصنع بك ما يذكّرك بأيّام طفولتك، ولكنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يفعل ذلك، ما إن رفع السيف ليفعل ذلك ظهر حياء أمير المؤمنين عليه السلام إلى العيان، ظهرت الشهامة والعفو والكرم، لقد عجز هذا الشقيّ، فهذا عجزٌ، فهو إذ يفعل ذلك فهو يقصد أنّ هذه حيلتي الأخيرة، هذه نهاية الطريق، وإلاّ لفعل أيّ فعل آخر، ولكنّه في النهاية الشيطان مسلّط عليه، فقام بهذا العمل كوسيلة وقال لنقم بهذا العمل كوسيلة لعلّه ينجح. فهذا العجز الذي كان لديه في هذه الحالة، هذا العجز مهمّ، هذا هو الأمر الأساس، وإلاّ لو أنّ عمرًا بن العاصّ رفع يده… فبدلاً من أن تخلع ثوبك ارفع يديك لماذا قمت بذلك يا عديم الأدب؟! لو أنّه رفع يده لعفا عنه أمير المؤمنين عليه السلام، أقسم بروح أمير المؤمنين لو أنّ عمرًا بن العاص رفع يده ثمّ تابع في سائر ألاعيبه لا أنّه تاب، لكان أمير المؤمنين قد تركه، أترفع يدك؟! أنا لا أضرب بالسيف إلا الضارب به، فلا أضربك الآن. هذه مدرسة أمير المؤمنين عليه السلام! 

  • فرغم أنّ أمير المؤمنين عليه السلام على يقين، على يقين، فأنا على يقين، فكيف به هو؟! على يقين من أنّه لو قضى على هذا الرجل لانتهت الحرب لانتهت، فنحن منذ ثمانية عشر شهرًا ماذا نفعل هنا؟! خرجنا من الكوفة ومشينا ٣۰۰ فرسخ نحو الشام أو ٣٥۰ فرسخًا لأجل ماذا؟! لأجل هذا، وهذه هي اللحظة المطلوبة في النهاية، فأنا على يقين فكيف به هو أليس على يقين؟! أمير المؤمنين عليه السلام يعلم أنّه لو هوى بسيفه عليه لانتهت المعركة، ولكنّه يقول: كلاّ، لماذا؟ 

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

14
  • مراعاة القيم والفضائل الإلهيّة الفطريّة أولى من النصر الظاهري

  • يقول أمير المؤمنين عليه السلام إنّ كرامة الإنسان أرفع من هذا النصر الظاهريّ في المعركة، كرامة الإنسان، الحياء ورعاية الموازين ورعاية القيم ورعاية الملكات الفاضلة ورعاية تلك الودائع الإلهيّة وما أودعه الله فينا، رعاية ذلك مقدّمة على الانتصار في هذه الأمور الظاهريّة، ولا يفهم هذا الكلام إلاّ من لا تتعلّق نفسه بعالم الدنيا. 

  • وهذا الأمر عجيب جدًّا! عجيب جدًّا جدًّا! فهل كان أمير المؤمنين عليه السلام وحده، فلو قلنا إنّه كان وحده نقول: حسنًا أنت أخبر بما تفعل، جئت بجيش من الكوفة إلى صفّين فماذا تقول لهذا الجيش الذي جئت به من الكوفة؟! ماذا تقول لهذه العوائل التي فقدت أزواجها في معركة صفّين؟! ماذا تقول لهؤلاء الذين سيأتون لاحقًا؟! ماذا تقول لهؤلاء الذين في الشام؟! ماذا ستقول لحكومة الإسلام؟! فالأمر ليس مختصًّا بك أنت، العالم الإسلاميّ كلّه والدولة الإسلاميّة كلّها مصيرها متوقّف على ضربتك هذه، متوقّف على هذه الضربة منك الآن، فلماذا لا تضرب؟! لماذا لا تضرب وتنهي الأمر؟! لماذا؟! 

  • يريد الإمام أن يقول هذا: إذا ما ضربت هذا أنا الآن فأيّ أسوة ستتّخذ لنفسها الأمم التي تأتي إلى يوم القيامة؟! وأيّ منهج ستجعل أمام أعينها؟! أيّ منهج؟! وبأيّ قيم ستفكّر وعلى أيّ أساس ستجعل حياتها؟! لو فعلت أنا ذلك ـ فانظروا أمير المؤمنين فكّر بالأمر إلى يوم القيامة ـ لو ضربت أنا الآن هذه الضربة التي هي حقّ؛ إنّه عمرو بن العاص اللعين الذي كانت كلّ هذه المشاكل بسببه، فلو ضربته لانتهى الأمر واقتلعت خدعة معاوية، والحكومة أيضًا هي حكومة الإسلام، فأمير المؤمنين عليه السلام لن يحكم حكومة خداع ونفاق وقتل للنّاس، كلاّ بل حكومة أمير المؤمنين عليه السلام هي حكومة الإسلام، وهو إسلام أمير المؤمنين أيضًا، لا إسلامي أنا يريد أن يطبّق، ولكنّ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: أنا عليّ أنا عليّ يجب أن أكون أسوة لكلّ من يأتي من بعدي ويريد أن يعمل بسيرتي: «أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَ يَسْتَضِي‌ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلَا وَ إِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ»۱ في تلك الرسالة التي أرسلها إلى عثمان بن حنيف في البصرة، فهو يقول: أنا عليّ الأسوة، أنا القدوة لهذا الجيل والأجيال القادمة إلى قيام قائمي، أنا عليّ الذي إذا جاء قائمي وولدي أظهر إلى مسرح الوجود كلّ ما هو في قلبي، يأتي ويحقّق ذلك، يكمله، يهبه التكوّن، أنا عليّ الذي أريد أن أكون أسوة لجميع أحرار العالم، لجميع اليهود ولجميع المسيحيّين ولجميع اللادينيّين ولجميع المسلمين ولجميع الشيعة، سينظرون إليّ أنا المسمّى بعليّ، فعليَّ أن لا أهويَ بسيفي عليه لأنّه أظهر العجز.

    1. نهج البلاغة، ص ٣٥۸: «أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ وَ يَسْتَضِي‌ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ أَلَا وَ إِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ أَلَا وَ إِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ وَ لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَ لَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَ لَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً وَ لَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَ لَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ وَ لَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ وَ نِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ وَ مَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَ غَيْرِ فَدَكٍ وَ النَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا وَ تَغِيبُ أَخْبَارُهَا وَ حُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وَ أَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا لَأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَ الْمَدَرُ وَ سَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ وَ إِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ وَ تَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ وَ لَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَ لُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَ نَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَ لَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ».

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

15
  • وهذا جانب من الأمر، وإلاّ فإنّ أمير المؤمنين لا ينظر إلى ذلك، فلو لم يكن بعد أمير المؤمنين أحد أيضًا، ولو لم يكن في الدنيا إلا واحد هو عمرو بن العاص، ولم يكن هناك أحد كأمير المؤمنين، لما فعل أمير المؤمنين إلاّ ذلك، وأقول لكم هذا الأمر أيضًا: لو أنّ أمير المؤمنين عليه السلام في تلك الحادثة التي وقعت علم أنّ هذا الموقف مع عمرو بن العاص سيؤدّي غدًا أن يغتال هو أميرَ المؤمنين على حين غفلة لما أهوى أمير المؤمنين أيضًا بالسيف على رأسه، وأُقسم بروحه إنّه لا يقتله. ولا شأن لنا أيضًا بالأجيال القادمة، افترضوا أنّه لا يوجد أحد أيضًا، فأصل هذا العمل في النظام الفطريّ لأمير المؤمنين عليه السلام قد تجسّم بهذا النحو، نفس هذا العمل سواء ستأتي أجيال لاحقة أو أفراد لاحقون أو كانوا لا يأتون فلا شأن له بذلك، فهذا العمل كيف يجب أن يتحقّق وإن قطع بأنّه غدًا سيأتي هذا اللعين ويقتله بسهمٍ غيلة، فليقتلني فأنا لا أفعل ذلك، هذا الإنسان يصبح مصداقًا لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ في‌ رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثيراً﴾۱ فهذه هي الأسوة الحسنة، ولأجل هذا كان أئمّتنا أسوة، ففعل الأئمّة عليهم السلام في كلّ موازين مراتب الكثرة سواء في المرتبة الشخصيّة أو في المرتبة العائليّة أو في المرتبة الاجتماعيّة، سواء كانوا متولّين للإدارة أم لم يكونوا وكان حكّامًا أم لم يكونوا وسواء كانوا أعداء أم أصدقاء، حالهم واحدة، لا يتحرّك هذا الميزان من مكانه حركة واحدة، فنحن لدينا أسوة كهذه، ومع ذلك إلى أين نسير؟! نحن الذين نمتلك أسوة كهؤلاء إلى أين نتوجّه؟!

  • نظام أحكام الفطرة واحد لدى جميع الناس على اختلافهم

  • فإذن نظام الفطرة في الدنيا هذا النظام نظام واحد، ولا فرق في ذلك بين الناس كلّهم، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: كن صادقًا، ومع عدوّك كن صادقًا، وإن كان سيخونك بعد ساعة، أنت الآن عليك أن تكون صادقًا، خيانته ستكون بعد ساعة، وملفّ الساعة الآتية يختلف عن ملفّ الساعة الحاضرة. الأمر دقيق جدًّا، دقيق جدًّا، ملف الساعة الآتية يختلف عن ملفّ الساعة الحاضرة، هذا ملفّان. الآن يسألك هل فعلت ذلك؟ فإن لم تكن فعلته فعليك أن تقول لم أفعل، ولا يمكنك أن تقول فعلت، لا يمكن أن تقول. وتلك الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله التي يقول فيها: «كلّ مولود يولد على الفطرة» إنّما تحكي عن هذا الأمر، «فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه»٢ فالأب والأمّ هما اللذان يقضيان على الفطرة، فإمّا يجعلانه يهوديًّا، أو نصرانيًّا أو مجوسيًّا أو بغير دين ولا مذهب، الأبوان يعنيان الظروف الاجتماعيّة ومحيط الأقارب، عندما يولد ذلك الطفل فإنّه يصطحب معه تلك الودائع الإلهيّة، عندما يولد يصطحب معه سجلاًّ ويقدّمه إليك ونحن لا نرى معه ضميمة عندما يخرج من بطن أمّه، نحن لا نراها ولكنّ أبناء الحلال يرونها، وأقصد من أبناء الحلال أولئك الذين فتحت أعينهم فلا تذهبنّ بكم المذاهب إلى مراد آخر، فعندما ولد هذا الطفل جاء معه سجلّ، إنّه ضميمة له، فماذا في هذا السجلّ؟! الأوامر التي أمر الله بها هذا الطفل، أنت يا عبدي ومخلوقي عليك أن تعمل في هذه الدنيا بهذه الطريقة! فقد ضمّ هذا السجلّ فضلاً عن ذلك السجلّ الذي يعطى من المستشفى الذي يذكر فيه يوم الولادة ونوعيّة الولادة وهل كانت طبيعيّة أم قيصريّة وأمثال ذلك وأنواع الصور التي أجريت له وكيفيّة العلاج والأدوية التي أعطيت إليه وسائر ما يكتب، فإضافة إلى هذا السجلّ هناك سجلّ آخر أيضًا لا تراه الممرّضات وسائر الناس، لا يراه إلى من كشف الغطاء عن عينه، في ذلك السجلّ البرنامج الذي عليك أن تعمل على أساسه لكي تطوي طريق التخلّي عن النفس والوصول إلى معرفتي تلك، والتي هي تكاملك الوجوديّ، وفي هذا السجلّ: الصدق واجب، الكذب حرام، العدالة واجبة، النفاق حرام، رعاية الأمانة واجبة، محبّة أبناء النوع واجبة، النظرة التوحيديّة إلى الجميع، مساعدة الفقراء، وأمثال ذلك وكلّ ما يجب على الإنسان أن يقوم به في هذه الدنيا قد سجّل في هذا السجلّ، ذكر فيه، وهنيئًا لمن ينظر بدقّة إلى كلّ سطر منه وإلى كلّ حرف، كلّما أرادوا أن يخرجوا من بيوتهم يوميًّا يلقون نظرة على صحيفة أعمالهم، على تلك الصحيفة الوجوديّة للنّفس والتي تحتوي على تلك الودائع، يلقون عليها نظرة وبناء على تلك النظرة يسيرون في هذا المجتمع، ويسيرون بين الناس بتلك الحالة.

    1. سورة الأحزاب (٣٣)، الآية ٢۱. 
    2. الخلاف للشيخ الطوسي، ج٣ ص ٥٩۱؛ صحيح مسلم ٤: ٢۰٤۷ حديث ٢٦٥۸، و الموطأ ۱: ٢٤۱ حديث ٥٢، و مسند أحمد بن حنبل ٢: ٢٣٣ و ٢۷٥ و ٢۸٢، و السنن الكبرى ٦: ٢۰٣، و مجمع الزوائد ۷: ٢۱۸ و في بعض المصادر «ما من مولود».

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

16
  • كان المرحوم العلاّمة يقول: في النظام الذي نريد أن نقيمه، في ثورة سنة اثنين وأربعين لا سبيل إلى الكذب! فانظروا كم كان ذلك الرجل عظيمًا، فماذا كان؟ ماذا كان هؤلاء؟! ولأجل هذا صارت الأمور بنحو آخر وتغيّرت الأحوال سارت الأمور بشكل آخر، وانفصل هو في النهاية.

  • عدم إمكان إنكار الحقائق الخارجيّة لا من قبل الإمام عليه السلام ولا من قبل غيره

  • حسنًا فقد كان الحديث عن أنّ هذه الحقائق الخارجيّة لا تقبل الإنكار، فلا نحن نستطيع أن ننكرها، ولا الإمام عليه السلام، أيّ منّا لا يمكنه، فالوقت الآن ليل، ولو أنّ الإمام السجّاد يقول إنّه نهار، رغم أنّي أراه ليلاً، فما هذا الفعل؟ إنّه باطل وحرام، فالكذب حرام، لا يقول الإمام إنّ الوقت الآن نهار، فالآن ليل، لأنّ الشمس قد غابت، وهي خلفنا، والجوّ مظلم الآن علينا، فالوقت الآن ليل، فلو كان الوقت نهارًا وقال الإمام السجّاد عليه السلام: إلهي الوقت الآن ليل وهو في الواقع نهار، فقد أنكر حقيقة خارجيّة تحقّقت في الخارج، وعامّة الناس لا يصحّ منهم ذلك فكيف بالإمام عليه السلام؟! فلا يمكن للإمام أن ينكر، لأنّه إنكار حقيقة ماديّة وحقيقة خارجيّة لا تقبل الإنكار.

  • في الليلة ما قبل الفائتة قلت: لو أنّ الإمام عليه السلام قال: ليس أبي هو الحسين بن عليّ، وإنّما أبي رجل آخر، لقلنا: كلاّ فالإمام لا يقول هذا الكلام، لا في دعاء أبي حمزة ولا في غيره في الصحيفة السجّاديّة، كلاّ فهل رأيتم يومًا أنّ الإمام السجّاد عليه السلام قال: يا ربّ إنّ أبي ليس هو الحسين بن عليّ بل هو رجل آخر وهو خطأ أن يقال إنّه أبي؟! 

  • يقول الإمام أنا أذنبت، الإمام يقول: أنا أعترف بذنوبي، الإمام يقول: إذا أذنبت ارتجف بدني وكذا، ولكنّ الإمام لا يأتي فجأة وينكر حقيقة خارجيّة، لو أنّ الإمام خرج من منزله لا يقول في دعاء كميل إلهي أنا لم أخرج من منزلي، فهذا كذب، وقد خرجت أنت، خرجت من منزلك وذهبت إلى السوق وتعاملت مع فلان، اشتريت الخضار وأحضرتها إلى المنزل. إلهي أنا اليوم لم أشتر الخضار. حسنًا لقد اشتريت. إلهي أنا لم أشتر الفواكه اليوم، إلهي أنا لم ألتق بصديقي فلان اليوم، إلهي أنا لم أفعل ذلك الفعل، فالأعمال التي تحقّقت في الخارج لا يمكن للإمام أن ينفيها بما هي هي، لماذا؟ لأنّها حقيقة خارجيّة، فإذن ما يقوله الإمام عليه السلام من أنّه: «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت…» أريد أن أجمع البحث، وإن شاء الله إن لم أتمكّن الليلة، فسنتركه لوقت آخر، فالليلة القادمة هناك احتمال ضعيف أن لا أحضر، وليلة الأحد إن لم يكن أمر العيد واضحًا ولم يشاهد الهلال فستكون هناك جلسة إن شاء الله لولا البداء، وإن تبيّن أنّها ليلة العيد فسيكون هناك ترتيب آخر… 

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

17
  • كيف ينسب الإمام الذنوب إلى نفسه؟!

  • عندما يقول الإمام عليه السلام: «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت» فهل يقصد أنّي أدخلت يدي في جيبي وأخرجت المال وأعطيته كرشوة لذلك القاضي؟ أهذا هو مراده؟! فالإمام لم يفعل ذلك، ولا يمكن أن يقول ذلك، فإذن ليس هذا هو المراد، والعمل الخارجيّ في نفسه إن كان الإمام قد عمله فلا يمكنه أن يقول لم أفعله، وإن كان لم يفعله فلا يمكنه أن يقول فعلته، هذا بالنسبة إلى العمل الخارجيّ في نفسه. ولكن الإمام عليه السلام يقول: لقد فعلت ذلك، أعطيت الرشوة، أعطيت الرشوة على معاصيّ، لأجل الوصول إلى الذنب أعطيت الرشوة، لأجل الوصول إلى رغباتي ونواياي الشيطانيّة أعطيت الرشوة، لقد تجرّأت على مولاي، فكيف هو التجرّؤ على المولى؟! 

  • أن يقف الإنسان أمام الله ويفعل ما يخالف رضاه، يقول الإمام: لقد فعلت ذلك، أنا الذي على سيّده اجترى. لقد وقفت أمامه مختالاً وارتكبت المعاصي «أنا الذي عصيت جبّار السماء، أنا الذي أعطيت على معاصي الجليل الرشى». فهذا الذنب الذي يقول عنه الإمام السجّاد نذهب إلى داره ونطرق الباب ونقول: يا ابن رسول الله لا بدّ أن تخبرني حقًّا فنحن جميعًا من أبناء الأئمّة وأقول له يا جدّاه لديّ سؤال. فيقول: حسنًا تفضّل أخبرني ماذا حصل حتّى جئت من الصباح الباكر إليّ. فأقول له: لديّ مسألة، أنت إذ تقول يا جدّاه لله «أنا الذي أعطيت على معاصي الجليل الرشى»، أعطيت الرشوة للقاضي ولذلك الحاكم الجائر والظالم وذلك المعتدي وذلك الذي يجعلونه ضابط جمارك وأمثال ذلك، فمتى فعلت أنت ذلك؟ فأنت لم تدخل شيئًا إلى البلد كي تقول إنّي أدخلت شيئًا من تلك الموانئ خفية، أليس لدينا ذلك؟ لا أدري يقال إنّهم يهرّبون بعض الأمور من تحت الطاولة أو فوقها أو وسطها، فهذه الأمور موجودة وبسهولة وتتحقّق من خلالها الأعمال، فأنت لم تدخل شيئًا، فليس في دارك حتّى كوبان، ولا حتّى سجّادتان، حتّى تكون قد هرّبت بضائع، فما هذا الكلام إذن؟! أنت إذ تقول «أنا الذي على سيّده اجترى» ونحن لم نر منك حتّى ترك الأولى فكيف بالكذب؟! أنت لم ترتكب ذنبًا فكيف هذا؟! فلا يمكن للإمام هنا أن يقول: لقد ذهبت أمس إلى حاكم هذه المدينة ورشوته، لنقول له: لماذا؟ فهو لم يفعل ذلك. فلا يمكن للإمام أن يقول هذا، لا يمكن، لم يقم به، إنّه جالس في بيته، وكنّا نحن جالسين معه، فالإمام كان في منزله ولم يتحرّك من مكانه، ولا يمكن للإمام أن يقول أنا قلت كلامًا كاذبًا، ولا أن يقول قمت بهذا العمل الباطل، لقد سألني فلان شيئًا وأنا قلت خلافه، ففلان لم يأت أصلاً إلى البيت كي يقول له الإمام شيئًا كهذا.

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

18
  • حسنًا فقد اتّضح إلى هنا أنّ العمل الخارجيّ في نفسه، العمل الخارجيّ إن لم يقم به الإمام فلا يمكنه أن يقول: قمت به، ولا أن يقول للنّهار إنّه ليل، لا يمكنه، بل عليه أن يقول إنّه نهار، ولو جاء فلان إلى منزله فلا يمكنه أن يقول: لم يأت. فهذا هو العمل الخارجيّ في حدّ ذاته، وهو الذي لا يسمّى ذنبًا، بل هو عمل خارجيّ قام به الإنسان، وأمّا الذنب فبماذا عرّفناه؟ الذنب عبارة عن تلك النيّة الفاسدة والنيّة الباطلة التي تسبّب ذلك العمل الخارجيّ وتدعو إليه، تلك النيّة هي علّة وسبب لذلك العمل الخارجيّ وتدعو إليه، تلك النيّة هي علّة وسبب ذلك العمل الخارجيّ، تلك النيّة هي المقصود والغلّة الغائيّة لذلك الفعل الماديّ الخارجيّ أو تلك الحادثة الخارجيّة، فذلك الجانب النفسيّ والجانب الذهنيّ لذلك الفاعل هو العلّة لذلك الذنب، أو أنّ الإنسان بواسطة تلك النيّة يصل إلى ذلك العمل الخارجيّ ويقوم به، أو أنّه يريد القيام به ولكن لا يتمكّن بواسطة بعض الموانع، وفي الحالين فإنّ نيّة القيام وقصد الفعل والحالة الذهنيّة التي لدى الإنسان تريد أن تفعل ذلك، والغاية التي ينظر إليها الفعل الخارجيّ كلّ ذلك هو الذي يرجع إليه الاتّصاف بالذنب، ولا شأن لله في ذاك العمل الخارجيّ بأيّ وجه من الوجوه حتّى بنسبة واحد في الألف، ولا شأن لأحد فيه، كأنّ شيئًا لم يكن في الخارج، كأنّه لم يحدث أمر ما في الخارج.

  • من آثار أصالة النيّة وضوح معنى: يبدّل الله سيّئاتهم حسنات

  • لذا نرى في آيات القرآن أنّه في تلك المسألة التي أوضحها المرحوم العلاّمة بنفسه لا أدري في أيّ كتاب فليبحث عنها الرفقاء بأنفسهم هل هي في معرفة المعاد أم معرفة الإمام لا أدري أين حيث يقول: ﴿إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِك يبَدِّلُ اللَه سَيئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَه غَفُوراً رَحِيماً﴾۱ فهناك لا بدّ من توضيحها بهذا النحو، عندما يرتكب الخاطئ الزالّ في جهله خطأ وزلّة ثمّ يندم ويتجاوز تلك المرتبة ويخلّي نفسه ويحلّيها ويزيّنها وينوّرها بتلك المراتب النورانيّة، فإذا أراد أن يعبر من هناك فهل تبقى تلك الكدورة التي كانت هناك بسبب عدم التوبة أم تزول؟ تلك الكدورة تزول ولا يعود يراها، وهناك كثيرون وقد سمعت من عدد من الناس والأصدقاء أنّه عندما أعطاهم المرحوم العلاّمة برنامج التوبة وهكذا بعده كان يحدث لديهم أمر بحيث يقولون: عندما قمنا بهذا البرنامج أحسسنا أنّنا لم نذنب، ومهما رجع إلى نفسه أن كيف صرت هكذا فقد أذنبت؟ ألم أذنب أنا حتّى هذه اللحظة ألم أخطئ؟! ولكن مهما نظر فإنّه يجد أنّه لا ير ذلك الذنب، لا يرى تلك الزلّة، لا يرى تلك الكدورة للمعصية والتي كانت حتّى الآن قرينة لسجلّه، فلم يعد يشعر بتلك الكدورة، بل هناك ما هو أرفع من ذلك، فقد كان بعضهم يقول: نحن نشعر أنّ تلك الأعمال التي قمنا بها سابقًا على أنّها ذنوب ننظر الآن فلا نراها ذنوبًا، بل كم كانت جميلة أيضًا! عجيب عجيب، إنّها حالة واحدة أي ذاك العمل بعينه؟! وهذا عجيب لا أنّ الله يأتي بحسنة من مكان آخر ويجعلها في سجلّهم، فهذا أمر آخر، بل الله يبدّل الذنب إلى حسنة! فكيف يكون ذلك؟! أليست الظلمة في جوهر الذنب؟! فجوهر الذنب ليس عرضًا حتّى يزول ويحلّ مكانه عرض آخر، فالجور لا يتغيّر، لماذا؟ عندما يقول الله ﴿فأولئك يبدّل الله سيّئاتهم حسنات﴾، هؤلاء الذين يتوبون ويتجاوزن ويتوبون توبة نصوحًا ويقلعون عن المعصية ويخطون في السير والسلوك الذي نتحدّث عنه فإنّهم ليس فقط نمحو ذنوبهم، فهذا ليس بشيء ذي بال أصلاً، بل يبدّل الله سيّئاتهم حسنات! كذب وأخطأ ولكنّنا نكتب له في صحيفة الأعمال أنّ عمله الباطل هذا هو عمل صحيح، وتترتّب عليه آثار العمل الصحيح لا أنّه صحيح فحسب، والآثار النورانيّة التي تترتّب عليه تجعله يتحيّر، فهل تصوّرتهم رحمة الله التي تبيّنها هذه الآية إلى أيّ حدّ؟ فالعمل الخاطئ الذي قمت به فيما سبق يكتب الله لي ثوابًا عليه. لا يمكن للإنسان أن يتصوّر ذلك حتّى تصوّرًا، إلهي أنت هكذا؟ ما عرفناك. ولم يكن عبثًا ما قاله بايزيد حيث قال: إمّا أن تعطيني حاجتي وإمّا أن أخبر عبادك عن شمّة من رحمتك بحيث لا يعبدك أحد إلى يوم القيامة، لا يأتيك أحد بعبادة، فهؤلاء كانوا يرون ذلك ويشعرون به. 

    1. سورة الفرقان (٢٥) الآية ۷۰. 

فطريّة الأحكام الإلهيّة - تحليل مواقف أمير المؤمنين عليه السلام في صفّين

19
  • والعجيب أنّ هؤلاء كانوا يقولون لي: إنّ جميع أعمالنا السابقة قد كتبت لنا أعمالاً صالحة ومحقّة، لا أنّها محيت، فمحوها هو مرتبة وله مكانه، والتبديل أكبر وهو يرتبط بكيفيّة العبور وأنّ الله يعيد الجوهر لا العرض وحده، أي ذلك الجوهر بعينه، وطبعًا هذا الموضوع فيه كلام كثير وأنّه كيف يعاد الجوهر؟! وقد انتهى المجلس ووصل شهر رمضان إلى نهايته ونحن لا نزال في منعطف زقاق «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت» ولم نستطع أن نكمل هذه المسألة، وإن شاء الله إذا وفّقنا أن نكون ليلة الأحد أيضًا في خدمة الرفقاء فبها وإن شاء الله نكمل البحث، وإلا ففي إحدى الجلسات التي هي أمامنا [من جلسات شرح حديث عنوان البصري]، لأنّ المسألة مسألة ينبغي أن لا تترك ناقصة، والفكرة الأساس لم تطرح بعد، فإن شاء الله في بعض الجلسات المقبلة هناك مجال للحديث في ذلك، وإن شاء الله سنكون في خدمة الرفقاء.

  • نسأل الله أن يفهّمنا هذه المفاهيم، وأن يفتح أذهاننا لهذه الحقائق، وقد كان شهر رمضان هذا حقًّا شهرًا مباركًا جدًّا، شهرًا مليئًا بالبركة، وكم مضى سريعًا، وبقيت حسرة انتهائه في قلوبنا. 

  • في عبارة لرسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «فإنّ الشقيّ من حرم رضوان الله في هذا الشهر العظيم».۱ فهذا في النهاية من ذاك، فرحمتي واسعة إلى درجة أنّها تسع الجميع، ومع ذلك نرى أنّ بعضهم أشقياء حقًّا، ولم يؤثّر فيهم شهر رمضان، وهم لا يزالون على تلك الحال التي كانوا عليها، فاللهمّ لا تجعلنا منهم، واجعلنا من المشمولين لهذه الفقرات العذبة والمبشّرة والتي تعد بها أولياءك في هذا الشهر، وإن كان هناك في هذين اليومين الباقيين أو الأيّام الثلاثة الباقية من شهر رمضان إن كان هناك بقيّة في قلوبنا من النقصان والزلل والخطأ والفقد والتمرّد والأنانيّة والتجرّؤ عليك، فببركة أنفاس الأعاظم والأولياء الذي لا نعلم كيف يقضون هذا الشهر، ببركتهم يا الله اجعلنا نحن أيضًا موضع عنايتك.

    1. الشيخ الصدوق، فضائل الأشهر الثلاثة، ص ۷۷: «فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ مِنْ غُفْرَانِ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ».