المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء أبي حمزة
التاريخ 1398/09/13
التوضيح
في هذه المحاضرة التي عقدها سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة لشرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ، أشار بدايةً إلى ضرورة إعمال الدقّة عند استنباط المعاني من الكلام، ثمّ تحدّث عن أهمّية الحجّ وزيارة المشاهد المشرّفة، مستعرضًا إحدى فوائد زيارة الحُرم المطهّرة؛ وبعد ذلك، تطرّق إلى مسألة حرمان الإنسان من حالة التوجّه أثناء العبادة؛ مشيرًا إلى خطر الاستخفاف بحقّ الله تعالى والإعراض عنه؛ وتكلّم عن دور الشكر في استمرار الأحوال المعنويّة، وأهمّية حُسن استضافة هذه الأحوال؛ ليختم كلامه بالحديث عن تأثير مجالسة البطّالين والابتعاد عن مجالس العلماء في الحرمان من الفيوضات المعنويّة.
هو العليم
الأسباب المانعة من تحصيل الأحوال المعنويّة
شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّة – الجلسة الحادية عشرة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله مِن الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وصَلَّى اللَهُ على خيرِ خَلقِه وأشرفِ بريَّتِه
محمّدٍ وآلِهِ الطيّبينَ الطّاهِرينَ
ولَعنةُ اللَهِ على أعدائِهِم أجمَعينَ
ضرورة إعمال الدقّة عند استنباط المعاني من الكلام
«اللَّهُمَّ احْرُسْنِي بِحَرَاسَتِكَ، واحْفَظْنِي بِحِفْظِكَ، واكْلَأْنِي بِكِلَاءَتِكَ، وارْزُقْنِي حَجَّ بَيْتِكَ الْحَرَامِ فِي عَامِنَا وفِي كُلِّ عَامٍ، وزِيَارَةَ قَبْرِ نَبِيِّكَ والأَئِمَّةِ عَلَيهمُ السلامُ، ولَا تُخْلِنِي يَا رَبِّ مِنْ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الشَّرِيفَةِ والْمَوَاقِفِ الْكَرِيمَةِ»۱.
للحفظ والحراسة والكلاءة معنى واحد، مع وجود اختلاف يسير بينها٢، حيث يقول البعض:
لا توجد لدينا في الأساس ألفاظ مترادفة في اللغة العربيّة، بحيث يدلّ لفظان على معنى واحد، بل إنّ كلّ لفظ يدلّ على هذا المعنى الواحد مضافًا إلى خصوصيّة معيّنة؛ فالإنسان والبشر وبني آدم ليست ألفاظ مختلفة تدلّ على معنى واحد، بل إنّ هذه الكلمات الثلاثة تدلّ بأجمعها على نفس معنى الإنسانيّة؛ لكن، لوحظت في كلمة خصوصيّة غير موجودة في الأخرى، بحيث صارت هذه الخصوصيّة سببًا لوضع لفظين أو ثلاثة ألفاظ [لذلك المعنى الواحد]، ولظهور الألفاظ المترادفة؛ ممّا يعني أنّ الترادف غير حقيقيّ.
وهكذا الشأن أيضًا بالنسبة للحراسة والحفظ والكلاءة؛ فهي بأجمعها ألفاظ ذات معنى واحد، لكن مع وجود اختلاف يسير بينها.
«اللَّهُمَّ احْرُسْنِي بِحَرَاسَتِكَ»؛ لا بحراسة غيرك!.
فلا يُمكن لسواك أن يحرسني؛ لأنّه لا وجود لغيرك في عالم الخارج؛ وبالتالي، إذا أردت أن تجعلني في حراسة غيرك، فعليك أن تجعل في بالي هذا الغير، ثمّ تجعله حارسًا لي؛ وحينئذ، سيضحى فكري فاسدًا ومشوبًا؛ إذ لن يكون فكري هذا سليمًا، إلاّ إذا لم أر في الخارج غيرك، ولم يحلّ ببالي، سوى تأثيرك في جميع الأبعاد؛ ولهذا، أسألك أن تجعل فكري متوجّهًا إليك على الدوام، لكي أكون في حصنك وأمانك، مهما كان الحصن والأمان الذي كنت متحصّنًا به في الخارج! فاحرسني بحراستك، وآمنّي بأمانك!
«وارْزُقْنِي حَجَّ بَيْتِكَ الْحَرَامِ فِي عَامِنَا وفِي كُلِّ عَامٍ».
ويتبيّن أنّ حجّ بيت الله الحرام أمر بالغ الأهمّية، لكي يقول الإمام في الفقرة السابقة: «وارْزُقْنا حَجَّ بَيْتِكَ وزِيارةَ قَبرِ نَبيِّكَ»، ثمّ يقول هنا: «وارْزُقْنِي حَجَّ بَيْتِكَ الْحَرَامِ فِي عَامِنَا وفِي كُلِّ عَامٍ».
ولهذا يُستحبّ۱ الحجّ في كلّ سنة بالنسبة لأهل الجِدة، أي أهل الاستطاعة والتمكّن، بل إنّ المرحوم الصدوق رحمة الله تعالى عليه أفتى بوجوب الحجّ عليهم٢.
رأى أحد الأفراد مسألة في كتاب ما، ولعلّه التذكرة٣ للعلاّمة، فجاء عندي يسألني، ويقول: يا سيّدي، يجب على أهل جَدّة الذهاب للحجّ في كلّ سنة!، فقلت له: كلاّ!، فقال: بل يجب عليهم ذلك؛ وقد رأيت ذلك وطالعته بنفسي؛ قلت له: كلاّ، لا تصحّ مثل هذه المسألة، فجئني بالكتاب؛ وحينما أتاني به، وجدته أخطأ في قراءة جِدَة، وقرأها جَدَّة! فأهل الجِدة هم أهل التمكّن والاستطاعة؛ سواء كانوا في كردستان أو تركستان أو أيّ مكان آخر؛ فعليهم أن يحجّوا كلّ عام إن تمكّنوا من ذلك، بل إنّ المرحوم الصدوق أفتى بالوجوب. لكنّ ذلك السيّد كان يقرأ جَدّة بدلاً عن جِدَة، حيث يقع الإنسان أحيانًا في مثل هذه الأخطاء، ويخلط بين عبارة وأخرى؛ فيسقط حينئذ في ورطة كبيرة، ويُفتي بوجوب الحجّ على أهل جَدَّة، مع أنّه قد يكون العديد منهم مساكين وفقراء، ولا يستطيعون حتّى الخروج من بيوتهم!
وهناك العديد من الحالات المشابهة؛ ولهذا، يتعيّن على الإنسان إعمال الدقّة، وفهم كلّ مسألة، والأخذ بها بنحو صحيح؛ وتوجد عبارة أخرى لها صلة بهذا البحث يُقال فيها:
قال رسول الله: «الحَمّامُ يومٌ وَيَومُ، لا يُكثِرُ اللحمَ»؛ أي أنّه إذا ذهب الإنسان إلى الحمّام يومًا بعد يوم، فإنّ هذا العمل لن يُساهم في تنمية لحم بدن الإنسان وزيادته.
غير أنّ الكلام لم يأت بهذا النحو، بل جاء بالشكل الآتي:
«الحمّامُ يومٌ ويومٌ لا، يُكثِرُ اللحمَ»٤؛ بمعنى أنّه لا يحسُن بالإنسان أن يذهب إلى الحمّام كلّ يوم، بل يذهب يومًا، ويُحجم يومًا؛ فهذا العمل سيُنمّي لحم بدنه ويزيده.
فسقطت «لا» عن «يوم»، وأُلصقت بـ «يُكثر»! ويُمكننا العثور على العديد من هذه الأخطاء.
ولهذا، لا بدّ لطلبة العلوم الدينيّة من التدقيق كثيرًا عند السعي لفهم المسائل، بل إنّ أحد أسرار تقدّم الإنسان في العلوم هو إعمال الدقّة من أجل استنباط المعنى من الكلام بنحو جيّد، وفهم حقيقة المسألة الواردة في العبارة؛ ولهذا، يُقال: إنّ التدريس في مرحلة السطوح أعقد من التدريس في مرحلة بحث الخارج! ؛ لأنّه يتعيّن على الإنسان في درس السطح أن يأتي بالكتاب، ويضعه أمام التلميذ، ويقرأ كلّ سطر منه، ويُفسّره؛ فإذا لم يفهم التلميذ موضعًا منه، فإنّه سيُمسك بخناقه، ويقول له: ما معنى هذه العبارة يا سيّدي؟ ولماذا تجاوزتها؟ و...؛ وأمّا في بحث الخارج، فلا يوجد أيّ كتاب [درسيّ]، بل إنّ الأستاذ يبيّن المسائل كما يحلو له؛ وإذا لم يفهم التلميذ ألف مسألة، فإنّه يتجاوزها، ولا يتعرّض لها بتاتًا، بل يُلقي الدرس، ويتخطّاها.
أهمّية الحجّ وزيارة المشاهد المشرّفة
«وارْزُقْنِي حَجَّ بَيْتِكَ الْحَرَامِ فِي عَامِنَا وفِي كُلِّ عَامٍ».
لكنّ وجوب الحجّ غير واجب على أهل الجِدَة، بل هو مستحبّ۱؛كما توجد لدينا روايات جاء فيها أنّه لا يليق بالأفراد المتمكّنين أن يَدَعُوا الحجّ مرّة كلّ أربع سنوات٢.
«وزِيَارَةَ قَبْرِ نَبِيِّكَ والأَئِمَّةِ عَلَيهمُ السلامُ».
ويتّضح جليًّا أنّ زيارة قبر النبيّ وقبور الأئمّة مهمّة جدًّا، لكي يأتي الإمام السجّاد عليه السلام، ويُكرّرها هنا مرّة أخرى؛ لكن، ما هي الآثار والفيوضات التي تغمر الإنسان حين الاقتراب من هذه القبور؟ وأيّ سرّ في هذا الأمر؟ أنا حقيقةً لا أعلم ما هو هذا السرّ! فروح النبيّ موجودة دائمًا، وروح الإمام موجودة في كلّ مكان؛ غير أنّ المكان الذي يوجد فيه القبر بالخصوص، إمّا أنّه يحظى بتوجّه أكبر، أو أنّه يستضيف زوّارًا أكثر؛ وباختصار، من الواضح جدًّا أنّ الأماكن المشرّفة تتوفّر على فيوضات لا توجد في غيرها؛٣ فهذه الأماكن خالية من النفوس الشيطانيّة التي تُمنع من الدخول؛ وهناك محلّ طواف الملائكة؛٤ ولهذا، حينما يُريد الإنسان الدخول لهذه الحُرم الشريفة، فإنّه يُسلّم حتّى على الملائكة، ويستأذنهم للدخول؛ ومن هنا، يتبيّن أنّ الملائكة تكون واقفة هناك، لكي يطلب الإنسان الإذن منها للدخول، وليس أنّه متى ما أراد هذا الإنسان الذهاب إلى حرم الإمام الرضا عليه السلام، فإنّه يستأذن تلك الملائكة الموجودة في اليَمَن مثلاً؛ إذ لا معنى لهذا الأمر! وبالتالي، فإنّ الملائكة موجودة هناك بكلّ تأكيد، حيث يقول الشيخ البهائيّ في أشعاره، مخاطبًا الشاه عبّاس:
مقراض بـه احتیاطْ زن ای خادم | *** | ترسم بِبُری شـهپر جبریـل امین٥ |
يقول: استخدم المقراض بكلّ احتياط أيّها الخادم؛ فأنا أخشى أن تقطع جناح جبرائيل الأمين
فقد سافر الشاه عبّاس إلى مدينة مشهد ماشيًا لمدّة ثمانية وعشرين يومًا، ومكث فيها مدّة معيّنة، فقام هناك بالعديد من الأعمال، حيث شيّد الصحن الكبير، وأجرى الماء، و....؛ وفي إحدى الليالي، كان ـ على ما يبدو ـ يخدم بنفسه في مستودع الأحذية (الكيشوانيّة)، ويستلم أحذية الزوّار؛ فكان خادمًا للإمام سلام الله عليه في الكيشوانيّة؛ وفي ليلة أخرى، كان مسؤولاً عن إشعال الشموع؛ لأنّ الكهرباء والغاز و... لم تكن متوفّرة في ذلك الزمان؛ فكانوا يضعون الشموع في الشمعدانات (منارات المِسرجة)، ويُضيئون بها كلّ الحرم، حيث كانت هذه الشموع كبيرة، وتتوفّر على فتائل؛ فكان الخدّام يحملون بأيديهم مقصّات، ويقصّون بها أطراف هذه الفتائل التي احترقت وتحوّلت إلى رماد؛ وقد شاهدتُ بنفسي هذه المقصّات؛ كما لا يزال البعض منها موجودًا في متحف الإمام الرضا عليه السلام منذ الأزمنة السابقة؛ وهي مقصّات كبيرة رأسُها دائريّ على شكل عُلبة؛ نظير العُلب الدائريّة التي توضع فيها حلوى "السوهان" القمّية؛ فكان المقصّ يُفتح، ويُجمع بواسطة يديه، فيقطع طرف الفتيلة، ليسقط في تلك العلبة، ولا يقع على الأرض فيحرقها؛ إذ لو وقعت تلك القطعة من الفتيلة المشتعلة على الأرض، لأحرقتها. وفي تلك الليلة، كان الشاه عبّاس مكلّفًا بقصّ تلك الفتائل من الليل إلى الصباح، ما دامت الشموع مضاءة، حيث كان يحمل المقصّ بيديه. وكان الشيخ البهائيّ متواجدًا أيضًا بالحرم إلى جانب الشاه عبّاس؛ وحينما كان الشاه يقصّ تلك الفتائل، أنشد الشيخ البهائيّ على نحو الارتجال شعرًا رباعيًّا في وصفه، يقول فيه:
پیوســـته بُـــوَد ملائـــک علّیـــین | *** | پروانـهء شــمع روضـهء خلــد آیــین |
يقول: إنّ الملائكة تطوف كالفراشة باستمرار حول شموع هذا الفردوس الأعلى
ثمّ يقول مخاطبًا الشاه عبّاس: استخدم مقراضك بكلّ احتياط! لأنّ البيت الثاني جاء بهذا النحو:
مقــراض بــه احتیــاطْ زن ای خــادم | *** | ترســم بِبُــری شــهپر جبریــل امــین۱ |
يقول: إنّ هذا الحرم مملوّ عن آخره بالملائكة، وقد يكون جبرائيل على مقربة من هذه المصابيح؛ فانتبه، واستخدم مقراضك بهدوء، لكيلا تقطع جناحَه!
ولا يخفى أنّ هذه استعارة؛ لأنّ جناح جبرائيل الأمين ليست كأجنحة الطيور التي يُمكن قطعها بالمقصّ؛ لكنّ الشيخ البهائيّ يستعمل هنا تشبيهًا واستعارة لا يخلوان من اللطف.
إحدى فوائد زيارة الحُرم المطهّرة
وخلاصة القول: وَفِّقنا لإتيان هذه الحُرم، والاستفاضة منها؛ وإنّه لأمر عجيب حقًّا! حيث إنّ هذه الحُرم تُحيي الإنسان، وهي مثل ماء الكرّ الذي يغوص الإنسان ـ بجميع أوساخه ـ في داخله، فيصير طاهرًا، ثمّ يخرج منه؛ فهكذا هي الاستفادة من هذه الحُرم.
«ولَا تُخْلِنِي يَا رَبِّ مِنْ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الشَّرِيفَةِ والْمَوَاقِفِ الْكَرِيمَةِ».
فهو موقف كريم؛ أي أنّ هذا الموضع رفيع جدًّا؛ ولهذا، متى ما وُفّق الإنسان لزيارة هذه المشاهد، عليه أن يُقدّر كثيرًا موقفه وموضعه؛ لأنّه مهمّ جدًّا؛ فالمراد هنا من الموقف الكريم أنّ الإنسان حصل على فرصة لا تتكرّر بعد ذلك؛ لأنّه دخل إلى مكان يُعطى فيه كلّ ما يُريد، وتُغفر فيه ذنوبُه، ويُتجاوز عن زلاّته وهفواته؛ وبواسطة الولوج إلى هذه المشاهد، يُطهّر من كافّة أدرانه، ويُستجاب دعائه؛ وعلاوةً على ذلك، فإنّه يتواجد في محضر الإمام، وفي مكان تتعلّق به روح الإمام ونفسه أكثر؛ ومن هنا، يتبيّن أنّ هذا الموقف هو موقف كريم؛ ولهذا، قال الإمام: «ولَا تُخْلِنِي يَا رَبِّ مِنْ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ الشَّرِيفَةِ والْمَوَاقِفِ الْكَرِيمَةِ» (واجعلني أتواجد هناك على الدوام)!
حقيقة كلّ من التوبة والخشية
«اللهُمَّ تُب عَلَيَّ حَتَّى لا أَعصيكَ»؛ إلهي، اقبل توبتي، وتب عليّ بنحوٍ لا أرتكب معه أيّة معصية!.
فالتوبة تعني الرجوع؛ أي: أَوصِل رجوعي إليك إلى حدٍّ، بحيث لا يقتصر الأمر على تطهّري من ذنوبي السابقة، بل اجعلني لا أتمكّن ـ بسبب هذا الرجوع ـ من فعل المعصية أبدًا! لأنّ الذي يرجع [إلى الله تعالى] يصير حاله جيّدًا؛ ومتى ما صار كذلك، فلن يرتكب ـ ببركة هذا الحال ـ أيّة معصية؛ وهذه هي حقيقة التوبة٢.
«وَأَلهِمني الخَيرَ وَالعَمَلَ بِهِ».
بل ودلّني على الخير بعينه، وعرّف فكري وذهني على أفعال الخير؛ إذ من الممكن أن يكون للإنسان ميلٌ لفعل الخير، لكنّه لا يكون عالمـًا بهذا الخير؛ كأن يكون لديه الكثير من الأموال، ويُريد أن يصرفها في الخير، غير أنّه لا يعلم بوجهه؛ ويريد إنفاقها في سبيل الله تعالى، لكنّه لا يعلم بطريقه؛ فيُنفقها في موضع يكون ضرر الإنفاق فيه أكبر ألف مرّة من عدم الإنفاق؛ ولهذا، أسألك يا إلهي أن تُلهمني لكي أعرف ما هو الخير، وأُدركه؛ ثمّ تُوفّقني ـ بعد هذا الإلهام إلى الخير ـ للعمل به.
«وَخَشيتَكَ بِالليلِ وَالنهارِ مَا أَبقَيتَني يَا رَبَّ العَالَمينَ»؛ إلهي، وفّقني لخشيتك بالليل والنهار طالما أبقيتني على قيد الحياة، يا أيّها الإله الذي تخضع كلّ السماوات والأرض والعالمين ليد قدرة تربيته.
فالخشية تعني هنا: أن أقف أمام عظمتك وجلالك، ولا أغفل عنها أبدًا، لكيلا أنسى ـ لا قدّر الله ـ هذه العظمة والجلال، فأنسب إلى نفسي ـ بالملازمة ـ العظمة والجلال والقدرة.. كلاّ! بل وَفِّقني لكي أكون دائمًا في مقام العبوديّة، والاعتراف بأنّك ربّي، وأكون دائمًا في موقف الذلّ والمسكنة، والاعتراف بأنّك في عرش الجلال وأريكة العظمة.
حرمان الإنسان من حالة التوجّه أثناء العبادة
«اللّهُمَّ إِنِّي [كُلَّما] قُلتُ قَدْ تَهَيّأْتُ وَتَعَبّأْتُ، وَقُمْتُ للصَّلاةِ بَيْنَ يَدَيْكَ وَناجَيْتُكَ، أَلْقَيْتَ عَلَيَّ نُعاسًا إِذا أَنا صَلَّيْتُ، وَسَلَبْتَنِي مُناجاتَكَ إِذا أَنا ناجَيْتُ».
إلهي، لماذا صار حالي بهذا النحو، بحيث كلّما قلت في نفسي: "لقد تهيّأتُ وأوجدت في نفسي معدّات العبادة، واستعددت للصلاة، لكي أصلّي لك ركعتين، وأناجيك، وأسارّك"؛ إذا بالكسل ينتابني فجأة، ويغلبني النعاس، فيسوء حالي عندما أريد مناجاتك وأداء الصلاة، ويُسلب منّي حال التوجّه والمناجاة؟!.
لماذا يصير الأمر بهذا النحو؟! أ لا ترون أحيانًا أنّ الإنسان يُعِدّ نفسه للعبادة، ويُهيّئ مقدّماتها بشكل جيّد؛ فيذهب مثلاً إلى الحمّام لكي يُزيل الأوساخ عن بدنه، ويُنظّفه من الشعر الزائد؛ لأنّه أمر مكروه،۱ ويصبح نظيفًا، ويقوم بالغسل، ثمّ يأتي، ويرتدي لباسًا نظيفًا، ويستعمل العطر، لكي يذهب مثلاً للتعبّد بحرم السيّد عبد العظيم، أو بأحد الحُرم الشريفة،٢ أو بالمسجد، أو بمنزله، أو بمكان آخر؛ فيهيّئ كلّ تلك المقدّمات بنحو جيّد؛ لكن، حينما يُريد الانهماك في العبادة، ينتابه شعور بالكسل والتعب؛ وهذا نظير أن يُبتلى الإنسان بنزلة برد، ويُصاب بالزكام، فلا يعود البدن قادرًا على العمل، وينتابه الضعف، بحيث يُسلب منه حال التوجّه؛ أو أن يُصاب الإنسان بالتعب، فينتابه النعاس، وتفتر رغبته أثناء المناجاة؛ وهنا يقول الإمام: إلهي، لماذا تعرض عليّ هذه الأحوال أحيانًا، وما هو السبب في ذلك؟.
فهذه الأحوال تصير سببًا لنوع من الحرمان؛ وفي الحقيقة، فإنّ الإنسان يُصاب أثناء العبادة بحالة من الانقباض؛ مع أنّه كان يشعر قبلها بحالة من الانبساط، وكان قد هيّأ مقدّمات هذه العبادة على أحسن وجه؛ لكن، حينما يُريد أن يأتي، ويجلس، ليبدأ في العمل، فإنّ ذلك الحال الذي لا بدّ من التوفّر عليه من أجل بلوغ النتيجة المرجوّة يزول؛ فما هي علّة ذلك؟
«اللهُمَّ إِنِّي كُلَّمَا قُلْتُ قَدْ تَهَيَّأْتُ وتَعَبَّأْتُ وقُمْتُ لِلصَّلَاةِ بَيْنَ يَدَيْكَ ونَاجَيْتُ، أَلْقَيْتَ عَلَيَّ نُعَاسًا إِذَا أَنَا صَلَّيْتُ، وسَلَبْتَنِي مُنَاجَاتَكَ إِذَا أَنَا نَاجَيْتُ؛ مَا لِي كُلَّمَا قُلْتُ قَدْ صَلُحَتْ سَرِيرَتِي وقَرُبَ مِنْ مَجَالِسِ التَّوَّابِينَ مَجْلِسِي، عَرَضَتْ لِي بَلِيَّةٌ أَزَالَتْ قَدَمِي وحَالَتْ بَيْنِي وبَيْنَ خِدْمَتِكَ؟! سَيِّدِي، لَعَلَّكَ عَنْ بَابِكَ طَرَدْتَنِي».
إلهي، لماذا صار حالي بهذا النحو، بحيث كلّما قلت في نفسي: لقد زكّيت نفسي قليلاً، وهذّبتها، وطهّرت باطني، وعملت بجدّ لإعداد سريرتي (فصمت مثلاً، وتصدّقت، وصِلتُ رحمي)؛ وهي مقدّمات مفيدة تُمدّ الإنسان بحال جيّد لكي يتوجّه إلى الله تعالى، وينفتح في وجهه بابُ المناجاة؛ وكلّما سعيتُ للاقتراب من مجالس التوّابين ومحافل الذكر والتوبة التي يعقدها الأفراد المستجيرون بحضرتك، ويتوبون فيها إليك، بحيث يكون من شأن اقترابي هذا أن يُمدّني بحال أفضل، فإنّ الأمر يصير بالعكس، فتحلّ بي مصيبة وبليّة وحادثة تعوقني عن العمل، وتؤدّي إلى تعثّر خطواتي، وتُحدث فاصلة بيني وبين خدمتك؟!.
فهو قد جاء الآن، ويريد أن يجلس، ويناجي الله تعالى، ويذكره، ويتوسّل إليه، ويلجأ للتدبّر، فإذا بأحدهم يأتي ويقول: يا سيّدي، إنّ ابنك مريض، ونحتاج إلى خبز «السنگك»۱، ولا يوجد لدينا ثلج، كما أنّ طفلك لا يوجد لديه حليب، وقد انكسرت زجاجة، وجرحت يد هذا الطفل، وأمثال ذلك؛ أو يُطرق الباب، ويُقال له: إنّ عامل النظافة يُريد أخذ القمامة؛ فما إن ينهض ليُخرج هذه القمامة، أو يأخذ الزجاجة من يد الطفل، أو يشتري الحليب لابنه، فيتحدّث قليلاً مع هذا وذاك، حتّى يُسلب منه ذلك الحال؛ وحينما يجلس في محراب العبادة، يرى بأنّه لم يعُد يشعر بأيّ شيء، وأنّ الطُرق قد أُقفلت في وجهه! فلماذا صار الأمر بهذا النحو؟! ولماذا في الأساس "تتحيّن الفرصة" لكي تبتليني بهذا البلاء وفي هذا الوقت بالضبط؟! بالله عليك، أخّر ذلك أو قدّمه لساعة أو نصف ساعة، إلى أن نُؤدّي أعمالنا، ثمّ أرسل عامل النظافة بعد ذلك؛ فهذا أمر يُمكنك القيام به!
كان أحد رفقائي في النجف الأشرف يقول:
أمرني المرحوم القاضي بأن أقرأ كلّ ليلة ﴿قَل هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾۱ ألف مرّة؛ كما أنّه من المهمّ جدًّا قراءة ﴿إِنَّا أَنزَلنَاهُ﴾٢ في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان، وهي ليلة القدر؛ إذ يُعدّ هذا الشهر بأكمله مقدّمة لهذه الليلة، بحيث ينبغي أن يكون حال الإنسان فيها جيّدًا جدًّا؛ فكنتُ أنتظر مجيئ ليلة القدر، وقراءة ﴿إِنَّا أَنزَلنَاهُ﴾، لأحصل على بعض الصفاء، وتتنزّل إرادة الله تعالى، فأتمكّن من الاطّلاع على ملكوت السماء والأرض، وأمثال ذلك.
وفي بداية تلك الليلة، ذهبتُ إلى بيت الخلاء، فسقط خاتمي ـ الذي كُتبت عليه آيةٌ قرآنيّة أو أسماء أهل الكساء أو شيء آخر ـ داخل المرحاض؛ هذا، مع أنّه كُتب عليه اسم الله، ويجب على الإنسان إخراجه من المرحاض؛ وقد حصل ذلك في ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان! وباختصار، أتيتُ بحفّار، فحفر البالوعة، واستخرج منها الماء، حيث لم تكن البالوعات عميقة جدًّا في تلك الأيّام بالنجف، بل كان يبلغ عمقها خمسة أو ستّة أمتار؛ وخلاصة القول أنّنا بقينا [نحفر] في هذه الجهة وتلك، إلى أن حلّ أذان الصبح، فقرأت ﴿إِنَّا أَنزَلنَاهُ﴾ بهذا النحو، وأنا أرتدي لباس الحفّار!
فلأيّ شيء يُحلّ اللهُ تعالى هذه المصائب على رأس الإنسان في مثل هذه الظروف؟! فهذا عجيب جدًّا! وأمر الله تعالى عجيب جدًّا في مثل هذه الظروف! وعلمه بالوقت المناسب كبير جدًّا!
بعدما قضى أمير المؤمنين والسيّدة الزهراء عليهما السلام عدّة أيّام وهما جائعان، تمكّنا من الحصول على قبضة من القمح أو الشعير، ليسرّا بها الأطفال، ويطحناها، ويصنعا منها دقيقًا؛ لكن، ما إن أرادوا تناول لقمة من الخبز، حتّى نادى سائل من خلف الباب: يا أهلَ بيتِ رسول الله!٣.
حسنًا، لماذا لا تأتي قبل نصف ساعة، أو بعدها؟! لكنّ الله تعالى يُرسله في تلك اللحظة؛ فهو الذي يُرسله، ليرى إلى أيّ حدّ يصل إيثارهم؛ وهو الذي يبعثه، بل إنّه مصدر هذه الأفعال كلّها، ولا شيء خارج عن قدرته؛ ولهذا، يقول الإمام عليه السلام: «أَلقَيتَ»؛ أي أنّك أنت الذي ألقيت عليّ النعاس، لا أنّني [من تلقاء ذاتي] أُصبت بالنعاس، أو بنزلة برد، أو بالزكام، أو بألم الظهر، أو ...؛ فأنت الذي ألقيت عليّ هذا النعاس، وابتليتني بهذه البليّة والامتحان ـ لأنّ البليّة تعني الامتحان ـ؛ لكن، لماذا ابتليتني في هذه اللحظة؟!
خطر الاستخفاف بحقّ الله تعالى والإعراض عنه
«لَعَلَّكَ عَن بَابِكَ طَرَدتَني»؛ إلهي، أنا لا أعلم، فلعلّك طردتني وأبعدتني عن بابك.
فإذا كان الإنسان لا يرغب في رؤية أحد الأشخاص، وقال له هذا الشخص: أريد أن آتي عندك يا سيّدي، لكي ألتقي بك لمدّة ساعة واحدة، وكان هناك مانع [عن مصارحته بذلك]، فإنّ هذا الإنسان سيُكلّفه بمهمّة، ويقول له: اذهب إلى المكان الفلاني، وقم بالعمل الكذائيّ، ثمّ تعال!؛ لأنّه لا يُريد رؤيته بتاتًا! فأنا أتيتُ الآن عندك، لكي أجلس لمدّة ساعة واحدة، وأحدّثك، وأناجيك؛ لكنّك طردتني في هذه الحالة عن بابك! أ فهل إنّ الأمر بهذا النحو؟!
«وَعَن خِدمَتِكَ نَحَّيتَني» (وأبعدتني).
فالتنحّي يعني الإبعاد والطرد والدفع للخلف۱.
فهل المسألة بهذا النحو؟!
«أو لَعَلَّكَ رَأَيتَني مُستَخِفًّا بِحَقِّكَ فَأَقصَيتَني»؛ أو أنّ الأمر ليس بهذه الكيفيّة، بل لأنّك رأيتني مستخفًّا بحقّك، ومستصغرًا له، فحينئذ، طوّحت بي [بعيدًا].
فالمستخفّ يعني الذي يعدّ حقّك صغيرًا وهيّنًا؛ في حين أنّ حقّك عظيم جدًّا؛ فأنا استصغرتُ حقّك؛ وحينئذ، قُمت بإقصائي.
[يقول الله تعالى:] إن كنت تريد مناجاتي، فعليك أوّلاً احترامي، وأخذ منزلتي بعين الاعتبار، والالتفات إلى من تكون أنت، ومن أكون أنا؛ فأنا سلطان السلاطين، وملك الملوك، وخالق السماوات والأرضين، ومرسل الأنبياء والمرسلين؛ فهذا هو أنا! لكن، من تكون أنت؟! لا شيء! وبدون الالتفات إلى هذه الخصائص التي يتوفّر عليها الدعاء، ومراعاة آداب مجلس الدعاء والمناجاة والذكر٢، فإنّك ستكون قد استخففت بحقّي! «فَأَقصَيتني»؛ فهل المسألة بهذا النحو؟!
«أَو لَعلَّكَ رَأَيتَني مُعرِضًا عَنكَ، فَقَلَيتَني».
تارةً، يُحبّ الإنسانُ أحدًا بروحه وقلبه وظاهره وباطنه، فيرغب في الجلوس معه، والتحدّث إليه، وقضاء أجواء حميميّة معه، والأنس به، فيتّحد قلباهما؛ وتارةً أخرى، لا يكون الأمر بهذا النحو، بل يذهب عنده، ويُسلّم عليه ظاهريًّا، ويجلسان معًا، لكنّ قلبه لا يكون هناك، بل في مكان آخر؛ فتجدنا نراعي الآداب الظاهريّة للمجلس، إلاّ أنّ قلبنا غير ملتفت إلى هناك، بل ملتفت إلى مكان آخر، ومتوجّه إلى رغباته وآماله الخاصّة، وإلى معشوقه ومحبوبه الشخصيّ، ومهتمّ بالطواف حول كعبته المنشودة؛ هذا، مع أنّه جالس الآن عند المعشوق الحقيقيّ؛ لكنّه لا يرتضيه معشوقًا، بل إنّ دعوى العشق والمحبّة تكون هنا مجازيّة وصوريّة وحسب! إلهي، هل حلّت برأسي هذه البليّة، بحيث رأيتني وقد أعرضتُ عنك، وتنكّبتُ عن حقّك، وانصرفت بقلبي عنك، فلم يعُد هذا القلب متوجّهًا إليك، ولا محبًّا لك، ولا راغبًا في صفاتك وآثارك، بل أعرض عنك إلى غيرك؟ «فَقَلَيتَني»؛ وهل حصلت هذه المسألة عن عناد وعداوة؟ وهل فعلت ذلك بي في مقابل إعراضي عنك؟ فهل إنّ الأمر بهذا النحو؟!
«أو لَعَلَّكَ وَجَدتَني في مَقَامِ الكَاذِبينَ فَرَفضتَني».
فهل تُريد أن تقول: كلّ من يرغب أن يأتي عندي، ويناجيني، ويُؤدّي الصلاة، ويُقيم علاقة معي، عليه أن يكون من أهل الصدق، ولا يكون كاذبًا، حتّى في مقام العمل۱، أو الفكر، أو الذهن؛ بل عليه أن يأتي بكلّ صفاء، بحيث إذا وقف في مقام العبادة، وقال لي: ﴿إِيَّاكَ نَعبُدُ وإِيَّاكَ نَستَعينُ﴾،٢ وكان قلبه يقول ذلك لأحدٍ آخر؛ أو قال لي: «سُبحانَ رَبِّيَ الأعلى وبِحَمدِه»، لكنّ قلبه كان يقول: سُبحانَ رَبِّيَ الشيطانُ وبِحَمدِه؛ أو كان يقول لي: «اللهُ أَكبرُ»، غير أنّ قلبه كان يقول: اللهُ غَيرُ أَكبر؛ وأمثال ذلك، فإنّ هذا الاختلاف بين الظاهر والباطن في مقام العبادة والعلاقة الخاصّة مع الله تعالى ـ وهو في الحقيقة كذب ـ غير صحيح؟! وذلك لأنّ معنى إقامة علاقة خاصّة مع الله تعالى هو: إلهي، أنا أحبّك بباطني [ومن أعماق قلبي]، وأريد أن أتوجّه إليك؛ وحينئذ، إذا تخلّى الإنسان عن الباطن، وتوجّه إلى الله بظاهره، فلن يقبل منه تعالى هذا الظاهر؛ لأنّ الظاهر مختصّ بالمتنسّكين والزاهدين [المدّعين]، لا الزهّاد الحقيقيّين؛ ومختصّ بالذين يدّعون التزهّد والتنسّك، ويتظاهرون بالعبادة، ويُمسكون السبحة بأيديهم، ويكون لسانهم الظاهريّ منهمكًا في الذكر على الدوام٣!
كان الجُنيد يمرّ من أحد الأمكنة، فرأى شخصًا منهمكًا في الذكر، فقال له: اشتغلتَ بِالذكرِ عن المـَذكورِ٤.
إنّ الذكر [الحقيقيّ] هو الذي يكون فيه الإنسان مع المذكور، ويُساهم في استحضاره للمحبوب؛ لا أن يعكف الإنسان على هذا الذكر، ويغفل عن حقيقته؛ وهذا نظير أن يُؤتى للإنسان ببيضة، فيستخرج منها جوهرها بشكل كامل، ويضعه في صحن، ثمّ يأكل قشرها؛ فهكذا يصير الأمر!
إلهي، هل رأيتني في مقام الكاذبين؟ ووجدت أنّ ادّعاءاتي مجانبة للصواب وكاذبة! فأدّعي كذا وكذا، وأدّعي أنّه:
ستاره ای بدرخشید و شمع مجلس شد | *** | دل رمیدهء ما را انـیس و مـونس شـد٥ |
يقول: تألّق نجم الحبيب وتوهّج، فصار شمع مجلسنا وأنيس قلبي النافر الجفول ومؤنسه
أين نحن من الأنيس والمؤنس؟! فنجن نُبعد الله تعالى [عنّا]! فنجلس، ونتلو أشعارًا مليحة وجذّابة، إلاّ أنّ باطننا يسرح في مكان آخر، ويبحث عن شيء آخر؛ فنقرأ الدعاء، ونُؤدّي الصلاة، ونعكف على المناجاة، غير أنّ قلبنا متعلّق بموضع آخر؛ فهل وجدتني في مقام وموقف الكاذبين «فَرَفَضتني»؟!
دور الشكر في استمرار الفيوضات المعنويّة
«أو لَعَلَّكَ رَأَيتَني غَيرَ شَاكِرٍ لَنَعمَائِكَ فَحَرَمتَني».
لأنّك قلت:
﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾۱؛ أي أنّ ما يلزم من شكر النعمة هو زيادتها، ومن كفرانها الحرمان منها.
وهذا لا يختصّ بالله تعالى، بل يشمل كافّة المخلوقات، بحيث إذا أحسن أحدٌ إليك، فشكرته على ذلك، فإنّه سيرغب في الإحسان إليك ثانيةً؛ وأمّا إذا لم تشكره وتُثني عليه، فلن يُنعم عليك مرّة أخرى؛ أ فهل هو أحمق [حتّى يحسن إليك]؟! فتراه يُتعب نفسه، ويصنع إليك معروفًا؛ وبدلاً من أن تشكره، فإنّك تضربه على قفاه، أو تعبس في وجهه كحدّ أقلّ! ففي هذا الحالة، لن يُقدم على ذلك العمل؛ أ فهل فَقَد عقلَه [حتّى يصنع إليك ذلك المعروف]؟!
إنّ الإنسان الذي لا يكون شاكرًا مغبون، حيث قال النبيّ الأعظم:
«المغبونُ لا مَحمودٌ ولا مَأجورٌ»٢، فلا يُثني عليه أحدٌ في الدنيا، ولا يكون له أجر عند الله تعالى.
ويقول الإمام الرضا عليه السلام:
«إذا لم يشكر الإنسانُ الإحسانَ الذي يصله من عباد الله تعالى، فإنّه لم يُؤدّ شكر الله تعالى»٣.
وذلك بحجّة أنّ الذي يُنعم على الإنسان الآن هو اسم من أسماء الله تعالى؛ بمعنى أنّه إذا أحسن أحدهم إلينا، فإنّنا نقول له: اذهب إلى حال سبيلك؛ لأنّك لست الذي قمت بهذا الإحسان، بل الله تعالى هو الذي قام به!؛ غير أنّ هذا فصلٌ وتفريق [بين إحسان الله تعالى والعبد]؛ وهو أمر خاطئ، وخطير للغاية.
ولهذا، يا إلهي، لقد وجدتني غير شاكر لنعمك؛ ولذلك حرمتني؛ وإلاّ لو أدّيت شكرك، لازدادت هذه النعم؛ ولو شكرتك على تلك الحالات [المعنويّة] التي أنعمت بها عليّ، وتلك المعرفة التي وهبتني إيّاها، لما جعلتني محرومًا!
والمراد من «شكرتك»: أنّني سعيتُ إلى تقدير منزلة [تلك النعمة]، حيث إنّ شكر كلّ شيء يتناسب مع شأنه؛ فإذا أهداك أحدٌ سجّادة تركمانيّة من صوف، فإنّ شُكرَ ذلك يكون بالمحافظة عليها، وعدم السماح للعثّ بأن يتغذّى عليها، وعدم سكب الماء الساخن عليها، بل ينبغي استعمالها في الصلاة، واستحضار ذكرى الشخص الذي أحضرها؛ وإلاّ، فلن تكون قد شكرت هذا العمل، ولو ذكرت الله تعالى على سجّادتك؛ أجل، هذا في حدّ ذاته أمر جيّد، لكنّك لن تكون قد شكرته على عمله.
فحينما يلجأ الإنسان إلى محراب عبادة الله تعالى ومناجاته، فإنّه يحصل على أحوال جيّدة؛ غير أنّه مُطالبٌ بالمحافظة على هذه الأحوال التي حصل عليها في الخلوة، حيث إنّ ذلك هو شكر المحافظة على الأحوال. إنّ شكر الله على نعمته هو بصيانة هذه النعمة؛ فإن وهب اللهُ الإنسانَ ماءً، فإنّ شكره هو بالمحافظة على هذا الماء؛ وإن منحه خبزًا، فإنّ شكره هو بالمحافظة على هذا الخبز؛ وإن تفضّل عليه بالعلم، فإنّ شكره هو بصيانة هذا العلم، وعدم تعليمه للجهّال، وعدم حرمان أهل الفهم والاستعداد منه۱. وهكذا إذا منح الله العليّ الأعلى الإنسان حالاً [معنويًّا]، فإنّ شكره يتحقّق بالمحافظة على هذا الحال، بحيث يتعيّن على هذا الإنسان عدم القيام بأفعال تُزيل حاله؛ فلا يصير مثلاً مغرورًا بهذا الحال، ولا يقول: أنعم به وأكرم! بما أنّني صرت أتوفّر على هذا الحال [المعنويّ]، فإنّه بمقدوري القيام بكلّ ما يحلو لي؛ فيُقدم على هذا الفعل وذاك؛ وحيث إنّ ذلك الحال دقيق ولطيف جدًّا، فإنّه يغضب، ويرحل! فإذا نزل ضيفٌ ببيت الإنسان، وأراد أن يُؤدّي شكره، فإنّ عليه أن يقول: تفضّل على بركة الله، أهلاً وسهلاً، اجلس في صدر المجلس، وعليه أيضًا أن يمسح وجهه بماء الورد، ويوقد المِجمرة لأجله، ويُبخّره بالحرمل والعود؛ فإن قام الإنسانُ بهذه الأفعال، فإنّ الضيف سيبقى في البيت؛ وأمّا إذا لم يحترم الإنسان هذا الضيف ـ كأن يتركه واقفًا خلف الباب ـ فإنّه سيرحل؛ وحتّى إذا كان الضيف يتحلّى بقليل من الصبر، فإنّه سيأتي عند باب البيت، ثمّ يرحل من هناك؛ بل حتّى إن كان صبره أكثر قليلاً، فإنّه سيدخل إلى الغرفة؛ لكن، عندما يرى بأنّه لا أحد يهتمّ به، فإنّه سيغضب. إنّ الأحوال المعنويّة هي بمثابة ضيف أيضًا، وهي لطيفة جدًّا، ولا يحصل عليها الإنسان بكلّ سهولة، وهي ألطف من المرآة؛ فإذا نفختم في هذه المرآة، سيظلّ أثر أنفاسكم مرتسمًا فيها؛ ولهذا السبب، توضع عليها شبكة، لكيلا يتراكم عليها الغبار.
أهمّية حُسن استضافة الأحوال المعنويّة
فلا بدّ من حُسن استضافة الأحوال المعنويّة، وإلاّ، لغضبت، ورحلت؛ وهذا هو شكر المحافظة على هذه الأحوال؛ فالحال [المعنويّ] ضيف ورسول إلهيّ، وهو عبارة عن بشارة وخبر سارّ، حيث نقرأ في الأدعية عبارات من قبيل: "الرحمة النازلة"، و"خيرك إلينا نازل"، وأمثال ذلك، كما نتلو أيضًا في أشعار حافظ:
دوش وقت سحر از غصّه نجاتم دادند | *** | وندر آن ظلمت شب آب حیاتم دادند۱ |
يقول: في سَحَر الليلة الماضية خلّصوني من قبضة الغُصص، وسُقيت في ظلمة تلك الليلة ماءَ الحياة
جاء ماء الحياة، وحضرت الخمرة، وحلّت البشارة، وجاء الرسول؛ فهذه كلّها تعبيرات عن حصول ذلك الحال المعنويّ؛ وعلى الإنسان أن يُحافظ عليه، ويصونه، ويُحسن ضيافته، ويجتنب الأمور التي تُزعجه وتغضبه.
فإذا كان بقاء هذا الحال يتطلّب الإنفاق، فإنّ الإنسان مُلزم بأن يُنفق؛ وإن كان يحتاج إلى فراغ بال وتركيز، فإنّ الإنسان مطالب بالمحافظة على هذه المسألة في نفسه باستمرار؛ وإن كان يستدعي تقليل الاشتغال بالأمور الدنيويّة، فإنّه على الإنسان تقليل هذا الاشتغال؛ وإن كان يستلزم زيادة التوجّه للأمور الأخرويّة، فإنّ الإنسان مُلزم بالقيام بذلك؛ وباختصار، على الإنسان دراسة جميع أبعاد هذه المسألة، لكي يرى ما هي الأمور التي تُعجب هذا الضيف، فيجعلها في متناوله، وما هي الأمور التي لا تُعجبه، فيُبعدها عنه؛ وحينئذ، سيبقى هذا الضيف لمدّة يوم، أو يومين، أو ثلاثة أيّام، أو شهر واحد!
يُقال: لا يجب على المسافر إتمام صلاته، بل يبقى ضيفًا لمدّة ثلاثين يومًا، يُقصّر فيها الصلاة؛٢ وبعدما تنتهي هذه الأيّام الثلاثين، يقول الله تعالى: ﴿وَأَتمَمنَاهَا بِعَشرٍ﴾٣؛ فقد كانت تلك الأيّام الثلاثون بمثابة مقدّمة، فأضفنا إليها عشرة أيّام، لتصير أربعين، وتُختم هذه الأربعينيّة:
سحرگه رهروی در سرزمینی | *** | همی گفت ایــن معمّــا بــا قرینــی |
که ای صوفی شراب آنگه شود صاف | *** | که در شیشه بمانــد اربعینـــی٤ |
يقول: في وقت السحر؛ كان هنالك «سالك» في إحدى البلدان يحكي هذا اللغز لأحد أقرانه!!
ويقول: يا أيّها الصوفيّ، يُصبح الشراب صافيًا بعدما يبقى أربعين يومًا في زجاجته!!
فحينما تنقضي الأربعينيّة، يُضرب بالختم، فلا تعُد هناك أيّة إمكانيّة لزوال ذلك الأمر الذي حصل عليه الإنسان وبقي محافظًا عليه طيلة أربعين يومًا؛ ويكون عليه حينئذ السعيُ لتحصيل حال أرقى ومرحلة أخرى؛ ولهذا، يُقال عن الأحوال التي تحصل للإنسان: لا بدّ من الاستمرار عليها لمدّة أربعين يومًا؛ والسبب في ذلك أنّها تأتي كأحوال، "والحالُ يزولُ وكلُّ حال يزول"؛ لكن، إذا تمكّن هذا الإنسان من الاحتفاظ في نفسه بهذا الحال طيلة أربعين يومًا، سيصير ملكةً؛ وحينئذ، لن يزول؛ فهو يكون حالاً، إلى أن يصل الإنسان إلى المرحلة المنشودة٥.
إلهي، لعلّ العلّة في إحساسي بهذا الخمول والنعاس والكسل، وعدم شعوري بذلك الحال المعنويّ تتمثّل في أنّك لم ترني شاكرًا لأنعمك، «فَحَرَمتَني»، وأبعدتني، وقلت: أنا أتفضّل عليه بهذا الحال؛ في حين أنّه لا يُحافظ عليه؛ فلماذا أعطيه إيّاه إذن؟!
صحيح أنّ الله تعالى أرحمُ الراحمين وأكرمُ الأكرمين ومُفيضُ الوجود؛ لكنّ ذلك لا يعني أن يجعل الأمور المستورة والمخفيّة في متناول الجميع، بل كلّما كانت المسألة دقيقة أكثر، أصبح الحصول عليها أصعب، وصار الله تعالى أشدّ صرامة في إعطائها؛ فلا تظنّوا أنّ الأشياء التي يمنحها الباري عزّ وجلّ للأنبياء والأولياء والأئمّة تأتيهم بكلّ سهولة، بل يتجرّعون في سبيل ذلك الغُصص، وترتفع أصواتهم بالآهات والبكاء والمناجاة، وتصدح أفواههم بالصراخ والعويل.
چل سال رنج و غصّه کشیدیم و عاقبت | *** | تقدیر ما به دست شراب دوساله بود۱ |
يقول: عانيتُ الألم وتجرّعت الغّصص طيلة أربعين عامًا؛ وفي الأخير، كان علاجي عن طريق الشراب العتيق.٢
يقول: كنت أعمل بجدّ لمدّة أربعين عامًا، وكنت أبحث عنك طوال هذا الأعوام الأربعين! فهذه الآهات وهذا الأنين الذي يرتفع إلى عنان السماء ليس من باب المزاح؛ ولو تقرّر أن تكون هذه الأبواب [الإلهيّة] مفتوحةً مثل بقيّة الأبواب، بحيث كلّ من ادّعى شيئًا، فإنّ الله تعالى يجعله نبيًّا، ويهبه الأحوال التي يهبها للأنبياء والمرسلين، لصار الناس بأجمعهم من الأنبياء والمرسلين، ولما وُجد غيرهم في هذا العالم؛ وبالتالي، لن يوجد في الأمر أيّ لطف!
تأثير مجالسة البطّالين والابتعاد عن مجالس العلماء في الحرمان من الفيوضات المعنويّة
«أَو لَعَلَّكَ فَقَدتَني مِن مَجَالِسِ العُلَماءِ فَخَذَلتَني» (أي جعلتني ذليلاً وحقيرًا).
فعليّ أن أكون من الذين يحضرون مجالس العلماء، ويكون برفقتهم على الدوام، ويستفيد من فكرهم ونهجهم وآرائهم وسنّتهم ومنهاجهم، ويلتحق بأرواحهم، حتّى تقبلني؛ لكنّك رأيتني لا أفعل ذلك، بل أتعامل مع هذه المجالس باستخفاف؛ ولذلك، خذلتني، وهجرتني، وتخلّيت عنّي!
«أَو لَعلَّكَ رَأَيتَني في الغَافِلينَ فَمِن رَحمَتِكَ آيَستَنِي».
يخوض الإنسان في العمل والتجارة والزراعة والصناعة، ويلهث وراء هذه الأعمال بنفس تلك الأفكار والأساليب، من دون أن يأتي بأيّ ذكر عن اسم الله والرسول والإمام و...؛ لكن، حينما يجلس في المسجد، تحضر هذه الأسماء، فيأتي مرّة أخرى اسم الله، واسم الله أكبر، وهكذا... . إنّ الإله الذي يعثر عليه الإنسان في المسجد لا توجد فيه أيّة فائدة! فيجب أن يكون هذا الإله مع الإنسان على الدوام؛ سواءً كان يمشي في السوق، أو يعقد الصفقات، أو في حالة سكون أو حركة، أو في حالة نوم أو يقظة، بحيث إذا تحدّث مع أحد، فإنّه يكون حذرًا منه لأنّه مبعوث من الله تعالى، فلا ينبغي أن يحتال عليه، وإلاّ، سيكون قد سعى للاحتيال على الله تعالى! وعلى سبيل المثال، إذا أتاه مشتر مسيحيّ ليس لديه اطّلاع، فلا ينبغي عليه أن يبيعه البضاعة بأضعاف ثمنها، بحجّة أنّه مسيحيّ؛ أو أتاه إنسان محتال، فلا يجوز له أن يقول: بما أنّه رجل محتال، فلأفرغ جيوبه أكثر!، أو أمثال ذلك؛ كلاّ! لأنّ الإنسان سيكون حينئذ من الغافلين؛ وفي هذه الحالة، لن يُفسح له الطريق، بل سيُقال له: إنّك كذّاب! فحينما تأتي عندنا، تدّعي السلام والمحبّة والمودّة؛ وحينما تذهب، تنسانا؛ إنّك في الأساس من المنافقين!
وعجيب هذا النفاق؛ وهو عجيب حقًّا! فالمنافق هو الذي يُبرز المحبّة والسلام والمودّة للإنسان في الظاهر، لكنّه يسبّه ويُسيئ الكلام عنه خلف ظهره؛ وهذا سيّء جدًّا۱!
إلهي، هل وجدتني في زمرة الغافلين، «فَمِن رَحمَتِكَ آيَستَنِي»؛ وقلت: بما أنّه انخرط الآن في زمرة الغافلين، فلأدعه يذهب؟!
«أَو لَعلَّكَ رَأَيتَني آلَفَ مَجَالِسَ البَطّالينَ، فَبَيني وبَينهُم خَلَّيتَني».
البطّال هو الذي يقضي حياته وليله ونهاره في البطالة، ويعقد مع الآخرين مجالس الفكاهة والمزاح والسخريّة والضحك، حيث يوجد في كلّ صنف من الناس هذا النوع من الرفقاء؛ فيقضي الإنسان وقته بالبطالة والمزاح والضحك والفكاهة، ويرحل!
إلهي، لقد رأيتني آلفُ هؤلاء الأفراد، وآنسُ بهذه المجالس، جاعلاً مجالسَ ذكرك والخلوة بك في أوقات خاصّة، ومُخصّصًا بقيّة أوقاتي للألفة والأنس بالبطّالين؛ مع أنّك مطّلع على ذلك كلّه! فحينما آتي عندك، فإنّني أقول: أنا في خدمتك على الدوام، ودائمًا ما أحضر مجالسك، وأذكرك، وكذا، وكذا؛ أ فهل أكون في هذه الحالة آلف مجالس البطّالين؟!٢؛ لكن، هل يُمكن التفوّه بمثل هذا الكلام أمام الإله الذي يعلم السرّ والخفّيات؟! ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾؛٣ وهل بوسع الإنسان إخفاء شيء عن الله تعالى؟!
ونتيجةً لذلك «بَيني وبَينهُم خَلَّيتَني»، وقلت لي: أ فهل تُحبّ البطّالين؟! مبارك لك! وهل تُقدّس مجالسهم وتحبّها؟! أ وَأَلِفت هذه الأفكار والأوهام التي تُبدّد عمرَك، وهذه الأمور الفكاهيّة والشكليّة التي لا تُغذّي روحك ولا فكرك ولا بدنك، بل تُساهم في غفلتك وحسب؟!؛ أ فهل تركتني مع هؤلاء، وقلت: اذهب إذن عند البطّالين، فلم أعُد أُريدك أو أقبلك! فلأنّك رافقت البطّالين، فلن أقبل بك هنا بتاتًا! وبما أنّك انخرطت في زمرة الغافلين، فلن أسمح لك بالمجيء إلى هنا! وحيث إنّك افتُقدت في مجالس العلماء، فلن يُفتح لك باب الدخول إلى هنا أبدًا!٤، وأمثال ذلك؟!
«أو لَعَلَّكَ لَم تُحِبَّ أن تَسمَعَ دُعائي فَبَاعدتَني».
فهل صرتُ سيّئًا إلى هذه الدرجة، وعصيتك إلى هذا الحدّ، بحيث لم تعُد ترغب حتّى في سماع صوتي؟! وهذا نظير رجل قطع أحدُهم رأسَ طفله؛ إذ نجده يتنفّر من سماع صوت هذا القاتل وغنائه، ولو كان غناؤه أفضل غناء في العالم وصوته ألطف الأصوات؛ فما إن يطرق صوته سمع ذلك الرجل، حتى يُصاب بالاشمئزاز والتقزّز. فيا إلهي، هل ارتكبت هكذا عمل، بحيث لم تُعد ترغب بتاتًا في سماع دعائي وكلامي؟! فما إن أجلس لمناجاتك، حتّى تُبعدني، لكيلا أتحدّث معك، ولو بكلمتين!
«أو لَعَلَّكَ بِجُرمي وجَريرَتي كَافَيتَني».
فإذا كنتَ لا تسمح بحصولي على هذا الحال [المعنويّ]، فهل إنّ ذلك بسبب الجرم والجريرة اللذين ارتكبتهما؟! لقد اقترفت في النهار جرمًا وجريرة؛ وفي هذه الحالة، إن جئت عندك، هل ستُكافئني وتُعاقبني عليهما؟!
«أو لَعَلَّكَ بِقِلَّةِ حَيائي مِنكَ جَازَيتَني» فهل تُريد أن تُجازيني بسبب خرقي لستار الحياء الذي يُعدّ حجابًا للعصمة بيني وبينك، وبسبب قلّة حيائي وجرأتي أمام عظمتك؟!.
فقلت لي: لماذا صرت قليل الحياء، وخرقت حجاب العصمة، ولم تسعَ إلى مراعاة الأدب؟! فالمجلس الإلهيّ هو مجلس أدب!
اللهمّ صَلَّ على مُحَمّد وآلِ مُحَمَّد.