6

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

1457
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمدعاء أبي حمزة الثمالي

المجموعةسنة 1431

التاريخ 1431/09/18

جلسات المجموعة(11 جلسة)

التوضيح

هل كان أصحاب الأئمّة عليهم السلام على مستوى واحد من الاهتمامات والعلوم وتهذيب النفس؟ ما هي مكانة بايزيد البسطامي عند الإمام الصادق عليه السلام؟ ولماذا لم يكن يروي عنه شيئًا من الحديث؟ وهل هذا دليل على عدم صدق ما ينقله التاريخ من تتلمذه عنده؟
تتناول هذه المحاضرة فكرة اختلاف المراتب بين أصحاب الأئمّة من خلال شخصيّة بايزيد البسطامي بشكل أساسي مع الإشارة إلى غيره من الأصحاب، وتنظّر لذلك بأحوال بعض العلماء المعاصرين.
/۱٦
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

1
  •  

  • هوالعليم

  •  

  • اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

  •  

  • شرح دعاء أبي حمزة - عام ۱٤٣۱ هـ - الجلسة السادسة

  •  

  • محاضرة القاها

  • آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني

  • قدّس الله سرّه

  •  

  •  

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّیطانِ الرَّجیم‌

  • بِسمِ اللَه الرَّحمَنِ الرَّحیم‌

  • وصلَّى اللَه عَلَى سیدنا و نبینا أبى‌القاسم مُحَمّدٍ

  • وعلى آله الطّیبین الطّاهرین و اللعنة عَلَى أعدائِهِم أجمَعینَ‌ 

  •  

  •  

  • "حُجَّتِي یا اللَه فِي جُرأَتِي عَلَى مَسئَلَتِك مَعَ إتیانِي مَا تَکرَهُ، جُودُك وَ كرَمُك، وَ عُدَّتِي فِي شِدَّتِي مَعَ قِلَّةَ حَیائي، رَافَتُك وَ رَحمَتُك".

  • يا الله حجّتى وسبب جرأتي على الطلب منك رأفتك وجودك وعطاؤك بالإضافة إلى كرامتك وعظمتك، ففي الوقت الذي أخالفك فيه وأرتكب ما تكره هو هذا الجود والكرامة والعظمة، فهي التي سبّبت أن لا أستحضر مخالفتك والاشتغال أمامك بالأهواء والميول النفسيّة والآمال الباطلة، وأن أتجاوز عن هذه الأمور متغاضيًا، وأن أمرّ عليها مغمضًا. 

  • عتاب العلاّمة لأحد تلامذته وجوابه له

  • ذات يوم وفي زمان المرحوم العلاّمة، قال أحد أصدقائه رحمة الله فقد كان رجلاً جليلاً: ذهبت إلى المرحوم العلاّمة فخاطبني بلهجة شديدة وعاتبني و… أن ما هذا العمل الذي تقوم به يا فلان؟! لماذا ترتكب هذه الأعمال الباطلة؟! ولكن كان الأمر من الأشياء التي لم يطّلع عليها أحد، وحده هو كان مطّلعًا. فكان يقول: فصبرت هكذا وكان هو يقول ما يحلو له في مخاصمتي: كم أبيّن لكم؟ كم أنصحكم؟! لماذا لا تعون الكلام؟ فقال من أمثال هذا الكلام مرارًا، فلمّا تعب، ضحكت وقلت: سيّدنا إن لم أفعل هذه الأعمال فما الفرق بيني وبينكم؟ قال: ما إن قلت هذا الكلام حتّى أغشي عليه من الضحك، ومحي كلّ ما ألقاه عليّ حين جعلني هدفًا لأنواع الشماتة و… قلت: إن لم أفعل ذلك فماذا سيكون الفرق بيني وبينكم؟ لصرتُ مثلكم حينها! فقال: حسنًا لقد قمت أنت بأعمالك فلتلتفت الآن وركّز جيّدًا ودقّق أكثر… .

  • وواقعًا هذه هي الحقيقة، فهو صادق، لأنّه ينظر فيرى أنّ أمامه إنسانًا كهذا فيصبح ذا جرأة على الخطأ والاشتباه. فقد كان ذاك من الرفقاء والأصدقاء أيضًا، رحمه الله إنّه السيد مرتضى المقدّسي الرضوي، وكان أيضًا من أهل الحساب، كان من أهل السرّ أيضًا، كان من أهل الرموز والأسرار وكان يدرك أشياء ويدرك أنّ هناك شيئًا ما.

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

3
  • مكانة بايزيد البسطامي عند الإمام الصادق عليه السلام

  • ينقل عن بايزيد البسطامي أعلى الله مقامه ورضوان الله عليه… فقد كان رجلاً عظيمًا عارفًا معروفًا، وكان تلميذ مدرسة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فقد بقي هذا الرجل الجليل في منزل الإمام ستّ سنوات، وكان سقّاء في بيت الإمام الصادق عليه السلام يحضر الماء إلى داره وينظّف المنزل ويحرس باب الدار فقد كان يشاهد يحرس باب داره، مثل معروف الكرخي الذي كان بوّاب دار الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهم السلام، فقد كان معروف الكرخي من أعاظم العرفاء وقبره الآن في بغداد، وفي تلك الزيارة التي تشرّفنا بها بالعتبات قبل ما يقارب ثلاث أو أربع سنوات تشرّفنا في البقاء في الكاظمين بضع ليال، وذهبنا يومًا إلى بغداد وزرنا قبر معروف، وقبر الجنيد البغدادي، وكذلك قبور النوّاب الأربعة، وطبعًا ليس جميعهم ويبدو أنّ القبر كان لعثمان بن سعيد على ما أعتقد، فإنّ له قبرًا نورانيًّا جدًّا. فمعروف الكرخي قبره في بغداد، وكان بوّاب الإمام الرضا عليه السلام، وقد وصل إلى حيث يجب أن يصل بواسطة ذلك الإمام وببركته. 

  • وكان بايزيد أيضًا ستّ سنوات في خدمة الإمام جعفر الصادق عليه السلام، وكان سقّاء له، ولم يكن من أصحاب الروايات وأمثال ذلك، فأصحاب الروايات كانوا أفرادًا آخرين، لأنّ الأئمّة وخلافًا لما هو مرتكز في عقولنا الحوزويّة لم تكن مجالسهم مجرّد مجالس حديث وأحكام، فالأئمّة كانوا كغيرهم، لهم مجالس درس ومسائل وأحكام، ومجلس مواضيع أخلاقيّة، ومجلس أنس ورفاقة وكان أصحابهم متفاوتين من هذه الناحية، فبعض أصحاب الإمام عليه السلام مثل أبان وأبي بصير ومحمّد بن مسلم ومحمّد بن أبي عمير ويونس والبزنطي وأمثالهم كانوا أصحاب حديث، فكانوا يشاركون في مجالس حديث الإمام وفي المجالس العامّة والمسائل الأخلاقيّة وغيرها، وكان بعض هؤلاء يشارك في مجالس الإمام الخاصّة مثل محمّد بن مسلم ومحمّد بن أبي عمير وجابر بن يزيد، فهؤلاء كان حسابهم يختلف عن الآخرين، يختلف عن أبان وأمثاله، رغم أنّ الجميع كانوا من الشيعة والجميع كانوا من الأصحاب والجميع كانوا من الملازمين والملتزمين لعتبة الأئمّة عليهم السلام، ولكن في الوقت نفسه كانت لهم درجات فيما بينهم أيضًا. 

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

4
  • اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة واختلاف العلاقة معهم

  • فالجلسات التي كانت للإمام عليه السلام مع جابر بن يزيد الجعفي ومحمّد بن أبي عمير ومحمّد بن مسلم لم تكن له مع أبي بصير أو مع أبان وأمثالهما، فقد كانوا يختلفون تمامًا كما هو حالنا نحن؛ فلكلّ إنسان مجموعة من الرفاق المختلفين، فهناك رفاق قريبون ومقرّبون، وبعيدون ومعبدون، فهناك رفاق يراهم الإنسان في السنة مرّة، وبعضهم لا يراه حتّى في السنة مرّة، وبعضهم لا يراهم الإنسان إلا في الشارع، فعندما يرونه يتذكّرونه فيقولون: السلام عليكم كيف حالكم؟ ما أخباركم منذ مدّة ولا خبر لنا عنكم! 

  • ـ نعم وأنا كذلك لم أرك منذ مدّة، فهذا يقول لذاك وذاك يقول لهذا: لماذا لا تشرّفوننا إلى بيتنا؟! 

  • ـ حسنًا أنتم شرّفونا إلى بيتنا. 

  • فهؤلاء أفراد يراهم الإنسان فقط في الشارع، أثناء سفر ما رحلة إلى زيارة أو حجّ يكون الإنسان جالسًا وهناك وفي مقابله يمرّ ذاك فيقول لنسلّم عليه ولنجلس قربه، فمستوى المسؤوليّة والاهتمام بالمرافق من هؤلاء هو هذا، في الشارع: السلام عليكم وعليكم السلام، في أمان الله، وكأنّ شيئًا لم يكن. 

  • وهناك آخرون ليسوا هكذا، بل في كلّ شهر مرّة، فهم أقرب إلى الإنسان من أن يروه في السنة مرّة، وبعضهم ليسوا هكذا، بل يتذكّرون الإنسان فيتّصلون به، وهناك من يأتي إلى المنزل، فلكلّ من هؤلاء مرتبة وحساب خاصّ، لكلّ رتبته الخاصّة، والإنسان يدرك كم لدى هذا الإنسان من الإخلاص لرفيقه، وكم يكنّ له من الخلوص، والكلام كثير في هذا المجال، والإنسان يدرك ذلك. 

  • وقد كان الأئمّة هكذا أيضًا، كان لديهم مجالس مع بعض الخواصّ، ولا يكون هناك أحد، ولا يدخل عليهم أحد، وقد كنت شاهدًا في زمان المرحوم العلاّمة أنّه عندما كان يأتي بعض الناس إليه، كان يقول لي عندما أقدّم الشاي: أغلق الباب. أي إنّ صوتنا نحن الاثنين يجب أن لا يصل إلى الخارج، في حين أنّ بعض الناس إذا ما جاؤوا وتكلّموا يكون الباب مفتوحًا على مصراعيه ولا يختلف الأمر سواء سمعهم الآخرون أم لم يسمعوهم. فما كان يطلبه من إغلاق الباب لم يكن يرتبط به هو، بل كان يمكن أن يمرّ أحد فيسمع كلامًا لا ينبغي أن يسمع، ويسمع سرًّا لا ينبغي أن يسمعه، لا يمكنه تحمّله، لا يمكنه أن يقبله. لذلك كان الأعاظم مع كلّ إنسان بما يناسبه.

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

5
  • أمّا نحن فلسنا هكذا، فنحن لا نمتلك معيارًا، لا نمتلك معيارًا لنعرف مع من نتكلّم؟ يمكن أن نقول كلامًا لإنسان لا يحتمل ثقله، فيبتسم ابتسامة ولكن يذهب ويفكّر حوله ولا يمكنه تحليله ويقع في مشكلة، يسبّب له ذلك مشكلة، أو أنّ الإمام عليه السلام يتكلّم مع الناس في الملأ العام، فلو أراد أن يراعي فيمكنه أن يتكلّم في الملأ العام بالأمور التي لا تنفع هذا، فهو أرفع منها بكثير، تمامًا كما لو دخلت برفقة أحد الرفاق الأعاظم إلى مجلس فيه أطفال فتقول له: تعال أنت أيضًا، فهناك مسائل مهمّة نطرحها تفيدك. أنت مجبور أن تتكلّم: 

  • چون که با کودک سر و کارت فتاد***پس زبان کودکی باید گشاد
  • يقول: إذا ما تكلّمت مع الطفل فلتكن لغتك لغة أطفال

  • فهذه مسؤوليّتك أنت، فلماذا جئت بهذا المسكين معك إلى هذا المجلس لينظر هكذا مستهجنًا، أن لماذا جاء بي هذا إلى هنا؟ فهنا عدد من الأولاد يغنّي لهم أو يحكي لهم قصّة من قصص الأطفال فلماذا جاء بي إلى هنا؟! إن لم يكن هناك داع آخر وكانت هذه الأمور فقط هي الداعي فهذا عبث. 

  • فإذن لا بدّ أن يكون للأئمّة مجالس مع الخواصّ، ينبغي أن لا يحضرها الآخرون، وإلا فلا معنى أن يقوم الإمام عليه السلام بذلك، فلو أنّ ما يقوله الإمام لجابر وما يقوله أمير المؤمنين لحبيب بن مظاهر ولميثم التمّار، قاله على منبر الكوفة وفي مسجد الكوفة لما بقي مسلم واحد، لما بقي مسلم واحد، فلو كان أمير المؤمنين يقول واحدًا من الأسرار التوحيديّة التي يقولها لميثم، على المنبر لذهبت كلّ تلك الجماعة التي في المسجد، ولكنس المسجد ولما بقي سوى الكوفة وعلي وميثم. 

  • معنى حديث: نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم

  • "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم"۱

  • فكلّ واحد من الأنبياء مكلّف بالبيان بحسب مستوى عقول الناس، مكلّف لا أنّه يحسن منه ذلك، فهم مكلّفون وموظّفون، فلو أنّ الإمام الصادق قال لأبان ما يقوله لجابر فابتلي أبان بالتشويش فإنّ الإمام الصادق سيكون مسؤولاً أمام الله، عليه أن يبرّر ذلك أمام الله. تمامًا كما لو جئت بحبّة من الشمندر كبيرة الحكم وقشّرتها وجعلتها في فم طفل في الشهر الثاني من عمره، فالطفل ذي الشهرين يجب أن يشرب الحليب، وذلك بمقدار معيّن لا يتجاوز بضعة سي سي، لا حبّة شمندر بهذا الحجم! فسيموت حتمًا، بمجرّد أن تجعلها في فم الطفل وقبل أن تصل إلى بطنه وفي وسط الطريق يكون قد اختنق، فلا يحتاج أن يصل إلى معدته ويبدأ بهضمه، الكلمات والأسرار التوحيديّة لأمثال أبان، تلك الأسرار التي يقولها لمحمّد بن أبي عمير أو محمّد بن مسلم أو جابر بن يزيد الجعفي أو في مراتب أدنى لجابر بن عبد الله الأنصاري هي مثل الديناميت بالنسبة إلى سائر الأصحاب وسائر الأفراد الذين هم أصحاب روايات وأصحاب أحاديث للإمام عليه السلام أيضًا، فهي تفجّرهم.

    1. الكافي، ج ١، ص ٢٣: قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم:"إنّا معاشر الأنبياء أمِرنا أن نكلّم الناسَ على قَدرِ عقولهِم".

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

6
  • تارة الإمام نفسه يعطي القدرة على تحمّله فهذه الحالة لا كلام فيها، فهذا إعجاز وخارج عن الكلام، ولكن تارة أخرى لا يكون الإمام في هذا المقام، ويقول كلامًا ويبيّن أمرًا، فهنا لا بدّ من رعاية الحدود، والعجيب أنّنا كنّا في زمان المرحوم العلاّمة نرى أنّ كلّ من ذهب إليه كان يخرج من المجلس مقتنعًا بشكل كامل ومشبعًا، مقتنع بقوّة ونشيط ومسرور، وكنت أسمع منهم يقولون إنّه قال لنا أمورًا لم يقلها لأحد، لم يقلها لأحد، والحال أنّه لم يقل لك واحد من مليار، فقد كان نصيبك واحد من المليار، لا من المليون! واحد من المليار، كان حظّك بهذا المقدار فأخبرك به فلم تحتمل نفسك! فماذا على الإمام أن يفعل إذن؟ عليه أن يتكلّم مع جميع هؤلاء الناس كلاًّ حسب فهمه وسعته وإدراكه ووضعه النفسي وسعته الوجوديّة، بهذا المقدار فقط. 

  • لماذا لم تكن لبايزيد البسطامي روايات؟

  • لم يكن بايزيد البسطاميّ أصلاً من أصحاب الرواية والأحاديث، واعتراضهم الذي يعترضون به الآن هو أنّه أين ورد في كتب التراجم أنّ لبايزيد رواية؟! 

  • أفهل على الإمام فقط أن يحدّث الناس بهذه الروايات؟! ما هذا الكلام العديم الأساس والضعيف الذي يقال في جرح ونقد وتضعيف هذا النوع من الأصحاب والملتزمين والمريدين للأئمّة؟! أنا شخصيًّا أعرف ـ لأنّي كنت في ذاك البيت ـ أفرادًا مرتبطين بالمرحوم العلاّمة ولم يرهم أحد من الرفقاء حتّى نهاية عمره، وهناك عدد كثير ولا داعي لذكر أسمائهم، ولو ذكرت أسماءهم لما عرفتموهم سواء من الذين كانوا ولا يزالون في إيران أو سائر البلاد، والآن هم موجودن، وهم على ما كانوا عليه ويتابعون الطريق الذي رسم لهم ويعيشون حياتهم على أساسه، أفهل يجب أن يكتب اسم كلّ من يأتي إلى هناك ويوضع على لائحة ليعرف من أضيف ومن نقص، ومن الذي عبر وارتفع؟! 

  • لا مكان هنا لكتابة اللوائح، والقاعدة هنا هي الإخفاء، ومدرسة كلّ إنسان هي عرضه، ولا داعي لأن ينشر الإنسان في كلّ مكان ماذا نحن، فهذا المكان ليس هيئة وإعلانًا وصحيفة ودار نشر وصخب وضجيج وأمثال ذلك. فالأكثر توفيقًا في هذا الطريق هو الأقلّ ظهورًا وبروزًا، مقام إبرازه وإثباته أقلّ من الجميع، ويعمل بالثبوت بدلاً من الإثبات ويعمل بالواقع بدلاً من الإظهار، فهذا هو الأقرب من الجميع والأكثر توفيقًا في الطريق. 

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

7
  • حسنًا يقولون إنّ بايزيد البسطامي لم يكن له وجود، لم يعدّ من أصحاب الأئمّة. فعندما ينقل المؤرّخون في التاريخ من المخالفين والمؤالفين أنّه كان من الأصحاب وكان بوّابًا وسقّاءً لبيت الإمام عليه السلام وكان يتردّد على دار الإمام عليه السلام فلماذا ننكر نحن ذلك؟! ألأنّا مخالفون لمسلكه؟! ألأنّنا لا ندرك مضامين كلامه؟! ألأنّ منهجه يختلف عن منهجنا فلا بدّ أن يتعرّض لرياح النقد العاصفة؟! لو حيي الإمام الصادق الآن، وهو حيّ الآن فالإمام لا فرق عنده بين الحياة والموت، ولكن لو جاء بحسب الظاهر ببدنه هذا وقال: لقد كان بايزيد هذا سقّاء لنا لستّ سنوات فماذا قلت أنت؟! هل ستبقى تسبّه؟ لو جاء الإمام الصادق بنفسه وقال إنّ ما ذكر في الكتب صحيح، فقد كان سقّاء عندي مدّة ستّ سنوات فماذا تقول؟! 

  • ـ كلاّ! إن كان فشأنه، لقد أخطأ، ومن السهل أن يكون سقّاء عندك، بل لو كان سقّاء عند النبيّ وجبرائيل أيضًا فإنّا سنقول ما يحلو لنا! 

  • ـ حسنًا إن كان الأمر هكذا فلا بحث لنا معكم. إنّ من يعمل سقّاء عند الإمام الصادق مدّة ستّ سنوات كلّ من لم يأكل التبن يدرك أنّ مثله لا بدّ أن يصل إلى مكان ما، فقط يكفي أن لا يكون قد أكل التبن، ولا أكل العلف بدلاً من سائر النِعم الإلهيّة، فأن يتردّد إنسان مدّة ستّ سنوات على بيت الإمام الصادق وهو بتلك الشخصيّة والحالة ثمّ يأتي الإنسان ويقول: كلاّ لا يا عزيزي، لقد كان إنسانًا مخادعًا، لقد كان سلوكه كذا وكذا، لقد كان صوفيًّا وكان عارفًا، وهذا الإمام الصادق حاشا وكلاّ. 

  • معنى روايات: ردّوا علمه إلى أهله

  • تفضّل واشرح لنا رواية توحيديّة واحدة عن الإمام الصادق، تفضّل واشرحها! كلّما صعب عليك الأمر وغرقت في الوحل قلت: نردّ علمه إلى الله ورسوله والأئمّة! كلّما أشكل علينا الأمر رددنا علمه إلى أهله، فلمن قال الأئمّة ذلك إذن؟! نحن لا جرأة لدينا على القول بأنّ هذا نقل كذبًا وهذا كلام فارغ؛ لأنّ له سندًا، وسلسلة السند تنتهي بهذه الرواية إلى الإمام الرضا، لقد نقل سلسلة السند هذه الصدوق في توحيده، ونقلها السيّد الرضيّ في نهج البلاغة، وقد نقل أجلاّؤنا مسائل التوحيد في مجامعهم الروائيّة والأحاديث، فلا جرأة لنا، لأنّا إذا قلنا ذلك فإنّ سائر المسائل ستكون مورد شكّ، فمن روى هذه الرواية وأسندها إلى الإمام الرضا هو نفسه نقل الأحكام التكليفيّة، إن كان ذاك كذبًا فهذه كذب أيضًا، ولو كان هنا مشتبهًا فإنّ كلّ التكاليف تصبح مورد تساؤل وشكّ وكلّ الأحكام. فإذن نقول: نحن لا ندري، لا ندري.

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

8
  • نعم لا تدري، ويجب أن لا تدري، وأنت أمرك سهل بل حتّى من هو أكبر منك لا يدري! ولكنّ الكلام هو أنّ الإمام قال ذلك لمن يدري أم لا؟! إن لم يكن هناك من يدري فلماذا قال الإمام هذه الرواية؟ لماذا؟! هل أقرض الإمام أحدًا؟ هل كان الإمام مدينًا لأحد في كلامه حتّى يتكلّم بهذا الكلام وبهذه المضامين؟! 

  • لو كان الإمام يعلم إلى يوم القيامة وإلى قيام إمام الزمان أنّه لا أحد يعي هذه المضامين غيره فلماذا يقولها؟ هل هو مجبور؟ لأنّه ينبغي أن لا يفهم أحد، ما دام ينبغي أن لا يفهم أحد فلماذا تقولونها؟ قولوا: هناك أشياء نحن نفهمها وأنتم لا تفهمونها! أهكذا هو الحال؟ أهذا هو الإمام؟ أم لا؟ بل قال الإمام ذلك لمن يعلم، أنت لا تعلم حسنًا لا بأس، فلتقل علنًا أنا لا أعلم. لا مشكلة في ذلك. ما المشكلة في أن يوكل الإنسان أمر ما لا يعلمه إلى من يعلم؟! فهناك أفراد من شيعة أمير المؤمنين ومن الأعاظم والعلماء يفسّرون ذلك ويوضّحونه ويبيّنونه ويعلمون ذلك، وهناك روايات في هذا المجال، فهناك رواية عن الإمام السجّاد أنّه سيأتي في آخر الزمان من يفهم معنى سورة {قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ} والآيات الستّ الأوائل من سورة الحديد۱ فهل كان مراد الإمام السجّاد هم الأئمّة أم الشيعة؟ فهذه الرواية عن الأئمّة، فهذه الروايات لم يأت بها صدر المتألّهين من عند عنده ولم يضعها هو، هذه روايات الأئمّة أنفسهم، غاية الأمر أنّنا كسالى في المعارف، جاهلون في المعارف، لا نريد أن نتّبع الحقّ، فنخفيه. والحقّ لا يُخفى، وأنتم لا علم لكم بهذه الأمور. 

  • شواهد من العلماء المتواضعين: السيّد مهدي الروحاني رحمه الله

  • رحم الله… فقد كان هناك أناس في هذا المجال، وفي النهاية كلّ من نزل إلى الميدان أظهر ما عنده، وكلّ إناء بما فيه ينضح. كنّا ذات يوم ندرس في قم هذه، وكان ذلك في العهد السابق عهد الشاه، فتشرّف المرحوح العلاّمة بزيارة قم… وقد كان المرحوم آية الله السيّد محمّد مهدي الروحاني رحمة الله عليه رجلاً جليلاً وعالمًا، فقد كان عالمًا مجتهدًا فاضلاً بغير هوى، وكان إنسانًا صالحًا، كان صالحًا جدًّا، فجاء لزيارة المرحوم الوالد، فقد كان صديقًا له كما أنّ بينهما رحمًا. وأثناء الحديث التفت السيّد مهدي إلى الوالد وقال: سيّدنا أوضح لنا مسألة وحدة الوجود هذه، قال له بلهجته القميّة المعروفة: سيّدنا نحن لا نفهم ما هي مسألة وحدة الوجود، فهل يمكن أن تبيّنوها لنا؟ فسيطر عليّ أنا الضحك من هذه الطهارة وهذا الصفاء، فقد كان أستاذًا في مرحلة بحث الخارج، وكان له شأن، وبهذه البساطة وأمام عدد من الرفقاء قال ذلك وكأنّه لا يوجد أحد في المجلس، هكذا بكلّ بساطة… . 

    1. يشير سماحته إلى ما ورد في كتاب الكافي ج ۱، ص ٩۱: مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ:
      سئل علي بن الحسين عليه السلام عن التوحيد فقال: "إن الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون‌ فأنزل الله تعالى {قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ}؛ والآيات من سورة الحديد إلى قوله: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }؛ فمن رام وراء ذلك فقد هلك".
      وقد ورد في نهاية ابن الأثير ج‌٣، ص: ٣۰۰ مادّة (عمق): 
      فيه لو تمادى لي الشّهر لواصلت وصالا يدع "المُتَعَمِّقُون تَعَمُّقَهُم" المُتَعَمِّق: المبالغ في الأمر المتشدّد فيه، الذي يطلب أقصى غايته. و قد تكرر في الحديث. انتهى
      والحديث الذي يشير إليه كاملاً هكذا: روى البخاريّ في صحيحه، ج ٤، ص ٢٥۱، كتاب التمنّي، بإسناده عن أنس قال:
      وَاصَلَ النبيّ آخِرَ الشَّهْرِ وَ وَاصَلَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَ سَلَّمَ، فَقَالَ: "لَوْ مُدَّ بِيَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالًا يَدَعُ المُتَعَمِّقُونَ‌ تَعَمُّقَهُمْ، إنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ، إنِّي أظِلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَ يَسْقِينِي". انتهى.
      وقال الفيض الكاشاني في الوافي، ج‌۱، ص: ٣٦٩‌ ضمن شرحه للحديث الآنف عن الإمام السجّاد عليه السلام: لعله أشار بالمتعمقين إلى أكابر أهل المعرفة و لعمري إن في سورتي التوحيد و الحديد ما لا يدرك غوره إلا الأوحدي الفريد و لا سيما الآيات الأول من سورة الحديد و خصوصا قوله عز و جل {وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ} 
      وقال ص ٥٢۰ من الكتاب نفسه في تعليقه على حديث لم يجب فيه الإمام على سؤال سائل: لعل الإمام عليه السلام إنما أعرض عن جواب السائل وأبهم الأمر فيه لدقة الجواب و كونه بحيث لا يناله فهم الأكثرين، و يمكن الإشارة إلى لمعة منه لمن كان أهله في هذا الزمان الذي يوجد فيه أقوام متعمقون كما أشير إليه في حديث عاصم بن حميد في باب النسبة… . 

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

9
  • سأذكر أمرًا آخر قبل أن أتابع ذاك، وإذا نسيت شيئًا فليذكّرني الرفقاء، لأنّني أستطرد كثيرًا: 

  • إخفاء أحد العلماء لدراسته عند السيّد الخوئي تكبّرًا

  • جاء ذات ليلة رجل لزيارة المرحوم الوالد في تلك المرحلة، من هؤلاء العلماء الموجودين الآن، الموجودين، جاء لزيارته برفقة واحد أو اثنين من هؤلاء المعمّمين الذين كانوا في البيت، ويبدو أنّ هؤلاء لا يمكنهم أن يأتوا وحدهم إلى مكان، فإذا ما ذهبوا إلى مكان ما فلا بدّ أن يكون معهم مرافقون، لا أدري ما حقيقة هذه المسألة وهذا الأمر…؟ والحاصل أنّهم دخلوا وبدأ الحديث، وكان هناك اثنان أو ثلاثة من الرفقاء أيضًا، وكان الوقت متأخّرًا من الليل، حوالي الساعة العاشرة والنصف أو الحادية عشرة تقريبًا، فكان الوقت متأخّرًا وأذكر أنّهم عندما طرقوا الباب تعجّب المرحوم الوالد، وعندما ذهبت وقلت: جاء فلان. 

  • قال: هذا ليس وقت زيارة. 

  • فقلت: لقد جاؤوا الآن، فهل أعتذر منهم؟ 

  • قال: لا قل لهم أن يدخلوا فسآتي بعد قليل. 

  • هؤلاء يظنّون أنّ الجميع مثلهم، يا عزيزي هؤلاء الأعاظم لوقتهم حساب، ولحياتهم برنامج، وهناك أعمال محدّدة لكلّ ساعة، عليهم أن يقوموا فهم أهل عبادة وأهل كذا وكذا… لقد جاء هكذا في الساعة العاشرة والنصف وطوى الطريق وطلب من اثنين أن يأتيا معه أيضًا فقال لهما هيّا بنا نزور السيّد محمّد حسين، وكان في سنّ العلاّمة وربّما كان أكبر منه ببضع سنوات. 

  • وعندما جلسنا وكان الكلام لا يزال في السؤال عن الأحوال، فجأة سأله المرحوم العلاّمة: من هم أساتذتك؟ أخبرني من هم أساتذتك؟ فرأيت أنّ لونه قد تغيّر. لم يسأله عن شيء فقط سأله عن أساتذته من كانوا، فتغيّر وبدأ بالكلام، نعم كان أستاذي المرحوم… ولن أسمّي، فقد كان من المعروفين وله تقريرات للنائيني، والفضلاء وطلاّب دروس الخارج يقرأون تقريراته… فقد كنت عنده مدّة سبع أو ثمانية سنوات أدرس و… وعندما انتهى قال بهدوء بحيث لا يسمعه غير المرحوم العلاّمة ولا نسمعه نحن: نعم درست مدّة يسيرة عند السيّد الخوئي. فلم يقل المرحوم العلاّمة شيئًا ومضت بضع دقائق ومضت ربع ساعة وانتهى المجلس وغادر ذلك الرجل. وعندما غادر خرجت مع المرحوم العلاّمة إلى باحة المنزل لكي يذهب هو إلى غرفته فالتفت إليّ وقال: هذا الرجل درس جميع دروسه عند السيّد الخوئي! فانظروا يقول: درست بضعة أيّام عند السيّد الخوئي…! أليس من المعلوم أنّه في هوى النفس؟! 

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

10
  • ما دام السيّد الخوئي أستاذك فلماذا تعبّر هكذا؟! أليس هذا نكرانًا لجميل وليّ نعمتك؟! أليس كذلك؟! أليس نكرانًا للجميل؟! لماذا؟ لأنّك الآن أنت تدّعي المرجعيّة ويدّعيها هو أيضًا، فقد كان حيًّا حينها، فقد كان السيّد الخوئي على قيد الحياة آنذاك، فما المشكلة في أن يقول الإنسان إنّه درس عنده؟ كلاّ ولكن ينكسر شأنك أن تقول إنّك درست عند مرجع حيّ وأنا تلميذه! فتقول درست عنده بضعة أيّام، بضعة أيّام. 

  • فانظروا واجعلوا هذين الرجلين أحدهما إلى جانب الآخر، فهذا يقول للمرحوم العلاّمة: أنا لا أفهم معنى حقيقة وحدة الوجود، فأوضحوها لي، يقول أمام الناس هكذا وذاك… . 

  • رحم الله [الميرزا هاشم الآملي] فقد تذكّرت قصّة أخرى، وهذا النوع من القصص على الإنسان أن يبيّنه، فهذه المواقف كلّها تذكير وتنبيه بالنسبة لنا وخصوصًا أهل العلم، فعلى الإنسان أن يذكرها. على الإنسان أن يذكر الصفات الحسنة للأعاظم، لكي نعلم كيف يجب أن يكون طريقنا وكيف نختار مسيرنا؟ هل علينا أن نكون مثل هذا أم مثل ذاك؟! لذلك فأنا لا أصرّح بالاسم عادة عندما يكون هناك نقد إلا إذا حصل خطأ ما وسبق لسان، وإلا فأنا لا أسمّي، ولكن عندما تكون هناك صفة مستحسنة فلا بدّ أن أصرّح. 

  • شدّة تواضع الميرزا هاشم الآملي

  • فقد كان آية الله الميرزا هاشم الآملي رحمة الله عليه من المراجع في قم هذه، وكان رجلاً فاضلاً عالمًا ذا نفس طيّبة، وهذه الثالثة هي المهمّة بالنسبة لي، كان طيّب النفس وكان خاليًا من الهوى إلى حدّ ما، خاليًا من الهوى، أذكر أنّا كنّا معه في مجلس وكان الشيخ مطهّري رحمه الله وآخرون في قم هذه وعدد كبير، حيث كنّا قد دعينا إلى الغداء وكنّا في محضره في منزله المعروف، وكانت الأيّام أيّام النوروز، فالتفت إلى المرحوم العلاّمة وقال: لقد كنت تلميذًا لوالدكم، وبصوت عال ومع إظهار الشعف واللطف… ثمّ قال لي المرحوم العلاّمة إنّه لم يدرس عند الوالد سوى مقدار من المغني ومع ذلك فإنّه يبيّن الأمر بهذا النحو وأنّي كنت تلميذًا لوالدكم وأمثال ذلك، فقد درس الباب الأوّل أو الباب الرابع، ولم يدرسه كلّه، فعندما كان في النجف درس عنده مقدارًا من المغني، فكم يحسن بالإنسان أن يكون صافيًا، لا يحتفظ بذلك في نفسه، البركات تتنزّل على أمثال هؤلاء، هؤلاء الذين لا يرون النعم الإلهيّة من عند أنفسهم. 

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

11
  • ذكر أهمّ أساتذة المحاضر وحقّهم عليه

  • وهنا أيضًا سأبيّن نقدًا وصفة غير مستحسنة [عن أحد العلماء نقلها لي أستاذي]، لقد كان لأستاذي المرحوم الشيخ أبو القاسم الغروي رحمه الله حقّ كبير عليّ، له حقّ كبير جدًّا، وقد درست عنده معظم السطوح، وقد كان له دور كبير في تكوين رؤيتي الاستراتيجيّة، وما يرجع إلى كيفيّة تكوينها، لقد كان هناك الكثير من المؤثّرين في ذلك، منهم الآية الله الشيخ مرتضى الحائري أعلى الله مقامه حيث شاركت لسنوات في درس الخارج له، ويمكن أن أقول إنّ أساس طريقتي في الاجتهاد والاستنباط كانت من كيفيّة تدريسه، وطبعًا لا كلام ولا بحث عن المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه فكلّ ما لدينا هو منه، فعلى كلّ حال لكلّ من هؤلاء الأعاظم مكانته الخاصّة، وجميع هؤلاء أولياء نعمتي وأنا أنظر إلى شفاعتهم بعين الأمل، وجزاهم الله جميعًا خيرًا فقد أدّوا رسالتهم حقًّا.

  • انظروا كم الإخلاص مهمّ، فقد كان الشيخ الغروي هذا في الشتاء… ولا زلت ولا زلت أذكر هذا الأمر، وكلّما مررت في صحن السيّدة المعصومة أتذكّر هذه المسائل وتكرّرها، فأقف بغير اختيار منّي أمام غرفة قبره وأقرأ له الحمد والسورة، فهذه الأمور هي التي تبقى للإنسان. ففي الشتاء القارص عندما كان الثلج والجليد بارتفاع نصف متر على الأرض، كان الجليد على الأرض والثلج يتساقط فكان هذا الرجل يأتي يوم الجمعة، حتّى يوم الجمعة! يعني يخرج من منزله يوم الجمعة ماشيًا إلى صحن الحرم، وأثناء تساقط الثلج والجليد وأمثال ذلك حيث كنت إذا خرجت من المدرسة إلى هناك أسقط على الأرض ثلاث مرّات وأنزلق، كان هو يأتي من شارع الصفائيّة۱ إلى صحن الحرم يوم الجمعة، وأحيانًا كنت أذهب أنا إلى درسه، ففضلاً عن سائر الأيّام كان يدرّسني القوانين وحدي، أليس لذلك قيمة؟! أليس لذلك حساب؟! من الذي يفعل ذلك الآن؟! من حقًّا؟! من لدينا يخرج، عالم محقّق يخرج في ذلك البرد ليعطي درسًا لواحد فقط، فيقطع كلّ ذلك الطريق؟! وكان هو نفسه يقول: لقد وقعت عدّة مرّات على الأرض، هو نفسه كان يقول ذلك، نعم، فهذا سبب للعبرة العظيمة عند الإنسان، وعلى الإنسان أن يفكّر جيّدًا في نفسه وأعماله. 

    1. يبعد شارع الصفائية عن الحرم مسافة حوالي ربع ساعة للماشي. (م)

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

12
  • انتقاد أستاذ المحاضر لعالم منكر فضل أستاذه

  • حينها كان ذلك الأستاذ يقول: إنّ أحد العلماء ـ ولن أوضح أكثر وهو لا يزال على قيد الحياة ـ كان تلميذًا لسنوات عند الأستاذ المحقّق الداماد رحمه الله، والذي كان رجلاً جليلاً ورجلاً عالمًا حادّ الفهم، وكان يسمّى بالداماد۱ لأنّه كان صهر الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسّس الحوزة العلميّة. لقد شارك ذاك العالم لسنوات عديدة في درس الداماد، فدرس عنده الكفاية٢ والخارج، وكان المرحوم العلاّمة يقول: عندما كنت أحضر درس الكفاية عند الداماد كان هو من المشاركين فيه أيضًا. ثمّ ذهب ذاك الرجل مدّة إلى النجف، ستّة أشهر، بضعة أشهر، وشارك في درس السيّد الحكيم، فلمّا رجع سألوه من هم أساتذك؟ وعند من درست؟! لم يأت على ذكر اسم الداماد رحمه الله وقال: درستُ عند السيّد الحكيم وقد كان هو أستاذي، وكان الداماد رحمه الله يشتكي لأستاذي الغرويّ ويقول: انظر كم هذا قبيح! كان يقول له: لقد درّسته أنا، وهو يفتخر بنسبته إلى آخر، فكم هذا سيّء؟! فما هي الحالة التي تكون لهذا الأستاذ بالنسبة إلى ذلك التلميذ؟! وطبعًا فإنّ عاقبة عمر صاحب هذه الطريقة ستكون مختلفه ونهاية أمره وعمله ستكون مختلفة! ففي النهاية تأوّهُ الأستاذ يقضي على الإنسان. فلهذا حسابه في عالم التكوين، له حسابه الدقيق، فقد بذل الجهود، وإن شاء الله كان ذلك لله، فقد درّس لله وبذل لله، ولكن لماذا يجب أن تكون أنت ناكرًا للجميل؟! ولماذا لا تعرف حقّ وليّ نعمتك؟! قل إنّ أساتذتي هم هؤلاء في هذه المدّة فما المشكلة في ذلك؟! 

  • تتمّة قصّة السيّد مهدي الروحاني رحمه الله 

  • فعندما طرح آية الله السيّد مهدي الروحاني رحمه الله هذا السؤال [حول وحدة الوجود]، بدأ الوالد بحلّ مسألة وحدة الوجود له، وطبعًا لم تكن الأبحاث أبحاثًا علميّة عميقة، لأنّه لم يكن من أهل الفلسفة ولم يكن قد درس الفلسفة، بل أظنّ أنّه لم يدرس حتّى المنظومة، فمن لحن كلامه والأسئلة التي كان يطرحها يتبيّن أنّه كان بعيدًا عن المسائل الفلسفيّة، ولكن طبعًا كان الكلام على هذا الأساس بمستوى يمكن فهمه وإدراكه. وعندما انتهى الكلام قال السيّد الروحانيّ فجأة: رحم الله والدك، قالها هكذا بلهجته القميّة: رحم الله والدك، لقد أرحتني، فهذا ليس بشيء ذي بال، هذا ليس بشيء يستحقّ المحاربة.

    1. وهي تعني بالفارسيّة الصهر. (م) 
    2. كتاب كفاية الأصول للآخوند الخراساني، يعتبر من أهمّ الكتب الأصوليّة ويدرس قبل مرحلة بحث الخارج. (م)

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

13
  • فقال له الوالد: نعم صحيح أنا أيضًا أقول: إنّه لا مشكلة فيه تستحقّ المحاربة. أين الإشكال فيه؟! أين مشكلته؟! 

  • فانظروا عندما يكون هناك إنسان منصف فإنّه يسلّم للحقّ هكذا. أحيانًا تجدون إنسانًا ما إن تتقدّم خطوة حتّى يقفز إلى غصن آخر! لماذا تقفز؟! أتريد أن تفرّ؟! توقّف قليلاً، خذ هذا. من المعلوم أنّ لديك مشكلة صغيرة تزعجك، هناك مشكلة، ما إن يريد الكلام أن ينتهي إلى مكان ما يرجع فجأة إلى هنا، يرجع إلى هناك، ويردّ الأمر إلى هذا الجانب وذاك بالمغالطة ومسائل أخرى. 

  • هؤلاء يغلقون أبواب الحقيقة أمام أنفسهم، يغلقونها ولا يسمحون لذلك النور أن يأتي ويدخل إلى تلك النفس وذلك القلب ويسبّب الانشراح. 

  • تتمّة بيان مكانة بايزيد البسطامي وموقف العلماء منه

  • تلك هي مكانة بايزيد البسطامي، والآن يقول جماعة: إن كان بايزيد البسطامي تلميذًا للإمام الصادق فلماذا لم يذكر بين أصحاب الروايات؟! 

  • أفهل يجب على كلّ من كان على صلة بالإمام الصادق أن يروي لكم عن الصلاة والصيام والدماء الثلاثة؟! لربّما سمع الكثير من المعاني عن الإمام الصادق ولا يقولها لأحد، بل يحتفظ بها، وفي بعض الموارد التي غابت عن هذا الكاتب أو القائل نرى أنّ الإمام يقول: إيّاك أن تخبر بذلك أحدًا، لا بدّ أن تجد من هو أهل له، فكيف يأتي هذا ويكتب ذلك ويصل إلينا؟! لا بدّ أنّه هو نفسه أراد ذلك، فالإمام نفسه يؤكّد أنّ هذا الكلام هو حصرًا لك أنت. 

  • يقول جابر بن يزيد الجعفي حدّثني الإمام ببضعة آلاف حديث لم أجد أحدًا أحدّثه بواحد منها۱، فهل قال الإمام ذلك على منبر مسجد المدينة أم في المنزل هامسًا في أذنه؟! فهذه البضعة آلاف حديث كم ساعة استغرقت من الإمام؟! كم كان من هذه المجالس هنا بين الأئمّة وبين هؤلاء الأصحاب؟! وكنّا نرى ذلك نحن، فقد كنّا نرى أنّ الأفراد في زمان المرحوم الوالد رضوان الله عليه عندما يأتون لم يكونوا من العلماء، بل كانت لهم عناوين مختلفة، وكانت هناك موارد مختلفة، فكانوا يأتون ويتحدّثون معه ثمّ ينقضي المجلس ويمضون، ينتهي المجلس وليس لأحد اطّلاع، لا اطّلاع لأحد على ما جرى بينهم وبين المرحوم العلاّمة، نادرًا ما كنّا نطّلع على بعضها، وكم من الأحاديث التي تكلّمها مع كثيرين والتي لم يطّلع عليها غيري ولم ينشر أيّ منها حتّى الآن؟ الله أعلم، ألا يحتمل ذلك؟لماذا؟ أفهل هناك ضرورة في أن لا يكون هناك إلاّ ما أحسسنا به نحن وما سمعناه ورأيناه من الأعاظم؟! كلاّ، يمكن أن يكون هناك بواطن ومسائل. 

    1. رجال الكشي، ص ۱٩٣ ـ ۱٩٤: علي بن محمد قال: حدثني محمد بن أحمد، عن يعقوب بن يزيد، عن عمر بن عثمان، عن أبي جميلة، عن جابر، قال: رويت خمسين ألف حديث ما سمعه أحد مني.
      جبرئيل بن أحمد: حدثني محمد بن عيسى، عن إسماعيل بن مهران، عن أبي جميلة المفضل بن صالح، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: حدثني أبو جعفر ع بسبعين [تسعين ألف حديث، لم أحدثها أحدا قط ولا أحدث بها أحدا أبدا. قال جابر: فقلت لأبي جعفر ع جعلت فداك، إنك قد حملتني وقرا عظيما بما حدثتني به من سركم الذي لا أحدث به أحدا، فربما جاش في صدري، حتى يأخذني منه شبه الجنون، قال: "يا جابر فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبان، فاحفر حفيرة و دل رأسك فيها، ثم قل: حدثني محمد بن علي (عليه السلام) بكذا و كذا".
      وفي حديث آخر: و دفع إلي كتابًا، وقال لي: "إن أنت حدثت به حتى تهلك بنو أمية، فعليك لعنتي و لعنة آبائي، و إذا أنت كتمت منه شيئا بعد هلاك بني أمية فعليك لعنتي و لعنة آبائي". ثم دفع إلي كتابا آخر، ثم قال:"و هاك هذا، فإن حدثت بشي‌ء منه أبدا فعليك لعنتي ولعنة آبائي". 

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

14
  • ذات يوم كنت مع أحد المدّعين ـ ولا يزال موجودًا ـ بأنّه وصل إلى جميع ما لدى المرحوم العلاّمة ولديه كلّ شيء، فقال هذا المسكين في كلام له أنا مطّلع على كلّ شيء، ثمّ نقل أمرًا عن المرحوم العلاّمة، فقلت له: حسنًا، ألا تحتمل أنّ هناك ما هو أرفع من ذلك أيضًا؟! 

  • قال: لا. 

  • قلت: فاسمع ما قاله لي. ونقلت له أمرًا في هذا المجال أرفع ببضع درجات ممّا قاله.

  • فبقي فاغرًا فاه دهشة. 

  • فقلت: أيّ ادّعاء هذا الذي تدّعيه؟! لقد كنّا نحن في علاقتنا مع هذا الرجل الكبير على مستوى فهمنا نحن، ثمّ قلت له: وهناك أيضًا ما هو أرفع من ذلك أيضًا ولن أقوله لك، نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس… نحن مأمورون أن نخاطب كلّ إنسان… 

  • إنكار بعض كتّاب التراجم لمعروف الكرخيّ

  • ثمّ بعد ذلك نجد في كتب التراجم من ينكر كليًّا وجود معروف الكرخي ويقول: أصلا لا صحّة لوجود هكذا رجل، وما معنى أنّه كان بوّابًا؟ ولو كان فلماذا لم يرو عن الإمام؟! 

  • هل لا بدّ لكلّ من يرى الإمام الرضا أن يروي عنه؟ من قال ذلك؟ هل تعهّد الإمام الرضا بأنّ كلّ من صاحبه يقول له: تعال واجلس وكن من هؤلاء وارو أصول العقائد والأحكام والتكاليف والمسائل؟! كلاّ متى تعهّد الإمام الرضا بذلك؟! والكلام في هذا المجال كثير، وقد نقل المجلسيّ الأوّل رحمه الله حول الأبدال والأوتاد والذين كانوا يأتون من النواحي المختلفة من العالم للقاء أمير المؤمنين، كانوا يأتون بطيّ الأرض، فيأخذون ما يريدون ويرجعون، ممّا لو سمعناه الآن لقلنا: عجيب! نعم يا عزيزي لقد أحسست في زمان حياة المرحوم العلاّمة بأمور لم أجرؤ حتّى الآن على نقلها لأحد ولم يأت زمانها بعد، من هؤلاء الأنواع الذين ذكرتهم، من هؤلاء التلامذة الذين ذكرتهم، نعم فقد كانوا ولا خبر لأحد عنهم. فهل لا بدّ من إفشاء ذلك؟ كلاّ، لا داعي لإفشائه، لا داعي لإفشاء كلّ شيء، فللأعاظم والأولياء حسابهم الخاصّ وأسلوبهم الخاصّ الذي لا علاقة لنا به فهم يعلمون ماذا يصنعون ويعلمون الطريقة التي يتعاملون بها مع كلّ إنسان.

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

15
  • المسؤوليّة والحساب الإلهيّ عمّا نقوله عن الأعاظم من أصحاب الأئمّة 

  • فهناك مسؤوليّة في أن نتّهم ونطرد من كان في خدمة الإمام الصادق لسنوات عديدة وننفيه، لماذا؟ لأنّه كان صوفيًّا. لئن كان صوفيًّا فليكن! إن كان الأمر كذلك فجابر بن يزيد الجعفيّ أيضًا كان صوفيًّا، هو يقول كلامًا لا يفهمه جنابك الرفيع فلنقل إنّه صوفيّ! هل رأيت أنت كشكول بايزيد وشَعره الطويل ۱حتّى تقول إنّه صوفيّ؟ نقلت عنه أمور لا يحتملها علمك فليكن، وأنا أيضًا أقول كلامًا لا يحتمله علمك، والحال أنّي لا كشكول لديّ ولا فأس ولا أمثال ذلك، وإن كان باب الاتّهام مفتوحًا ويصلنا ولكن الحمد لله لا كشكول لدي ولا الفأس الخاصّ الذي يحمله الدراويش، وإلا لما كان معلومًا أن نكون مع الرفقاء هنا الآن. 

  • لكلّ هذا حساب، ففي يوم القيامة يسألون الإنسان على أيّ أساس قلت كلّ كلمة وكلمة لماذا قلت هذا؟ 

  • عدم رؤية بايزيد لكوّة في دار الإمام بسبب شدّة اهتمامه بالإمام

  • فهذا جناب بايزيد ـ لا يفوتنا أصل الموضوع ـ بقي ستّ سنوات عند الإمام الصادق عليه السلام، ستّ سنوات، وبعد ستّ سنوات قال له الإمام: ائتني بكتاب من تلك الكوّة، فقال للإمام: أيّة كوّة؟ فقال الإمام تلك الكوّة، ستّ سنوات ولم ترها؟! أتعلمون ماذا أجاب الإمام؟ قال يا ابن رسول الله منذ أن أتيت لم أنظر إلى غير وجهك لم أر غير طلعتك. ستّ سنوات ولم ير أنّ هناك كوّة. وعندما نقول هذا، فإنّ الذين يؤلّفون كتابًا حول بايزيد يضيفون عشر صفحات أيضًا يكيلون فيها التهم أن أيّها الخائن أيّها المخادع أيّها المنافق أيّها المنتحل…! أفتدري لماذا يقولون ذلك؟ لأنّ هذا هو مستواهم حيث لا يرون فارقًا بين الإمام وبين هذا العامود، فيظنّون أنّ الجميع مثلهم. ولكن يمكن أن يكون هناك أناس إذا ما جاؤوا ورأوا الإمام لم يروا بعده شيئًا آخر، وما نتيجة ذلك؟ نتيجته أنّ ذاك بعد ستّ سنوات يصبح بايزيد، وهذا بعد تسعين سنة يبقى يراوح مكانه كما كان! ذاك بعد ستّ سنوات يقول له الإمام: آن أوان رحيلك، يعني صرت كاملاً، فيرسله إلى بسطام برفقة ابنه، فيأتي إلى بسطام، ويبدو أنّه كان برفقته السيّد محمّد بن الإمام جعفر الصادق، السيّد محمّد والذي انتقل إلى رحمة الله قبل بايزيد، فصنعوا له قبّة، وأوصى بايزيد أن يدفن على عتبة باب قبر ابن الإمام الصادق، لذلك فقبر بايزيد الآن في الصحن ومقام وضريح السيّد محمّد بن الإمام الصادق عليه السلام أمامه. فهذا كلّه من أدب هؤلاء الأعاظم أمام أهل البيت والذي يقتضي أن يكون هكذا. 

    1. الكشكول إناء كان يحمله الصوفيّة والدراويش ويضعون فيه أغراضهم. كما أنّهم كانوا يطيلون شعرهم، ويحملون ما يشبه الفأس. 

اختلاف مراتب أصحاب الأئمّة (بايزيد البسطامي نموذجًا)

16
  • ستّ سنوات عند الإمام الصادق عليه السلام ولم ير بعد، والحال أنّا كنّا نرى الذي كانوا يأتون إلى المرحوم العلاّمة فكانوا ينظرون أوّلاً إلى السجّاد، إلى الباب والجدار، إلى الصور، إلى الأعلى والأسفل، كيف الأوضاع؟ وبعد أن يلقي نظرة دقيقة في النهاية يقول: كيف حالك يا سيّد محمّد حسين؟ ما أخبارك؟ 

  • ـ الحمد لله، شكرًا لكم، وفّقكم الله، أهلاً وسهلاً. 

  • فلو بقي هذا عشر سنوات لبقي كما كان، لا فقط ستّ سنوات، عشر سنوات وعشرون سنة وثلاثون سنة يبقى على حاله. 

  • يبدو أنّ كلّ كلامنا الليلة كان حول الأفراد والأصحاب، هكذا اتّفق. نسأل الله أن يوفّقنا إن شاء الله أن نعرف الواقع والحقّ كما هو ونعمل على أساسه، وأن نقلّل من الحشو والزوائد، والخلاصة أن نحصل على ما عمل به العاملون الرابحون فربحوا، أن نحصل على تلك الأسرار التي حصلوا عليها وعملوا به وتقدّموا فنعمل بها ونصل إلى تلك النتائج.۱

  •  

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد. 

    1.  قال العلامة الطهراني رضوان الله عليه في كتاب معرفة الله، ج‌٣، ص: ٢٩٦ ـ ٢٩٩
      أضحى عصر بني العبّاس أسوأ بكثير من عصر بني اميّة، ممّا حدا باولئك الزهّاد و العبّاد بتفضيل الانزواء و التعبّد بعد أن استيأسوا من الناس. و لمّا كان الأئمّة على رأس هذه الفئة، فقد اجتمع اولئك الزهّاد و العبّاد حولهم كالفراش المتجمّع حول السراج، لمؤاساتهم و تطييب خاطرهم. فلمّا طال الزمن على هذه الفئة و تطاولت السنون التي قضوها في العبادة و العزلة فقد غلب عليهم الانشغال بالله و العوالم المعنويّة، و لم يرغبوا في شي‌ء كما رغبوا في المعارف و الحقائق المتعلّقة بمعرفة الله و النفس و بدءوا ينهلون من تلك العيون ما أمكنهم.
      «بايزيد» و «شقيق» و «معروف» كانوا تلامذة لثلاثة أئمّة 
      و لم يبخل الأئمّة أو يقصّروا في إغنائهم وإفاضتهم من تلك العلوم، حتى حاز ثلاثة منهم على صُحبة ثلاثة من الأئمّة صحبة معنويّة و صوريّة شديدة القُرب، أحدهم بايَزيد البَسطاميّ الذي مارس التقيّة خوفاً من بطش البطّاشين و انتحل شخصيّة السقّاء و تمكّن بذلك من مصاحبة الإمام جعفر الصادق عليه السلام سنوات طوالًا فتشرّب من حقائق ذلك الإمام و ارتوى‌ من معارف فيضه الشي‌ء الكثير *
      والثاني، شَقِيق البَلخيّ الذي تاب من ذنوبه على يد الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام و لازمه.
      و الثالث: معروف الكَرخيّ والذي تنكّر بهيئة بوّاب لدار الإمام الرضا عدّة سنوات تقيّةً و خوفاً من المناوئين‌ **
      و بسبب اكتساب هؤلاء الثلاثة معارفهم و حقائقهم من الأئمّة الثلاثة و تدريسهم ذلك لباقي الزهّاد و العبّاد، فقد اصطبغوا بصبغة الزهد و العبادة و المعارف الخاصّة و التي لم تكن موجودة في عصر بني اميّة.
      و واضح بشكل لا يقبل الشكّ أن المعارف و الحقائق التي كان الأئمّة حائزين عليها هي نفسها التي قام الرسول بتعليمها إلى علي بن أبي طالب‌ عليه السلام و منه إلى أولاده و من أولاده إلى مَن وجدوا فيه الاستعداد و القابليّة لنيلها. و لمّا لم يكن للأئمّة المذكورين مُعلّماً غير آبائهم، فقد كان منهلم الوحيد و الأصليّ هو الرسول و على عليهما صلوات الله.
      * كتب العالم الجامع للكمالات الشيخ بهاء الدين العامليّ المعروف بـ «الشيخ البهائيّ» في كتابه «الكشكول» طبعة مصر الدرج الأوّل، ص ۸٦، موضوعاً حول بايَزيد البَسطاميّ قال فيه:
      «كان سقّاءً للإمام جعفر الصادق عليه السلام دون شكّ أو ريب. ذكر هذه القضيّة جماعة من المؤرّخين، و أورد ذلك أيضاً الإمام فخر الدين الرازيّ في كثير من كتبه الكلاميّة، و ذكره كذلك السيّد الجليل رضيّ الدين علي بن طاووس في كتاب «الطرائف»، و ذكره أيضاً العلّامة الحلّيّ في شرحه على «تجريد الاعتقاد» للخواجة الطوسيّ» إلى آخر كلامه في هذه المسألة.
      أقول: نُقل في كتاب «الطبقات» للشعرانيّ، ج ۱، ص ٥ عن بايزيد البسطاميّ قوله إنّه كان يقول لعلماء عصره: أخذْتم عِلمَكم من علماءِ الرُّسوم ميِّتاً عن ميِّتٍ؛ و أخذْنا عِلمَنا من الحيّ الذي لا يموت!
      **جاء في كتاب «طبقات الصوفيّة» تأليف أبي عبد الرحمن السلميّ، ص ۸٥ أنّه قال: «أسلم معروف الكرخيّ على يد الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، و عمل حاجباً وبوّاباً للإمام بعد إسلامه. و ازدحم الشيعة يوماً أمام باب دار الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام فكُسِر له عظم في صدره، فتوفّي على أثرها و دُفِنَ في بغداد بالعراق».