المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1431
التاريخ 1431/09/27
التوضيح
تتحدّث هذه المحاضرة حول عدّة محاور:
1. ما معنى ابتهاج الذات بذاتها وآثارها وما أثر ذلك على إمكان كره الله لخلقه؟
2. ما هي وظيفة الولد تجاه والديه ووظيفة الوالدين تجاه الولد؟
3. متى وصل إبراهيم إلى مقام الإمامة وما هي حقيقة ابتلائه بذبح ابنه إسماعيل عليهما السلام؟
هو العليم
ابتهاج الذات بذاتها وآثارها وضرورة تخلّي العبد عن آثاره الخاصّة
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣۱ - الجلسة الثامنة
محاضرة القاها
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدّس الله سره.
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّیطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللَه الرَّحمَنِ الرَّحيم
وصلَّى اللَه عَلَى سيّدنا و نبینا أبي القاسم مُحَمّدٍ
وعلی آله الطّیبین الطّاهرین و اللعنة عَلَی أعدائِهِم أجمَعینَ
حُجَّتِي يا اللَه فِى جُرأتِي عَلَى مَسألَتِك مَعَ إتیانِي مَا تَکرَهُ، جُودُك وَ كرَمُك، وَ عُدَّتِي فِي شِدَّتِي مَعَ قِلَّة حَیائِي، رأفَتُك وَ رَحمَتُك.
السبب والحجّة في جرأتي يا ربّ على سؤالك هو جودك وعطاؤك وعظمتك وكرمك وإغضاؤك عن الخطايا والذنوب والزلاّت التي تصدر عنّي رغم أنّي أعمل بخلاف رضاك، منهجي وكلامي وفكري وطريقتي كلّ ذلك مخالف لك. أنت تدعونا إلى جهة ونحن نسير في جهة أخرى، ولكن رغم ذلك أنا محميّ الظهر وقد عرفت جيّدًا مع من أتعامل، وأعرف جيّدًا أيّ ذات وأيّة شخصيّة أمامي ـ والشخصيّة هنا لا بمعنى الفرد الذي له ماهيّة بل هو الشخص الذي له هويّة ـ فهذا ما ما أدّى إلى أن لا ألتفت كثيرًا إلى ذنبي والخطأ الذي أرتكبه وإلى أن أخالف رضاك، وإلى أن أمضي في سبيلي ولا أبالي كثيرًا بأمرك ونهيك وأحيانًا ألتزم ببعض الأمور، وبعضها الآخر ألتزم بها يومًا بعد يوم وأمشي، وهكذا أقضي عمري. فحجّتي في ذلك هو كرمك وعظمتك. والكرم بمعنى العطاء لا بمعنى المغفرة والعفو.
قال أحد الأصدقاء إنّ أحد أقاربه والذي لم يكن إيرانيًّا وكان من خارج إيران كان يعرف قليلاً من اللغة الفارسيّة، فلمّا جاء إلى إيران، ذهب إلى المصرف ليأخذ مالاً، فلمّا أراد أن يغادر قال له الموظّف: تكرّم عليّ۱ فقد حصل تأخير. فظنّ هذا الرجل أنّه يطلب منه مالاً، فأعطاه مبلغًا من المال. فقال: عزيزي أنا أقول تكرّم عليّ فأراد ذلك أن يعطيه مرّة ثانية، فالتفت أحد الحاضرين وقال: إنّ قوله تكرّم عليّ هذا يعني سامحه ولا تؤاخذه على هذا التأخير لا أن تعطيه مالاً! فقد كان يعطي ماله معتقدًا أنّ هنا قانونًا يقضي بذلك ـ ربّما كان لا أدري! ـ فكلّما قال ذاك: تكرّم عليّ. كان يعطيه، كان يعتقد أنّ التكرّم ليس بمعنى العفو بل بمعنى الهبة والعطاء.
كم هو حسن أن يفهم الإنسان هكذا، فكثير من الأعمال تصبح سهلة. فكما هو موجود هنا الجود يعني العطاء، وإن كان كلمة "بخشش" في الفارسيّة تعني العفو والإغماض أيضًا إلى جانب الإعطاء، أمّا في العربيّة فتعني العفو والإغماض والمغفرة والغفران، وما لدينا في فقرات الدعاء من "يا غفّار الذنوب يا ستّار العيوب" فالغفّار فيها بمعنى العفو عن الذنوب والخطايا والزلاّت. إنّ الجود هنا هو بمعناه الذي هو الإعطاء والهبة، {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}.٢
معنى رضا الله وعدم رضاه
تقدّم في الجلسات السابقة الكلام عن أنّه ما معنى أن يكون الله غير راض عنّا وأن لا يكون هذا العمل مرضيًّا عنده؟ فما هو الفرق بالنسبة إلى الله؟! إنّه في ألوهيّته وسلطانه، هو مالك الرقاب، له مالكيّته ليوم الدين، له ملك السموات والأرض، هو غنيّ بالذات، وغناه الذاتيّ يعني أنّ تطوّرات الوجود لا تضيف شيئًا إلى كماله، فأن يصل أحد الآن إلى الكمال لا يجعل الله ينتفخ قليلاً، لا يجعله يفتخر قليلاً، لا يجعله يفرح قليلاً ويقول: جيّد أنّ عبدنا هذا قد وصل إلى الكمال وارتقى ولم يخيّبنا، يقول إنّ أحد عباده وصل إلى مرحلة الكمال وصار من أولياء الله. كلاّ، فلو لم يأت أيّ كامل منذ أن خلق الله السماوات والأرضين وقبلها ومنذ أن كان الله، لما نقص من الله شيء، ولو وصل الجميع إلى مرتبة رسول الله لما أضيف إلى الله شيء، لأنّه هو غنيّ بالذات، دقّقوا جيّدًا ماذا أريد أن أقول الليلة، فالأمور دقيقة.
معنى الغنى الذاتي لله
الغنيّ بالذات هو ذاتٌ لا تضيف عليها الأطوار والتطوّر في الوجود شيئًا ـ أمّا العدم فلا يقبل البحث ولا ينبغي الكلام عنه، ولا يقع موضوعًا، ولا يخبر عنه ـ وعدم التطوّر في الوجود وعدم الخلق الجديد وعدم خلق هذه المظاهر المختلفة وإيجاد هذه الصور المتنوّعة في العوالم لا يضيف إليه شيئًا، لا شيء لا شيء ولو مقدار رأس إبرة. سأضرب لكم مثالاً الآن، فأنا الآن يمكنني أن أظهر يدي بأشكال مختلفة، فتارة أغلقها، والآن أغلقتها، أغلقت كفّي، والآن أفتحها وأتركها هكذا، والآن هكذا، ثمّ ظهرها إلى الأرض، ثمّ وجهُها إلى الأرض، ثمّ أجعلها نحو الأعلى، ثمّ أفرّج الأصابع و… ففي هذه الحركات التي شاهدتموها كم غِرامًا أضيف إليّ؟ لا شيء! لم يُضف إليّ واحد من مائة جزء من الغِرام ولا نقص منّي ذلك، كلاّ فلا نقصان ولا زيادة، لن ينقص من الذات الأحديّة مقدار رأس إبرة ولن يزيد، كلّ ما هو موجود فهو في حيطة الوجود وذاته البحتة والبسيطة والتي تظهر في مرتبة الانبساط، والانبساط الحاصل لا ينافي بساطته، بل يتحقّق ذلك الانبساط في عين بساطته، لا أنّه يضاف إلى ذلك البسيط شيء. فلا شيء خارج ذات الوجود لكي يضاف إليه، لا شيء، وهذا الفضاء والمكان قبل أن نأتي نحن إليه كان خاليًا، فجاء كلّ واحد من الرفقاء بعد الآخر وجلسوا هنا، ففي البداية جاء واحد، ثمّ جاء آخر، ثمّ ثالث وهكذا جاء الرفقاء من الخارج، وملؤوا هذا المكان. والآن الرفقاء موجودون هنا وقد امتلأ بهم فضاء من هذا المكان، والحال أنّ ذلك لم يكن، ولكنّ هذه التغيّرات والتبدّلات كامنة في نفس ذات الوجود الذي هو ذات الباري تعالى، ولا حقيقة خارج تلك الذات لكي تضاف إليها فتصل بها إلى الكمال، وتضيف على وزنها، وعلى تجرّدها ونورانيّتها وعلى ظهورها. كلّ ما هو موجود فهو عنده ومنطو فيه، غاية الأمر أنّ كلّ ما هو منطو فيه وفي ذاته بنحو الإجمال يظهر بصورة الانبساط وبصورة التفصيل في الخارج، فإذن لم يضف شيء إلى ذات الله ولا نقص منها شيء، لا شيء. هذا هو ما يسمّى بالوجود الغنيّ وبالذات التي هي في الغنى المحض، في الاستغناء وعدم الحاجة المحضة، محض الاستغناء وعدم الحاجة.
ابتهاج الذات بذاتها وآثارها
الآن هذه الذات البحتة والبسيطة التي هي منبع ومبدأ لجميع التطوّرات والمظاهر والحقائق، هذه الذات لها صفة الابتهاج بخصوصيّاتها، فهو المبتهج بذاته في ذاته.
إنّ لكلّ واحد منّا صفات ولدينا حالات مختلفة بالنسبة إلى هذه الصفات، فإن كانت صفتنا صفة غير مناسبة من حيث الموازين الأخلاقيّة فإنّا نخجل لماذا أنا هكذا وهكذا؟ لماذا أنا بخيل؟ لماذا لا أضبط كلامي؟ لماذا أتدخّل في أعمال الناس؟ لماذا أنا أحبّ أن يكون فلان عاملاً تحت أمري وأكون أعلى منه؟ لماذا؟ فعندما نرجع إلى أنفسنا نرى أنّ لدينا ردّة فعل تجاه كلّ واحدة من هذه الصفات، نشعر بهذه الصفات الرذيلة في وجودنا، طبعًا هناك من يختلف الأمر لديهم بشكل كامل حيث لم يعد لديهم معنى للصفة الرذيلة، {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}۱ لقد انقلب تفكيرهم بشكل كامل حتّى إنّهم ليغرقون في الذنب ويستمرّون على الذنب و المعصية حتّى تنتهي عندهم القدرة على تشخيص الفضيلة من غيرها، الفضيلة عندهم تفقد قيمتها، والرذائل عندهم تصبح فضائل، فالاحتيال يصبح ذكاء، والسرقة تصبح ذكاء، والتفكير في العواقب و أمثال ذلك [يفقد قيمته]، فقد انتهى أمر الإنسان وختم على سجلّه. ولكن قبل أن نصل إلى هذه الحالة تكون لدينا ردّة فعل على صفاتنا وخصوصيّاتنا التي فينا، نقول: كم كان حسنًا أن أكون مثل فلان، كم كان حسنًا أن تكون لديّ خصوصيّات فلان! كم هو جيّد! انظر كم هو حسن! انظر كم هو إنسان جيّد! كم هو صافٍ، انظر لا حقد لديه ولا غشّ في عمله. انظر إنّه صادق مع الجميع. انظر هو صادق حتّى عندما يكون الصدق مضرًّا له. انظر وانظر، هذا كلّه لماذا؟ لأنّنا نتفاعل مع الصفات والغرائز والخصال والشمائل الفطريّة التي أودعها الله في ذات الإنسان، فنعرف أنّ هذا العمل خطأ [وأنّ ذاك صواب] فنسعى إلى الوصول إليه وإلى التخلّص من الصفات غير المستحسنة، فهذه الحالة التي نراها في أنفسنا بالنسبة إلى الصفات المستحسنة تسمّى ابتهاج النفس.
نعم أحيانًا يمكن أن يبتهج الإنسان ببعض الأشياء التي لا تستحقّ، كأن يكون المال كثيرًا فيفرح الإنسان في نفسه لكثرته، هذا شيء لا يستحقّ ولا فائدة منه، ولكنّ هذه الصفات ليست كذلك، فمثلاً يكون لدى الإنسان علم وعلمه كثيرًا فيبتهج بعلمه، ويكون لإنسان ما فنّ فيبتهج بفنّه، كالخطّاط والرسّام، وقد شوهد أنّ بعض الخطّاطين والرسّامين عندما يخطّطون يبتهجون ويفتخرون بهذا العمل الذي ظهر عنهم بحيث إنّهم لا يكونون مستعدّين لبيعه حتّى بالملايين، أي لا يريد أن يبعد هذا العمل عن نفسه، والحال أنّ هذا العمل لو كان قد صدر عن غيره لالتذّ به أيضًا وبالدقّة التي أعملت فيه، ولكن لا بالمقدار الذي يحصل لديه عندما يكون هذا العمل منه، فالأمر يختلف، فبماذا يختلف؟! في أنّه يرى هذا من نفسه، وذاك من آخر، هذا من ترشّحات وآثار ذاته، ولأنّ الإنسان مبتهج بذاته يبتهج أيضًا بآثار ذاته ومظاهرها وتجليّاتها.
فذلك الطفل الذي يسير في الشارع إذا نظر إليه الإنسان فهو طفل في النهاية، ابنه عمره خمس سنوات أيضًا وهذا عمره خمس سنوات، فالإنسان المتعارف أصلا لا ينظر إليه، بل لو ضربته سيّارة لما نظر، إنّه حيوان، والحيوان عندما يرى أنّ هناك ضررًا وأذى يصيب إنسانًا ينظر هكذا! والإنسان المتعارف إذا نظر إلى الشارع فرأى أمًّا تمسك بيد ابنها وتمشي يمرّ هو أيضًا هكذا مرور الكرام، ولكن ما إن تقع عينه على طفله هو تجد فجأة أنّ عينيه قد اتّسعتا وتغيّرت حالته. فلماذا؟ فالطفل طفل في النهاية، لأنّ هذا طفله نجد أنّ له ردّة فعل مختلفة، فإلى أيّ شيء يعود ذلك؟ يعود إلى حبّ الذات الذي هو ابتهاج بالذات ونتيجة حبّ الذات حبّ آثارها ولوازمها، وكثيرًا ما يحدث أن يفدي الإنسان نفسه كي لا يقع ذلك الضرر على تلك الذات وعلى ذلك الطفل.
بلوغ النبيّ إبراهيم مرتبة الإمامة بعد تخلّيه عن إسماعيل الذي هو من آثار ذاته
ذات يوم وفي العهد السابق عهد الشاه، كان هناك محاضرة في مسجد القائم، وكان المحاضر رجلاً فاضلاً رحمة الله عليه، فنحن لم ندرك كيف مات وكيف توفّي، لم نلتفت ماذا كانت قصّته ولم ندركها. كانت لديه جزوات وفي أحدها كان يطرح مسألة النبيّ إبراهيم عليه السلام وأنّ الامتحانات التي امتحنه الله بها جعلته يصل إلى الكمال، فقد ألقي النبيّ إبراهيم في النار فحدث له التخلّي عن النفس التي هي أرفع الأمور قيمة عند الإنسان، ولذلك وصل إلى مقام الولاية، {وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُك لِلنَّاسِ إِماماً}۱ لقد طوى النبيّ إبراهيم الكثير من الامتحانات وعندما وصل إلى آخر امتحان جاءه نداء الإمامة وأوصله إليها. لقد طرح في تلك الجزوة والتي هي تفريغ لمحاضراته هكذا. وعندما طالعتها ذهبت إلى المرحوم العلاّمة وكان عمري حينها سبع عشرة سنة أو ثمان عشرة سنة، فقلت: هذا الأمر خطأ، فنحن لدينا حول النبيّ إبراهيم أنّ إلقاءه في النار كان في شبابه لا في شيخوخته.
فقال العلاّمة: نعم صحيح، ولكنّ يبدو أنّ الاستدلال فيه مغالطة في أنّ الإنسان يتخلّى عن نفسه في آخر مرتبة. ثمّ قال: كلاّ ليس الأمر هكذا، ففي كثير من الموارد يكون الإنسان مستعدًّا أن يقدّم نفسه من أجل تلك الآثار المتولّدة عنه، وسبب ذلك هو أنّه يرى وجوده يستمرّ في وجود ذلك الابن، ووجوده الباقي قد ظهر الآن بصورة الابن، وهو يعطيه استمرارًا.
هل رأيتم هؤلاء الملوك والسلاطين والحكّام عندما يشرفون على الموت يجعلون خلافة أبنائهم أمرًا قانونيًّا؟ أو عندما يريد سلطان ما أن يترك السلطة يوكلها إلى ابنه ولا يكون منزعجًا أيضًا لأنّه يرى أنّ وجوده يتحقّق في هذه السلطة بواسطة ابنه، يقول: حسنًا بما أنّي ذاهب الآن، فعلى الأقلّ يستمرّ ابننا هذا. ويكون مسرورًا بذلك ولا ينزعج أبدًا، فلو قيل له: بما أنّك ذاهب فما الفرق بين أن تكون هذه السلطة لابنك أو لغيره من الغرباء عنك؟ يقول: كلاّ! لا بدّ أن يكون ابني هو من يصل إلى السلطة، فهو يرى ذاته في وجوده الباقي هذا وهذا هو الابتهاج بالذات وحبّ الذات والتوجّه إلى الذات ومحوريّة الذات، لذلك يرى أنّه حتّى لو أخذ ابنه السلطة فإنّه لا يتأثّر، لم يختلف الأمر كثيرًا. عادة ما يكون الأمر هكذا، والأمر هكذا في كلّ مكان، يجعلون السلطة والحكومة والخلافة وأمثالها لأبنائهم.
هذا لأجل حبّ الذات الذي يمتكله الإنسان، وعندما ينال النبيّ إبراهيم ولدًا هو النبيّ إسماعيل وبتلك الخصوصيّات والأحوال والأخلاق التي تجعله يليق بمقام النبوّة ومقام الرسالة، والنبيّ إبراهيم يرى كلّ ذلك، يرى هذه الأمور في هذا الابن الذي هو النبيّ إسماعيل، له قابليّة للخلافة الإلهيّة، قابليّة للإمامة، قابليّة للرسالة، فعندما يرى ذلك يرى كماله الوجوديّ في استمراره وبقائه هل رأيتم عندما يبلغ ابن ما مرتبةً علميّة معيّنة فإنّه يصحبه معه أينما ذهب ويأنس بذلك؟ انظروا إلى ابني مثلاً كم له من شهرة! انظروا إلى وضعه! يبديه للجميع، لقد انتسب ابنه إلى الجامعة أو مثلاً بلغ مكانة معيّنة، يريه للجميع أن انظروا إلى ابني! فلماذا يفعل ذلك؟ لأنّه يشير إلى الكمال الوجوديّ لنفسه في هذه الحيثيّة والظهور.
ضرورة احترام الآباء للوصول إلى الله (قصّة الطبيب الذي يتقدّم على أبيه)
كان هناك أحد الأصدقاء من الأطبّاء المعروفين نسأل الله أن يسلّمه، وكنّا في أحد المجالس، وبيننا علاقة حميمة، كنّا في أحد المجالس فرأيته قد دخل إلى أحد المجالس وكان متقدّمًا على أبيه! لا أحد يعرف أباه، أمّا هو فرجل مشهور تعرفه الدنيا كلّها! فلمّا جاء قلت له: الأب أولاً ثمّ أنت، وانتظرت قليلاً و… وقد قلت لكم: إنّ بيني وبينه علاقة حميمة وهو يتحمّل منّي هذه الأمور إلى حدّ ما كالآخرين، فقلت له: الأب مقدّم. فتغيّر حال الأب واضطرب، القاعدة هو أن يكون هو أوّلاً. فلم يكن يعرف ذلك. قال: لا لا! قلت: كلاّ القاعدة هي أن تكون أنت الأب أوّلاً، فكلّ ما لديه هو منك، وكلّ موقع له ومكانة وصل إليها هي منك، وأنت علّة وجوده، أنت العلّة المعدّة لوجوده وعليه أن يشكر ذلك حتّى نهاية عمره. وقد التزم ذلك الطبيب بذلك من حينها، فمن الواضح أنّه لم يكن ملتفتًا، لا أنّه كان قاصدًا. ولكن هذا واجبنا، الواجب هو: {وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كما رَبَّيانِي صَغِيراً}۱
أظهر تواضعك، فهذه أمور يقتضيها ذلك المقام التوحيديّ، فمقام التوحيد يقتضي أن يكون العبد أمام الربّ في حال تواضع وحال خشوع وحال خضوع، إنّها الحيثيّة الربوبيّة التي أدّى بُعدها الخلقيّ إلى وجودنا وبروزنا، وبواسطة هذه المسألة فإنّ لله مالكيّة ونحن مملوكون، انظرا إلى نظام التكوين تجدون أنّ هذا الأمر حصل بواسطة الأب.
برّ الوالدين ولو كانا على غير منهجك
فيقول الله: وهنا أيضًا لا بدّ أن تقوم بذلك، سواء كان أبوك مسلمًا أم لم يكن، فلا شأن لك بذلك! لا شأن! الأب أب، والأمّ أم، سواء كانت الأمّ موافقة لطريقك أم مخالفة فما شأنك أنت؟! هي تسير في طريقها ولها سجلّها الخاص وحسابها، وأنت احترامك لأمّك وأبيك لا بدّ أن يكون حقيقيًّا لا تصنّعيًّا بحيث يخالون أنّك تمثّل فيلمًا أو مسرحيّة وتقوم بعرض، كلاّ يجب أن تقبّل يد أبيك بعنوان أنّه هو السبب في وجودك في هذا العالم وهو الذي يسبّب وصولك إلى هذه الفيوضات، فلو لم يكن أبوك فمن الذي كان سيأتي بك؟ من؟
نعم هناك أمثال آدم وحوّاء كانوا بلا أمّ وأب لم يكن لهما أبوان، أو النبيّ عيسى لم يكن له أب وكانت له أمّ. {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون}۱.
فهناك حقيقة واحدة وإرادة واحدة جارية في كليهما، وفي هذه الآيات أسرار وأسرار! هناك حقيقة واحدة سارية فيهما، قال للتراب كن فكان، وقال للنبيّ عيسى كن فكان، في كليهما. ولكنّهم يفسّرون خلقه بهذا النحو أو بذاك ولا أدري ما يصنعون! يبحثون عن علّة وعن سبب ويصنعون خليّة، وطبعًا هذا لا ينافي [إرادة الله] هذه الأمور لا تنافي.
لذلك فقد قال الأعاظم لا شأن لكم بما يكون عليه الأبوان وقوموا أنتم بما عليكم! قوموا بما عليكم، إيّاكم أن يروا منكم لا مبالاة، إيّاكم أن يروا منكم تساهلاً! إياكم أن يروا منكم عدم اعتناء! ألستم تريدون اتّباعي؟ حسنًا فهذا هو الطريق. الله يقول: ألا تريدون أن تأتوا إليّ؟! فهل تريدون أن تأتوا إليّ على خلاف طريق الوصول وما يقتضيه؟! فلن تصلوا إذا أبدًا، لن تصلوا. طريقي هو طريق الأدب وطريق الأخلاق، طريقي هو طريق التربية وطريق الطاعة، لا بدّ أن تطيع، هذا الطريق طريقي، مهما كان طريق الأب ومنهجه ومسلكه فهو له، طبعًا على الإنسان أن لا يتوانى عن النصائح المشفقة، أن لا يتوانى عن إعداد الجوّ المناسب لقبول الحقّ، أمّا أن يعبس الإنسان ويقطّب إذا ما قال أبوه شيئًا فكلاّ وكلاّ وكلاّ! لا معنى لذلك، هذا يبعد الإنسان ويلقي به جانبًا، لماذا؟ لأنّ الأمّ وسيلة، لماذا يقولون: الجنّة تحت أقدام الأمّهات٢؟ لأنّها وسيلة لوجود الإنسان، وسيلة لظهور الإنسان، وسيلة لجلب النعم، فلو لم تكن للإنسان أمّ فلا مجال له في النهاية وقد أزيحت عنه المسؤوليّة، ولكن أحيانًا تكون له أمّ وبواسطة هذه الأمّ [يمكنه أن ينال الكثير].
برّ السيّد أحمد الكربلائي لوالدته رغم إيذائها له
والسيّد أحمد الكربلائي رحمة الله عليه من المصاديق التي يمكن أن تكون لنا أسوة في هذا المجال، فالسيّد أحمد الكربلائي كانت والدته امرأة سيّئة الخلق معه ومع ابنه، عجيبة، واقعًا عجيبة! فأحيانًا يبتلي الله الإنسان بابتلاءات لا بدّ أن يكون دقيقًا فيها. لم تكن تسمح لابنه أن يشرب شربة ماء هنيئة، وهذه التعابير أنا أعبّر بها وبشكل دقيق، كلّ ما كان يشتريه ويأتي به إلى المنزل كانت تأتي فورًا ـ في النهاية هو لديه زوجة وأولاد، وكان السيّد أحمد عالمًا كبيرًا من علماء النجف من الأعاظم والأولياء ـ ما إن كان يأتي كان تأتي والدته على الفور وتأخذ الكيس الذي في يده وتنظر فيه فتأخذ الجيّد منه وترمي الباقي في فناء الدار! والعجيب هنا أنّ زوجة السيّد أحمد لم تكن تبدي له انزعاجًا! فكم كانت امرأة عظيمة! أفهل يوجد مثلها؟! ما شاء الله! بل لو وجد واحد بالمائة منها لكنّا بألف خير! [الآن يقال:] يا كذا وكذا من أنا ومن هي؟ وأمثال ذلك… فعلى الإنسان أن يعرف هذا ويفكّر فيه ويطبّقه على نفسه، ويعلم بأنّه سيأتي يوم وينتهي ذلك. فالمشكلة تنتهي في يوم من الأيّام، فهذه ذهبت وتلك ذهبت أيضًا، والجميع ذهبوا، ولا أحد منهم الآن، والآن يعلم من الرابح ومن الخاسر، فالجميع مضوا، فهذه الدنيا ليست بالتي تحتفظ بأحد، هذا قبل ذاك بعشر سنين وذاك بعد هذا بخمس سنين، في النهاية السيّد أحمد مضى، وأمّه أيضًا مضت، وزوجته كذلك هي الأخرى، جميعهم غادروا وانتهى الأمر.
فالمشكلات التي كانت تسبّبها هذه المرأة للسيّد أحمد كانت حديث الألسن، وكان الناس في ذلك الحيّ يتناقلونها، فقد كان ذلك عجيبًا، وكان نوعًا من البلاء، بلاء ابتلاه الله به وكان هو يصبر ولا يقول شيئًا، يقوم بجمعها من فناء الدار، ثمّ كانت تبدأ بالسباب والشتائم قدر ما تستطيع، هكذا كانت. إلى أن توفّي السيّد أحمد، وطبعًا الحساب في النهاية دقيق، فأعمال الله محسوبة وليس الأمر هكذا بحيث يفعل الإنسان ما يحلو له وإن كانت هي أمًّا وهو ابنها، فعلى الأمّ أن تحاسب على ما فعلت مع ابنها، ولا تتصوّر أنّها لأنّها أمّ تفعل ما تريد وتسبّب ما تريد من الضغوط، أو الأب لأنّه أب فهو يفرض أيّ أمر غير منطقيّ وغير عقلائيّ وغير عرفيّ، كلاّ كلاّ كلاّ! ليس الأمر هكذا! ليس هكذا! فلكلّ شيء حسابه، ولكلّ شيء موضعه.
مكانة السيّد أحمد الكربلائي العلميّة والمعنويّة (تهديده للميرزا الشيرازي بسبب ترشيحه للمرجعيّة)
لقد انتقل السيّد أحمد الكربلائي إلى رحمة الله في السابعة والأربعين من عمره، فانظروا عمره ٤۷ سنة وكان عارفًا بالله وعالمًا بالله وبأمر الله. وهذا الكلام الذي أقوله لكم سمعته من فم المرحوم العلاّمة، كلّ جملة من هذا الجمل التي أقولها لكم: فارق الدنيا في سنّ السابعة والأربعين وهو عالم بالله، عالم بأمر الله، عارف بالله. كان رجلاً عظيم الشأن، كان حرًّا، وأنا تعجبني كثيرًا حريّته هذه، لقد كان حرًّا إلى درجة وعالمًا إلى درجة لا يتمكّن أحد معها من مواجهته، كان يطحنه، لم يكن أحد في النجف يجرؤ أن يغمز في بحث السيّد أحمد وفي علميّته وتفوّقه العلميّ. ويكفي أن تعلموا أنّ الميرزا محمّد تقي الشيرازي رشّحه للمرجعيّة من بعده وهو في سنّ الثالثة والأربعين أو الرابعة والأربعين بينما كان الميرزا في الثمانين، فقد كانت له هذه المرتبة من العلم، وطبعًا كان الميرزا محمّد تقي من أصحاب القلوب وأهل الباطن وكان يعلم أنّ هناك شيئًا ما عند هذا الرجل. وقد نقل المرحوم العلاّمة في بداية كتاب توحيد علمي وعيني ذاك الإنذار القاطع الذي قدّمه السيّد أحمد للميرزا الشيرازي من أنّك إذا أردت اليوم أن تتجاوز حدّك فماذا ستصنع غدًا يوم القيامة عندما تكون الحكومة لنا وعندما أقف أمام رسول الله جدّي وأمنعك من العبور بسبب هذا العمل الذي قمت به ولا أدعك تتجاوز؟! وقد كان صادقًا فالحكومة بأيدي هؤلاء، حكومة ذلك العالم بأيديهم، بأيديهم.
تحذير العلاّمة الطهراني بالإلقاء في النار لمن أفتى بجواز إسقاط الجنين
لا أنسى أبدًا هذه الحادثة، أبدًا، كنّا في مشهد في مستشفى القائم، وكان المرحوم العلاّمة قد ابتلي بمرض في القلب، والدكتور ذكاوت يتذكّر ما أقوله، فقد كان حاضرًا، ففي المرّة الأولى التي أصيب فيها بنوبة قلبيّة وبقي في العناية مدّة أسبوعين ثمّ نقل إلى قسم المرضى، عندما كان في هذا القسم كان الأطبّاء والأصدقاء والمعارف يتردّدون عليه ويعودونه، وذات يوم جاء أحد الأطبّاء المعروفين والذي يدعى الدكتور فتّاحي والمتخصّص في جراحة الصدر والذي هو رجل صاحب أخلاق ومتديّن وملتزم، جاء برفقة بعض أصدقائه لعيادته وكنّا نحن حاضرين أيضًا، وكان المرحوم العلاّمة قد جلس، فقد كانت حالته تسمح له بالجلوس، وحينها جرى الحديث حول أنّ بعض العلماء ـ وقد مات الآن ـ وزّع إعلانًا أو رسالة حول أنّ إسقاط الجنين أمر مباح ويمكن للإنسان أن يراجع المستشفيات ويسقط الجنين، فكان الدكتور فتّاحي يقول: وزّعوا إعلانًا أنّه يمكنكم في هذه الظروف أن تجهضوا الجنين ولا إشكال في ذلك! وكان هذا الدكتور والآخرون يسألون: ما حكم هذا وما حاله وما حكمه الشرعي؟ فهذا الجنين الذي لا ذنب له لماذا يسقط؟ أي إنّ هؤلاء كانوا معارضين لذلك، ورغم أنّهم لم يكونوا من أهل الاختصاص في العلوم الدينيّة، ولكن كان وجدانهم يؤنّبهم ولم تكن فطرتهم ترضى بأن يسكتوا على ذلك.
وما إن سمع المرحوم العلاّمة بذلك حتّى رأيت الغضب في وجهه، وانتفخت أوداجه وقال: أقسم بالله سألقي هذا الرجل بيدي يوم القيامة في قعر جهنّم! فقلت: ما شاء الله! انتهى الأمر أيّها الشقيّ! لقد عُلم الآن أين هو موضعك، علم الآن أين هو مكانك، فقد توفّي كلاهما وانتقلا إلى هناك معًا، وطبعًا فقد توفّي المرحوم العلاّمة قبله وانتظره هناك قليلاً، بضع سنوات ثمّ مات ذاك! فانظروا! سألقي به بيدي في قعر جهنّم. ماذا؟! أتوزّع إعلانًا على خلاف حكم رسول الله؟ أفهل الأمر هراء وفوضى؟ هناك حساب على الدنيا يا عزيزي، حريم الله له حساب، هذا الجنين حريم الله، عبد الله لا بدّ أن يأتي إلى هذه الدنيا، يطوي مراتبه ويسير في حالاته، ويبلغ إلى المراتب، يقول: {لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}. أهكذا هي الأمور؟! وهل الطفل هرّة تسقطونها وتلقونها؟ هل هم جراء كلاب؟ هؤلاء مسلمون، هذا الطفل إنسان، هذا الطفل مسلم، إنسان. أهكذا أسقطوه، أسقطوه؟! وكأنّه صغير هرّة أو جرو كلب أسقطه أسقطه.
فأين تلك الروايات والأحاديث التي عن رسول الله من أنّه "ما يمنع المؤمن أن يتّخذ أهلاً لعلّ الله أن يرزُقَهُ نَسَمَةً تُثقِلُ إلأرضَ بلا إلهَ إلّا اللهُ".۱ "فيكتب له حسنة إلى يوم القيامة. و إنّي أباهي بكم الأمم يوم القيامة ولو بالسقط".٢ فإنجاب الأولاد مهمّ إلى درجة وله أهميّته… وأين ذهبت تلك الروايات التي تقول: تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإنّي أباهي بكم يوم القيامة؟ فماذا حصل في ذلك؟ ماذا جرى؟ الآن يقولون: لا نستطيع أن نربّي! أنت بنفسك ما شاء الله مربّى جيّدًا؟ مؤدّب جدًّا؟ ونحن نرى أبناءك، نرى الآثار الوجوديّة لجنابك، رفيعة المستوى، رفيعة المستوى! فهؤلاء الذين صاروا هكذا الآن هل صاروا كذلك بسبب كثرتهم فلم تستطع تربيتهم؟!
والحاصل أنّ الحكومة في ذاك العالم بيد هؤلاء، ونحن علينا أن نلتفت جيّدًا. السيّد أحمد الكربلائي يقول: إنّ الحكومة يوم القيامة بيدي، فالتفت أيّها الميرزا ولا تتعدّ حدودك ولا توكل المرجعيّة إليّ! آه آه آه ماذا كان هؤلاء وكيف هم الآخرون!
مكانة الشيخ هادي الطهراني المكفّر وكلامه عن الميرزا الشيرازي وحسنه الذاتيّ
فمثل الميرزا محمّد تقي الشيرازي صاحب المقام العلميّ وصاحب مقام طهارة النفس ومقام القداسة… فقد كان رفيع الشأن إلى درجة أنّ الشيخ هادي الطهراني رحمه الله والذي كان من أعاظم النجف في علميّته وكان يتمتّع بشيء من الصراحة في كلامه، ولذلك لم يكن ليعجب الكثيرين، وقد كفّر مؤخّرًا أيضًا ذلك المسكين، ولم يكن كافرًا! كلّ من لم يقوُوا عليه يقولون: كافر ومرتدّ وأمثال هذا الكلام! فقد كان حينها أمثال هذا الكلام موجودًا أيضًا، ولم يكن يصغي إلى هذا الكلام، فلم يكن يعدّهم بشرًا أصلاً حتّى يرتّب على كلامهم أثرًا، ولم يكن له سوى عشرة أو خمسة عشر تلميذًا وهم أيضًا كانوا [يخالفونه]، وكان مستأنسًا في تدريسه، كان مثلي أو أنا مثله، وذات يوم فوجئوا بأنّه غير موجود، لم يحضر في وقت الدرس، ومهما بحثوا عنه لم يجدوه، اليوم الأوّل والثاني ومهما بحثوا عنه لم يجدوه، ثمّ وبعد بضعة أيّام رأوه جالسًا في مسجد الكوفة في إحدى غرفه، وكان قد اشترى الكثير من الفواكه ويقرأ لنفسه شعرًا، يقرأ شعر حافظ، فذهب إليه أحد تلامذته وسأله: هل أنت بخير؟! فقال: وماذا هناك؟! قال: نحن منذ أربعة أيّام نبحث عنك وأنت هنا تجلس مطمئنًّا تقرأ الشعر! أتقرأ شعر حافظ؟!
فقال: لقد وصلني مبلغ من المال من إيران وما لم ينته هذا المبلغ فالدرس معطّل، فتعالوا أنتم أيضًا تعالوا نصرفه معًا، فإذا ما انتهى نكون قد أخذنا حظّنا من الراحة فنكمل باقي الدروس. والحاصل أنّه كان من هذا النوع من الناس! وكانت حاله هكذا. ولم يكن أحد بمأمن من انتقاداته، فكلّما وصل إلى واحد كان يقول عنه شيئًا، أيًّا يكن، فيقول عن هذا شيئًا وعن ذاك شيئًا، ولأنّه لم يتمكّن من العثور على مثلبة في الميرزا الشيرازي ولم يستطع الاعتراض عليه قال: إنّ صفاء باطن الميرزا وحسنه ذاتيّان، لا فضل له في ذلك، لم يبذل جهدًا! حسنه ذاتي ذاتيّ! فكما أنّ الماء صفاؤه ذاتيّ هذا أيضًا حسنه ذاتيّ وليس مهارة. وإلا لو استطاع لجاء بشيء من أعماق سجلّ الميرزا وألصقه به. فقد كان هذا الرجل الميرزا صافيًا وطاهرًا إلى درجة أنّ العيب الوحيد الذي استطاع الشيخ هادي الطهراني أن يعيبه به هو أنّ حسنه ذاتيّ لم يكتسبه بنفسه، ولم يحصّله بنفسه، لقد كان من البداية هكذا، كان من البداية ذا صفاء، لا فضل له في ذلك، لم يقم بشيء، فهذا هو العيب الذي عابه به.
جواب السيّد أحمد الكربلائي على الميرزا الشيرازي عند ترشيحه للمرجعيّة
فهذا الميرزا الذي هو بهذه الحالة عندما يجعل السيّد أحمد مرجعًا من بعده يرتفع صراخ السيّد أحمد أن من أنت حتّى اخترتني من بعدك؟! ما هو دورك؟! ما شأنك حتّى تريد أن تجعلني من بعدك مرجعًا؟! لماذا تُرجِع إليّ في الاحتياطات؟ فقد كان متعارفًا حينها أنّه إذا أرجع إلى أحد فهذا يعني أنّه سيكون مرجعًا في نظره، فلماذا صنعت ذلك؟ أنا لديّ تكليفيّ وأنت لديك تكليفك، أنت تشعر أنّ تكليفك أن تكون المرجعيّة لك فليكن ذلك، فإذا ما توفّيتَ ينتهي الأمر، انتقلت إلى رحمة الله وانتهى الأمر، أليس هناك ربّ للدنيا؟ لا داعي لأن يحترق قلبك على الناس! فإذا أردت أن تفعل ذلك مرّة أخرى فستكون خصمًا لي ولجدّي! ولم يكن الميرزا الشيرازي سيّدًا، وليس حديثنا عن الميرزا الكبير، فالميرزا الكبير الميرزا حسن الشيرازي كان سيّدًا، فلو كان يتكلّم معه لكان قال له: إن كان لك جدٌّ فإنّ لي جدًّا هناك أيضًا ونمضي معًا إليه ونصفّي حساباتنا. ولكنّ هذا الميرزا الميرزا محمّد تقي الشيرازي لم يكن سيّدًا، بل كان شيخًا وكان رجلاً عظيمًا طاهر النفس، وكان المرحوم العلاّمة يبيّن الكثير من الحكايات عن طهارة نفسه، فقد كان أستاذ جدّنا المرحوم الحاجّ محمّد صادق الطهرانيّ، فقد كان من تلامذته في سامرّاء ثمّ في كربلاء.
جزاء والدة السيّد أحمد بعد وفاته
لقد كانت مكانة وشأن المرحوم السيّد أحمد هكذا، وكان حاله مع والدته ما ذكرنا، وكانت وفاته قبل والدته، فلمّا توفّي تغيّرت الأمور، ومن هنا فصاعدًا لا يمكن أن يقال ماذا جرى على هذه الأمّ بسبب أذيّتها لابنها، فهذا لا يمكن الحديث عنه، لا يمكن الحديث عنه، فالدنيا فيها حساب. صحيح أنّك كنت أمًّا ولكن هذا كان عبدًا لله أيضًا، وهذا له حسابه وكتابه. وما هو ذنب زوجته حتّى كنت تضغطين عليها هكذا؟ وعلى أيّ أساس؟ ولماذا كنتِ تؤذينها؟ ففي النهاية على أيّ أساس؟ فهذه أمور توجب عبرة للإنسان؟ والخلاصة أنّها انتهت إلى حال كان يجعل كلّ من يمرّ في الشارع يترحّم عليها، هذا في الجملة وبدون تفصيل وتوضيح. ثمّ وبواسطة المرض ماتت هناك في مكانها في الشارع ومنه أخذوها ودفنوها.
فمسألة احترام الأب والأمّ هي في هذا السياق، في سياق الربوبيّة، والتي بواسطتها تقتضي منّا التواضع والخشوع، ولكن بالنسبة إلى الوالدين أيضًا هما وسيلة من الناحية التكوينيّة، لذلك فإنّ الأعاظم كانوا يقولون: لا بدّ من احترامهما. لا بدّ من احترام الأب والأمّ وهذا الاحترام مؤثّر في الإنسان. على الإنسان أن لا يتصوّر أنّ هذا الاحترام يبقى هكذا، كلاّ بل يؤثّر، يحلّ العقد ويفكّ معضلات الإنسان، ويرفع الموانع عن طريق الإنسان، يسهّل طريق الإنسان، هكذا جعل الله الأمر، هكذا جعله الله. فإذا أراد الله أن يخترع طريقًا من نفسه فليتفضّل بسم الله، أمّا إذا أردت أن تعمل بما يجب أن تعمل به فهذا هو، العمل هو الاحترام الحقيقيّ للوالدين ورعاية حالهما، وعليه أن يعلم أنّه سيأتي يوم يتحسّر فيه الإنسان ويقول: ليتني أوليت ذلك المزيد من الاهتمام، المزيد من الاهتمام، المزيد من الاهتمام، فلم يعد هناك مجال في النهاية، والعمر لا يعود لكي يحيا هؤلاء من جديد ليقوم الإنسان بذلك. وعلى كلّ حال هناك خلال حياة الإنسان موارد يتحسّر عليها ويتأوّه على فواتها. على الإنسان أن يطلب من الله ليوفّقه للعمل بما يجب وفي الوقت الذي يجب.
دور ابتلاء إبراهيم بإسماعيل في وصوله إلى الكمال
فمسألة ابتلاء النبيّ إبراهيم عليه السلام بالنبيّ إسماعيل هي التي جعلته يصل إلى الكمال، لأنّ وجوده هو الوجود الباقي للنبيّ إبراهيم، لذلك فإنّ ذبحه كان أصعب من أن يفارق هو الدنيا. فلو أنّ عزرائيل جاء آنذاك وقال لإبراهيم: تفضّل. لربّما قال: حسنًا لنذهب. ولكن عندما كان يأتي ويقول: إسماعيل. كان إبراهيم يتوقّف، ويتأمّل، هل هذا صحيح أم لا؟كان يستصعب كيف يخبر السيّدة هاجر أمّه بذلك، وعلى كلّ حال عندما قام بذلك [وصل].
قصّة إبراهيم وإسماعيل هي لنا جميعًا
وفي هذه القصّة عجائب وأسرار تشير إلى أنّ قصّة إبراهيم وإسماعيل ستحدث مع الجميع، لا بدّ أن تحدث، لا بدّ أن يتجاوز الإنسان هذه النقطة، فلا بدّ أن تحدث حتمًا. وليس بالضرورة أن يكون له ولد، فربّما لا يكون لإنسان ما ولد، ولكن هذا هو المخطّط لطيّ هذا الطريق، هذا هو البرنامج، لا بدّ أن يعبر من هنا كي تتجلّى فيه حقيقة التوحيد المطلقة. ما دمت متعلّقًا بذاتي وآثار وجودي فكيف يمكن لحقيقة التوحيد أن تتجلّى؟ لا مكان لها، هذا القلب يرى أنّ مقدارًا منه قد احتلّ، وما دام محتلاًّ فلا مكان، فهذا الكوب الذي في يدي الآن ثلثاه هواء، خمساه هواء، ولكن ثلاثة أخماسه الأخرى ماء، هذا الماء في هذا الكوب فلا يمكن للهواء أن يأتي. لا بدّ من شرب هذا الماء لكي يأتي الهواء بدلاً منه، أو أيّ سائل آخر، ومادام هناك تعلّق في قلب ما، ولو كان هذا التعلّق صحيحًا، فلأجل الوصول إلى حالة من عدم التعلّق ولو كان هذا التعلّق صحيحًا ولو كان الله هو الذي أودعه ولو كان لازمًا للنفس ولحياة النفس، ولكن إذا أراد الإنسان أن يصل إلى عدم التعلّق ألا يجب أن يؤخذ منه هذا التعلّق؟! هذه هي الحقيقة.
هل كان أمر النبيّ إبراهيم بالذبح أمرًا امتحانيًّا أو واقعيًّا؟
النبيّ إبراهيم على نبيّنا وآله وعليه السلام وصل إلى هذه النقطة: إمّا أن تقبل الإمامة مع عدم التعلّق، وإمّا لا خبر عن الإمامة مادمت متعّلقًا بإسماعيل، فالله لا يترك، المنام الأوّل، المنام الثاني:{إِنِّىٓ أَرَىٰ فِى ٱلْمَنَامِ أَنِّىٓ أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ}. وانظر إلى النبيّ إسماعيل: {قَالَ يَٰٓأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِىٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰبِرِينَ}.۱ أصبرُ وأثبتُ على هذا الأمر الإلهيّ. ثمّ بعد ذلك يقولون: إنّ هذه الأوامر امتحانيّة، كيف هي امتحانيّة؟ الأوامر الامتحانيّة هي أوامر يجعل المولى ـ بسبب جهله ـ العبدَ فيها والمأمورَ والمولّى عليه في حالة معيّنة ليعلمَ حاله وخصوصيّته، هذه هي الأوامر الامتحانيّة، سواء ليُعلِم الآخرين أو لنفسه هو، وعلى كلّ حال هناك جهل.
والأمر الذي جاء إلى النبيّ إبراهيم كان أمرًا واقعيًّا، غاية الأمر أنّ الله منعه منه لاحقًا. كان الأمر واقعيًّا، فهذا الأمر يأتي ويعبر بالنبيّ إبراهيم لا أنّ المولى يريد أن يكتشف شيئًا غير معلوم ومجهولاً، كلاّ فالمولى يعلم أنّه سيمتثل، المولى يعلم أنّه يقوم بذلك، فإذن لماذا يأمر؟ لكي يعبر بالنبيّ إبراهيم، كسائر الأوامر، فأمر المولى بالصلاة، وأمره بالصيام، وأمره بالحجّ، وأمره بالإنفاق لماذا؟ لكي يترتّب ذلك الأثر الذي يترتّب على المأمور به، فذلك الأثر بواسطة الترتّب وبواسطة التكليف يتحقّق في المكلّف، فبواسطة الصلاة يحصل على نورانيّة، وبواسطة الحجّ يحصل على تجرّد، وبواسطة الإنفاق يتخلّص من التعلّق، فهذه آثار تترتّب على التكاليف والأحكام، ولكلّ أثره الخاص، فتصل نقطة من نقاط وجوده إلى مرتبة الكمال وإلى مرتبة الفعليّة، هذه هي الآثار.
ما حصل للنبيّ إبراهيم حصل للإمام الحسين عليه السلام
ومن هذه التكاليف أيضًا ذبح الابن، فماذا تقولون إذن؟ ذبح الابن! ولعلّ إسماعيل كان سيذبح، سيذبح، وينتهي الأمر! ألم يذبح عليّ الأكبر؟! فما الفرق؟ ما الفرق بين عليّ الأكبر وإسماعيل؟ ما الفرق؟ فهذه قضيّة مسلّمة في النهاية! ما الفرق بين عليّ الأصغر وإسماعيل؟ طبعًا لو كنت أنا المسؤول لقلت أين عليّ الأكبر أين؟ إنّه في مراتب يلتجئ إليها إسماعيل، يلتجئ. عليّ الأكبر تالي تلو المعصوم، كان قد وصل إلى مقام العصمة المطلقة! كان شيئًا عجيبًا، هو الإمام الحسين الثاني، الإمام الحسين الثاني. فبماذا يختلف حيث يأمر الله إبراهيم خليله بذبحه بيده، ويأتي علي الأكبر فيستأذن أباه الإمام الحسين للنزول إلى الميدان فيقول له امض. كلا هذين الموقفين حقيقتهما واحدة، كلاهما حقيقة واحدة، وذاك يعلم أنّه إذا ذهب الآن إلى الميدان لن يرجع سالمًا، سيواجه تقطيع بدنه إربًا إربًا وأمثال ذلك.
أتذكرون ذلك الشعر؟ ماذا يقول حافظ؟
مرید پیر مغانم زمن مرنج ای شیخ | *** | ... |
يقول:
ما شاء الله رحمة الله عليه!
مرید پیر مغانم زمن مرنج ای شیخ | *** | که وعده تو کردی و او بجا آورد۱ |
که وعده تو کردی و او بجا آورد.
يقول: أنا مريد لصاحب الدير فلا تنزعج منّي أيّها الشيخ فأنت الذي وعدت وهو الذي وفى
فعندما جاء عليّ الأكبر ليستأذن يقول له الإمام الحسين انطلق، في كلّ الموارد كان الإمام الحسين يتوقّف فعند استئذان أبي الفضل يتأمّل الإمام، عند استئذان إخوة أبي الفضل الذين كانوا ثلاثة عون وجعفر و… يتأمّل الإمام، وعند استئذان الجميع يتأمّل، عند استئذان أصدقائه، ولكن عند استئذان عليّ الأكبر لا يتأمّل، وهذا شيء عجيب، عجيب جدًّا، هذه هي الحقيقة.
مرید پیر مغانم ز من مرنج این شیخ | *** | که وعده تو کردی و او به جای آورد |
يقول: أنا مريد لصاحب الدير فلا تنزعج منّي أيّها الشيخ فأنت الذي وعدت وهو الذي وفى
فما الفرق بين سيّد الشهداء والنبيّ إبراهيم؟ فقد أمر النبيّ إبراهيم بقطع التعلّق في النهاية: {إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُك} فلماذا جاء هذا الأمر بقطع التعلّق؟ ليقطع تعلّق إبراهيم بابنه إسماعيل والذي رزقه الله إياه في عمر الشيخوخة شابًّا جميلاً له كمالات النبوّة وكمالات الرسالة وتالي تلوه، لقد أعطاه شابًّا كهذا فهل يمكن أن يتجاوز عنه؟! هل يمكن؟! هذا الأمر الذي جاء هل كان امتحانًا للنبيّ إبراهيم؟ أين الامتحان فيه؟ نعم إذا اعتبرنا جميع الأوامر امتحانيّة فسيكون هذا واحدًا منها أيضًا. الأمر بالصلاة امتحان، والأمر بالصوم امتحان، فهذه امتحانيّة في النهاية، فكلّ من امتثل نجح في الامتحان، يأتي أمر بالصلاة فمن صلّى كانت علامته جيّدة، وإن لم يصلّ يكون قد خالف، ولا علامة له، والصوم هكذا، والحجّ والإنفاق وجميع المسائل هكذا. فإن كان المراد من الأوامر الامتحانيّة هذا النحو فلا إشكال، أمّا إن كانت هكذا غايتها فقط رفعُ جهل المولى بالعبد، فلا لن تكون حادثة النبيّ إبراهيم من الأوامر الامتحانيّة، بل الأمر فيها واقعيّ مثل الصلاة، مثل الصلاة. عندما يؤمر إنسان ما بالحجّ فماذا عليه أن يصنع؟ عليه أن يسعى في تهيئة مقدّماته، يستحصل على جواز سفر وبطاقة طائرة وصورة ويقدّم طلبًا، ويقوم بكلّ ما يتطلّبه السفر. ثمّ إذا ما قام بجميع هذه الأعمال وما إن أراد أن يسافر ويركب الطائرة وقع على الأرض وكسر رجله، وانتهى كلّ شيء، فهل يمكن أن نقول: إنّ هذا الأمر بالحجّ الذي أمر به كان امتحانيًّا من البداية لأنّه لم يتحقّق؟! كلاّ، لقد جاء أمر مثل سائر الأوامر، ثمّ وفي وقته حصل بداء، لقد كان الأمر واقعيًّا وتشريعيًّا مثل الأمر بالصلاة الذي هو للجميع وبعضهم يصلّون ويمتثلون وبعضهم لا يمتثلون، وكالصوم الذي هو للجميع بعضهم يمتثلون وبعضهم يفطرون كما هم مفطرون اليوم، ومثل الأمر بالحجّ، فهذا الأمر الذي جاء إلى النبيّ إبراهيم هو أمر واقعيّ لقطع التعلّق وقد رتّب عليه النبيّ إبراهيم أثرًا، أمسك بالسكّين ووضعها على حلقوم إسماعيل فأين الامتحانيّة فيه؟ وبهذا الوضع على رقبته عبر ومضى وقطع قلبه وسلّمه إلى ربّه واستبدل ابنه بربّه، فلمّا فعل ذلك قال إنّي جاعلك للنّاس إمامًا، أمّا أنّ النبيّ إسماعيل سيقتل ويزول أم لا فهذا ما لا يرتبط بالنبيّ إبراهيم. فالنبيّ إبراهيم يقوم بما عليه. الخليل يأمرني والجليل ينهاني، ويضرب إبراهيم السكّين بالحجر ويقول: لماذا لا تقطعين؟! حتّى كان يقول: لماذا لا تقطعين؟! لماذا لا تعبرين بي؟! لماذا لا تحقّقين قطع تعلّقي؟! فالنبيّ إبراهيم يقول هذا للسكّين، فتتكلّم السكّين فجأة وتقول: الخليل يأمرني أنت تأمرني وتقول لي اقطعي، ولكنّ الله الجليل ينهاني، الله يقول لا تقطعي، فافعل أنت ما عليك، أنت مأمور. ثمّ لمّا رأى ما انتهى إليه الحال وضعها جانبًا، حينها لمّا صدر هذا الفعل من النبيّ إبراهيم تجاوز وعبر، فهذه ليست أوامر امتحانيّة، هذه أوامر واقعيّة، مثل سائر الأوامر التي تأتي من ناحية المولى.
مريد پير مغانم زمن مرنج اى شيخ | *** | چرا كه وعده تو كردى او به جا آورد |
لذا فما في الكتب الأصوليّة وما يقوله الفضلاء وإخواننا من أنّها أوامر امتحانيّة هو غلط، أمر النبيّ إبراهيم واقعيّ، وهذا الأمر بعينه أمر به سيّد الشهداء ولكن نحن لا اطّلاع لدينا، يقول الله لسيّد الشهداء هل تريد أن تبلغ مقام الشفاعة الكبرى؟ هل تريد أن تأخذ بيد أمّتك نحو الهداية؟ فيقول الإمام: بلى! وهنا واقعًا هناك أمور لا يمكن الحديث عنها، فقد كنّا أحيانًا نستمع إلى كلام المرحوم العلاّمة خلسة حول ما تحتويه قصّة سيّد الشهداء مع عليّ الأكبر. هل تريد أن تصل إلى هنا أم لا؟ فيقول الإمام: نعم أريد. فبما أنّك تريد فعليك أن تقدّم عليّك الأكبر! فما هذه الأوامر؟ إنّها أوامر مولويّة أوامر واقعيّة. جاء الأمر بأنّ عليك أن تقدّم عليّك الأكبر عليّك أن تقدّ عليّك الأصغر، جاء الأمر بأنّ عليك أن ترى ذريّتك سبايا، جاء الأمر بأنّ عليك أن ترى عليًّا السجّاد في الأغلال والزناجير… جاء الأمر بكلّ ذلك، وقد قال الإمام الحسين عند كلّ ذلك: حاضر حاضر حاضر حاضر! كلّ شيء حاضر إلى أين؟ إلى أين؟ لم يبق شيء! فكلّ ما يمكن أن تتصوّروه قال سيّد الشهداء عنه: حاضر.
ما بعد كربلاء أمرّ وأعظم
الأحداث التي وقعت بعد كربلاء كانت أحداثًا لا تصل كربلاء إلى غبارها، كانت أحداثًا لا تبلغ كربلاء مستواها، وقد كان الإمام الحسين يعرفها جميعًا ألم يكن يعرفها؟ يعرفها خيرًا منّي ومن الذين كانوا حاضرين في تلك المعركة وفي ذلك المشهد. يعلم ماذا سيجري إذا قتل، يعلم ماذا سيجري على أخته، يعلم ماذا سيجري على نسائه، يعلم كلّ ذلك، وهذا تقدير الله وإرادة الله. وإرادة الله تامّة، فماذا يعني أنّ إرادة الله تامّة؟ يعني أنّي قلت لهذه الأوامر حاضر! لا أنّها حادثة يريد [أن يختبره بها] وأمثال ذلك! كلاّ يا عزيزي بل كان في كلّ واحد منها أوامر واقعيّة تكوينيّة تشريعيّة، هناك تشريع، ثمّ وبمقتضى التشريع تكوين، ذلك الأثر الذي يترتّب عليه، ولو شاء الإمام الحسين أن يقف أمام أيّ منها لفعل، يحتفظ بعليّ الأكبر، يحتفظ بأبي الفضل العبّاس، يحتفظ بعليّ الأصغر، يمكنه أن يحتفظ بجميع هؤلاء، فيتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، لقد سار السجلّ إلى هنا ولن يتابع! ولكنّ الإمام الحسين ماذا فعل؟ ألصق السجلّ بذات الله، لم يحتفظ بشيء فيما دون الذات ليتوقّف عنده. بعض هؤلاء الناس يتخلّون عن أرواحهم، يتخلّون عن أبنائهم ولكن لا يتخلّون عن غيرتهم وعن عِرضهم! ولكنّ الإمام الحسين تخلّى عن كلّ شيء، تخلّى عن ذلك أيضًا، عن كلّ شيء، عن كلّ شيء، فما معنى ذلك؟
قال: إلهي أنا عبد فافعل ما تشاء، انتهى الأمر، ونفض يديه هكذا واستراح! لم يبق على شيء. لم يحتفظ بشيء من التعلّقات ولو بمقدار رأس إبرة.
الحكمة في كشف النساء وجوههنّ في مكّة
نحن نذهب إلى مكّة مع نسائنا فنصنع ألف معادلة شرعيّة ودينيّة وتبرير لكي تغطّي المرأة وجهها كي لا يراها الناس! أين أنت يا عبد الله؟! أين أنت؟! أتختلق المعادلات والتأويلات؟! ما في الروايات هو أنّ الساتر اللاصق هو الذي يسمّى ساترًا للوجه، أمّا لو كان سانتيمترًا واحدًا مبتعدًا عن الوجه فلا تشمله الأحاديث! فما هذه الألاعيب؟ لقد قال الله إنّ وجه المرأة في الحجّ لا بدّ أن يكون مكشوفًا، لم يكن الله والنبيّ والمشرّعون خرسًا، كان لديهم ألسنة يمكنهم أن يقولوا بها: ألقوا الساتر هكذا بحيث لا يرى أحد وجه المرأة. في أيّة رواية لدينا أنّهم يعلّموننا هذا؟ فلماذا نخرّب نحن دين الناس؟! لماذا؟! لماذا لا نترك الناس يصلون في الحجّ إلى ما ينبغي أن يصلوا إليه؟! لماذا نكون ملوكيّين أكثر من الملك؟! فلمن نشكو هذه الآلام في نهاية المطاف؟! ألم يكن للنبيّ لسان يقول به: إنّهم ينظرون إلى وجه امرأتك فقدّم هذا الساتر هكذا واصنع حيلة شرعيّة، الحيلة الرشتيّة والحيلة المشهديّة، أنا لا أدري ما هي الحيلة الرشتيّة، فقط سمعت أنّهم يقولون: تقدّم ساتر الوجه سانتيمترين اثنين، حيث يوضع على رأس المرأة قبّعة تشبه قبّعات الجنود، تلك المرأة التي ربّما لا تكون ملفتة للنظر! ويقال لها: دعيه هكذا حتّى لا يراك أحد. ألم يكن النبيّ قادرًا أن يقول ذلك؟! هل عندما أخذ النبيّ زوجته إلى مكّة أخذها على هذه الهيئة؟! والأئمّة عندما أخذوهنّ هكذا أخذوهنّ؟! أم أنّنا نحن نصنع دينًا كاذبًا؟ يجب أن يكون وجه المرأة مكشوفًا حين الطواف، وطبعًا على الرجل أن لا ينظر، فهذا محفوظ، ولكن يجب أن يكون هكذا. لماذا؟ لأنّك أحرمت وخرجت من جميع التعلّقات فلماذا أنت عالق هنا؟ لا يصلك، فليكن! قد يصلك عشرة بالمائة، ثمّ يذهب إلى مكّة فتجد أنّه لم يتغيّر، وهذا هو السبب.
فإذن الأمر الذي أمر به إبراهيم نحن أيضًا نؤمر به، فهل أدرك الرفقاء الفكرة؟ هو للجميع بأشكال مختلفة.
إن شاء الله تتمّة ذلك في الليلة القادمة إن كان من تقديره، وإلاّ فسندخل في مسألة أخرى.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.