المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالخسران و بطلان العمر
التاريخ 1426/01/17
التوضيح
كيف تتجلّى العقلانيّة في أفعالنا ومشاركاتنا في مجالس العزاء؟
كيف تجلّت العقلانيّة في حركة الإمام الحسين عليه السلام؟
كيف تتجلّى العقلانيّة في مجالس الفاتحة للأموات؟
ما دور العلم في السير والسلوك العقلانيّ؟ وهل يكفي وحده؟ وهل كان للعلماء عقلانيّة في صراع الحركتين الدستوريّة والمستبدّة؟
كيف أنقذت العقلانيّة أبا بكرة في معركة الجمل؟
ما هو أسلوب الأولياء في الإرشاد والإلفات إلى الحقائق؟
ماذا كانت مشكلة المرحوم العلاّمة في النجف الأشرف؟
ماذا كانت مشكلة المحاضِر بعد وفاة المرحوم العلاّمة؟ تجيب هذه المحاضرة عن هذه الأسئلة ضمن شرح فقرة ولا يدع أيّامه باطلاً من حديث عنوان البصريّ.
هو العليم
ما هي مظاهر السير والسلوك العقلاني؟
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٢٥
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان: ولا يدع أيّامه باطلاً، فمن يطوي طريق الله ويريد أن يبلغ باستعدادته إلى الفعليّة فعليه أن لا يقضي عمره بالبطالة.
تلخيص لما سبق
وقد تحدّثنا إلى حدٍّ ما في جوانب هذه المسألة وذكرنا أنّ المراد والمقصود ليس الاشتغال بالذنوب والمحرّمات؛ لأنّ المحرّمات والذنوب تُبعد الإنسان عن طريق الله، وكما يقول الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه: كيف يدّعي السالك الحركة إلى الله والحال أنّه يرتكب الحرام؟! فهذان الأمران متعارضان. فإذن الشرط الأوّل للسلوك والسير في طريق الله هو القيام بالواجبات وترك المحرّمات، هذا هو الشرط الأول، ومن لا يفعل ذلك فلا يُتعب نفسه ولا يدّعي عبثًا الطريق والمسير إلى الله؛ لأنّه لن تترتّب أيّة نتيجة على أعمال الخير التي يقوم بها مع وجود العمل الحرام. يقول المرحوم العلامة: من داوم أربعين يومًا على الأمور السلوكيّة والأمور التي أوصى بها الأعاظم لأجل السير والحركة فإنّه وبذنبٍ واحد يقضي على جميع هذه الأيام الأربعين ويجعلها هباءً منثورًا.
فإذن وكما تحدّثنا، فإنّ الكلام ليس في الأمور المحرّمة، بل في إتلاف الوقت وأن يقضي الإنسان وقته بالأمور التافهة وما لا يفيد في حركته، ويجب أن نتحدّث في جوانب هذا الموضوع وقد تحدّثنا شيئًا ما حوله مع الرفقاء، ووصل الحديث إلى هنا:
كيف تتجلّى العقلانيّة في اختيار مجلس العزاء الذي تشارك فيه؟
حيث إنّ الإنسان تابعٌ للأحاسيس ويستفيد بشكلٍ أقلّ من قواه العقليّة، فإنّه يهتمّ بالأحاسيس أكثر في علاقاته حتّى في العبادات وطاعة الله، فإنّه يبحث أكثر عن الأحاسيس، يريد أن يذهب إلى مجلس الإمام الحسين ويستمع إلى مصيبة سيّد الشهداء، فعندما يسير في الشارع ينظر إلى الموكب الأكبر والذي لديه إضاءةٌ أكثر، وصوت خطيبه يصل بمكبّرات الصوت إلى بضعة أحياء ـ وهذا أمرٌ محرّم ـ فيذهب إلى ذلك المجلس ويشارك فيه. إنّ رفع مكبّرات الصوت حرامٌ عندما يكون هناك جارٌ مريض أو أناسٌ لا يمكنهم أن يسمعوا الصوت المرتفع ويؤثّر عليهم، ولا فرق بين أن يكون هناك مراسم آخر أربعاء من السنة۱ ـ والتي ذكرت لكم ذلك اليوم أنّ هذه الثقافة لا يمكن أن تتأتّى إلا من قومٍ همج لا من المسلمين الذين أوصاهم رسول الله برعاية الناس وحفظ الأمن الروحيّ والنفسي للناس ورعاية أمور الجيران وعدم إيذاء بني النوع ـ فلا يختلف الأمر، فلو أنّ خطيبًا رفع صوته من مكبّر المسجد بحيث يؤذي الجيران، فهذا حرام سواءٌ وضع فيه الموسيقى التي هي حرام، أم ذُكر فيها اسم الله والإمام، فكلا الأمرين حرام، حرام، حرام. يجب أن لا يكون المسجد والحسينيّة سببًا لإيذاء الآخرين ويجب أن يكون الصوت بحدود الحاضرين في ذلك المكان، ويجب أن يكون الصوت صوتًا مناسبًا وجميلاً وبكيفيّةٍ راقية ومهما استطاع الإنسان أن يستفيد من ذلك فلا إشكال وإيذاء الناس حتّى لطفلٍ رضيعٍ يستيقظ من نومه بسبب صوت مكبّر المسجد أو الحسينيّة فبهذا المقدار يكونون قد اكتسبوا محرّمًا.
ماذا يصنع الإنسان الآن؟ يتوجّه إلى المكان الذي ضجيجه أكثر، مصابيحه أكثر، راياته أكثر، خطيبه خطيبٌ يتحدّث بشكلٍ متسلسل ومترتّب ومنظّم وبليغ، أمّا لو ذهب إلى مكانٍ صغير ـ أرأيتم في أيّام عاشوراء تجعل في الشوارع أماكن صغيرة للمجالس ـ فيرى مكانًا صغيرًا ومحقّرًا ليس فيه إلا بضعة أفرادٍ جالسون وفيه خطيبٌ يتحدّث، إنّه أصلاً لا ينظر إليهم. وعندما يريد الإنسان أن يشارك بمسيرة في أيّام عاشوراء فينظر إلى المجموعة التي هي أكثر وتمتدّ في مسافةٍ طويلة ولديها أعلامٌ أكثر وتسير بأبّهةٍ وجلال خصوصًا مع الموسيقى والناي والطبل وهذه الأشياء والتي هي محرّمة جميعها، حرامٌ في حرامٌ في حرام. وللأسف شاعت بيننا نحن الإيرانيين وهذه العلامة التي يسيرون بها أمام المسيرات هي علامة الصليب أيّها العزيز! لقد أتينا بصليب النصارى ووضعناه في مسيرات سيّد الشهداء دون أن نلتفت ونعي ماذا نصنع. لقد كان لهؤلاء، للروم وفرنسا، هناك كانوا يقدّمون جماعاتهم المشاركة في الحرب بعلامةٍ من هذه وربطة العنق أيضًا الموجودة الآن هي عين ذلك الصليب غاية الأمر أنه كان سابقًا يُربط في الظهر والآن يعلّق في العنق، لذلك فإنّ ربطة العنق لأجل كونها صليبًا محرّمة، وإلا فقطعة قماش ليس فيها حلال وحرام . كانوا يسيرون بها أمام الجيش ونحن جئنا بها وقدّمناها أمام مسيرات اللطم على الإمام الحسين وهذا كلّه حرام. والموسيقى والناي والطبل وما شابه كلّه حرام. الموسيقى حرام، رفع الصوت بما يؤذي الجيران حرام. نحن لأجل القيام بأمرٍ مستحب لا نبالي بألف محرّم ونرتكبها الواحد تلو الآخر.
كيف تجلّت العقلانيّة في حركة الإمام الحسين عليه السلام؟
إنّ عزّة الإمام الحسين وقوّته ليست بهذه المظاهر والأمور، هذه للدنيا، لقد جاء الإمام الحسين لينحّي لنا الدنيا والاعتباريّات والأوهام، وأن يرفع التخيّلات عن أعيننا، كم كان جيش الإمام الحسين؟ اثنين وسبعين رجلاً. أفلم يكن باستطاعة الإمام الحسين أن يحافظ على ذلك الألف من المقاتلين في ليلة عاشوراء؟! كان بإمكانه أن يبقيهم في النهاية، ابقوا هنا! لماذا تتركون؟! غدًا سأعاقبكم، سأحرمكم من شفاعة جدّي إن غادرتم. يعدهم وعودًا كاذبة: ننحّي يزيد ونرميه ونتقدّم... وكلّه كذبٌ في كذبٌ في كذب متوالٍ، يقول: نحن سنقضي على عبيد الله بن زياد... كان بإمكانه أن يستبقي الناس بالكذب ليلة عاشوراء لأجل حفظ نفسه وأولاده ولكنّ هذه الوعود كلّها كاذبة والإمام الحسين ليس أهلاً للكذب، الإمام الحسين صدقٌ محض وحقٌّ محض، يبيّن تكليفه بشكلٍ واضح مع الناس في تلك الليلة. غدًا لن يبقى منكم أحد، أقول لكم بصراحة، من يفكّر بزوجته وأولاده ففي أمان الله، من يفكر بماله ومعيشته ففي أمام الله، ونطفئ المصابيح أيضًا فلا تخجلوا منّا، ولن ألقيكم يوم القيامة في جهنّم أيضًا، لن أعاقبكم لأجل عملكم هذا. لن أتابع هذا الأمر، كلاّ. ببالٍ هادئ وبدون اضطراب وبدون أدنى قلق وبدون أدنى خوف منّي ومن أبي ومن جدي، بدون أدنى خوف وبكلّ وضوح وصفاء غادروا بسم الله، فإن بقيتم قُتلتم، وإن ذهبتم سلمتم، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً، فالآن ليلٌ ولا يراكم أحد، ونحن نطفئ المصباح أيضًا. وعندما أضاؤوا المصباح رأوا بضعًا وثلاثين رجلاً قد بقوا، هذا هو طريق الإمام الحسين ومنهجه، هذا ما علينا أن نأتي به ونطبّقه، هذا المنهج وهذا الفكر.
أمّا الضرب على الرأس والقفز والصراخ والأصوات الغريبة والحركات المثيرة للسخرية والتهريج والتمثيل، فكلّ ذلك لا وجود له في منهج الإمام الحسين ومذهبه. الإمام الحسين لا يحتاج إلى الموسيقى والعزف والعلم الصليبيّ وهذه الأشياء، الإمام الحسين يحتاج إلى بضعة رجال عقلاء، إلى بضعة رجال ذوي فهم، إلى بضعة رجالٍ ذوي أفكار لائقة، إلى بضعة رجال يعرفون وظيفتهم، إلى بضعة رجال من أهل التكليف والمراعاة. هذا هو وإلا فقد كان هناك من هذه المسيرات ذات الألف والألفين والثلاثة آلاف والخمسين ألفًا الكثير، وقد أقيمت الكثير من المسيرات والمواكب، ولكن لم تحصل منها تلك الفائدة المرجوّة. الطريق طريق الصدق والمتانة والعزّة، هذا هو المهمّ. وليس للإمام الحسين شأنٌ بصراخنا وعويلنا.
أما لو فرضنا أنّنا ذهبنا إلى مكانٍ حقير جدًّا لا يُبالى به أو فيه خطيبٌ يطرح أرقى الموضوعات ولكنّه ليس فيه تلك المراسم وليس معروفًا كثيرًا، فإننا لا نبالي به، أمّا لو كان هناك خطيبٌ آخر ليس لديه فِلسان من العلم، ولكنّه يتأنّق في عباراته ويتظاهر بالبكاء على المنبر ويلفّق من هنا ومن هناك ويصعد ويهبط ويشرّق ويغرّب، فإنّه يكون في نظر الناس محترمًا جدًّا ومرموقًا، لماذا ذلك؟ لأنّا نتّبع الأحاسيس، لا نبحث عن الفكرة بل نبحث عن التظاهر، هذا نموذجٌ.
كيف تتجلّى العقلانيّة في مجالس الفاتحة؟
هناك مسجدٌ يكثر فيه التردّد والمراسم ويوزّع فيه الطعام ويقيمون فيه المجالس، مجالس الفاتحة وفيه ذهاب وإيأب ومجالس كبيرة، وفي هذا الزمان صارت المساجد جميعها أيضًا دكاكين ومتاجر، صارت مكانًا لإقامة مجالس الفاتحة۱ وبتلك الطريقة أيضًا والتي تذكّر الإنسان بكلّ شيءٍ إذا دخل المسجد إلا بالموت، من الفواكه والحلويات والتمور والصور والكؤوس والناس المصطفّين من هذا الجانب ومن ذاك، والذين يعدّون لائحةً بأسماء المعزّين ويأتون بالورود، وقد سمعت مؤخّرًا أنّهم يأتون في بعض المدن بالأزهار الاصطناعية لأجل التوفيرثم يؤجّرونها لمكان آخر، يؤجّرونها لمكانٍ آخر!
لقد صارت الدنيا كلّها لعبًا وصارت عبادتنا سخرية وصارت فاتحتنا سخريةً، وصار دعاؤنا سخريةً، ما علاقة مجلس الفاتحة بالفاكهة والحلوى يا عزيزي؟ إن أردتم أن تنفقوا فأتوا بتمر وشاي والسلام. هذا يكفي، وكانت هناك عادةٌ سابقًا حتى لم يكونوا يوزّعون التمر ولا أيّ شيء آخر، يأتون ويجلسون ويأتي الخطيب يتحدّث، يتحدّث عن الموت ففي النهاية يجب أن تسمع آذاننا في السنة مرّة كلمتين حول الموت، ففي النهاية سنصبح مثل هؤلاء غدًا، هذا الذي جئنا الآن من أجله ونقرأ له الفاتحة ونقول رحمه الله ونعزّي أرحامه أقسم بحياتي وحياتكم أنّهم سيأتون غدًا إلى هذا المجلس ويقرأون لنا الفاتحة ويعزّون أرحامنا بنا، فلندرك هذا في تلك المجالس ولنلنفت إليه.
هذا البحث الذي بدأنا به حول السلوك العقلانيّ هو هذا في النهاية، أن يذهب الإنسان إلى هذه المجالس بعقله فيتدبّر ويهتف بنفسه محذّرًا، هذا الشاب الذي يشارك الإنسان في مجلس فاتحته هل كان يعلم قبل دقيقتين أنّه ستحدث له حادث كهذا؟ هل كان أبواه يعلمان؟ هل كانت أسرته تعلم؟ كلا، لم يضمن لنا أحد أن نعيش إلى عشر سنوات أخرى أو عشرين سنة أخرى، أنا بنفسي لا أضمن أن أبقى سالمًا بعد أن أنزل عن المنبر أو أنتقل إلى ذلك العالم أبدًا، أبدًا لا خبر عن ذلك، وغيرة الله لا تسمح أن يقرّر أحدٌ في هذه الأمور غيره وأن ينفّذ إرادته ومشيئته، لا أحد، لقد فعل ذلك مع أنبيائه أيضًا، لقد فعل ذلك مع نبيّ آخر الزمان أيضًا. في الوقت المناسب جاء عزرائيل.
الإنسان الوحيد الذي استأذنه عزرائيل هو نبيّنا ولا يستأذن من الآخرين ولكنّه جاء في وقته، وجاء إلى النبي سليمان أيضًا فاستأذنه أن يذهب إلى غرفته فقال: لا آذن لك بهذا أيضًا، فقبض روحه حيث كان واقفًا متكئًا على العصا. فهذا عن الأنبياء وأمّا نحن فلنا شأننا الآخر، لا شيء من هذه الأمور، لا اطلاع لنا، ثمّ بعد ذلك في هذه المجالس ولأجل المزايدة والمقارنة مع المجالس الأخرى نأتي بالأواني والحلويات والفواكه والضيافة وأمثال ذلك، وهذه الأشياء التي تحرف الإنسان عن تلك الحقيقة وعن ذلك الاعتبار، فلا تحصل تلك الآثار التي يجب أن تحصل في هذه المجالس. يدخل الإنسان إلى مجلسٍ بأفكاره السابقة ويخرج بها أيضًا بعينها، ولا يختلف الأمر لديه، فقط يقول رحمة الله عليه، وإذا أراد أن يمنّ كثيرًا على الميت يقرأ الفاتحة ثمّ يخرج.
أمّا في السابق فلم يكن الأمر كذلك، لم تكن المجالس السابقة هكذا، فلم يكونوا يدعون إلى المجالس في القرون السابقة أيّ قارئ، بل كانوا يلاحظون في قراءته التجويد، ويلاحظون شخصيّته، ولم يكونوا يدعون أيّ قارئ، وذلك القارئ الذي يقرأ شعرًا راقصًا لم يكونوا يدعونه إلى مجلس القرآن ليقرأ، كانوا يتأمّلون في القارئ، كان لكلّ ذلك حساب. لم يكونوا يدعون أيّ خطيب، لم يكونوا يدعون أيّ إنسانٍ إلى المجلس، كانوا يدعون صاحب الكلام النافذ، الكلام النافذ في النفوس. هذه الأمور كانت تراعى واليوم تغيّرت حقيقتها بالكامل. ولذلك نلاحظ أنّ الناس قليلاً ما يفكّرون بالموت وهذا الأمر واضح في الحياة وفي علاقات الناس، فمن لا يفكّر بالموت تختلف حركاته وسلوكه فلا يلاحظ فيها تغيّرٌ، ولا يراعي الشرع في المعاملات التي يقوم بها، ولا يراعي الأمور الأخلاقيّة، كم سمعنا ورأينا عن الموت، ولكن لم ننظر إليه نظرة اعتبار.
كيف تتجلّى العقلانيّة في خلافة رسول الله؟
فهذا الأمر موجود دائمًا عند الإنسان وهو أنّه يرجّح الأحاسيس على العقل ويتبّع أحاسيسه، فحتّى في العبادات هو تابع للأحاسيس، يقوم بعمل الله أيضًا، فالذين أزاحوا أمير المؤمنين بعد النبيّ ماذا كانوا؟ كانوا من قدّم الأحاسيس على العقل، حتى في خلافة النبيّ التي هي باعتقادهم أمرٌ إلهيّ كانوا يتّبعون الأحاسيس، فخلافة رسول الله لا يمكن أن تكون أمرًا دنيويًّا، ففي النهاية من أراد أن يجلس مكان النبيّ، ويصلّي مكان النبيّ، ويجاهد مكان النبيّ، ويرتقي المنبر مكانه، ويحجّ مكانه، لا يأتي إلى مسجد المدينة بأصنام الجاهليّة التي كانت في مكّة ويدعو الناس إلى عبادتها، بل يتقدّم إلى محراب النبيّ ويقف ويصلي، ولكنّ هذه الصلاة، وهذا الحج، وهذا الكلام، وأخذَ الزكاة، وهذا الجهاد ـ والتي هي بأجمعها أمور عباديّة ـ هي محكومة للأحاسيس لا للعقل، فالأحاسيس هي التي ترجّح أبا بكر على عليّ، والأحاسيس هي التي ترجّح الجاهل على من هو أعلم باعتقادهم. فهذا كلّه أحاسيس. ينظر أحدهم فيرى أنّ الناس قد ذهبوا في ذلك الاتجاه، فلا يدع عقله يظهر ويبرز، فتشدّه هذه الأحاسيس، هنا يجب على الإنسان أن يقف لحظة جانبًا ويفكّر وينظر إلى هذه الجماعة، ينظر إلى أين تمضي هذه الجماعة؟ هل تمضي في ذلك الطريق الذي كان رسول الله يمضي فيه؟ لأنّه مطمئنّ برسول الله في النهاية، يستفيد من ذلك الاطمئنان الذي جعله الله ثروة عنده وأودعه عنده لا أن يجعل هذه الثروة في جيبه هكذا، ثمّ يذهب إلى السوق ويرجع إلى البيت دون أن يجري بها أيّة معاملة فلا فائدة من ذلك، هذه الثروة التي أودعها الله في قلبه، المعايير التي جعلها الله في قلبه وفي ضميره ووجدانه يخرجها الواحدة بعد الأخرى في مكانها المناسب، عندما تسير هذه الجماعة فلا يدع عقله وفكره وقواه تسير معها، بل يوقفها ويجلس جانبًا؛ إذ ربّما تريد هذه الجماعة أن تذهب إلى الهاوية، فهل عليّ أن أمضي معها أنا أيضًا؟! لعلّ هذه الجماعة تريد أن تغرق في البحر، فهل أغرق معها أنا أيضًا؟! يجلس ويفكّر والله أيضًا يساعده، فإذا جلس وفكّر يساعده الله أيضًا.
أبو بكرة وعقلانيّته في معركة الجمل
ففي معركة الجمل، كان هناك أحد أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام ويدعى أبا بكرة، وهو الذي نقلت عنه في التاريخ بعض القضايا، ومن جملة الأمور التي نقلت عنه هذه المسألة، وكانت له قصص مع المغيرة بن شعبة في زمان عمر. يقول أبا بكرة: كنت في جيش أمير المؤمنين متحيّرًا أن ما الخبر؟ فهنا أمير المؤمنين خليفة رسول الله وقد بايعه الناس بالخلافة والذين هم حوله أمرهم واضح، مالك الأشتر، وعمّار، وصحابة النبيّ الكبار. وفي المقابل هناك آخرون كطلحة والزبير وعائشة زوج النبي وغيرهم، وهذا ما أدّى إلى أن يُخدع الناس وتغلبهم الأحاسيس. فكان يقول: كنت في هذه الحالة من التردّد والتذبذب والشكّ في حقّانية هذه الفئة أو تلك، وفجأةً لم يسعفني إلا شيءٌ واحد فوجدت الحقّ، وهو كلام لرسول الله سمعته منه حين قال "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأةً"۱ رأيت أن يا للعجب عائشة صارت قائدة للجيش وتقف في وسطه تأمر وتنهى: تقدّموا عن اليمين! وتقدموا عن اليسار! واهجموا وتراجعوا! فقلت: عجيب زوجة رسول الله التي أمرت في القرآن أن تقرّ في بيتها: {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}٢ فأنتنّ نساء النبيّ لكنّ احترامكنّ بسبب انتسابكنّ إلى رسول الله، إن خرجتنّ وقمتنّ بعلاقات مع الناس، وأقمتنّ المجالس، وجاء الناس وتواصلوا معكنّ وأصبحتنّ بسبب خروجكنّ من المنزل مورد اهتمام المجتمع، فإنّ المجتمع سيسيئ الاستفادة من انتسابكنّ إلى رسول الله، وستحيط بكنّ الشياطين وأهل الفتنة بسبب الاحترام والوجاهة والشخصيّة والشأن الذي لكم بين الناس ـ فالمسألة مهمّة جدًّا تقشعرّ لها الأبدان، فعندما لا يكون للإنسان صلة بعظيمٍ ولا ارتباط بمدرسةٍ، ولا ينسبه الناس إلى مدرسة، فله حكم، ولكن إذا دخل في مدرسة وانتسب إلى عظيم، فإنّه شاء أم أبى ستتغيّر نظرة الناس إليه وسيعدّونه جزءًا من هذه المدرسة، فإذا عمل خطًا وقبيحًا وعملاً مخالفًا لهذه المدرسة كانت عواقب ذلك مئات الأضعاف عمّا لو لم تكن له صلةٌ، وعُدَّ خائنًا لمدرسته، خائنًا للطريق الذي ينتسب إلى الأعاظم، فهذا الأمر بعينه متحقّقٌ في نساء النبيّ ـ يقول{ قرن في بيوتكن} لأنكنّ منتسبات إلى النبيّ، وانتسابكنّ إلى النبيّ يجعل مكانتكنّ خطيرةً جدًّا، ليتكنّ نساء عاديات تفعلن ما تردن، فلا شأن لأحدٍ معكنّ، وتصنعن ما تردن، أليست هناك آلاف النساء ترتكبن آلاف الأخطاء فلا أحد يتعرّض لهنّ، لكنّ هذا الانتساب هو الذي يجعل الناس ينحرفون، لقد رأيت بعيني هذه المسألة وأنّه كيف يقوم المنتسبون إلى الأعاظم وأقاربهم بانحرافاتٍ بعد التغييرات والتحوّلات التي تحصل لهم، فالتأثيرات التي يمكن أن يقوم بها إنسانٌ ينتسب إلى عظيم في المجتمع سواءً كانت تأثيرات سيّئة أم حسنة تفوق تأثيرات غيره من الناس العاديّين أهميّةً.
لقد جاء هؤلاء الناس وأحاطوا بعائشة، يقول أبو بكرة: كنت متردّدًا وفجأةً نبّهني هذا الحديث الذي كنت قد سمعته من رسول أنّه ما أفلح قومٌ تملكهم امرأةٌ نبّهتني هذه الرواية إلى أنّ الحقّ مع عليّ، فقد أعطى هؤلاء زمامهم للقائدة عائشة، وهذه زوجة النبيّ جاءت إلى هنا تُصدر الأوامر أن سيروا نحو اليسار، وسيروا نحو اليمين، تراجعوا تقدّموا. على المرأة أن لا تأتي وتركب الجمل وتمشي بين الناس وتصرخ، الآن لا نريد أن نتحدّث عن هذا الأمر، وما هي الأكاذيب التي حاكوها والأمور التي قالوها، واتّهمت عائشة أمير المؤمنين الذي دافع عن عثمان، اتّهمته بقتله، وكانت ترسل الرسائل إلى هنا وهناك، وبأيّة كيفيّة؟ من عائشة أمّ المؤمنين وزوجة رسول الله أكتب إليك رسالةً ـ لقد عرفتِ الناس جيّدًا ـ من عائشة إليكم أيّها الناس الذين هم كالأنعام، فأنا زوجة رسول الله أكتب إليكم رسالة أن تعالوا وقاتلوا عليًّا قاتِلِ عثمان. عليّ قاتل عثمان! لقد كانت الفتنة واقعًا عجيبة جدًّا ونحن هنا نجلس مرتاحين نستمع إلى التاريخ فقط، كانت الفتنة عجيبةً؛ حيث ينظر الناس فيرون أنّها تقول حقًا، فهذا إمضاء عائشة والرسل الذين كانوا يأتون يقولون: لقد رأينا بأنفسنا أنّ عائشة هي التي تكتب وتمضي، زوجة النبيّ، لقد دعتكم زوجة النبيّ.
ماذا علينا أن نفعل الآن؟ ماذا علينا أن نفعل؟ هنا يأتي السلوك العقلانيّ ويُنقذ الإنسان، يأتي العقل وينحّي الأحاسيس جانبًا ويبيّن الحق للإنسان؛ لأنّ الإنسان تابعٌ للأحاسيس، هذه الأحاسيس هي دائمًا موجودة في حياة الإنسان وتجعل نفسها قبل عقله، لذلك على الإنسان أن لا يطمئنّ من البداية إلى تفكيره. فإذن المعيار الأوّل الذي يمكن أن نجده لهذا الأمر هو أنّا ما دمنا تابعين للأحاسيس، تابعين للحواس، خاضعين للعواطف، محكومين للمشاعر والعطف والرأفة والمظاهر [فسلوكنا غير عقلاني].
ما دور العلم في السلوك العقلانيّ؟
وما أقوله لكم لا تظنّوا أنّه فقط للشباب الذين لم يجرّبوا الدهر، والذين لا يمتلكون التجربة الكافية في الأمور. كلاّ، فقد رأيت هذه الأمور في أهل العلم المجتهدين أبناء السبعين سنة أيضًا، فبكلمتين تنتهي الأمور عندهم . فأن يكون الإنسان محكومًا للأحاسيس لا يعني أن لا يكون للعلم أثر فيه، بل للعلم أثر، ولكنّه لا يغيّر حالة الإنسان النفسيّة، فالعلم أداةٌ بواسطتها يمكن للعقل أن يستفيد منها استفادةً صحيحة فقد جعل الله للإنسان عقلاً وحجّةً متّصلة، وحجة ودليلاً مقترنًا بروحه ونفسه، هذا العقل يحتاج إلى أدوات ووسائل لأجل انتخاب الطريق الصحيح، وكلّما كان علم الإنسان أكثر وتجربته أكثر فإنّ طريق العقل لأجل الوصول إلى المقصود سيكون أقصر، والضغط الذي يحصل على العقل لأجل انتخاب الطريق الصحيح سيكون أقلّ، وستكون يده مبسوطةً أكثر في اختيار الأحسن. هذا ما يرتبط بالعلوم التي يحصّلها الإنسان ممّا يراه ويسمعه، وما رآه في سلوك الأعاظم وجرّبه، وما حصّله من العلوم الحقّة العقليّة والنقليّة عن الأئمة المعصومين عليهم السلام، والتي لا شك فيها ولا ترديد. فهذه كلها وسائط ووسائل يستطيع العقل باستعمالها أن يحدّد الطريق الأحسن والأصلح. فإذن كلّما كانت العلوم المخزنة أكثر كان العقل أقدر، وكلما كانت معلومات الإنسان أكثر كانت قدرة العقل أكثر، لا أنّ المعلومات تأتي وتطرد الأحاسيس جانبًا، كلا ليس الأمر كذلك أبدًا.
أنتم لديكم شريط فيه مجموعة من كلمات الأعاظم من الحكم والقصص والعبر والمواعظ الأخلاقيّة فما لم تضغطوا على هذا المفتاح وتشغّلوا هذا الشريط ويصل إلى سمعكم، فلن تعلموا ماذا عليكم أن تصنعوا، يجب أن تشغّلوه، فهذه المجموعة من العلوم والتجارب الموجودة هنا هي كالشريط، ما لم يضغط العقل على المفتاح فلا فائدة لهذه العلوم. لذلك رأينا أنّ الكثير من الناس العلماء وقعوا جميعًا تحت سيطرة الأحاسيس، لا أنّهم من دون علم، لديهم علم وعلمهم أكثر من علمنا، ولكنّ العقل لم يتصدّ.
هل كانت هناك عقلانيّة في أحداث الحركة الدستوريّة والمستبدّة؟
ففي أحداث الحركة الدستوريّة الذين جاؤوا واتّبعوا هذا الجانب أو ذاك، فصار أحدهم من أتباع الحركة الدستوريّة وبعضهم من أتباع الحركة المستبدّة، فماذا كانوا هؤلاء؟ كانوا من المراجع، كانوا من أصحاب الرسائل العمليّة، ومن أصحاب الفتاوى، ولديهم مقلّدون، وجميع الناس يتّبعونهم في البلاد وفي المدن، وبحكم واحدٍ منهم كان يقوم بلد بكامله، وبحكمٍ واحد منهم كانت تحدث ثورة في مكان ما، ولكن لماذا ابتلي هؤلاء بالانحرافات؟ لماذا؟ لأنّ الأحاسيس جاءت وسيطرت، لم يتقدّم العقل، لو أنّ العقل تصدّى لأظهر الله لهم الحقّ.
كيف يٌلفتُ الأولياء إلى الحقائق؟
إن كان الرفقاء يذكرون فقد ذكرت في الجزء الثاني من أسرار الملكوت حكايات وشواهد من هذا القبيل في موارد مختلفة، فلو دقّقوا في أنّ المرحوم العلامة كيف كان في علاقاته مع الناس ومع علماء الطراز الأول في ذلك الزمان؟ فقد كان يشير إلى نقاطٍ دقيقة لو التفت إليها الناس ودقّقوا فيها لاتّضح لهم الأمر. وكيف كان يشير؟ وبأية أساليب لطيفة؟ تلك الأساليب اللطيفة... ـ فلا يمكن أن يقال كلّ شيء، لا يمكن أن تقول: إنّ اتّباعك لفلان الذي تتّبعه باطلٌ. لا يمكن أن يقال هذا الكلام، لا يمكن أن يُقال: إنّ هذا الطريق الذي تسلكه باطل! لا يمكن الكلام بسهولة مع إنسان عالم له في نفسه ألف أمر وأمر، يا سيّد الطريق الذي تسلكه باطل، ما تبحث عنه باطل، هذا المسير الذي تطويه هو إلى جهنّم! فهذا لا يمكن أن يقال ـ إنّ وليّ الله يأتي بلطف وهدوء وضمن أمر دقيق وبالإشارة والكناية وضمن حكاية فيقول أمرًا ما ثمّ يذكر تلك النقطة الدقيقة.
أنا بنفسي كنت مبتلى بأخطاء سابقًا في هذه المسائل المهمّة، وحين ذكر المرحوم العلاّمة لي أمرًا ما أخرجني من خطأي. نقل لي قصّة أنّي ذهبت إلى مكانٍ ما وحدث كذا وكذا فتعجّبت كثيرًا، كنّا نمضي إلى مكانٍ ما سيرًا على الأقدام معًا في طهران في العهد السابق، فرأيته يقول: تفضّل يا فلان. وبعد مقدّمةٍ التفتّ إلى أنّ هذه المقدّمة ليس هذا موضعها ولكن لماذا يقولها الآن؟! فالتفتّ إلى أنّه حتمًا يريد أن يقول أمرًا ما، ثمّ نقل لي أمرًا آخر ولم يتكلّم أيّة كلمةٍ بعده حتّى وصلنا إلى المنزل. فذهبت وفكّرت في هذا الأمر فرأيت أنّ والدي ليس إنسانًا كاذبًا، إنّه إنسانٌ صادق، ومن جهة أخرى هو ليس من العوامّ أيضًا، ولم يكن غير ناضج، ويا لها من تجربة، بل من تجارب حصّلها في هذه المدّة من العلاقة مع مختلف الناس والأحداث ويحملها على عاتقه وتُثقل عاتقه! ومن جهة أخرى ليس هناك أحدٌ يعطف على الإنسان كأبيه، فإذن لماذا قال هذا الأمر؟ جلست وفكّرت ورأيت أنّ الأمر صحيح وانتهى واتّضح، فقد كان لديّ فكرةٌ حول بعض الناس ورؤيةٌ معيّنة، وطبعًا لم يكن رأيي فيهم إيجابيًّا مائة في المائة، فقد كنت أحتفظ بعشرين بالمائة لنفسي، وكان يريد منّي أن لا تكون حتّى هذه العشرون بالمائة، وأن أستريح من هذا، وأن يكون فكر الإنسان مفتوحًا بشكلٍ كامل وصحيحًا، هذا ما يسمّى السلوك العقلانيّ، أن يستعمل الإنسان عقله، لقد نقل هذا الكلام وأعلى منه لكثيرٍ من كبار ذلك الزمان وعلمائه، ولم يقبلوا به بل وأكثر منه وأصرح منه وأهمّ وأشنع، فلماذا؟ طبعًا على الإنسان أن يعدّ كلّ شيءٍ من الله وأن يعدّ التوفيق منه، وكان يمكن أن لا أوفّق إلى هذا مثل كثير من الناس وأن لا يتفتّح فهمي وإدراكي على هذه الحقائق، وهذا التوفيق يأتي من الله ويعمّ الناس ويوضّح لهم الأمور، ولكن على كلّ حال، لا يمكن للإنسان أن يغفل عن مسألة الاختيار والطريق الذي فتحه الله لاختيار الأفضل والأصلح أمامنا وأن ينسب كلّ شيء إليه كلا، فهنا جعل الله للإنسان قدرة الفهم وقدرة التشخيص وقدرة الإدراك، هذا السير سيرٌ عقلانيّ.
على الإنسان في السير العقلاني أن يجعل أحاسيسه وعواطفه وقواه العقلانيّة في ميزانٍ ثمّ يحاكم بينها ويقضي بينها، وفي كثير من الموارد يمكن أن لا يشخّص الإنسان ويحدد أنّ تشخيصه هذا عقلانيّ أم عاطفيّ؟ يمكن أن يرى أنّه عاطفيّ، ولكن في ذلك الوقت يقول الله: عليك أن تُبقي احتمال الخطأ في طريقك وأن تحتمل دائمًا الاشتباه، فإذا وصلت إلى أمرٍ ما فلا تُقدِم، تعال وفكّر ولا تصرفنّك الاتصالات الهاتفيّة المتوالية عن التفكير، ولا يوقعنّك في الخطأ الذين جاؤا وجلسوا في تلك الغرفة ينتظرون إمضاءك، بل افترض أنّه لا يوجد أحد في تلك الغرفة، افترض أنّه لم يتّصل بك أحد، افترض أنّه لم يأت إليك أحد، افترض أنّ هذه المكانة لم تتحقّق لك، افترض أنّ هذا الأمر قد حصل قبل شهرٍ حين لم تكن هذه الأمور موجودة وهذا الجوّ موجودًا، خذ نفسك إلى ما قبل شهرٍ، إلى ما قبل شهرين، فكّر في هذه المسألة، ادرس وضعك ووضع الجو والمجتمع والشائعات ثمّ بعد ذلك انظر بماذا تحكم، عندها انظر بماذا تحكم. اطرح الآن الشهرين الماضيين هنا، فتأتي فجأةً فتنظر إلى جميع هؤلاء الناس وتقول: أهلاً وسهلاً
ـ لقد جئنا لنأخذ منك إمضاءً
ـ لا إمضاء، تفضّلوا وانصرفوا.
ـ لا يمكن، كيف؟ لنا الويل، سيخرب البلد، ستخرب الدنيا وكلّ مكانٍ سيفسد، فهل ضُربت على رأسك؟!
ـ نعم، ضُربت، افترض أني ضُربت فبماذا تأمرون؟ أتريدون أن أذهب إلى الطبيب؟! فلنذهب.
ـ لماذا أنت هكذا يا فلان؟
ـ ماذا تقول؟
ـ هل أنت مريض؟
ـ ما شأنكم بي؟ إن شئتم أن تقوموا بذلك العمل فلتقوموا به ماذا تريدون منّي؟
حينها تدرك أنّ هؤلاء لم يأتوا من أجل أنفسهم إلى بيتك، بل ليوقعوك أنت في البلاء، هؤلاء لم يأتوا من أجل مصلحتك، بل جاؤوا ليخرجوك وقد أحاطوا بك من أجل منافعهم حينها ندرك، حينها يلتفت الإنسان أنّ جميع هذه الأمور والأحداث والذهاب والإياب والأمور المحيطة به هي كلّها لأجل الضلالة ولأجل إضلال هذا الإنسان المسكين والتعيس الحظ، فقد جاؤوا ليأخذوه إلى مسيرهم، فالمسكين الذي يخضع للأحاسيس ويمشي بشكلٍ أعمى يستسلم لهذا الحدث.
وأينما شاء الماء حرّكه وأينما شاءت الرياح حرّكته فيمضي في هذا الاتجاه وفي ذاك وفجأةً يصفق بيدٍ على أخرى ويقول: الويل لي! كم هو خطأ كبير وقعت به! ماذا كنت أحسب وماذا كانت النتيجة؟! لماذا؟ فلتجلس من البداية وتفكّر وتقيس، فكّر من البداية في الأمور.
ماذا كانت مشكلة المرحوم العلاّمة عندما كان في النجف؟
كان المرحوم العلامة يقول: عندما ذهبت إلى النجف ـ وقد كان شخصيّة مهمّة جدًّا وكان طالبًا بحّاثة وفاضلاً قد درس جيّدًا، وبصورةٍ عامة عندما كان يُشارك في المجالس، كان يعدّ من الطبقة الأولى في تلك الدروس، وشيئًا فشيئًا بعد أسبوعٍ أو عشرة أيّامٍ أو أسبوعين كان يبرز، ومن يبرز فإنّه يشدّ إليه انتباه الآخرين، فهذا يأتيه وذاك يأتيه أن تفضّل إلى مجلسنا، تفضّل إلى درسنا، تفضّل إلى مجالسنا، مجالس العزاء، جماعتنا وهذه الأمور، وشيئًا فشيئًا يأتي الناس الواحد تلو الآخر إلى الإنسان ليجذبوه، هذا يريد أن يجرّه إلى هذه الجهة، وذاك إلى تلك ـ كان يقول: عندما ذهبت إلى النجف وضعت قطعةً من القطن في هذه الأذن، وقطعة أخرى في هذه، وكلّما جاء أحدٌ إليّ أن شارك في جماعتنا كان جوابي: لقد جئت لأدرس.
ـ هناك مجلس عزاء أسبوعي أو شهري.
ـ إن كان لديهم مجلس فليكن، أنا أدرس لديّ أبحاثي و...
ـ لقد اجتمعوا في المكان الفلانيّ في ليلةٍ معيّنة ويريدون أن يتحدّثوا حول هذا الأمر السياسيّ.
ـ مباركٌ إن شاء الله.
ما أنقله لكم حصل، لا أقوله من نفسي. بعد شهرٍ رأوا أنّه لا مجال، هذا الرجل لا ينزع القطنتين من أذنيه فيئسوا منه وتركوه.
وبما أنّهم تركوه بدأوا: هذا درويش، هذا صوفيّ... إلى الآن لم يكونوا يقولون ذلك، إلى الآن كانوا يقولون: تفضّل، تفضّل شارك في هذا المجلس وفي تلك السهرة، وفي مجلس النرجيلة هذا، تفضّل إلى صلاة الجماعة، شارك في هذا المجلس، شارك في مجلس العزاء هذا، فقد كانوا في البداية يقولون: تفضّل، تفضّل. ولمّا رأوا أن لا فائدة بدأوا يقولون: من هو هذا الذي جاء من طهران؟! إنّه درويش، إنّه لا يشارك في أيّ مكان، إنّه يطأطئ رأسه، إنّه لا يشارك في أيّ مجلس عزاء، إنّه لا يشارك في مجالس العلماء، إنّه لا يشارك في صلاة الجماعة لهم، لا يشارك، لا يشارك، رأسه في عمله، إنّه على علاقة بتلامذة السيّد القاضي، عجيب، عجيب! فإذن هو درويش.
ثمّ شيئًا فشيئًا بدأوا بماذا؟ فبعد مدّةٍ وحيث لم تجدِ هذه الطريقة بدأوا بالطريقة الثالثة. كان يقول: كنّا نذهب إلى السوق فنرى أنّهم لا يسلّمون علينا، عجبًا لقد كان هذا حتّى الأمس يسلّم علينا، والآن لا يسلّم، نمضي من هناك فيدير برأسه، وذاك لا يبالي، نمشي من قربه فلا يهتمّ فهذه هي الحربة الثالثة، وحتمًا لم تكن هناك حربة أقسى وإلا لاستعملوها. رأوا أنّه لا يُخرج هاتين القطنتين، ملتصقتان، كانوا يحاولون أن ينزعوهما بأيّة طريقة فرأوا أنّهما لا تُنتزعان فتركوه.
كان يقول: لو أنّي كنت طالبًا قليل الدرس والقراءة جاهلاً، لأطاحوا بي، ولما أبقوا شيئًا، غاية الأمر أنّ الحربة الوحيدة التي لم تجد هي أنّه لم يكن هناك أقوى منّي في النجف، فقد قلت للسيد الخوئي: أنا مستعدٌّ لأن أباحثك في أيّة مسألةٍ تريدها وأعطيك مهلة أسبوع وأنا من دون تحضير وأنت مع تحضير لمدّة أسبوع نتباحث أمام الجميع فقد كان هكذا، قال أعطيك مهلة أسبوع فاذهب وطالع دون أن تخبرني، فبعد أسبوع تعال لنجلس أمام الجميع ونباحث يعني من دون تحضير. قال لو لم أكن هكذا لقالوا عني كلامًا كثيرًا ولأخرجوني بسبب ذلك الوضع الذي كنت عليه هناك.
ألم يفعلوا ذلك بالسيّد القاضي؟ رشقوا بالحجارة وحطّموا زجاج المسجد الذي كان يصلي فيه، وسحبوا سجادة الصلاة من تحت رجليه، وتبرّع بعض الناس لقتله، وقد قرأ الرفقاء ذلك في النهاية، فما هي هذه المسألة؟ إنّها كلّها أحاسيس فلا تظنّوا أنّ هناك أحدًا يتّبع العقل، كلا، بل يذبحون أمامه البقر والأغنام وينصبون له أقواس النصر! الدنيا تسير على أساس الأحاسيس يا عزيزي! الجميع يتحرّكون على أساس الأحاسيس! إذا أراد إنسان أن يسير على أساس العقل فإنّ أقرب الناس إليه وأبعدهم يقفون في مقابله، أقرب الناس إليه يقفون في مقابله، فماذا على الإنسان أن يفعل؟ هل يترك؟ إن اتّبعهم خسر، إن لم يكن تابعًا لهم فعليه أن يواجه، عليه أن يواجه هذا وأن يواجه ذاك، عليه أن يتكلّم مع هذا بنحو، ومع ذاك بنحو آخر، جميع الناس يأتون ويقفون مقابل الإنسان.
ماذا كانت المشكلة بعد المرحوم العلاّمة؟
بعد المرحوم العلامة رضوان الله عليه أتدرون ماذا كانت مشكلتي؟ قالوا: لماذا لا تأتي وتكون كالآخرين؟! بكلّ وضوح وصراحة أقول للرفقاء ـ ولا تظنّوا أنّ ما أقوله لم يحدث فقد حدث لنا جميعًا ـ قالوا: عليك أن تأتي وتكون كالآخرين.
فقلت: ما معنى الآخرين؟ فإن كانت بمعنى مدرسة العلامة، فمدرسة العلامة لا تقول هذا.
يقولون: لا، عليك أن لا تتكلّم!
فقلت: هذه الأمور التي أراها إمّا حقّ وإمّا باطل، فإن كانت حقًّا فعلينا أن نُقبل عليها ولا داعي للقوّة، وإن كانت باطلاً فلماذا علينا أن لا نتكلّم؟! يعني تقولون إنّ علينا أن نسكت أمام الباطل ونمضيه وبعنوان انتسابنا إلى هذا الرجل العظيم نمضي هذه الأمور الباطلة ونقرّها ونؤيّدها، لا أفعل ذلك. كانت هذه التجاذبات الأولى.
وعندما رأوا أنّ هذا الأمر لم يتحقّق، جاءت الأحداث الثانية فصاروا يتكلّمون هنا وهناك، لقد صار هذا السيّد مستقلاً بنفسه، وتنحّى عن سائر الأقارب، واستقلّ بطريقه عن طريق أبيه، وجمع لنفسه جماعةً تحيط به، وانفصل عن المسير، وأرسلوا إليّ برسائل. فهذا كلّه ماذا؟ إنّه المرحلة الثانية، فوضعنا قطنة في أذننا وكنّا قد تعلّمنا ذلك، ففي النهاية تعلمناه. لقد كنت أقول للرفقاء: إنّ من يكون مع هذا الرجل الكبير شهرًا واحدًا يُدرك ذلك، ولا يحتاج إلى سنة وسنتين وعشرين سنة وأربعين سنة، كانوا يدعون إلى الموائد، ومن جهة أخرى كانوا يرسلون برسائل ناصحة ورسائل مهدّدة أن ماذا نفعل نحن؟ أنت ماذا تفعل؟! لقد أرقت ماء وجه أبيك وكلامًا من هذا النوع...
وعندما لم ينفع هذا أيضًا بدأت المرحلة الثالثة: يجب أن لا يسلّم أحد، يجب أن لا يتواصل أحد، يجب أن لا يتكلّم أحد، يجب... هذه المرحلة الثالثة ولا أدري متى تأتي الرابعة. وإلى الآن هذا ما حصل... طبعًا كثير منهم ندموا.
لماذا؟ لأنّنا لم نرد أن نرجّح أحاسيسنا، بل قلنا: إنّ طريق الله له مكانه والعواطف لها مكانها، الله له مكانه والنسب والحسب لهما مكانهما، طريق الله له مكانه والرحم له مكانه، طريق الله له مكانه والرفيق له مكانه، طريق الله له مكانه والأمور الاجتماعيّة لها مكانها فلكلّ شيءٍ من ذلك مكانه. أنا مخلصٌ لكم وعلاقتي بكم حميمة، أنا مع الجميع في هذا الطريق، نسمع الحق وإن شاء الله نوفّق لقبوله، لا أن نسمع الحقّ ولا نحتمله، هذا ما علّمونا إيّاه، رغم أنّه لا يحتاج إلى تعليم ومع ذلك علّمونا إيّاه، فإذا قصّرنا في هذا الأمر خسرنا، نحن نظنّ أنّه لا بدّ أن نكون بمرأى ومسمع وفي الأمام.
كان المرحوم العلامة يقول يأتي رجل فيتناول سيجارةً على رأس الزقاق، ثم يأتي إلى منزلي فيقبّل يدي، يظنّ أني لا أدرك ولا أرى. فعلى رأس الزقاق وعند مفترق الطرق يتناول سيجارته ثمّ يأتي إلى هنا، فيا أيّها الذي تخفي نفسك عن أعين العلامة قم بعملٍ بحيث لا يراك العلامة أيضًا في الملكوت، هناك لا تبلغ قدرتك فالملكوت ليس بيدك، الملكوت بيده، في الظاهر يمكنك أن تفعل شيئًا ما وتمنع هذه الجدران وبعد المسافة من الرؤية، فتذهب وتختبئ هناك وتدخّن سيجارتك ـ والتدخين حرام، ومن يدخّن فقد ارتكب عملاً محرّمًا فهذا رأي المرحوم العلامة وفتواه ـ ثم بعد ذلك تدّعي أنّك تلميذ ومريد لي؟! تذهب إلى رأس الزقاق وتدخّن ثمّ تأتي وتقول: السلام عليكم وتقبّل الأيدي؟! امض إلى عملك أيّها الصبي! لماذا تريد أن تقبّل اليد؟! من تريد أن تخادع؟! أتريد أن تخادع العلامة؟! بل أنت تخادع نفسك، تخادع خيالاتك! إنّه يرى، مججت بضعة مجّات، أتريد أن أعدّها لك؟ مججت ثلاثين مجّة، أتريد أن أخبرك؟! فما هذا؟! هذا السلوك هو السلوك الظاهر، وذاك السلوك هو السلوك العقلانيّ.فلانٌ رأى العلامة، لا حاجة للعلامة وغيره، وجدانك وإلهك وإشراف الولاية على جميع وجودك يكفي، هل لا بدّ أن يكون أمامك إنسانٌ كالعمود طوله سبعون مترًا حتى تخاف؟! أم لا بل يكفي أن تشعر بنفسك أنّك تحت إشراف وليٍّ، وليّ عالم الإمكان الإمام عليه السلام، فكيف يمكننا أن نغمض أعيننا بعد ذلك، غاية الأمر أنّ إمام الزمان عليه السلام لأنّه لم يأت الأمر بالظهور بعد وإلا إذا ظهر فإنّ مقامه لا يختلف عمّا هو عليه الآن قيد أنملة، لا تظنّوا...! هكذا كما هو الآن، الإشراف الذي لديه الآن، الولاية التي لديه الآن، السيطرة على النفوس التي لديه الآن، قد ذكرت لكم أنّه أقرب إلى كلّ واحد منّا من أنفسنا ومن طرفة عيوننا، فإمام الزمان هذا عندما يظهر يكون هكذا، غاية الأمر أنّه يكون قد ظهر في ذلك الوقت. فإلى حين الظهور نحن لم نكن نراه بيننا، وبعده صار هناك رجلٌ يجلس هنا جانبًا يُدعى إمام الزمان. هذا هو الفرق، لا يختلف الحال أبدًا، بماذا يختلف؟! لا يختلف مقام إمام الزمان عند الظهور قيد أنملة، لا يختلف قيد أنملة، هذه هي حقيقة الأمر. المهمّ أن نتغيّر نحن، نقول: بما أنّ إمام الزمان قد جاء فعلينا أن نطيعه، بما أنّه جاء وجلس إلى جانبنا فعلينا أن نصغي، هؤلاء الذي يأتون وهم علماء ومعمّمون ونبحث معهم في المجلس أنّ التدخين محرّم فيأتون بألف دليل ودليل على أنّه ليس حرامًا، ولكن عندما يأتي إمام الزمان يضعون سجائرهم في جيوبهم، حسنًا إن كان حلالاً فلتدخّن في النهاية.
ـ لا، لا يمكن أن ندخّن أمام الإمام، ربّما كانت فيها شبهة، ربّما تأذى الإمام.
والآن هو أيضًا كذلك، بماذا يختلف الأمر؟ فإذن نحن أيضًا في الأحاسيس، نحن أيضًا اجتهادنا اجتهادٌ يعتمد على الأحاسيس، نحن أيضًا فتوانا فتوى تعتمد على الأحاسيس، نحن أيضًا أراؤنا آراءٌ تعتمد على الأحاسيس، ونظريّاتنا نظريّات تعتمد على الأحاسيس، كلّ ذلك هو أحاسيس. إلا الإنسان الذي يأخذ الله بيده، فهنا لا كلام. نحن لا نتّهم أحدًا وليس هناك إنسانٌ معيّن، من كان كذلك فعليه أن يفكّر وأن يلتفت، هذه العلوم وهذه التجربة تساعد العقل، يأخذ العقل هذه العلوم وهذه التجربة ويستعملها ويطبّقها في المكان المناسب.
لقد كنت ناويا اليوم أن أتحدّث مع الرفقاء حول مسألة مهمّة هي المعيار في كيفيّة تأثير السلوك العقلاني واختلافه عن السلوك الظاهري، ولكن كما يلاحظ الرفقاء فوضعي لا يساعد، وآمل إذا وفّقني الله أن نتابع الكلام إن شاء الله في الجلسة اللاحقة.
اللهم صلِّ على محمّد وآل محمّد