المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء أبي حمزة
التاريخ 1398/09/12
التوضيح
ما هي حقيقة الذكر؟ لماذا يجب الرفق في العبادة؟ هل الأفضل الانشغال بذكر الله تعالى، أم بذكر غيره؟ ما هي الآثار المعنويّة للحجّ؟ ما هو السرّ في لزوم الصلاة على محمّد وآله الطاهرين؟ لماذا يجب الدعاء للوالدين وللمؤمنين والمؤمنات؟ ما هو معنى حُسن الخاتمة؟ وما هي الوقاية التي يجب على الإنسان طلبها من الله تعالى؟ هي تساؤلات في ضمن تساؤلات أخرى سعى سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لشرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ الشريف.
هو العليم
دور الدعاء في علاقة الإنسان بربّه وبوالديه وبالمؤمنين
شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة العاشرة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذُ باللهِ مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیمِ
بِسمِ اللهِ الرَّحمٰنِ الرَّحیمِ
وصَلَّی اللَهُ عَلَی خير خلقه مُحَمَّدٍ وءَالِهِ الطّاهِرینَ
ولَعنَةُ اللَهِ عَلَی أَعدَائِهِم أَجمَعینَ
حقيقة الذكر
«اللهُمَّ اشغَلنَا بِذِکرِك، وَأَعِذنَا مِن سَخَطِك، وَأَجِرنَا مِن عَذَابِك، وَارزُقنَا مِن مَوَاهِبِك، وَأَنعِم عَلَینَا مِن فَضلِك».
«اَللهُمَّ اشغَلنَا بِذِکرِك»؛ ليس المراد بالذكر إجراءُ الذكر على اللسان؛ لأنّ الأذكار التي يُجريها الإنسان على لسانه تُسمّى وِردًا؛ بل الذكر يتعلّق بالقلب، ويكون الهدف منه التوجّه نحو المعنى المذكور. يُقال: ذکرت الشيء الفلاني؛ أي: أنّه في بالي وخاطري؛ وفي هذه الحالة، إذا سمّى الإنسان هذه الأذكار أذكارًا، فإنَّما يكون ذلك لكونها تُذكِّر بما في قلب الإنسان، وتُبرزه؛ ولهذا، تُسمّى ذكرًا۱.
وعلی کلّ تقدیر، فإنَّ ما ينفع الإنسان في الواقع هو ذكر الله؛ ولأنّ هذه الأذكار اللفظيّة تُساهم في ذكره تعالى، فإنّها تحظى بالقيمة؛ فكلّ ذكر يعمل على تذكير الإنسان بالله تكون له قيمة، وكلّ ذكر لا يُذكّر به تعالى لا يتمتّع بأيّة قيمة؛ ومن هنا، فإنّ اشتغال الإنسان بذكر بسيط يذكّره بالله أفضل له من ذكرٍ طويلٍ يكون فيه غافلاً عنه تعالى.
عندما كان الإمام جعفر الصادق عليه السلام صغيرًا، كان متعلّقًا بالذكر والعبادة كثيرًا؛ وذات يوم، وجده الإمام الباقر عليه السلام في المسجد الحرام جالسًا على الأرض الحارّة، وهو منهمك في العبادة، فقال له:
«یا بُنَيّ! إذَا رَضِي اللَهُ تَعَالَی عِنَ العَبدِ، رَضِي مِنهُ بِالقَلِيل»٢.
ولهذا، جاء في الروايات:
«قَلِیلٌ یدُوم خَیرٌ مِن کثِیرٍ لَا یدُوم»٣؛ أي أنّ ذلك العمل القليل الذي يُؤدّيه الإنسان، ويستمرّ عليه أفضل من تلك العبادة الكثيرة التي لا تستمرّ.
أهمّية الرفق في العبادة
فهذا العمل القليل حيٌّ، وهو أفضل من العمل الكثير الذي ليس له دوام؛ وذلك بأن يصلّي الإنسان ألف ركعةٍ في إحدى الليالي، ثم لا يصلّي في الليلة التالية، ولو ركعة واحدة؛ أو أن يُحيي ليله في العبادة، لكنّه ينام عن صلاة الصبح، ويؤدّيها قضاءً.
فالبعض ينشغل بالذكر والدعاء في أوّل الليل، ثمّ يتعب، فينام آخره؛ وبذلك يمضي عليه وقت صلاة الليل وصلاة الصبح وفترة ما بين الطلوعين وهو نائم، بل وتشرق عليه الشمس أحيانًا وهو نائم! ويقول العرب في مثل هذه الحالة: «هذا يعبدُ عبادةَ العَگروگِ»، حيث تُطلق كلمة «عگروگ» في لسان القرويّين العرب ـ والذين يُسمّون بالمعدان٤ ـ على الضفدع؛ فيُقال: إنَّ عبادته تلك تشبه تصرّف الضفدعة التي تُمضي ليلها حتّى السحر، وهي تنقنق في الحدائق والمستنقعات؛ حتّى إذا حلّ السحر، سكتت؛ فلا يُسمع لها حينئذ أيّ صوت، وكذلك في فترة ما بين الطلوعين، وقرب أذان الصبح.
وهذا عكس ما يفعله المؤمن؛ ففيّ أول الليل، تكون النفوس مستيقظة، والجوّ ثقيل، والعبادة في هذا الوقت تتطلّب مؤونة زائدة؛ ولهذا، يُقال: عليكَ بالنوم أوّل الليل، والاستيقاظ آخره، حيث تكون النفوس قد خلدت بأجمعها إلى النوم، ولم تعد هناك ضوضاء ولا ازدحام في العالم، وأصبح الجوّ منشرحًا؛ ففي هذا الحين، عليك الاشتغال بالعبادة؛ ولهذا، ترى المؤمنين ينامون باكرًا، ويستيقظون باكرًا، لكي يشتغلوا بأعمالهم، وبالأذكار التي يذكرون الله تعالى بها؛ على أنَّ هذه الأذكار يجب أن تكون بالمقدار الذي لا يُتعب النفس، ولا يُصيبها بالملل۱.
جاء في العديد من الروايات صحيحة السند التأكيدُ على ضرورة مراعاة الرِفق في العبادة٢؛ أي المداراة في العبادة؛ فبالمستوى الذي يتحمّله ذهنك ونفسك، وبمقدار شوقك وعشقك، مارس العبادة، حتّى إذا أصابك التعب، توقّف؛ فإن صلّيت ركعتين من صلاة الليل، ورأيت بأنّك تشعر بالدوار، فنم حتّى يرتفع عنك هذا الدوار، ثمّ واصل صلاتك؛ إذ لم يُؤخذ تعهّد على الإنسان بأن يأتي بالمقدار الفلانيّ من الصلوات المستحبّة؛ بل جُعلت هذه الصلوات مستحبّة، لكي تأتي النفوس منها بذلك المقدار المتناسب مع قابليّتها وتحمّلها؛ وهنا، نجد نفسًا تمتلك حالاً يُمكّنها من صلاة مائة ركعة في إحدى الليالي؛ بينما قد لا تتمكّن أحيانًا أخرى من صلاة حتّى ركعتين من تلك المائة ركعة، ولا تكون لها رغبة في ذلك؛ ففي هذه الحالة، عليها ألاّ تُصلّيها؛ فهذا هو معنى المستحبّ إذًا؛ أي: أدّ العبادة بمقدار ما تمتلكه من شوق.
جاء في إحدى الروايات أنَّ مَثَل من يُكثر من العبادة، مثل راكب الحصان الذي لم يتمكّن من قطع الطريق، ولم يُبق في الوقت ذاته ظهرًا لهذا الحصان٣.
فإن ركب الإنسان الحصان، وتحرّك بمداراة، فسوف يصل إلى مقصده من دون أن يُتعب هذا الحيوان، ولو وصل متأخّرًا بساعة أو يوم؛ وأمّا إذا تحرّك بشدّة، فلن يصل إلى مقصده، وفي الوقت ذاته، سيهلك الحصان وسط الطريق، ولن يبقى له أيّ ظهر.
وهكذا هو حال الإنسان إذا أفرط في العبادة؛ لا سيّما إذا كانت شاقّة، حيث تُصاب نفسُه بالتعب، فيتخلّى عن العبادة دفعة واحدة؛ ولهذا، يُقال: «إنّ الحمّى الشديدة تنخفض بسرعة»؛ فأولئك الذين يتحمّسون كثيرًا، فينهمكون في العبادة، يتعبون بسرعة، ويتخلّون عنها في النهاية. أمّا إذا تعامل الإنسان مع نفسه برفق، وناولها بشكل تدريجيّ ما تشتهيه وما يُناسبها من أذكار وتوجّه و...، فسوف تبقى هذه النفس تعيش دائمًا حالة من العشق والشوق، ولن تتعب، ولن تكفّ، ولن تطرح الحمل أرضًا.
دوام انشغال النفس إمّا بذكر الله تعالى أو بذكر غيره
فلا بدّ أن يظلّ الإنسان مشغولاً على الدوام بأمر ما، ولا بدّ أن تشتغل نفسه باستمرار؛ وكما أنَّ جسد الإنسان الحيّ يعمل بشكل مستمرّ، ولا يتوقّف عن الحركة للحظة واحدة، فكذلك هي النفس. فبدن الإنسان الحيّ يكون دائم الحركة، وقلبه ينبض باستمرار؛ سواء كان نائمًا أو مستيقظًا، وسواءً تكلّم أو سكت، وسواءً وقف أو تحرّك، وسواءً كان في حال الأكل أو في حال العبادة؛ فتجد أنّ قلبه ينبض، وكليته تعمل، والدم في حالة جريان دائم، والغذاء يصل إلى خلايا العين والأذن، وجميع خلاياه تُؤدِّي وظائفها المطلوبة منها ضمن حركتها الجوهرية؛ شاء الإنسان أم أبى، حيث تُعدّ هذه الأمور من متطلّبات الحياة.
وكذا تكون النفس؛ إذ ما دام الإنسان حيًّا، تكون نفسه في مواجهة شيء ما باستمرار، فتعمل هذه النفس على التقاط صورة لذلك الشيء في الذهن؛ سواء كان ذلك في النوم أو اليقظة، وفي حال السكون أو الحركة، صغيرًا كان ذلك الشيء أم كبيرًا، فلا فرق في ذلك بتاتًا. فنفس الإنسان الحيّ تكون مشغولة بشكل مستمرّ؛ وكذلك الحال بالنسبة للميّت، فنفسه مشغولة أيضًا؛ ولكن ليس نحو الحياة؛ فذلك الوقت هو وقت الفعليّة، وهذا الوقت هو وقت القابليّة.
فهذه النفس مشغولة، وهي في بحث دائم عن شيء ما؛ ودائمًا ما ترتسم في ذهن الإنسان صورة من الصور أو خاطرة من الخواطر، بحيث لا يستطيع هذا الإنسان إفراغ ذهنه من الخواطر، إلاّ إذا تخطّى عالم الصورة، وارتقى إلى العوالم الأعلى منها؛ ففي ذلك الحين، ستتوجّه النفس إلى عالم بسيط خالٍ من الصورة، وأعلى من هذه الصورة. وهذا لا يعني أنَّ النفس ستفقد التوجّه؛ إذ لا يمكن لها أن تفقد هذه المسألة؛ لأنّها لازمة للحياة.
فبناءً عليه، لا بدّ أن ينشغل ذهن الإنسان ونفسه بأمر ما على الدوام؛ وحينئذ، ما هو أفضل شيء يُمكن الانشغال به؟ أ هو ذكر الله، أم ذكر الشيطان؟ أ هو ذكر الله، أم ذكر النفس الأمّارة؟ أ هو ذكر الله، أم ذكر الناس؟ أ هو ذكر الله، أم ذكر المال الفاني؟ أم ذكر الشهوات؟ أم ذكر التخيّلات والأوهام؟ أم ذكر تلك الأمور التي تجلب الاستكبار والذاتيّة للإنسان؟ وخلاصة الأمر، أيّهما أفضل: ذكر البقاء، أم ذكر الأمور الفانية؟
من المسلّم أنَّ [ذكر البقاء] هو الأفضل؛ لأنّه يسوق المرء نحو الحياة الأبديّة؛ في حين أنّ التوجّه لهذه الأمور الفانية يجذب ذهن الإنسان نحوها؛ وهنا، يقول الإمام:
«اللهُمَّ اشغَلنَا بِذِکرِك»؛ فنكون ذاكرين لك باستمرار.
وكم هو جميل أن يكون الإنسان مشغولاً بذكر الله؛ فيذكره تعالى باستمرار، من دون أن يغفل عنه أبدًا!۱
كان أحد أصدقائي في النجف الأشرف يقول:
حضرتُ درس المرحوم القاضي رحمة الله علیه لمدّة ثلاثة عشر عامًا، وكنت أمضي لديه ساعة أو ساعتين في اليوم، ولربّما أكثر من ذلك أو أقلّ؛ ولم أسمع منه طيلة هذه الأعوام الثلاثة عشر أيّ حديثٍ دنيويّ، وذلك بأنَّ يذكر في يوم من الأيام ولو جملة واحدة تتعلّق بالأمور الدنيوية؛ وذلك طيلة ثلاثة عشر عامًا!
وقال لي أخٍ ثانٍ من الأخوة:
ذات يوم، وصلتني حوالة من مدينة شيراز لكي أُسلّمها إلى المرحوم القاضي، ولم أكن أتردّد عليه من قبل؛ فذهبت إليه في أحد الأيّام، وسلّمته الحوالة في فترة ما بين صلاتي المغرب والعشاء؛ ثم خطر ببالي طوال الوقت أن أسأله سؤالاً، فقلت له: أستميحك عذرًا يا سيّدي، أريد أن أسألكم سؤالاً؛ فقال: تفضّل يا بنيّ، قل لي يا عزيزي ماذا تريد أن تسأل؟ فقلت: أريد أن أقول إنّكم تتحدّثون عن وحدة الله، وأنّ الإنسان يستطيع بلوغ مقام الوصول، ومقام لقاء الله، ويفنى في ذاته تعالى، فهل هذا الأمر حقيقيّ، أم هي مجرد تخيلات؟
قال: فنظر إليّ المرحوم القاضي بحدّة، ومسح لحيته بيده، ثمّ قال: يا عزيزي، أنا في هذا الوادي طوال أربعين عامًا، أ فيكون هذا خيالاً؟! خيالاً؟!
فهذا معنى الاشتغال بذکر الله! فمعنى: «اللهُمَّ اشغَلنَا بِذِکرِك» هو: اجعل ذهني مشغولاً بك على الدوام، بحيث لا يبقى أيّ حجابٍ سواك في ذهني؛ أبدًا، أبدًا؛ فيظلّ ذهني صافيًا وطاهرًا.
«وَأَعِذنَا مِن سَخَطِك».
فلا تغضب علينا؛ وليغضب علينا جميع الناس، بل وكلّ ما سواك، فهذا ليس بالأمر المهمّ؛ لكن، لا تغضب علينا أنت؛ لأنّ غضبك شديد جدًّا، إلى درجة أنّه يُقطّع الإنسان إربًا إربًا.
«وَأَجِرنَا مِن عَذَابِك».
إذا عذّبت، فاجعلنا في كنفك، وخذنا إليك، ولا تجعل عذابك يصل إلينا؛ فنحن مخلوقات لا طاقة لها على تحمّل غضبك وعذابك؛ ولهذا، فقد اعتادت ـ يا عزيز ـ أذهانُنا على مواهبك ونِعمك ورحمتك الرحيميّة وجمالك؛ وحتّى إن كنت تريد أحيانًا أن تعاقبنا وتفرك آذاننا، فإنّك إله، ولك حقّ العقاب؛ لكن، لا تعاقبنا بذلك العقاب الذي يُبعدنا عنك، بل بالعقاب الذي يُقرّبنا إليك أكثر؛ إذ لا ضير في هكذا عقاب! فنحن نخاف من بُعدك؛ وحينئذ، لك أن تقرّبنا منك بأيّ نحو شئت؛ سواء كان ذلك بواسطة رحمتك الرحيميّة، أو الرحمانيّة، أو جمالك، أو جلالك؛ فالاختيار يرجع إليك أنت.
نَهَمُ السالك إلى الله تعالى وعدم شبعه من مواهبه اللامتناهية
«وَارزُقنَا مِن مَوَاهِبِك».
فامنحنا وارزقنا من مواهبك غير المتناهية التي تُفاض باستمرار من خزانة جودك على كافّة الموجودات والكائنات.
فنحن بشر لدينا رغبة شديدة تختلف عن رغبة بقيّة الناس؛ لأنّ رغبتهم محدودة، وهم يشبعون بلقمة خبز واحدة، أو بشيء من مرق اللحم، أو بطبق واحد من الأرز بالكباب، ويقنعون بنوع من الحياة، ويفرحون بمنصب وسلطة؛ فهذا هو الرزق الذي يطلبونه! أمّا نحن، فإنّنا نمتلك فمًا لا يوجد له حدّ؟! فحجم فمنا هو بسعة الأفلاك؛ ولو وضعت جميع الأفلاك والشمس والقمر والمنظومة الشمسيّة والمجرّة في هذا الفم، لبقي فيه متّسع للمزيد، ولما احتلّت هذه الأمور بأجمعها زاوية واحدة من زواياه! فهكذا هو مقدار رغبتنا! ألم يقل ذلك الإمام السجّاد عليه السلام؟! على أنَّنا لم نأت بهذه الرغبة من تلقاء أنفسنا؛ بل نذهب، ونقرأ دعاء أبي حمزة الثمالي، فيُلقي الإمام هذه الكلمات على ألسنتنا، ويقول: اطلبوا بهذا النحو، وبذلك النحو؛ نظير ما تفعله الأمّ حينما تُلقّن ابنها وتُعلّمه [الكلام]، حيث يقول عليه السلام:
«إنَّ لَنَا فِیك أمَلاً طَوِیلاً»۱.
فإذا كان الإمام السجّاد يتحدّث بهذا النحو، فما الذي علينا أن نقوله نحن؟! فهو يعلّمنا إذن [ما نقول]!
«وَارزُقنَا مِن مَوَاهِبِك» (ومن أرزاقك الوفيرة).
فمهما أعطيتنا من هذه الأمور، فإنّنا لا نشبع؛ هذا، مع أنّك إله رزّاق: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتينُ}٢؛فوظيفة الرزّاق هي إيصال الرزق إلى المرزوق؛ ولهذا، يجب أن يكون رزقنا بالشكل الذي يُشبعنا؛ وحاشا لكرمك أن تدعونا إلى مائدتك، ولا تأتينا بالمقدار الكافي من الطعام؛ لأنّ هذا الأمر غير مستحسن؛ فإن رضيت بأن يُقال: «إنَّ هذا الإله لا يُشبع مرزوقه، ويجعله ينهض عن المائدة وهو لا يزال جائعًا»، وخصوصًا إن حصل ذلك في مائدة إفطار شهر رمضان، فافعل! وإلاّ، إن كنت إلهًا رزّاقًا من شأنك الإشباع، فعليك إشباعنا إذن! إنَّ لَنَا فِیك أمَلاً طَوِیلاً؛ فنحن بهذا النحو.
«وَارزُقنَا مِن مَوَاهِبِك، وَأَنعِم عَلَینَا مِن فَضلِك».
فأعطنا بالمقدار الذي يجعلنا لا نعرف فيه رأسنا من رجلينا، ولا نعرف فيه أيّ شيء! وحينئذ، ما الذي سنقتصر على معرفته؟ الرغبةُ في ذكرك!
الآثار المعنويّة العظيمة للحجّ
«وَارزُقنَا حَجَّ بَیتِك وَزِیارَةَ قَبرِ نَبِیّك صَلَوَاتُك وَرَحمَتُك وَمَغفِرَتُك وَرِضوَانُك عَلَیهِ وَعَلَی أَهلِ بَیتِهِ، إِنَّك قَرِیبٌ مُجِیبٌ».
فاجعل رزقنا أن نأتي بيتك، ونزوره، ونؤدّي الحجّ، ونزور قبر نبيّك، صلواتك ورحمتك ومغفرتك ورضوانك عليه وعلى أهل بيته.
فأنت قريب جدًّا، وتستجيب لنا، وتسمع كلامنا؛ فاستجب دعاءنا بأداء الحجّ!
يُستحبّ أن يطلب الإنسان دائمًا من الله العليّ الأعلى أن يرزقه الذهاب إلى الحجّ۱؛ لأنّه من العبادات الراقية جدًّا؛ بل ويُستحبّ الحجّ في كلّ عام استحبابًا مؤكّدًا٢؛ لأنّه عمل يُساهم في تغيير الإنسان حقيقةً؛ أجل، الذي لم يحجّ بعدُ لا يستطيع إدراك هذه الحقيقة؛ وأمّا من حجّ، فإنّه يعرف أنّ هذه العبادة تُغيّر الإنسان تمامًا!٣
كانت إحدى أخواتي شديدة التقدّس، وتسلك منهجًا خاصًّا و...؛ وعندما عزمتُ على الذهاب إلى الحجّ قبل عدّة سنوات، ذهبت إليها، وقلت لها: «تعالي معنا أنت أيضًا هذه السنة إلى مكّة»؛ فقالت: «كلاّ! إنّ هذا الحجّ الذي يذهب الناس إليه ليس حجًّا، بل هو مجرّد تجارة وسياحة؛ وأمّا أنا، فأريد أداء الحجّ وفقًا لما يرتضيه الله»، وأمثال هذا الكلام؛ فقلت لها: «حسنًا، تعالي لنذهب كما تريدين»، قالت: «أنا لا أستطيع الذهاب في هذه الظروف، حيث أصبح من المعتاد أن يصطحب الرجال نساءهم معهم إلى مكّة»؛ وخلاصة القول أنّها ظلّت متشبّثة برأيها، ولم تكن مستعدّة بتاتًا للذهاب؛ ومرّة أخرى، سعيت كثيرًا للحديث معها بهدوء ولين، وحاولت أن آتها من هذه الجهة، ومن تلك؛ تمامًا كالصياد الذي يرغب في صيد السمك، حيث يُقال في هذا الصدد: «إنَّ مِنَ البَیانِ لَسِحرًا»٤؛ إلى أن لانت قليلاً، ثمّ بدأنا بتحضير مقدّمات السفر، حيث طُلبت منّا صورة شخصية، فقالت: «أ فهل يُمكن لي السماح بأن تُلتقط لي صورة؟! لا ينبغي أن يقترن الذهاب إلى مكّة بالتقاط الصورة!»؛ فقلت لها: «لا يُطلب منكِ صورة بهذا النحو، بل سترتدين عباءة، وتسحبيها على وجهك، وتذهبين عند مصوّرة أنثى؛ فتلتقط لك صورة؛ لأنّ هذه الصورة تُطلب منكِ بعنوان مستند فقط، لكي يُلصقوها هناك؛ وليس الأمر كما تظنّنين، فهذا ممّا لا بأس به».
وخلاصة القول، فقد استعملنا ألف وسيلة لكي نلتقط لها مثل هذه الصورة، فحصلت على جواز سفرها، وذهبنا سويّة؛ فذهبت إلى هناك، وأدّت الطواف والسعي، وشاهدت ذلك المشهد، وارتفع صوتها بالنحيب والتلبية؛ ويا للعجب، يا للعجب! فحينما كانت تأتي إلى المسجد الحرام، لم تكن ترغب بمغادرته أبدًا، أبدًا!
وبعد عودتنا، عندما بقي شهرٌ أو شهران من حلول موسم الحجّ، جنّ جنونها، وازدادت رغبتها [في الحجّ]، فقلت لها: «ما الذي حصل يا عزيزتي؟ فقد كنت تقولين: هذا ليس بحجّ، بل هو سياحة وتجارة وترويح عن النفس و...!»، فقالت: «لا يا سيّدي، ليس الأمر كما تقول، بل توجد هنا حسابات أخرى»؛ نسأل الله أن يهيّئ لنا الفرصة للذهاب مجدّدًا.
وخلاصة الأمر، فإنّ الحجّ هو بهذا النحو؛ ولهذا، فقد حجّ الإمام الحسن المجتبى ماشيًا خمسًا وعشرين مرّة۱؛ ويبدو أنَّ الإمام زين العابدين قد حجّ مع ناقته بنفس هذا المقدار، أو أقلّ يسيرًا٢؛ وباختصار، فقد كانوا يحجّون كلّ عام؛ ويُركّزون أكثر على الحجّ؛ لأنّه يختلف عن العمرة، وثوابه أكثر من ثوابها؛ غير أنّ العمرة التي تقترب من الحجّ [من حيث الثواب] هي العمرة التي يُؤدّيها الإنسان في شهر رجب.
السرّ في لزوم الصلاة على محمّد وآله الطاهرين
ووفّقنا لزيارة قبر نبيّك صلوات الله ورحمته ومغفرته ورضوانه عليه وعلى أهل بيته؛ فهم الذين جاؤوا، وفتحوا لنا هذا الطريق وبيّنوه، ولقّنوا الإنسان تلك المعاني، وبذلوا جهودًا كبيرة من أجل تحريك قلب هذا الإنسان المادّي والشهوانيّ المنغمر في المادّيات، والمتعلّق بالآمال والأماني، والتحليق به نحو ذلك العالم؛ فجعلوا الناس أصحاب عشق وتعلّق بالأبديّة، وفتحوا أمامهم الطريق إلى الله؛ فكلّ ذلك إنّما تحقّق بفضل بركات النبيّ وأهل بيته٣؛ بل حتّی النِعم التي كانت تنزل على الأنبیاء السابقین وأممهم، إنَّما كانت تنزل عليهم بواسطة رحمة النبيّ وأهل بيته؛ ولهذا، يكون لهم حقّ على جميع ما سوى الله؛ فضاعف يا ربِّ من رحمتك ومغفرتك ورضوانك عليهم، وسَيِّرهم على الدوام في صفاتك الجماليّة وذاتك اللا متناهية، وزِد في سعتهم ودرجاتهم، يومًا بعد آخر.
«وَارزُقنَا عَمَلاً بِطَاعَتِك، وتَوَفَّنَا عَلَی مِلَّتِك وَسُنَّةِ نَبِیك صَلَّی اللَهُ عَلَیهِ وَآلِهِ»؛ إلهي، وفّقنا، وارزقنا العمل بطاعتك وبما يوجب رضاك؛ ولا تجعلنا نغفل عنك، فنعمل بطاعة سواك ونُسعد قلب غيرك؛ وتوفَّنا على مِلّتك.
فلكلّ واحد ملّة خاصّة، ولكلّ أناس وقوم وعشيرة وطائفة وأمّة سنّة معيّنة، حيث نجد أنّ السنن والبدع الجاهليّة قد سيطرت على العقول، وجعلت كافّة الناس متحجّرين ومتقولبين في مجموعة من الأوهام؛ فيا إلهنا، توفَّنا على سنّتك وملّتك؛ فأنت يا إلهي أيضًا لك ملّة؛ وهي: "لا إله إلا الله"؛ أي أنّه لا يوجد في عالم الوجود غيرك۱؛ فهذه هي ملّة الله؛ وهي القرآن الكريم وأحكامه التي تدور بأجمعها حول محور التوحيد؛ فتوفّنا على هذه الملّة، وجنّبنا متابعة جميع الملل والسنن الجاهليّة، وكلّ ملّة غير ملّتك من تلك الملل والسنن الجاهليّة التي لا تفصل بين الكفر والإسلام.
«وَ(توفّنا على) سُنَّةِ نَبِیّك صلّى اللهُ عَلَيهِ وآلِهِ».
فالسنّة هي العمل الذي كان يأتي به رسول الله، غير أنّه لم يكن يُؤدّيه كعمل شخصيّ، بل باعتباره عملاً أساسيًّا فُرض على جميع الأمّة، بحيث كان النبيّ يعمل به بنفسه، بصفته أنموذجًا وبرنامجًا، حتّى يتسنّى للناس أداء هذه العمل على يديه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فهذا الذي يُقال عنه: سنّة؛ فتوفّنا على سنّة رسولك صلّى الله عليه وآله وسلّم.
أهمّية الدعاء للوالدين وبيان كيفيّة الصلاة لهما
«اللهُمَّ اغفِر لِی وَلِوَالِدَيّ وَارحَمهُمَا کمَا ربَّیانِي صَغِیرًا، اِجزِهِمَا بِالإحسَانِ إِحسَانًا وَبِالسَّیئَاتِ غُفرَانًا».
وهذا دعاء للوالدين، حيث يستحبّ أن يدعو الإنسان لوالديه باستمرار، فهما ينتظرون منّا ذلك٢.
ولقد دعا الإمام السجّاد للنبي وأهل بيته أوّلاً، ثم لوالديه؛ لأنَّهما أيضًا بمثابة المقدّمة لوجود الإنسان؛ فما لم تصل الرحمة إليه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنّها لن تصل إلى هذا الإنسان؛ ولهذا، يجب على الإنسان أن يُصلّي على النبيِّ وآله أوّلاً ويدعو لهم، ثمّ يدعو بعد ذلك لنفسه؛ لأنّهم أصل، والإنسان فرع؛ وهكذا الأمر مع الوالدين؛ ولهذا، لا ينبغي نسيانهما.
هنالك صلاة باسم صلاة الوالدين؛ وهي صلاة جيّدة جدًّا؛ فإن كان لدى الإنسان الوقت الكافي، فليصلِّ يوميًّا ركعتين، يقرأ في الأولى بعد الحمد عشر مرات: {رَبَّنَا اغْفِرْ لي ولِوالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ}٣، ويقرأ في الركعة الثانية بعد الحمد عشر مرّات: {رَبِّ اغْفِرْ لي ولِوالِدَيَّ ولِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا ولِلْمُؤْمِنينَ والْمُؤْمِناتِ}٤؛ فإذا فرغ من الصلاة، فليقُل عشر مرّات: {رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا}٥؛ وهي صلاة ذات تأثير كبير، وتصل إلى الوالدين باستمرار٦.
عندما جاء خال والدي المرحوم المیرزا محمّد الطهراني من سامرّاء إلى طهران؛ كان العديد من الناس من مختلف الطبقات يأتون لزيارته؛ ومن جملة من كان يقوم بتقديم الخدمات للوافدين إلى منزلنا، أعمامي: السیّد محمّد تقي الذي لايزال على قيد الحياة، والسیّد محمّد رضا، والسيّد کاظم، حيث كانوا يستقبلون الوافدين، ويقومون بواجب الضيافة من الصباح إلى الغروب؛ وذات يوم، التفت ابن خال والدي المرحوم المیرزا نجم الدین إلى عمّي الحاج السید محمّد رضا قائلاً: «لقد رأيت والدتك [عمّتي] في المنام وقالت لي: لم يرسل لي محمّد رضا طعامي منذ عدّة ليالٍ!»؛ فكان قد رأى هذا المنام، وعندما أتى عمّي السید محمّد رضا إلى المنزل في الغد، روى له المنام، وقال: «لقد رأيت والدتك في المنام وهي تقول: لم يرسل لي محمّد رضا طعامي منذ عدّة ليالٍ!»؛ فاستغرق عمّي في التفكير ليعرف ما هو تفسير هذا المنام، وليكتشف ما الذي كان يُقدّمه لوالديه، بحيث توقّف عن إرسال الطعام إليهما لعدّة ليالٍ؛ فتفطّن فجأة للأمر، حيث حكى لي عمّي السيّد محمد رضا هذا المنام بنفسه، فقال:
كنت حريصًا على أداء صلاة الوالدين بين صلاتي المغرب والعشاء ليليًّا ولمدّة خمسة وعشرين أو ثلاثين سنة؛ لكن، حينما أتيت إلى هنا في هذه الليالي من أجل تقديم الخدمة، لم يبق لي وقت لأداء هذه الصلاة؛ كما لم يكن أيّ أحد يعلم بهذا الموضوع! وهنا، يرى [المیرزا نجم الدین] والدة السيّد محمد رضا في المنام، وتخبره بأنَّه لم يرسل لها طعامها منذ عدّة ليال۱.
فعلى الإنسان أن يدعو لوالديه باستمرار؛ وعليه أن يعرف قدرهما ما داما على قيد الحياة؛ وإلاّ، فإنّه حينما يفقدهما، فإنّه سيفقدهما! ولو بحث الإنسان إلى آخر عمره، لما تمكّن من العثور على أبٍ أو أمٍّ! وإن أراد أحد أن يُفتح له الباب، فعليه أن يكسب قلبيهما؛ إذ إنّ كسب قلب الوالدين عجيب جدًّا!! ونيل رضاهما عجيب جدًّا؛ وهو ذو تأثير كبير في فتح أقفال السموات، بحيث إنّ مفتاح هذه الأقفال يتمثّل في محبّتهما٢.
علّة لزوم الدعاء للمؤمنين والمؤمنات
وبعد الوالدين، يأتي دور الأدنى منهما:
«اللهُمَّ اغفِر لِلمُؤمِنِینَ وَالمُؤمِنَاتِ، الأَحیاء مِنهُم وَالأَموَاتِ، وتَابِع بَینَنَا وَبَینَهُم بِالخَیرَاتِ».
«الأَحیاء مِنهُم» سواء كانوا في تلك الناحية من العالم، أو في إفريقيا، أو في مشرق العالم، أو مغربه، أو شماله، أو جنوبه؛ فأينما كان المؤمن والمسلم، فإنّ له ارتباط بالإنسان؛ فيا إلهي، اغفر ذنوبهم، وطهّر قلوبهم، ونقّها!
واغفر لأمواتهم كذلك، واعف عنهم!
«وَتَابِع بَینَنَا وَبَینَهُم بِالخَیرَاتِ»؛ واجعل بيننا وبينهم خيطًا متّصلاً بواسطة الخيرات، وصِل بيننا، ولا تفصلنا عن بعضنا!.
فتَابَعَ بمعنی: وَالیٰ.. وَالیٰ یوَالِي مُوالاةً؛ تَابَعَ یُتَابِعُ مُتابِعَةً؛ أي تواصل شيئان بدون أن تكون بينهما أيّة فاصلة؛ فمثلاً: حينما أتحدّث إليكم الآن، يُقال: إنَّني أتحدّث بشكل متوالٍ؛ لكن، إذا تكلّمتُ الآن، ثمّ سكتُّ لمدة خمسة دقائق، وأدمتُ الكلام بعد ذلك، فإنّ كلامي سيكون قد فقد تواليه، ولم يعد متواصلاً. فتَابِع هي من الموالاة والمتابعة؛ أي ترتيب الأشياء بحيث يأتي الواحد منها تلو الآخر.
فصِل بيننا وبين جميع المؤمنين والمؤمنات الأحياء والأموات في العالم بواسطة الخيرات التي تمنّ بها علينا، وارتق حبلنا! فعندما ندعو للمؤمنين والمؤمنات، يكون هذا الحبل متّصلاً؛ وحينما ندعو لهم مرّة أخرى، يضلّ أيضًا متّصلاً؛ وهكذا أيضًا عندما نتصدّق عليهم، ونصل أرحامهم، ونشيّع جنائزهم، ونطلب الرحمة لهم؛ بل حتّى عندما نتمنّى لهم الخير، فإنّ هذا الخير الذي نتمنّاه لهم هو عبارة عن حبل يصلنا على الدوام بقلوب جميع المؤمنین والمؤمنات «الأَحیاء مِنهُم وَالأَموَاتِ»، بحيث لا يُفترض أن ينقطع هذا الاتّصال أبدًا؛ فصِل بين قلوبنا وقلوب جميع المؤمنين والمؤمنات بالخيرات دائمًا وبشكل متتابع!
«اللهُمَّ اغفِر لِحَیّنَا وَمَیّتنَا وَشَاهِدِنَا وَغآئِبِنَا، ذَکرِنَا وَأُنثَانَا، صَغیرِنَا وَکبِیرِنَا، حُرِّنَا وَمَملُوکنَا»؛
فهؤلاء بأجمعهم متعلّقون بنا؛ وحُرُّنَا، ومَملُوکنَا، وأُنثَانَا، وغآئِبُنَا، وشَاهِدُنَا هم بأجمعهم من المؤمنين؛ والمؤمن أخو المؤمن، وتربطه به صلة؛ ولهذا، يجب الدعاء لهم جميعًا، حيث يمتلك هذا الدعاء أثرًا كبيرًا؛ فلا تتصوّروا بأنَّ الدعاء يعود على الداعي فقط؛ كلاّ! فانتفاع الداعي من الدعاء في محلّه، لكن، ما إن يدعو هذا الداعي، حتّى يُرسل بدعائه الرحمة للآخرين أيضًا، ولو كان أحدهم في مشرق العالم، والآخر في مغربه.
عندما كنت أقطن بالنجف، أمضيت شهر رمضان في أحد الأعوام بكربلاء نظرًا لتعطيل الدراسة في هذا الشهر الفضيل؛ وكان لي هناك صديق يتمتّع بحالٍ ممتاز، وكان قد ذهب لعدّة أيّام إلى بغداد والكاظمين، ثمّ عاد إلى كربلاء. وفي أحد الأيّام، كنت أعاني من انقباض شديد، شديد جدًّا؛ ولم أكن أعلم سبب ذلك؛ فاغتسلت، وتوضّأت، لكي آتي إلى الحرم من أجل أداء الصلاة؛ فدخلت صحن سيِّد الشهداء عليه السلام، غير أنّ حالة الانقباض ظلّت على حالها، ولم أستطع الولوج إلى داخل الحرم، فجلست في إحدى زوايا الصحن إلى أن بقيت ساعة على حلول وقت الظهر؛ ثمَّ أحسست فجأة بحالٍ من الوجد والنشاط والسرور؛ وكان ذلك عجيبًا جدًّا؛ إذ شعرت بحال من الانشراح لا يمكن قياسه بتاتًا بحال الانقباض السابق؛ فنهضت، ودخلت الحرم، وأدّيت الزيارة والصلاة، وبقيت هناك إلى الظهر، ثمّ رجعت.
وفي الغد، عاد ذلك الرجل، وقال لي:
يا سیّد محمّد حسین، ماذا حصل لك البارحة؟ ولماذا كان حالك سيّئًا بذلك النحو؟ فلقد رأيت أنّك تُعاني من انقباض شديد، وأنّك تشعر كثيرًا بالضيق؛ فذهبت إلى الإمام موسى بن جعفر، وصلّيت هناك ركعتين قبل الظهر بساعة، ودعوت لك.
ففي نفس تلك الدقيقة التي ذهب فيها إلى هناك ودعا لي، وصلتني النتيجة؛ هذا، رغم كون المسافة بين الكاظمين وكربلاء تبلغ ثمانية عشر فرسخًا! هذا، مع أنّ مسافة فرسخ ليست بشيء، بل حتّى لو بلغت المسافة مقدار ما بين المشرق والمغرب، فإنّ الأمر يكون بهذا النحو، ما دامت القلوب مرتبطة ببعضها۱.
فإن كنتَ جالسًا في بيتك ذات يوم، وشعرتَ بحصول حالة انقباض، ولم تكن تعلم سبب ذلك، فاعلم أنَّ لديك رفيق في مغرب العالم أصابه انقباض؛ وهكذا أيضًا إن حصل لك انقباض، فإنّه سيحصل له أيضًا؛ فمتى ما كانت القلوب متّصلة ببعضها، فإنّ من آثار هذا الاتّصال هو حصول هذا الأمر، حيث إنّ جميع المؤمنین والمؤمنات في العالم يكونون مرتبطين بالإنسان من ناحية ما؛ ومن هنا، يتوجّب على هذا الإنسان أن يدعو لهم دائمًا.
«اللهُمَّ اغفِر لِلمُؤمِنِینَ وَالمُؤمِنَاتِ وَالمُسلِمِینَ وَالمُسلِمَات، اَلأَحیاء مِنهُم وَالأَموَاتِ».
ذات يوم، جاء النبيّ الأكرم صلّی الله علیه وآله وسلّم إلى بيت فاطمة الزهراء، وقال لها:
يا فاطمة، لا تنامي ليلاً حتّى تأتين بهذه الأعمال التي سأتلوها عليك؛
فقالت فاطمة:
وماذا عليّ أن أفعل يا أبي؟
فقال النبيّ:
لا تنامي ليلاً حتّى تختمي القرآن، وتأتين بحجّ وعمرة، وتُرضين جميع المؤمنين والمؤمنات عنك، وتُشفّعي فيك جميع الأنبياء والملائكة!
فقالت فاطمة سلام الله علیها:
وكيف يمكنني أن أقوم بجميع هذه الأعمال؟! أختم القرآن في كلّ ليلة قبل النوم! وآتي بحجّ وعمرة! أ فهل يمكن تحقيق ذلك؟! فالحجّ إنّما يكون في وقت معيّن من السنة، ولا يستطيع الإنسان الحجّ إلاّ مرّة واحدة في العام، فكيف يمكنني القيام بذلك كلّ ليلة؟! وكيف يمكنني أن أُرضي جميع المؤمنين والمؤمنات عنّي؟! وأُشفّع جميع الأنبياء والملائكة؟!
فقال النبيّ:
يا فاطمة، كلّ من قرأ سورة الإخلاص ثلاث مرّات قبل النوم فله ثواب ختم القرآن، فاقرئيها ثلاث مرّات؛ وكلّ من قال: «سُبحَانَ اللَهِ وَالحَمدُ للَّه وَلَا اِلَهَ إلَّا اللَهُ وَاللَهُ أَکبَر» فله ثواب حجّ وعمرة؛ ومن قال: «اللهُمَّ اغفِر لِلمُؤمِنِینَ وَالمـُؤمِنَات»، فسيرضون عنهم بأجمعهم؛ (لأنّ هذا دعاء، وهو سيصلهم، ويُرضيهم جميعًا)؛ ثم قولي: «اللهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَی الأنبِیاءِ وَالمـُرسَلِین وَالمـَلَائِکةِ المـُقَرَّبِین»، فإنّ هذه الصلوات ستجعل من النبيّ وأهل بيته والملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين شفعاءك۱.
وهو عمل في غاية البساطة؛ فعندما يريد الإنسان أن ينام، يقرأ سورة الإخلاص ثلاث مرّات، ويقرأ التسبیحات الأَربَعة، ثمّ يقول: «اللهُمَّ اغفِر لِلمُؤمِنِینَ وَالمـُؤمِنَات، اللهُمَّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَعَلَی المـَلَائِکةِ المـُقَرَّبِین وَالأنبِیاءِ وَالمـُرسَلِین»؛ وحينما ينتهي من هذه الأعمال، ينام؛ وبهذه السهولة! هذا، مع أنّها ليست بهديّة بسيطة!
كذب المتّخذ شريكًا لله تعالى وضياعه في عالم الوجود
«کذَبَ العَادِلُونَ بِالله وَضَلُّوا ضَلَالاً بَعِیدًا».
عَدَل به: یعني جعل له عِدلاً؛ والعِدل بمعنى الصِنو أو النظير؛ فلِكَفّة الميزان عِدل، وعِدلها الكفّة الأخرى؛ ولِنَعل الإنسان وحذائه عِدل، وعِدله [النعل والحذاء الآخر]؛ وعِدل كُمّ القميص هو الكُمّ الآخر؛ ولرِجل الإنسان عِدل، وعِدلها الرجل الأخرى.
ذات يوم، كان النبيّ جالسًا مع أصحابه، حيث كان صلى الله عليه وآله وسلّم يُمازح الآخرين أحيانًا؛ فمدّ رجله وقال: «هل تستطيعون أن تقولوا ما هو شكل رجلي هذه؟»؛ فاستغرق أصحابه في التفكير، وقال أحدهم: لها شكل كذا، وقال الآخر: لها شكل كذا، و...؛ لكن، لم يتمكّن أيّ واحد منهم من تقديم الجواب الصحيح.
فأخرج النبيّ رجله الأخرى، وقال: «لها شكل هذه!»؛ فهذا هو معنى العِدل، حيث كان النبيّ يقوم بمثل هذا المزاح!
وذات يوم، كان النبيّ وأمیر المؤمنین علیه السّلام جالسين يأكلان التمر؛ فكان النبيّ يضع نواة التمرة التي يأكلها أمام أمير المؤمنين؛ فتجمّع نوى التمر الذي أكله رسول الله، وذلك الذي أكله أمير المؤمنين أمام أمير المؤمنين، فقال النبيّ له مازحًا: «انظر كم أكلت يا عليّ!»؛ ولمـّا كان أمير المؤمنين تلميذ النبيّ، فقد قال له: «يا رسول الله، من أكل كثيرًا هو من أكل التمر بنواه»!۱
وفي أحد الأيّام، جاءت امرأة إلى النبيّ، وبدأت تتحدّث عن زوجها بالسوء، وأنّه خاصمها، وفعل كذا وكذا؛ فأصغى إليها النبيّ، ثمّ قال لها: «أليس زوجك هو ذلك الرجل الذي طغى بياض عينيه على سوادهما؟!»، فقالت: لم أنتبه لهذا الأمر يا رسول الله؛ فقال لها: «اذهبي وانظري».
ومع أنّ كان زوجها كان غاضبًا منها، إلاّ أنّها جاءت، وبدأت تنظر إليه بنحو من الأنحاء! على أنَّ البياض هو الغالب على السواد عند جميع الرجال؛ أ فليس البياض هو الغالب على السواد في كافّة العيون؟! فبسبب هذه النظرة، وقع الصلح، وانتهى الأمر٢و٣
«کذَبَ العَادِلُونَ»؛ أي أنّ الله تعالى ليس له عِدل؛ لأنّ العادِل هو من يجعل عِدلاً، والعادِل بِالله هو ذلك الذي يجعل لله تعالى عِدلاً؛ والمراد من العِدل هو الشريك والندّ؛ في حين أنّ الله تعالى واحد. ولا يخفى أنّ الإنسان لا يستطيع السير بزوج حذاء واحد، بل يحتاج إلى عِدل؛ أ فهل بوسع المرء المشي برجل واحدة؟! أو سياقة السيّارة بيد واحدة؟! وهل بمقدور الطائر الطيران بجناحٍ واحد؟! لكنّ الله تعالى واحد، وجناحاه ورجلاه ويداه منه وفيه؛ فوجوده المقدّس واحد، وليس له عِدل.
فالذي يتوجّه إلى الأشياء في عالم الوجود، ويغفل عن الله، يكون قد جعل له تعالى عِدلاً؛ وسيكون هذا العِدل شريكٌ لله؛ ومعنى ذلك: إلهي، هذا أنت؛ وهذا هو عِدلك! فأنت لا تقدر على أيّ شيء لوحدك! وأنت بمثابة الطائر الذي يُمثّل أحدُ جناحيه القدرةَ والعظمةَ، ويُمثّل الجناحُ الآخر التوجّهَ نحو الأمور المادّية من امرأة وولد وتجارة وحكومة وزراعة وعلم وقدرة؛ فتلك الأمور التي يتوجّه إليها الإنسان في الدنيا، ويراها مؤثّرة في مقابل الله تعالى هي التي يُقال لها: عِدل الله.
يقول الإمام عليه السلام:
«کذَبَ العَادِلُونَ»؛ فهؤلاء كذّابون بأجمعهم؛ أي أنّ الذين جعلوا لله عِدلاً وشريكًا كاذبون؛ إذ ليس له تعالى عِدل.
«وَضَلُّوا ضَلالاً بَعِیدًا»؛ وضاعوا ضياعًا بعيدًا جدًّا، إلى درجة أنّه لن يُعثر عليهم أبدًا!.
فقد يفقد الإنسان شيئًا ما؛ لكن، إذا بحث عنه، سيجده إمّا فورًا، أو بعد جهد وعناء؛ غير أنّ هناك بعض الأشياء التي إن فُقدت، لا يُمكن العثور عليها أبدًا! فأولئك الذين يجعلون لله عِدلاً وشريكًا يضلّون، ويضيع جميع وجودهم، ويتيهون عن عالم الحياة، وعن حرم الأمن والأمان الإلهيّين، وعن مقام القرب، وعن نسيم عالم القرب المنعش للروح؛ فلا تصل هذه الروائح العطِرة وذلك النسيم إلى مشامّهم، بل يضيعون!
«وخَسِروا خُسرَانًا مُبِینًا»؛ فهؤلاء يصبحون من الخاسرين، وتصير أيديهم فارغة، ويكون خسرانهم واضحًا.
فقد يخسر الإنسان أحيانًا، غير أنَّ تلك الخسارة لا تكون ظاهرة؛ لكن، أحيانًا أخرى، قد تكون هذه الخسارة واضحة وعجيبة جدًّا؛ فتلك هي خسارة من يجعل لله تعالى شريكًا!
معنى حُسن الخاتمة
«اللهُمّ صَلِّ عَلَی مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَاختِم لِی بِخَیرٍ، وَاکفِني مَا أَهَمَّني مِن أَمرِ دُنیاي وآخِرَتي».
فهل معنى عاقبة الخير هو أن يرحل الإنسان عن الدنيا شبعانًا؟ أو ذا مال؟ كلاّ! فليس هذا هو معنى عاقبة الخير، بل لها معنىً آخر.
دخل أمیر المؤمنین علیه السّلام المسجد يومًا، فرأى الناس جالسين يتبادلون أطراف الحديث؛ فواحد يقول: أفضل الأيّام هو يوم الجمعة، وآخر يقول: بل النصف من شعبان، ويقول ثالث: بل هو يوم عرفة؛ كما كانوا يتنازعون حول أفضل الأشهر؛ فيقول أحدهم: إنَّ أفضل الشهور هو شهر رمضان، ويقول الآخر: بل شهر رجب، ويقول الثالث: بل هو شهر محرّم؛ ويتجادلون عن أفضل الساعات، فيقول أحدهم: إنَّها الساعة الأولى من الزوال، ويقول الآخر: بل هي الساعة القريبة من الغروب، ويقول الثالث: بل هي الساعة القريبة من الصبح؛ فقال عليه السلام:
«إنَّ أفضل الشهور وأفضل الأيّام وأفضل الساعات هي حينما يرتحل الإنسان عن الدنيا فائزًا مفلحًا»۱.
سواء كان ذلك في شهر رمضان، أو شوّال، أو ذي القعدة؛ وسواء كان ذلك في يوم الجمعة، أو السبت؛ ليلاً أو نهارًا، فلا يهمّ؛ لأنّ المهمّ هو أن تكون شهادة النجاح بيد الإنسان؛ وأمّا إذا رحل هذا الإنسان عن الدنيا ولم يكن قد حمل معه هذه الشهادة، ففي أيّ شيء سيُفيده كلّ ذلك؟!
«وَاختِم لِی بِخَیرٍ»؛ أي: اجعل عاقبة أمورنا خيرًا، فلا تظلّ جهودنا التي بذلناها في الدنيا حبيسة هذا العالم، وليمسَّ أعمالَنا شيءٌ من طعم محبّتك، لكي تتحرّك هذه النفوس الثقيلة والمتعبة نحو عالم القُرب.
«وَاکفِني مَا أَهَمَّني مِن أَمرِ دُنیاي وَآخِرَتي»؛ وتكفّل أنت بكافّة الأمور الملقاة على عاتقي؛ سواء كانت أمورًا دنيويّة أو أخرويّة.
فأنا لستُ بذلك الذي يستطيع النهوض بأعباء الدنيا، ويُوكِل إليك الأمور الأخرويّة؛ كلاّ، بل أنا عاجز حتّى عن الأمور الدنيويّة؛ أي أنّ حكم كلّ من الأمور الدنيويّة والأمور الأخرويّة واحد، وكلاهما متعلّقان بك أنت، من دون أيّ فارق؛ إذ لا معنى لوجود أمرٍ شاقٍّ، وآخر يسير بالنسبة لأسمائك وصفاتك، ولا معنى لوجود علم كبير وآخر صغير؛ كما لا فرق هناك بين أمور الدنيا وأمور الآخرة؛ فكلّ ذلك يسير عليك، وجميعُه بيدك؛ فلا يوجد شيء من ذلك بيد غيرك، لكي نطلب أمور الدنيا من الدنيا، ونطلب منك أنت أمور الآخرة؛ لأنّ هذه الأمور بأجمعها مملوكة لك أنت؛ فاكفنا جميع ذلك!
«وَلَا تُسَلُّط عَلَیّ مَن لَایرحَمُني».
سواء كان نفسًا أمّارة، أو شیطانًا، أو حاكمًا ظالمـًا، أو أيّ شيء آخر لا يرحمني، حيث إنّ أشدّ الأمور التي لا ترحم الإنسان هي نفسه؛ والتي هي مصدر جميع المصائب التي تحلّ برأسه، ومنشأ كافّة النكبات وأنواع الشقاء، والمعيشة الضنك٢، وعماء القلب، والمشاكل المعنويّة التي يبتلى بها في الدنيا؛ فلا تُسلط عليَّ هذه النفس يا ربّ؛ هذا، مع أنّها لا تفنى، بل تظلّ موجودة؛ لكنّني أسألك أن تجعلها تستسلم، وأطلب منك أن تُكبّلها بالقيود، وتُوفّقني للتغلّب عليها في المجاهدة، فتستسلم لي، ولا تغلبني!
الوقاية التي يجب على الإنسان طلبها من الله تعالى
«وَاجعَل عَلَيّ مِنك وَاقِیةً بَاقِیةً»؛ أي: أرسل إليّ من عندك حافظًا باقيًا، يحفظني في لطفك وكَنَفِكَ.
فمعنى الواقي هو الحافظ؛ مِن وَقی یقِي؛ أي حَفِظَ یحفَظُ؛ وفعلُ الأمرِ منه «قِ»؛ فالوقاية تعني الحفظ. «وَاجعَل عَلَيّ مِنك وَاقِیةً»؛ أي أرسل إليّ من عندك حافظًا يكون باقيًا ودائمًا لكي يحفظني؛ فإن حفظني هذا الواقي، فإنّ الأمر سيكون حسنًا جدًّا! فكم هو جيّد أن يمتلك المرء واقيًا! فحينما يذهب الإنسان إلى البحر، ويغوص في أعماقه، فإنّه إذا كان يتوفّر على واقٍ ـ كأن يضع رأسه في وعاء زجاجيّ مزوّد بالأوكسجين ـ فلن يُعاني من أيّة مشكلة؛ وهكذا أيضًا بالنسبة للذين يُسافرون إلى الفضاء، حيث نراهم يضعون أنفسهم في مقصورة وأجواء خاصّة؛ فيكون ذلك وقاية لهم. فيا إلهنا، إنّ الوقاية التي نطلبها منك هي أن تمنّ علينا بواقٍ يحفظ أذهاننا وأفكارنا وسرّنا من التوجّه إلى غيرك، ويجعلنا نتوجّه دائمًا إليك، ويُبقينا في هذه العتبة محفوظين، ولا يدع هذه الوِقاية تنكسر أو يصيبها أيّ خلل؛ فهذا هو معنى الواقي الباقي.
«وَلَا تَسلُبنِي صَالِحَ مَا أَنعَمتَ بِهِ عَلَيَّ، وَارزُقنِي مِن فَضلِك رِزقًا وَاسِعًا حَلَالاً طَیّبًا».
فقد منح اللهُ العليُّ الأعلى الإنسانَ العديد من النِعم؛ غير أنَّ هنالك نعمة واحدة ـ أو نعمتان ـ من بين تلك النعم تعتبر زهرة هذه النعم [ورأسها]؛ وهو ذلك الحال والوجدان واليقين والتوجّه والشوق والذوق والعشق والرغبة والانجذاب؛ ومهما يكن، فهناك أمر واحد يُعتبر ثمينًا وقيّمًا عند كلّ من يملكه، فأسألك يا إلهي ألاّ تسلبه منّي؛ لأنّك إذا أبقيته لي، فستأتي عَقِبَه بقيّةُ الأمور؛ وإن سلبتني إيّاه، فلن ينفعني ما دونه؛ «ولَا تَسلُبنِي صَالِحَ مَا أَنعَمتَ بِهِ عَلَيَّ، وَارزُقنِي مِن فَضلِك رِزقًا وَاسِعًا حَلَالاً».
بِمُحمَّدٍ وآلِهِ الطاهرينَ وَصَلِّ على مُحمَّدٍ وآلِهِ أَجمعينَ.