4

حقيقة السير والسلوك

3236
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1430

التاريخ 1430/09/10


التوضيح

ما هو السير والسلوك؟ وهل يمكن أن يختصر بالقيام بالذكر والورد والصيام وأمثال ذلك؟ ما هو موقف العرفان من قضايا المجتمع وهل يطلب العرفان إهمال قضاياه والانزواء و العزلة؟
كيف نفسّر حصول اليأس والأمل معًا لدى الإمام المعصوم عليه السلام؟
/۱۷
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

حقيقة السير والسلوك

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • حقيقة السير والسلوك 

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۰ هـ - الجلسة الرابعة 

  •  

  • محاضرة ألقاها

  • آية الله الحاج السيد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله سره

  •  

  •  

حقيقة السير والسلوك

2
  •  

  •  

  • أعوذ باللَه من الشیطان الرجیم‌

  • بسم اللَه الرحمن الرحیم‌

  • وصلّى اللَه على سيّدنا و نبيّنا أبي القاسم محمد 

  • وعلى آله‌ الطيّبين الطاهرين 

  • ولعنة اللَه على أعدائهم أجمعين‌

  •  

  •  

  • «إذَا رَأيتُ مَولايَ ذُنُوبي فَزِعتُ، وَ إذَا رَأيتُ كرَمَكَ طَمِعتُ».

  • إذا نظرت إلى ذنوبي وقعت في الفزع، وإذا نظرت إلى كرمك وعظمتك أصابني الطمع. 

  • غريزتا اليأس والأمل وأسبابهما لدى الإنسان

  • يتّضح هنا أنّ في الإنسان جانبین: أحدهما: اليأس والآخر الأمل. وكلاهما حقيقيّ، وليس أحدهما باطلاً واعتبارًا وتوهّمًا وتخيّلاً، فكما أنّ في الإنسان صفات مختلفة وغرائز متنوّعة، فهناك غريزة الغضب التي تمثّل جانب الطرد لدى الإنسان وجانب الجلال والدفع، وهناك غريزة الحبّ والرأفة والمحبّة التي تمثّل جانب الجذب والطلب. وهاتان الغريزتان متقابلتان ومختلفتان. فهكذا لدى الإنسان أيضًا جانبان وصفتان والأفضل أن نقول غريزتان: إحداهما صفة وغريزة اليأس، حيث إنّ اليأس ناشئ من فقدان المطلوب والمتوقّع، حين يفقد الإنسان ما يتوقّعه ولا يتمكّن من الوصول إليه. فهذه الغريزة هي غريزة اليأس الناشئة من الفقدان، فمن كان حاصلاً على شيء ما فلا معنى لليأس عنده، ومن كان عالمًا لا معنى عنده لأن ييأس من تحصيل العلم، ومن كان ثريًّا فلا معنى لديه لليأس من تحصيل الثروة، فهو واجد. 

  • فإذن جذر اليأس وأصله هو الفقدان، فهو العلّة في يأس الإنسان وقنوطه، ذلك الفقدان الذي لا يوجد معه شيء، فلو كان الإنسان فاقدًا لشيء ولكنّه يعلم أنّه في الغد سيناله ويمكنه أن يحصّله وستكون له قدرة عليه فلا يسمّى يأسًا، اليأس يطلق على الإحساس بالخلأ والنقص بدون سيطرة هذه الصفة، تلك هي صفة اليأس والقنوط. فلو علم الإنسان أنّه ينال هذا الأمر، لو علم أنّه يبلغ ما يتوقّع، علم أنّه يبلغ مطلوبه، علم أنّ طريق الله الذي بدأ بسلوكه سينتهي به إلى نهايته فلا معنى لليأس حينئذ، فهو واضح ومعلوم، وبواسطة الحركة التي يقوم بها لا بدّ أنّه سينتهي به إلى النهاية، فلا يحصل لديه يأس. 

  • اليأس والأمل في الطريق إلى الله

  • ولو علم الإنسان أنّ طريق الله الذي بدأ به لا يمكنه أن يستمرّ فيه، لا يمكنه أن يتابع فيه، يعلم أنّ فيه موانع، يعلم أنّ فيه صوارف تريد أن تصرفه، هناك أفراد جيّدون جدًّا، تجد إنسانًا جيّدًا وصالحًا يسلّم عليك ويتعاطى معك ثمّ يقول: أنا أسلّم بأنّ هذا الأمر وهذا الطريق صحيح وحقّ ولكنّي لست من أهله، يقولها بصراحة ووضوح أنا أعتقد بصحّة هذا ولكنّي لست أهلاً له، من بعيد أقبل وأعلم أنّ الأمر حقّ، مع غضّ النظر عن أنّ نظرة هؤلاء خاطئة ولا بدّ أن تصحّح أم أنّها ينبغي أن تبقى كما هي؟ وكما يقولون هم: على الأقل لا تفوتنا هذه الصلاة وهذا الصيام الظاهريّان وهذا يكفينا. لماذا؟ لأنّهم يشعرون أنّ هناك موانع، يتصوّرون أنّ هناك أمرًا ما، هناك حوادث ستواجه الإنسان، وتلك الأحداث والموانع لا يملكون القدرة على اجتيازها وقطعها وتجاوزها، وفي النتيجة يتوقّفون.

حقيقة السير والسلوك

3
  • السلوك ليس بالذكر والورد فحسب بل بتنظيم الحياة 

  • وقد ذكرت لكم أنّه كان هناك أحد العلماء في العهد السابق قبل انتصار الثورة، وقد جاء إلى المرحوم العلاّمة وطلب منه برنامجًا سلوكيًّا لطيّ الطريق، وكنت أنا جالسًا في الغرفة المجاورة وكنت أسمع صوتهما أثناء الحديث، ولم يكونا يتحدّثان بصوت منخفض، وبينما أنا في الغرفة المجاورة سمعته يقول لذلك الرجل وكان معمّمًا وشيخًا ومن أهل قم ومن أهل الحوزة، وقد مات وانتقل إلى رحمة الله الآن، كان يقول له: البرنامج السلوكي لهذا الطريق ليس بالاهتمام بالذكر والورد والمسائل المشابهة فحسب، فهذه جزء من ذلك المنهج والمسلك الذي على السالك أن يهتمّ به، المهمّ هو تطبيق برنامج الحياة على أساس البرنامج الذي يعطى، هذه هي المسألة المهمّة. وأنا أقول الآن إنّ نسبة مئويّة يسيرة هي بالذكر وأمثاله، ولكنّه كلامي أنا ولم يقله هو، ومسألة الذكر والورد والاهتمام بصلاة الليل واليقظة و… .

  • صمت وجوع وسهر وعزلت وذكرى بدوام***ناتمامان جهان را كند اين پنج تمام
  • الصمت والجوع والسهر والعزلة والذكر على الدوام خمسة تجعل الناقصين في هذا العالم كمّلاً. 

  • فالصمت والسكوت هو برنامج للحياة، فإذا أمر أحدهم بالصمت فلن يتمكّن من القيام بأيّ عمل فلا يمكنه أن يقوم بأيّ نشاط، لا يمكنه أن يذهب إلى أيّ مكان، يقولون: مثلاً عليك أن لا تتكلّم مع فلان، ولا تبيّن رأيك في تلك المسألة، فإذن لم يعد هناك شيء وانتهى الأمر، لا يحقّ لك الكلام في هذا الحدث! فإذن انتهى كلّ شيء واقرأ الفاتحة! يقول: لم يبق شيء. عليك أن تبقى صامتًا في تلك المسألة، تنحّ جانبًا. 

  • الجوع، حسنًا يمكن أن يجد له حلاًّ فإنّه لا علاقة له بالمسائل الاجتماعيّة، الصمت والجوع والسهر، والسهر يعني الاستيقاظ في الليل، وكما يقول سيّد شيراز رضوان الله عليه: 

  • هر گنج سعادت که خدا داد به حافظ***از یمن دعای شب و ورد سحری بود
  • يقول: كلّ كنز من كنوز السعادة أعطاه الله حافظًا *** فببركة دعاء الليل ووِرد السحر. 

  • السهر عجيب جدًّا، السهر بمعنى اليقظة وليس السحر بـ "حاء" "حطّي" بل بـ "هاء" "هوّز"۱

    1. باعتبار أنّ الحاء والهاء تلفظان بالفارسيّة هاء احتيج إلى التمييز لدى المخاطب الناطق بها. (م)

حقيقة السير والسلوك

4
  • الصمت والجوع والسهر والعزلة… 

  • فالعزلة آه ما أصعبها! العزلة تعني الابتعاد عن أهل الدنيا، الابتعاد عن ضوضاء أهل الظاهر وضجيج أهل الحوادث والجرائد والأحداث، العزلة عن هؤلاء، العزلة عن الارتباط مع الذين كامل همّهم وغمّهم الاهتمام بالأمور المتعارفة والظاهريّة وذلك على أساس التوهّمات والتخيّلات أيضًا، لا على أساس الحقّ وتطبيق النفس ومسيرها على طريق الحقّ، لا بل على أساس التوهّمات والتخيّلات. العزلة عن هؤلاء الأفراد ماذا تعني؟ 

  • وفي النهاية الذكر على الدوام يعني أن يكون الإنسان دائمًا في حال ذكر، وهذا اللفظ "على الدوام" وإن كان البعض قالوا إنّه يعني: الذكر على الدوام، أي ينبغي أن يكون الذكر دائمًا، وأنّ على السالك أن يكون دائم الذكر وفي حال توجّه حتّى يتمكّن من الاستمرار في مسيره، ولكنّي أتصوّر أنّ على الدوام هنا صفة لجميع ما تقدّم، أي الصمت على أن يكون على الدوام إلا في وقت خاصّ وتكليف، والجوع لا بدّ أن يكون دائمًا إلا في وقت يكون الإنسان فيه مكلّفًا بالإفطار، والسهر واليقظة لا بدّ أن يكون على الدوام، على الإنسان أن يكون له يقظة في الليل. والعزلة لا بدّ أن تكون دائمة، إلا عند التكليف، فإذا كلّف الإنسان بتكليف يرتبط بالمجتمع، حينها يكون الأمر مختلفًا، وعندما يقولون: أنشئ علاقة. يعيّنون وقتها وأطرافها ومستواها وكيفيّتها، فليس الأمر هكذا بالفوضى بحيث يتعاطى الإنسان مع أيّ فرد ومع أيّ إنسان، بل لا بدّ من تعيين مع من يرتبط وإلى أيّ حدّ وإلى أيّ مستوى، بحيث لا يؤدّي هذا الارتباط إلى الاستيلاء شيئًا فشيئًا وبهدوء على ذلك البعد ويغلب على استقامة الإنسان ويخرج النفس من تحت حكومته وسلطته، حينها تصبح هذه العلاقة مانعة من الطريق وسدًّا فيه. 

  • عندما يأمر أولياء الله بالتصدّي لأمور الناس يحدّدون المقدار

  • إنّ أولياء الله عندما يأمرون تلامذتهم بالتصدّي لأمور الناس فإنّهم يبيّنون لهم حدوده، مثلاً خصّص ساعتين من ليلك ونهارك للخوض في أمور الناس، ساعتين، فإذا صارتا ساعتين وخمس ثوان فهذا خطأ، على رأس الساعتين انتهى وفي أمان الله، فإذا كان في اليوم الأوّل ساعتين وخمس دقائق فإنّه سيصبح في اليوم التالي ساعتين وعشر دقائق. فلان على الباب أيضًا وهو من منتظر منذ الصباح، الرفقاء يأتون إليّ ويقولون: فقط خمس دقائق، فقط لديّ طلب يسير، فقط خمس دقائق، فيجلسون ساعة ونصف ساعة تسعين دقيقة، اضرب ذلك في أربعة عشر صحيح أم لا؟ كلا بل اضربه بثمانية عشر، لقد قلّلتها فحسابي خاطئ، يضربونها في ثمانية عشر، ثمّ يقولون: سيّدنا من فضلك خمس دقائق فقط، فأقول: تفضّلوا شرّفوا. حسنًا فمن يقول خمس دقائق فلينظر إلى الساعة وعندما تنتهي الخمس دقائق فلينصرف دون أن أقول أنا، إذا صارت الخمس دقائق ستّ دقائق فالإنسان مسؤول، لماذا؟ لأنّي أنا جئت لأجلس معك بانيًا على أساس الخمس دقائق لا على أساس نصف ساعة! فهل التفتّم؟ إن كان عمل إنسان ما يستغرق عشر دقائق فليقل أحتاج إلى عشر دقائق، إلا إذا قال إنّه سيبقى أكثر من ذلك فلا إشكال في ذلك، ولكن عندما يقول: عشر دقائق، فليقل: انتهت العشر دقائق في أمان الله. 

حقيقة السير والسلوك

5
  • إذا عمل الإنسان هكذا فإنّه يتقدّم إلى الأمام! أنا لا أمزح! فهذه أمور حدّثونا عنها، فعندما يعمل الإنسان على أساس ميزان معيّن فإنّه يسير وإلا لو جاء هكذا كيفما اتّفق فالسيّد عاطل عن العمل وأنا لا عمل لديّ فعلينا أن نذهب إلى هناك لدينا كلام مختصر لبضع دقائق… .

  • ذهبنا يومًا إلى مكان فقال لي أحد الرفقاء والأصدقاء: سيّدنا أريد أن أتكلّم مع العلاّمة لمدّة خمس دقائق، فقلت له: تفضّل في هذا الوقت الآن، أنا أقف على باب السيّارة، ففتحت الباب لخمس دقائق فتكلّم معه وحلّت المسألة ومضى في سبيله. 

  • عليكم بنظم أموركم، على الإنسان أن يطابق نفسه مع ذلك البرنامج الذي لديه، فإن فعل ذلك يتحرّك ويربح ويتقدّم إلى الأمام، وإلا بقي يراوح مكانه، يبقى في مستوى واحد، يقف عند مستوى معيّن. فهم يعيّنون مقدار العلاقة إلى أين وإلى أيّ حدّ، فلو جاؤوا بعد ذلك وقالوا: لقد جاء فلان ولا يزال واقفًا منذ ساعة ولديه عمل وعليه أن يسافر وقد اشترى بطاقة سفر ليرجع إلى مدينته عند العصر فإن لم تسمح له فلن يتمكّن من العودة اليوم. 

  • ـ حسنًا فليرجع هذا شأنه، وليأت في المرّة القادمة؛ فأنا وظيفتي هي أن أكون لساعتين فقط لا ساعتين وخمس دقائق ولا ساعتين وعشر دقائق. 

  • ذهبنا ذات يوم برفقة اثنين أو ثلاثة من الرفقاء إلى غار حراء رزق الله الجميع زيارتها إن شاء الله، فيذهب الرفقاء إليها ويرون ماذا هناك، فمن هناك تغيّرت جميع عوالم الملك والملكوت وتبدّلت، من هناك سرى التقدير وجرى في جميع العوالم، لوحان من الصخر، من هذين اللوحين من الصخر… غار لا يتّسع لأكثر من واحد وأن يقف إلى جانبه آخر ولا مجال للتقدّم إلى الأمام، هناك مكان للجلوس فحسب، وكان الناس واقفين هناك، ودخلت إحدى النساء وبدأت بالصلاة تلو الصلاة والناس ينتظرون وزوجها واقف جانبًا وكأنّه ليس زوجها، فقلت: من هذه المرأة؟! ففي النهاية هذا زوجها. ولكنّه بقي واقفًا هكذا ولم يتكلّم. فرأيت أنّه لا فائدة فقلت: أيّتها السيّدة تفضّلي إلى الخارج هذه الصلاة ليست صحيحة، صلّي ركعتين واخرجي وأتيحي للآخرين أن يصلّوا. فرأيت أنّها مستمرّة فتقدّمت ووقفت وقلت: إذا أردت أن تسجدي فاسجدي عليّ وإذا أردت أن تركعي فاركعي عليّ، حينها قال ذلك الرجل: دعها تصلّي. 

حقيقة السير والسلوك

6
  • ـ ما شاء الله ماذا كنت تفعل هنا حتّى الآن وماذا جرى حتّى انبريت الآن؟! فعرفنا أنّه زوجها فقلت له: شكرًا لك. 

  • فقال: لقد أوصوها في النهاية، وكانا من أهل كرمان وجاءا برفقة أهل كرمان، قلت له: ما داموا قد أوصوها فلتأت بها من الليل حتّى الصباح ولتصلّي مقدار مسبحة كاملة للجميع! لا أن توقف كلّ الناس هكذا وتصلّي لأنّهم أوصوها. فتقدّمتُ ووقفتُ أمامها فخرجت بعد أن رأت أنّها ستجد عليّ ولن أتحرّك. 

  • فإذا أراد الإنسان أن يعمل هكذا خسر ولم يتمكّن من العمل ولن تكون هناك فائدة. وإذا قال الإنسان وظيفتي هي أن أعمل بهذا المقدار وظيفتي هي أن أعمل إلى الآن، فإذا بقيت سائر الأعمال فلتبق فما شأني أنا؟ أنا عليّ أن أعمل بواجبي فإذا عملت بواجبي حينها سيكون عملي ممضىً وإلا فإنّه ليس ممضى بذاك المقدار الزائد، والعمل الذي هو غير ممضى لا نور فيه، وما دام لا نور فيه فليس مقرّبًا، وما دام غير مقرّب فإنّه لن يبقى ساكتًا وغير مؤثّر، فإنّ هذه العشر دقائق تأتي وتفسد الساعتين، وتقضي على آثار تلك الساعتين اللتين كانتا ضمن البرنامج المأمور به، ثمّ إنّ هذه العشر دقائق تقوى وتقوى وتترقى وتنمو وتسيطر على وجود الإنسان فتصبح جميع أفعال الإنسان تابعة لهذه الدقائق العشر ولن تكون كأفعال تلك الساعتين، صلاته تصبح صلاة العشر دقائق، تصبح فاسدة قد مضى تاريخها، وصيامه يصبح هكذا وكلامه هكذا وعلاقاته هكذا وجميع أفعاله في المجتمع ومع الناس تصبح جميعها خارجة عن ذلك التصرّف الممضى من قبل المولى والذي يرضاه المولى، وتسيطر على جميع وجوده، لأنّه أضاف على هاتين الساعتين من نفسه، وهذه الإضافة تقضي عليه. 

  • لذلك إذا جلس إلى ساعتين فسيكون فيهما نور وصفاء وبهجة وانبساط، لا تعب فيهما، ولا ملل وضجر، ولكن ما إن تمضي هاتان الساعتان فإنّ هذه العشر دقائق رغم كونها عشر دقائق ولكن كأنّها مطرقة على رأسه، رغم كونها عشر دقائق لماذا؟ لأنّها كانت في طريق المعصية، وحتّى الساعتان اللتان كانتا في طريق الصلاح خربتا، صارتا ساعتين وعشر دقائق في طريق المعصية. فالأمر دقيق جدًّا، المسألة تصبح دقيقة جدًّا، وأنّه كيف على الإنسان أن يعمل وفق البرنامج. 

حقيقة السير والسلوك

7
  • هل يدعو العرفان إلى الانزواء والعزلة؟ 

  • فالعزلة لا بدّ أن يكون لها حساب. يقولون: تكلّم هنا فعليه أن يتكلّم ولا يقصّر ولا يخاف، ولا يتزمّت ويزايد ولا يعتزل اعتزال الصوفيّة الباطلة، لا الصوفيّة التي هي على الحقّ وعلى المسير، بل تلك الصوفيّة التي هي على الباطل وطريقها ومسيرها مخالف، عليه أن يعمل ويتكلّم ويهدي ويعرّف الناس على التكليف، فلا معنى للانزواء في العرفان، الانزواء يعني التخلّي عن التكليف، التخلّي عن المسؤوليّة، التخلّي عمّا قدّره الله للإنسان، فأنت إذ تتنحّى الآن عن المسائل الاجتماعيّة فلماذا تقوم بذلك؟ لأنّك تشعر أن تكليفك هو أنّ عليك أن لا تتصدّى لأمور الناس، فليذهب الآخرون ويقوموا بهذه الأعمال، لا علاقة لنا بذلك، دع أمور الدنيا لأهل الدنيا وأمثال ذلك، والحال أنّ الذي دعاك إلى الاعتزال عن الناس هو عينه دعاك إلى هداية أيتام آل محمّد وإرشادهم بعد أن ضلّوا بسبب عدم وصولهم إلى المبادئ والحقائق، هو نفسه كلّفك، فمتى يجب أن تصل هذه الحقائق إلى أسماع الناس، هل سيسمعها الناس من الهواء والسماء؟! لا شيء من ذلك، هل عليهم أن يحفروا الأرض ليبلغ هذا الكلام مسامعهم؟! وهذا لن يحصل أيضًا فما هي حقيقة الأمر إذن؟ الأمور التي توضع بين أيدي الناس جميعها تنتخب انتخابًا فمن الذي عليه أن يوصل حقائق أهل البيت الخالصة والخالدة والبسيطة والخالية من التزوير والغش ودون الانتساب إلى اليمين واليسار؟ من الذي يوصلها إلى الذين يظهرون الرغبة في العمل، يظهرون الرغبة في الإصغاء إلى الكلام؟! من الذي يحمل هذا الكلام ويوصله؟ من الذي يحمل هذه الأمور إلى آذان الناس؟! 

  • لو أنّ والدنا انتهج نهج العزلة بهذه الطريقة وبهذا الأسلوب فكيف انتشرت هذه المعارف الآن؟ لو تعطّل بيانه وبنانه فكيف يجب أن يصل إلى أيدي الناس ما يراه وليّ الله حقًّا وواقعًا؟ نقول: نحن نتنحّى، حسنًا أنت تنحّ وأنت تنحّ أيضًا وأنت تنحّ فلم يبق أحد حينها يقول الناس: ماذا نصنع نحن؟! ماذا نصنع في أمر هذا يقول فيه شيئًا وذاك يقول شيئًا آخر فأين الكلام المنتسب إلى أهل البيت والذي يجب أن يكون ناقله إنسانًا متّصلاً؟! ففي النهاية ما نسمعه من هذا ومن ذاك… وفي النهاية من يقول اليوم شيئًا ويقول بعد أسبوع كلامًا آخر لا يمكن الاعتماد عليه، من يقول اليوم أمرًا وغدًا أمرًا مخالفًا له بنسبة ۱۸۰ درجة لا يمكن للإنسان أن يصدّقه، فمن عليه أن يصدّق إذن؟ ذاك الذي يقول كلامًا واحدًا من البداية حتّى النهاية، في الرخاء والسهولة يقول كلامًا وفي الشدائد أيضًا يقوله بعينه، في السعة يقول كلامًا وفي الضيق يقوله بعينه أيضًا، في حالة الهدوء يقول كلامًا وعند المشكلات والأحداث والقضايا الاجتماعيّة والمسائل الصعبة والمشكلة وذات الطرق المتشابهة يقول الكلام نفسه، لا يختلف كلامه أبدًا، وليس كالديك الروميّ لكلّ حالة عنده لحن خاصّ بها، عندما يرى أنّ الأمر يدور نحو هذا الجانب يبدأ بسوق كلامه نحو هذا الجانب. عجيب عجيب! هذا الرجل حتّى الأمس كان يقول هذا الكلام فكيف صار مع الجانب الآخر فجأة؟! ثمّ يحدث حدث آخر يغلب فيه ذاك الجانب فترى أنّه يتكلّم بذاك الكلام. فيا عجبًا يا عزيزي ماذا تقول أنت في النهاية؟ ما هو كلامك النهائي لكي نعرف مع هؤلاء أنت أم مع هؤلاء؟! ما هو كلامك؟ يقول أنا من أصحاب الريح، حزبي هو هذا، فهناك أحزاب مختلفة أصحاب اليمين وأصحاب الشمال وأصحاب الرياح والهواء! أينما مالت الرياح يميلون، هذا ما يقوله أمير المؤمنين عليه السلام لا أنا، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «هَمَجٌ رَعَاعٌ اتبَاعُ کلِّ نَاعِقٍ یمِیلُونَ مَعَ کلِّ رِیحٍ»‌۱ فأصحاب الدنيا ليسوا فقط هؤلاء الناس العوام، كلاّ بل هناك معمّمون وعلماء وفضلاء فهذا كلّه دنيا، كلّه دنيا، جميع هؤلاء أصحاب دنيا وينتظرون أن يروا ماذا يحدث، وفي هذا الحدث يمكن لهؤلاء الكبار أن يجتازوا بعافية، لا أنّه ما هو التكليف؟ يصبح الاجتياز بعافية محور انتخاب الكلمات والأعمال، العافية.

    1. بحار الأنوار ج ١، ص ١٨٧

حقيقة السير والسلوك

8
  • ما هو موقف العرفان من البحث عن الراحة والعافية وجعلهما معيارًا للحياة؟

  • ولكن ماذا يقول حافظ سيّد شيراز قدّس الله سرّه؟ لقد سكب من البداية ماء طهورًا على يديه وعلى يدي كلّ من قال إنّه من حزبه، فلحافظ أيضًا تشكيلات وأمر ونهي، وهنيئًا لهؤلاء الذين هم داخلون في جزب حافظ، يقول حافظ الشيرازي: 

  • در مقامات طریقت هر کجا کردیم سِیر***عافیت را با نظر بازی خلاف افتاده بود
  • يقول: في مقامات الطريقة أينما سرنا كانت العافية مخالفة للنظر إلى الوجه الجميل.

  • ما شاء الله حقًّا لقد قال كلمة الفصل، يقول أقصد يتفضّل بالقول، علينا أن لا نقول يقول، علينا أن نقول يتفضّل بالقول۱، فقد قلت ذات مرّة أمام المرحوم العلاّمة: يقول حافظ… فقال: ما معنى يقول؟! قل: يتفضّل بالقول! فقلت: حاضر. ومنذ ذلك الحين وأنا أقول يتفضّل حافظ بالقول: إنّ السالك عندما يخرج من نفسه ويوكل نفسه إلى الله فما معنى العافية؟! وما معنى المراعاة؟ ما معنى الحلول الوسطى؟ ما معنى أن أتصرّف بطريقة لا أتضرّر معها؟! نعم العمل خارج التكليف غلط، والإنسان يعاقب عليه، وعليه أن لا يقوم بذلك، ولكن أن يجعل الإنسان منهجه بطريقة يكون معيار العلاقات فيها طلب العافية فلم يكن لدينا شيء كهذا أصلاً في مدرسة المرحوم العلاّمة، أساسًا لم يكن هناك وجود لأمر كهذا، هناك الكثيرون يعتقدون اشتباهًا أنّ طريق ومدرسة المرحوم العلاّمة ترتكز إلى السكوت وطلب الراحة والعافية، كلاّ، فالتكليف في كلّ زمان يمكن أن يكون بنحو، ففي زمان على الإنسان أن يتكلّم بهذا النحو، وفي زمان آخر عليه أن يتكلّم بشكل آخر، وفي زمان ثالث عليه أن يقول الحقيقة ولو بالكناية والإشارة، عليه أن لا يجلس ساكتًا، يجب أن لا يسود الشعور بأنّه لا أحد يدرك الحقائق، يجب أن لا يسود الشعور بأنّه مهما بذلت من جهود فلن يعي أحد شيئًا، يجب أن لا يسود شعور بأنّه لا أحد يدرك الباطل، كلاّ فالجميع يدركون الباطل، الجميع يميّزون الحرام، الجميع يميّزون العمل المخالف للإسلام، والجميع يعون العمل المخالف لرضى الله، الجميع يعون ذلك ويعونه جيّدًا أيضًا، غاية الأمر أنّ الأمور بالنسبة إلى أصحاب نور الباطن والأعين البصيرة هي واضحة من دون مقدّمات، وأمّا الآخرون فهم يحتاجون إلى مقدّمات أخرى، وفي النهاية سيدركون الحقائق، وفي النهاية سيذوب الجليد وتتكشّف الحقائق.

    1. عادة يعبّر باللغة الفارسيّة عن قال بتفضّل بالقول للاحترام في حين تستعمل قال مع عدم الاحترام، وربّما لا يكون هذا الفارق ملموسًا في ثقافة اللغة العربيّة. (م)

حقيقة السير والسلوك

9
  • در مقامات طریقت هر کجا کردیم سیر***عافیت را با نظربازی…
  • في مقامات الطريقة أينما سرنا كانت العافية مخالفة للنظر إلى الوجه الجميل، النظر إلى الوجه الجميل يعني الذهاب لزيارة الحبيب، زيارة الحبيب ورؤية جمال الحبيب والخضوع للتكليف ولتربية الأستاذ، فهذا معنى النظر إلى الوجه الجميل، فهذا هو معنى النظر إلى الوجه الحسن في شعر حافظ شيراز، فالناظر إلى الوجه الحسن يطلق على من كان يسعى إلى طاعة التكليف ودائمًا تحت توجّه النفحات والألطاف من عالم القدس وعالم الملكوت، فبواسطة تربية النفس وبواسطة تزكية النفس يكون الإنسان تحت هذه النفحات، فالتكليف ليس دائمًا جلوس على مائدة الأرزّ والزعفران، التكليف في كلّ الأماكن موجود، وله في كلّ مكان اقتضاء خاصّ، ففي مكان ما التكليف هو بأن يعمل، وأن يطبّق في الأمور العائليّة، وفي أمور الأقارب عليه أن يطبّق فإذا تأذّوا من الإنسان وتألّموا فليكن فما المشكلة؟ 

  • السير والسلوك هو الالتزام بالحكم الشرعيّ ولو عند الخسارة

  • إن كان لا بدّ أن يسير الإنسان على الحقّ فعليه أن يسير، فإذا تأذّوا منه فشأنهم، فقد يتأذّى شريك الإنسان فشأنه، يقول له: إذا أنت قمت بهذا العمل فستكون المعاملة باطلة ومحرّمة، فيقول الشريك: إذا أردت أن تفعل ذلك فأنا أتركك. فيقول له: اذهب فأنا لا يمكن أن أقوم بمعاملة محرّمة، معاملة مخالفة للشرع، تنحلّ الشركة فليكن، على الإنسان أن يبحث عن أن يحافظ على الشريك، فلو غضّ النظر فإنّه يتحمّل المسؤوليّة لا أنا، لا بدّ أن يحلّ الشركة ولو أدّى ذلك إلى خسارة، فالإنسان لم يأت إلى هذه الدنيا ليتّجر ويعمل ويربح دائمًا، على الإنسان أن يعمل ولو خسر فلا بأس، لم يقل أحد إنّ على الإنسان أن يجعل دائمًا الربح هدفًا له في التجارة والعمل والمعاملات ولا يفكّر بغيره، لقد قال الله: على الإنسان أن يعمل لتحصيل الرزق، عليه أن لا يكسل، وعليه أن يسعى إلى المعيشة و«الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله»۱، فلو سعى ولكنّه خسر في مورد ما، رأى أنّه قطع وعدًا وصارت المعاملة محسومة وفجأة صدر قانون من تلك القوانين التي يصدر منها في كلّ يوم عشر قوانين، ففي الصباح قانون وعند الظهر قانون وفي الليل قانون وعند منتصف الليل قانون، فلو صدر قانون منها فرأى أنّ تلك البضاعة التي قيمتها كذا قد هبطت قيمتها، لقد قطع وعدًا بأن يبيعها، ولو أراد الآن أن يشتريها فلن يتمكّن من شراء ثلث مقدارها، فعليه هنا أن يقدّم كامل البضاعة للزبون، والمشتري متردّد هل سيتراجع أم لا، فيقول له: لقد بعتك. وهذا طبعًا لو لم يكن هناك خيار، يعني عند إلغاء كافّة الخيارات وإسقاطها حتّى خيار الغبن، وإن كان البعض يقولون في خيار الغبن أنّه لا يسقط، وحتّى لو أسقط فإنّه لا يسقط، ولكن في خيار الغبن الأمر هو كذلك أيضًا ولا يختلف عن غيره. فعند إسقاط كافّة الخيارات يقول له: تفضّل هذه لك، ولكنّي خسرت لأنّي إذا أردت أن أشتري ثلثها لا أقدر وأنت تعلم بذلك فإن شئت أن تأخذها فخذها. فلو فعل ذلك فإنّه يتقدّم بمقدار ما يتقدّمه لو صلّى صلاة الليل عشرين سنة، فليس السير والسلوك مجرّد الذكر، كلاّ يا عزيزي السير والسلوك كما قال الشيخ الأنصاري هو العمل بهذه الأحكام الخمسة الواجب والحرام والمستحبّ والمكروه والمباح، هذا هو السير والسلوك، هذا هو كلّ السير والسلوك، فلو أنّ الإنسان لم يكن ملتزمًا فماذا يفعل؟ يكون مثل أهل الدنيا يقول: عفوًا لقد خسرت ولا يمكن أن أسلّمك، عفوًا لم أستلم، عفوًا كذا وكذا وأمثال هذا الكلام. والآخر يقول: لقد بعتني تلك البضاعة فهل خسرت حين بعتها؟! فيقول: لا بعد ساعتين صدر قانون من القوانين التي لا قانون لها. 

    1. الكافي ج ٥، ص ٨٨.

حقيقة السير والسلوك

10
  • ـ صدر قانون ولنسلّم أنّك خسرت فما شأني أنا؟! وحين حصلت البيع والشراء أسقطت جميع الخيارات، وصرت أنا مالكًا لهذه السلعة، وأنت صرت مالكًا لهذا الثمن، فخذ المال. 

  • يقول: أنا لست راضيّا ولا أعطيك، ولا يمكن هذا. 

  • جاء اثنان إلى هنا وكان أحدهما من الرفقاء وقد اشترى منزلاً، وكان الآخر مقلّدًا لأحد هؤلاء العلماء ولا أدري لمن ولا أذكر ماذا قال حول تقليده، جاءا إلى هنا، فرأيت أنّ الحقّ مع هذا الرجل الذي هو من الأصدقاء، وكان قد حدث أمر ما ولا أذكر بدقّة، والذي كان يقول: كلّ ما يحكم به فلان وكلّ ما يقوله فهو مقبول، فقال: أصلاً هذا غير ممكن. فكيف يمكنني أن أجيب وأقول له؟ وكان من العرب العراقيّين وبدأ بمحاولات لتغيير الحكم. 

  • فقلت: لا تصطنع التشويش فإن شئت أن تذهب فاذهب، وإن لم ترد أن تدفع فاذهب، فالحكم الشرعي هو هذا واضح وضوح اثنين زائد اثنين تساوي أربعة ولا شأن لي بما يقوله الناس، فعليك أن تعطيه وإلاّ فإنّ الله يعاقبك، تفضّل لا طاقة لي. فرأيت أنّهما يتحدّثان معًا، فصعدت إلى الطابق العلويّ وقلت لهما: إن شئتما أن تتصارعا فتصارعا فقد قلت كلامي وأوكل المجلس من الآن فصاعدًا إليكم فالمكان واسع، ومقدّمات المصارعة أيضًا موجودة في باحة الدار حيث يمكنكم أن تجدوا أشياء تفيد لما بعد الحكم وما بعدى المشكلة وذهبت إلى الطابق العلويّ. فهذا الأسلوب هو أسلوب الناس. 

  • ولكن ماذا يقولون في السلوك؟ 

  • يقولون إذا وعدت وعدًا فأوف به، هذا هو معنى السلوك، عليك أن تقوم بما وعدت وانتهى الأمر، ولا معنى لأن يحاول الإنسان التملّص والتخلّص يمينًا وشمالاً وإلى الأعلى وإلى الأسفل، ففي النهاية قد يصيب الإنسان أمر ما، فالحياة فيها أحداث يختبر الله بها الإنسان ويمتحنه، وهي للجميع أيضًا، فالمسألة ليست مسألة معاملات فحسب، فهناك علاقات أخرى وأمور أخرى ترتبط بالمجتمع والملاحظات حول مجرياته، فهناك يمتحن الإنسان ولا يبقى الأمر على ما هو عليه هكذا، يمتحن وهذا الامتحان هو للجميع. 

  • وعلى كلّ حال فإنّ هذا الأمر وهذا الموضوع يتبلور ضمنه سلوك الإنسان، وقد رأيت أنّ المرحوم العلاّمة التفت إلى ذلك الرجل وقال له: لا تتصوّر أنّ المهمّ في السلوك هو الذكر والصيام وأمثال ذلك، فإلى أيّ حدّ يمكنك أن تسلّم نفسك في هذه المسائل التي هي مسائل اجتماعيّة؟ فقال: اترك لي الاختيار في تلك المسألة الخاصّة وذكر أمرًا معيّنًا، وفي غيرها أنا تحت أمرك! 

حقيقة السير والسلوك

11
  • فقال له: إنّ تلك المسألة هي التي كنت أقصدها وهي التي كنت أبحث عنها وقد وضعت يدك أنت عليها وتريد أن تستثنيها. فأنت عليك أن تسلّم في هذه المسألة لما أقوله بنسبة مائة في المائة. 

  • فقال ذلك الرجل: هذا الأمر مشكل بالنسبة إليّ. 

  • ـ حسنًا إن كان مشكلاً ففي أمان الله ومضى وانتهى الأمر ولم يحصل بينهما ارتباط. 

  • هل يعلم وليّ الله خيرًا منك أم أنت تعلم خيرًا منه؟ أيّكما أخبر في معرفة الأحداث والأمور، فالأمر دقيق جدًّا، الأمر دقيق جدًّا. 

  • اليأس والأمل 

  • فذلك الجانب الذي لدى الإنسان والذي قلنا إنّه جانب اليأس عند الإنسان، فهو حقيقة موجودة في الإنسان وفي مقابلها الأمل، الأمل بتلك الأمور التي يمكن للإنسان أن يصل إليها، الأمل بالتوقّعات التي لا وجود لها وغير متحقّقة في الوقت الحالي ولكن يمكن للإنسان أن يصل إليها، فهذان الجانبان موجودان في الإنسان، يقول الإمام عليه السلام إنّ هذين الجانبين موجودان لديّ، جانب اليأس والقنوط، فأنا واقعًا لديّ يأس وقنوط، واقعًا لدي هذا، والله العظيم أقسم بأنّ الإمام السجّا عليه السلام عندما قال هذه الجملة لله "إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت" وإذا رأيت كرمك طمعت، هاذان الجانبان من اليأس والطمع والأمل والله هما كانا موجودين عند الإمام السجّاد، كانا موجودين، وقد قلت إن على الرفقاء أن يفكّروا في هذا الأمر، وأنّه كيف يمكن لإنسان مثل الإمام عليه السلام الذي وصل إلى مرتبة العصمة المطلقة و الطهارة المطلقة ولديه جانبان متضادّان ومتقابلان بنسبة ۱۸۰ درجة، لا زاوية منفرجة، أحدهما جانب اليأس الكامل ذلك اليأس الكامل الذي يبعث على الفزع، والفزع يعني الالتهاب والرعشة والقلق والخوف الشديد والذي يوقع الإنسان في تقلّب الأحوال، فهذا الجانب الذي ينعكس في الخارج هكذا، والفزع فعل خارجيّ يمكن أن تكون له أسباب مختلفة، والخوف الذي يمكن أن يحصل فجأة لدى الإنسان، فبينما أنت تمشي في الطريق مثلاً تواجه في الزقاق حيوانيًا مفترسًا كالذئب مثلاً فأيّة حالة تصيبك؟ إنّها حالة الفزع، أي الحالة التي لا أمل فيها بالخلاص والنجاة، فلو كان عند الإنسان أمل لا يحصل لديه فزع، فلو كنت في الشارع في الشتاء وقد حدث هذا أحيانًا حيث يأتي الذئب والحيوانات المفترسة إلى أطراف المدينة، فلو كنت في السيّارة ورأت حيوانًا يحصل لديك تغيير، ولكن لا يحصل لديك فزع، لماذا لأنّك ترى أنّك في السيّارة وهي آمنة وأبوابها مغلقة، وهو يسير وربّما يمكنك أنت بهذه السيّارة أن تتغلّب عليه، فتقول يمكنني أن أتقدّم وأقضي عليه وأدوسه، فحينها لا تحصل لديك حالة الفزع، يحصل الفزع عندما تكون وحيدًا وليس معك آلة للدفاع عن نفسك فبينما أنت تمشي على قدميك وتتفكّر في السماء والفضاء فيأتيك فجأة من وراء ظهرك كلب أو حيوان أو ذئب مفترس ويقف أمامك ويقول لك: هل من مبارز، حينها ماذا تصنع، حينها تحصل حالة الفزع، عندما يتبدّل أمل الإنسان بالخلاص والنجاة إلى يأس، أمّا لو كان بيدك بندقيّة أو آلة للدفاع عن نفسك فلا يحصل فزع، يحصل خوف، أمّا الفزع فهو أن تفقد السيطرة على نفسك وتفقد السلطة عليها، فهنا الفزع 

حقيقة السير والسلوك

12
  • الإمام عليه السلام يقول: عندما أنظر إلى ذنوبي أرى نفسي فقيرة إلى درجة وأرى نفسي بعيدة إلى درجة عن الرحمة بحيث أنّي لا أجد بأيّ شكل من الأشكال حتّى احتمال أن أتمكّن من مواجهة هذه الذنوب وهذا البعد عن الله، فلا أمل في ذلك، لقد احتلّت الذنوب كامل وجودي، وأحاطت الخطايا والزلاّت بنفسي، ولا أملك أملاً وقدرة واستعدادًا لمواجهة ذلك، فماذا يحصل؟ يحصل فزع، فأنا أرى جهنّم، فالمسألة لا تنتهي هنا، المسألة لا تنتهي بأنّي ارتكبت ذنبًا وابتعدت عن رحمة الله، فالمسألة لا تنتهي عند هذا الحدّ، وطبعًا هذه هي المرتبة الدنيا أمّا الإمام فلا ينظر إلى جهنّم فهذا هو الحدّ الأدنى وهو بالنسبة لنا نحن، فنحن لو حصلت لنا هذه الحالة وطبعًا لم تحصل لنا حتّى الآن فنحن مطمئنّو البال ولم يحدث لنا أمر كهذا، وإن شاء الله يحدث، وحينها سندرك بعض الحقائق، فما دام لدينا أمل بأنّنا يمكن أن نسير نحو الله ونحصل رضا الله بواسطة وجودنا الشريف هذا، الشريف جدًّا وأنّه يتأتّى منه تحصيل رضا الله فليس هناك أيّ فائدة في نظر أهل المعرفة

  • بر سر بازار عشق کس نخرد ای رفیق‌***از تو به یک جو هزار کشف و کرامات را
  • يقول: لا أحد يشتري منك في سوق العشق أيّها الرفيق حبّة شعير بألف كشف وكرامة

  • فالسوق يختلف، فهناك أسواق إلى ما شاء الله، هناك سوق أهل الدنيا وهو هذه المسائل ولا أزعم أنّهم من أهل الذنوب والمعاصي، كلاّ بل هؤلاء الناس المتعارفون الذين يصلّون. وهناك سوق الكرامات وسوق الإخبار عن الغيب وسوق الإخبار عمّا وراء الجدار، وسوق ماذا قال فلان؟ فلكلّ شيء سوق، وسوقه مزدهر إلى درجة أنّه لا مكان فيه لإبرة واحدة، ازدحام ازدحام، فلان لديه حالة فلنذهب إليه، لديه جلسة الليلة، وإذا ذهب إليه الإنسان فإنّه ينظر إلية نظرة واحدة فيدرك ماذا فعل، فلا بدّ من الالتفات والانتباه، وأمثال هذا الكلام. 

  • حفظ كرامة المؤمن في مدرسة العرفان (الجنب في مجلس الذكر) 

  • يقول أحدهم أنّه جاء أحد الأصدقاء في زمان المرحوم العلاّمة إلى مشهد ليلتقي به، ولم يكن قد التقى به حتّى ذلك الحين، وكان شابًّا ولا أدري الآن شيئًا عن أخباره وأين هو وفي أيّة حالة، فجاء وكان ذلك اليوم أحد أيّام شهادات أحد الأئمّة ولمّا جاء كان المجلس قد انتهى والمرحوم العلاّمة قد دخل إلى غرفته، ولمّا أراد هذا الشابّ أن يأتي احتاج إلى الغسل فقال إذا اغتسلت الآن فلن أتمكّن من رؤية العلاّمة لذلك جاء على حالته تلك ليرى العلاّمة وجلس هناك وكان المجلس قد انتهى، وكان مسؤول الضيافة حينها فلان فكان يقدّم الشاي وما شابه، وكان هناك قانون أنّه إذا ما انتهى المجلس فلا يقدَّمُ الشاي لأحد وعلى الناس أن يتفرّقوا، فقد طلب المرحوم العلاّمة أنّه إذا انتهى المجلس يخرج الجميع ولا يبقى أحد، وكان يصرّح بأنّ على الجميع أن يغادروا ولا يبقى أحد، وبالطبع فلم يقدَّم الشاي لهذا الشابّ المسكين، وكان يقول في نفسه: لقد قطعت كلّ هذه المسافة ولم أحظ حتّى بكوب من الشاي! فليقدّموا لي الشاي على الأقلّ! فكان جالسًا هكذا، وفجأة دخل المرحوم العلاّمة من ذلك الباب وقال أحضروا لهذا الشابّ الشاي. ثمّ أسرّ في أذنه قائلاً: اغتسل أوّلاً ثمّ بعد ذلك تعال إلى هنا! أليس هذا هو الصواب؟ 

حقيقة السير والسلوك

13
  • حسنًا فأولياء الله ليس من دأبهم أن يقوموا ويخبروا الناس بأمثال هذه الأمور، ولكن في المقابل إذا نظرت ترى أنّ أمثال الحاج الملا آغا جان والذي انتشرت كتبه في كلّ مكان يعلن من على منبر الإمام الحسين عليه السلام إنّ هنا جنبًا في هذا المجلس فليخرج وليغتسل ولا يفسد علينا مجلسنا! حسنًا أيّها الحاج ملا آقا جان من الذي أجاز لك أن تهتك حرمة مؤمن؟ من الذي قال لك ذلك؟ لو كان الإمام الحسين في هذا المجلس فهل كان سيصنع هكذا؟ لو كان الإمام الحسين يصنع ذلك فأنا لا أقبل به! أنا أقبل بالإمام الحسين الذي لو كان هناك أسوأ من تلك الحالة بألف مرّة لما أراق وجه مؤمن! فإراقة ماء وجه المؤمن وهتك حرمته مذمومة عند الله إلى درجة أنّه لو كان هناك أسوأ من هذا الرجل بألف مرّة لما أقدم الرجل الإلهيّ على إراقة ماء وجهه، فبأيّ حقّ تعلن من على المنبر وبين الناس المجتمعين وبصوت عال بأنّ فلانًا كذا؟! ثمّ لا يتركه بل يقول: لئن لم يخرج لأخبرنّ بنفسي عنه، إنّ الذي سيخرج طوله متران. قل ولا تخف شيئًا! ولا يتركه فيقول: اخرج وإلا قلت، وما لم تخرج فلن أبدأ بالحديث وبالمجلس! هذا المجلس بعد ذلك لم يعد مجلس الإمام الحسين، هذا المجلس مجلس التخيّلات والتوهّمات. وقد كان له مجلس كبير ذلك الموقّر! إنّ نفسك غير الموقّرة تطرح نفسها هنا بدلاً من الإمام الحسين وتأتي بالإمام الحسين وتجلسه مكانها، وذلك لأنّ هذه الأمور ليست بالأمور التي يتكلّم بها سيّد الشهداء، إنّ سيّد الشهداء يحفظ حرمة المؤمن، ويحفظ كرامة المؤمن! إن كان هناك جنبٌ فليكن، عندما يريد أن يغادر تسرّ في أذنه أن لا تأت في المرّة القادمة على هذه الحالة. فلا إشكال في ذلك لا إشكال، فهكذا يكون قد حُفظت حرمته ولُفت نظره أيضًا في الوقت نفسه، ولم تحدث أيّة مشكلة، فهذه الأمور خاطئة. 

  • ليس لدينا في مدرسة العرفان أمثال هذه الأعمال، ليس لدينا في مدرسة العرفان هتك لحرمة المؤمن، في مدرسة العرفان حفظ كرامة المؤمن مقدَّمة على كلّ شيء. 

حقيقة السير والسلوك

14
  • ما حقيقة الفزع عند الإمام عليه السلام وتوبته؟

  • فهذه الحالة التي لدى الإمام عليه السلام وهذا الجانب الذي لديه قلت للرفقاء إمّا أن يكون غير حقيقيّ والمقصود من الكلمات التي قيلت ليس بيان الواقع، بل بيان أمر مجازيّ، فمثلاً عندما يقول الإمام: إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت فهو يعني أنّه عندما أنظر إلى جانب الذنوب أي تلك الحالة من عدم التوجّه، والالتفات إلى الكثرات، وأمثال هذه التأويلات. والمراد من الفزع هو القلق والحزن والسأم. حسنًا فلو كان الأمر هكذا فلا بدّ أن يكون معنى وإذا رأيت كرمك طمعت أيضًا هكذا فيكون المراد من الكرم مجرّد اللطف، والمراد من الطمع لا بدّ أن يكون هو التمايل وأمثال ذلك دون أن تكون له حقيقة. فهذا لا معنى له، وإثبات إرادة غير المعنى الموضوع له وغير الحقيقي من كلام المتكلّم من دون قرينة متيقّنة صارفة ليس جائزًا، فلا يجوز أن تحمل كلام المتكلّم من دون قرينة متيقّنة ويقينّة على عدم إرادة ذلك المعنى الحقيقيّ والمراد الحقيقيّ، وأن يقوم الإنسان بحمل كلام المتكلّم وكلام الإمام السجّاد عليه السلام على غير معناه، فأيّة قرينة على ذلك؟ 

  • يمكن أن تقول: القرينة هي الذنب، فهل للإمام السجّاد ذنب؟! هل هناك معنى لأن نقول: إنّ الإمام السجّاد يذنب؟! فالإمام لا يذنب، وما دام الإمام لم يذنب فإذن عندما يقول الإمام: «إذا رأيت مولاي ذنوبي فزعت» فهو يقصد خلاف المعنى الحقيقيّ ومراده شيء آخر، مراد الإمام هو الالتفات إلى الكثرات.

  • معنى حديث: إنّي ليغان على قلبي

  • فمثلاً رسول الله كان يقول كلامًا كهذا وأنّ العلاقة مع الناس وعدم التركيز التام وبنسبة مائة في المائة في المقام الربوبي يؤدّي إلى نوع من الخدشة ونوع من الغبار يرتفع بواسطة الاستغفار، وأحياناً كان النبيّ يقول: «إنَّهُ لَيغَانُ عَلَى قَلبِي وَ إنِّي لَأستَغفِرُ اللَه فِي کلِّ یومٍ سَبعِينَ مَرَّة»۱. وهو يعني أنّ غبارًا يغطّي على قلبي فيغان عليه يعني يُستر بستار «وإنّي لأستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة»، فالاستغفار ليس لنا وحدنا، فرسول الله أيضًا كان يستغفر، ولكن بين استغفارنا واستغفار رسول الله فارق بمقدار ما بيننا وبين رسول الله من فارق، فالاستغفار الذي نستغفره يختلف عن استغفار رسول الله، ومعنى ليغان على قلبي أنّه يصيبه غبار وحجاب وطبقة من الغبار، فبواسطة ماذا تحصل هذه الطبقة؟ بواسطة معاملة أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف والذين كانوا يأتون إليه ولكلّ منهم حاجة ومطلب، ولسان حال النبيّ يجب أن يقوله سيّد شيراز حين يقول: 

    1. مستدرك الوسائل ج ٥ ص ٣٢٠و بحار الأنوار ج ١٧ ص ٤٤ باب ١٥

حقيقة السير والسلوك

15
  • من که ملول گشتمی‌از نفس فرشتگان‌***قال و مقال عالمی‌می‌کشم از برای تو
  • يقول: «أنا الذي كنتُ أتكدّر بأنفاس الملائكة لأنّها تصرفني عنك، صرتُ أتجرّع لأجلك عَذْلَ الخلائق وأتحمّل كلامهم!».۱

  • فعلى النبيّ الآن أن يجلس مع هؤلاء ويتحدّث معهم، ومعلوم ما هو داعيهم ومقصدهم وهدفهم، فيأتي ويبيّن لهم، ولكن رغم أنّه في مقام التكليف ولا بّد أن يقوم بذلك، إلاّ أنّ مجرّد ذلك التعاطي معهم في مرتبة الصفات والبحث والمناقشة معهم ـ والحال أنّه ينبغي أن يكون مرتبطًا بالذات ـ فهذا الالتفات عن الذات إلى الصفات وآثار الصفات يؤدّي إلى أن «يغان على قلبي» فلا بدّ أن أستغفر الله سبعين مرّة.

  • معنى حديث: قم يا بلال فأرحنا بالصلاة

  • لذلك كان إذا حلّ وقت الصلاة يقول: «قم يا بلال فأرحنا بالصلاة»٢.وخلّصنا من الاشتغال بالصفات والآثار واجعلنا متوجّهين إلى الذات، وعندما يرتفع نداء الله أكبر كانت روح النبيّ تحلّق من بدنه إلى السماء، كان يرى أنّه لا يمكن لهذا وذاك أن يأتوا ويتحدّثوا معه بعد ذلك، فيقول: آه لقد استرحنا، وكانوا يصطفّون صفوفًا صفوفًا ويقولون: نحن ونحن، نحن الذين يأنس بنا، ونحن الذين لا يحول بينه وبين أحد غيرنا، فنحن الذين نبقى. كانوا يخجلون ولا يتقدّمون عند الصلاة فيتحدّثون مع النبيّ، فهنا يقول: «قم يا بلال فأرحنا». وواقعًا على الإنسان أن يفكّر في أنّه ما هي الحالة التي كان فيها النبيّ؟! 

  • الفارق بين واقع صلاتنا وصلاة النبيّ صلّى الله عليه وآله

  • كنت في مجلس كان فيه كبار العلماء من الطراز الأوّل، وباستثناء اثنين أو ثلاثة من الذين قاموا في أوّل الوقت فصلّوا صلاة المغرب والعشاء ونحن حيث صلّينا في إحدى الشُرَف، فإنّ ما يقارب السبعة عشر أو الثمانية عشر منهم بقوا إلى أواخر الليل يتحدّثون ولم يبق حتّى تصبح صلاة المغرب قضاء سوى نصف ساعة، فقاموا وتوضّؤوا وصلّوا لأنّهم لو تركوها حتّى يصلوا إلى بيوتهم لصارت قضاء، أخذوا يتحدّثون! فأين «قم يا بلال فأرحنا» وأين هذه الحالة؟! فأين ترون هذا الأمر؟ وما هو الفرق؟ الفرق هو أنّ الصلاة قد استبدلت بالمسائل الاجتماعيّة، فتمام وجود النبيّ وهكذا العرفاء، وقد رأيت بعيني فلو لم أرَ لما تحدّثت، فعندما كان يقترب الوقت من الصلاة كنت أشعر أنّ حال السيّد الحدّاد قد تغيّر، قبل عشرين دقيقة من الصلاة كنت أرى أنّه شيئًا فشيئًا لا يمكن لأحد أن يتكلّم معه، شيئًا فشيئًا كان يطأطئ رأسه ولا مجال للكلام وأمثال ذلك، وكان يستمرّ هكذا حتّى يحلّ وقت الصلاة فيقوم للصلاة ويتهيّأ لها. فعن أيّ شيء يكشف ذلك؟ يكشف عن أنّ كلّ وجوده متوجّه نحو ذلك العالم وقد تورّط بالكلام مع هذا ومع ذاك، من باب الضرورة يتحدّث بهذه الطريقة، وعندما يرى أنّه حان ذلك الوقت يختلف وضعه ويمضي. أمّا نحن فلا، نقوم بجميع الأعمال نتدخّل في كلّ شيء ونتحدّث عن كلّ مكان عن الزقاق والشارع والحيّ وبيت الجيران وعن طهران والمحافظات وجميع الأماكن ونقوم بجولة عامّة حول الكرة الأرضيّة، فإذا ما جلنا جميع الأماكن جيّدًا وحصلنا على المعلومات وقضينا وقتنا لبضع ساعات في اللغو والكلام الفارغ والمزخرفات، ولكيّ لا نعاقب لأنّ الصلاة ستفوت، نصلّي حتّى لا تصبح الصلاة قضاء لو وصلنا إلى البيت. فهذه الصلاة يضرب بها وجهك فأيّة صلاة هي هذه؟! أيّة صلاة؟! أهذه هي معراج المؤمن٣؟ أهذه هي «قربان كلّ تقيّ»٤ أهذه هي التي «إن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها»٥؟ 

    1. «ديوان حافظ الشيرازي» ص ٢۸٤، الغزل ٤۱۱، طبعة محمّد القزويني و الدكتور قاسم غني، مطبع سينا، طهران
    2.  كنز العمّال : ٢۰٩٥٤.
    3. جاء في هامش كتاب أنوار الملكوت للعلامة الطهرانيّ رضوان الله عليه ج۱، ص ۷٣: هذه الجملة ليست برواية، ولم تذكر في أيّ من كتب الشيعة أو السنّة بعنوان رواية، بل إنّما يذكرها فقط الملّا محمد كاظم الخراساني في باب الصحيح والأعمّ من كفاية الأصول في صفّ الآية القرآنيّة: {الصَّلاةَ تَنْهى‌ عَنِ الْفَحْشاءِ} وروايتي: [الصلاة] عمود الدين والصوم جنّة من النار، ويدلّ ظاهره أنّها رواية، إلّا أنّ هذا خطأ واشتباه. وقد رأيت مؤخّراً أنّ المرحوم صدر المتألّهين قد أسند هذه الرواية في تفسيره لسورة الجمعة (ص ٢٢٥، من الطبعة الحروفيّة) إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، وذكرها أيضاً في تفسيره لسورة الأعلى (ص ٣٥۷) من دون إسنادها إلى رسول الله. [وقد وردت في مستدرك سفينة البحار، ج ٦، ص ٣٤٣ نقلًا عن العلامة المجلسي في كتاب بيان الاعتقادات‌]. 
      وذكر في هامش كتاب شرح فروع الكافي أن أقدم مصدر وردت فيه هذه العبارة و نسبت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله تفسير الرازي، ج ۱، ص ٢٦٦.
    4. الكافي ج ٣ ص ٢٦٥
    5. وسائل الشيعة ج ٤، ص ٣٤.

حقيقة السير والسلوك

16
  • لذا فإنّ من يلتفت إلى الذات يلتفت إلى الأسماء والصفات، لا صفات الكثرة، بل الاتفات إلى تلك الصفات، الصفات الربوبيّة، الالتفات إلى المبدأ، جميع حركاته وسكناته تنطبق على ذلك، هذا هو الفرق بين أولياء الله وغيرهم وهؤلاء الذين يفعلون كلّ شيء ويتركون الصلاة إلى النهاية، هذا جميع حركاته وسكناته تنطبق على ذلك أي جميع أفكاره وتصرّفاته وعلاقاته مع الناس هي على هذا الأساس، كلّها تتمحور حول ذلك. 

  • أذكر أنّ بعض هؤلاء العلماء من أهل المسجد وأمثال ذلك قال لي إنّ عددًا من أئمّة جماعة المساجد ولن أذكر في أيّ مدينة وأيّ منطقة، ولكن أعلم أنّ بعضًا منهم عطّل درس التفسير الذي يلقيه في المسجد بعد الصلاة لكي يشاهد برنامجًا على التلفاز كان يعرض في إحدى الليالي كلّ أسبوع مرّة أو مرّتين، لقد عطّله من أجل مشاهدة هذا البرنامج الذي لا يدرى ما هو، وتلك المرأة التي لا يدرى حالها وصارت عامّة المنافع! لقد عطّل المسجد والقبّة المئذنة والمحراب والمنبر والناس والموقع فهل يمكن أن تصدّقوا؟! أنا لا يمكن أن أعي هذا، حقًّا لا يمكن أن أدرك وأفهم وأتقبّل كيف يمكن لعالِم أن يفعل ذلك؟! فلم يكونوا قليلي العلم جاهلين بل كانوا فضلاء درسوا جيّدًا ولا يزالون على قيد الحياة، بعضهم توفّوا وبعضهم لا يزالون على قيد الحياة، تركوا درس التفسير وآيات القرآن وروايات الأئمّة وهدايتهم وكلّ ذلك ليذهبوا ويشاهدوا صورة، ما شاء الله اذهب وشاهد صورة، فآية القرآن تتنحّى جانبًا لتشاهد صورة! وروايات الأئمّة تتنحّى جانبًا لتشاهد صورة، وقصص العلماء والأئمّة المفيدة تتنحّى جانبًا لتشاهد صورة، انظر كم هذه الصور جميلة وتأتي تباعًا وتمضي، واللطيف أنّه هو نفسه كان يذهب إلى المنزل بسرعة ويضع نظّارته محدّقًا كي يرى بشكل جيّد تلك الزوايا ويدقّق فيها، ثمّ يذهب إلى الآخرين ويشرح لهم، فهذا هو هدفه، فكلامه الذي كان يقوله هذا هو هدفه، ليس هذا مضحكًا ولكنّه مبك! على الإنسان أن يبكي حقًّا على هذا الزمان الذي غدا فيه عالِم الدين يتعامل مع الناس هكذا أن قم وشاهد فيلمًا واستأنس به، فهل سيكون لكلامه نور عندما يفسّر، لقد قلت لكم إنّ الساعات الأربع والعشرين كلّها ستصبح مثل تلك العشر دقائق، فانظروا إلى تفسيره فإنّه يصبح حديثًا عن تلك المرأة التي شاهدها في ذلك الفلم، يصلّي بسرعة كيلا يفوته الفلم، وأنا أقسم بأنّه عندما يقول: {غير المغضوب عليهم ولا الضالّين}۱ فإنّه يفكّر به، عليّ أن أذهب بسرعة وأصل باكرًا، فقد كان يقرأ مثلاً عادة سورًا طويلة ولكنّه يقرأ الآن سورة الكوثر وقل هو الله أحد لكي ينتهي بسرعة هو وهؤلاء الناس، فقد وافق شنّ طبقة، لقد صار إلهه فلمًا، وصار صيامه فلمًا، وصارت صلاته فلمًا، وقوله للنّاس: "لا تكذبوا" صار فلمًا، وقوله: "لا تغتابوا" صار فلمًا، كلّ شيء فِلمٌ كلّ شيء، لقد سيطر على كامل وجوده الوصول إلى هذا الأمر. 

    1. سورة الفاتحة (۱) مقطع من الآية ۷. 

حقيقة السير والسلوك

17
  • لقد تعبت. وسنرى إن شاء الله… انظروا بأنفسكم وبإنصاف كم الساعة! 

  • لقد دخلنا في الموضوع وتحدّثنا عن جانب منه وإن شاء الله نوفّق بحقّ صاحب هذا الدعاء العجيب الذي يناجي به الله بهذه الحقائق أن ننال طرفًا منها نحن أيضًا لكي نعلم ماذا هناك، وأنّ هذا العالم على أيّ أساس يدور، وما هي الأمور التي فيه ونحن عنها غافلون.

  • إن شاء الله يفتح الله أعيننا ويجعل آذاننا سميعة وقلوبنا سليمة وفكرنا منشرحًا للوصول إلى هذه الحقائق، وهذا أمر عجيب جدًّا ومسألة عجيبة وأنّه لماذا يجب أن ينشرح الفكر أوّلاً ويدرك الأمر والحقيقة ثمّ يشمل ذلك التوفيق الإلهيّ الإنسان لأن يكون في ذلك الطريق أيضًا؟!

  •  

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد