المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةمباني الأخلاق
التوضيح
أهم محتويات المحاضرة:
- الأوامر الأخلاقيّة في الإسلام حول العفو والتجاوز؛
- سبب علو القوانين الإسلامية ورفعتها مقارنةً بقوانين سائر المذاهب والملل؛
- كيفيّة تعامل أمير المؤمنين عليه السّلام مع قاتله؛
- وصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن عليهما السّلام حول كيفيّة التعامل مع ابن ملجم؛
- علّة عدم عفو الإمام الحسن عليه السّلام عن قاتل أمير المؤمنين.
هو العليم
جامعيّة الإسلام في الجمع بين حكمي العفو والقصاص
بيانات حول قوله تعالى: ﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَ أۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَ أَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾
مباني الأخلاق - المجلّس الثامن
محاضرات ألقاها
سماحة العلّامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم
بسم الله الرَحمٰن الرَحيم
وصلّى الله على محمّدٍ وآله الطاهرين
ولعنةُ الله على أعدائهم أجمعین
الأوامر الأخلاقيّة في الإسلام حول العفو والتجاوز
إنّ أحد آيات القرآن المجيد هي قوله تعالى:
﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَ أۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَ أَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾؛۱ يعني: «هناك ثلاثة توجيهات: العفو والتجاوز والغفران والأمر بالفعل الحسن والمرغوب والإعراض عن الجاهلين!».
لقد سألوا الإمام عليه السّلام: ما هو تفسير هذه الآية؟ فأجاب الإمام عليه السّلام بأنّها ثلاثة أمور:
«صِلْ مَن قَطَعَك، أعطِ مَن حَرَمَك، اُعفُ عَمَّن ظَلَمَك».٢
وكذلك تلك الأوامر الثلاثة الأوّلى هي من الأوامر التي تتصف بالكليّة، وهذه التفاسير الثلاثة التي بيّنها الإمام عليه السّلام هي من الأوامر التي يجب على الإنسان أن يعمل بها! ولكن هل هذه الأوامر، هي أوامر وجوبيّة وملزمة، أم أوامر أخلاقيّة ويعمل بها الإنسان وفقًا للاستحسان والرجحان الموجود في موضوعها؟
إنَّ القوانين الحقوقيّة التي وضعها القانون الإسلامي المقدّس؛ هي حقوق عينها الله للطرف المقابل؛ ولكن جعل إجراء ذلك الحقّ بيد ذاك الطرف فإن شاء أجراه وإن شاء عفا! على العكس ممّا لو كان الإنسان مجبورًا في إجراء ذلك القانون أو أن كان مجبورًا على العفو.
فمثلًا يوجد في بعض القوانين أنّه لو قام شخصٌ بجنايةٍ تجاه طرفٍ آخر فلا بدّ أن يقاصصه حتمًا!٣ وورد في أحكام الإنجيل أنّه لو قام شخص بجناية تجاه الآخر، فيجب على الآخر العفو عنه! وحتّى إنَّ الإنجيل ينص صراحةً على ما يلي:
«[سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: عَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ، وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ بَلْ:] مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا! وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكْ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضًا».٤
وأمّا القانون الإسلامي المقدّس فليس بهذا النحو؛ لقد جعل القصاص حقًّا متعيّنًا لذي الحقّ:
﴿وَ إِنۡ عَاقَبۡتُمۡ فَعَاقِبُواْ بِمِثۡلِ مَا عُوقِبۡتُم بِهِ﴾؛٥ يعني: «إذا عاقبكم شخصٌ، أو آذاكم، أو ألحق بكم الضرر، يمكنكم أن تردّوها بعينها».
وكذلك قال تعالى:
﴿وَكَتَبۡنَا عَلَيۡهِمۡ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفۡسَ بِٱلنَّفۡسِ وَٱلۡعَيۡنَ بِٱلۡعَيۡنِ وَٱلۡأَنفَ بِٱلۡأَنفِ وَٱلۡأُذُنَ بِٱلۡأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلۡجُرُوحَ قِصَاصٞ﴾.٦
فإذا اقتلع شخصٌ عينَ الآخر عمدًا بالطبع، فيحقّ لذلك الشخص أن يصنع بعين الآخر مثل ما صنعه به؛ فإذا ضرب شخصٌ الآخر عمدًا وكسر سنّه، فلذلك الشخص الذي حلّ به الظلم أن يقتلع مثل ذلك السنّ الذي كُسر؛ وإذا قطع شخص يد الآخر عمدًا، فيحقّ لذلك الشخص ذو الحقّ أن يقطع يد القاطع؛ وإذا لطم شخصٌ الآخر على خدّه فيحق له أن يرد الصفعة؛ وإذا ركل شخصٌ الآخر فيحقّ له أن يرد الركلة، هذا هو قانون القصاص.
وأحد المواضيع التي تُبحث في كتب الفقه بنحوٍ مفصّل، هو موضوع القصاص، حيث تمّ تعيين حكم جزئيّات القصاص؛ فتعرّضوا حتّى إلى ما لو تسبّب شخصٌ بخدوشٍ لشخصٍ آخر أو ضربه بحيث سبب احمرارًا لوجهه فقط، وأنّه كم تبلغ الديّة لو كان فعله غير عمديٍّ، وكم تبلغ الديّة إن كان عن عمدٍ ولكن لا يريد الشخص أن يقتص ويُريد أن يكتفي بالديّة.۱
لقد تمّ تعيين الحكم في جميع هذه الاحتمالات، ولكنّه عبارةٌ عن حقٍّ مُنحَ للإنسان وإجراؤه باختيار الإنسان، لا بيد شخصٍ آخر، بل حتّى ليس بيد الحاكم الشرعي! فإذا لطم شخصٌ شخصًا آخر، حُقّ له أن يرد الصفعة، وإن شاءَ فيحق له أن يعفو أيضًا، فليس هناك من إجبارٍ في الصفع، بل هو حقٌّ له؛ ويمكنه أن يُعمل حقّه كما يُمكنه أن يعفو ويصرف النظر.
سبب علو القوانين الإسلامية ورفعتها مقارنةً بقوانين سائر المذاهب والملل
فهذا أعلى نوع من أنواع القوانين المتصوّرة! لأنّه إذا قيل لإنسان: «ينبغي أن تجري القصاص حتمًا!» [فذلك ليس بصحيح]؛ لأنَّ الإنسان قد يرغب بالعفو في بعض الحالات، وذلك الشخص وإن كان قد أقدم على هذا الفعل عمدًا، ولكنّه ندم مئة بالمئة لاحقًا، ولا يترتب عن العفو أيّ ضررٍ، ولا ينكسر أيّ قانونٍ، ولا يلحق بالمجتمع أيّ ضررٍ من ناحية الحقّ العمومي. وإذا قالوا للإنسان: «يجب أن تعفو حتمًا!» فذلك ليس بصحيح أيضًا؛ لأن النّاس ستتجرأ في القيام بالجنايات! وأحد السُبل التي سهلّت ويسرت للنّاس ارتكاب الجنايات هو هذا الأمر، أي: سلب حقّ القصاص من النّاس، فيعلم الشخص المرتكب للجناية أنّه لن يُجرى قصاصٌ بحقّه، أو أنّه لن يسجن، أو أنّه سيقوم بالمصالحة بعد تسديد مبلغٍ من المال، حيث سيقولون نحن أغنياء ونمتلك الكثير من الأموال، وليس ذلك بالشأن المهم لنا! ولكن إذا كان الشخص غنيًا بل في المرتبة العليا من الغنى، ولكنّه يعلم أنّه إذا قام بخدشٍ أو لطمةٍ لعبدٍ أو خادمٍ، فللآخر الحقّ بأن يقتصّ منه، ويردّ ذلك له، فلن يتجرأ بعد ذلك، ولا يستطيع أن يمدّ يده على حقوق الآخرين، ولن يتعدّى عليهم ويرتكب الجنايات دون محاباة!
لذلك، فإنَّ قانون القصاص أمرٌ مُسلّمٌ، وفي الإسلام قانون القصاص موجود، وقد جُعل حقّا لازمًا بيد الإنسان، بحيث حتّى لو أراد الحاكم الشرعي أن يمنعه، فليس لديه مثل هذا الحقّ! فإذا قطع شخص يد شخصٍ آخر وشاء ذلك الشخص الذي قُطعت يده الاقتصاص، فلا يستطيع الحاكم الشرعي ردعه، ومن ناحية أخرى إذا شاء أن يعفو، فلا يستطيع الحاكم الشرعي أن يجبره على القصاص؛ فالحقّ قد مُنح لذلك الفرد إن شاء عمل به وإن شاء لم يعمل! وهذه هي المرتبة العليا من التقنين للقانون الذي نصّ عليه الإسلام من أجل هذا الموضوع.
ولكن بما أنَّ حقّ القصاص قد انتشر بين النّاس، والنّاس تعلم أنّها إذا ارتكبت جنايةً فللمجنيّ عليه حقّ القصاص، فهذا العلم كافي لأن يمنعهم من اقتراف الجنايات؛ إذ أنّه من الممكن أن لا يعفو المجني عليه أو أن لا يرضى بالديّة فيقتل القاتل، أو يقطع يد الشخص الذي قطع يده! فلذلك، فإنَّ مجرد هذا العلم كافٍ للردع عن الجناية. ولكن حقّ العفو متوفرٌ أيضًا، وإذا شاء الشخص أن يعفو فهذا الحقّ بيده. لذلك في القتل العمد، يستطيع ورثة ذلك الشخص الذي وقعت عليه الجناية أن يقتصوا من القاتل، ويستطيعون التنازل والاكتفاء بالدية، ويستطيعون العفو بالكليّة، فالاختيار بيدهم!۱
إنّ هذه الآية المباركة: ﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَ أۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَ أَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ﴾،٢ تُبيّن أمرًا دقيقة ولطيفًا جدًا، فهي تقول: مِن أخلاقيّات الإنسان التي جعلها الله العليّ الأعلى في رأس هذا القانون المسلّم هو أنّه يأمرنا بما يلي: إذا تعالى الإنسان عند تعامله مع الجهلاء من الناس وصرف النظر عنهم حينما يتجرؤون عليه أو عندما يسلبونه حقّاً ما أو عندما يقطعون أحد الحقوق عنه أو يسلبوه إيّاه؛ فإنَّ تعاليه هذا وتجاهله هو من لوازم كرامة الإنسان وعزّته وتعاليه! فالإنسان ليس مجبرًا أن يقطع من قطعه أو يقتصّ مِمّن ظلمه، أو أن يقابل بالمثل من حرمه. إذن فهذه الأوامر إضافةً إلى أنّها لا تتعارض مع ذلك القانون الأصلي، كذلك فإنّها تُبيّن درجةٍ أخلاقيّةٍ أدّق وأظرف!
كيفيّة تعامل أمير المؤمنين عليه السّلام مع قاتله
لقد ضرب ابن ملجم المرادي أمير المؤمنين عليه السّلام، وفي المقابل نجد أنّ الإمام عليه السّلام قد أوصى به خلال ذينك اليومين عدّة مرات ضمن وصاياه. أوّلًا: قبل ليلة التاسع عشر من شهر رمضان وهي الليلة التي كان غالبًا ما يُخبر أنّ ابن ملجم المرادي سيقتلني فيها، فقال الأصحاب له: «فلماذا لا تقتله أنت الآن؟» قد أورد عددٌ من الأصحاب هذا الإشكال على الإمام عليه السّلام.
فأجاب الإمام عليه السّلام:
«وَيحَكم!»؛ ما هذا الكلام الذي تتفوهون به؟! بأي ذنب أقتله الآن؟! فللآن لم تقع الجناية كي اقتصّ منه وليس للقصاص من معنى قبل الجناية!۱
فإذا اقتصّ إنسانٌ قبل الجناية فسيكون هو الجاني لا ذلك الشخص الذي يريد أن يرتكب جنايةً لاحقًا. ولو قتل أمير المؤمنين عليه السّلام ابن ملجم قبل أن يرتكب أيّ جنايةٍ، ففي هذه الحالة وفي تلك الحالة سيُحسب الإمام على أنّه هو الجاني وسيكون حقّ القصاص لابن ملجم! إذن في الإسلام، لا يكون القصاص قبل الجناية.
فأجاب الإمام عليه السّلام بهذه الطريقة، وإضافةً إلى ذلك قال:
كيف أقتل قاتلي؟!
أي إنَّ هذا الكلام الذي تقولونه: «إنَّ ابن ملجم المرادي هو قاتلك، فاقتله»، إنّ هذا الكلام عارٍ عن الصحّة وهو خطأٌ بخطأ من وجهة نظر الفكر الفلسفي؛ لأنّه إنّ كان هو قاتلٌ فهو قاتلي، فإذا قتلته فإنّه لن يعود قاتلي. إذن قدّر الله في عالم القضاء والقدر وفقًا لسلسلة أسبابٍ ومُسببّاتٍ أن يقتلني، فمن المحال أن أستطيع قتله. وإذا قتلته، فسأكون قد قتلت شخصًا بريئًا، ولم أقتل قاتلي؛ فإنَّ قاتلي هو ذلك الشخص الذي قتلني وبعد ذلك أقتله، ولكن الآن هو لم يقتلني بعدُ فإذن هو ليس قاتلي، إذن فأنا قتلتُ شخصًا بريئًا!
لقد أجاب الإمام عليه السّلام هكذا، ففي بعض الأحيان كان ابن ملجم يأتي إلى محضر الإمام ويقول:
يا أمير المؤمنين! لقد سمعت أنّك قلت عني كذا! فهذا السيف حاضرٌ، فاقتص مني!٢
فكان الإمام عليه السلام يجيبه بهذه العبارة، ويقرأ بيتين من الشعر عنه.٣
وصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن عليهما السّلام حول كيفيّة التعامل مع ابن ملجم
ولو تجاوزنا عن هذا الموضوع، فعندما أصيب أمير المؤمنين عليه السلام، أوصى الإمام الحسن عليه السّلام بما يلي:
إذا شُفيتُ من هذا الجرح، فأنا أعلم ماذا أصنع به، وبالطبع سأعفو؛ لأنّ الله يحب العافين! وإذا نلت الشهادة بسبب هذه الضربة فأنت ولي دمي فلك أن تقتصّ ولك أن تعفو؛ ولكن إذا أردت أن تقتصّ فضربةٌ بضربةٍ مثل التي ضربني إيّاها (يعني: ضربةٌ واحدةٌ بالسيف؛ يجب أن تضربه بالسيف ضربةً واحدةً)، فلا ينبغي أن تقطعوا يده وقدمه، ولا أن تقطعوا أذنه وعينه، ولا أن تلقوه في النار حيّاً؛ فهذه الأمور حرامٌ في الشرع بأجمعها! فإنَّ القصاص هو أن تضربه بمثل هذه الضربة التي ضربني إيّاها، فإن شئت فاقتصّ وإن شئت فأعفو وذلك أفضل لك!۱
هذه هي وصية أمير المؤمنين. والآن، لنأتي ونحسب الأمر بناءً لهذه الجهة، فأوّلًا: لماذا يُريد أمير المؤمنين عليه السّلام أن يعفو؟ فإذا كانوا أحيانًا يتعافون من هذا الجرح ـ بناءً للفرض ـ فلماذا يعفون عنه؟ لأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام إمامٌ، والإمام لا حقد لديه، ولا غلّ لديه، ولا يُقيم حكومته بناءً على زينة الدنيا والآمال الزائفة، وليس شخصًا مستكبرًا، بل هو معصومٌ وكلّ أفعاله مبنيّةٌ على الحقّ!
فابن ملجم حينما ضرب الإمام عليه السّلام، كأنّه ضرب أيّ شخصٍ آخر؛ وهذه الضربة أضرت بالحقوق الشخصيّة للإمام عليه السلام وشقّت رأسه، فما هي أوامر الإسلام في هذا الشأن؟ فلو سألنا النبي: «ما هو حكم من ضربَ شخصًا آخر؟» فماذا سيقول لنا النبيّ؟ سيقول: إذا شئت اقتصّ، وإذا شئت اعفُ وهو أفضل لك!
وقد قام أمير المؤمنين بعين هذا الفعل؛ يعني: هو يجلس على الكرسي والمسند، وله الحكم في هذه الحكومة، وتحت سلطانه الشرق والغرب، إلّا أنّه ليس في قلبه هوى نفس ولو بمقدار رأس إبرةٍ كي ينتقم الإمام من ضربة السيف التي أصابت رأسه أو يتعدّى ذلك الأمر الصادر عن النبيّ وأساس الشريعة! فقال: «هو ضرب بالسيف، لذلك أملك حقّ القصاص فإن شئتُ عفوتُ، وبما أنّ العفو أفضل ونحن أهل العفو أيضًا، سأعفو!» إذن هذا كلّه صحيحٌ تمامًا، ولا يمكن تصوّر غير ذلك!
وأمّا الوصيّة التي أوصاها للإمام الحسن والتي قال فيها:
احبسه، ولا تُقصّر في تقديم الطعام والشراب له؛ حبسه بيدك، فلا تجوعه أو تدعه عطشًا؛۱
هذا ما يلزم عن مقام رحمته! فبالأخير أتى أمير المؤمنين ليدير الدنيا وليأتي بكافة الأفراد في يوم القيامة تحت لواء رحمته ورأفته، فلا بدّ أن ينظر بنظرةٍ واحدةٍ للجميع! وهذه الأوامر الصادرة عن الإمام عليه السلام ليست تصنّعًا، وليست على سبيل التعليم، بل كانت حاله هكذا، حيث كان ابن ملجم أسيرًا في يده، فتأمّل وقال:
يجب أن ترحم الأسير! فمهما كانت الجناية التي اقترفها، فهو الآن أسير؛ فلا يجب تركه عطشًا أو جائعًا! وحينما ارتحلُ عن هذه الدنيا، فلا تحرقوه بالنار، ولا تقطعوا يديه وقدميه فهذا حرامٌ في شرع الإسلام!٢
عند ذلك كيف يكون أمير المؤمنين عليه السلام إمامًا ووصيًا لنبي آخر الزمان إذا أجاز ما يلي: إذا أردتم أن تُحرقوه بعدي فلكم ذلك، أو أن إذا أردتم أن تُقطّعوه قطعةً قطعةً، فالاختيار لكم في ذلك؟! إنَّ تصور هذا الأمر محالٌ أصلًا! فإذن ما أوصى به، هو عين الواقع.
وأمّا قوله: «إن تعفو فهو أفضل لك!» فهذا صحيحٌ أيضًا؛ لأنَّ الإمام يُبين الأمر طبق القرآن وسنّة النبي، وهذا هو قانون الإسلام، فإن اقتصّ الإنسان من الجاني فهذا حقٌّ له، وإن عفا فهو أفضل!
علّة عدم عفو الإمام الحسن عليه السّلام عن قاتل أمير المؤمنين
ولكن لماذا لم يعفو الإمام الحسن عليه السلام؟ لأنّه حقٌّ للإمام الحسن، والإمام الحسن عليه السلام غير ملزمٍ بالعفو؛ ولوكان ملزمًا بالعفو لتضعضع القانون وسقط النظام! خصوصًا في ذلك الزمان حيث كانت حكومة معاوية تهدد الكوفة من ناحية الشام، وحيث خدع معاوية العديد من الناس، ففي مثل تلك النقطة الحسّاسة إذا عفا الإمام الحسن فإنَّ هذا العفو سيعدّ ضعفًا ولن يدلّ على كرم نفس الإمام وعظمتها، وسيرونه بهذا النحو: الآن هناك أسيرٌ بين يديَّ وقد حررته! لقد حرّر الإمام الحسن المجتبى الآلاف من أمثال ابن ملجم ولم يرف له جفن؛ ولكن في مثل ذلك الظرف الحساس، كان تكليف الإمام الحسن عليه السلام أن يقتصّ منه، من أجل الحفاظ على حكومة المسلمين كي لا تتشنّج وتضطرب، فيقول كافة النّاس: أتى شخص خارجيٌّ وضرب إمام المسلمين في مسجد الكوفة لكنّ ابنه الذي كان خليفة لم يتحمّل المسؤوليّة، فخاف وأطلق سراحه! هذا ما سينعكس في المجتمع؛ لذلك اقتصّ الإمام الحسن عليه السلام.۱
هل انتبهتم جيّدًا للمسألة التي طرحناها اليوم؟ كان هناك ثلاثة أحكام: ﴿ خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ ﴾،٢ وذلك من خلال البيان الذي تم تقديمه.
اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وآلِ مُحمَّد