المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةحاجة السلوك إلى التوفيق الإلهي
التوضيح
لقوله عليه السلام «وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ» جنبتان؛ جنبة ربوبيّة، وهو ما شرَع به سماحة السيّد في محاضرة شرح عنوان البصريّ (147) وأتمّ الكلام عنها هنا. وجنبة خَلقيّة، وهو ما تناوله في الجزء الثاني مِنْ هذه المحاضرة، وهي جنبة تتمثّل بمقام الاختيار وتربية النفس وإعدادها. وفي الجملة سلّط الضوء على اختلاف المعارف ومستوى الفهم والإدراك والرؤية بين أهل الظاهر والعرفان، وأَثر ذلك؛ على ترتّب الأحكام الظاهريّة والسلوكيّة، وعلى الحياة الماديّة والمعنويّة، وعلى اختيارات الإنسان، وعلى مستوى الكمال والهداية والتفكُّر، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة.
هو العليم
الجنبة الخَلقيّة لقوله «وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ»
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٤۸
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
أتذكّر أنَّني تحدّثت للإخوة في المجلس السابق عن قول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ بعد أن طلب الأخير منه وصيّة، فبيّن الإمام لعنوان بعض الأمور ثمّ قال له: «وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ». وقلتُ للإخوة حينها أنَّ لكلام الإمام عليه السلام هذا وجهان – وكنتُ متصوّرًا حينها أنَّني سأتمكّن مِنْ تغطية كلا الوجهين في البحث – هما: الوجه الربوبيّ، والوجه الخَلقيّ الّذي هو مقام الاختيار وتربية النفس وإعدادها.
الوجه الربوبيّ لقوله «وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ»
لقد قلتُ في شرحي للوجه الأوّل۱ أنَّ كلّ ما يستطيع الإنسان نيله مِنْ درجات الكمال والهداية، سواء كان ذلك ابتداءً أم استدامةً واستمراراً، هو بتوفيقٍ مِنَ الله، ولا يوجد أيّ دخل للإنسان في هذا المجال. فلا يمكن للإنسان التدخّل في عمل الله، فالله هو الّذي يختار الطريق المناسب الّذي يهدي بواسطته عباده. ولَمَّا كان هذا الموضوع بحاجة إلى مزيد مِنَ الشرح والتوضيح، فسأتوسّع – إن شاء الله – في شرحه وتحريره في الجزء الثالث [مِنْ كتاب أسرار الملكوت] والّذي هو قيد التأليف٢، فإن وفقني الله سأعمل بحوله وقوته على شرحه بتفصيل أكبر هناك. ولكن مراعاةً لمقتضيات وظروف هذا المجلس أقول أنَّ الأمر المهمّ الّذي يجب علينا مراعاته هو ضرورة الطاعة والانقياد لأوامر الله الّتي رسمها لعباده في هذا الطريق. هذا هو الأمر المهمّ في القضية، أمّا ما يتعلّق بالكيفيّة الّتي ستتحقّق وتحصل بها تلك المطالب، فهو أمر خارج عن اختيارنا، شأنه في ذلك شأن الكثير مِنَ الأمور التكوينيّة الّتي هي خارجة عن إرادتنا واختيارنا. فعلى سبيل المثال:
لماذا خُلقنا في هذه السنة، أي في سنة ألف وأربعمائة وثمانية وعشرين للهجرة، ولم نُوجَد قبل مائة سنة ، أو لماذا لم نُخْلَق بعد مائة عام ؟ فإنّ هذا الأمرخارج عن إرادتنا.
أو لماذا لم نُخلق في عهد رسول الله أو في عهد الإمام الصادق أو الإمام السجّاد ؟ ولماذا لم نكن في [واقعة] كربلاء ؟ إنّ أمر ذلك كلّه ليس بأيدينا، ولن يسألنا الله عنه ولا منكر ونكير، وإنّما اقتضت سلسلة العِلل والمسبِّبات واقتضى عالم التقدير أن نُخلق في هذه البرهة مِنَ الزمان، وهكذا هو الأمر بالنسبة إلى المسائل الأخرى الّتي مِنْ هذا القبيل.
أو لماذا كان والدنا فلان ولم يكن رجلًا غيره، ولماذا كانت أمّنا هذه المرأة ولم تكن غيرها ؟ ولماذا تواجدنا في هذه البيئة بدلًا عن غيرها ؟ إنّ كلّ هذه التساؤلات ليست إلّا خيالات وأوهام، فلا ينبغي لأحد السؤال عنها، كما أنّه لا يمكن لفكر أو خيال الإنسان أن يوصله إلى أيّة نتيجة في هذه الأمور. نعم، إنّما اقتضت سلسلة العِلل لعالم المسبَّبات وعالم التقدير والمشيئة الإلهيّة أن يُخلق فلان في هذه البرهة مِنَ الزمان ومِنْ هذا الأب وتلك الأم وفي هذه الظروف وفي هذه المدينة وفي هذا المكان وفي هذه العائلة والأسرة. وهذا أمر بديهيّ وطبيعيّ. فيتوجّب على الإنسان أن يُقيِّم واقعه بناء على ذلك، وبناء عليه يؤدّي التكاليف الّتي فرضها الله عليه.
إنَّ هذا الموضوع دقيق للغاية، وهو ممّا يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار في التربية والإرشاد وفي تعيين التكاليف على الناس، حتّى التكاليف والأحكام الظاهريّة والعبادات؛ وهو أمر مغفول عنه [مِنْ قِبَل العلماء العاديّين]، أمّا بالنسبة لأولياء الله [فهم يعيرون] هذا الأمر (أعني الخصوصيّات الفرديّة للشخص) اعتبارًا كبيرًا في تعاملهم مع الآخرين، فهم يأخذون بالاعتبار البيئة الّتي وُلد وترعرع فيها الفرد وما ترك فيه مِنْ خصائص. فمنابع الوحي والتشريع تحسب للمحيط الثقافيّ الّذي نشأ فيه الفرد – والّذي يؤثّر عادةً في تكوين ثقافته وطريقة تفكيره – حسابًا كبيرًا في تعيين التكليف عليه.
أتذكر أنّ أحد الأطباء زار المرحوم العلّامة، عندما كان يسكن في مدينة مشهد وذلك في سنوات عمره الأخيرة على ما يبدو، وكان مِنَ الأطباء المعروفين لا في إيران وحدها [بل خارجها أيضًا]، ولا أريد أن أوضّح الكثير عن مجال اختصاصه، وخلاصة الأمر أنّه كان مشهورًا ومِن سكّان مدينة طهران وحاصل على شهادته مِنْ أمريكا، وكان قد تزوّج هناك مِن امرأة مسيحيّة اعتنقت الإسلام وبقي والداها على الديانة المسيحيّة، وهو مِنَ السادة على ما يبدو – إن لم أكن مخطئًا في ذلك – وقد أنجب منها ثلاثة أبناء. يقول الطبيب: عشنا لسنوات عديدة، وكانت بيننا وبين أهلها زيارات متبادلة، حيث كانوا يعيشون في مدينة أخرى .. عندما كنتُ أدخل البيت كنت أرى زوجتي – أحيانًا – مشغولة البال تفكّر في أمرٍ ما، وعندما أسألها عمّا يشغل بالها، لم تكن تجيبني بشيء. وفي أحد الأيّام عدتُ مِنَ المستشفى ولم أجد زوجتي في البيت، وهو أمر لم يحصل مِنْ قَبْل، وكذلك الأولاد لم يكونوا في البيت، ولعلّهم كانوا في مدارسهم أو أنَّها أرسلتهم إلى مكان آخر. وكان الرجل ينقل هذه الحكاية في حالة مِنَ التأثّر الشديد. يقول الرجل: عندما فتحتُ خزانة الملابس، لم أجد ملابسها وحقيبتها وأغراضها الشخصيّة، فأصابني الذهول لدرجةِ أنّي جلستُ على الأرض دون اختيار، وتألّمتُ كثيرًا ممّا حصل. ثمّ تابع الرجل الموضوع فوجد أنَّ زوجته قرّرت قطع علاقتها به نهائيّا والعيش مع والديها. فاتصل بها تلفونيّا، فقالتْ له وهي تبكي بأنَّها لا تستطيع الاستمرار في حياتها الزوجيّة معه، وأنَّها كانت تعاني مِنْ عذاب الضمير خلال تلك الفترة، وأنَّها عادت إلى المسيحيّة نتيجة ضغوط مارسها والداها عليها بعد اعتناقها الإسلام. فكانت تلك الضغوط قد تجاوزت قدرتها على التحمّل، والّتي وصلت إلى حدّ تهديدها بالتبرّئ منها واعتبارها ابنة عاقّة إن لم تعد إلى المسيحيّة، الأمر الّذي لم تستطع أن تتحمّله بسبب شدّة حبّها لوالديها وصلة الرحم الشديدة بينهما.
ولَمّا لم يكن الرجل قد تعرّف على المرحوم العلّامة في ذلك الوقت، لجأ في سؤاله حول هذا الموضوع إلى آخرين، فأجابوه بأنَّها مرتدّة عن الإسلام ويتوجّب عليه الانفصال عنها، إذ أن البينونة والانفصال قد وقع شاء أم أبى ولا يمكنه الرجوع إليها أبدًا. وبناء على ذلك عاد الرجل إلى إيران وتزوّج مِنْ امرأة أخرى.
حسنًا، انظروا الآن كيف ستتبدّل هذه المسألة عندكم إلى مسألة عاديّة وقابلة للهضم. وفي بيان ذلك نسأل: ما هو مستوى المخزون العقائديّ لِمَنْ تربّى وترعرع في بيئة مثل تلك البيئة، وما هو مقدار ما فهمته تلك المرأة مِنَ المسيحيّة ؟ فلعلّ ما عرفته عن المسيحيّة لا يتجاوز ما عرفته عن الإسلام خلال سنوات اعتناقها الإسلام. ثمّ ما هو مقدار ما تمّ تلقينها إيّاه مِنْ المعتقدات الإسلاميّة خلال هذه الفترة ؟ فلعلّه لم يتجاوز كيفيّة أداء الصلاة والتلفّظ بعبارة «ولا الضآلين» و «سبحان ربي الأعلى وبحمده» لا غير. ولْننظر الآن إلى طبيعة إسلام الناس حولنا، سنرى أنّه لا يتجاوز أداء الصلاة وقراءة سورة الحمد وسورة أخرى؛ فلو سُئل أحدهم عن اسم والد الإمام الجواد أو الإمام الهادي، لعجز عن الجواب، فهم لا يعرفون شيئًا عن الأئمّة. فأيّ إسلام هذا الّذي لا يعرف معتنقوه حتّى أسماء أئمّتهم! والحال أنّ [معرفة الأئمّة] واحدة مِنْ أكثر الأمور بداهة. أمّا معرفة الصلاة، فيستطيع حتّى مسجل الصوت قراءة ما يقرؤه الإنسان في الصلاة، فلا يُسمّى المرء مُسلمًا لمجرد أدائه الصلاة أو نطقه بالشهادتين .. كلّا، بل لا بدّ مِنْ أخذ أمور أخرى بعين الاعتبار أيضًا؛ فلا بدّ مِنْ مراعاة قدرة المرء على استيعاب المعتقدات، هذا أوّلًا. وثانيّا – وهو أهمّ مِنَ الأوّل – أن يؤخذ بالاعتبار مدى نفوذ ورسوخ هذه المعتقدات في النفس، ذلك الرسوخ الّذي يجعل صاحبها يثبت ويستقيم على معتقداته. أمّا الأمر الثالث فهو [التدقيق] في مصدر هذه الاعتقادات، أي مَنْ الّذي بَيّن هذه المعتقدات للناس؛ هل سمعوها مِنْ فم الإمام نفسه، أم تلقوها مِنْ أناس عاديِّين، إذ الفرق بين الحالتين كبير.
فعندما شرح الرجل قضيته للمرحوم العلّامة، قال له المرحوم العلّامة: لم يكن لازمًا عليك أن تنفصل عنها. فانظروا إلى الفرق بين هاتين الرؤيتين للمسألة۱ .. إن وُفِّقتُ سأنشر رسالة – هي قيد التأليف الآن – متعلّقة بموضوع الارتداد [عن الإسلام]، وهو موضوع في غاية الأهميّة وحيويّ، خصوصًا في هذه الأيّام الّتي تُطرح فيها بعض المسائل المتعلقة بالارتداد، حيث يجري الاستشكال على الإسلام بناءً على ما سمعوه مِنْ طروحات وأقاويل مِنْ هذا وذاك حول هذا الموضوع، فإن تمّ نشر تلك الرسالة٢، فسيرى الإخوة كيف أنَّ موضوع الارتداد هو موضوع دقيق وحسّاس للغاية ويتطلّب البحث والتأمّل الكبيرين.
يجب عدم الغفلة عن أيّ جانب ولكلّ شيء مكانته الخاصّة
وبناءً على هذا [كيف يمكن] تقيِّيم وضع هذه المرأة المسيحيّة الّتي اعتنقتْ الإسلام، والّتي لم تكن مسيحيّتها راسخة، ولا إسلامها كذلك، ثمّ عادت إلى المسيحيّة بناءً على ما قادها إليه تفكيرها مِنْ ضرورة رضا والديها والامتناع عن أذيّتهما، وهو أمر في غاية الأهميّة. نعم، نحن نؤمن بما جاء في الآية وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما٣، فطاعة الأب والأمّ لا تجب عند وقوفهما بوجه الأحكام والتعليمات الإلهيّة وإذا دعوا إلى ما يخالف رضى الله، بل تحرم طاعتهما في مثل هذه الحالة، ومع هذا يجب التعامل معهما بلين وبكلّ احترام وأدب. فعدم الطاعة واجب في محلّه، كما أنَّ رعاية المقتضيات التكوينيّة محفوظة في محلّها أيضًا.
هذه هي حقيقة التوحيد، وهذا ما علّمتنا إيّاه مدرسة العرفان؛ فمدرسة العرفان تقول أنَّ ما يستحق المدح والثناء هو التوحيد لا غير، ولا مجال في التوحيد للرأفة والعاطفة وغضّ الطرف عن المسائل، ومع هذا فإنَّ مكانة الوالدين لا تفقد قيمتها في سلسلة مراتب الوجود، وهما جزء منها، وهو الأمر الّذي نغفله؛ فنحن نعتقد أنّه في سيرنا يجب أن نأخذ جهة واحدة فقط بعين الاعتبار ونهتمّ بها، ونتخلى عن سائر الجهات الأخرى ونجعلها فاقدة للقيمة، والحال أنّ هذا أكبر خطإ يمكن ارتكابه، إذ لكلّ شيء مكانته الخاصّة في مدرسة التوحيد والعرفان، كما أنّ لكلٍّ مِنْ قطّة المنزل وكلب الحراسة والخدم مكانته الخاصّة به.
نعم، لا يجوز للإنسان التعسّف في التعامل مع الخادم، بل يجب عليه أن يتعامل معه في حدود الواجبات الّتي عليه القيام بها؛ فلا يحقّ لنا النظر إليه باحتقار لكونه خادمًا. فإن فعلنا ذلك فسيحطّ الله مِنْ مكانتنا. وما دام هذا الخادم قد قَدِم ليؤدِّي عملًا ما، فعليك أن تعطيه أجره بكلّ عزّة واحترام لا غير، ولا يجوز لك أن تتجاوز هذا المقدار أبدًا. ويجب أن لا تتفاوت نظرتك ومعاملتك له عن نظرتك ومعاملتك لابنك. نعم، علينا في الوقت نفسه ألّا نسمح له باستغلال هذا النوع مِنْ التعامل استغلالًا سلبيّا، فيجب ملاحظة هذا الجانب أيضًا. فطريقة التعامل معه يجب أن تكون منطقيّة بحيث لا تتحكّم فيها الأهواء النفسيّة، وأن تكون مبنيّة على القوانين والقواعد العقلانيّة الّتي تستند على مباني الوحي والشريعة. وعليه يمكن تكليفهم بإنجاز الأعمال وتنبيههم وأمرهم بالانضباط ومراعاة نظام العمل وموافقة القوانين والمقرّرات في بيئة العمل، فكلّ هذا مطلوب. أمّا أن يتمّ التعامل معهم بنظرة الوالي والحاكم والآمر والناهي، وأن يُنظر إليهم باستخفافٍ واحتقارٍ واستصغارٍ، وأن يتمّ تصنيفهم في مرتبة اجتماعيّة متدنيّة، فجميع هذه الأنواع مِنَ المعاملات باطلةٌ، وسيقوم الله يوم القيامة بتبديل الرُتَب فيجعل الأوّل ثانيًا والثاني أوّلًا، نعم، سيجعل ذلك الخادم في الدرجة الأولى ويجعلك في درجة أدنى منه، حيث سيُقال لك: لقد كنت غافلًا عندما رأيت نفسك تحتلّ الدرجة الأولى، وأنا أراك تستحق الدرجة الثانية. هكذا هي رؤية مدرسة العرفان، وهكذا يكون الأمر بالنسبة إلى الموضوع الآنف الذِّكْر، فلكلّ شيء مكانته الخاصّة به، وللأب والأم مكانتهما الخاصّة بهما.
مراعاة التعليمات السلوكيّة أهمّ وأوجب للسالك
عندما كان المرحوم العلّامة يسكن في مدينة طهران وذلك في عهد النظام الإيرانيّ السابق، جاءه أحد تلامذته وقال له: إنَّ أبي وأمّي شيوعيّان – لا أتذكّر الآن إلى أيّ حزب أو مجموعة كانا ينتميان ولكنّهما كانا شيوعيين – ولا يعتقدان بوجودِ الله ولا يؤمنان بنبيّه، فكيف عليّ أن أتعامل معهما ؟ فقال له المرحوم العلّامة: بما أنَّهما والداك، فعليك أن تتعامل معهما كما لو كانا مِنْ شيعة أمير المؤمنين. [أقول] مَنْ أطلق هذا الكلام لم يكن إنسانًا غير متعلم، بل إنَّه رجل درس العلوم الدينيّة وهو يعرف [دين] الله والرسول والأئمّة ويعرف مذهب التشيّع جيّدًا، وهو يعلم الحكم الظاهريّ وما يترتّب على الأمر مِنْ مسائل كالطهارة والنجاسة – بحسب فتواه هو – فهو مطّلع على كلّ شيء، ومع كلّ هذا فهو يقول له: عليك أن تطيعهما، فإن لم تفعل لن تكون مِن تلامذتي، فهذا المكان ليس حزبًا أو جمعيّةً ينتمي إليها الفرد ويتردّد عليها، [فإن لم تلتزم بما قلته لك] لن تتمكّن مِنَ الاستفادة منِّي .. فمتى تستطيع أن تستفيد منِّي ؟ إنَّك تستطيع ذلك متى ما احترمت والديك الّذين لا يؤمنان بالدين ولا يباليان بأمره. أترون كيف تجري الأمور هنا، [فهو يقول له]: متى ما احترمتهما ستكون واحدًا مِنْ تلامذتي. [وهذا يعني] أنّك لا تستطيع أن تقنع نفسك بكفاية أذكار السجود أو الصلاة لساعة أو ساعتين قبل آذان الصبح، لأنّ هذه الأعمال تمثّل جانبًا واحدًا فقط مِنَ القضيّة، أمّا الأهمّ بالنسبة للسالك هو التزامه بتلك التعليمات، فهي تعتبر أهمّ بألف مرّة مِنَ أداء صلاة الليل والإتيان بالأذكار وزيارة مشاهد الأئمّة، فتلك التعليمات أوجب مِنْ كلّ هذا. فالأمر المهمّ هو أن تنظّم أفكارك وفقَ قوانين هذه المدرسة، وبدون ذلك فإن زرت الإمام الرضا ألف مرّة [لن تستفيد مِنَ الزيارة كما ينبغي].
ألا يذهب الناس للزيارة، ويريدون بذلك اكتساب الثواب، ولكن كم يحصّلون مِنَ الثواب؟! .. واتّفاقًا فإنَّ هذه الأيّام هي أيّام [الزيارة الخاصّة بالإمام الرضا]، وبما أنّنا جئنا على ذكر اسم الإمام، أقول أنّه على الإخوة الاهتمام بأمر الزيارة، فأنا أتذكر أنَّ المرحوم العلّامة لم يكن يترك زيارة يوم الثالث والعشرين [مِنْ ذي القعدة] طوال حياته، ولقد سمعته يقول: شوهد الكثير مِنْ أولياء الله – ولم يذكر أسماءهم – يأتون مِنْ أقصى بقاع الأرض، وبِطُرُق غير عاديّة، للحضور في مدينة مشهد في اليوم الثالث والعشرين. فالأمر مهمّ إلى هذا الحدّ. فإنَّ بركات الإمام الرضا غير قابلة للوصف .. ألم يقل عنه رسول الله – وقد ذكر المرحوم الشيخ القميّ هذا الحديث في كتاب مفاتيح الجنان وذكره المرحوم العلّامة في كتاب الروح المجرّد۱ على ما يبدو – أنّه تُدفن بضعة منّي بخراسان، مَنْ زاره عارفا بحقّه كانت له حجّة وعمرة مقبولة. فتعجّبت عائشة قائلة: ثواب حجّة ؟! فقال الرسول: بل حجتين. [فاستمرت عائشة تتعجّب، وهو | يزيد في كلّ مرّة قائلًا] وعشرة حِجج، وألف حجّة وعمرة مقبولة .. حتّى سكتت عائشة. ولو أنَّها استمرّت في تعجّبها لقال لها الرسول: مليون حَجّة، وعشرة ملايين حجّة. ولكن بما أنَّها سكتتْ، فتوقف الرسول عند ذلك الحدّ.
فإلى أيّ شيء يعود هذا التفاوت ؟ إنَّه يعود إلى الاختلاف في درجات المعرفة؛ قد يزور أحدهم الإمام فيعطيه الله ثواب حجّة، ويعطي غيره ثواب عشرة حِجج، ويعطي ثالثًا ثواب مائة حجّة. أمّا تلك الزيارة الّتي يزورها المرحوم العلّامة أو السيِّد الحدّاد للإمام الرضا هي مِنْ تلك الزيارات الّتي ثوابها مليار حجّة! لا، بل الصواب أن نقول: إنّ ثوابها لا يقدّر بالأعداد، لأنَّ الأمر يخرج هنا عن إطار الثواب والأجر؛ فما ذكره الرسول في هذه الرواية ناظر إلى الزيارة العاديّة الّتي تدخل ضمن نطاق العدد والمقدار وما يمكن أن يُتصوّر له معادل، أمّا في أفق أولياء الله فلا مجال فيه لتلك المعادلات، فزيارتهم لا تُعادَل بشيء، وذلك لأنَّ الوليّ ذاهب في زيارته للقاء نفس تجلِّي الإمام في ذلك المقام الأشدّ والأعلى والأقرب، حيث الأمر مختلف هناك .
فهذا التفاوت يعود إلى التفاوت في درجات معرفة الناس، فمنهم مَنْ يعرف الإمام معرفة عاديّة، ومنهم مَنْ تكون معرفته فيه أعلى، وهكذا يتمّ منح الناس الثواب المتناسب مع مقدار معرفتهم وإخلاصهم. [مثلًا] يأتي شخص ويجلس مقابل [ضريح] الإمام فتتجمّع حوله مجموعة بحيث يكونون مقبلين عليه وظهورهم [للضريح]، فهذا نوع مِنْ أنواع المعرفة. ويأتي آخر إلى حرم الإمام، فيُعطي المصوّر ظهره لضريح الإمام مِنْ أجل تصوير هذا الرجل، [فهذا نوع مِنَ المعرفة]. فدرجات المعرفة تختلف مِنْ رجل لآخر. هذا مع كون الرجل يدّعي أنَّه مِنَ العلماء ويتزيَّى بزيّهم ويعتقد أنَّ له نصيب مِنَ المعرفة، غير أنّ التفاوت بينه وبين غيره كالتفاوت المشار إليه في البيت التالي:
ميان ماه من تا ماه گردون | *** | تفاوت از زمين تا آسمان است |
[يقول: إنَّ الفرق بين قمري والقمر الدوّار كالفرق بين الأرض والسماء]
أي أنّ قمره على الأرض أمّا قمرنا ففي السماء .. فالفرق واضح جدّا بين [مَنْ له تلك المعرفة المذكورة في الأمثلة أعلاه] وبين مَنْ جلس على الأرض يمسح رأسه وعينيه بتراب نعال زوّار الإمام عندما سَمِعَ شخصًا [يقول له: أيّها السيّد إنّ الخشب لا يُقبّل]، وهي الحكاية الّتي لا بدّ أنّ الإخوة قد قرؤوها۱. فهل معرفة هذين الشخصين بنفس المستوى ؟!
على أيّة حال، هذه هي مباني هذه المدرسة الّتي تدعو إلى الحقّ. فالوالدان جزء مِنْ حلقات سلسلة الحقّ هذه. أمّا ما يتعلّق بالدين الّذي يعتنقه الوالدان والمدرسة الّتي يتّبعونها، فهم المسؤولون عن ذلك وحسابهم على ربّهم .. فهل أُوكِلَت إلينا مهمّة منكر ونكير حتّى ندقّق في صحيفة أعمالهم ونحاسبهم ؟! إنَّ الأمر المهمّ بالنسبة لنا هو أن نقوم بإنجاز التكاليف المترتّبة علينا لكي ننال ما ينبغي نيله مِنَ الثواب. ولو تمكّن أحدنا مِنْ أداء واحد مِنْ التكاليف وتمكّن مِنْ كشف السرّ الكامن فيه وتعمّق فيه، لعلم عندها أنَّ ما يناله مِنْ ثوابِ أدائه للتكليف [السلوكيّ هذا] يفوق خمسين مرّة ثواب أدائه لتلك التكاليف المختلفة بطبيعتها عن هذا النوع مِنَ التكاليف [السلوكيّة]. فما يمكن أن يحصل للمرء مِنْ كمال نتيجة قيامه بهذا العمل [مع أبوين غير مستقيمين]، هو أكثر بكثير ممّا يمكن أن يحصل عليه إن قام بذات العمل مع أبوين صالحين، «ولا يعرف هذا إلّا العارفون العالمون بأسرار الله وبأسرار التربية والتزكية الإلهيّة»، فهؤلاء وحدهم القادرون على إدراك السرّ الكامن في الأمر، فهم يعلمون أيّة أسرار مخفيّة وراء اختلاف الدرجات، فهي أسرار إن راعاها يستطيع أن يصل إلى مبتغاه. حسناً، لقد ابتعدنا عن موضوع بحثنا قليلًا.
العارف يرتّب الأحكام بحسب خصوصيّة كلّ فرد
لم تكن ولادة تلك المرأة المسيحيّة في عائلة مسيحيّة باختيارها يا عزيزي، ولم تكن نشأتها في تلك البيئة الثقافيّة باختيارها، ولم تُلقّن ما لُقِّنتْ باختيارها، [هذا مِنْ جانب، ومِنَ جانب آخر] لقد كان اعتناقها للإسلام وليدَ عوامل متعدّدة؛ منها المودّة الّتي حصلت بينها وبين ذلك الشاب عند لقائهما في الجامعة أو الشارع أو المحل التجاريّ، فلعلّ تسعين بالمائة مِنْ سبب اختيارها للإسلام هو علاقة الحبّ الّتي ربطتها بذلك الشاب، فلولا ذلك لعلّها لم تكن لتعتنق الإسلام ولبقيت على مسيحيّتها، إذ لم يكن هناك ما يدعوها لأن تصبح مسلمة، فذلك الحبّ هو الّذي جعلها تميل إلى الإسلام.
وبناءً على هذا لم يكن إسلامها مبنيّا على أساس رصين، ثمّ اطّلعت على بعض التعليمات الإسلاميّة الّتي رأتها تعليمات جيّدة، سواء كانت هي بنفسها مَنْ اطّلعت أو كان ذلك بإرشاد مِنْ شخص آخر. ولكن علينا السؤال هنا عن مقدار نفوذ هذا الإسلام ورسوخه في قلبها، فهل كان بحيث تستطيع الصمود أمام الهجمات الّتي ستتعرّض لها والقضايا الّتي ستواجهها في المستقبل ؟
عندما يتمعّن الإنسان فيما حصل لتلك المرأة، سيجد أنَّ رجوعها عن إسلامها قد لا يُسبّب سخط الله وغضبه وعدم رضاه عليها، وليس هذا فقط بل ربما يمتدحها الله على ما فعلته، لأنّها فعلتْ ذلك رعايةً لوالديها ورغبةً في عدم إيذائهما وحرصًا على عدم التفريط بصلة الرحم .. فلا بدّ أنّ الضغط النفسيّ الّذي تعرضت له كان شديدًا بحيث أجبرها على الانفصال عن زوجها وأولادها، (طبعا هي كانت قد اصطحبت أولادها معها حينها)، ولكن لعلّها كانتْ مستعدّة للتخلّي عن أبنائها أيضًا، إن تطلب تمسّكها بما تعتقده وتراه حقّا ذلك. أفلا يرضى الله عن هذا التصرّف ؟
انظروا كيف يحفظ الله ويحمي عبده الّذي يسعى في قرارة نفسه إلى العمل بموجب القوانين ووفقًا للمعتقد والمبدأ الّذي يتبنّاه، ذلك العبد الّذي لم تكن سعة تفكيره تتجاوز حدّ كذا، ولم تكن تسمح له بالتصرّف بأفضل مِنْ ذلك .. ألا تكون هذه المرأة مشمولة لآية الاستضعاف القائلة {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطيعُونَ حيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبيلًا}۱ ؟ فلو كان هؤلاء المستضعفين يهتدون سبيلًا لبدّلوا مسيرهم، ولو كانت تلك المرأة قد أخذت الدين الإسلاميّ مِنْ مصدر آخر لَمَا عادتْ إلى المسيحيّة، ولو كانت تعيش في بيئة أخرى ربّما لم تكن لتتأثّر وترضخ للضغوط الّتي تعرضت لها. ولهذا تتفاوت رؤية أهل المعرفة لأصناف الناس؛ فتراهم يتعاملون مع كلّ واحد منهم بحسب ما له مِنْ خصوصيّات، ويجعلون له حكمه الخاصّ به، فهم لا يرون أنّ الأحكام تنطبق على جميع الناس بشكلٍ واحدٍ.
الهداية بيد الله حصرًا وتختلف باختلاف الأفراد والأقوام
فهذا هو معنى الهداية الّتي يهدي بها الله عباده، هذه الهداية بيده وحده، وهي على أنواع مختلفة؛ فهناك الهداية الخاصّة كالهداية المختصّة برسول الله والأئمّة عليهم السلام، فأمرهم يختلف عن غيرهم مِنَ الناس. وهناك هداية لباقي الناس، الّتي يمكن أن تكون على يدِ رجل كامل كالإمام عليه السلام أو أحد أولياء الله، ولعلّها تحصل على يدِ رجل صالح أو حتّى على يدِ رجل عاديٍّ.
فجميع هذه الطُرق رسمها الله لعباده، وهي تتمّ بإرادته وبحسب ما يراه مِنْ مصلحة. وعليه [فقول البعض:] ليتني ولدتُ في ذلك الزمان، أو ليتني لم أُخلق في هذا الزمان .. [فهو كلام باطل لأنَّ] هذه الأمور ليست موكولة إلينا، وهي تعتبر تدخّلًا في اختيار ومشيئة الله. [وعلينا أن نعرف] أنَّ الأمر المهمّ بالنسبة إلينا هو أن ننظر إلى ما اكتسبناه بالفعل، [ونترك ذاك الكلام الباطل لأنّه] لو ولدنا في عصر غير هذا العصر، لعلّنا سنفقد مكانتنا الفعليّة وربما كان وضعنا سيكون بشكل آخر. ترى الكثير مِنَ الناس يرددون هذا الكلام [كقولهم: ليتني ولدتُ في ذلك الزمان، أو ليتني لم أُخلق في هذا الزمان]، سواء كانوا يمزحون أو جادّين فيما يقولون، فهم مخطؤون في تصوّراتهم، [لأنّ الأمر هو كما قال حافظ عليه الرحمة:]
(خوش بود گر محك تجربه آيد به ميان * تا سيه رو بشود هر كه در او غش باشد)۱
[يقول: أتمنى أن تحلّ ساعة الامتحان، لكي يسوّد وجه مَنْ لم يكن صادقًا وكان في قلبه غشٌّ]
وذلك لأنّنا لو كنَّا نعيش في ذلك الزمان، فمِنْ غير المعلوم أن لا نكون مِنْ زمرة الّذين هاجموا بيت بنت النبيّ .. ولو كنَّا نعيش في ذلك الزمان، وإن لم نكن مِنْ زمرة المشاركين في قتال ابن رسول الله٢، ولكن لعلّنا سنكون مِنَ الّذين امتنعوا عن نصرته على أقلّ تقدير. فعلينا أنّ نشكر الله كثيرًا ونحمده على أنّه لم يخلقنا في ذلك العصر ولم يبتلنا بمثل تلك النكبة، ونسأله أن يجعلنا فيما بقي مِنْ أعمارنا مِنْ زمرة المشمولين بعفوه ورحمته، فهذا ليس بالأمر الهيِّن.
الإدراك يعني أنّ باب الهداية قد فُتح
على كلّ شخص أن يلاحظ وضعه الفعليّ، ثمّ يطبّق الأمر الّذي يجلب رضا الله تعالى في ذلك الوضع، وعليه أن يراجع ويتحقّق بصورة مستمرة ليرى إن كان وضعه وما يفعله يتوافق مع هدفِه وغايته، وهو الأمر الّذي يتوجّب على المرء رعايته في جميع شؤونه؛ فإن وجد أنَّ سكناه في بيئة معيّنة يضرّ به وبزوجته وأبنائه، أو إن وجد أنَّ توطّنه في بلاد الكفر مضرّ له، فلا يستطيع الاكتفاء بالقول: هذه هي البيئة الثقافيّة الّتي وُلدتُ وترعرعتُ فيها. [أقول:] إن كنتَ قد ولدتَ في تلك البيئة، فهذا أمر يعود إلى ذلك الزمان، أمّا الآن وقد عرفتَ [ما يترتّب على بقائك مِنْ ضرر] فعليك أن تتّخذ قرارًا في ذلك؛ فإن رأى أنَّ بقاءه سيضرّ به، فلا يجوز له أن يقول: لقد كان والداي كذا وكذا، أمّا فلان فوالديه كانا بشكل مختلف ... بل عليه أن يتصرّف وفقَ ما يدركه الآن.
إن هذا الإدراك هو عبارة عن نافذة فُتحتْ للمرء أي هو عبارة عن طريق وُجِد له، فهو بذلك قد شملته الرعاية ليضع قدمه على طريق الهداية والتكامل. إنَّ تلك النافذة كانت مغلقة قبل أن يُدرك المرء هذه الحقائق ويعيها، والطريق كان لا يزال مسدودًا أمامه، وملفّ هدايته لم يُفتح بعد، أمّا الآن وقد وصلت هذه الحقائق إلى مسامعه وأدركها، فإنَّ هذا الإدراك للحقائق يعني أنّ باب الهداية قد فُتح له، ويعني {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتيمًا فَآوى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى}۱، فمعنى [كلمة «هدى» في الآية] هو هذا الإدراك للحقيقة في هذه اللحظة والساعة، أي في الساعة الحادية عشر والربع مِنْ يوم الجمعة وأنت جالس في هذا المكان، وفي تلك اللحظة الّتي فتحت فيها كتابًا مِنْ كُتب العظماء وقرأت صفحة مِنْ صفحاته.
لماذا [لا نقتنع أنَّ باب الهداية قد فُتح لنا، فهل مِنْ اللازم] أن يحصل ذلك عن طريق أمر خارق للعادة ؟! ففي هذه المدرسة، الّتي هي مدرسة القرآن ومدرسة التوحيد ومدرسة العرفان ومدرسة أهل البيت – وكلّها مسمّيات لمدرسة واحدة – لا يُنظر إلى الطريقة الّتي حصلت بها الهداية بل يُنظر إلى أصل الموضوع. نعم، لا يُنظر إلى طبيعة الوسيلة هنا؛ [فقد تكون بما تقدّم] وقد يحصل أن تتدخّل العناية الإلهيّة وتتصرّف في شؤون وجود المرء وفي قلبه وضميره ونفسه عن طريق جبرائيل، فهذه وسيلة مختلفة إذ الهداية حصلت هنا بواسطة أمر غير عادي.
وعلَيّ أن أقول للإخوة هنا أنَّ هذا الأمر غير مختصّ بأناسٍ دون غيرهم [يعني أنه ليس مختصًا بالأنبياء والأولياء فقط]، بل إنَّه يحصل للجميع. فالأثر الّذي يحصل لك عندما تقرأ مطلبًا ويؤثر فيك بحيث يجعلك ترجع إلى نفسك وتتأمّل، هو نفسه الأثر الحاصل لذلك الشخص [بواسطة تلك العناية غير العاديّة]. فكلّ ما يناله الإنسان مِنَ الهداية، سواء كان في مجال العلم أو التبدّل الباطنيّ، هو مِنْ نفس القبيل ونفس السِنْخ.
كلّ شيء معجزة
و هذا هو معنى المعجزة؛ فتبدُّل نظرتك تجاه رجلٍ ما نتيجة قراءتك لصفحة كتابِ أحدِ العظماء هو معجزة. وهي لا تختلف عن معجزة الإمام الرضا عندما أشار إلى صورة الأسد المنقوشة على الستارة وبدّلها إلى أسد حقيقيّ واقعيّ يزن المئات مِنَ الكيلوغرامات، وأفترس هذا الأسد ذلك المشعوذ [في مجلس المأمون]، ثمّ مَثُل الأسد بين يدي الإمام وقال له: أأفعل نفس هذا الشيء بالمأمون ؟ فأُغمي على المأمون نتيجة لذلك، فقال الإمام للأسد: كلّا، اتركه. فكلتا المعجزتين لا تختلفان عن بعضهما، وهما صادرتان مِنْ مصدر واحد.
وعندما تسمع كلامًا، فيتسبَّب بتغيير أفكارك ويؤثّر في كلّ وجودك – ركّزوا انتباهكم جيّدًا لما أقول أيّها الإخوة فهذا موضوع غاية في الدقّة، وإن وفقني الله وبمشيئته سأشرحه لكم اليوم – ويجعلك مستعدّا باستعداد لم تكن تمتلكه مِنْ قَبل للإقدام على عمل معيّن، [فتلك معجزة أيضًا]. مثلًا: لو كنتَ قبل ورودك إلى هذا المجلس على خصومة مع رجل نتيجة سوء تفاهم وكان بينكما كدورة خاطر ولم يكن أحدكما على استعداد لرؤية الآخر والذهاب إلى منزله، فبعد ورودك للمجلس واستماعك للحديث الّذي أُلقي فيه زالت عنك تلك الكدورة اتجاهه ولم يعد في نفسك ما يمنعك مِنَ الذهاب إليه والسلام عليه والتصالح معه وتقبيله، فهذا التبدّل الّذي حصل في نفسك [معجزة]، لا يختلف أبدًا عن معجزة النبيّ عندما شقّ القمر، فكلاهما واحد ولكنّه قد ظهر بصورتين مختلفتين.
إلّا أنّنا نرى الأهميّة في معجزة شقّ القمر، إذ هذا القمر يبعد عن الأرض آلاف الكيلومترات، فكيف يمكن شقّه إلى نصفين بإشارة واحدة .. فذلك شيء عجيب بالنسبة لنا فترانا نتساءل عن إمكانيّة حصول ذلك. أمّا أن يحضر أحدنا مجلس العظماء ويستمع إلى كلامه ويتغيَّر حاله نتيجة لذلك [فلا نعتبره معجزة] !
كنتُ ألاحظ تبدّل حالي عند جلوسي لدى المرحوم الوالد رضوان الله عليه، فكنتُ أدخل الغرفة وأنا بحال معيّنة وعندما أغادرها أرى أنّ حالي قد تبدّل. إنَّ هذا الأمر لا يختلف عن معجزة شقّ القمر أبدًا، ولا فرق بين الحدثين [أعني شقّ القمر وتبدّل حالي]، فكلاهما أمر غير عاديّ وكلاهما مِنَ الله.
فهل يوجد فرق عند الله في أن يفعل هذا الأمر أو ذاك ؟ فلَمّا كان كلا الأمرين صادرين عن الله ومِنْ مقام الولاية – أي مِنْ إمام الزمان عليه السلام – [فلن يفرق الأمر]. فهل يختلف الأمر بالنسبة إلى إمام الزمان عليه السلام بين أن [تتبدّل حالتي] وبين أن ينقل جبل «دماوند»۱ مِنْ طهران إلى شيراز مثلًا ؟! نعم، إنَّ الأمر يتفاوت بالنسبة لنا، فما نعدّه أمرًا مهمّا هو نقل جبل «دماوند» ذي الارتفاع كذا والوزن كذا ! ولماذا نرى هذا الأمر [كنقل الجبل] أمرًا غير عاديّ ؟ إنَّنا نراه كذلك لأنّنا نتعامل مع ما يجري حولنا بواسطة حواسنا الظاهريّة، ولم نصل بعدُ إلى عمق المسألة، ولا نَصيب لنا بعدُ مِنَ المدّخرات العقلانيّة. فنحن لا نرى أنّ هناك مصدرًا واحدًا لكلّ ما يجري، بل ننظر إلى الحقائق على أنّها ناشئة مِنْ منابع مختلفة.
ما الّذي قاله المرحوم السيِّد الحدّاد في هذا المجال .. قرأنا في سِيَرِ العلماء وكراماتهم أنَّ أحدهم ذهب إلى بئرٍ في إحدى ليالي الشتاء المظلمة، فلم يجد في البئر ماءً، فناجى الله قائلًا: إلهي، إنّ عبدك أراد أن يصلي لك ولا يوجد ماء ليتوضأ به. فامتلأ البئر ماءً في الحال، فاستخدم الرجل الماء للتطهير والوضوء. فقال المرحوم السيِّد الحدّاد في هذا الشأن: إنَّني لا أرى أيّ فرق بين امتلاء البئر بالماء وبين فتح الصنبور (الحنفيّة) والوضوء مِنْ مائها، فكلاهما واحد وكلاهما معجزة ومصدرهما واحد، غير أنَّنا ولَمَّا كنَّا نهتمّ بالأمور غير العاديّة نرى أنَّ ما حصل كان معجزة، فامتلاء بئرٍ بعمقِ عشرين مترًا – وهو عمق لو سلّطتَ ضوء المصباح فيه لَمَا تمكّنتَ مِنْ رؤية قعره – والوضوء مِنْ مائه يعتبر معجزة بالنسبة لنا، أمّا إن حُجِزَ الماءُ بسدٍّ، وتمّ إيصال هذا الماء إلينا بواسطة شبكة مِنَ الأنابيب، فإنَّنا لا نرى ذلك معجزة بل نراه أمرًا عاديّا وطبيعيّا، هذا في الوقت الّذي يرى فيه العارف أنّ مصدر كلا الأمرين واحد، وأنّهما يطويان طريقهما مِنَ المبدأ الأعلى بنفس الأسلوب ويطويان سلسلة العلل على منوال واحد.
فالماء الصاعد في البئر عن عمق عشرين مترًا كان بقدرة وإرادة مَنْ ؟! فهل يتمكّن الماء بنفسه أن يصعد إلى الأعلى، فإن كان ذلك يحصل تلقائيّا فلماذا لم يحصل مِنْ قبل ؟! إنَّ هذا يدلّ على أنَّ الماء لا يستطيع أن يفعل ذلك بنفسه، بل قد تمّ كلّ ذلك عبر طيّ سلسلة مراتب، فأتت الملائكة وتصرّفت في ملكوت ومِثَال الماء وجعلته يصعد مِنْ عمق عشرين مترًا إلى السطح. فكلّ ذلك تمّ نتيجة لتصرّف الملائكة في ملكوت الماء لا في الماء [الماديّ] نفسه، وبذلك صعد الماء ووصل إلى سطح الأرض. إنَّ الملائكة الّذين قاموا بهذا العمل، هم أنفسهم الّذين عملوا على وصول ماء السدّ إلينا عبر شبكة الأنابيب. فلا فرق بين هاتين الحالتين، بل إنَّ كليهما واحد، فلو لم تشأ الملائكة ذلك لما كان الماء سيجري في الأنابيب، ولحصل انسداد فيها، ولحصل ألف عائق يحول دون وصول الماء إلينا، لماذا؟ لأنَّ الملائكة لم تشأ ذلك، بل شاءت عدم جريان الماء.
ونلاحظ أنّ أمثال هذا كثير الحصول في حياتنا اليوميّة؛ فقد يحصل أن تتعطّل إحدى الآلات في محل العمل أو في المنزل، ثمّ يزول هذا العطل تلقائيّا، فالعطل قد حصل دفعةً واحدةً، ثمّ زال بدفعةٍ واحدة أيضًا. وهذا كثير الحصول في حياة الإنسان؛ فنرى كيف يبذل المرء جميع وسعه وجهده لحلّ مشكلة ما دون أن يتمكّن مِنْ حلّها. نعم، يحصل الكثير مِنْ أمثال ذلك في حياتنا اليوميّة.
حذارِ أن يَسلب الله منك معرفة البديهيّات
قال لي أحد أصدقائي الأطبّاء (ولعلّه مِنْ أطباء الدرجة الأولى على مستوى العالم في طبّ العيون): أخذني العُجب بنفسي مرّةً وأنا أقوم بإجراء عمليّة جراحيّة في إحدى المستشفيات.
وهي عمليّة بالنسبة إلى هذا الطبيب لا تختلف عن قرض الأظافر بالنسبة إلينا، فعمليّة الماء الأبيض (الكاتاراكت) تعتبر عاديّة جدّا بالنسبة إليه إذا ما قورنتْ ببقيّة العمليّات المعقّدة. وكان هذا الطبيب قد قال لي بنفسه أنّه لا يوجد في العالم مَنْ يُجيد إجراء العمليات الجراحيّة مثله.
يقول الطبيب: عندما تقدّمتُ لإجراء العمليّة وقفتُ متحيّرًا لا أعرف مِنْ أين أبدأ بفتح الغشاء، أَمِنْ هذا الطرف أم مِنْ ذاك – هذا في الوقت الّذي كان قد أنجز [العديد] مِنْ هذه العمليّات – فما إن شرعتُ بفتح الغشاء مِنَ الأعلى بدل الأسفل – حيثُ سُلبتْ منه معرفة أبده البديهيّات في مثل هذه العمليّة، وهو الطرف الّذي يجب أن يبدأ به فتح الغشاء – التفتَ إليّ مساعدي وقال: ما الّذي تفعله ! عليك أن تبدأ مِنْ هذا الجانب. فقلتُ: نعم، إنَّك على حقّ.
قد يسدّ الله الطريق بوجه شخص بحيث لا يُفتح له إلى يوم القيامة، ويقول له: إن كنتَ متفاخرًا ومعجبًا بنفسك وترى أنّ كلّ ما أنت فيه هو من نفسك .. فخذ هذا إذًا، فلن تعرف مِنْ أيّ جهة يجب عليك أن تبدأ بفتح غشاء العين. هذا فضلًا عن لو أراد الله أن يسلب منك معرفة الطريقة الصحيحة لِإمساك مبضع الجراحة أو طريقة خياطة الجرح. فهل عرفتَ سرّ القضيّة الآن ؟ فإن عرفتها، فعليك أن تعلم أنَّ الّذي قال لك الآن أن تبدأ الجراحة مِنْ هذه الجهة، هو نفسه الّذي يجعلك – في الظروف العاديّة – تقوم بإجراء العمليّة الجراحيّة بانسيابيّة تامّة وبدون الحاجة إلى التفكير فيما يجب عليك فعله.
إنّ كِلا الأمرين يعتبر معجزة ... نعم كلاهما واحد، غير أنَّ الفرق يكمن في أنَّ الأمور قد انكشفت في الصورة الأولى ولكنّها لم تنكشف في الثانية [أي في الوضع الذي نحسبه عاديّا] حتّى الآن. فهل علمتَ ذلك الآن ؟
نقل لي شخص حكاية عن أحد أصدقائي الأطباء – والّذي قد يُعتبر عديم النظير في العالم في مجال جراحة القلب، وهو لا يعمل في إيران – قال فيها الطبيب: جئتُ إلى إيران مرّة، وعُرضتْ علَيّ حالة فتاة في التاسعة عشر مِنْ عمرها تعاني مِنْ مرضٍ في القلب، وكان الأطباء قد عجزوا عن علاجها وقالوا إنّها ستموت فور إجراء العمليّة الجراحيّة لها، لأنّ خلايا قلبها قد تلفت وفقدت قوامها – ونظير هذه القضيّة كثير، ولعلّكم تعرفون منها أكثر منّي، ولقد حصل لنا شخصيّا نظير هذا الشيء – ثمّ قال الطبيب: شرحت لذوي الفتاة خطورة حالتها. فقالوا لي: هذا آخر ما يمكننا عمله وليس لدينا خيار آخر، فافعل ما تريد أن تفعله. يقول الطبيب: فبدأتُ بالعمليّة الجراحيّة، وفتحت قلبها، ثمّ قمتُ بخياطته بتسعين عقدة، وعندما أتممتُ هذا شغّلتُ مضخّة الدم فبدأ النزيف عبر جميع تلك العُقد، وهذا يعني فشل العمليّة، فأمرتُ بالتوقّف عن فعل أيّ شيء.
إنَّنا نتذكر الله في مثل هذه الحالات فقط ! فقد كانتْ جميع الأجهزة مِنْ المضخّة وغيرها تعمل بشكل صحيح، وكانت الإشارات الّتي تظهر على الشاشة الطبيّة لمراقبة النبض وغيره سليمة، وكان المخّ يعمل بشكل طبيعيّ، فكان كلّ شيء حتّى هذه اللحظة على ما يرام، إلّا أنّه عندما تمّ تشغيل المضخّة بدأ الدم بالنزف.
[يُكمل الطبيب] قائلًا: فخلعتُ ملابسي الطبيّة وتوضأتُ وجلست جانبًا وصليت ركعتين وناجيت الله بعدها قائلًا: إلهي لقد وعدت والدَي هذه الفتاة خيرًا، وهم يأملون نجاتها، وها أنا أسلّم أمري إليك، فأنا عاجز عن القيام بأيّ عمل آخر غير الّذي قمتُ به .. وفجأة جاؤوني وقالوا لي: إنَّ نزف الدّم قد توقّف. [وبعد أن انتهيت] خرجتُ إلى والدَي الفتاة قائلًا: لقد وهب الله ابنتكما عمرًا جديدًا، فقد ماتت ثمّ عادت إليها الحياة مجدّدًا.
إنَّ الله يُرينا هذه الأمور في حياتنا، ونحن نرى أنَّ ما يحصل هو معجزة، ولقد كانت معجزة حقّا، فلم يكن مِنْ قبيل السحر، فقد كان في غرفة العمليّات خمسة عشر فردًا وقد اعتبروا أنّ ما حصل هو معجزة. أمّا ما فعله الطبيب مِنْ عمليّة فتح القلب ورفع العروق والعمل عليها، فهم لا يرونه مِنْ باب المعجزة .. أفلم يكن ذلك معجزة حقّا ؟! بلى هو معجزة أيضًا. [فإن كنت] لا تصدق أنّها معجزة وتقول لا ليست كذلك، إذن سأجعل هذا الطبيب يقف عاجزًا [حتى تفهم حقيقة الأمر].
مدرسة العرفان ترى التوحيد في كلّ شيء
ولذا نرى أنّ [السيّد الحدّاد] قال: لا يوجد أيّ فرق بين أن يمتلئ البئر ماءً بسبب دعاء شخص وبين أن يفتح الصنبور ليجري الماء منه. إذ يجب رؤية كلتا الحالتين على أنَّهما شيء واحد، وهنا تكمن النكتة؛ فمدرسة المعرفة ومدرسة العرفان تقول أنّه عليك أن ترى التوحيد في كلّ شيء؛ فإن كنتَ تتكلّم، [ففي الحقيقة] لست أنت المتكلّم، بل هو الّذي يتكلّم غير أنَّ الكلام يخرج الآن مِنْ هذه الوسيلة [الّتي هي أنت]. وإن كنتَ تستمع، [ففي الحقيقة] لست أنت المستمع، بل هو الّذي وهبك هذا الإدراك والقدرة على السمع الّتي جعلتك تسمع الآن، فإن توقّفتْ هذه القدرة لدقيقة واحدة سترى النوم يغلب على ذلك السيِّد الجالس جنب العمود، فلماذا حصل ذلك ؟ إنَّه حصل بسبب انقطاع الاتصال.
كنتُ قد ذكرت لكم أنَّ المرحوم العلّامة كان يقيم مجالس قراءة القرآن في ليالي الثلاثاء، وكان يشرح في مناسبات مختلفة الحديث القدسيّ المتضمّن: «يا عيسى .. يا عيسى ..»، أو يفسّر آية النور. وكان بعض الإخوة يحضرون أحيانًا وهم مُتعبون، إذ كانوا قد أمضوا يومهم الطويل مِنَ الصباح حتّى المساء في العمل ولم يناموا الظهر، فعندما يأتون إلى المجلس في تلك الحال كانوا يجدون مكانًا مناسبًا ومريحًا قرب عمود أو جدار فإذا ما شعروا بالنعاس يتكئون عليه وإلّا سقطوا أرضًا. وكنّا نلاحظهم، فإن رأينا شخصًا جلس إلى جنب العمود كنَّا نقول: سيتمتّع فلان هذه الليلة بنومٍ وأحلام سعيدة. وبالفعل ما إن تمضي لحظات حتّى ينام. فكان المرحوم العلّامة يقول له: أين أنت يا فلان ؟! فيُجيب: نعم، نعم أنا هنا. فيقول له المرحوم العلّامة: أعلم أنَّك هنا، ولكن يجب عليك الانتباه والاستماع إلى الحديث .. لقد كانت أيّامًا جميلة، وها قد مضت، ولم نكن نعلم قدرها حتّى فقدناها.
على أيّة حال، فكلّ ذلك يقع على هذا الخط نفسه؛ فإن توفّق أحدنا للقيام بعمل خير، فعليه أن يقول: إنَّ الله هو الّذي شاء ذلك. وإن حصلت له مشكلة ما، فعليه ألّا يفقد الأمل، لأنَّ الله قد شاء ذلك أيضًا. نعم، علينا المبادرة إلى حلّ المشكلة وفقًا للتكليف الملقى على عاتقنا، ولا يكون ذلك بتمزيق أنفسنا مِنْ أجل حلّها فنبدأ بكتابة الرسائل إلى هذا وذاك لنخبرهم بما حصل لنا مِنْ مشكلة، بل علينا أن نسلك هذا النهج ونعمل وفق ما أُمرنا به. نعم، لا يجوز لنا أن نترك المشكلة وشأنها وأن نهمل متابعتها وحلّها تمامًا، لأنَّه تصرّف غير صائب، ولأنّه يجب أن لا نُلقي بأنفسنا إلى التهلكة. فكلا التصرّفين غير صحيح۱، كما علينا أن نرى الأمر واحدًا [في حالتي العسر واليسر].
بناءً على هذا، علينا أن ننظر بنظرة واحدة إلى كلٍّ مِنْ معجزة الإمام الرضا وجريان الماء عند فتح الصنبور، وعلينا أن نرى معجزة رسول الله حين شقّ القمر وحركاتنا العاديّة كالّتي نقوم بها في الصلاة أنّهما واحد .. ولماذا علينا أن نراهما واحدًا ؟ ذلك لأنَّ رسول الله كان يراهما واحدًا. فلماذا لا ننظر إلى الأمر بنفس الطريقة الّتي ينظر بها رسول الله ؟! نعم، نحن لا نستطيع أن نقوم بما كان الرسول يقوم به، ولكن يمكن أن تكون رؤيتنا للأمور نفس رؤية الرسول لها، فقد كان رسول الله يقول: يا أيّها الناس اعلموا أنَّه لا فرق بيني وبينكم .. والله وبالله وتالله إنَّ رسول الله عندما كان يقول {إنَّمَا أنا بَشَرٌ مِّثْلُكُم}٢، كان يعني أنّه لا فرق بيني وبينكم في غير نزول الوحي، حيث يوحى إليَّ ولا يوحى إليكم. فإن أردتم أن يوحى إليكم فاسمعوا كلامي، فإن فعلتم ذلك سوف يوحى إليكم أيضًا، غير أنَّه ليس هو الوحي المتعارف عليه بل هو وحي على هيئة الإيقاع في القلب أي الإلهام. ذلك الإلهام الّذي يجعلكم تفصلون مسيركم عن مسير الآخرين، وهو الّذي يساعدكم على اختيار أحد المسارين عندما تقفون على مفترق طرق. فهذا الإلهام لا يختلف عن نزول جبرائيل مِنْ جانب الله على رسوله ليأمره قائلًا: قُم يا عبدي بهذا العمل غدًا وبذلك العمل بعدَ غدٍ، وعليك أن تتخذ هذا القرار في هذه الحادثة، وذاك القرار في الحادثة الأخرى. فلا فرق بين هذين الوحيَيْن، لماذا ؟ لأنَّ مصدرهما واحد وهو الله، فلَمّا كان الله هو مصدرهما فما الّذي سيتفاوت حينئذ ؟!
البشريّة دائمًا في حالة «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى»
يتّضح بشكل جيّد للإخوة هنا معنى آية {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى}۱. فخطاب {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى} هو خطاب موجّه إلينا جميعًا، نعم، إنَّه موجّه لجميع المتواجدين في هذا المكان. فالآية تقول لك: ألم تكن ضالًّا فهديتك ؟
فلننظر إلى أنفسنا الآن ولنلاحظ مقدار ما لدينا مِنْ معلومات، وكلّ بحسب سعته؛ فكم هي نسبة معلوماتنا إلى مجهولاتنا، فهل تتجاوز الواحد مِنَ المليار، بل لعلّها أقلّ مِنْ هذا المقدار بكثير – هذا يشملني أوّلًا كما يشمل الجميع أيضًا – فكم هو مقدار ما نجهله مِنَ المعارف والعقائد والمباني والمسائل التوحيديّة والعرفانيّة والمسائل الّتي لا يمكن بيانها للآخرين ؟ هذا في الوقت الّذي لم يتمّ الإفصاح عن واحدٍ مِنْ مليارِ ما يمكن الإفصاح عنه، فكيف بما سواه ؟
عندما ألّف المرحوم العلّامة كتاب «الروح المجرّد» قلتُ له: إنَّكم قد ذكرتم كلّ شيء في هذا الكتاب يا سيّدي. فأجابني قائلًا: إنَّ ما ذكرتُه هو فقط ما يمكنني الإفصاح عنه يا سيِّد محسن، فلو أردتُ أن أذكر ما لا أستطيع الإفصاح عنه حول ذلك الرجل العظيم [السيد الحدّاد] لأصبح حجم كتاب «الروح المجرّد» ثلاثة أضعاف حجمه الآن.
ورغم أنَّ ما ذكره لم يتجاوز ما نستطيع فهمه لا غير، ومع ذلك فقد أُثيرت حول [كتاب «الروح المجرّد»] كلّ تلك الضجّة، حيث قيل أنَّ المرحوم العلّامة قد أذاع الأسرار، وهو ممّا لم يكن السيِّد الحدّاد ليفعله.
ولقد اعترض علَيّ أحد تلامذة المرحوم [الحدّاد] القدماء قائلًا: إنَّ المرحوم العلّامة ذكر في كتابه الموضوع كذا [وهو مِنَ الأسرار ولا ينبغي البوح به]. فقلتُ له: لم يكن هذا الموضوع مِنَ الأسرار، وأنا أستطيع الإجابة عنه بسطرين فقط؛ أمّا الأسرار فهي الّتي لم يبح بها المرحوم الحدّاد لا لي ولا لك، بل باح بها لوالدي فقط، فلا تقلق على أسرار المرحوم الحداد، فليس مطلوب منك أن تقلق عليها، فما كان مِنَ الأسرار فقد أخبرها له وحده، أمّا المواضيع الّتي ذكرها في كتابه فهي ليست مِنَ الأسرار. على أنَّ ما ذكره المرحوم العلّامة في كتابه [«الروح المجرّد»] ليس قابلًا للفهم مِنَ الجميع، فما جاء في كتاب «الروح المجرد» بحاجة إلى شرح وتوضيح لكي يُفهم، فلا تتصوّروا أنَّ فهمها بهذه البساطة، إلّا أنّها مواضيع قابلة للشرح والتوضيح.
دعونا نرى الآن كم هي نسبة معلوماتنا إلى مجهولاتنا ؛ إنَّ معلوماتنا تعتبر قليلة جدًا نسبة إلى ذلك المقدار الكبير مِنَ المجهولات. بناءً على هذا، نحن الآن مِنَ الضالّين أيضًا ونحتاج إلى الهداية. نعم، نحن بحاجة إلى الهداية في كلّ لحظة مِنْ لحظات حياتنا، فآية {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى} تنطبق علينا في كلّ لحظة مِنْ لحظات حياتنا، فعلينا أن لا ننسى غدًا وبعد غدٍ أنّه {وَوَجَدَكَ ضَالًّا}، نعم، علينا أن لا ننسى ذلك أبدًا لا في الظهر ولا في المساء ولا في الصباح.
وحذارِ أن يأتي اليوم الّذي نتصوّر أنّ {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} لا تنطبق علينا وأنَّه قد حصّلنا {فَهَدى}. كلّا، فإن حصل هذا، فعلينا أن نعرف عندها أنَّ الخطر قد أحدق بنا.
وحذارِ أن نتظاهر بالتواضع باستعمال بعض الكلمات كأن نقول في الظاهر: نعم، نحن مِنَ الضالّين. والحال أنّ باطننا يحكي شيئًا آخر، بحيث لو قال لنا أحدهم أنّنا مِنَ الضالّين لانفعلنا إلى درجة نرغب فيها بشقّ بطنه وإخراج أمعائه، فبهذا يتضح أن تواضعنا ذاك كان مِنْ قبيل اللعب والتمثيل.
لقد كان رسول الله يشعر في قرارة نفسه بانطباق آية {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} عليه، وهكذا كان الإمام السجّاد عليه السلام يستشعر هذا الأمر في نفسه عندما كان يتعلّق بأستار الكعبة، وكان أمير المؤمنين يقول نفس هذا الكلام في دعاء كميل ودعاء الصباح حيث قال «الهي إن لم تبتدئني الرحمة منك بحسن التوفيق فمَنْ السالك بي إليك في واضح الطريق»۱. فهذا أمير المؤمنين الّذي وصل إلى ما وصل إليه يقول نفس ذلك الكلام. وهكذا هو حال أولياء الله دائمًا. فما يليق بنا مِنْ مقامٍ وشأنٍ هو الفقر والاحتياج، أمّا مقام الكبرياء والغنى والجلال فهو مختصّ بالله، هذا هو حالنا بشكل دائم وهذا الفقر لا يفارق الإنسان أبدًا ولن يزول هذا الحال عنا أبداً في أيّ وقت مِنَ الأوقات. بناءً على هذا فإنّ الهداية واحدة.
الوجه الخَلقيّ لقوله «وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ»
هذا فيما يتعلّق بالجانب الأوّل مِنْ الموضوع٢، أمّا الجانب الثاني مِنْ قول الإمام الصادق عليه السلام «وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ»، فهو الجانب الخَلقي٣؛ علينا أن نضع نصب أعيننا دائمًا أنّه علينا ألّا نكتفي بالاستماع إلى هذه المواضيع، وألّا نتوقف عن سيرنا الّذي ابتدأناه. إذ أحد المخاطر الّتي تهدّد السالك هو أنّه بعد أن يتعرّف على مدرسةٍ ويعتقد بمبانيها وبعد أنّ تمرّ مدّة مِنَ الزمن عليه يصبح الأمر عنده عاديّا.
والعجيب في الأمر أنَّ النفس تتعامل مع الأمور الدنيويّة بعكس هذا تمامًا؛ فنرى الشخص يواصل عمله يوميّا [دون كَلَلٍ]، وإن كان يمتلك متجرًا يسعى لامتلاك الثاني غدًا، وإن شَغَلَ رتبةً وظيفيّةً فلا يكتفي بها بل يسعى للحصول على رتبةٍ أعلى، وإن كان يمتلك متجرًا بمساحة أربعة في ثلاثة أمتار ممّا يكفيه لسدّ كافّة احتياجاته إلى نهاية عمره، نراه لا يكتفي بذلك بل يضع عينه على متجر آخر يقع في الطرف الآخر مِنَ السوق – ينوي صاحبه بيعه بقيمة مناسبة – وذلك مِنْ أجل تطوير عمله، فيبادر فورًا إلى شرائه وتوظيف الأشخاص فيه، ثمّ يفكّر بعدها بشراء متجرٍ ثالثٍ، والحال أنّ المتجر الأوّل كفيلٌ بتأمين ما يحتاج إليه في حياته اليوميّة وتأمين مستقبلٍ مُرضٍ له، غير أنَّ النفس تسعى للتوسّع في طلباتها. وإن حصل أحدهم على رتبة وظيفيّة، نراه يسعى لأن يصبح مديرًا ومديرًا عامّا ووزيرًا وهكذا، غير مكتفٍ بالوضع الّذي هو عليه أبدًا .. هكذا هي النفس الإنسانيّة.
أمّا إن تعلّق الأمر بالجنبة العباديّة، فإن نال الإنسان مقامًا عباديّا يصبح هذا الأمر مع مرور الأيّام أمرًا عاديّا بالنسبة إليه.
كان أمير المؤمنين يتألّم عندما يرى الحال الّذي عليها الناس، فكان يقول: ها أنا عَلِيّ خليفة رسول الله وساقي الكوثر والفاعل لما يشاء موجود معكم وبين أظهركم، وأنا أمتلك كلّ ما تطمحون إليه فـ «سلوني قبل أن تفقدوني»، ولقد اختبرتموني وعلمتم صدقي بأنفسكم. ثمّ انظروا إلى الطرف المقابل، ومَنْ يكون قائدهم .. إنَّه معاوية، ومع هذا انظروا إلى بسالتهم في الحرب للدفاع عن حكومته الدنيويّة. أمّا أنتم فتأتونني كلّ يوم بمزيد مِنَ الأعذار وتُكثرون مِنَ الدسائس [وتتهرّبون مِنَ القتال] متحجّجين بحرارة الجوّ حينًا وبرودته حينًا آخر، وتتحجّجون بشوكة أصابت الرِجْل وبكذا أصاب العين، فليتني حصلتُ على رَجُل واحد منهم مقابل عشرة منكم ..۱ ما الّذي يعكسه كلام أمير المؤمنين هذا ؟ إنَّه يعكس ما نحن بصدد الحديث عنه، وهو أنّ أصحابه قد رضُوا بذلك المقام الّذي اكتسبوه ولا يرغبون في التكامل والوصول إلى ما هو أفضل ممّا هم عليه.
أمّا ما يتعلّق بأمور الدنيا، فبما أنَّها تقع في الجهة المعاكسة، وبما أنَّها محفوفة بالزينة البرّاقة الّتي تخطف الأبصار نرى تقاتل أهل الدنيا لنيل نصيب مِنْ حُطامها، وهم غير مستعدّين للتخلّي عنها حتّى آخر رمقٍ مِنْ حياتهم.
إنَّ قول الإمام الصادق عليه السلام «وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ» يشير إلى هذه الآفة الّتي يتعرّض لها المرء؛ فهو بعد أن يتّبع التعليمات ويعمل بموجبها لبعض الوقت تصبح هذه الأمور تدريجيّا مع مرور الأيّام عاديّة بالنسبة إليه، والحال أنّه غير مدرك أنّه قد دخل الجنّة لتوّه بالتزامه بتلك التعليمات، فحينئذ ما الّذي يعنيه التوقّف في هذه المرحلة، وما الّذي يدعو لهذا التوقّف ؟! فهل يوجد خيار آخر أمام الإنسان لينتخبه ؟! وكيف يريد المرء إمضاء أيّامه وبأيّ أمل، فهل ينتظر أن يحصل له أمر ما في المستقبل، وما هو هذا الأمر الّذي ينتظر حصوله ؟!
ها قد فُتح له الباب وأُدخل إلى هذا البستان وانتهى الأمر. أمّا أن يدخل أحدنا بستانًا وتكون عينه متوجّهة إلى شيء آخر [فليعلم حينئذٍ] أنَّه يتعرّض لوساوس شيطانيّة تقول: إنَّك لم تصل إلى ما كنتَ تصبو إليه، فلن يفرق الأمر سواء عملتَ أم لم تعمل ! وأمثال تلك الوساوس. أو قد يقول له الشيطان: ما دُمتَ قد قُبلتَ فقد حصل المطلوب .. [أقول:] إنَّ هذا الكلام غيرُ صحيحٍ، فما هذا إلّا أوّل الطريق فقط.
في السابق، ومِنْ خلال مرافقتنا للعظماء، كنّا نشاهد أمثال هذه التجارب تمر أمامهم؛ فكان يأتي البعض بشوق ونشاط زائدين وبفرح واشتياق وبحرارة فائقة، فيكون المجلس الأوّل بالنسبة إليه مجلسًا جذّابًا يعمل على زيادة توجّهه وعلى نموّ حالته الروحيّة، غير أنَّه بعد مرور وقتٍ يتبدّل هذا الحال، فيصبح ذهابه إلى المجلس ذو طابعٍ رسميٍّ، فنراه يقول في نفسه: ليس مِنَ اللائق أن لا أذهب إلى المجلس، وقد أُسأل عن سبب عدم حضور مجلس عصر الجمعة، وماذا سيُقال عنِّي إن لم أحضر مجالس المساء .. [أقول:] إن وصل بك الأمر إلى هذا الحدّ فأمرك قد انتهى، فلا تحضر المجالس بعد ذلك لأنَّك لن تجني نفعًا، فلا تتعب نفسك وابق في بيتك مع زوجتك وأبنائك. نعم، إن وصل بك الأمر إلى الحدّ الّذي يكون هدفك مِنْ حضور المجالس هو مجرد رُؤية أصدقائك وإثبات وجودك ولأن لا يُقال عنك كذا وكذا، يكون أمرك قد انتهى حينئذٍ، وهنا يكمن الخطر، فلن تجني مِنْ حضورك في تلك المجالس نفعًا. أمّا إن حافظت على حالتك الّتي حضرت بها أوّل مرّة، فإنَّك ستستفيد مهما كانت الكيفيّة الّتي تحضر المجالس بها، لأنَّ لله شأن في قلبك وباطنك وسرّك. فهذا السالك سيثبت في مسيره حينئذٍ .. وكنتُ أشاهد بنفسي مثل هذه الأمور.
وممّا يثير الانتباه هنا أنّه يوجد تفاوت بين السالكين في نفس هذه النقطة؛ فالإنسان الّذي يتّبع مشاعره عادةً وهو بطبيعته يتعلّق بكلّ ظاهرٍ جذّابٍ، وإن كان سيحصل [للبعض] مناماتٌ ومكاشفات وأمور خارقة للعادة وشوق [لمتابعة السير]، غير أنَّه شوق كاذب وليس شوقًا حقيقيّا وواقعيّا، بل هو شوق للأمور الصوريّة الجذّابة، ولا فائدة تُرجى مِنْ هذا السعي والاهتمام. إنَّ مثل هذا الاهتمام وإن كان لا يشبه تمامًا الاهتمام بالمسائل الدنيويّة، غير أنَّ طبيعتهما واحدة وملاكهما واحد؛ فإن مضتْ مدّة على هذا الشخص ولم يرَ تلك الحالات الممتعة، لرأيته في حالة انقباض ويقول: لقد مرضتُ خلال هذه المدّة. [أقول:] أيُّ مرضٍ هذا الّذي تتحدّث عنه ؟! فما الّذي كنتَ تبتغيه مِنْ سيرك ؟! ستراه يقول: كنتُ أرى منامات! [أقول:] عليك أن تعلم يا هذا أنَّ [أستاذك] هو الأقدر على تشخيص الوضع المناسب لك والحال الّذي يجعلك فيه. واعلم أنَّ المدرسة الّتي تنتمي إليها لا تعتني بهذه الأمور ولا تهدف لإيصالك إلى هذه الحالة.
أنا أتحدّث الآن إلى الإخوة حول مواضيع يهتمّون بها حقّا، فإن كانوا يهتمّون بمواضيع أخرى كان عليهم أن يطلبوها في أماكن أخرى غير هذا المكان، وهي موجودة في تلك الأماكن.
كم عدد المتواجدين في هذا المكان، لنفرض أنَّ عددهم يبلغ عدّة مئات؛ فلو أنَّني الآن بدل هذه المواضيع الّتي أحدّثكم عنها، كنتُ قد تحدّثتُ عن أمور واقعيّة تداعب الأحاسيس أو عن ظهورات النفس مِنْ قَبيل المكاشفات وخوارق العادة، سوف لن يمضي على ذلك أسبوعان حتّى يبلغ الحضور عددًا لا يسعه هذا المكان، وسيفترشون الشارع حتّى يصلوا إلى تقاطع الطرق، وذلك لأنَّ الناس تتابع المواضيع المتعلّقة بخوارق العادات والأمور غير الظاهريّة وترغب في الاستماع إليها. فلو شرعتُ في الحديث عمّا كنتُ قد رأيته مِنَ المرحوم والدي في فترة حياته، وعن تلك المواضيع الّتي تأنس بها النفوس [العاديّة] وتستسيغها، مِنْ قبيل العلوم الغريبة والعجيبة وما يتعلّق بالغيبيّات والأمور والتصرّفات الخارقة للعادة وغير العاديّة، لن يقف الأمر على إبقاء أبواب هذا المكان مفتوحة نتيجة امتلائه بالناس، بل ستمتلئ الشوارع القريبة أيضًا.
أمّا إن اقتصر الحديث على المسائل الأخلاقيّة والتوحيديّة والتشديد عليها أكثر، سنرى كيف سينخفض عدد الحاضرين شيئًا فشيئًا، وذلك لأنَّهم لا يهتمون ولا يستأنسون بهذا الحديث، وسيقولون حينئذٍ: ما هذا الكلام ! لقد غلب علينا النعاس، ليتك تحدّثت عن موضوع آخر. نعم، لو أنَّني تحدّثت عن معجزات النبيّ أو أمير المؤمنين أو بقيّة الأئمّة، أو تحدّثتُ عن كرامات الأولياء، فسينتبه إليها الجميع ويتعجّبون منها ويقولون: يا للعجب، يا لها مِنْ مواضيع .. أمّا إن قلتُ لهم أنّ السيِّد الحدّاد قال أنّ أربعة آلاف معجزة مِنْ معاجز الأنبياء لا تعادل عبارة واحدة مِنْ عباراتي. لقالوا: أيّ كلام هذا ؟!
عليكم أن تعلموا أنَّ معجزات الأنبياء هي معجزات تبرز في العالم الظاهريّ، كأن يتكلّم الحجر، وذلك ليس ببالغ الأهميّة وإنّما هو تصرّف ظاهريّ، أمّا أن يتنزّل علينا كلامٌ مِنْ مقام العرش ويطرق أسماعنا ويعمل على تغيير حياتنا برمّتها، فهو ليس أمرًا يستطيع كلّ الناس إدراكه [وإدراك أهميّته البالغة] فلذا يقولون [مستنكرين]: أيّ كلام هذا الّذي تتكلّم به، أفلا تعتبر معجزة شقّ القمر إلى نصفين بالغة الأهميّة، والحال أنّك تعظّم مجرّد كلامٍ صادر عن أحد الأعاظم، وإن كنَّا نقرّ بعظمته جزاه الله خيرًا ونعترف بمقامه الشامخ ؟! نعم، هذا بالفعل ما يقوله الكثير مِنْ أولئك الناس.
فلو أنَّ أحدكم فتح صفحةً مِنْ كتاب «المثنوي» لمولانا جلال الدين الروميّ وقرأ حكاية واحدة مِنْ حكاياته، ودقّق وتوغّل فيما قاله هذا الرجل العظيم – رجل العلم وفارس عالَم الولاية – لتغيَّر مِنْ حالٍ إلى حال؛ فهذه معجزة. أم أنَّك لا ترى المعجزة إلّا إذا بدّل مولانا [جلال الدين الروميّ] الكتاب إلى ذهب، فعندئذٍ ستعتبر ما حصل معجزة وتؤمن بها ! إن كنتَ لا ترى المعجزة إلّا بهذا الشكل [فنقول لك] هناك الكثير مِمّنْ يستطيع أن يفعل مثل هذا، ومنهم غير مسلمين، ويوجد الكثير منهم هنا وخارج البلد؛ فمِنَ الكفّار مَنْ يداوم على رياضة معيّنة ومِنْ خلالها يتمكّن مِنَ القيام بأمورٍ خارقةٍ للعادة، أيكون هؤلاء مِنْ أولياء الله وقد وصلوا إلى نهاية المطاف [لمجرد تمكّنهم من ذلك] ؟! فهم وإن كانوا يستطيعون القيام بما يعجز عنه حتّى مدّعوا مراتب العلم والمعرفة، فهل يُعدّ ذلك فضلًا لهم ؟!
نقل لي شخص عن آخر أنَّه قال: عندما كنتُ شابّا وقد تزوجتُ حديثًا، ذهبتُ بمعيّة رجل لرؤية شخص، فقال لي: ما هي حاجتك ؟ قلتُ له: فقدتُ ساعةً أهداني أياها أهل خطيبتي، وأنا متعلّق بها كثيرًا. فإذا به يُخرج الساعة ويناولني إيّاها، وكانتْ تلك الساعة الّتي فقدتها منذ سنوات. والرجل لم يكن مسلمًا ولا شيعيّا ولا دين له ولا مذهب، فهل يعتبر ذلك الفعل فضلاً له ؟! كلّ ما هنالك أنّ الرجل واظب على رياضةٍ معيّنة فاكتسبتْ نفسُه قوى غير طبيعيّة، وبذلك تمكّنتْ نفسه مِنْ تجاوز القوى الظاهريّة والقوانين الماديّة لتقوم ببعض الأعمال الخارقة للعادة.
فإن أردتُ أن أتحدّث عن مثل هذه الأمور، فكم سيبلغ عدد الّذين يحضرون المجلس .. ولكن انظروا إلى هذه الحادثة الّتي وقعت بين الإمام موسى بن جعفر أو الإمام الصادق وبين رجلٍ يقوم بخوارق العادات؛ فعندما سأله الإمام عن كيفيّة حصوله على تلك القوى، قال: بواسطة مخالفتي لِمَا تهواه نفسي. فقال له الإمام: اِعرض الإسلام على نفسك، لترى كيف ستكون ردّة فعلها. فقال الرجل: إنَّ نفسي تأبى قبول الإسلام. فقال له الإمام: خالف نفسك، أليس هذا هو المبنى الّذي كنتَ تعمل بموجبه ؟! فرأى الرجل أحقيّة كلام الإمام، ولَمّا كان الرجل صادقًا هداه الله. فهذه هي المعجزة، فما قام به الإمام معجزة أكبر مِنْ أربعة آلاف معجزة [ظاهريّة].
فإنَّ كلام الإمام الصادق هذا أكبر مِنْ معجزة شقّ القمر الّتي قام بها رسول الله، فالرسول عندما قام بتلك المعجزة لم يؤمن له رجل واحد [مِنَ المشركين] بل قالوا إنّه سحر .. ألم يقولوا ذلك ؟ نعم، لقد قالوا ذلك رغم أنَّهم تحقّقوا مِنْ صدق ما وقع، وذلك عندما سألوا مَنْ كان خارج مكّة عن الحادثة ووقتها، إذ الساحر يستطيع التأثير على الحاضرين أمامه فقط، فأجابوهم أنّه خلال وجودهم في الصحراء شاهدوا انشقاق القمر إلى نصفين؛ فبقي نصف في مكانه ونزل النصف الآخر وطاف حول الكعبة سبعة أشواط، ثمّ عاد إلى مكانه الأوّل والتصق بنصفه الآخر. ومع كلّ هذا كذّبه الكفّار وقالوا هذا سحر. أمّا كلام الإمام الصادق ذاك، فلم يكن مِنْ قبيل شقّ القمر أو جعل الحجر أو الحصى أو الشجر يتكلّم أو فلقِ النيل، بل كان مجرد كلام خاطب به ذلك الرجل قائلًا: إن كان مبناك في حياتك يقتضي مخالفة هوى نفسك، وهو الأمر الّذي عملتَ بموجبه حتّى الآن، فلِمَ تتوقّف في منتصف الطريق، فعليك أن تواصل السير على نفس هذا النهج، فواصل سيرك وترقَّ. فقَبِل الرجل كلام الإمام، وعندها سلبه الإمام ما لديه – لأنّه كان باطلًا – ووجد الرجل نفسه حينئذٍ فاقد القدرة على القيام بما كان يقوم به مِنْ قبل، فقال له الإمام: أخبرني ماذا في يدي الآن. فقال الرجل: لا أعلم. والحال أنّه كان قادرًا قبل هذا على الإخبار عن مثل هذه الأشياء. فقال له الإمام: ستنال الآن ما هو أفضل. ولقد نال بالفعل ما هو أحسن [مِنْ القوّة الخارقة الّتي كانت لديه].
فماذا يُعتبر كلام الإمام الصادق هذا [مع الرجل] ؟ إنَّه يعتبر معجزة، لأنّ كلّ ذلك التحوّل الّذي حصل للرجل إنّما حصل عليه مِنَ الإمام لا مِنْ نفسه، ونظرًا لصفاء قلب الرجل فقد منَّ الإمام عليه. نعم، على كلّ شخص أن يُخلص النيّة ويَصدق، فما لم يتحلَّ الإنسان بالصدق – يا عزيزي – لن يفعل له الإمام شيئًا، فإن تحلَّى بالصدق وأخلص عمله لله فسيخبرونه حينئذٍ بما عليه فعله ويتصرفون في وجوده ويعملون على تغيير حاله.
ولهذا نرى الإمام يقول «وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ». فعلى كلّ شخص أن يتنبّه: أَنْ إيّاه والقنوط، فإن لم يرَ شيئًا مثلًا [كمكاشفة وشهود وخوارق العادة] فعليه أن لا يتخلّى عن السير، بل عليه أن يثبتَ على الحالة الّتي تيقّن مِنْ صلاحها، فيُحييها في نفسه في كلّ وقت ولحظة.
وليُعلم أنّ (التثبيت) هو غير (التلقين)، فلا مكان للتلقين هنا، إذ التلقين أمر مجازيّ، أيّ إنَّه يعتبر مِنَ الكذب والاحتيال. نعم، عليه أن يُحيي [في نفسه] ذلك اليقين الّذي حصل له، فعليه أن يسقيه الماء كلّ يوم ويوفّر له السماد ويغذّيه ويعتني بتربته، وبذلك يدفعه اليقين هذا للسير إلى الأمام في المجالين العلميّ والعمليّ.
وصايا متعلقة بشهر ذي القعدة وذي الحجّة
إنَّ هذه أيّام شهر ذي القعدة، وقد ذكرتُ للإخوة ما يتعلّق بزيارة الإمام الرضا عليه السلام [في هذه الأيّام]؛ فالزيارة غاية في الأهميّة لِمَنْ يستطيع الزيارة، ومَن لا يستطيع فبإمكانه الزيارة عن بعد، ولا مانع مِنْ ذلك.
أمّا الأمر الثاني الّذي أريد الإشارة إليه هنا يتعلّق بالعشرة الأولى مِنْ شهر ذي الحجّة، فعلى الإخوة إعطاء هذه الأيّام الاهتمام المطلوب، وقد كان العظماء يصومون هذه الأيّام ويشدّدون على المراقبة فيها. فهذه العشرة تقع في كفّة ويقع كلّ شهر ذي القعدة في كفّة أخرى؛ فما تمّ نقله وما سمعته عن الآثار الّتي تتحقّق للعظماء في هذه الأيّام العشرة، يقتضي أن يعمل كلّ واحد منّا على زيادة وتشديد المراقبة كثيرًا، وأن يحرص على عدم إضاعتها. كما علينا الإتيان بأذكار النبيّ موسى التوحيديّة، الّتي أخبرتكم عنها وهي «لا إله إلّا الله عدد الليالي والدهور، لا إله إلّا الله عدد أمواج البحور ...»۱ إلى آخر هذه التهليلات، ومِنَ المستحبّ أن نُكْثِر قراءتها، وهي تشير إلى نفس الموضوع الّذي نحن بصدده هنا.
فقوله «لا إله إلّا الله عدد الليالي والدهور» يعني نفس كلام المرحوم السيِّد الحدّاد حيث قال: إنَّ المعجزة لا تقتصر على امتلاء البئر بالماء [ببركة دعاء الرجل]، بل فتح الصنبور وجريان الماء يُعتبر معجزة أيضًا. فحقيقة «لا إله إلّا الله» موجودة بعدد أمواج البحور، وحقيقة «لا إله إلّا الله» ظاهرة بعدد أوراق الشجر، وبعدد لمح العيون، فـ «لا إله إلّا الله» تعني أنَّ كلّ ما له تحقّق خارجيّ في عالم الوجود ليس سوى ظهور للتوحيد وظهور لـ «لا إله إلّا الله».
هذا هو معنى كلام الإمام، فكلّ هذه الأمور قد جاءتْ مِنْ ذلك المصدر. فكلّما ازداد اهتمام [المرء] بتلك الحقائق وتوجّه نحوها أكثر، كلّما ارتقى مستوى فهمه، ومَنْ ارتقى مستوى فهمه سيحصل له تبدّل أكبر في أعماقه.
نسأل الله أن يشملنا جميعًا برعايته الخاصّة، وأن يمنَّ علينا جميعًا بالسعادة الأبديّة تحت ظلّ مقام الولاية العظمى للإمام الحجّة بن الحسن أرواحنا لتراب مقدمه الفداء.
اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد