المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1438
هو العليم
كتاب شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - المقدمة
بقلم
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله سره
أعوذُ بالله منَ الشيطانِ الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أَعدائِهم أجمَعين
الحمد والثناء اللامتناهيان للذات الإلهيّة المقدّسة التي أخرجت ـ عن طريق ظهور الكلمات الوجوديّة ـ عالمَ الإمكان من كتم العدم إلى ساحة الوجود؛ وخَلَعت أثناء ذلك على طائفة بني آدم خلعة التخلّق بأخلاق الله تعالى والاتّصاف بالصفات الربوبيّة العليا؛ والصلاة والسلام الدائمين المتتالين على الأنبياء الكرام والرسل العظام الذين تحمّلوا أعباء الرسالة، ليقودوا النفوس المستعدّة نحو أفق الوحدة والتجرّد؛ لا سيّما حضرة النبيّ الخاتم والسادة المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين الذين خُتمت بوجودهم المبارك بعثة الأنبياء والرسل الإلهيّين، وتحقّقت بكلماتهم وسيرتهم مكارمُ الأخلاق وحقائقُ الإيمان في أعلى درجات الفعليّة والظهور.
لعلّنا نستطيع القول: لا يُمكننا العثور في وسط الأدعية المأثورة عن السادة المعصومين عليهم السلام على دعاء يصل إلى مستوى دعاء أبي حمزة الثماليّ المنقول عن الإمام السجّاد عليه السلام من حيث الجامعيّة؛ إذ يحتوي هذا الدعاء على مسائل دقيقة وعميقة في بيان شؤون العباد وأوصافهم، وشرح أحوالهم، وتسليط الضوء على كيفيّة ارتباط المخلوقات بربّها في مقام العبوديّة.
ففي هذا الدعاء، تطرّق الإمام عليه السلام ـ من دون كتمان أو غموض بل بشكل صريح وجليّ ـ للخصائص الروحيّة للعباد، وكيفيّة تصرّفهم وكلامهم وتفكيرهم، حيث تناول هذه الخصائص بالبحث والتحليل ومن أبعاد مختلفة، مبيّنًا في ضمن ذلك علل ظهورها في نفس الإنسان وذهنه. وقد خاض الإمام السجّاد في هذه المسألة ـ التي تُمثّل أهمّ مسألة في كيفيّة سير الإنسان وسلوكه نحو الله تعالى ـ بنحوٍ يخال معه الإنسانُ أنّ القارئ هو بعينه المخاطب بهذه العبارات والكلمات؛ فلم يدع عليه السلام لهذا القارئ أيّ مجال للخروج عن دائرة مصاديق تلك المفاهيم.
وفي هذا الدعاء، يُدرك الإنسان أيّ موجود يكون هو، وما هو موقفه أمام عظمة الله تعالى، وكيف يُمكنه تحقيق الارتباط بخالقه طبقًا لهذه الظروف والأحكام.
ويتحدّث الإمام عليه السلام في هذا الدعاء ـ من دون مواربة بل بشكل صريح ـ عمّا يقتضيه مقامُ البشريّة أثناء مخاطبة الله تعالى من الأخطاء، والزلاّت، والمعاصي، وغلبة الأهواء النفسانيّة والوساوس الشيطانيّة، وتسلّل الرغبات الدنيويّة، ورسوخ التعلّقات الماديّة في فكر الإنسان وذهنه ونفسه وضميره؛ محذّرًا هذا الإنسان من عواقب هذه العيوب والعصيانات وتبعاتها.
ومن ناحية أخرى، فإنّه عليه السلام يسعى في هذا الدعاء إلى أن يغرس في قلوب المؤمنين أشجارَ الشوق والأمل في الرحمة الإلهيّة والعروج إلى مقام القرب، وذلك عن طريق بيان خصائص رحمة الله ولطفه وعنايته، بنحوٍ لا يرى معه أيُّ أحدٍ نفسَه ـ أبدًا ومهما كانت ظروفه ـ محرومًا من الرحمة والكرم الإلهيّين.
ففي هذا الدعاء، يشعر الإنسان حقًّا وكأنّ الإمام عليه السلام يتحدّث بدلاً عنه، ويناجي الله تعالى ويستغيثه بجميع ما هو مكنون في ضميره؛ ولهذا السبب، فإنّ العظماء والشيعة كانوا دائمًا ما يعتبرون قراءةَ هذا الدعاء في ليالي شهر رمضان المبارك من العبادات والأعمال الضروريّة، ويُبرزون تجاهه اهتمامًا عجيبًا. ويجب الإذعان بكلّ تأكيد بأنّه من المستحيل أن يقرأ أحدٌ هذا الدعاء بتأمّل وتدبّر، ثمّ لا تحصل في نفسه الآثار المعنويّة والنوارنيّة والبهجة المترتّبة على مضامينه ومفاهيمه الراقية.
فالإنسان يشعر في هذا الدعاء كيف أنّ الصفات والخصال الرذيلة قد أبعدته عن ساحة القرب من الله والأنس به تعالى، وكيف أنّ التوجّه إلى عالم الكثرة والتوغّل في الشهوات والتكالب على حطام الدنيا قد حرمه من الاستمداد من المبدأ الفيّاض، وأغلق في وجهه طريق الوصول إليه.
وفي هذا الدعاء، يُفصّل الإمام عليه السلام الحديث عن موانع السير، وعن المنعرجات التي يصعب عبورها، والممرّات الضيّقة التي تحبس الأنفاس، وعن المصايد الشيطانيّة التي تُغري بالتعلّق بالدنيا وعالم الأوهام والتخيّلات، حيث يُبيّن هذه الأمور بطريقة دقيقة وعميقة، إلى درجة يُخال معها أنّه جرّب بنفسه كافّة هذه المسائل واحدةً، واحدةً، وأنّه يتحدّث عنها عن خبرة ومِراس؛ وبعبارة أخرى، فإنّ هذا الدعاء يُفصح ـ في جانب وجه الخلق وتعلّق الإنسان بعالم الدنيا ـ عن عوائق القُرب بأجمعها وموانع الطريق برمّتها؛ كما يستعرض في الجانب المقابل ـ المتمثّل في جانب وجه الربّ الذي يُواجه الذات الإلهيّة السرمديّة ـ صفات الخالق المنّان ونعوته في مقام الرحمانيّة والغفّارية والستّارية والعفو التجاوز.۱ وبذلك، يظلّ الإنسان واقفًا بين ركيزتي الخوف والرجاء، ويستمرّ في عروجه نحو الله تعالى وتخطّي بوادي النفس، متسلّحًا بجناحي الخشية والأمل.. الخشية على نفسه وأعماله، والأمل في الرحمة الإلهيّة اللامتناهية واللطف العميم للإله المنّان.
وتظهر في هذا الدعاء الرحمةُ الإلهيّة المطلقة واضحةً للعيان، ويتجلّى في النفوس والقلوب بنحوٍ كامل نورُ الأملِ والبهجةِ وغفّاريةُ الباري تعالى وكرمُه تجاه عباده.
وفي هذا الدعاء، يضع الإمام عليه السلام نفسه حقيقةً في موقف عبدٍ عاصٍ وجانٍ، استوجبَ سخط مولاه وغضبه بسبب تمرّده على أوامره، واعترفَ بضعفه وعجزه الكبير عن الطاعة والانقياد؛ وهي حقيقةٌ ينبغي الوقوف عندها والتأمّل فيها طويلاً؛ إذ تحكي فقرات هذا الدعاء الشريف عن سلوك الإنسان العاصي وأفعاله بنحو صريح ومكشوف، إلى درجة أنّ نسبته للإمام المعصوم قد صعُبت استساغتُها على العديد من العلماء وأهل الاختصاص، ممّا اضطّرهم للاعتقاد بأنّ الإمام عليه السلام كان أثناء قراءة هذه الفقرات في مقام تعليم الآخرين؛ كما أنّ البعض الآخر برّر ذلك بأنّ الإمام وضع نفسه في موضع بقيّة الأفراد ومقامهم؛ وكأنّه يتحدّث أثناء القراءة بلسان هؤلاء، في حين أنّه لا يضطلع بأيّ دور في طرح هذه الفقرات، ولا يوجد له أيّ ارتباط بها.۱
لكن، ما يبعث على التشكيك في هاتين الفرضيّتين أنّ لحن كلام الإمام وكيفيّة أحواله في مقام التخاطب يأبيان عن القبول بهما؛ ممّا يدفعنا للقول بأنّه عليه السلام كان يرى نفسه واقعًا وحقيقةً ووجدانًا عبدًا عاصيًا ومتمرّدًا؛ فكان يُناجي ربّه، ويعرض أمامه فقره وحاجته انطلاقًا من هذه الحقيقة؛ مثلما كان دأب وديدن بقيّة السادة المعصومين عليهم السلام، وكذلك أنبياء الله تعالى وأولياءه هو السيرُ على هذا المنهاج بعينه، حيث نجد الخواجة عبد الله الأنصاري يقول في مناجاته:
الهی چون در تو می نگرم از جمله تاج دارانم و تاج بر سر، و چون بر خود می نگرم از جمله خاکسارانم و خاک بر سر.٢
[يقول: إلهي، حينما أنظر إليك، أراني ملكًا واضعًا التاج على رأسي؛ وعندما أنظر إلى نفسي، أراني حقيرًا واضعًا التراب على رأسي].
ففي هذا الموقف والمقام، يرى الإمام عليه السلام حقيقةً نفسَه كبقيّة الناس، وينظر إليها كما ينظر الآخرون إلى أنفسهم، ويرمقها بالنظرة ذاتها التي لعامّة الناس بالنسبة لأنفسهم.
كان المرحوم العارف الكامل السيّد هاشم الحدّاد يقول مرارًا وتكرارًا:
حينما أنظر إلى نفسي، أرى أنّ الله تعالى لم يخلق على وجه الأرض مخلوقًا أسوء منّي.
وهذا هو السرّ في ترتّب هذه المعرفة؛ أي أنّ جميع النعوت و كافّة أقسام الحُسن والطهارة والجمال ترجع إلى مبدئها الأصلي ومنبعها الحقيقيّ المتمثّل في ذات الباري عزّ وجلّ؛ فلا يبقى هناك أيّ شيء لكي يحتفظ به العبد لنفسه، وينسبه إلى ذاته؛ فهو تعالى المستحقّ للحمد والثناء، وبقيّة الموجودات ـ مهما كانت وفي أيّة مرتبة كانت ـ تمدّ يد الفقر والحاجة إلى هذه الذات الأزليّة؛ وبكلّ تأكيد، كلّما ازداد قرب الإنسان من مقام التجرّد والتوحيد، صار تحقّقه بهذه الحقيقة المتمثّلة في حقيقة العبوديّة أكثر جلاءً وظهورًا، إلى أن نصل إلى مقام العصمة المطلقة المختصّ بالسادة المعصومين عليهم السلام، حيث لا يوجد هناك أيّ شيء ـ واقعًا وحقًّا ـ سوى العبوديّة المحضة، والفقر الخالص، والحاجة المطلقة، وعدم نسبة أيّ وصف أو نعت للذات، ولو بمقدار رأس إبرة.
وهذا هو معنى العبوديّة التي يتحقّق المعصوم عليه السلام بدرجتها الكُملى، ويكشف النقاب عنها، ويبيّنها لنا الإمامُ السجّاد عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثماليّ.
أجل، فهذا الدعاء هو دعاء مضامينُه عالية جدًّا، وقراءته والتدبّر فيه مكسبٌ للإنسان، ليس فقط في شهر رمضان المبارك، بل في كلّ الأوقات.
وحين إقامة المرحوم الوالد سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ (قدّس الله رمسه) في طهران، عمد في ليالي شهر رمضان المبارك من إحدى السنوات إلى تقديم ترجمة وشرح مقتضب لهذا الدعاء بين يدي الأخلاّء الروحانيّين والأصدقاء الإيمانيّين، وذلك في مسجد القائم؛ لكن، من المؤسف جدًّا أنّه لم يصلنا من هذه البيانات، إلاّ بعض الأشرطة السمعيّة التي عمل الأحبّاء والأعزّاء على تفريغها؛ وحيث إنّ تلك الترجمة كانت ناقصة، فقد كُلّف هذا الحقير بترجمة بقيّة الفقرات؛ ولهذا، فإنّ الكتاب الذي بين أيدينا عبارة عن مركّب من ترجمة حضرة الوالد وشرحه، وترجمة هذا الحقير؛ مع أنّه لا يوجد تناسب بين الاثنين؛ والعُذرُ عِندَ الكِرامِ مَقبولٌ.
ولا يخفى أنّ هذه السلسلة ليست تفسيرًا كاملاً لدعاء أبي حمزة، بل هي تفسيرٌ لبعض فقراته، كنت قد سجّلته بنفسي من محاضراته؛ في حين أنّ بقيّة الفقرات، إمّا أنّها لم تُسجّل أبدًا، أو أنّني لم أطّلع على مصيرها كحدّ أقلّ.
وفي جميع الأحوال، وبمقتضى (ما لا يُدركُ كلُّه لا يُتركُ كلُّه)، فقد رأيت بأنّ نفس هذا المقدار الموجود بين أيدينا هو مكسب، فسعيت إلى نشره؛ ولذلك، عمل الأحبّاء والأعزّاء من الفضلاء والأصدقاء على تفريغ هذه الكلمات من الشريط السمعيّ، وتنقيحها، وتحريرها بهذا الشكل الموجود بين أيدينا، ليضعوها في متناول أهل المعنى والمعرفة بأفضل وجه، وأحسن أسلوب. شكّرَ اللهُ مَساعيهم الجميلة.
ومن الجدير بالذكر أنّه، انطلاقًا من إدراكي للأهمّية القصوى والقيمة الكبرى اللتين يتحلّى بهما هذا الأثر الفريد المنقول عن السادة المعصومين عليهم السلام، وبالنظر إلى اطّلاعي على اهتمام أولياء الله تعالى وعنايتهم الخاصّة بقراءة هذا الدعاء الشريف سمعًا وبصرًا، فقد حالفني التوفيق الإلهيّ في ليالي شهر رمضان المبارك ـ وبحضور الرفقاء والأصدقاء ذوي العزّة والاحترام ـ لمباحثة مضامينه ومذاكرتها، واستنزال قطرات من بحر المعرفة اللامتناهي ذاك على قلوبنا وضمائرنا؛ وذلك منذ زمان هجرتي إلى قمّ وتشرّفي بتقبيل العتبة المقدّسة لكريمة أهل البيت.. السيّدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها؛ أي بعد مرور ثلاث سنوات على ارتحال المرحوم الوالد رضوان الله عليه، إلى وقتنا هذا، حيث تبلغ هذه الفترة ما يُناهز الخمسة وعشرين سنة.
نرجو من الله المنّان أن يُوفّقنا لفهم هذه الحقائق الربوبيّة وإدراكها، وللاهتمام بالعمل وبالوصول لتلك الدرجات العالية من مقام القُرب الربوبيّ.
«اللهمَّ ألْحِقْنَا بِعِبَادِكَ الَّذِينَ هُمْ بِالبِدَارِ إلَيْكَ يُسَارِعُونَ، وَبَابَكَ على الدَّوَامِ يَطْرُقُونَ، وَإيَّاكَ في اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَعْبُدُون...»!
هــزار دشــمنم ار می کننــد قصــد هــلاک | *** | گـرم تـو دوسـتی از دشـمنان نـدارم بـاک |
مــرا امیــد وصــل تــو زنــده مــی دارد | *** | و گرنه هر دمم از هجر توست بـیم هـلاک |
[يقول: لو قصد ألفُ عدوّ هلاكي، لما باليتُ بهم ما دُمتَ حبيبي
يُحييني الأمل في وصالك، وإلّا لخفتُ في كلّ آن الهلاكَ من هجرانك]
نرجو من العليّ الأعلى أن يُوفّق شيعة مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السلام ومحبّيه بأجمعهم للتحقّق بحقائق هذا الدعاء الشريف، وللسلوك في طريق ومدرسة سيّد الساجدين عليه وعلى آبائه وأبنائه المعصومين سلام الله أجمعين.
قمّ، العتبة المقدّسة لكريمة أهل البيت فاطمة المعصومة سلام الله عليها
غروب اليوم الثلاثين من شهر رمضان المبارك ۱٤٣۸
وأنا الراجي عفو ربَّه
السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ