المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء أبي حمزة
التاريخ 1398/09/04
التوضيح
ما هو الأمر الأساس الذي تتوقّف عليه المعرفة؟ ما هي أقسام المعرفة؟ ما هو السرّ في عدم كفاية معرفة الله تعالى الإنّية من خلال المخلوقات؟ ما هي الأهمّية التي تحظى بها معرفة الله تعالى بواسطة ذاته؟ وما هي أوجه أفضليّة هذه المعرفة؟ كيف يكون الله تعالى هو الدالّ وهو المدلول؟ هي تساؤلات في ضمن تساؤلات أخرى سعى سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لشرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ الشريف.
هو العليم
معرفة الله تعالى حقّ المعرفة
شرح فقرات من دعاء أبي حمزة الثماليّ – الجلسة الثانية
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله مِن الشّيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصَلَّى اللَهُ على محمّدٍ وآلِهِ الطاهِرينَ
ولَعنةُ اللَهِ على أعدائِهِم أجمَعينَ
توقّف المعرفة على وجود علاقة بين المعرِّف والمعرَّف
«بِكَ عَرفتُك، وأنتَ دَلَلتَني عَلَيكَ، ودَعَوتَني إليكَ، وَلولا أنتَ لم أدرِ ما أنتَ».
بعبارة «بِكَ عرفتُكَ»، تمّ المعنى؛ وأمّا العبارات التي أتت بعدها؛ وهي: «وأنتَ دَلَلتَني عَلَيكَ، ودَعَوتَني إليكَ، وَلولا أنتَ لم أدرِ ما أنتَ»، فقد جاءت في مقام تفسير هذه العبارة وبيانها وشرحها.
«بِكَ عرفتُكَ»؛ إذ حينما يعرف الإنسان شيئًا، فإنّ معرفته بهذا الشيء إمّا تكون بنفسه، أو بغيره، لكن بشرط أن تكون هناك علاقة بين هذا الغير وبين ذلك الشيء، حتّى يتمكّن الإنسان من معرفته؛ وإلاّ، لو لم تكن بينهما أيّة علاقة، فكيف سيتسنّى للإنسان التعرّف عليه؟! وعلى سبيل المثال، إذا رأى الإنسان زيدًا، فإنّ رؤيته لزيد هذا لن تكون سببًا لمعرفته بعمرو القاطن في البلاد الفلانيّة! لأنّه لا توجد بين هذين الاثنين أيّة نسبة، أو علاقة شراكة، أو أبوّة، أو بنوّة، أو رحم، أو علاقة نسبيّة أو سببيّة.
وعليه، إذا تعرّف الإنسان على شيء بواسطة شيء آخر، فلا بدّ أن يوجد ربط بين هذين الشيئين،۱ حيث يتمثّل هذا الربط إمّا في الربط العلّي، أو الربط المعلوليّ.
فالمراد هنا من الربط العلّي أن يكون ذلك الشيء الذي يطّلع عليه الإنسان ـ فيتعرّف بواسطته على شيء آخر ـ علّةً لوجود هذا الشيء الآخر؛ ومن باب المثال، إذا رأى الإنسان النار من بعيد، فإنّه يكتشف فورًا أنّ هناك حرارة؛ فمع أنّه لم يشعر بالحرارة، ولم تصل هذه الحرارة إلى بدنه، ولم يحصل له أيّ تماسّ معها، لكنّه يعلم بالضرورة من خلال رؤيته للنار أنّ هناك حرارة؛ إذ لا يُمكن أن توجد النار من دون حرارة؛ لأنّ النار علّة للحرارة، وكلّ علّة تستلزم معلولها؛ أي أنّ النار تلزم منها الحرارة، والحرارة تلزم من وجود النار؛ ولهذا، حينما يرى الإنسان النار من بعيد، فإنّه يكتشف وجود الحرارة.
المعرفة الإنّية واللمّية وفوق اللمّية
وهذا الذي يُعبّر عنه بـ: «الانتقال من العلّة إلى المعلول»، ويُطلق عليه في لسان الأدباء والعلماء اسم «البرهان اللميّ».
لكن، قد يطّلع الإنسان على المعلول، فيكتشف عن طريقه وجودَ علّةٍ مّا؛ كأن يرى ارتفاع الدخان من وراء جدار، فيقول بكلّ قطع: «لقد أُشعلت نارٌ هناك»؛ وهذا على العكس من المسألة الأولى، والتي رأى فيها نارًا، ثمّ قال بكلّ جزم: «ينبغي أن تستتبعها حرارةٌ»؛ في حين أنّه لم ير هنا النار، بل رأى الدخان، ثمّ قال بشكل قاطع: «توجد نار»؛ إذ لا يُمكن وجود دخان من دون نار؛ فينبغي أن تكون هناك نار، حتّى يُصنع الدخان؛ فبعدما وُجد هذا الدخان، فإنّه يكون معلولاً، ويدلّ على أنّ هناك من أوجده.
وفي هذه الحالة، نرى أنّ الإنسان يعلم بوجود العلّة عن طريق المعلول؛ ويُقال له: «البرهان الإنّي»؛ أي أنّ الحديث هنا عن إنّية الحكم.
لكن، تارةً أخرى، قد لا ينتقل الإنسان من العلّة إلى المعلول، ولا من المعلول إلى العلّة، بل يرى الشيء بذاته، ويُدركه، ويتعرّف عليه؛ كأن يأتوا بالنار، ويضعونها أمام هذا الإنسان الذي يكون قريبًا منها، إلى درجة أنّه يراها؛ وما إن يراها، حتّى يشعر بحرارتها، ويحسّ بكيانها ودخانها؛ وهذا نظير ما كان يحصل في فصل الشتاء القارس، حيث كانت تُسخّن الكراسيّ،۱ أو تُملأ المجامر بالفحم، ويُنفخ فيها، ثمّ يُؤتى بها إلى الغرفة؛ ففي هذه الحالة، سيرى الإنسان النار وآثارها فورًا!
فهنا، نجد أنّ الإنسان لم يتعرّف على المعلول من خلال العلّة، أو على المعلول من خلال العلّة، بل تعرّف على الشيء عن طريق نفس ذاته؛ وهذا الذي يُقال له: «البرهان فوق اللمّي».
فنحن أتينا إلى هذه الدنيا، ونُريد أن نعرف الله تعالى؛ إذ لا مفرّ ولا مناص في نهاية المطاف من ذلك؛ فعلى الإنسان أن يعرف ربّه؛ لكن بأيّ شيء تحصل له هذه المعرفة؟
معرفة الله تعالى الإنّية من خلال المخلوقات
فإذا تمسّكنا بالبرهان الإنّي، فإنّه يقول: إنّ الله العليّ الأعلى خلق موجودات في العالم؛ والمعلول لا يوجد من دون علّة؛ ولهذا، فإنّ الزمان، والأرض، والخلقة، والريح، والمطر، والسحاب، والزلازل، والصواعق، والتحوّلات الأرضيّة والسماويّة، و...، كلّها تدلّ على وجود إله خلقها بأجمعها.
فالبناء يدلّ على البنّاء؛ إذ حينما تذهبون لأيّة مدينة أو بلاد أو قرية، وتُشاهدون بنايةً هناك، فإنّكم تحكمون بأنّ بنّاءً قد شيّدها؛ لأنّ البناء لا يوجد من دون بنّاء ومهندس.
وما إن تنظرون إلى البساط الموضوع تحت أرجلكم، حتّى تقولوا: «لقد نسجه أحدُهم»؛ لأنّ البساط لا يوجد من تلقاء ذاته؛ وهذا أمر مسلّم! فهنا، يكون الانتقال من المعلول إلى العلّة.
وهكذا، ما إن ترون الطعام المطبوخ، حتّى تقولوا: «لقد طبخه أحدُهم»، وتقولوا أيضًا عن خبز "سنگک"۱: «لقد جاء به أحدُهم من الفرن».
فالنجّار هو الذي عمل على تشكيل الخشب، وتنعيمه، ثمّ صقله وتلميعه، إلى أن ظهر على شكل باب؛ كما أنّ هناك من نحت الحجر، حتّى جاؤوا، ونصبوه على حائط المسجد؛ وإلاّ، فإنّه لم يظهر على تلك الصورة من تلقاء ذاته؛ وهذا أمر مسلّم بطبيعة الحال!
جاء أعرابيّ إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، واستدلّ على مسألة التوحيد، وأنّ الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض؛ وجاء استدلاله بالنحو الآتي:
البَعرةُ تدلُّ عَلَى البَعيرِ، وأثرُ الأقدامِ يدُلُّ عَلَى المـَسيرِ؛ أ فَسماءٌ ذاتُ أبراجٍ وأرضٌ ذاتُ فِجاجٍ لا تَدُلاّنِ على اللطيفِ الخَبيرِ؟!٢
حيث قيل له: «كيف عرفت الله؟»، فقال:
حينما أمشي في الطريق، وأرى روث الإبل ملقى عليها، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ جملاً مرّ من هذا الطريق؛ وحينما أسير في الطريق، وأرى أثر أقدام إنسان، فإنّ ذلك يُشير إلى أنّ إنسانًا عبر من هناك.
وحينئذ، ألا تدلّ هذه السماء ـ بما تملكه من علوّ وارتفاع في المرتبة، وما تتوفّر عليه من أبراج متعدّدة ـ ، وكذلك هذه الأرض ـ بما تتوفّر عليه من فجاج وخصائص ـ على أنّ إلهًا لطيفًا وخبيرًا قد خلقها؟!
وهذا هو الاستدلال بالمعلول على العلّة!
سُئلت امرأة عجوز كانت تملك عجلة مغزل تغزل بها القطنَ والصوف في المنزل: «بأيّ شيء عرفتِ الله تعالى؟»، فقالت:
كلّ ما أعرفه أنّني حينما آخذ القطن والصوف، وأضعه في عجلة المغزل، وأحرّك هذه العجلة، فإنّه يُصبح على شكل خيوط؛ لكن، متى ما رفعت يدي عن العجلة، فإنّها تتوقّف، ولا ينتج عنها أيّ شيء، حيث يبقى القطن والصوف على حاله، ولا يتحوّل إلى خيوط؛ وحينئذ، مثلما أنّه عندما أرفع يدي عن العجلة، فإنّها تتوقّف، ولا تتحرّك، بحيث تكون حركتها بواسطة يديّ أنا، فإنّ حركة هذه العجلة الكبيرة تكون بيد الله تعالى! فهذه السموات والأرض وحركتها تتوفّر على محرّك لولاه لما تحرّكت، ولتوقّفت.
قیــاس چــرخِ گردنــده همــی گیــر | *** | از آن چرخــه کــه گردانــد زن پیــر۱ |
[يقول: فقس الفلك الدوّار بالمغزل الذي تُديره العجوز]
«وَعَلَيكُم بِدينِ العَجائزِ»؛٢ أي: كما أنّ دين العجائز ومذهبهنّ صيغ على أساس "الوصول إلى العلّة عن طريق المعلول"، فإنّه عليكم أنتم أيضًا ألّا تتخلّوا عن هذا الأمر، وتعرفوا الله تعالى بهذا المقدار كحدّ أقلّ؛ فهذا نوع أوّل [من أنواع المعرفة].
فالسير الآفاقي هو بهذا النحو أيضًا، حيث يقوم الإنسان فيه بالذهاب إلى هذه الناحية وتلك، وينظر إلى الورود والمشاهد الطبيعيّة والبساتين والشلاّلات، ويتفكّر ويتأمّل فيها، فيصل من خلال إعمال الدقّة والحدّة في النظر إلى هذا الصنع العجيب إلى أنّ خالقه عظيم؛ وإلاّ، لما تمكّن من إيجاده على هذه الشاكلة.
والجدير بالذكر أنّ معظم الناس في العالم من الإلهيّين والفلاسفة والحكماء والعظماء بالله تعالى يعرفون الله تعالى من خلال هذا الطريق بذاته؛ أي عن طريق الانتقال من المعلول إلى العلّة.
السرّ في عدم كفاية معرفة الله تعالى عن طريق المعلولات
وهو طريق حسن جدًّا؛ كما أنّ القرآن الكريم يدعونا إليه، ويقول لنا: اسلكوا هذا الطريق! فالسير الآفاقي يتمثّل في أن يصل الإنسان إلى العلّة من خلال المعلول؛ غاية الأمر أنّ ذلك يتحقّق بمعنى من المعاني.
فصحيح أنّ هذا الطريق يدلّ على العلّة؛ لكن، هل يدلّ عليها كما ينبغي ويجب أن يكون عليه الأمر، أم لا، بل يدلّ عليها من ناحيةٍ وجِهةٍ واحدة؟!
فالذي يرى الدخان عن بُعد يحكم قطعًا بوجود نار هناك؛ ولا شكّ في ذلك بتاتًا؛ لكن، هل نستطيع القول: إنّه توصّل إلى حقيقة النار؟! ولمس كيفيّة وجودها؟! وصار هذا الوجود مشهودًا بالنسبة إليه؟! وعرف نوعيّتها؟! وأنّها من الفحم، أو الحطب، أو أنّها نتيجة لاصطكاك جسمين، أو للتيّار الكهربائيّ، أو لاحتكاك حجرين من الصوان، أو أنّها حصلت من احتراق النفط، أو الوقود، أو الفحم الحجريّ؟! فهل يتمكّن بذلك من معرفة مصدر ظهور هذه النار؟!
إنّ هذه الأمور لا تكون واضحة بالنسبة إليه، وهو يقول بنحو عامّ: «توجد نار»؛ وبالتالي، فإنّه يقول على نحو مجمل، وعن بُعد: «توجد علّة هنا!».
هم در اوّل عجز خود را او بديد | *** | مرده شد دين عجائز برگزيد |
وهذا يختلف كثيرًا عن الذي يكون قابعًا خلف الجدار، وما إن يرى الدخان، حتّى يرى أيضًا أيّ شيء تكون هذه النار، ويعرف مادّتها، ويُدرك ذاتها، ويلمسها؛ وتكون عين هذه النار وآثارها مشهودة بالنسبة إليه، حيث يوجد فارق شاسع بين الاثنين!
إنّ لكافّة الموجودات معرفةً بالله تعالى، لكنّها معرفة عن بُعد، ومن وراء حجاب، ومن خلف ستار؛ فلا يُمكن لأيّ أحد أن يُنكر هذا الأمر: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛۱ فمن الذي بوسعه أن يشكّ في وجود الله تعالى؟!
غير أنّ الذي يسعى للوصول إلى العلّة عن طريق المعلول، يصل إليها في حدود سعة هذا المعلول؛ أي أنّ العلّة تنزّلت [هنا]، وأوجدت المعلول؛ وبالتالي، يكون المعلول مُظهرًا للعلّة بمقدار وجوده، وليس بمقدار وجودها هي؛ وإلاّ، لو كانت للمعلول قدرةٌ على الدلالة على العلّة بمقدار وجودها، لما كان معلولاً، بل كان علّة.
فلو نظرنا إلى رسّام ماهر يرسم اللوحات، فإنّنا نجد أنّ كلّ لوحة منها تعكس هذا الرسّام ضمن حدودها الخاصّة، لا أنّها تعكس حقيقته؛ إذ من الممكن أن يكون الرسّام قادرًا على تخطيط رسومات أعجب وأغرب، لكنّكم لم تُشاهدوها؛ وبالتالي، لا يُمكن أن تطّلعوا على الرسّام من خلال اطّلاعكم على رسمه، بل سيكون بوسعكم رؤيته حينئذ في حدود هذا الإطار، وليس بوجوده الإطلاقيّ والسعي.
حسنًا، هل تلتفتون إلى ما أريد قوله؟!
در فریبِ نقش نتوان خامهء نقّاش دید | *** | ورنه در این سقفِ زنگاری، یکی در کار هست٢ |
[يقول: لا يمكن رؤية قلم الرسّام من سحر الرسم وفتنته؛ وإلّا فإنّ هناك صانعًا لهذا السقف النحاسيّ اللون]
فلا يستطيع الإنسان أن يُدرك وحدة الرسّام عن طريق الرسم، بل يُمكنه رؤية الرسوم وحسب؛ وأمّا بالنسبة لذلك العلم وتلك الملكة والقدرة الموجودة في الرسّام حينما يُريد أن يرسم ـ والتي تؤثّر في هذا القلم وهو واحد أيضًا، فيرسم على اللوحة والورقة ـ ، فإنّها لا تُدرك، بل يجري إدراك الرسم وحسب؛ فتلك الوحدة لا تُدرك، بل تُدرك هذه الكثرة فقط؛ مع أنّه ما لم يتمّ إدراكها والتعرّف عليها، فلن يُتعرّف على الرسّام أبدًا!
وعليه، متى ما تعرّف الإنسان في هذا العالم على أيّ معلول، فإنّه سيتمكّن من التعرّف على العلّة، لكن من نافذة ضيّقة، وصفحة خاصّة، وجهة معيّنة؛ وهذا نظير أن ينظر الإنسان إلى صورة آخر من ناحية واحدة، فإنّه لن يتمكّن من رؤية الناحية الأخرى؛ فإذا رأى الأمام، فلن يرى الخلف؛ وإذا التقط صورةً من أعلى، فلن يستطيع رؤية الوجه؛ لأنّ كلّ نظرة من هذه النظرات تمّت من جهة واحدة.
فإذا تمكّن الإنسان من رؤية العلّة في ضمن المعلول، فلن ينبغي له حينئذ أن يرى المعلول، بل عليه أن يرى العلّة [وحسب]؛ وإذا أراد أن يرى العلّة في ضمن المعلول، فلا بدّ له أن يرى العلّة أوّلاً، وإلاّ، فما دام ينظر إلى المعلول، فإنّه لن يتمكّن من رؤية العلّة؛ لأنّ نظرَه مقتصر على جهة واحدة فقط؛ وهذا لا يُعدّ معرفة ولا علمًا؛ وهذا بالضبط نظير المثال الرائع الذي يقول:
روستایی گاو در آخور ببست | *** | شیر گاوش خـورد و بـر جایش نشست۱ |
[يقول: شدّ قرويٌّ بقرته في الحظيرة، فجاء أسد وافترسها وجلس مكانه]
جاء قرويّ ببقرته، وربطها في الإسطبل؛ فأتى أسد، وافترسها، ونام في مكانها؛ وحينما رجع القرويّ إلى الإسطبل ليلاً، لكي يُلاطف بقرته، ويسقيها الماء، وقف إلى جانب الأسد، وبدأ يمسّ بيده على رأسه، ورجله، وذيله؛ ظنًّا منه أنّه بقرة؛ لأنّ الوقت كان ليلاً، والجوّ معتم، ولم يكن عالمـًا بما حصل!
گفت شير ار روشنى افزون بدى | *** | زهرهاش بدريدى و دلخون شدى |
[يقول: فقال الأسدُ: لو ازداد الضوء، لانفجرت مرّارتُك [فزعًا]، وتفطّر كبدك [هلعًا]٢
سوف تنفجر مرّارتي على الفور؛ لأنّ هذا أسد! فأين يا تُرى أمسح بيدي؟ إنّني أمسح بيدي على رأس الأسد وذيله!
حسنًا، فالوقت ليل، والجوّ معتم؛ فتجد الإنسان يسعى للتعرّف على المعلول عن بُعد، ويُريد التعرّف على العلّة عن طريق المعلول، فيقول: «الله تعالى كذا وكذا، وله أسماء وصفات، ويتوفّر على ألف اسم، حيث يكون الاسم الفلاني مهيمنًا على الاسم العلاّني، ويكون هذا الاسم كذا وكذا بالنسبة لذلك الاسم»، ويتحدّث عن هذه الأحكام وأمثالها؛ غير أنّ ذلك بأجمعه مصداقٌ للآية الشريفة: {أُولَٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}؛٣ فهو مجرّد نظر عن بُعد!
فتارةً، تسأل: «يا سيّدي، كيف هي مدينة آذربايجان، وكيف تبدو؟»، فيُقال لك: «عليك تذهب إليها من هنا، فجَوُّها بهذا النحو، ومساحتها كذا، وأهلها يتحدّثون بهذه الطريقة، ومساجدها كذا وكذا»؛ غير أنّ هذا يختلف كثيرًا عن أن تذهب إليها بنفسك، وتقضي فيها شهرًا واحدًا، أو سنة كاملة؛ فترى متاجرها، وتطّلع على مساجدها، وتكتشف أسواقها التقليديّة، وتتحدّث مع أهلها، فيستضيفونك، فتتعرّف على أخلاقهم، وتنظر إلى سلوكيّاتهم.
وعليه، لا يُمكن للإنسان أن يتعرّف على أيّ موجود من خلال معلولاته؛ لأنّ المعرفة الحاصلة عن طريق المعلول ليست معرفة إلاّ من وجه؛ والمعرفة من وجه ليست معرفة مطلقة؛ وباختصار، فإنّ المعرفة من جميع الوجوه هي التي تُعدّ معرفة.
أي: على الذي يسعى لمعرفة الله تعالى حقّ المعرفة ألاّ يقتصر على المعرفة الحاصلة من المعلول، وإلاّ، لن تحصل له حقّ المعرفة هذه، بل ستكون معرفة ناقصة؛ وهي معرفة العجائز!
چه كردى فهم از اين «دين العجايز» | *** | كه بر خود جهل مىدارى تو جايز؟ |
برون آى از سراى امّ هانى | *** | بخوان مُجمل حديث مَن رآني۱ |
[يقول: ماذا فهمتَ من «دين العجائز» هذا، حتى أجزت الجهل على نفسك؟
اخرُجْ من قصر أمّ هانئ، واتل حديث «منْ رآني» كاملاً]
فلا بدّ من الخروج من المنزل، والتخلّي عن دين العجائز، وعدم الاقتصار على دليل الأعرابيّ الذي مفاده: «البعرَةُ تَدلُّ على البَعيرِ».
أجل، يبقى أنّ معرفة ذلك الرجل الأعرابيّ كانت مقتصرة على هذا الحدّ، وهي جيّدة جدًّا، وأرقى من الشرك بألف درجة، غير أنّها تختلف عن الإيمان المطلق ـ المتمثّل في الشهود ودرجة اللقاء ـ بآلاف السنوات!
أهمّية معرفة الله تعالى بواسطة ذاته
كما أنّه لم يُكلّف الجميعُ بضرورة الوصول إلى مقام المعرفة المطلقة، بل إنّ كلّ من يصل إلى درجة معرفيّة معيّنة، فإنّ ذلك سيكون جيّدًا بالنسبة إليه؛ وعليه، فإنّ الوصول إلى العلّة عن طريق المعلول هو كذلك أمر جيّد جدًّا، ويُعدّ من الطرق المعرفيّة التي دُعي إليها الإنسان في مقابل الجهل المطلق؛ غير أنّ الذي يكون إنسانًا ورجلاً لا ينبغي عليه أن يتّبع العجائز، ويرضى لنفسه بدينهم، ويقول: «حينما أرفع يدي عن عجلة الغزل، فإنّها تقف؛ ومتى ما وضعتُ يدي عليها، فإنّها تدور؛ وبالتالي، فإنّ هناك إلهًا لهذه السماء، وهذه الأرض، وهذا الإنسان، وهذه النطفة، وهذا الجنين، وهذا الأسد، وكلّ هذا النظام»، بل عليه أن يأتي، ويُشاهد!
تو از عالم همين لفظى شنيدى | *** | بيا بر گو كه از عالم چه ديدى؟ |
چه دانستى ز صورت يا ز معنى؟ | *** | چه باشد آخرت چونست دُنيي؟ |
بگو سيمرغ وكوه قاف چبود؟ | *** | بهشت ودوزخ وأعراف چبود؟ |
كدام است آن جهان كو نيست پيدا | *** | كه يك روزش بود يك سال اينجا؟ |
دليران جهان آغشته در خون | *** | تو سر پوشيده ننهى پاى بيرون |
چه كردى فهم از اين «دين العجايز» | *** | كه بر خود جهل مىدارى تو جايز؟ |
زنان چون ناقصات عقل ودينند | *** | چرا مردان ره ايشان گزينند؟ |
اگر مردى برون آى ونظر كن | *** | هر آنچ آيد به پيشت زان گذر كن |
برون آى از سراى امّ هانى | *** | بگو مطلق حديث «مَن رآنى» |
گذارى كن ز كاف ونون كونين | *** | نشين بر قاف قرب قابَ قوسَين |
دهد حقّ مر ترا از آنچه خواهى | *** | نمايندت همه أشيا كَما هي |
يقول الإمام السجّاد:
«بِكَ عَرَفتُكَ»؛
وليس بالموجودات، ولا بالجبل، ولا بالسماء، ولا بالزلازل، ولا بالقضاء، لا بالقدر، ولا بـ «فَسخِ العَزائِمِ ونَقضِ الهِمَمِ»،۱ ولا بالرياح، ولا بالسفن، ولا بجريان المياه؛ فأنا لم أعرفك بهذه الأمور، بل بِكَ عرفتُك؛ فأنا عرفتُكَ بِك أنت، وأنت دللتني عليكَ، ودعوتَني إليك، ولولا أنت، لم أدرِ ما أنت!
وعليه، فإنّ «بِكَ عَرفتُكَ» تصير هي حقّ المعرفة؛ أي: حينما فتحتُ عينيّ أوّلاً، وسعيتُ للتعرّف على خالقي بواسطة وجداني وذاتي وفطرتي، فإنّ عينيّ وقعت في الوهلة الأولى عليك، ولم أر غيرك، حتّى أتّخذه وسيلةً للمجيء إليك، وأسأله عن عنوان بيتك، فيدلّني عليه، قائلاً: «افعل كذا وكذا، إلى أن تصل بعد ذلك إلى بيت الله، وستعثر عليه هناك»؛ فما إن فتحت عينيّ، حتّى رأيتك، وأحسست بك بالوجدان، وشاهدتك بالقلب.. أنتَ شاهدٌ لي ومَشهودٌ.٢
«وَرأيتُكَ في كلِّ شيءٍ»،٣ «ولا يخلو مِنكَ شيءٌ»،٤ «ما رأيتُ شيئًا إلاّ ورأيتُ اللهَ قَبلَه وبَعدَه ومَعَهُ».٥
يقول أمير المؤمنين عليه السلام:
«ما رأيت شيئًا إلاّ ورأيت الله معه وقبله وبعده»؛
يعني: حينما يقع نظري على أيّ موجود من الموجودات، فإنّه يكون قد وقع أوّلاً على الله؛ وبتبع النظر إليه تعالى، تصير الموجودات معلومة ومشهودة أيضًا؛ ومن هنا، فإنّ وجود الله أظهر وأقوى وأجلى من وجود المعلول، لكي يأتي الإنسان، ويسعى للعثور عليه تعالى انطلاقًا من هذا المعلول؛ فحتّى ذلك المستوى من الظهور والسطوع الذي يتوفّر عليه المعلول في وجوده قد اكتسبه من العلّة؛ وبالتالي، لا بدّ أن تكون العلّة أظهر في وجود المعلول من وجود هذا المعلول بالنسبة إلى نفسه!
حضور ذات الحقّ تعالى في قعر ذات كلّ موجود
فكلّ واحد من المعلولات والمخلوقات التي وُجدت في العالم صدرت من الله تعالى؛ وبالتالي، لزم أن يكون هناك إله، حتّى توجد هذه المعلولات، ووجب أن يكون هناك إله في البداية، حتّى تصدر عنه هذه المخلوقات؛ ممّا يعني أنّ المخلوق قائم في أصل وجوده بالله تعالى، بحيث لو صرفنا النظر عن هذا القيام، فإنّه سيكون لا شيء؛ وحينئذ، كيف سيتسنّى للإنسان أن ينظر إلى هذا المخلوق، ويجعله على مرأى منه، ويضعه في حكم المقدّمة الصغرى والكبرى، وبمثابة المعلومات بالنسبة لمسألته [ودليله]، ويسعى للتوصّل من خلاله إلى ذلك المجهول، والذي هو الله تعالى؟! فهذا غير معقول بتاتًا! لأنّه ما إن يضع الإنسان المخلوق في مسألته [ودليله]، فإنّه سيكون قد وضع فيها الله؛ إذ لا وجود لهذا المعلول من دونه تعالى. فهذا المعلوم الذي وضعناه في مسألتنا [ودليلنا] ـ لكي نتوصّل من خلاله إلى ذلك المجهول ـ مكنونٌ في بطنه هذا المجهول، بحيث إذا نظرنا إليه بشكل صحيح، فإنّنا سنكون قد عثرنا على المجهول!
فلا انفصال في البين، بل إنّ الارتباط قويّ وشديد، ونور وجود الله تعالى وظهوره في الموجودات شديد إلى درجة أنّه صار من شدّة ظهوره مختفيًا، ولم يعُد يُدرك؛ فكلّ هذا بسبب شدّة الظهور، وإلاّ، فلا شيء غيره!
وعليه، هل هناك أيّ معلول ومصنوع ومخلوق يُمكننا النظر إليه لكي يدلّنا على الله؟! فما إن ننظر إلى هذا المعلول، حتّى نكون قد نظرنا إليه تعالى!
فإذا سلبنا جهة أصالة وجود الباري عزّ وجلّ وظهور نوره عن المعلول، فإنّه سيصير عدمًا ولا شيء؛ ولهذا، إذا كان بوسعنا النظر إلى هذا المعلول، فإنّ ذلك قد تحقّق بواسطة نور الله تعالى الموجود فيه؛ وبالتالي، فإنّ النظرة الأولى قد وقعت على الله تعالى، حتّى ظهر ذلك المعلول؛ وحينئذ، كيف سيتسنّى لنا أن نجلس، ونُفكّر، ونحاول التوصّل إلى وجود الله تعالى عن طريق المعلول؟!
حسنًا، هل التفتم إلى أيّ موضع ستصل المسألة؟!
يقول حضرة سيّد الشهداء في ذيل دعاء عرفة المنسوب إليه۱:
«كَيفَ يُستدلُّ عَلَيكَ بِما هُوَ في وُجودِهِ مُفتقِرٌ إلَيكَ»؟!
«يعني: كيف يُستدلّ على وجودك بواسطة هذه المخلوقات التي تحتاج إليك في أصل وجودها!».٢
ففي هذه الحالة، أ لن يكون المعلول في صدد التعريف بالله تعالى؟! أي أنّه سيكون معرِّفًا؛ وبالتالي، ينبغي أن يكون موجودًا قبل مرحلة التعريف، ثمّ يصير بعد ذلك معرِّفًا؛ هذا، مع أنّه متوقّف عليك في وجوده؛ ممّا يعني أنّه يتوقّف عليك في الوجود حتّى قبل التعريف؛ إذ ما إن يسعَ للخروج إلى ساحة الوجود، حتّى يكون قيامه في هذه الحالة بك؛ وحينئذ، ما هي المرحلة من الوجود التي يتعيّن علينا تجاوزها، لكي ننظر في المرحلة التالية بنظرة استقلاليّة إلى هذا المعلول، ونقول له: تعال أنتَ، لكي تُعرّفنا على الله تعالى؟!
إذ ليس هناك أيّة "أنتَ" في البين! لأنّ هذه "الأنتَ" قائمة بالله تعالى! وبالتالي، ما إن نقول: «تعال أنتَ»، حتّى نكون قد أثبتنا وجود الله تعالى قبل إثباتنا لوجود "الأنت". فالله تعالى يأتي قبل "أنت"، وقبل "أنا"، وقبل "هو وأنتما وهم"، وقبل كافّة الضمائر العربيّة المرفوعة المتّصلة والمنفصلة: «هُوَ، هُما، هُم، هِيَ، هُما، هُنَّ، أنتَ، أنتُما، أنتُم، أنتِ، أنتُما، أنتُنَّ، أنا، نحنُ»؛ وهي أربعة عشرة ضميرًا؛ في حين أنّ اللغة الفارسيّة تتوفّر على ستّة ضمائر وحسب: «من، تو، او، ما، شما، ايشان»، حيث نجد أنّ لكلّ طائفة عددًا معيّنًا من الضمائر؛ فيكون الله تعالى ظاهرًا قبل أن تظهر هذه الضمائر؛ وهي مسألة عجيبة جدًّا!
«كَيفَ يُستدلُّ عَلَيكَ بِما هُوَ في وُجودِهِ مُفتقِرٌ إلَيكَ»؟!
فنجد الإنسان يُريد مثلاً أن يذهب إلى منزل حضرة السيّد علي حتّى يلتقي به هناك، ويكون هذا الإنسان أعمى مثلي أنا، فيُمسك حينئذ بيد السيّد علي، ويقول: «يا سيّد علي، يا سيّد علي، أرشدني إلى منزل السيّد علي، وأجرك على الله تعالى!»؛ أي أنّه يقول له: «يا سيّد علي دُلّني على بيت السيّد علي»!
يا عزيزي، على ماذا سيدلّك السيّد علي؟! فهو بنفسه السيّد علي! فأنت قبل أن تصل إلى منزل السيّد علي، وتُدلّ على طريقه قد وضعت يديك عليه، ووصلت إليه.
فلو وضعت يديك على أيّ موجود، فقبل أن تقعان عليه، فإنّك ستجد الذات الإلهيّة المقدّسة حاضرة وناظرة هناك، قد استوعبته سعتها الوجوديّة؛ لأنّ الله تعالى غير خِلو ولا منفصل عن مخلوقاته.
«داخِلٌ في الأشياءِ لا بالمـُمازجةِ، وخارِجٌ عنها لا بالمـُزايَلَةِ»؛۱
فهو تعالى يتوفّر على هكذا سعة وجوديّة! وحينئذ، هل يُمكن للإنسان أن يعثر في العالم بأسره على معلول أو مخلوق أو شيء أو أمر مُتصوَّر أو مُتخيَّل أو مُتوهَّم يكون منفصلاً [عن الله تعالى]، ثمّ يأتي بعد ذلك، ويقول له: «عرّفني عليه، وأجرك على الله»؟!
أظهريّة وجود الحقّ تعالى بالنسبة لكلّ موجود
فحينما تُريد أن تتعرّف على الله تعالى من خلال بعوضة واحدة أو قشّة واحدة، فإنّ هذه البعوضة وهذه القشّة تكونان في أصل وجودهما (وهو وجود واجب) مع الله؛ وبالتالي، ما إن تضع يديك على القشّة، حتّى يكون وجوده تعالى ـ باعتبار معيّة ذاته لجميع الموجودات والتي من ضمنها هذه القشّة ـ مشهودًا ومعلومًا بالنسبة إليك؛ فتتنحّى القشّة جانبًا، وتختفي! تأتي العلّة، فتختفي المعلولات؛ ويُشرق نور عزّة هذا الوجود، فلا يبقى في مقابله أيّ موجود!
«كَيفَ يُستدلُّ عَلَيكَ بِما هُوَ في وُجودِهِ مُفتقِرٌ إلَيكَ؟! أَ يَكونُ لِغَيرِكَ مِنَ الظهورِ مَا لَيسَ لَكَ حَتَّى يكونَ هُوَ المـُظهِرَ لَكَ»؟!٢
فتجدنا نحمل بأيدينا المصباح، ونمشي في الليلة الحالكة، ونذهب إلى كلّ مكان مظلم ببركة نور هذا المصباح وضيائه، فنعثر في هذه الظلمة على ضالّتنا، ونأخذها؛ فلأنّ هذه الضالّة ضاعت في العَتَمة؛ وهناك، تكون الأشياء غير متميّزة عن بعضها، فلا بدّ أن يحلّ النور، حتّى تنفصل هذه الأشياء عن بعضها، فيتمكّن الإنسان من العثور بينها على مراده؛ وبالتالي، لا بدّ من وجود النور!
إنّ الموجود الذي يُريد الإنسان أن يبحث عنه ويعثر عليه هو الذي يمنح النور لهذا المصباح اليدويّ؛ فهو لديه الكثير من النور إلى درجة أنّه أضاء ملايين المصابيح في العالم؛ ومن ضمنها مصباحنا اليدويّ، وكذلك فكرنا، وقوانا المتخيّلة؛ لأنّها أيضًا مصابيح نريد استعمالها للعثور على الله تعالى.
ومن هنا، فإنّ المصباح الذي حملناه بأيدينا، ونُريد من خلاله العثور على الله، قد اكتسب نوره من عنده تعالى؛ فهناك يوجد نور مشعّ تجلّى شعاعٌ واحد منه، فأضاء مصباحنا؛ وحينئذ، هل يُمكننا السعي للعثور عليه عن طريق هذا المصباح؟! [كلاّ!]، وذلك لأنّ هذا الظهور قد صدر من هناك. فليس للمخلوقات والمعلولات ظهورٌ لا يملكه الله، حتّى نتوسّل بهذا الظهور من أجل العثور عليه تعالى (على فرض أنّه موجود لا يمتلك مثل هذا الظهور)!
فمن المفروض أنّ هذا الظهور عبارة عن ذرّة من ظهورات ذاته المقدّسة؛ وهذا بالضبط نظير أن نحمل بأيدينا فانوسًا أو شمعة، ونريد أن نبحث بواسطتهما عن الشمس؛ ففي يوم مشرقٍ، وحينما تكون الشمس في رائعة النهار قد أضاءت كلّ الأرض؛ وبطبيعة الحال، يكون نور هذا المصباح المصنوع من شمع ـ والذي نحمله بأيدينا ـ مقتبس من الشمس، وليس منفصلاً عنها؛ تجدنا نسعى للعثور على الشمس بواسطة ذلك المصباح! فهل هذا ممكن؟!
بسى نادان كه او خورشيد تابان | *** | به نور شمع جويد در بيابان۱ |
[يقول: جاهل جدًّا من يبحث عن الشمس الساطعة في الصحراء مستعينًا بضوء شمعة].
فما أكثر الجهّال الذين يتوسّلون بضوء شمعة من أجل العثور على الشمس الساطعة في وسط الصحراء؛ فيشعلون الكبريت، ويوقدون شمعة في وقت الظهر، ويقولون: انهض يا عزيزي، لنقوم بجولة، فنحن نريد العثور على الشمس!
علَم چون برفرازد شاه پرسا | *** | چراغ آنجا نماید چون شب تار |
[يقول: حينما ترتفع الشمس في السماء كالعَلَم، يبدو المصباح كالليل الحالك]٢
فعندما تطلع الشمس، يصير حكم المصابيح المضاءة ومصابيح النفط التي يُشعلونها، فيرتفع منها الدخان، حكم الليلة الحالكة!
وحينما يحلّ الصباح، وتطلع الشمس، فإنّ المصابيح النفطيّة التي يوقدها الإنسان بالليل، وتكون آنذاك تحظى بالأبّهة والعظمة، لا تعود قادرةً على إضاءة حتّى ما يقع تحتها!
بسى نادان كه او خورشيد تابان | *** | به نور شمع جويد در بيابان |
عَلَم چون برفرازد شاه فرخار | *** | چراغ آنجا نماید چون شب تار |
طَلَع [ت] الشمسُ أيّها العُشّاقْ | *** | واسَتنارَت بِنُورِه [ها] الآفاقْ!۱ |
ولهذا، علينا البحث عن ذلك الموجود الحقيقيّ بنفسه، والسعي للعثور عليه بواسطته هو، لا بواسطة المصباح الكحوليّ أو الغازيّ أو النفطيّ أو... .
{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ}؛٢ فقد أتيتم، وصنعتم لأنفسكم مصابيح سكبتم في أحدها النفط، وفي الثاني البنزين، وفي الثالث الغاز، و...، ووضعتم عليهما أسماءً؛ لكن، لا يُمكن لأيّ واحد منها أن يدلّ [على الله تعالى].
تقدّم معرفة الله تعالى على معرفة كلّ شيء بما في ذلك معرفة الرسول
يقول حضرة سيّد الشهداء:
«مَتى غِبتَ حَتَّى تَحتاجَ إلى دَليلٍ يَّدُلُّ عَلَيكَ»؟!٣
فول أنّك كنتَ غائبًا، وغير حاضر لدينا، لتوجّب علينا حينئذ أن نسأل زيدًا وعمروًا: أين هو الله؟! أوصلونا إليه! لكنّك حاضر غير غائب، بل وأكثر حضورًا من كلّ شيء! فأنت أكثر حضورًا من هذا الدليل؛ لأنّ وجوده قائم بك؛ وبالتالي، تكون أنت الأوّل، وهو الثاني! كما أنّك أقرب إلينا منّا؛ لأنّك أنت الأوّل، ثمّ نأتي نحن بعد ذلك! ألم تقرؤوا: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}٤؟! ألم تُطالعوا في القرآن الكريم: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيد}٥، و {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد}؟!
إذن، أنت الأوّل! وبما أنّك الأوّل، فإنّك حاضر؛ وحينئذ، عند من نذهب يا عزيزي؟!
وعلى سبيل المثال، فإنّ السيّد حسين سلّمه الله تعالى حاضر هنا، ونحن نُعاين الآن جماله المبارك؛ وحينئذ، كم يُعدّ ذلك من قصر النظر أن نُغلق أعيننا، ونقول: «يا سيّد مجيد، يا سيّد علي، تعال، ودُلّنا على السيّد حسين، وأوصلنا إليه»! لأنّه سيقول آنذاك: «يا عزيزي، هل أنت مجنون؟! أيّها السيّد المحترم، إنّه جالس أمامك؛ وجماله وكماله وكافّة خصائصه مشهودة ومعلومة للجميع، من دون أدنى شكّ أو شبهة أو إشكال؛ وهو غير غائب؛ فمن هذا الذي تُريدني أن أدلّك عليه؟!».
وما أحسن ما قال المرحوم فروغي البسطامي
كى رفتهاى ز دل كه هويدا كنم ترا؟! | *** | كى گشتهاى نهفته كه پيدا كنم ترا؟! |
غائب نگشتهاى كه شوم طالب حضور | *** | ... |
طَلَع العِشقُ أيّها العُشّاق | *** | واسَتنارَت بِنُورِه الآفاق |
[يقول: متى غِبتَ عن القلب حتى أكشف عنك النقاب، أو كنتَ خفيًّا فأبحثَ عنك؟!
لم تَغِبْ عنّي حتى أطلبَ حُضورَكَ...]
فلو أنّه كان غائبًا عن الإنسان، لحقّ له أن يقول حينئذ: «إلهي، وفّقني لإدراك حضورك!»، لكنّه كان حاضرًا منذ البداية:
غائب نگشتهاى كه شوم طالب حضور | *** | پنهان نگشتهاى كه هويدا كنم ترا |
مستانه كاش بر حرم ودير بگذرى | *** | تا سجدهگاه مؤمن وترسا كنم تو را۱ |
[يقول: لم تَغِبْ عنّي حتى أطلبَ حُضورَكَ، ولم تختفِ حتى أكشفَ عنكَ النقاب.
ليتكَ تمرّ نشوانًا بدلالٍ على الحَرَم والدير، حتى أجعلَ منكَ قِبلةً للمؤمن والراهب].
فما أحسنه من كلام، وما أجوده من شعر! يقول: إذا مررتَ سواءً على الكنيس أو المسجد، فإنّ كلاًّ من المؤمن والكافر سيخرّان ساجدين؛ إذ حينما يبرز جمالك، فإنّ العالم برُمّته يضحى مسجدًا؛ وقد قال بدوره رسولُ الله:
«جُعلت لي الأرضُ مسجدًا وطهورًا»؛٢
وذلك لأنّها بأجمعها محلّ لتجلّي الحقّ تعالى!
يقول حضرة سيّد الشهداء:
«وَمتى بَعُدتَ حَتَّى تَكونَ الآثارُ [والمعلولات] هِيَ التي توصِلُ إِلَيكَ»؟!٣
فينبغي أن تكون نائيًا، حتّى تُقرّبنا هي منك، وتوصلنا إليك باعتبار أنّك بعيد؛ في حين أنّه إذا كانت هذه الأشياء قريبة بالنسبة إلينا، فإنّ قربها يتحقّق بواسطتك أنت؛ فأنت الأقرب، وهي الأبعد! وعليه، فمهما أراد الإنسان أن يضع يده على شيء قريب، فإنّه يكتشف أنّ الله تعالى متقدّم عليه بخطوة، وأقرب منه! وهذا عجيب جدًّا جدًّا!
وهذا بالضبط نظير أحد سقط في البحر، فبدأ الماء يدخل إلى جوفه، وهو يتخبّط يمينًا وشمالاً، ويسعى لإخراج الماء حتّى لا يشربه؛ غير أنّه بسعيه هذا يقوم بإدخال الماء إلى جوفه؛ لأنّه وقع في وسط البحر الذي يُحيط الماء بكلّ جوانبه، بحيث لا نستطيع العثور في وسطه على سنتمتر واحد خالٍ من الماء؛ فكافّة أرجاء البحر مملوءة بالماء.
ثمّ يقول بعد ذلك:
«عَمِيَت عينٌ لا تَراكَ٤ عَلَيها رَقيبًا، وخَسِرت٥ صَفقَةُ عَبدٍ لَم تَجعل لَهُ مِن حُبِّكَ نَصيبًا»؛٦
أي: تلك العين التي ترى كافّة الموجودات، لكنّها لا تراك أنت؛ فترى المصباح والشمع، وترى الحركات في البراري، غير أنّها لا ترى الشمس! وترى كافّة هذه الأنواع من القدرة والعلم والسلطة والعزّة وهذه العجائب والمقامات التي جنّنت العقول وحيّرتها، وأخضعت العظماء والفلاسفة، وأذلّت العقول القويّة والعظيمة في العالم، وأعجزتها، لكنّها لا تراك أنت! فهي عين عمياء، وينبغي معالجتها!
كى رفتهاى ز دل كه تمنّا كنم ترا | *** | كى بودهاى نهفته كه پيدا كنم ترا |
غائب نكردهاى كه شوم طالب حضور | *** | پنهان نگشتهاى كه هويدا كنم ترا |
با صد هزار جلوه برون آمدى كه من | *** | با صد هزار ديده تماشا كنم ترا |
چشمم به صد مجاهده آئينه ساز شد | *** | تا با يكى مشاهده شيدا كنم ترا |
بالاى خود در آينه چشم من ببين | *** | تا با خبر ز عالم بالا كنم ترا |
مستانه كاش بر حرم ودير بگذري | *** | تا قبلهگاه مؤمن وترسا كنم ترا |
خواهم شبى نقاب ز رويت برافكنم | *** | خورشيد كعبه، ماه كليسا كنم ترا |
وفي هذا العالم، وسوق المعاملات هذا، نجد الناس بأجمعهم منهمكين في عقد الصفقات، وتبديد أعمارهم، وهدر ثرواتهم، وإنفاق عزّتهم، وإفناء صحّتهم؛ فتدور الشمس والقمر، ويتعاقب الليل والنهار، الواحد تلو الآخر، ليختلسا هذه الثروات؛ شئنا أم أبينا!
فيسلبان العزّة، ويُبدّلانها إلى ذلّة؛ ويسلبان الصحّة، ويُحوّلانها إلى مرض؛ ويسلبان العمر، ويُغيّرانه إلى لاعمر؛ ويسلبان الحياة، ويقلبانها إلى لاحياة؛ فيرفعان فوق كلّ وجود عَلَم "لا"!
فتجد أحدَهم اسمُه اليوم الحيّ، وغدًا اللاحيّ؛ واسمه اليوم السليم، وغدًا اللاسليم؛ واسمه اليوم المالك، وغدًا اللامالك؛ واسمه اليوم العالِم، وغدًا اللاعالِم؛ لا لا لا لا.... .
لكن، ما الذي نحصل عليه في مقابل هذه اللاءات، وهذه الموجودات التي نفقدها؟ إن كانت هي محبّة الله تعالى، فقد فُزنا، ولم نخسر في هذه التجارة؛ وإلاّ، فقد خسرنا وتضرّرنا!
«خَسِرَت صَفقَةُ عَبدٍ»؛ أي: أنّ يد العبد الذي لا تكون محبّتُك ثمرةَ الثروات الوجوديّة التي يُنفقها في الدنيا طيلة مراحل عمره هي يدٌ خاسرة في هذه الصفقة؛ فيكون قد جاء إلى هذه الدنيا، وارتحل عنها، وهو خاسر!
«بِكَ عَرفتُكَ»؛ وهنا، يصير معنى هذه العبارة واضحًا:
أي: إلهي، إنّني عرفتك بك أنت، ولم يُعرّفني عليك أيّ موجود.
فحتّى الإمام لم يُعرّفني عليك؛ إذ متى ما أراد الإمام أن يُعرّفني عليك، فإنّك تكون موجودًا قبل وجوده هو؛ وحينما يُريد عليه السلام الكلام، فإنّك تتكلّم قبل أن يتكلّم هو!
«اللهُمَّ عَرِّفني نَفسَكَ فَإنَّكَ إن لم تُعرّفني نَفسَكَ لم أعرَف رَسولَكَ»؛
فهو لا يقول: اللهُمَّ عَرِّفني رَسولَكَ فَإنَّكَ إن لم تُعرّفني رسولَكَ ما عَرفتَك! كلاّ؛ إذ حينما يسعى الإنسان للتعرّف على الرسول، فلا بدّ أن يعرف الله قبل ذلك، ثمّ يعرف الرسول بواسطة نوره تعالى.
فهذه المسألة لا ترتقي من الأسفل إلى الأعلى، بل تتنزّل من الأعلى إلى الأسفل؛ بمعنى أنّ نور الوجود الإلهيّ المقدّس يُشرق من مبدأ الأحديّة، ويبدأ في تشكيل عوالم الكثرة، الواحد تلو الآخر؛ وليس أنّ الموجودات المعلولة ترتقي ـ من حيث المـُعرّفية ـ من السطح الظاهريّ لهذا المخروط۱، إلى الأعلى، لتُعرّف الإنسان على تلك النقطة الواقعة في القمّة؛ لا، ليس الأمر بهذا النحو!
الله تعالى هو الدالّ وهو المدلول!
«بِكَ عَرفتُكَ وَأنتَ دَلَلتَني عَلَيكَ»؛
فالذي يدلّ على وجودك هو أنت؛ وبالتالي، فقد صرتَ دلاًّ ومدلولاً، ومُعرِّفًا ومُعرَّفًا، وعالِمًا ومعلومًا، وعاشقًا ومعشوقًا!
ويوجد بحث عجيب في الحكمة تحت عنوان: اتّحاد العاقل والمعقول؛ وقد أقيم عليه البرهان؛ لكنّ عبارة الإمام السجّاد عليه السلام: «وَأنتَ دَلَلتَني عَلَيكَ» أنهت كافّة هذه الأبحاث.
فيُقال للذي يدلّ: الدلّ، وللذي يُدلّ عليه: المدلول؛ و «أنتَ دَلَلتَني عَلَيكَ»؛ وبالتالي، تكون أنت دلاًّ ومدلولاً في عين الوحدة؛ لا أنّه يوجد فيك تمايز؛ وإلاّ، لوُجد لك مقابل! وحينما صرت أنت الدالّ والمدلول، فإنّك أضحيتَ عاشقًا ومعشوقًا، وعالِمًا ومعلومًا، وحاكمًا ومحكومًا، و... .
«وَدَعَوتَني إِليكَ»؛
فإذن، أنت الذي دعوتني، فصرتَ داعيًا؛ ودعوتني إليك أنت، فصرتَ مدعوًّا؛ أي أنّك أنت الذي دعوتَ، وأنت الذي دُعيتَ!
«وَلَولا أنتَ لم أدرِ ما أنتَ»؛
وبالتالي، فأنت هو العلّة في أن أعرف ما أنت! وأنت الذي تجلّيت في كافّة مظاهر وجودي، وعرّفتني عليك في هذه المظاهر.
ولا يخفى أنّ ذيل دعاء عرفة يحتوي على العديد من العبارات التي توضّح هذه المسألة، حيث نجد في موضع منه ما يلي:
«تعرّفتَ إليَّ في كُلِّ شَيٍ فلا أجهلُكَ في شَيءٍ»؛۱
رزقنا الله تعالى ووفّقنا للوصول إلى هذه المقامات وإدراكها؛ أي: على الإنسان ألاّ يقتصر على دين العجائز، ويقول: «يكفيني هذا الدين العامّ وهذه المعرفة الإجماليّة؛ فما الذي سيسأل الله عنه الإنسانَ في يوم القيامة؟ فأنا مؤمن به تعالى؛ وعلى الإنسان الاهتمام بالمسائل الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، والاعتناء بالأحكام؛ ويكفيني هذا المقدار من المعرفة الإجماليّة، وحسب! وأنا لن أعذّب!».
لكنّ كلامنا لا يدور حول العذاب؛ ولنفرض الآن أنّ الله لن يُعذّب الإنسان؛ لكن، في ماذا ستنفعه هذه المسائل من دون معرفته تعالى؟! «وَلَولا أنتَ لم أدرِ ما أنتَ»؛ فهي برمّتها ناشئة من معرفتك؛ وحينما يُعثر عليكَ، فإنّه يُعثر عليها بأجمعها؛ وعندما لا يُعثر عليك، فإنّك تكون كلّها ضائعة!
نرجو من الله العليّ الأعلى أن يوصلنا إلى حقيقة المعرفة ببركة الوجود المقدّس للإمام السجّاد عليه السلام الذي أشرق وجود الذات الإلهيّة المقدّسة قبل كلماته، فكلّمنا من خلال ذلك بواسطة هذه الكلمات!
وأن يُبدّل كافّة مراتب جهلنا إلى درجات في العلم!
ويُحوّل مراتب نقصاننا إلى حركة في اتّجاه الكمال!
ويُعلي باستمرار درجات معرفتنا وكمالنا!
بِمُحمّدٍ وآلِه الطاهرين، وصلِّ على محمّدٍ وآلِه أجمعينَ.