المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء أبي حمزة
التاريخ 1398/09/10
التوضيح
لماذا يستحيل أن نسأل الله تعالى عن أفعاله؟ كيف نجيب عن شبهة ابن كمّونة في باب نفي الشريك عن الله من خلال عدم تناهي ذاته تعالى؟ هل تدخل الموجودات بأجمعها في مُلك الباري عزّ وجلّ؟ وكيف ينسجم ذلك مع نفي الجبر والتفويض؟ هل يستطيع الإنسان بما هو إنسان أن يمدح الله تعالى ويصفه؟ من هو الموجود الوحيد القادر على وصف الله تعالى والثناء عليه؟ هي تساؤلات في ضمن تساؤلات أخرى سعى سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لشرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ الشريف.
هو العليم
مدح الله تعالى ووصفه بين الاستحالة والإمكان
شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثامنة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله مِن الشّيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصَلَّى اللَهُ على محمّدٍ وآلِهِ الطاهِرينَ
ولَعنةُ اللَهِ على أعدائِهِم أجمَعينَ
السرّ في استحالة سؤال الله تعالى عن أفعاله
«لا تُسْأَلُ عَنْ فِعْلِكَ، وَلا تُنَازَعُ فِي مُلْكِكَ، ولا تُشَارَكُ فِي أَمْرِكَ، ولا تُضَادُّ فِي حُكْمِكَ، ولا يَعْتَرِضُ عَلَيْكَ أَحَدٌ فِي تَدْبِيرِكَ؛ لَكَ الْخَلْقُ والْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ».
فيا إلهي، لا يستطيع أيّ أحد أن يسأل عن فعلك، أو يستفهم عن علّته، أو أن يعترض ويُؤاخذك عليه؛ فلا يملك أيّ أحد هكذا قدرة!
وقد استُنبطت هذه الفقرة من الآية القرآنيّة الكريمة:
﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾؛۱ أي أنّ الله تعالى لا يُسأل عن الأفعال التي يقوم بها؛ خلافًا للناس الذين سيكونون موردًا للمساءلة جرّاء أعمالهم.
فلماذا سيُساءل الإنسان عن الأفعال التي يُؤدّيها؟
لأنّ فعله قد يكون منطبقًا على الحقّ، وقد لا يكون كذلك؛ فإذا كان منطبقًا على الحقّ، فلن يُساءل عليه، وإلاّ سيكون موردًا للمساءلة والمؤاخذة؛ وأمّا الباري عزّ وجلّ، ففعله منطبق على الحقّ دائمًا، ولا سبيل لعنوان البطلان إليه؛ وعلاوةً على ذلك، فإنّ الفعل الذي يُؤاخذ عليه هو الذي يكون قد أُدّي بداعي مصلحة خارجيّة، وملاحظة هذا الأمر؛ في حين أنّه لا توجد أيّة مصلحة خارجة عن ذات الله تعالى، لكي يصدر منه الفعل بداعي تحقيق هذه المصلحة؛ فلو كانت هناك مصلحة خارجة عن الذات الإلهيّة، وكان الله يُؤدّي أفعاله لتحقيق هذه المصلحة، سواءً كانت عائدة إليه أم إلى غيره، لكان تعالى مثل الممكنات! ولهذا، فإنّ كلّ مصلحة أخذناها بعين الاعتبار لا تكون خارجة عن إرادة الله تعالى وذاته.
وعليه، فإنّ الفعل الذي يصدر من الله تعالى هو عبارة عن أثر من آثار ذاته الواجبة الوجود والحقّة؛ وبالتالي، يكون فعله واجبًا للوجود وحقًّا؛ وحينئذ، أيّ سؤال يُمكننا أن نوجّهه لهذا الفعل؟! إنّ السؤال عنه غير معقول! خلافًا للموجودات الأخرى؛ إذ بغضّ النظر عن الباري تعالى، فإنّ فعل كلّ موجود صُبغ بصبغة الإمكان قد يتطابق مع الحقّ، أو لا؛ ولهذا، يقع موردًا للسؤال والمساءلة.
عدم تناهي الذات الإلهيّة المقدّسة والجواب عن شبهة ابن كمّونة في باب نفي الشريك عن الله تعالى
«وَلا تُنازَعُ فِي مُلكِكَ»؛
لأنّ الذي يُريد منازعتك في ملكك، إمّا أن يكون في نفس مستواك من حيث القدرة وسعة الحكومة، وإمّا أعلى منك، وإمّا أدنى منك في ذلك، حيث لا يخرج الأمر عن هذه الاحتمالات الثلاثة.
فإذا كان في نفس مستواك، فإنّ فَرضَ هذه المسألة يُؤدّي بنفسه إلى بطلانها؛ ببيان أنّه: سنكون حينئذ معتقدين بوجود موجود في عرض الله يكون معادلاً ومساويًا له من حيث القدرة والعلم والحياة والأسماء والصفات، فيُنازعه تعالى في مُلكه وقُدرته؛ فعلينا في هذه الحالة افتراض هكذا موجود.
وهذا بعينه هو الإشكال الذي طرحه ابن كمّونة، ومفاده:
إن قلتم إنّ الله تعالى واحد وواجب الوجود، وهو يُدبّر هذا العالم بأجمعه عن طريق صفاته وأسمائه، فإنّنا نقول: أيّ إشكال في أن نفرض إلهًا آخر يتّصف بكافّة هذه الخصائص، بحيث يشترك كلا الإلهين في تدبير هذا العالم.. كلّ واحد منهما بنحو مستقلّ؟!۱
قُدّمت العديد من الأجوبة عن هذا الإشكال؛٢ غير أنّ الجواب الصائب والمتين جدًّا هو الذي مفاده: إنّ القول بوحدة الله يردّ فرض إله آخر؛ لأنّه تعالى غير متناهٍ في ذاته وصفاته وأسمائه؛ أي أنّه غير محدود بأيّ حدّ، ولا مقيّد بأيّ قيد على مستوى سعته الوجوديّة؛ وحينئذ، نقول: إنّ إلهنا الذي فرضناه أوّلاً، إمّا أن يكون كلاًّ من وجوده وعلمه وحياته وقدرته واسعًا، إلى درجة أنّه يشمل حتّى الإله الآخر؛ وبالتالي، لا يُمكننا أن نعقل وجود إله ثانٍ في مقابله؛ أي أنّنا لا يُمكننا تصوّر ذلك؛ وإمّا ألاّ يشمله، ويكون سياج حدّه الوجوديّ متّصلاً بسياج الحدّ الوجوديّ لهذا الإله الثاني؛ وبالتالي، يكون إلهنا متناهيًا، وغير بسيط، بل محدودًا بهذا الحدّ!
هذا، وقد ثبت بالبراهين الفلسفيّة أنّ: كلّ موجود ذي حدّ له ماهية، والماهية مرتبطة بالإمكان، ولا تنسجم مع الوجوب.٣
يقول الحكيم السبزواريّ:
الحَقُّ ماهيَّتُهُ إِنِّيَتُهُ | *** | إذ مُقتَضَى العُرُوضِ مَعلُوليَّتُهُ٤ |
ماهية الله تعالى وذاته هي عين إنّيته ووجوده؛ ولو فرضنا أنّ له ماهية مغايرة لأصل ذاته ووجوده، للزم من ذلك أن تكون هذه الماهية عارضة على وجوده؛ وهذا يؤدّي للحاجة والمعلوليّة؛ فيصير الله تعالى حينئذ معلولاً وليس علّة.
ومن هنا، فإنّ افتراض وحدة الله، وأنّه تعالى واحد لا يُبقي الاحتمال والتصوّر لوجود أيّ موجود غيره، حتّى نفرضه في مقابله؛ هذا كلّه مع افتراض أنّه تعالى غير متناه؛ وعليه، فإنّ شبهة ابن كمّونة لا تُدفع إلاّ بأن نقول: إنّ الذات الإلهيّة المقدّسة غير متناهية؛ لأنّها واجبة؛ وإلاّ، لو كانت متناهية، لكانت ممكنة، ممّا يلزم منه معلوليّتها؛ في حين أنّ الله تعالى غير معلول، ولا مخلوق، بل هو خالق؛ وخالقيّته تعالى تُثبت كونه واجبًا للوجود؛ وواجب الوجود لا بدّ أن يكون مطلقًا؛ وإذا كان مطلقًا، يتعيّن ألاّ يكون له حدّ؛ وبالتالي، يكون وجوده تعالى مستوعبًا لوجود ذلك الإله [المفروض]؛ فلا مجال لوجود أيّ إله آخر في مقابله؛ إذ أينما فرضنا الوجود، سيستوعبه وجود الله تعالى.
وعليه، لا يُمكننا في الأساس افتراضُ أيّ موجود في عرض الله تعالى (ولو كان هذا الموجود واجبًا للوجود)، حتّى نأتي، ونعتبر له وجودًا، ثمّ نقول بعد ذلك: «إنّ هذا الإله يُنازع الله في مُلكه وسلطانه!»؛ لأنّ الذي يُفرض أن يكون له نزاعٌ مع آخر ينبغي أن يكون أصلُ وجوده ثابتًا، ليتحقّق النزاع بعد ذلك في المرحلة الثانية؛ لكن، حينما لا يكون ثبوت الوجود معقولاً بالنسبة إليه، كيف سيتمكّن من المنازعة؟! هذا كلّه في حالة ما إذا كان الإله الذي يُريد منازعة الله موجودًا في عرضه تعالى، وإلى جانبه؛ وأمّا إذا فرضناه أعلى وأقوى منه، فإنّنا نقول: لقد أثبتنا سابقًا أنّه من غير المعقول وجود إله يقع في نفس مرتبة الله؛ وحينئذ، هل بوسعنا فرض إله أعلى منه تعالى؟!
فإن كانت ذات الله تعالى واجبة وغير متناهية، هل يُمكننا فرض شيء أعلى من هذا اللاتناهي؟! وأيّ شيء بوسعنا فرضه خارج اللاتناهي؟! إنّ افتراض تحقّق موجود يكون خارجًا عن اللاتناهي هو أمر غير معقول! فإذا قلنا: إنّ إلهنا غير متناهٍ، فإنّه علينا القول: لا بدّ أن يكون عدم تناهي الإله الآخر (الذي اعتبرناه أقوى) أكثر!
هذا، مع أنّه لا معنى للزيادة والنقصان في اللاتناهي؛ لأنّ المراد من اللاتناهي هو عدم الحدّ؛ فإذا قلنا: إنّ وجود ذلك الإله أقوى، فإنّ ذلك يعني أنّ إلهنا محدود بحدّ يكون ذلك الإله أرفع منه؛ في حين أنّ المحدود لا يكون غير متناهٍ؛ وبالتالي، فإنّ افتراضَ إلهٍ يكون عدمُ تناهيه أعلى من هذا اللاتناهي يؤدّي إلى بطلان مسألتنا من أصلها؛ وهو غير معقول بتاتًا! هل التفتّم؟!
وإذا تجاوزنا هذين الصنفين [من الآلهة المفروضة]، ونظرنا إلى الموجودات الأضعف من الله التي تُريد منازعته تعالى، فإنّنا نجدها ممكنة ومخلوقة له؛ إذ لا يُمكن فرض أيّ موجود أضعف من الذات الإلهيّة، إلاّ ويكون مخلوقًا؛ فلا يُعقل أن يكون لدينا وجود مستقلّ بذاته غير مخلوق لله، وموجود من تلقاء نفسه؛ لأنّنا فرضنا أنّ وجوده أضعف من وجوده تعالى؛ فهو أضعف في أصل وجوده، وفي صفاته كالعلم والقدرة والحياة؛ ويلزم من كونه أضعف أن يكون محدودًا بحدّ، وإلاّ لكان غير متناهٍ، ومتحقّقًا في مرتبة الواجب؛ في حين أنّنا فرضناه أضعف منه، ومحدودًا بحدّ؛ فالموجود المحدودُ بحدٍّ ممكنٌ؛ ولازمُ الإمكان المعلوليّة، حيث ثبت هذا الأمر في الفلسفة المتعالية.۱ فالإمكان تلزم منه المعلوليّة؛ أي أنّ كلّ موجودٍ ممكنٍ معلولٌ، ولا يكون وجوده بالذات؛ ومن المحال أن يكون الموجود الممكن غير متناهٍ. وعليه، تكون الموجودات الممكنة بأجمعها محدودة بحدّ؛ وبالتالي، فإنّ ذلك الموجود الذي فرضناه أضعف وأدنى من الله سيكون مخلوقًا له تعالى.
وحينئذ، هل بمقدور المخلوق لله أن يُنازعه تعالى، أم لا؟ هذا أيضًا غير معقول؛ لأنّ المنازعة تعني المواجهة؛ في حين أنّ المخلوقات تحتاج إلى العلّة في بقائها واستمرارها، مثلما تحتاج إليها أصل وجودها؛ فكما أنّ الموجودات التي خلق الله تعالى مفتقرة في أصل خلقها إلى إفاضة الوجود عليها لكي توجد، فإنّه من اللازم إفاضة الوجود عليها باستمرار حتّى تبقى، بحيث لو انقطعت عنها هذه الإفاضة للحظة واحدة، لانعدمت؛ فإذن، «المـُمكن كما يحتاج في أصلِ وُجودِه إلى المـُؤثِّر، يَحتاجُ في بَقَائِهِ إلى المـُؤثِّر أيضًا».٢
وحينئذ، سيستقي هذا الموجود الذي يُريد منازعة الله ـ في نفس وجودِه المفروض ـ القوّةَ منه تعالى، بحيث يتعيّن عليه استمداد القدرة منه تعالى في نفس هذه المنازعة؛ وفي هذه الحالة، أيّة منازعة سيُمكننا افتراضها؟! ستكون منازعة صوريّة؛ إذ نجد هذا الموجود يستمدّ القوّة والقدرة من الله، ثمّ يسعى لمحاربته تعالى! في حين أنّ هذه المحاربة تقع في مُلك الباري عزّ وجلّ، وفي ظلّ حكمه، وفي قبضته، وبإرادته وقضائه! وبالتالي، فإنّه في الواقع يتخيّل وحسب أنّه يُنازع الله، بينما لا يوجد أيّ نزاع في البين، بل ولا يُمكننا فرضه بتاتًا؛٣ «وَلا تُنازَعُ في مُلكِكَ».
أرجو ألاّ تكون المسألة قد صارت معقّدة؛ فنحن نريد الحديث بنوع من البساطة؛ لكن، حينما يأتي الكلام على البرهان والاستدلال، فإنّ الأمر يصير معقّدًا؛ مع أنّه لا مناص لنا منه؛ إذ ينبغي إقامة البرهان على كلّ مسألة!
فقضايانا الشرعيّة تعتمد على ثلاثة أسس:
أوّلاً: إمّا أن تعتمد على أساس التعبّد والشرع الذي وصلنا من الرسول والأئمّة.
ثانيًا: وإمّا أن تعتمد على أساس التفكير الفلسفيّ، حيث نجد القرآن الكريم يدعونا إلى التفكّر، ويُقيم العقيدة على قواعد برهانيّة.
ثالثًا: وإمّا أن تعتمد على أساس الوجدان وشهود القلب؛ بمعنى أنّه: إذا لم ترض بالشرع والاستدلال، فاسعَ بنفسك إلى فهم حقيقة المسألة!۱
ومن العجيب جدًّا أنّ القضايا الشرعيّة تنسجم مع بعضها في المراحل الثلاث بأجمعها.٢
«ولا تُشارَكُ في أَمرِكَ».
فإذا كان النزاع في ملك الله وحكمه أمرًا غير معقول، فإنّ وجود شريك له تعالى في أمره وفعله هو أيضًا غير معقول؛ وذلك كأن يأمر الله بشيء، أو يريد شيئًا، أو يفعل شيئًا:
﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؛٣
فإذا كان من غير المعقول أن يكون لله منازع في أمره وإرادته، فمن غير المعقول أيضًا أن يكون له شريك؛ لأنّ الذي من شأنه أن يكون شريكًا له تعالى يجب أن يكون موجودًا إمّا في نفس مستواه، أو أعلى منه، أو أدنى منه؛ وهذه الاحتمالات بأجمعها خاطئة؛ وبالتالي، فإنّ الله تعالى مستقلّ في أمره.
المنشأ في عدم تعارض الأحكام الإلهيّة
«وَلا تُضَادُّ في حُكمِكَ»؛
أي أنّك لا تُصدر حكمين متعارضين؛ لأنّ الذي يحكم بحكمين متضادّين، بحيث يُبطل الحُكمُ الثاني الحُكمَ الأوّل، إمّا أنّ رؤيته وبصيرته لم تكن في البداية قويّةً بالقدر الكافي لكي يُدرك المصالح؛ فسبق فكرُه أو لسانُه إلى إصدار حكمٍ على نحو التسرّع؛ ثمّ واجه بعد ذلك بعض النقائص، فاحتاج إلى تصحيح الحكم الأوّل؛ ولهذا، أصدر الحكم الثاني؛ غير أنّ أحكامك يا إلهي لا تصدر عن تروٍّ وتفكّر وتعمّل وتأمّل، بل إنّ حكمك هو عين إرادتك التي تنبثق من وجودك، بحيث تكون هذه الإرادة هي الخلقة بعينها التي تظهر في العالم؛ وبالتالي، لا توجد أيّة فاصلة بين مشيئتك وإرادتك، وبين حكمك وتحقّقه في الخارج. فهذا الحكم الذي يصدر منك هو ممّا تقتضيه ذاتك، والتي هي عبارة عن وجود صِرف وبسيط وغير متناهٍ؛ فحكمك صدر من هذه الذات.
والحكم الذي يصدر من هذه الذات هو نفسُه؛ لأنّ اختلاف الحكم إنّما يحصل بسبب اختلاف الموضوع؛ في حين أنّه لا وجود لاختلاف في الموضوع هناك ـ خارج ذاتك ـ ، لكي يحصل اختلاف في الأحكام الصادرة منك بسبب ذلك، سواءً كانت هذه الأحكام تشريعيّة أو تكوينيّة؛ فحكم الله تعالى واحد.
وأمّا ما نشاهده في بعض الأديان، نظير نسخ حكم من الأحكام، فإنّ الحكم هنا لا يكون واقعيًّا بتمام معنى الكلمة، بل يكون محدودًا بحدّ، ومقترنًا بزمان خاصّ؛ وقد جُعل طبقًا لمصلحة معيّنة؛ فإذا شغل هذا الحكم مكانه الخاصّ [وحقّق تلك المصلحة]، فإنّه يرجع ثانيةً إلى مكانته الحقيقيّة؛ وهذا مثل الأحكام الأوّلية والثانويّة؛ كحُرمة أكل الإنسان لحم الميتة، والذي يصير جائزًا عند الاضطرار؛ فإذا اضطرّ الإنسان لأكل لحم الميتة، وتوقّفت حياته على هذا الأمر، فإنّه يصير جائزًا، بل وواجبًا أحيانًا؛ لكن بمقدار رفع حالة الاضطرار؛ وحينئذ، لا يكون هذا الحكم متعارضًا مع الحكم الأوّل؛ لأنّ موضوع الحكم الأوّل الذي يقول: «الميتة حرام» هو عدم الاضطرار؛ في حين أنّ موضوع الحكم الذي يقول: «الميتة حلال» هو الاضطرار. أو افرضوا مثلاً مسألة الصلاة بين القصر والإتمام، حيث ينبغي على المسافر أن يُؤدّي صلاته قصرًا، بينما يجب على الحاضر الإتمام؛ من دون أن يوجد أيّ تعارض بين الحالتين؛ فالأحكام الأوّلية والثانويّة هي بهذا النحو؛ وبالتالي، لا يوجد أيّ تضادّ في حكم الله تعالى، بل ولا يُعقل حصول ذلك بتاتًا.۱
«وَلا يَعتَرِضُ عَلَيكَ أَحَدٌ في تَدبِيرِكَ».
فلا يُعقل أن يعترض على تدبيرك أيّ أحد من الموجودات العلويّة أو المـُلكيّة أو الملكوتيّة، ومن الأفراد الذين يسلكون طريق الباطل بسوء اختيارهم أو يقطعون سبيل الرشاد بحُسن اختيارهم؛ فلو فتّشت في كافّة أصناف موجوداتِك، لما عُقل أن يوجد بينهم أحد يريد أن يعترض على تدبيرك؛ لأنّ نفس الاعتراض الذي يريد القيام به، إنّما هو بتدبيرك أنت! فتدبيرك هو كبقيّة صفاتك وأسمائك غير محدود بأيّ حدّ؛ وبالتالي، إن قلنا إنّ تدبيرك واسع، لكن، إلى أن يعترض هذا الموجود، ويتغلّب تدبيره على تدبيرك، سيكون تدبيرك قد توقّف هنا، وصار هناك حدٌّ يقف عنده؛ في حين أنّه واسع؛ شأنه في ذلك شأن علمك وقدرتك؛ وعليه، فإنّ تدبيرك استوعب التدبير الذي يسعى للاعتراض على حكمك، بحيث يكون هذا التدبير قد حصل عن تدبيرك أنت! وحينئذ، هل يُعقل وجود موجود في كافّة العوالم يعترض على تدبير الله تعالى؟! لا يُعقل!
وانتبهوا، فإنّ كلام الإمام عليه السلام هنا كلّه توحيد! حيث يقول: إنّ إلهي أعلى من كلّ اسم ورسم؛ وهو غير متناه في صفاته وذاته؛ فإذا تمكّنا من تصوّر عدم تناهي الباري عزّ وجلّ، فإنّ هذه المسائل بأجمعها ستنحلّ.
دخول كلّ الموجودات والعوالم في مُلك الله تعالى وردّ القول بالجبر والتفويض
﴿لَكَ الخَلقُ والأمرُ تَبَارَكَ اللهُ ربُّ العَالَمينَ﴾.
«أي عالمي الأمر والخلق؛ فعالم الأمر هو عالم الملكوت، سواءً الأعلى أو الأسفل من دون أيّ فارق؛ وعالم الخلق هو عالم الطبع والمادّة؛ فجميع موجودات هذين العالمين مملوكة لك ومتعلّقة بك أنت».
وكلّ ما يتحقّق من الموجودات في عالم الخلق إنّما يتحقّق بأمرك، حيث يتنزّل هذا الأمر، فيصير خلقًا، ويتصاعد خلقك، فيصير ملكوتًا [وأمرًا]؛ وبالتالي، لا توجد أيّة فاصلة بين الخلق والأمر، والاختلاف بينهما مقتصر على النظر إلى وجهيهما؛ فإذا نظرنا إلى الموجودات من ناحية الطبع والمادّة، فإنّها تكون خلقًا؛ وإذا نظر إليها باعتبار وجهها الملكوتيّ، فإنّها تصير أمرًا؛ فالأمر والخلق شيء واحد؛ والاختلاف بينهما راجع للاختلاف في جهة النظر إليهما.
إنّ كلاًّ من عالمي الأمر والخلق، وعالمي المـُلك والملكوت، وعالمي المعنى والمادّة، وعالمي التجرّد والتقيّد هي عبارات تحكي عن معنى واحد، وهي متعلّقة بك بأجمعها؛ ولاحظوا معي، فإنّ المسألة دقيقة جدًّا!
فالمراد من أنّها متعلّقة بك أنّ كلّ ما هو موجود في عالم الخلق الذي نحن فيه مملوكٌ لله تعالى، بحيث لا نعثر على أيّ شيء لا يكون مملوكًا له.. لا شيء!
لكن، ماذا عنّا نحن؟! وماذا عن أفعالنا؟! أ وليست الأفعال التي نقوم بها مملوكة لنا نحن؟!
فإذا أثبتنا لأنفسنا أنّ هناك أفعالاً تصدر منّا، وأنّنا مستقلّون من هذه الناحية، فقد صرنا من أهل التفويض؛ فتخلّصنا من الجبر، لكن سقطنا في التفويض؛ في حين أنّ كلاهما خطأ؛ إذ يقول الجبريّون:
ليس للإنسان اختيار في أفعاله؛ فكما أنّ النار تُحرق، فإنّ الإنسان تصدر منه أيضًا أفعال لازمةٌ لوجوده؛ نظير الرائحة الصادرة من الورد، والتي لا يقدر الورد على إيقافها، والحدّ من صدورها؛ فالإنسان أيضًا تصدر منه هكذا أفعال.۱
فهذا كلام مجانب للصواب؛ لأنّ الإنسان يمتلك اختيارًا، وهذا الاختيار يُشكّل جزءًا من ذاته؛ أي أنّ إنكار الاختيار من الأمور المخالفة للضرورة.
وحينئذ، لكي نتخلّص من الجبر، فإنّنا نُلقي بأنفسنا في حُضن التفويض، ونقول: لقد خلقنا الله تعالى، ومنحنا القدرة من أجل أداء الأفعال؛ نظير الساعة التي يُعبّئونها، ثمّ يدعونها لتعمل [لوحدها].
وما أحسن الكلام الذي ذكره المرحومُ الحاج رضا الهمدانيّ في هذا الصدد مع أنّه كان فقيهًا؛ والفقهاء لا يتدخّلون غالبًا في المسائل الفلسفيّة والحكميّة، حيث يقول ما مفاده:
إنّ المعتقدين بالتفويض لا يقولون أكثر من هذا؛ أي أنّهم يقولون: «إنّ الله تعالى خلقنا، ثمّ أوكل إلينا أمرَه»؛ ومعنى التفويض هو أنّ الله تعالى خلقنا، وأوكل إلينا بعد ذلك أفعالنا وأعمالنا، بحيث يكون كلّ عمل نقوم به قائم بوجودنا.۱
وهذا أيضًا غير صحيح؛ إذ لو خلقنا الله تعالى، ثمّ رفع يديه عن بقاء وجودنا وصفاتنا وعلمنا وأفعالنا، وأوكل إلينا ذلك، لجعلنا مستقلّين من هذه الناحية، وظلّ هو منكفئًا؛ ممّا يلزم منه تسلّل الضعف إلى وجود الواجب تعالى، وهو غير معقول. وعليه، فإنّ كافّة الممكنات التي أوجدها الله العليّ الأعلى تحتاج إلى مؤثّر في ذاتها، وكذلك في صفاتها وأفعالها وأصل وجودها، وحتّى في بقائها، حيث يُفيض عليها الباري عزّ وجلّ القدرة والقوّة؛ وبالتالي، فقد منحنا الله تعالى القوّة والطاقة والحياة والعلم والقدرة والاختيار؛ ففي عين اختيارنا للفعل الذي نؤدّيه، لا نكون خارجين عن حوله وقوّته.
ومن هنا، فإنّ فعلنا له نسبتان: نسبة إلينا، ونسبة إلى الله تعالى.
مثال على مسألة الأمر بين الأمرين
ولنضرب مثالاً على ذلك بالنور الذي يُشرق على هذه الزجاجة المعلّقة، فتسطع منها الألوان؛ إذ ما لم يكن هناك نور، فلن توجد هذه الألوان المختلفة، وما لم تكن هناك زجاجة معلّقة فلن توجد أيضًا هذه الألوان المختلفة؛ لكنّ سبب نسبة الألوان المختلفة إلى الزجاجة المعلّقة يرجع إلى أنّ صياغة هذه الزجاجة على شكل منشور يلزم منه تجلّي النور الذي يسطع عليها بعدّة ألوان، بحيث لولا سطوع هذا النور، لما وُجدت هذه الألوان؛ وبالتالي، فإنّ الفعل فعلُنا؛ لأنّه صادر من نافذة أنفسنا وصُقع وجودنا؛ وهو فعل الله تعالى؛ لأنّه هو المفيض للوجود. فإذا كنّا في ذواتنا غير قائمين بأنفسنا، فكيف سنكون في أفعالنا قائمين بها؟! وعليه، فإنّ كافّة عوالم الوجود واقعة بين الجبر والاختيار؛ وليس الإنسان فقط، بل حتّى الملائكة والجنّ والإنس والحيوان والباب والحائط والهواء والجبل وعالم المـُلك وعالم الملكوت.. كلّها واقعة بين الجبر والاختيار، وبين الجبر والتفويض؛ بمعنى أنّه لا جبر في أيّ موجود من العوالم، ولا تفويض في أيّ عالم من هذه العوالم؛ وغاية ما هنالك أنّ الموجودات لها وجهان: وجه إلهي، ووجه خلقيّ؛ وهذا هو مفاد «أمرٌ بين الأمرين»؛ وسندع هنا البحث التفصيليّ عن هذه المسألة؛ لأنّنا نريد الحديث على نحو الإجمال.٢
إذن، إلهي، كلّ شيء هو بيدك أنت. ﴿لَكَ الخَلقُ والأَمرُ﴾؛ كما أنّه لا يحسُن بنا أن نُمدحك نحن؛ لأنّ أيّ مدح نريد ذكره في حقّك سيكون باعثًا على الخجل!
آفرينى كه اين مُغَفَّل كرد | *** | روزِ عيش مرا مُبَدَّل كرد۱ |
[يقول: إنّ المدح الذي قام به هذا المغفّل هو الذي قلّب أحوالي]
عدم قدرة الإنسان بما هو إنسان على مدح الله تعالى ووصفه
فحينما نريد مدح الله والثناء عليه، فإنّ ذلك يكون على قدر فكرنا واستعدادنا ومحبّتنا وقابليّتنا؛ وشتّان بين ذلك وبينه تعالى!
ينقل الشيخ البهائيّ رحمة الله تعالى عليه في كتابه الأربعين مسألةً بديعة جدًّا عن أحد مشايخ المحقّقين؛ وهو المحقّق الدوّاني على ما يبدو، حيث يقول ما معناه:
إنّ الصفات التي ننسبها إلى الله تعالى، ونُعظّمه من خلالها هي الصفات التي نجد مثالها وأثرها في ذواتنا.٢
فيوجد لدينا بصر، ولهذا نقول: إنّ الله تعالى بصير أيضًا؛ ويوجد لدينا علم، فنقول: إنّ الله تعالى عليم؛ وتوجد لدينا قدرة، فنقول: إنّ الله تعالى قادر؛ وتوجد لدينا حياة، فنقول: إنّ الله تعالى حيّ؛ غاية الأمر أنّنا نجد هذه الصفات فينا محدودةً، فننسب إليه تعالى قدرة وحياة وعلمًا وسمعًا وبصرًا غير محدودين؛ مع أنّه لا يوجد لدينا طريق غير هذا؛ إذ ينبغي على كلّ موجود يريد الوصول إلى ذات الواجب (والعلّة) والتعرّف عليها أن يعتمد في ذلك على نفسه وصفاته النفسيّة والتي تُشكّل كينونته ووجوده.
لكن، من أين لنا أن نقطع بأنّ الله تعالى لم يخلق موجودات تجلّى فيها نوع آخر من الصفات والأسماء التي لا اطّلاع لنا عليها، ولم يصلنا منها أيّ أثر أو اسم؟! مثلما أنّ الموجودات غير مطّلعة على بعضها، حيث نرى أنّ لكلّ واحد من الحيوانات غرائز وصفات خاصّة؛ فلا يكون للحيوان الأوّل اطّلاع على عالَم الحيوان الثاني، ولا للحيوان الثاني معرفة بعالَم الحيوان الأوّل؛ لأنّ تشخيص هذا الحيوان الثاني يخضع للصفات والغرائز التي وهبه اللهُ إيّاها؛ في حين أنّه تعالى منح الحيوان الأوّل صفات وغرائز أخرى، فلا يقدر على إدراك الأحوال والأوضاع التي تعرض على الثاني؛ مثلما أنّ الحيوان الثاني لا يقدر أيضًا على إدراك أحوال الأوّل وأوضاعه، بحيث نجد كلّ واحد منهما يعبد الله تعالى انطلاقًا من الصفات التي يمتلكها.
وقد جاء في رواية عن حضرة الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّه قال:
«كُلُّ مَا مَيَّزْتُمُوهُ بِأوْهَامِكُمْ بِأدَقِّ مَعَانِيهِ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ مِثْلُكُمْ، مَرْدُودٌ إلَيْكُمْ».۱
أي أنّ كلّ ما أدركتموه بواسطة أفكاركم الدقيقة واللطيفة معلولٌ ومصنوع لهذه الأفكار، وهو متعلقٌّ بكم أنتم، وليس هو الله؛ وكلّ صفة نسبتموها إليه تعالى عن طريق التفكير عبارة عن صفة حلّت بأذهانكم؛ ولهذا، تكون محدودة بفكركم، وجرت صياغتها في أذهانكم؛ وبالتالي، فهي ثمرة لفكركم الساذج، وليست هي الله تعالى! فنحن نتّصف بالحياء، فنقول: إنّ الله حييٌّ؛ في حين أنّ هذا الحياء تشكّل في أذهاننا، ثمّ قلنا: إنّه تعالى حييٌّ.
وعليه، فإنّ كلّ ما تصوّرناه في بالنا عن ذات الواجب وصفاته مرتبط بتفكيرنا؛ ثمّ يقول الإمام عليه السلام:
«وَلَعَلَّ النَّمْلَ الصِّغَارَ [التي تدبّ على الأرض وتتوفّر على زبانين وقرنين] تَتَوَهَّمُ [حقيقةً] أن لِلَّهِ تعالى زُبَانَيْنِ [وقرنين أيضًا]».
لأنّ نظامها الوجوديّ متعلّق بهذين القرنين، حيث تستعملهما في تحصيل منافعها، ودفع الضرر عن نفسها، وحمل الحبوب من الأرض، والتعرّف على أعدائها؛ فحياة النملة وكمالها متوقّفين على هذين القرنين؛ وحينئذ، إذا أرادت هذه النملة أن تُصوّر لنفسها إلهًا، فلا بدّ ألاّ يكون هذا الإله ناقصًا، بل يجب أن يكون كاملاً؛ وبما أنّ مركز الكمال في وجودها يتمثّل في القرنين، فإنّها ستقول بكلّ تأكيد: «ينبغي أن يتوفّر الله على قرنين»؛ فهذا هو حكمها القطعيّ والثابت؛ في حين أنّ الله تعالى لا يتوفّر على قرنين! وهكذا أيضًا، إن أرادت البقرة أن تُصوّر لنفسها إلهًا، فإنّها ستقول بكلّ تأكيد: «يجب أن تكون قرون الله أقوى من قروني»؛ وإن رغب الفيل في أن يفرض لنفسه إلهًا، سيقول: «لا بدّ أن يكون لله تعالى خرطوم يُحيط به كلّ الأرض، ليرفعها بواسطته»؛ غير أنّ الإنسان لا يملك خرطومًا ولا قرونًا؛ وحينئذ، فإنّه ينسب إلى الله تعالى كلّ ما يعدّه كمالاً بالنسبة إليه هو.
وبالتالي، فإنّ الله أعلى. ﴿سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾؛٢ فهو أعلى من كلّ اسم ووصف؛ وحينما نقول عنه تعالى: إنّه عليم وقدير وقادر وسميع وبصير وحيّ وقيّوم؛ فإنّه يكون أعلى من هذه الأمور؛ لأنّها بأجمعها أسماء؛ فمتى ما قلنا عن الله تعالى إنّه عليم ـ ولا بدّ لنا أن نقول عنه إنّه عليم، بل ولا مناص لنا من ذلك ـ، يجب أن نُتبع هذا الوصف بقولنا: ﴿سُبْحانَ اللَّهِ﴾ فحينما نُثني عليه ونحمده، يتعيّن علينا إِقرانُ هذا المدح بالتسبيح؛ أي: إلهي، إنّنا نصفك بالعليم، ونرجو منك العذر؛ فأنت أعلى من هذا الاسم؛ إذ إنّ العليم ينظر إلى الذات الإلهيّة المقدّسة من نافذة العلم، فيفصله من هذه الناحية عن القدرة؛ كما أنّ القدير ينسب إليه هذا الاسم، ويفصله عن العلم؛ في حين أنّ ذاته تعالى لا يوجد فيها أيّ فصل أو تمييز أو تفريق؛ فهي مصدر العلم والقدرة؛ لكن من دون أن يكون لها عنوان العلم والقدرة؛ لأنّ العنوان والاسم يفنيان هناك؛ فهناك منبع قدرة أعلى من الاسم القادر، ومنبع علم أعلى من الاسم العالم، وحقيقة حياةٍ أعلى من الاسم الحيّ؛ فهناك لا اسم ولا رسم؛ وحينئذ، كيف يُمكن تصوّر هذا الإله؟! ففي هذا المقام، يخرس المئات من أمثال الكُميت؛ إذ لا يُمكننا تصوّره؛ ولهذا، لو سعى الإنسان ـ إلى يوم القيامة ـ للتحليق بفكره من أجل اصطياده بواسطة هذا الفكر، لما تمكّن من ذلك!
عنقا شكار كس نشود دام باز گير۱ | *** | كانجا هميشه باد به دست است دام را.٢ |
[لا يُمكنك أن تَصيد العَنقاء مَهما حاولتَ، فارفَع الشباكَ و أزِل المـَصائِد، فلَن تَصيد شِباكُكَ إلاّ الهَواء]
فمهما وضعنا من شراك لنصطاد العنقاء، فلن نتمكّن من قنصها؛ حسنًا، فبأيّ نحو يُمكننا معرفة الله تعالى؟! فالفكر عاجز وقاصر عن هذا الأمر!
فبأيّ نحو يُمكننا معرفة الله تعالى؟! وهل على الإنسان أن يتراجع تمامًا عن طلب هذه المعرفة، ويكتفي بمعرفة العوامّ، ويقول: «لا يستطيع الإنسان الظفر بمعرفة الله تعالى وصفاته وأسمائه؛ فلا شيء إذن؛ فليذهب إلى حال سبيله! وليكتفِ بهذه المعرفة الإجماليّة التي مفادها أنّه لدينا إله، لا شريك له، حيٌّ وقيّومٌ؛ وليقتصر على هذه المعرفة بعين الألفاظ، وفي ضمن دائرة حدوده»، أم لا؟! ففي نهاية المطاف، علينا الاعتراف بأنّنا عاجزون عن معرفة الله تعالى، غير أنّ هذه الاعتراف بالعجز مغاير للاعتراف بالعجز الذي يصدر من الذين يحتلّون المرتبة الأولى من الإيمان.
فجميع الأنبياء أقرّوا أنّهم عاجزون عن إدراك ذات الحقّ تعالى. «مَا عَبدنَاكَ حَقَّ عِبادَتِكَ»،٣ «مَا عَرَفنَاكَ حَقَّ مَعرِفَتِكَ»؛٤ لكن، هناك ملايين السنين تفصل بين هذا الإدراك، وذاك! لأنّ هذا الإدراك للعجر قد حصل بعد مقام اللقاء، وإدراك التوحيد، بحيث ما دامت توجد في الإنسان ذرّة من الوجود، وذرّة من الأنانيّة والشخصيّة، فلن يكون له أيّ سبيل بتاتًا إلى ساحة الباري عزّ وجلّ وحرم كبريائه؛ فهذه هي حقيقة المسألة! وفي هذه الحالة، حينما يتوقّف تفكير الإنسان عن العمل، ويقول: «إنّ كلّ فريسة يُريد الإنسان اقتناصها بواسطة فكره عبارة عن صيدٍ مصنوع لذهنه»، فإنّه يُصاب بالعجز والارتباك!
وهنا، يُقال: توجد طريقة في القرآن المجيد تُسمّى بطريقة الإحراق،٥ من شأنها مساعدة الإنسان في هذا المجال، حيث تعمل على إحراق وجوده، وتُؤيسُه من كلّ تفكير؛ هذا، مع أنّ ثروة حياة الإنسان بفكره؛ أي أنّ قيمة الإنسان بفكره. «قِيمَةُ الَمرءٍ مَا يُحسِنُهُ»؛ أي: ما يملكه من علم ومعرفة.٦
غير أنّ الإنسان يصل إلى مستوى، بحيث لا يقدر على بلوغ هدفه المنشود عن طريق هذا الفكر، وثروة الحياة هذه؛ وهنا، يُسقط في يده؛ وحينئذ، سيتخلّى عن نفسه! وهذا نظير أن تحمل بيديك قالبًا من الثلج، وتُريد بكلّ عشق ومحبّة أن تجلبه للبيت؛ ثمّ ترى أنّه يقطر، إلى أن تصل إلى المنزل، فيذوب كلّه؛ فأيّ شعور ستشعر به والحال هذه؟! فكلّ الثروة الوجوديّة لهذا القالب كانت ثلجًا، لكنّه ذاب كلّه!
لا يُمكن لأيّ موجود أن يُبرز وجوده في مقابل ذات الحقّ تعالى كبريائه؛
تا يكسر مويى در تو هستى باقيست | *** | آئين دكانِ خودپرستى باقيست |
گفتى بُت پندار شكستم رَستم | *** | اين بت كه ز پندار بِرَستم باقيست۱ |
[يقول: ما دام فيك مقدار رأس شعرة من الوجود، فلا زالت عبادة دكّان الأنانيّة موجودة فيك
لقد قُلتَ بأنّك كسرت صنم الوهم، لكنّ هذا الصنم الذي نشأ من توهمّك كسرَ الصنم لا يزال موجودًا]
فتجد الإنسان يقول: «لقد تخلصّت من الوهم، وبلغت مقامًا أدركتُ فيه استحالة اقتناص [معرفة] الله تعالى عن طريق الفكر والذهن»؛ لكنّ هذا بحدّ ذاته فكرٌ قائم على أساس الوجود؛ ممّا يدلّ على أنّه لدينا وجودًا نُفكّر من خلاله؛ وهو عبارة عن صنم، وينبغي كسره؛ وهنا، تصير المسألة دقيقة جدًّا وتوقع في الاضطراب؛ وهو اضطراب خاصّ!
فحينما ذهب نبيُّ الله موسى على نبيّنا وآله وعليه السلام بكلّ جنون ثلاثين ليلة من أجل مناجاة ربّه لم يأكُل ولم يشرب ولم ينم فيها؛٢ لكن، من دون أن يتمّ له الأمر؛ فأضاف عشرة ليالي، لتصير أربعين ليلة؛ إذ مدّد اللهُ تعالى أَجَلَ الميقات؛ فلأيّ شيء ذهب؟ وقد صار بدنه نحيفًا للغاية، حيث نقرأ في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة ما مفاده:
كان طعامُه ورق الشجر (فلم يكن يأتي بالسماور٣، ويضع طبق السكر، ويصنع لنفسه الشاي، ويُفطر؛ ثمّ يطبخ يخنة الفسنجان٤، ويتناولها)؛ ومن شدّة نحافته وتشذّب لحمه (أي أنّ لحمه ذاب)، كانت خضرة أوراق الشجر تظهر على جلد بطنه!٥
فهل كان يلجأ إلى هذه الأعمال تصنّعًا؟!
كان الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم يُعرض عن مكّة، وعن قومه وعشيرته وزوجته، وعن عمّ حنون كأبي طالب، عن محلّ عبادته وسكنه، ثمّ يذهب إلى أعلى جبل حراء، حيث لا طائر يطير، ولا وحش يسير؛ وهو جبل خطير لا يقدر أيّ أحد على تسلّقه؛ وقد اختار هذا المكان، لكيلا يأتي عنده أيّ أحد؛ فكان يذهب إلى هناك، ويبقى في ذلك الغار لمدّة أسبوع أو عشرة أيّام؛٦ فما الذي كان يفعله لوحده هناك؟
تا یک سر مـوی از تـو هسـتی باقیسـت | *** | آئـــین دکـــانِ خودپرســـتی باقیســـت |
گفتــی بُــتِ پنــدار شکســتم رَســتم | *** | آن بــت کــه زپنــدار شکســتی باقیســت |
فهل تخضع هذه الأمور لحساب أم لا؟ إنّ هذه الأمور هي التي تذيب الوجود، وتذيبه، وتذيبه،...! فمهما قبض الإنسان بيده لكي يُمسك بالله، وجد أنّ قبضته لا تصل إلى أيّ موضع؛ فيخبط بيديه ورجليه؛ تمامًا كالذي أدركه السيل، وبدأ يجرفه، حيث نجده يخبط بيديه في هذه الجهة باستمرار، محاولاً الوصول لهذا الحائط وذاك، وبلوغ هذا اللوح وذاك.
«الغَريقُ يَتَشَبَّثُ بِكُلِّ حَشيشٍ»؛۱ فتكون قطعة صغيرة من لوح تطفو على الماء، فيظنّ الإنسان أنّها ستُنجيه؛ فيضرب بيده لكي يتمسّك بها، فتغرق هي أيضًا؛ فيخبط بيديه، ويخبط، ويخبط، إلى أن يتعب، فيطرح نفسه على الماء؛ وحينئذ، يغرق! لا أنّه يحيى، بل يغرق؛ فلا حياة هناك، بل هناك الغرق والفناء! فنحن دائمًا ما نطرح مقدّمات فلسفيّة من قبيل: الله تعالى كذا، وكذا.. فصلٌ في العلم، فصلٌ في القدرة، فصلٌ في الحياة؛ وجميع هذه الكلمات صحيحة في محلّها؛ لأنّ للدرس درجات ومراتب متعدّدة.
يا عبد العزيز، إنّ للإيمان عشر درجات؛ وعلى الإنسان أن يقطع كلّ درجة من هذه الدرجات حتّى يصل إلى الدرجة الأعلى منها؛ فحذار أن تسعى لترقية أحد إلى درجة أعلى قبل أن يقطع الدرجة التي قبلها؛ فإذا فعلتَ ذلك، وحطّمته وكسرته، فإنّك تتحمّل مسؤوليّة جبره.٢
يعني أنّه عليك أن تعمل على التئام كسره مرّة ثانية؛ فإذا رفعت أحدًا من الدرج الأوّل إلى الدرج الثالث، وكسرته، وأفقدته إيمانَه، وتسببّت في انحرافه، فإنّ مسؤوليّة ذلك تقع على عاتقك أنت؛ وعليه، فإنّ الإيمان على عشر درجات، الدرجة العاشرة منها هي التي يغرق الإنسان فيها؛ وهناك يصير «سلمانُ مِنَّا أهلَ البيتِ»؛٣ فتُمحى صبغتُه. ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾.٤
﴿لَكَ الخَلقُ وَالأمرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العالَمينَ﴾.
إذن، لقد استوعبتم أنّ مدحنا وثناءنا لا يصل إلى أيّة نتيجة؛ فمهما مدحنا الله تعالى، فإنّنا نكون قد مدحنا أنفسنا؛ «مادح خورشيد مدّاح خود است»؛ أي إنّ مادح الشمس إنّما يمدح نفسه؛٥ فالذي يمدح الشمس لا يمدحها حقيقةً؛ لأنّه لم ير نورها ولا وصل إليها، ولم يتأثّر بجاذبيّتها ولا أدرك حرارتها، بل يقول فقط: «أنا لديّ عينان؛ ولهذا، أرى الشمس؛ فهي بالنحو الكذائيّ، وهي جيّدة»؛ ومعنى ذلك: كم أنا جيّد لأنّني أرى الشمس! ولهذا، متى ما حمدنا الله، تعيّن علينا تسبيحه تعالى في الحين؛ «سبحانَ رَبِّيَ العظيمِ وبِحَمدِهِ، سبحانَ رَبِّيَ الأعلى وبِحَمدِهِ».
مادح خورشيد مداح خد است | *** | كه دو چشمم روشن و نامرمد است |
﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ﴾؛۱ فحينما تحمد الملائكةُ الله تعالى، فإنّها تُسبّحه؛ كما أنّه متى ما حمِد الرعدُ الله تعالى، وقال: «أنعم به وأكرم! يا له من إله!»، فإنّه يقول مباشرةً: أستميحك عذرًا؛ إذ حينما أمدحك، أحتاج لأن أقول: «سبحان الله، فأنت منزّه عن هذا الحمد، وبريٌّ عن نعتي ووصفي».
الموجود الوحيد القادر على وصف الله تعالى ومدحه
هل تعلمون من الذي بوسعه وصف الله تعالى؟ إنّه ذاك الذي غرِق؛ فقد خارت قواه، وجرفه الماء؛ فهو الذي يُدرك معنى السيل والبحر والطوفان والدوّامة، ويفهم معنى الموت!
﴿سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ﴾؛٢
وليس المخلِصين، بل أولئك العباد الذين غرِقوا؛ إذ حينما يُريد الإنسان أن يصل إلى الله تعالى، فإنّه يُجاهد باستمرار، ويخبط بيديه ورجليه، ويسعى لإخلاص نفسه وتطهيرها على الدوام؛ لكن، ما إن يسعى للإخلاص، حتّى يبدأ في الخبط بيديه ورجليه، ثمّ يقوم بالتسبيح أن يا إلهي، إنّني أعتذر منك؛ فأنا لا أستطيع الوصول إليك بواسطة هاتين اليدين وهاتين الرجلين، ولا أقدر على قلع هذا الجبل بواسطة هذه الأظافر؛ مع أنّني أريد قلعه؛ فأنّى يُمكن قلع جبل أبي قبيس بواسطة الأظافر؟! لكن، حينما ينتابه العجز، ويعبر مرحلة الإخلاص، ويتجاوز مرتبة المخلِصين إلى مرتبة المخلَصين، ويتخلّص من ألاعيب الشيطان، ويُعفى من الحضور في صحراء يوم القيامة، فإنّه يصير قادرًا على وصف الله تعالى.
ولماذا يستطيع وصف الله تعالى؟ لأنّه لم يعُد هو هو، بل غرِق، وصار عين ماء البحر؛ وماء البحر بحرٌ! فالذي يفنى في الذات الإلهيّة المقدّسة لم يعُد هو هو؛ فإن كان هناك وصف في البين، فإنّ الله تعالى هو الذي يصف ـ والحال هذه ـ نفسَه.٣ فأمير المؤمنين هو يدُ الله، وعينُ الله؛ لأنّ عليًّا لم يعُد موجودًا؛ وإلاّ لو كان هو عليًّا، لما أمكننا الحديث هنا عن الله تعالى، بل سيكون هو اسمه؛ في حين أنّ الله تعالى أعلى من الاسم والرسم! لكن، حينما غرِق أمير المؤمنين [في الذات]، صار كلّ شيء؛ فأضحى هو يد الله، وعين الله، وسمع الله، وبصر الله، ولسان الله،٤ وكلّ ما شئت أن تقول! أي أنّ الموجود هنا هو الله تعالى والتوحيد؛ بمعنى أنّه لا يُمكن لأيّ شيء أن يجتمع مع وجود الله؛ لأنّه تعالى غير متناهٍ؛ فلا يُضاف إلى أيّ شيء، وكلّ شيء نُضيفه إليه يكون غير متناهٍ؛ فالواحد المضاف إلى اللامتناهي يصير لا متناهيًا، والعشرة المضافة إلى اللامتناهي ينتج عنها اللامتناهي، وإذا أضفنا الألف إلى اللامتناهي يُعطينا اللامتناهي؛ ولهذا، لا يُمكننا أن نضيف أيّ شيء إلى اللاتناهي؛ وبالتالي، لا نستطيع بتاتًا وصف الله تعالى.
﴿تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمينَ﴾؛۱ فهو تعالى بذاته يصف نفسه؛ إذ حينما يتحدّث في قرآنه الكريم عن خلق الإنسان، يقول في الأخير: ﴿تَبَارَكَ اللهُ﴾؛ فيصف ذاته بنفسه، ويقول: أنعم به وأكرم! يا له من إله مبارك!
﴿تَبَارَكَ﴾: أي ذو الدرجة الرفيعة، والبركة العميمة، والرحمة الواسعة، والمنزلة الرفيعة، والجاه العظيم! وأيّ إله هذا؟ إنّه الله ربّ العالمين! فقد شمل العالمين: عالم الخلق وعالم الأمر؛ فكلّ الأشياء ﴿مَطوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾؛٢ وكلّ العوالم والدهور تقع في مُلكه، وجميع الموجودات مطموسة وفانية فيه.
... | *** | ليسَ في الدارِ غَيرُهُ دَيَّارٌ! |
نرجو الله تعالى أن يمنّ علينا، ويُذيقنا هذه المقامات؛ إذ لا نفقه منها نحن شيئًا!
كان السيّد أحمد الكربلائيّ من العظماء، ومن تلامذة المرحوم الآخوند الملاّ حسين قلي الهمدانيّ الذي كان مشاهير النجف؛ وقد سألتُ المرحوم الحاجّ الآغا بزرك الطهراني رحمة الله تعالى عليه: باعتبار أنّك التقيت به، كيف كانت أحواله؟ فقال لي:
شتّان بين هذه المسائل وبيني أنا! حينما ارتحل السيّد أحمد عن دار الدنيا، رأيته ذات ليلة في المنام، وكنت أعلم أنّه توفّي، فأمسكتُ بسبّابته بكلّ إحكام، وقلت له: عليك أن تُفصح لي عن المقامات والدرجات التي وهبك الله تعالى إيّاها!
فسحب أصبعه من يدي بكلّ قوّة، وضحك، ثمّ قال: «حلوای تن تنانی، تا نخوری ندانی!»٣.٤
بِمحمّدٍ وآلِه الطاهرينَ وصلِّ على محمّدٍ وآلِه أجمعينَ.