المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالخسران و بطلان العمر
التاريخ 1426/06/23
التوضيح
كيف تؤثّر النوايا في بطلان العمل أو بقائه؟
وما معنى كون أمير المؤمنين ميزان الأعمال؟
وهل نحن نحاسَب ويطلب منّا أن تكون لنا نوايا رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما والرتبة التي كانوا عليها من الإخلاص؟
ما هو معيار بطلان العمل بالنسبة إلى الناس وبالنسبة إلى السالك؟
تجيب المحاضرة على هذه الأسئلة من خلال تفسير وتحليل بعض الآيات والأحاديث الشريفة والشواهد من السيرة والأحداث؟
هو العليم
أثر النية في حقانيّة الأعمال وبطلانها
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱۱٩
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
أثر النوايا في حقّانيّة الأعمال
يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان: ولا يدع أيّامه باطلاً.
تقدّم الكلام حول معنى البطلان والحقيقة، ووصلنا إلى أنّ البطلان عبارة عن الأمر الذي لا يبقى في يد الإنسان، وليس له مقابل. فالعمل الذي يتعب فيه الإنسان في هذه الدنيا ولكن لا يبقى منه شيء في ذلك العالم هو الباطل. لقد سعى سعيًا ولكنّ سعيه كسعي حمار الطاحونة أو العصّارة الذي يدور من الصباح حتّى المساء حول حجر الطاحونة وهو يعتقد أنّه طوى مسافة طويلة، وفي الليل يرى أنّه لا يزال مكانه، وأنّ الآخرين كانوا يستفيدون من عمله، القمح يصبح طحينًا، ويستفيد الآخرون منه، ولكنّه كان يدور حتّى الليل حول نفسه. وهذا مثال جيّد جدًّا، وعلى الإنسان أن يلتفت إلى هذا الأمر دائمًا وأن لا يكون كهذا الحمار لا قدّر الله.
تقدّم أنّه يقول في الآية الشريفة:{ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورًا}۱ فنحن في يوم القيامة نأتي بجميع الأعمال التي قام بها الإنسان ونجعلها أمامه، كلّ عمل قام به، الصلاة التي صلاّها، الصيام الذي صامه، المجالس التي أقامها، فإنّ المراد من هذه الآية إن كان الرفقاء يذكرون ليس هو الأعمال الظاهرة الحرمة؛ لأنّه لا معنى لأن يوزن الحرام الظاهر، ففي يوم القيامة تجعل تلك الأعمال غير المخالفة بظاهرها للشرع في الميزان، وإلاّ فإنّهم لا يجعلون السرقة في كفّة الميزان ـ وكفّة الميزان استعارة ـ أي في مقام الوزن والتقييم لا يحسب حساب للسرقة أصلاً فلا توزن ويؤخذ الخالص منها، وأنّه كم في هذا العمل من الصفاء؟! مثل الذهب الذي يقوم الصائغ بحكّه ليعرف مستوى الصفاء الذي فيه. ولكنّك لو أخذت الفولاذ إلى الصائغ وقلت له: افحصه بالمحكّ. فإنّه يلقيه جانبًا، فلا مكان هنا للفولاذ. خذ إليه مقدارًا من النحاس ليفحصه على المحكّ، يقول: النحاس لا يفحص بالمحكّ. الحديد والفولاذ لا يؤخذان إلى الصائغ أفهل أخذا يومًا إليه؟!
الذهب الذي يراد أن يعرف عياره ثمانية عشر هو أم عشرون، أم ستّة عشر، إذا أرادوا أن يفحصوه يأخذونه إلى الصائغ وهو يحكّه فيقول: ثمانية عشر، تسعة عشر، سبعة عشر. هو يبيّن لنا كم فيه من الذهب الخالص.
لماذا يفحصون الأعمال يوم القيامة؟ تقول الآية الشريفة: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل}. فما الغرض من هذا المحكّ؟ يقيسون يوم القيامة مستوى الخلوص في هذا العمل، وأنّه كم كان فيه لله؟ وكم كان فيه لنفسك؟ كم كان فيه لله وكم كان فيه للشخصيّة؟ كما كان فيه لله وكم كان فيه لأجل تفكيرنا في المصالح؟ كم كان فيه لله وكم كان فيه من التعيير للآخرين الذي نقوم به في هذه الدنيا؟ وهناك لا يخادَع أحد، هنا يمكننا أن نخادع، أمّا هناك فلا فائدة. يأتون ويجعلون العمل والنيّة التي تعلّقت به أمامنا. هذا عملك، هذه صلاتك، هذا صيامك، هذا حجّك، هذا شغلك، هذا تبليغك، هذه مجالسك، هذا وعظك وخطابتك.
بمجرّد أنّي أتكلّم الآن فإنّهم يأتون بهذا المجلس والكلام يوم القيامة ويجعلونهما أمامنا. أنت قلت هذه الأمور، ولكن كم كنّا هدفًا لك في مجلسك هذا وقولك لهذه الكلمات وكم كانت نفسك؟ في اختيارك للكلمات... هل في اختيارك هذا لاحظتنا نحن أم لا راعيت الجالسين في المجلس؟ لأنّ فلانًا كان جالسًا في المجلس فعليّ أن لا أتكلّم بهذا الكلام، عليّ أن أراعيه! لو لم يكن لقلته. بما أنّ فلانًا ليس هنا فدعني أقول هذا الكلام. كلّ ذلك يأتون ويبيّنونه بحيث لا يمكن للإنسان أن يتحرّك من مكانه، لا يمكن أن يفعل أيّ شيء.
هذه الأعمال يجعلونها يوم القيامة في كفّة الميزان {فأمّا من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية}۱ متى تثقل كفّة الميزان؟ عندما تجعل فيها شيئًا. لو جعلت فيها هواء فهل تثقل؟! الهواء لا يُثقل. لنفترض أنّ كفّتي الميزان كلتاهما متعادلتان ومتوازيتان. فما لم تضع في إحديهما شيئًا فلن تهبط هذه، بل ستبقى على حالها. ذلك الشيء الذي يجعل كفّة الميزان تهبط يوم القيامة والذي يعبّر عنه الله تعالى بـ {فأمّا من ثقلت موازينه} هو عبارة عن مستوى علاقة الإنسان وتعلّقه بالله في هذا العمل، وأنّه كم كان لدى الإنسان في هذا العمل من ارتباط بالله؟! فإن كان فيه خمسة بالمائة، فسيهبط الميزان سانتيمترًا واحدًا. وإن كان فيه من الخلوص عشرون بالمائة، فسيهبط أكثر. وإن كان فيه مائة بالمائة ستصل كفّة الميزان إلى الأرض. ومن جديد يأتون بعمل آخر، وبعده بعمل آخر. يأتون ببعض الأعمال فلا يتحرّك، يأتون بالثاني فلا يتحرّك يأتون بالثالث فلا يتحرّك ، أصلا لا يتأثّر وجهه المبارك!
ـ ما هذا يا سيّدي! لقد بذلتُ كلّ هذه الجهود في الدنيا، تعبتُ، وبلّغتُ دينك!
ـ إنّما فعلتَ ذلك لأجل نفسك! أتذكر عندما كنت تتكلّم بهذا الكلام ماذا خطر في ذهنك؟! أتذكر عندما كنت تقوم بهذا العمل لماذا قمت به؟! أقوم بهذا العمل حتّى أضربه على يده، حتّى لا يسبقني، فهل كان العمل إلهيًّا؟! نقوم بهذا التبليغ حتّى لا يسبقنا هو. نطبع هذا الكتاب حتّى لا يأتي فلان ويعرض في السوق مثله. نقدّم هذه المقالة حتّى لا يقوم بها الآخرون، الخصوم، البلد الآخر، الفريق الآخر الذين هم على صلة بالإنسان وبينه وبينهم منازعات نفسيّة.
جاءني أحد الرفقاء حفظه الله بكتاب، وكان قد طبع كتابًا جيّدًا أيضًا وهو لا يزال يعمل في ذلك، حول ثقافة الشيعة سواء في الفقه أو غير الفقه، والأمور الأخلاقيّة وما هو موجود، وتقريبًا يعدّ موسوعة في الاصطلاحات والألفاظ والقواعد سواء الفلسفيّة أو الفقهيّة، وهو كتاب جيّد جدًّا جاءني بثلاثة أجزاء منه، وأحيانًا أطالع فيه فأرى أنّه واقعًا بذل مجهودًا. كان يقول: عندما خرج الجزء الأوّل منه، جاءني رجل ممّن لهم مسؤوليّة ومكانة والذين لهم أموال وإمكانات قد جعلت في تصرّفهم، جاء إليّ وقال: يا فلان أنت بعملك هذا الذي قمت به أبطلت كلّ عملنا وكسبنا ومؤسّستنا، فنحن قمنا بكلّ تلك المساعي وأنت الآن تقوم بهذا العمل؟!
فقلت: حسنًا ماذا أصنع؟ قال: توقّف أنت لنتابع نحن! فقلت: عجيب! قال: اذهب أنت وقم بعمل آخر. فقلت: لقد جئت أنا وقمت بذلك دون أن أطلب مساعدة من أحد ودون أن أفرض على أحد، فالأموال تصرف، والوقت يصرف، الوقت يبذل، فالذين يقومون بجمع هذه المطالب لا يأتون بها من الهواء، يذهبون ويطالعون الكتب، يحيون الليل حتّى الصباح، ومن الصباح حتّى الليل، يستخدمون الإمكانات والوسائل الحديثة، يرسلون الأفراد إلى هذا المكان وذاك، يوظّفون الفضلاء حتّى يقدّموا موسوعة مناسبة تستحقّ الاهتمام.
ولكن نلاحظ أنّه ماذا يجري في هذا الفكر؟ أن لا يتقدّم أحد علينا. فهل هذا العمل يوضع يوم القيامة في الميزان؟ لقد بذلنا الجهود لخمسين سنة في سبيل الفكر الشيعيّ! إذا وضع على كفّة الميزان فإنّها لا تهبط ميليمترًا واحدًا، لا تهبط أبدًا! أضرب مثالاً، ربّما يتغيّر قصده في الأثناء ويتبدّل، الهدف هو أن نعرف كم المسألة مهمّة! ونعلم أنّ المسألة ليس فيها مزاح ولا تساهل، ولا يخادع أيّ إنسان. يأتون بعمل الإنسان في يوم القيامة.
ما معنى السلام عليك يا ميزان الأعمال؟
أذكر أنّه في شهر رمضان كان المرحوم العلاّمة يتحدّث حول رواية عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله في أمير المؤمنين عليه السلام من أنّ عليًّا قسيم الجنّة والنار۱ والفقرة التي في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام أن السلام عليكم يا ميزان الأعمال٢ وأنّه محكّ للأعمال، فكيف يمكن أن يكون محكًّا؟! كيف يمكن أن يكون أمير المؤمنين محكًّا؟!
فهل يأتون بشكل أمير المؤمنين وشمائله وجسمه وهيكله ويجعلوننا إلى جانبه؟ نعم؟ لا معنى لذلك. كلاّ! فكم عاش أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الدنيا؟ يبدو أنّه عاش ثلاثًا وستّين سنة. صلّى، صام، حجّ، جاهد، أنفق، أعان وتصدّق، بلّغ، حكم، حكم أربع سنوات ونصف. فالأعمال التي يجب أن نقوم بها قام بها أمير المؤمنين كلّها، قام بها كلّها أمير المؤمنين وآخرون أيضًا. لم تصل الحكومة إلى الإمام الحسن عليه السلام، نعم حكم مدّة يسيرة، والإمام الحسين أصلاً لم يصل إلى الحكومة، وبالنسبة إلى الإمام السجّاد أصلاً لم تكن هذه الأمور مطروحة، وكذلك الأئمّة الآخرون. ولكنّ أمير المؤمنين عليه السلام قام بجميع هذه الأعمال التي نقوم بها نحن في هذه الدنيا، من العبادات والشؤون والاشتغالات والأعمال التي يجب أن تنجز في هذه الدنيا، من الصدقات والتبرّعات والتبليغ والحديث والخطابة والمجالس والمحافل والعلاقات والمعاشرات، فجميع هذه الأعمال قام بها. كيف نتعامل مع الصديق؟ وكيف نتعامل مع العدوّ؟ وكيف نتعامل مع الأقارب والأرحام، صلة الرحم وقطع الرحم، كلّ ذلك قام به.
وفي يوم القيامة يأتون بعمل أمير المؤمنين عليه السلام فيجعلونه في كفّة، ويجعلون عملنا أيضًا في كفّة. أحيانًا يحرّك عملنا هذا الكفّة قليلاً، فيقيسون فيجدونه قريبًا بنسبة واحد بالمائة من عمل عليّ. وأحيانًا يكون بمسبة اثنين في المائة، أي ذلك الخلوص والإخلاص والصفاء النورانيّة والبهجة والارتباط المحض وعدم لحاظ التعلّقات الماديّة والشخصيّة والنفسيّة والتي كان يتميّز بها فعل أمير المؤمنين ليس فقط بنحو كامل وبنسبة مائة في المائة بل أعلى من ذلك. لا بدّ من ملاحظة الحقّ مع فعل أمير المؤمنين هنا. هذه هي القضيّة. أين كان فعل أمير المؤمنين عليه السلام مطابقًا للحقّ مائة بالمائة، بل الحقّ أصلاً هو ما يقوم به أمير المؤمنين. نحن علينا أن نطابق فعلنا على الحقّ. نحن علينا أن ننظر كم نستطيع أن نقترب بأنفسنا ونخرج من هذه التعلّقات وأن نخرج من هذه الشخصيّات ومن هذه الأهواء النفسيّة؟ وأمّا أمير المؤمنين عليه السلام فيختلف أمره، والأئمّة عليهم السلام لهم حساب آخر.
يجعلون هذا العمل في إحدى كفّتي الميزان، ويجعلون عملنا في كفّة أيضًا. هذا هو ميزان الأعمال. فإذن المحكّ لأعمالنا هو فعل أمير المؤمنين عليه السلام. أفعال أولياء الله تقترب، الذين وصلوا إلى مقام التوحيد يصبح فعلهم مساويًا. لماذا؟ لأنّ فعلهم يغدو فعل أمير المؤمنين عليه السلام، نَفَسَهم يغدو نفَس أمير المؤمنين عليه السلام، لمحَ البصر منهم يصبح لمح البصر من أمير المؤمنين عليه السلام، نومَهم يصبح نوم أمير المؤمنين عليه السلام. ومجرى الولاية والمشيئة والنور والبهجة التي هي من الرحمة الإلهيّة الواسعة والتي هي في نفس أمير المؤمنين، هي بعينها تأتي وتسيطر على وجود الأولياء. فيغدو فعلهم فعله، وعملهم عمله، ونيّتهم نيّته، وفكرهم فكره، هؤلاء حسابهم مختلف، وسائر الذين يبذلون المساعي في مقام المجاهدة [لهم حساب آخر]، نحن لسنا كذلك، ولا تساهل في هذا الأمر، إن شاء الله نأمل من الله أن يشملنا جميعًا برعاية وعناية أمير المؤمنين. نحن نريد أن نقترب بأنفسنا، نبذل المساعي، نقيس أطراف القضيّة، نجعل أنفسنا مكان الآخرين، ونجعل الآخرين مكان أنفسنا. هذه اختبارات لكي تقرّب الإنسان. ليقرّب الإنسان نفسه. نلاحظ أمورًا، لو قمنا بهذا العمل ماذا كنّا سنجني منه؟ نشغل أنفسنا، نقيس، نقول: إن حصل فهو خير، فما قيمة هذين اليومين من الدنيا؟ ولكنّ بعض الناس ليسوا كذلك، لا يقولون إن حصل فهو خير، هنا يقول أمير المؤمنين عليه السلام لقد قلت أنا: إن حصل فهو خير، فلماذا لا تقولها أنت؟ تلاحظ، تهتمّ بالأمور، نتظر إلى نفسك، تنظر إلى حياتك، تنظر إلى أسرتك. لقد قطّعوا أمام عينيّ امرأتي فلم أنبس ببنت شفة، أكان يمكن أن أذهب وأبايع أم لا؟ ألم يكن بإمكاني ذلك على أساس رعاية المصلحة؟ رعاية المصلحة، التقيّة، التقيّة، التقيّة، المصلحة المصلحة المصلحة، أكان بإمكاني ذلك أم لا؟ قلت: لا أفعل ذلك. لماذا؟ لماذا يجب أن يستسلم الحقّ للباطل؟ لا أفعل ذلك. قالوا: نقتلك. اقتلوني. نقتل امرأتك. فقد قتلوا زوجتي في النهاية، ألم تروا أنّهم قطّعوها إربًا، قتلوا ابني.
فعمل أمير المؤمنين هذا يغدو ميزان الأعمال. فإذن السلام عليك يا ميزان الأعمال هذا معناها. فلا في زمان رسول الله صلّى الله عليه وآله غرّتني تلك الترحيبات والتمجيدات وقول: يا عليّ ويا فاتح باب خيبر وفاتح الخندق ولم أحسب لها حسابًا، ولا بعد النبيّ حين كنت أسير في الطرقات فيشيح الناس بوجوههم عنّي حتّى لا تقع عيني عليهم حسبت حسابًا لذلك. كلاهما كانا متساويين، هذا هو ميزان الأعمال.
كان أمير المؤمنين عليه السلام يمشي في الطريق مع السيّدة الزهراء عليها السلام فأشاح أحدهم بوجهه عنهما، فقالت السيّدة الزهراء: أليس هذا يا علي الذي كان يسلّم عليك ويعانقك كلّ يوم. فقال الإمام: هذا لم يفعل شيئًا ـ وكما نقول نحن: رحم الله والديّ هذا ـ أنا أسلّم عليهم فلا يردّون سلامي! انظروا إلى أين وصل الأمر! انظروا إلى أين انتهى. يقول أمير المؤمنين عليه السلام نحن نسلّم فلا يردّون. ولا فرق بالنسبة إليه. فلو كان يخطر في بال أمير المؤمنين شيء ثمّ يمشي لما كان ميزان الأعمال. بل أصلاً لم يكن يخطر في باله شيء بسبب تلك التسليمات والصلوات والتبجيلات التي كانت بالأمس وهذه الإعراضات التي هي اليوم، لا فرق بينهما أبدًا. هذا هو ميزان الأعمال. السلام عليك يا ميزان الأعمال.
{وقدمنا إلى ما عملوا من عمل} هذا هو معناها. أي كافّة الأعمال ذات الصورة الظاهريّة الحسنة نجعلها في الميزان، أيًّا كانت. ثمّ ننظر كم كان في هذا العمل خلوص نيّة؟ كم لوحظ في هذا العمل الارتباط بالمبدأ وكم نظر فيه إلى العلاقة مع الله، فنحن نكتب الحساب بهذا المقدار، العمل الثاني، العمل الثالث، إلى أن تنتهي أعمال الخير. وأمّا أعمال السوء التي قام بها الإنسان فيغفرها الله ويعفو عنها رحمة بنا أو يصحّح أمرها بفركة أذن. وطبعًا هذا يرتبط بكونه من أصحاب اليمين أو غير أصحاب اليمين أو من المستضعفين، فلكلّ من هؤلاء حسابه المختلف والخاصّ به.
ما معنى ما عندكم ينفد وما عند الله باق؟
لذلك يقول: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}.۱ وهي آية عجيبة جدًّا تقول: إنّ كلّ ما هو عندكم ومرتبط بكم مضمحلّ وذاهب وباطل. {ما عندكم ينفد} الأموال التي تتعلّق بكم كلّها إلى زوال. تقول لا؟! يأتي لصّ في ليلة من الليالي. تقول: لاّ! في يوم من الأيّام يتبدّل القانون. ومع غضّ النظر عن كلّ هذا ماذا نصنع بعزرائيل؟ فهذا ما لا يمكن أن نفعل له شيئًا. فهو يأتي ويقول: انتهت كلّ تعلّقاتك الآن. فهذه الآية يقرأها عزرائيل عند قبض الروح: {ما عندكم ينفد} الآن. انتهى، كلّ ما كان يرتبط بكم انتهى ألم تكن الزوجة مرتبطة بكم؟ انتهت. ألم يكن المال مرتبطًا بكم؟ انتهى. ألم يكن الأبناء مرتبطين بكم؟ انتهوا. ألم تكن الرئاسة لكم؟ انتهت. ألم تكن الوزارة مرتبطة بكم؟ كم سعيت إليها؟ كدت أن تقدّم روحك لها! فلتأخذها الآن. انتهت.
كلّ ما هو عندكم يرجع إلينا؟ كلاّ. بل إلى الله. ما هو عندكم وعندنا يرجع؟ كلّ ذلك ينفد. نفد يعني تمّ وانتهى. صار بغير أصل، صار بغير أساس وبطل. هذا معنى نفد، اضمحلّ.
ملازمة حقائق الأعمال وصورها للنفس
{وما عند الله باق}. ماذا عند الله؟ يعني تلك الأعمال التي قمت بها لأجل الله، هي باقية. ما فعلته لله باق. ما كانت نيّتك فيه هي الله فهو باق الآن، يأتي معك، لا يبقى في هذه الدنيا، وهو معك. كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله:
تَخَيرْ خَليطًا مِنْ فِعالِك إنَّما | *** | قَرينُ الْفَتَى فى الْقَبْرِ ما كانَ يفْعَل۱ |
كلّ ما قام به الإنسان سيكون معه، وستكون له معيّة مع نفسه. لأنّ روح الإنسان مجرّدة، وفي طريق تجرّدها تكتسب الفضائل والرذائل من حيث تجرّدها. تقوم بالعمل، ولكنّ روح العمل معها، سواء كانت روحه خبيثة أو روحانيّة ونورانيّة. قامت بالعمل هنا، وصار بينها وبينه فاصل ولكنّ الصورة الملكوتيّة له والمثاليّة والبرزخيّة معه، هي لا تذهب.
أنت قمت بعمل ما، ارتكبت خطأ مع رفيقك، اغتبت رفيقك، تكلّمت عنه في غيابه ووصل إليه هذا الكلام. لقد قمت بهذا العمل وانتهى، فلماذا لا تزال تشعر بالخجل منه؟! لماذا أنت نادم؟! لماذا لا تريد أن تراه؟! لأنّ تلك الصورة البرزخيّة ترافقك. لقد قيل الكلام، فالكلام مشمول لمرور الزمان، فالآن أنا تكلّمت بهذا الكلام، الآن، كم طال المجلس إلى الآن؟ منذ أن شرعت وحتّى الآن صار بيني وبين كلامي حجاب، حتّى هذا الكلام الذي قلته الآن، انتهى. لأنّه ذهب، ذهب وصار في يد الماضي ولكنّ الصورة البرزخيّة لكلّ كلمة من كلماتي هي معي.
إذا انتهى هذا المجلس أقول: عجيب لماذا قلت ذلك؟! ما شاء الله كم كان جميلاً أن قلت هذا؟! فهذا الإعجاب وإظهار الأسف هما الصورة البرزخيّة التي تبقى معي في حين أنّ بيني وبين العمل فاصلاً. عند الساعة العاشرة بدأ المجلس، ولنفترض أنّه عند الساعة الحادية عشرة والنصف أو الثانية عشرة سينتهي. فالخصوصيّات جميعها تبقى. يتفرّق ما بيننا وبين هذا العمل الذي قمنا به، فهذا ظاهره، أمّا تلك الصورة الملكوتيّة فهي معنا، لذلك فنحن دائمًا متألّمون، دائمًا نادمون أو دائمًا فرحون مسرورون. الصلاة التي نصلّيها، ذلك العمل الذي نقوم به ينفصل، أمّا روحانيّته أو كدورته فتبقى معنا. نصلّي ولكنّ هذه الصلاة تسبّب لنا الكدورة. تبقى كدورتها معنا. والحال عندما نصوم هو كذلك، كلّ ما نقوم به في علاقتنا مع أنفسنا والآخرين يبقى للإنسان. لذلك يقول الإنسان: ليتني لم أفعل كذا. ألا يقول الناس: هل تستحقّ الدنيا أن نفعل لها هذه الأعمال؟! هل تستحقّ أن نؤذي قلب فلان وفلان لأجل الوصول إلى تلك المكانة؟ هل كانت تستحقّ؟
فقول "هل كانت تستحقّ؟ هل كانت تستحقّ؟" هو الصورة الملكوتيّة التي لا تزول. هذه تنتقل مع الإنسان، تأتي معه إلى ذاك العالم. وفي يوم القيامة فجأة يأتون ويقولون: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}. ما ينتسب إليكم يزول. ما يتعلّق بنا نحن لا يزول. ما يرتبط بالله وله حيثيّة ارتباط وربط يبقى، في جميع الأبعاد. على الإنسان أن يدقّق كثيرًا في أمر البطلان، ليس البطلان هو أن يقضي الإنسان عمله بالذنوب. هذه لها مرتبة أخرى وهي للعوامّ. علينا أن نفكّر في البطلان بنحو أعمق وأدقّ.
ما هو السبب في بطلان الأعمال مع حسن ظاهرها؟
كيف يمكن أن نعمل ثمّ بعد مدّة نلتفت إلى أنّ هذا العمل كان باطلاً؟ لم تنتج عنه نتيجة. هذا العمل لم يثقل كفّة الميزان. أين ذلك؟ ذلك عندما لا يراعي الإنسان في فعله الموازين والمعايير كما يجب وبنبغي. فيلتفت إلى أنّ عمره كان قد انقضى باطلاً. درس ولكنّ ذلك الدرس لم يكن مفيدًا له، قضى بضع سنوات عبثًا، بذل الجهود، فلم تكن مفيدة له، قضى عمره باطلاً، عمل، أراد أن يعين ولكن يكن يعين في الواقع، أراد أن يساعد ولكن لم يكن يساعد في الواقع.
اختلاف مستوى الإخلاص بحسب اختلاف الدرجات
لا يتصوّر الرفقاء يومًا أنّه كيف نصل إلى ذلك؟ ونحن لا نلتفت! وفي كثير من الأوقات لا يكون صلاح الأمر وفساده واضحين لنا! وأيّ اختبارات يجب أن نطوي هنا؟! كلاّ! فكلّ إنسان يطلب منه بحسب ما لديه من قدرة وبحسب ما لديه من فهم، فالأمر واضح إذن. كلّ إنسان يطلب منه بقدر ما أعطاه الله من الحجج المتّصلة والمنفصلة۱ والأدلّة والبيّنات، بهذا المقدار لا أكثر. طبعًا تلك النوايا التي لدى أولياء الله لا يمكن أن تتأتّى منّا، ونحن علينا أن لا نفكّر أنّ علينا أن يكون لدينا ما لديهم من الخلوص والارتباط والاتّصال الذي لديهم في حياتهم وأعمالهم وسلوكهم وكلامهم وتفكيرهم وخطوراتهم.
كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: إنّه ليغان على قلبي وإنّي لأستغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة.٢ أنا في علاقتي مع الناس طوال النهار تتغيّر نفسي وقلبي شيئًا ما عن ذلك الاتّصال وتلك الحالة من الصفاء. أجلس مع الناس، أتكلّم، أتحدّث مع هذا، أتحدّث مع ذاك، ففي النهاية من لوازم التبليغ ولوازم المعاشرة مع الناس أن تكون معهم في النهاية. وهذا التغيير والتحوّل اللذان حصلا لديّ بسبب علاقتي مع الناس يسبّبان لي شيئًا ما التفتّ أم لم ألتفت! فتلك الحالة من الصفاء والارتباط المتوقّعة منّي... فانظروا ماذا يقول النبيّ، أين النبيّ الذي وصل إلى مقام الجامعيّة وأين نحن؟ النبيّ الذي طوى مراتب سيره، النبيّ الذي حصل على مقام الفناء الذاتي، النبيّ الذي وصل إلى البقاء هو يتكلّم بهذا. لماذا يقول النبيّ ذلك؟ هل يريد أن يعرّفنا نفسه ويقول أنا هكذا؟ كلاّ، بل يريد أن يقول إنّ طريق الله ليس فيه علاقات وروابط بل فيه موازين وضوابط، وهي تشملني أنا رسول الله أيضًا، فأنا مشمول لها أيضًا. ليغان على قلبي. فعلينا نحن أن ندرس واقع أمرنا.
أنا أستغفر الله كلّ يوم سبعين مرّة، وورد أيضًا في الرواية ما يزيد على سبعين مرّة، أنا أستغفر سبعين مرّة، وهذا الاستغفار يعيد من جديد هذا الاتّصال اللطيف والعميق، يعيد حالتي إلى ما كانت عليه. كلّ يوم الأمر هو كذلك، كلّ يوم هكذا حالي.
هذا الأمر أمر يجب أن نتأمّل به، فكيف يمكن للإنسان أن يقوم بعمل خير ولكنّه في الواقع ليس كذلك؟ وكلامنا الآن حول كلام النبيّ هو أنّا هل ندرك نحن ما هو اضطراب السرّ ـ والذي ورد فيه حول الأنبياء أنّ ذنب الأنبياء من اضطراب السرّ۱ ـ حتّى نفكّر به؟ فأصلاً لا يبلغ عقلنا إلى حقيقة الربط التي عليها رسول الله في عين مقام الجمع وفي عين مقام الوحدة التي ينظر فيها إلى الكثرة من منظار الوحدة ويتّصل بها ويلمسها، فرسول الله هذا من أيّ مقام يقول هذا الكلام؟
فهل ندرك نحن هذا الأمر أم لا؟ لا، ويجب أن لا يكون لدينا توقّع. نعم لو وفّق الله ولطف ثمّ أدرك الإنسان شيئًا من هذه المعارف، حينها يكلّفه الله أيضًا بما يناسب فهمه. الآن ليس لدينا هذه التكاليف. والله أيضًا لا يريدها منّا. لماذا؟ لأنّا لا نفهمها، لا نمتلك القدرة لإدراكها، لا ندركها.
ولكن ما يريده منّا الآن، وهذا كلام الإمام الصادق عليه السلام، هذا الكلام ليس متوجّهًا إلى النبيّ، الكلام موجّه إلينا نحن. ولا يدع أيّامه باطلاً، هي خطاب لنا. يعني نحن في تلك العبادة التي نؤدّيها ونعتقد أنّها مطابقة للواقع، وأنّ عملنا هذا مطابق للواقع، اشتغالنا مطابق للواقع، نريد أن نقوم به لأجل الله، فلنحذر أن نبتلى هنا. هذا هو الأمر المهمّ هذا هو المهمّ.
كيفيّة بطلان الأعمال بالنسبة إلى مختلف الناس
ما ينبغي أن يهتمّ به السالك في طريق الله، ما ينبغي أن يهتمّ به مختلف الناس هو هذا: فمختلف الناس يدرسون أربعين سنة مثلاً، وفي اعتقادهم أنّهم يبذلون الجهد من أجل الله، يحيون الليل، يتحمّلون الحرّ ويتحمّلون البرد حتّى يصلوا إلى نتيجة، فالبطلان بالنسبة إلى هؤلاء الناس هو أن لا تتحوّل هذه العلوم أثناء دراستهم وفي وقت من الأوقات لا قدّر الله إلى حاجب وستار عن الوصول إلى الحقّ. هذا هو الخطر.
الذي يقرأ كلام الإمام الصادق عليه السلام... ألم يوجد من هؤلاء الناس؟ وقد تحدّثنا عن بعضهم للرفقاء. هؤلاء الذين كانوا يتردّدون على المرحوم العلاّمة وكانوا على صلة به من أيّ الناس كانوا؟ لم يكونوا جميعهم من عديمي الاطّلاع، بل كان بعضهم من أهل الاطّلاع. ومن حيث العلاقات الاجتماعيّة كانوا على مستوى رفيع، ومن حيث الشخصيّة الاجتماعيّة كانوا في متسوى رفيع، كان الجميع يهتمّون بهم، الجميع يعرفونهم، ولكنّ الكلام هو في هذا وأنّه إلى جانب هذه العلوم والأمور التي يوفّق الله الإنسان إليها، إلى جانبها هناك ظاهرة أخرى وحادثة أخرى تدعى التعلّق بالكثرات والتعلّق بالنفس، فلو أنّ الإنسان في علاقته بهذا الأمر لم يلتفت بشكل موازٍ، فإنّ هذه العلوم والاستعدادات وهذه التجربة وهذه الأتعاب وهذه المساعي تكون في خدمة هذه الحادثة وهذه الظاهرة، وتمنع ذهن الإنسان ونفس الإنسان وضمير الإنسان من الوصول إلى الحقّ. ويا ليته لم يقم بذلك، ليته لم يسع إلى ذلك، ليت هذه الأمور لم تحصل له! ليت هذه الإمكانات لم تحصل له! لأنّها لو لم تحصل له لكان على الأقلّ وضع يده بيد خبير. والآن جاءت هذه الإمكانات وأوجدت لديه غطاء لا تتركه هذه الإمكانات والعلم والإدراك والشعور يتّصل بتلك النورانيّة الأساسيّة التي كانت له، لأنّ كلام الإمام الصادق عليه السلام نور، بيان الإمام الصادق عليه السلام نور، آيات القرآن نور، الأخلاق نور، الفلسفة نور، العرفان نور، كلّ ذلك نور. ولكنّ المدركات التي لم تصل بعد إلى مرتبته الملكوتيّة، تأتي في عالم المثال والبرزخ وتحبسه في ذلك الغطاء. هذا هو البطلان بالنسبة إليه.
ثمّ أين تظهر المشكلة لديه؟ عندما يكون هذا العلم بدلاً من إيصاله إلى الحقّ والنور والولاية والاستفادة من إرشادات وليّ الله وهدايته وبرامجه وأوامره، ولكنّ الله بسبب هذه المعلومات يصبح في الهامش، وبسبب هذه المعلومات ينقطع ارتباطه بالولاية وبهذه المعلومات... واقعًا عجيب، هناك رسالة من الإمام السجّاد عليه السلام إلى محمّد بن مسلم الزهريّ عجيبة جدًّا، عجيبة جدًّا. في تلك الرسالة يقول الإمام أنت رجل عالم، أنت إنسان بذلت جهودًا، الناس يحسبون لك حسابًا، الدولة والحكومة يحسبون لك حسابًا، فلماذا لا تستعمل علمك ومدركاتك هذه سلّمًا للوصول إلى الحقّ، أتستعملها في خدمة الخلفاء؟!۱ عجيب جدًّا. إلى أين يصل الإنسان. الطعام الذي يأكله بدلاً من أن يسدّ به الجوع يتحوّل بالنسبة إليه إلى سمّ. الهواء الذي يستنشقه لكي يوصل الأوكسجين إلى خلاياه يتبدّل إلى اختناق، ويلقيه في الاختناق. هذا هو واقع الأمر.
هذا هو السرّ في أنّنا يجب أن لا ننظر إلى شيء نظرة استقلال في علاقاتنا، لا إلى علومنا، ولا إلى مشاريعنا، ولا إلى أعمالنا، ولا إلى صلاتنا ولا إلى صيامنا، كلّ ذلك لا يمكن أن نضع يدنا عليه مستقلاًّ ونقول: هذا حقّ. كلاّ، ما لم نصحّح ذلك الباطن، ما لم نصحّح تلك الصورة الملكوتيّة والبرزخيّة فلا يمكن أن نقول: هذا صواب. إذا ما صحّت الصورة البرزخيّة صحّت الصلاة أيضًا، وصحّ الصيام وصحّ الحجّ وصحّت الحكومة أيضًا. والعلاقة مع الناس أيضًا تصحّ. حينها لن تكون العلاقة مع الناس مضرّة. العلاقة المنبعثة من النور، والعلاقة المنبعثة والناشئة من النور والحقّ والولاية هل يمكن أن تكون مكدِّرة؟ هل يمكن أن تسبّب الظلمة؟ هل يمكن أن تبعد الحكومة مالكًا الأشتر عن الله؟ أبدًا. هل يمكن أن تبعد الحكومة محمّد بن أبي بكر عن الله؟! أبدًا. هل يمكن أن تبعد حكومة المدائن سلمان عن الله؟! لماذا؟ لأنّهم مضوا إليها من قبل أمير المؤمنين عليه السلام.
وطبعًا لا تتصوّروا أنّ كلّ من ذهب بأمر أمير المؤمنين فأمره تامّ، فعبد الله بن عبّاس أيضًا ذهب إليها بأمر أمير المؤمنين عليه السلام. كلاّ، بل تلك الولاية والارتباط اللذان يسير على أساسهما، فهذا الارتباط دائمًا يسانده. لذلك فعليك أوّلاً أن تحصّل هذا الارتباط، ثمّ افعل بعده ما شئت. عليك أوّلاً أن تنال هذا الارتباط، أولاً على الإنسان أن يحصّل مساندة الولاية وبعدها كلّ ما يقوم به سيكون ممضى.
صلاته ستكون ممضاة، وصيامه ممضى، وقضاؤه ممضى، وحكومته ممضاة، وجهاده ممضى ودفاعه ممضى، ومساعدته ممضاة ومعاشرته ممضاة، كلّ ذلك ممضى. لماذا؟ لأنّ صورته الملكوتيّة صورة نورانيّة، وصورة ملكوتيّة حقّة. تلك الصورة الملكوتيّة تصنع الصورة الخارجيّة لا أنّ الصورة الخارجيّة تصنع الصورة الملكوتيّة حينها ينعكس الأمر. فهذا لا تعود أيّامه باطلة. فإذن هذا يرتبط بهؤلاء. على هؤلاء أن يدقّقوا وأن يأخذوا بعين الاعتبار، على الناس أن يلاحظوا ذلك في علاقاتهم.
كيفيّة بطلان الأعمال بالنسبة إلى السالك
أمّا السالك فماذا؟ ما هو الخطر الذي يهدّد السالك؟ أيّ خطر هناك بالنسبة إلى السالك؟ ما هو الخطر الذي يهدّد من يدّعي بأنّه يسير في طريق الله؟ إنّه خطر أكبر بكثير. خطر السالك هو أن يتبدّل السلوك نفسه لديه إلى حجاب، وأن يحبسه في هذه الدائرة. هذا الخطر هو للسالك. أنا سالك وبعد ذلك انتهى الأمر! لقد خطوت في الطريق إلى الله ومن الآن فصاعدًا أنا مشمول للمساعدة وانتهى الأمر. أنا خطوت في الطريق إلى الله ومن خطا في الطريق إلى الله فهو آمن من الأخطار! وليس هذا فحسب. بل يسير ويقرأ الأذكار والأوراد ويصلّي صلاة الليل ويطبّق برنامجه، معتقدًا أنّه في المسير. يلتزم بالأوامر التي تعطى، ويأتي بها صحيحة لا خاطئة، كلاّ بل صحيحة. يقوم بالأعمال كما يطلب منه، ولكنّ القيام بهذه الأعمال يأتي شيئًا فشيئًا ويفصله عن الناس وعن أهل دينه ورفاقه وأصدقائه، هذه المشكلة السلوكيّة هي الخطر، خطر كبير، ولا بدّ من التفكير بدواء لها. أما باقي المشكلات فيمكن علاجها، ففي النهاية يحاول الإنسان بنحو من الأنحاء. كثير من الناس الذين كانوا تحت تربية الأعاظم ثمّ انفصلوا عنهم وتنحّوا جانبًا ورُفضوا وطُردوا ابتلوا بهذا الخطر. فالسالك عندما يضع قدمه في الطريق إلى الله فعليه أن يحاسب نفسه كلّ يوم، ماذا فعلت اليوم؟ لا أنّ الأمر قد انتهى وحسِم. نحن أتينا إلى الأعاظم وانتهى الأمر. وبعد عدّة سنوات أيضًا علينا أن نعيد النظر.
اليوم إلى الغروب ماذا فعلت؟ أفهل أمر المراقبة سهل ومزاح هو؟ كلّ هذه التذكيرات، والمرحوم العلاّمة أكّد والأعاظم في كتبهم أكّدوا، فهل عملنا بذلك؟ ماذا فعلت اليوم وماذا عليّ أن أفعل اليوم؟ كم تقدّمت اليوم؟ كم ازداد فهمي اليوم؟ كم طبّقت أعمالي اليوم على التعاليم التي يوصون بها؟ على المعارف التي بيّنت؟ أفهل كان قليلاً ما قيل؟! مطالعة بضعة كتب بشكل صحيح من كتب العلاّمة تكفي لتحصيل الأمر؛ فقد بيّنت المعارف، وكان المرحوم العلاّمة يقول: نحن كنّا نبيّن الأمور للنّاس ثلاثة أضعاف ما يجب أن يبيّن، ثلاثة أضعاف، يعني كانت مرّة واحدة كافية لتحصيل الأمر، ذكرنا كلّ شيء، شرحنا كلّ المسائل. كم سرنا إلى الأمام مع هذه المعارف التي قيلت لنا والمعارف التي طالعناها في كتب الأعاظم كم تقدّمنا؟! كم سرنا معها؟ كما طابقنا أنفسنا معها؟ واقعًا؟!
أنا أقول عن نفسي: لا ولا أقول مزاحًا أيضًا. قبل بضعة أيّام حدث أمر، فجلست أفكّر في جميع أموري، فقلت: واقعًا هذا الكلام الذي أقوله للنّاس هل أنا عامل به أم لا؟ في النهاية سيحصل أن أفارقكم وتفارقوني، وإن شاء الله تشملنا جميعًا عناية الله ولطفه في ذاك العالم... ولكن على كلّ حال، على الإنسان أن يحاسب نفسه. رأيت أنّ الأمر ليس هكذا، أنا بنفسي لم أعمل ببعض الأمور. قصّرت، تساهلت، لاحظت بعض الجوانب، وطريق الله ليس فيه مزاح. نظرت إلى بعض الأمور كلاّ لا أعتقد [أنّي وفّيتها حقّها] من دون مجاملة. وبالنسبة إلى بعضها الآخر، رأيت أنّي كذلك لم أوفّها حقّها، بعض الأمور التي هي بيني وبين نفسي. فليجلس كلّ إنسان في كلّ أسبوع يومًا في ختامه، ولينظر في هذه الأعمال التي مرّت عليه في الأسبوع، والأعمال التي قام بها، كم كانت سببًا في هبوط ذلك الميزان؟ كم صارت سببًا لثقله؟
كان المرحوم العلاّمة يقول: أوّل مجيء الأفراد لا يكون لهم اهتمام بشيء [سوى أنفسهم] ـ وهذه الأمور التي أذكرها هي معايير وموازين علينا أن نعمل بكلّ واحد منها، فإن عملنا بها إن شاء الله شملنا الله بمزيد لطفه وتوفيقه. وإن لم نعمل بها خسرنا من كيسنا. يقال: بقدر ما تدفع من المال تأخذ من الطعام. هذه قاعدة طبيعيّة وقاعدة كليّة ـ كان يقول: عندما يأتي الأفراد في البداية يذهبون إلى زاوية ويجلس كلّ منهم على ركبتيه، لا علاقة له بشيء، لا يهتمّ بلون الجدار، ولا بعدد المصابيح الموجودة، ماذا يجري هنا؟ من جاء؟ من ذهب؟ لماذا؟ لأي سبب جاء؟ لأيّة غاية؟ جاء يربط نفسه بهذا الأستاذ ويتكامل على أساس هذا الارتباط. هذا هو أصل القضيّة. ثمّ يتقدّم هذا قليلاً، وبالطبع يعطى بعض البرامج، تقال له بعض الأمور، وهكذا تزداد المجالسة وتزداد المراودة، فتتحوّل لا قدّر الله تلك العلاقة مع الأستاذ شيئًا فشيئًا إلى عادة.
نحن الآن عندما نشرع بالصلاة... لقد قلنا {الحمد لله ربّ العالمين إلى قل هو الله أحد }بحيث أنّا لو فكّرنا من بداية الله أكبر في آخر نقطة من الدنيا فإنّا نؤدّي مخارج الحروف بشكل تامّ إلى {ولم يكن له كفوًا أحد}. ننتهي ونركع، لا نخطئ حتّى بكلمة واحدة. لماذا؟ لأنّ النفس قد اعتادت. فإذا اعتادت النفس فإنّها تتلفّظ بتلك المطالب بشكل ببّغائي.
ذلك الارتباط مع هذا الأستاذ تحوّل إلى عادة بالنسبة إليه يا عزيزي! وهذه العادة خطر يهدّد تكامله. فإذا تحوّل إلى عادة فإنّه وشيئًا فشيئًا تبدأ عينه بالمراقبة، ماذا هناك؟ ما هو جنس هذا الإبريق؟ من أين هذا السجّاد؟ من هو هذا الذي جاء؟ من هو ذاك الذي جاء؟ ما هو عمل هذا؟ ماذا يعمل ذاك؟ ما مهنته؟ ماذا يريد من السيّد؟ لماذا؟ لأنّ تلك العلاقة تحوّلت إلى عادة. فإذا تحوّلت إلى عادة، صارت حجابًا. وهذا الحجاب بعد ذلك [يمنعه].
جاؤوا إلى الأعاظم لكي تتوثّق تلك العلاقة وتشتدّ، لا لكي تصبح عادة، والسلوك نفسه حينها سيصبح عادة، في البداية لم يكن يتدخّل بشأن أحد، وأنّه من حضر ومن لم يحضر. وبعد مدّة يبدأ بالسؤال: لماذا السيّد على علاقة بفلان؟
في زمان المرحوم العلاّمة قال لي أحدهم: لماذا السيّد على علاقة بفلان العالم، ولكنّه ليس على علاقة بعالم آخر من العلماء السادة في طهران (وهو لا يزال على قيد الحياة)؟ حسنًا فهل أنت أستاذ أم هو؟ أأنت أكثر فهمًا أم هو؟ إن شئت أن تقول لماذا ولماذا؟ فقد علقت في كافّة التفاصيل! ما دمت قد اقتنعت بهذا المقدار وأنّ عقله أرفع، وأنّه فوقك، فتعال واستفد منه. بعد ذلك ما شأنك بأنّه على علاقة بفلان أو ليس على علاقة بفلان؟ هل أنت مطّلع على زوايا نفسه؟ هل أنت مطّلع على أفكاره وأنّه لماذا لم يقِم علاقة؟! أنت عقلك لا يستوعب بمقدار كشتبان، وتريد أن تنزح البحر بهذا الكشتبان؟ بماذا تفكّر أنت؟ لذلك يأتي هؤلاء الناس ويصبح هذا السلوك فخًّا لهم لا يمكنهم الخلاص منه، وهذا ما يسبّب سقوطهم، إمّا السقوط أو التوقّف.
هذه واحدة من تلك المخاطر الكبيرة التي ابتلي بها ذلك الذي تحدّث عنه المرحوم العلاّمة في كتابه وذكر اسمه وأنّ السيّد الحدّاد طرده، فقد كان المعيار عنده... أنا بنفسي رأيته في النهاية، في الزيارات التي قمت بها، وأحيانًا كنت أشعر في ذلك العمر المبكّر بذلك وكنت ألفت نظره في الخامسة عشرة أو السابعة عشرة من عمري، وهو حسب اعتقاده كان يقول مثلاً: من أنت حتّى تلفت نظري؟ فأنا كذا و... كنت أقول: كلاّ هذا خطأ. صحيح أنّي في السابعة عشرة ولكن هل تفكيري هذا موافق للحقّ أم لا؟ فلنذهب ونسأل. كان يقول: كلاّ هناك أمور من المبكّر أن تعرفها أنت. كنت أقول: حسنًا من المبكّر أم المتأخّر، أنا لا يمكنني أن أترك ما فهمته. عملك هذا خاطئ، وعمله هذا هو الذي أرداه. هذا! النفس.
لماذا يأتي هذا إلى هنا؟ لماذا؟ ما علاقتك أنت بذلك؟ للبيت صاحب، هو يريد أن يستقبله. أتأتي أنت من النجف كي تعرف من جاء ومن ذهب؟ أهذا هو السلوك؟ أهذا هو الارتباط؟ حينها ماذا يصبح؟ الكون مع الأولياء بعينه يصبح بطلانًا، يصبح بطلانًا. يأتي ويذهب ولا ينال شيئًا. يأتي ويذهب وفكره هنا وهناك. يأتي ويذهب ويفكّر في من يأتي ومن يذهب؟ يأتي ويذهب وبدلاً من أنّ يفكّر...
كان بايزيد البسطامي يخدم في بيت الإمام الصادق عليه السلام مدّة ستّ سنوات بسقاية الماء، كان يأتي بالماء للإمام عليه السلام وعائلته، حيث لم يكونوا يستفيدون من مياه الآبار، كان الماء خارجًا، في مكان ما، في نبع، فكانوا يذهبون ويحضرونه. أو كانت هناك آبار خارج المدينة ماؤها مناسب للشرب، كانوا يذهبون ويحضرون الماء منها، وكانت السقاية مهنة أيضًا. فكان يسقي للإمام الصادق عليه ويقوم بأعماله الخاصّة أيضًا. وبعد مضيّ ستّ سنوات، قال له الإمام الصادق عليه السلام: أحضر لي ذلك الشيء من الأعلى. فقال: أين هو الأعلى؟! نظر إلى الأعلى فرأى طاقة في الجدار، وفيها كتاب. فقال له الإمام: ألم ترها طيلة السنوات الستّ؟! فقال: منذ أن أتيت ووقعت عيني عليك لم أر بعد ذلك شيئًا آخر.
انظروا ما هي حقيقة الحال، ستّ سنوات لم ير إلا وجه الإمام الصادق عليه السلام. هل علينا أن نبدأ بالنظر والفحص بما أنّ الإمام الصادق عليه السلام قد خرج الآن من الغرفة؟ ماذا هنا، فلنذهب لنرى ونتفحّص بيدنا لنرى ماذا يفعل؟ فهل جاء هو لينظر إلى الجصّ الذي على الجدار؟ هل جاء لأجل الإمام الصادق عليه السلام أم لأجل أن يرى نوع السجّاد؟ لأجل ماذا جاء؟ قال الإمام: انتهى أمرك. ارجع إلى بسطام. وأرسل معه ابنه محمّد بن جعفر الصادق، وقبراهما الآن في بسطام في شاهرود، وأوصى بايزيد أنّه إذا مات محمّد قبل بايزيد أن يدفن إلى جواره. فما هذا؟ هذا هو الذي لم يقض أيّامه باطلاً. جاء وأخذ المعيار ومضى وتقدّم إلى الأمام.
تذكّرت الآن هذا الأمر. جاء أحد تلامذة المرحوم العلاّمة إليه، وبقي سنة يتردّد عليه. ذات يوم سأله ذلك الذي أرسله ـ وهو رجل معروف يعرفه الجميع ـ قال له: هل ذهبت إليه؟ هل استفدت؟ هل رأيت كم هو رجل محترم؟ كم هو رجل عظيم؟ موقعه ووضعه ـ وكانت داره حينها في شارع الهداية من طابقين ـ فالأثاث الذي جعله للضيوف في قسم الاستقبال أثمن من الأثاث الذي جعله لنفسه داخل المنزل؟ فقال له: أنا أصلاً لم أر خلال هذه السنة الأثاث حتّى أقارن بين ما هو في الأعلى وما هو في الأسفل. وقد كانت حالة ذلك التلميذ حينها جيّدة، قال: أنا أصلاً لم أرَ الأثاث، رغم أنّها كانت امرأة وكانت قد دخلت إلى الطابق السفليّ أيضًا. فلننظر كيف هو الحال في الأعلى وفي الأسفل؟!
انظروا هذا النحو من التفكير وذاك النحو. إنّه إنسان محترم إلى درجة أنّ الأثاث المعدّ للاستقبال مختلف عن الأثاث المعدّ لغيره! ـ الفرش وسائر الأمور التي يعرفونها من البسط وهذه الأشياء و...ـ ولكن لا. عندما يأتي الإنسان عليه أن يحتفظ بذلك المعيار الأوّل الذي جاء معه حتّى النهاية، أن يحتفظ بذلك المعيار حتّى النهاية. هذا مهمّ جدًّا. إن كنّا نريد أن لا نقع في فخّ الاغترار بالسلوك فهذا هو المطلوب. وثانيًا علينا أن لا ننظر إلى هذا وذاك. ماذا يجري هنا؟ من هو هذا؟ من الذي يأتي؟ ماذا يقول هذا؟ أيّ شخصيّة هذا؟ من الذي يأتي ومن الذي يذهب؟ هل نحن حدّدنا طريقنا أم لا بل فقط نسير هكذا ونتقدّم وانتهى الأمر. إذا أردنا أن نفكّر بهذا وذاك فإنّ عمرنا يكون قد ذهب أدراج الرياح.
كانوا في زمان المرحوم العلاّمة يعترضون أنّه هل جميع هؤلاء الذين يأتون إلى المرحوم العلاّمة هم واقعًا مستعدّون؟ ما شأنك أنت سواء كانوا مستعدّين أم لا؟ أنت مستعدّ أم لا؟ إن لم تكن مستعدًّا فلتذهب وشأنك! إن كنت مستعدًّا فما علاقتك بالآخرين؟ السيّد يريد أن يجمع سواد جيش فماذا تريد أنت؟ ماذا تريد؟ أولم يقل هو بنفسه؟ أولم أقل أنا في السنتين الأخيرتين من حياته حين كنت أحاضر في منزل أحد الرفقاء في مشهد في الأيّام الأخيرة من صفر، وكان هو يشارك في كلّ عشرة أيّام مرّة ولم تكن حاله جيّدة، وكان يستمع إلى تسجيلات مجالسي كلّ يوم ثمّ إن كان هناك ملاحظة كان يذكرها في اليوم التالي، هنا خطأ وهنا غلط، صحّح هنا، وصحّح هنا، ولحسن الحظ كان يومها حاضرًا بنفسه، ولا أدري ماذا حصل حتّى خضت في بحث بدون اختيار منّي، وكنت أتحدّث يومها عن ملاكات ومعايير السلوك إن لم أكن مشتبهًا. ومنذ أن شرعت قال لي: هل يمكنك أن تقوم بهذا البحث الذي شرعت به أم أنّك ستترك خلق الله هكذا في أمان الله؟ قلت: سأشرع به الآن. ولحسن الحظ أنّي بقيت في الملاك الأوّل ولم أتجاوزه إلى غيره.
في ذلك اليوم الذي كان حاضرًا، رجعنا معًا، ويبدو أنّه كان قد التفت إلى كلام الأمس، فقال: لماذا أنت في كلامك تهبط بالموضوعات إلى هذا الحدّ؟ لماذا تعيّن المصداق؟ وطبعًا لم أكن أصرّح بالاسم، ولكنّي تتحدّث بطريقة بحيث يعرف الناس المصداق، لا داعي إلى ذلك، أنت قل الكلام بشكل كلّي، ومن فهم فقد فهم، ومن لم يفهم فشأنه. قلت: إن لم أعيّن المصداق وأبسّط الكلام فإنّهم لا يفهمون ويحملون الكلام على هذا وذاك. إذا لم يرد إنسان ما أن يفهم ...
عجيب، أذكر أنّه ذات يوم في إحدى جلسات عصر الجمعة، كان يتحدّث عن قضيّة اجتماعيّة مهمّة وبيّن رأيه بشكل واضح، بحيث إنّ كلّ إنسان يفهم أنّ اثنين ضرب اثنين تساوي أربعة لا ستّة فقد كان كلامه بهذا الوضوح وإن لم يصرّح، يعني لم يكن بقي إلا أن يصرّح بالأمر. وعندما انتهى من كلامه وذهب ليجدّد وضوءه رأيت عددًا من الحاضرين يقولون: أرأيتم أنّ السيّد قد تحدّث برأينا.
وكان يتحدّث على النقيض من رأيهم تمامًا، فكلّ من سمع كان سيقول: أربعة في أربعة تساوي اثنين لا سبعة. فقد كان الأمر واضحًا إلى هذا الحدّ. ولكن عندما يكون الذهن أعوج، ما دام لديه غرض، ما دام يقضي عمره بالبطالة، فإنّه يأتي إلى المرحوم العلاّمة ولكنّه يسير في طريقه الخاص، يأتي إلى المرحوم العلاّمة ولكنّه يسير حول محور الأفكار والكثرات. لذلك فهو ينتظر أن يرى في كلام نافذة أو زاوية ليكبّرها، ويطرحها كفكرة من قبل أحد أولياء الله. هذا كلّه بطلان.
قال: نعم أعلم ما هو مرادك، ولكن اجعل كلامك بشكل عام وكليّ. من كان يجب أن يفهم سيفهم ومن يجب أن لا يفهم لن يفهم ـ هذه عبارته ـ ولو عيّنت له ألف مصداق لن يقبل أيضًا. ولم يقبل، وقد عشنا ذلك بعد حياته. تعيّن مصداقًا فيقولون: لا! المصباح مضيء يقولون: لا أصلاً هو مظلم، إنّه مظلم ماذا تقول أنت؟! فماذا يقول الإنسان لهؤلاء؟! ثمّ قال لي بعد ذلك: لا تتصوّر يا فلان أنّ الذين هم هنا جميعهم معنا، جميعهم معنا، الجميع هم سواد الجيش إلا بضعة معدودون ـ ورفع يديه هكذا ـ هم كالجبل الراسخ. هذه عبارته بعينها. قال: أنت قم بما عليك، تكلّم بصورة كليّة. علينا أن لا نكون من سواد الجيش يومًا ما التفتوا!
على السالك إذا جاء إلى طريق الله أن لا ينسى الملاك والمعيار وأنّه لأيّ شيء جاء؟ عليه أن لا ينظر إلى هذا وذاك. كان هدفي اليوم أن أوصل هذه المسألة اليوم إلى ذلك الحدّ الذي في بالي وأتمّها. ولكن وبسبب عدم استقرار وضعي أعد الرفقاء بذلك في الجلسة القادمة.
نأمل من الله تعالى أن يوفّقنا لنتمكّن من العمل بما أوصى به الأعاظم وما عملوا به، ووصلوا بعملهم هذا إلى المقصود، ونحن أيضًا نتابع ذلك بالنيّة نفسها والتوفيق نفسه.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.