145

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

7118
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةحاجة السلوك إلى التوفيق الإلهي

التاريخ 1428/06/28

جلسات المجموعة(5 جلسة)

التوضيح

طرح سماحة السيّد محمّد محسن الطهرانيّ (قدّس الله سرّه) في هذه المحاضرة مجموعة مِنَ المطالب الدقيقة والعميقة، كمقدمة لشرح بقيّة فقرات حديث الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ، وهي تمثّل مبانٍ وركائز أساسيّة في مدرسة العرفان والسلوك إلى الله تعالى، وقدّم لذلك مباحثًا. أمّا المباحث فهي؛ في حقيقة علم الأولياء، متّى يكون القرآن قرآنًا نورانيًّا، عدم الازدواجيّة في المواضيع الّتي تُطرح بين العامّ والخاصّ. أمّا المقدّمات والمباني فمنها: تحوّط الأولياء الإلهيّين في الأسرار، الاهتمام بالكليّات، التعرّف على حقيقة المعصوم والارتقاء في طاعته، الاستفادة المُثلى مِنَ الوسائل الدنيويّة، طاعة المعصوم والوليّ الإلهيّ لا تتوقف على حضورهم وغيابهم، التسليم للحقائق والأسرار، التمييز بين الطاعة الشخصانيّة والطاعة المبدئيّة، وفي أنّ مستوى الإدراك يحدّد مستوى الكلام. ثمّ ختم سماحتُه بمجموعة مِنَ التوصيات السلوكيّة لشهر رجب خصوصًا ولشهري شعبان ورمضان عمومًا، والّتي إذا ما روعيت لأزهرت شقائق النعمان.

/۲٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

  • شرح حديث عنوان البصريّ - الجلسة ۱٤٥

  •  

  • محاضرة ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • الحمد لله ربِّ العالمين

  • والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد

  • (اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)

  • وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • بيَّن الإمام الصادق عليه السلام الأمورَ العامّة المتعلّقة بحركة الإنسان نحو عالَم التجرّد، وقد أتمّ الإمامُ الحجّةَ بكلامه هذا. وتحدّث عن المسائل الشخصيّة والأمور المتعلّقة بتربية وإعداد النفس وتزكيتها، وعن الأمور العائليّة والاجتماعيّة. وقد شرحتُ سابقًا هذه المسائل للإخوة، وقد كان شرحًا مختصرًا مع كلّ ما تضمّنه مِن توضيحات؛ وإن شملني التوفيق الإلهيّ، سأعمد لشرحها بشكل أكثر تفصيل عندما أحرّر مواضيعها كتابةً.

  • أنا أعتقد أنّ الإمام ببيانه هذا، لم يترك جنبة في الموضوع إلّا وغطّاها، وأعتقد أنّ في هذا القدر مِن بيان الإمام الكفاية، لِمَن أراد أن يطوي طريقه إلى الله، وأن يعبر مِن عالَم الكثرة إلى عالَم التجرّد وعالَم القرب والاطمئنان، إلّا اللهمّ، أن يرمي المرء ما سمعه وراء ظهره ويغضّ بصره عن رؤية الحقيقة ويتجاوز هذا الأمر بشكل مِنَ الأشكال؛ وسيكون لديّ ما أتحدّث عنه مع الإخوة حول هذا الموضوع، وهو بمثابة المقدّمة للشروع في شرح العبارات القادمة. أمّا مَن يريد أن يتقدّم خطوة في تصحيح أفكاره ومسيره وطريقة تعامله مع الآخرين، ويريد أن يصحّح نظرته في مختلف المسائل ويُصلح نفسه وآثاره وصفاته وخصاله النفسيّة، فالإمام لم يترك ما يحتاج إلى السؤال عنه.

  • مع كلّ ما تقدّم، نرى عنوان [البصريّ] يزيد في إصراره على تعلّم المزيد فيما يتعلّق بأموره الشخصيّة، فنراه يطلب مِن الإمام تعليمه الخطوات العمليّة الّتي يستطيع بواسطتها أداء أعماله اليوميّة والتعامل مع الآخرين، كما أراد مِنَ الإمام أن يعطيه برنامجًا عمليًّا في السلوك والتربية. لذا نرى الإمام يوصيه بوصايا حياتيّة وأساسيّة؛ نعم، إنّها لتعاليم أساسيّة ومحوريّة حقًّا، وهي كما قال عنها الإمام «فإنّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى»۱. إنّ الوصايا التسع الّتي سأقوم بمشيئة الله بشرحها للإخوة، هي وصيّة الإمام لمَن يريد السير في الطريق إلى الله، ومَن يلتزم بها سيتمّكن مِن تثبيت تلك الحقائق العالية – المشار إليها آنفا – في نفسه، وسيجعل منها ملكة نفسانيّة، وسيرتقي بها لتصبح مقامًا بعد أن كانت حالًا.

    1. جزء مِن حديث عنوان البصريّ عن الإمام الصادق عليه السلام، راجع كتاب (الروح المجرّد)، ص ۱٩۰، للعلّامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ (قدّس الله سرّه). (م)

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

3
  • لذا نرى عنوان البصريّ يتوجّه إلى الإمام الصادق عليه السلام قائلًا: أوصني. أي: أريد منك وصيّة فيما تفضّلت علَيَّ به مِن مواضيع ووضّحتها لي، فلعلّ هنالك أمرٌ آخر لم يُقَل [قالها سماحة السيّد مازحًا].

  • حقيقة علم الأولياء

  • رحم الله أولئك العظماء، أيّ نوع مِنَ الرجال العظام لدينا، فبمجرّد أن نذكرهم تحصل لنا حالة مِنَ البهجة الباطنيّة؛ ومنهم المرحوم السيّد أحمد الكربلائيّ، فهو واحد مِنَ العلماء والفقهاء العِظام الشامخين، ومِن عرفاء الطراز الأوّل في الإسلام؛ أنا مِنَ المعجبين جدًّا بما يتمتّع به السيّد أحمد مِن حريّة، فهو على درجة مِنَ الحريّة، مشهودةٌ للجميع مِن خلال كلماته. فبالرغم مِن عِظم مقام أستاذه المرحوم الآخوند الملّا حسين قُلِي، إلّا أنّه كان مِن أهل المداراة والمراعاة، غير أنّ السيّد أحمد كان يتمتّع بالحريّة في حديثه وإجاباته، وهو ما ينبغي أن يحصل في بعض الحالات، نعم، في بعض الحالات لا في جميعها؛ فإن استخدم الإنسان المجاملة والمراعاة في بعض المواقف، فالطرف المقابل قد لا يفهم ذلك.

  • كان أحد مريدي السيّد أحمد – وهو مِنَ العلماء المقيمين في إحدى المدن – قد كتب إليه رسالةً يطلب فيها برنامجًا سلوكيًّا، ويبدو أنّ هذا الأمر تكرّر مرّتين أو ثلاثة؛ فإنّ أولياء الله مِثل السيّد أحمد، ليسوا بحاجة إلى أن يُطلب منهم ذلك عبر المراسلة؛ هم يعرفون كلّ شيء عن المُرسِل مِن طريقة كتابته للرسالة، بل ويعرفون كلّ شيء دون الحاجة حتّى إلى قراءة الرسالة، فباستطاعتهم قراءة ما لم يُكتب بعدُ.

  • قال لي المرحوم العلّامة: إنّ العلاقة بين الوليّ الإلهيّ والتلميذ، تتمثّل بزوايا المثلّث الثلاث؛ ففي إحدى زوايا المثلث يكون الأستاذ والوليّ الإلهيّ، ويكون الله عند رأس المثلث، فيما يكون التلميذ عند الزاوية الأخرى للمثلث؛ فإن خطر أيُّ نوع مِنَ الخواطر على قلب التلميذ، سينتقل هذا الخاطر عن طريق ذلك الخط المستقيم إلى الأستاذ، كما أنّ كلّ عمل يقوم به التلميذ سينتقل مِن تلك الزاوية [الّتي هو فيها] إلى قلب الأستاذ، فلا حاجة للأولياء الإلهيّين بقراءة رسائل تلامذتهم في هذه الحالة.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

4
  • كرّر المرحوم العلّامة هذه الجملة مرارًا: مَن يستطيع أن يخفي عنّي شيئًا؟! وقال لأحدهم: عليك النظر إلى الأمر مِن ناحيتك أنت، وإلّا فإن كنتَ في مشرق العالَم، وكنتُ أنا في مغربه، فلا يختلف الأمر بالنسبة إليّ، فعليك اختيار المكان المناسب والأصلح لك أنت لتعيش فيه، أمّا بالنسبة لي فلا يفرق الأمر شيئًا، سواء أردتَ أن تكون جارًا لي أو أردتَ أن تسكن على القمر. كانت هذه عين عبارته، فقد قال: إن كنتَ على القمر أو بجواري، فلا يختلف الأمر شيئًا بالنسبة لي؛ وذلك لأنّ هذا الارتباط هو ارتباط ملكوتيّ لا مُلكي، ولا وجود للمكان في عالَم الملكوت، فهو خارج عن إطار الزمان والمكان.

  • تذكرتُ الآن هذه الحكاية: عند عودتنا مِن سفر الحجّ، حيث كان عمري حدود السابعة عشر عامًا، وكنتُ حينها برفقة المرحوم العلّامة وأخي الأكبر، ذهبنا إلى بيت المرحوم الحدّاد في كربلاء. كان أحد أصدقاء السيّد الحدّاد ومريديه قد بعث إليه برسالة يطلب فيها أن يأخذ بيده في طريق الهداية وأن يعطيه برنامجًا سلوكيًّا، وقد وضع السيّد الحدّاد تلك الرسالة كما هي على أحد الرفوف. فعندما عودتنا هذه مِن سفر حجّ بيت الله الحرام، ذهبنا إلى النجف، وبقينا فيها ثلاثة أو أربعة أيّام، وعند وصولنا إلى كربلاء، قال المرحوم الحدّاد للمرحوم الوالد: قد أرسل لي فلان رسالةً موجودة على الرّف، افتحها واقرأ ما فيها. ففتح المرحوم العلّامة الرسالة وقرأها، ثمّ قال: إنّ المكتوب فيها لا يتعدّى كونه مجازًا. نعم، كانت تلك هي عبارته؛ أي إنّها [بعيدة عن] الحقيقة.

  • وكنتُ قد التقيتُ في إحدى المجالس بكاتب تلك الرسالة – وهو مِن أقاربنا ولا يزال على قيد الحياة – بعد ارتحال المرحوم العلّامة، ولم يكن يعلم أنّني على عِلم بأمر تلك الرسالة، وإن كنتُ لا أعلم شيئًا عن محتواها، إلّا العبارة الّتي سمعتها مِنَ المرحوم العلّامة حيث قال: إنّه كلام مجازيّ. فأخذ الرجل يتحدّث عن تلك الرسالة الّتي بعثها إلى السيّد الحدّاد، فقال: كنتُ قد بعثت – في تلك الفترة – برسالة إلى السيّد الحدّاد، وطلبتُ منه فيها أن يأخذ بيدي في طريق النجاة، وقد غمرني السيّد الحدّاد بلطفه ورعايته. أنا لم أقل له أنّ السيّد الحدّاد كان قد سلّم رسالته إلى والدي، وأنّ الوالد قال أنّ هذه الرسالة مِن أوّلها إلى آخرها لا تساوي فلسًا، ولا تتعدّى كونها كلامًا مجازيًّا. بل كنتُ أتبسّم، وتصرّفت كما أتصرّف في مواقف أخرى. نعم، لقد قال المرحوم العلّامة بحقّ ما جاء فيها: إنّه كلام مجازيّ، رغم ما كُتب فيها مِن كلمات تُعبّر عن الحاجة إلى الهداية وما شابه ذلك.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

5
  • متى يكون القرآن قرآنًا نورانيًّا

  • إنّ أولياء الله يعلمون كلّ شيء، فهم ليسوا بحاجة إلى أن يُطلب منهم شيئًا بواسطة الرسائل. على أنّك إن عرضتَ تلك الرسالة على أحد علماء [الظاهر] لقال لك: إنّ هذا الرجل على استعداد لفصل رأسه عن جسده، وعلى التضحية بنفسه [مِن أجل أستاذه]. فالأمر يختلف كثيرًا بين الحالتين، ولهذا السبب يُنهى عن متابعة أيٍّ كان؛ فلا تدري ماذا أحدثت مِثل هذه الرسائل مِن اختلافات في العالَم الإسلاميّ، وماذا أحدثت تلك الأكاذيب [مِن فجائع]! إنّ عباد الله الّذين أَرسلوا إليهم مِثل تلك الرسائل، لم يكونوا على عِلم بحقيقة الأمر، فهم لا يعلمون شيئًا غير ما يسمعونه مِنَ المحيطين بهم مِن عبارات الطاعة المطلقة؛ ألم يصدر نفس هذا الشيء مِمّن كانوا يحيطون بالملوك والسلاطين؟ أيّ كلام كان يصدر مِن هؤلاء؟ [كانوا يُظهرون لهم التبجيل والتعظيم] والحال أنّهم لم يكِنّوا لهم أيّ مقدار مِنَ الاحترام في قلوبهم.

  • أمّا وليّ الله، فهو ما إن يُلقي نظرة على بسملة الرسالة، حتّى يعلم منها خداع المُرسِل، فهو لا يحتاج إلى أن يقرأ الرسالة؛ فللبسملة المكتوبة بنيّة صادقة تلألؤٌ خاصٌ، أمّا تلك الّتي يكتبها مَن يحاول الخداع، فهي ظلمانيّة؛ فكلتا الجملتين بسملة، ولا يمكن مسّهما باليد۱، وهو أمر عجيب حقًّا، إذ البسملة المكتوبة عن حقيقةٍ، فهي نورٌ، يستطيع أن يراها مَن له سنخيّة مع ذلك النور، أمّا إن عُرضت علَيَّ أنا، فلن أتمكّن مِن تمييزها عن الأخرى [المكتوبة عن غير حقيقة]، بل لعلّ هذه الأخيرة تكون مكتوبةً بخطٍ أجمل، ولكنّها خالية مِنَ النور.

  • لقد أَمر أميرُ المؤمنين بضرب تلك المصاحف [الّتي رُفعت مكرًا على الرماح في صفّين]، وذلك لأنّها لم تعُد نورانيّة؛ فالقرآن الّذي إن وجدّتَ جزءً منه على الأرض، لتوجّب عليك أن ترفعها وتقبّلها وتُعيدها إلى مكانها، أو أن تلقيها في النهر، فإنّ هذا القرآن نفسه إذا رُفع بوجه علِيٍّ، لا بدّ حينئذ مِن ضربه بالسهام وتمزيقه وإتلافه، وذلك لأنّ هذا القرآن قد أصبح قرآنًا باطلًا، فهو لا يتعدّى [والحال هذه] كونه حبرًا، ولا يتعدّى كونه كتابًا مطبوعًا، أو ورقًا أو جلدًا، فلم يعُد قرآنًا في هذه الحالة. إنّ القرآن النورانيّ هو ذلك القرآن الّذي يخرج مِن فَمِ أمير المؤمنين، أو مِن فَمِ الإمام الحسن، أو الإمام الحسين، أمّا أولئك الّذين خرجوا لقتال ابن رسول الله في يوم عاشوراء، وإن كانوا يقرؤون القرآن أيضًا، إلّا أنَّهم كانوا يقرؤون ذلك القرآن المنزل على يزيد أو على عُمَر بن سعد، لا القرآن الّذي أُنزل على رسول الله.

    1. ربما قصَد سماحته أنّه لا يجوز مسّهما مِن غير وضوء. (المترجم)

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

6
  • عليكم أن تعلموا أنّ هذه المطالب التّي أطرحها عليكم، هي مطالب دقيقة، حيث تتضمّن نكات تتعلّق بصلب الموضوع [الّذي أنا بصدد الحديث عنه]. وسأتجاوز عن الحديث عن الكثير مِنَ المواضيع، فعلى الإخوة التفكير بشأنها..

  • نعم، كانوا يقرؤون القرآن المُنزل على عُمَر بن سعد – لا ذلك القرآن المرسل إلى الناس – وهو القرآن نفسه المُنزل على يزيد وابن زياد وأبي بكر وعُمَر وعثمان وعبد الملك بن مروان والمأمون وهارون، فقرآنهم جميعًا هو نفس القرآن. أمّا قرآن أهل البيت فهو القرآن الّذي يدعو إلى التمسّك بالولاية، لا الّذي يُبعد الناس عنها، فليس لمِثل ذلك القرآن أيّة قيمة، وهو لا يساوي فلسًا وليست له أيّة فائدة. إنّ القرآن الّذي يقرّب المرء مِن أمير المؤمنين هو القرآن النورانيّ، فلبسملته نورٌ، ولسورة الحمد فيه نورٌ، ولسورة البقرة وبقية سوره نورٌ، وهذه الأنوار الساطعة والمنبعثة مِن تلك الآيات تُسيِّر القلب نحو المبدأ الّذي صدر منه القرآن. أمّا ذلك القرآن النازل على أبي بكر، فعندما يُقرأ على الناس، يجرّهم نحو نهج أبي بكر. اذهبوا وشاهدوا بأنفسكم، فإنّ القارئ وإن كان يقرأ القرآن، ولكن لمّا كان قلبه يميل إلى أبي بكر وعُمَر، فهو يسير باتجاههم.

  • إنّه لأمر عجيب حقًّا أن نرى أثرين مضادّين للآيات القرآنيّة نفسها، فهي تجذب أحدهم إلى النور وتدفع الآخر نحو الظلمة، وتجرّ أحدهم نحو الولاية والآخر نحو الكثرة، وتجرّ أحدهم نحو عالَم البهاء والبهجة والآخر نحو عالَم الظلمات. لذا يتوجّب علينا، عند قراءتنا للقرآن، أن نطلب مِنَ الله أن يسير بنا على نفس الطريق الّذي يسير عليه وليّه إمام العصر (عجّل الله فرجه)، وهو المتولّي أمر القرآن والمُنزِل لمعانيه مِنَ المبدأ وعالَم الوحدة إلى عالم الكثرة؛ وعندها سنرى كيف سيسيّرنا القرآن على الطريق، وسنبدأ بإدراك بعض المعاني الّتي لم نكن ندركها مِن قَبل. ما هو مصدر ذلك؟ إن ذلك يأتيك الآن مِن قلب إمام الزمان.

  • عندما يُسلّم المرء نفسه للولاية، ستعمل هذه الولاية – بحسب استعداد المرء ورتبته وسعته الوجوديّة – على إلقاء المعاني في قلبه، فإن وردت تلك المعاني القلبَ، فعليك المبادرة لتلقّيها فورًا، ولا تدعها تمرّ وتذهب؛ وإن أدركت إحدى المعاني، فعليك المتابعة؛ ولعلّي أتحدّث عن هذا الموضوع لاحقًا.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

7
  • لقد كانت تلك الرسالة رسالة مجازيّة۱، فصحيح أنَّها كانت تتضمّن طلب الأخذ باليد في طريق الهداية، غير أنّ ذلك الطلب كان طلبًا مجازيًّا، وقد استعمل المرحوم العلّامة عبارة أخرى هنا إذ قال: إنّ المُرسِل كتب رسالته وهو يمزح؛ أي إنّها خالية مِنَ الواقع، فلم تتضمّن طلبًا حقيقيًّا، [وكأنّ المُرسِل قال:] تفضّل علَيَّ وخُذ بيدي. فأجابه: نعم، سأقوم بذلك، وسأستخير الله لأرى ما الّذي سأفعله. أو كأنّه قال: لا تدعني وحدي. فأجابه قائلًا: لن أدعك لوحدك.

  • بعث أحد تلامذة المرحوم السيّد أحمد الكربلائيّ رسالةً شبيهة بتلك الرسالة، وقد كتب المرسِل في آخر رسالته: إن قمتَ بتوضيح الموضوع الكذائي لي، ستكتمل بذلك جميع المواضيع، وتأخذ مواضعها الخاصّة بها. فعندما قرأ السيّد أحمد الرسالة، كتب له رسالة جوابيّة قال في آخرها عبارة مِن تلك العبارات. أنا لا أذكر نصّ العبارة، ولكنّها كانت بهذا المضمون: لا أدري على أيّ شيء أتأسّف، فهل أتأسّف على حماقتي أم على ذكائك المفرط، إذ تصوّرتني حمارًا بطلبك منِّي استكمال المواضيع حتّى تأخذ مكانها الخاصّ بها وتملأ كلّ خلأ، إنّ هذا الأمر لا يتمّ بالكلمات يا عزيزي، فابقَ أسيرَ أوهامك، بأن أكتب لك رسالةً أصنّف فيها المواضيع واحدة تلو الأخرى لتصلك مرتّبة جاهزة، كلّا يا عزيزي، فليس لديّ الوقت لمِثل هذا. هذا ما قاله السيّد أحمد، حيث قال: ابق في وهمك واصرف وقتك في تصنيف المواضيع بدل العمل بموجب برنامجنا.

  • لا يوجد عندنا مواضيع عامّة وخاصّة

  • قول عنوان للإمام الصادق عليه السلام (أوصني يا ابن رسول الله)، يعني أنّه أراد وصيّة عمليّة. دعونا الآن نحلّل هذا الكلام، قَبل الشروع في تفسير الموضوع. ونحن طبعًا ندعو لعنوان بالخير على ما طلبه، لأنّه أصبح بذلك وسيلة لوصول تلك الوصايا إلينا، وهي وصايا عجيبةٌ حقًّا، وسأقوم بشرحها إن وفّقني الله لذلك. غير أنّ هناك أمرًا لا بدّ مِن توضيحه قبل الشروع في تفسير كلام الإمام، وهو: أنّنا نتصوّر أنّ هناك نحوين مِنَ المواضيع والحقائق الّتي تُطرح؛ النحو الأوّل هو أنّ هناك مطالب العامّة، يمكن طرحها على الجمع، ويمكن مخاطبة عدد كبير مِنَ الناس بها، فهي ذات نطاق واسع. ثمّ أنّ هناك مواضيع أخرى لها طابع خاصٌّ لا يمكن طرحها على أيٍّ كان، فلا بدّ والحال هذه أن تُطرح في مجلس خاصّ. ولكن حقيقة الأمر ليست بهذا الشكل، فقد كان العظماء يطرحون مواضيع، وما أقوم به الآن هو اتّباعٌ لنفس ذلك النهج، فاختار نفس تلك المواضيع الّتي كانوا يلقونها، ثمّ أطرحها عليكم – فأنا لا أملك شيئًا لأطرحه على الآخرين وقولي هذا ليس مِن باب التواضع فأنا لست مِن أهل التواضع – وهذا ما تتوقّعونه منّي، فأنتم تريدون أن أنقل ما سمعته مِنَ العظماء في فترة مرافقتي لهم، لأضعه بين أيديكم كما هو، بدون أيّة زيادة أو نقصان. وأنا أطلب مِنَ الله أن يوفّقني لذلك، وأن لا أركّب المواضيع وأتصرّف بها بالشكل الّذي يصبّ في مصلحتي الشخصيّة. هذا ما تتوقّعونه منّي، فأنتم بمجيئكم إلى هذا المكان، تتوقّعون أن أتصرّف بهذا الشكل؛ لقد جئتم لتسمعوا ما كان يقوله العظماء، والّذي يوجد بعض منه في الكتب الّتي بين أيديكم، فتستطيعون قراءتها بأنفسكم، وبعضها الآخر موجود في التسجيلات الصوتيّة، فتستطيعون سماعها، ولكن بعض المواضيع المطروحة في هذه الكتب أو في التسجيلات الصوتيّة تحتاج إلى مزيد مِنَ التوضيح، وقد يكون هناك بعضُ المواضيع الّتي لم يتمّ التطرّق إليها في ذلك الوقت، لأنّ المصلحة لم تكن تسمح بإفشائه في تلك الفترة مِنَ الزمان، ولكن لا أرى في هذا الوقت مانعًا مِن طرحها على الإخوة.. على أيّة حال، هذا هو الأساس الّذي تتمحور عليه المواضيع الّتي نطرحها.

    1. هي تلك الرسالة الّتي أرسلها أحد أقارب المحاضِر إلى السيّد الحدّاد الّذي طلب مِنَ السيّد العلّامة الطهرانيّ قراءتها. (م)

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

8
  • فعلى الإخوة أن يعلموا أنّه لا يتمّ إخفاء أيّ أمر عنهم عندما تُطرح المواضيع عليهم، وهذا بالطبع لا يشمل الأسرار، الّتي لا أعلمها أنا أيضًا. هناك معانٍ تنزل وتُفاض على قلب المرء وتحصل له نتيجة تقرّبه واتّصاله بعالَم التجرّد وعبوره عن عالَم الكَثرة، والّتي ربّما تكون مِنَ الأسرار، وفهمها يقتصر على نفس مَن تُفاض عليه، ولا يجوز له تسريبها إلى غيره، بل طرح البعض منها على الغير قد يؤدّي إلى انحراف مسيره، وقد تؤدّي إلى تشتيت الفكر والتشكيك في بعض المعتقدات؛ ولهذا السبب قالوا بحرمة إفشاء السّر وما قد ينكشف للمرء.

  • التزام الأولياء الإلهيّين جانب الحيطة والدقّة في الأسرار الإلهيّة

  • كنتُ جالسًا يومًا مع المرحوم العلاّمة، بعد ارتحال أستاذه المرحوم الحدّاد، فاتصّل به أحد أصدقائه – وهو مِن سكّان إحدى المدن، ومِن أهل تلك الحالات [المعنويّة] – تلفونيًّا للتعزية، فقال له شيئًا أثناء تعزيته – لا أدري ما هو – فرأيتُ وجه المرحوم العلّامة قد تغيّر وقال له بلهجة حادّة: هذا ليس المحل المناسب للتكلّم بمِثل هذا الكلام، ليس كلّ ما يُعلم يُقال. [أقول:] لا بدّ أنّه أراد أن يتطرّق إلى بعض الأمور، فقطع عليه المرحوم العلّامة حديثه، لأنّه لم يكن هذا هو الظرف المناسب للتحدّث بشأنها، إذ لا يمكن التحدّث عن الأسرار أثناء المكالمة الهاتفيّة، ولا أمام الناس، ولا في الوقت الّذي يُحتمل أن تُفشى، ولهذا نرى احتياط العظماء والتزامهم جانب الدقّة في هذه الموارد.

  • كان أحد تلامذة المرحوم السيّد الحدّاد يتحدّث معي حول بعض ما ذكره المرحوم العلّامة في كتاب (الروح المجرّد)، مثل موضوع التربة وموضوع اتّحاد مظاهر الوجود مع أصلها، حيث قال: إن رُفِعت الماهيّة أو الصورة، فلن يبقى سوى حقيقة واحدة. وأمثال هذه المواضيع الّتي لا بدّ وأن اطّلع عليها الإخوة. فكان هذا التلميذ يعترض علَيَّ قائلًا: هل كان رأي السيّد الحدّاد يتوافق مع ما ذكره السيّد العلّامة، مِن حيث أنّ دأب وديدن السيّد الحدّاد هو كتمان السّر، وهذه المواضيع تُعتبر مِنَ الأسرار. فقلتُ له: أولًا، إنّ هذه المواضيع لا تُعتبر مِنَ الأسرار، وإن كان يصعب على بعض الناس إدراكها، بل هي مواضيع ذات طابع تخصّصي، يمكن شرحها بعبارتين فلسفيّتين. أمّا تلك الأسرار، فكن مرتاح البال تجاهها، فلم يبح بها المرحوم الحدّاد لا لي ولا لك، بل قالها لوالدي فقط، وما كتبه المرحوم العلّامة ليس مِنَ الأسرار، فإن كنت لا تدرك ذلك، فعليك أن تدرس وتتعلّم لتتمكّن مِن إدراك ذلك شيئًا ما. فتلك الأمور ليست مِنَ الأسرار، وأستطيع الآن أن أشرحها ببعض العبارات لعلّك تفهمها إلى حدّ ما. ولم أزد على قولي هذا شيئًا. أمّا تلك المواضيع الّتي كان يتداولها المرحوم السيّد الحدّاد والمرحوم العلّامة، والتي هي مِنَ الأسرار، فلا اطّلاع لنا عليها.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

9
  • لا أدري هل كنتُ قد نقلت هذه الحكاية للإخوة أم لا، فعند عودتنا مِن أداء مناسك الحج تشرّفنا بالذهاب إلى كربلاء، فخلدنا إلى النوم ليلًا، حيث أعدّوا لنا، لي ولأخي الأكبر وللمرحوم العلّامة، فراشَ النوم، وكان السيّد الحدّاد ينام في غرفة أخرى أعلى قليلًا مِنَ الغرفة الّتي ننام فيها؛ وبعد مرور ساعة أو ساعتين، رأيتُ السيّد الحدّاد يجيء، وانشغل بالكلام مع السيّد الوالد، إذ كنتُ أستيقظ في بعض الأوقات، ولم يبقَ حينها سوى ثلاث ساعات للصلاة، وكانت الغرفة مظلمة، ولم يُضيئَا المصباح حتّى لا نستيقظ ونسمع ما يدور بينهما مِن كلام؛ فانشغلا بالكلام، ثمّ صلّيَا، وأيقظونا عند الأذان لأداء صلاة الصبح.

  • فكان يتّفق أحيانا أن أستيقظ ليلًا عندما يكون علينا القيام بشيء ما، فوجدتهما يتحدّثان، فلم أحرّك الغطاء وبقيتُ صامتا لأرى ما يدور بينهما مِن حديث، فسمعتُ بعض الأشياء في إحدى الليالي، ثّم يأخذني النوم عندما لا ينبغي أن أستمع لما يُقال. لقد سمعت بعض المواضيع في ذلك الوقت؛ وفي أواخر حياة المرحوم العلّامة، أي قبْل ارتحاله بأشهر، حكيتُ له إحدى تلك المواضيع، فقال لي: مِن أين علمتَ بهذا؟ قلتُ له: [حدث ذلك] في تلك الليلة، الّتي كُتب لي أن استمع فيها إلى ذلك المطلب. ثمّ قلتُ له: ماذا عن بقيّة الموضوع؟ فقال لي: لو كان مقرّرًا أن تعرف ذلك، لبقيتَ يقظًا، فلم يكن مسموحًا لك سوى الاطّلاع على هذا المقدار مِنَ الكلام.

  • على أيّ حال، ما كان مِنَ الأسرار، فلا يمكن لأحد أن يطّلع عليه.

  • التركيز على الكلّيات وترك المصاديق الخارجيّة

  • ما كنتُ أركّز عليه كثيرًا، خلال ارتباطي بالرفقاء والإخوة، هو أمر يتعلّق بالسلوك العقلانيّ، وهو الالتزام بالكلّيات دون التوجّه إلى المصاديق والمشخّصات الخارجيّة والمظاهر، بل التركيز على تلك المعاني الكليّة، الّذي كان دأب وديدن المرحوم الوالد رضوان الله عليه، وطريقة المرحوم الملّا حسين قُلِي الهمدانيّ كانت تؤكّد على هذا النوع مِنَ السلوك العقلانيّ. وهو نهج الآخرين أيضًا، إلّا أنّه ملموس بشكل أكثر وضوحًا في مدرستهما، وهو الالتزام بتلك الحقائق دون التوجّه إلى المظاهر.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

10
  • يحصل كثيرًا أن أتحدّث إلى الإخوة والأصدقاء لمدّة ساعتين مِنَ الزمان، فما الّذي يتضمّنه حديثنا هذا؟ إنّه يشتمل على تقديم النصح وبيان كيفيّة السير والسلوك العلميّ والعمليّ؛ وعند الانتهاء مِن ذلك يأتي مَن يطلب منّي نصيحة! فما الّذي كنتُ أفعله خلال هذا الوقت الّذي يبس فيه لساني مِن كثرة الكلام؟! إنّ المطالب واحدةٌ، فلا تفاوت ولا فرق أبدًا بين المطالب، سواء طُرحت بصورة عامّة أو خاصّة، وهي نفس تلك المواضيع الموجودة في كتب [المرحوم العلّامة]، والّتي قال عنها المرحوم الوالد: مَن يعمل بموجبها سيُفتح له الباب، أمّا إن تكلمنا بشيء، ولم يرتّب المرء أثرًا عليه، فهذا أمر آخر، فعدم ترتُّب الأثر ليس تقصير صاحب المنزل.

  • علينا أن نطلب مِنَ الله أن يمنَّ علينا [بحسن] الاستماع والطاعة والانقياد لما يُقال لنا، وأن نهتمّ بذلك، وأن نعتبر أنفسنا – فردًا فردًا – أنّنا المخاطبون بذلك الكلام؛ كم هو عدد الإخوة المتواجدين في هذا المكان؟ لنفترض أنّني خصّصت لكلّ واحد منكم ساعةً تكلمتُ معه فيها، فتكلّمت مع هذا ساعة ومع ذاك ساعة، فلنتصوّر الآن أنّ تلك الساعات المتفرّقة، جُمعت في ظرف هذه الساعة، فلن يتغيّر في الأمر شيئًا أبدًا؛ هذا ما يُقال له (السلوك العقلانيّ)، وهو أن يسعى الإنسان إلى إدراك المعاني الكليّة دون الالتفات إلى الخصوصيّات الفرديّة والمشخّصات الخارجيّة.

  • التعرّف على حقيقة نفس المعصوم ووجوده

  • الشيء الموجود في مدرسة أهل البيت عليهم السلام هو السلوك العقلانيّ؛ إنّ إمام الزمان هو كلّ شيء بالنسبة لنا، أي لو حذفنا إمام الزمان مِنَ الدين، لأصبح الدين صفرًا لا قيمة له مطلقًا، بل لَكان قشّةً وما دون القشّة، فلعلّ للقشّة بعض الفائدة؛ فالإمام هو كلّ الدين، والدين هو كلّ الإمام، وهذا ممّا لا جدال فيه.

  • أمّا إن جلس إمام الزمان على هذا المنبر وأمرنا بشيء، وقبلنا منه ذلك لأنّه صادر عن إمام الزمان، فلن نستفيد شيئًا، هل التفتّم! فالمسألة ليست كذلك، بل نحن نقبل هذا الأمر مِن إمام الزمان لأنّ إمام الزمان عظيم في أذهاننا، أمّا نفس هذا الكلام الّذي صدر عن إمام الزمان، قد يكون موجودًا في كتابٍ مِنَ الكتب، وقد يصدر عن رجلٍ آخر، بشرط أن نعلم يقينًا بأنّ الكلام هو نفس الكلام.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

11
  • فإن ألقى الإمام علينا كلامًا لا لشيء إلّا لتثبيت مكانته بيننا في هذا العالَم، فلماذا غاب عنّا إذًا؟ هذا هو السبب وراء غيبته؛ فغيبة الإمام عليه السلام هي مِن أجل القضاء على ستار الأحاسيس والمشاعر والتصوّرات والأوهام الّتي تُخيّم على أذهاننا؛ فحقيقة الولاية هي حقيقةٌ كليّة، وهذه الحقيقة الكليّة قد تتجلّى في المظاهر المختلفة والأزمنة المختلفة بهيئة أفراد مختلفين، وقد لا تتجلّى في زمنٍ مِنَ الأزمنة، فإن لم تتجلَّ، فلن يضرّ ذلك بالولاية شيئًا، فهل كانت ولاية الأئمّة معدومةً قبل ولادة رسول الله؟ وهل يتوجّب أن يولد الرسول في تلك السنة مِنَ السيّدة آمنة سلام الله عليها؟ كلّا، بل إنّ ولاية الأئمّة عليهم السلام تتمثّل بنزول الأسماء والصفات الكلّية الإلهيّة السارية والجارية في هذا العالَم منذ أن كان الله إلهًا.

  • إنّ الأصل الكلّي المتمثّل بظهور اسم الله الكلّي كاسم العليم، أو الأصل الكليّ لصفات الله مِثل الخلق والرأفة والعطف والمحبّة واللطف وغيرها، تنزل بواسطة الولاية، فالولاية هي الّتي تحدّد مقدار تلك الأسماء، وإلّا كيف تمكّن الاسم الكلّي مِنَ النزول على هيئة أفراد؟ فلو أرادت ذرّة واحدة مِن اسم الله العليم أن تتجلّى في أنفسنا نحن الجالسون هنا، لتلاشى وجودنا وانتثرت أجزاؤه في الكواكب، ولو نزل علينا جزءٌ يسير مِن لطف الله، لاضمحلّ وجودنا وعُدِم، لماذا؟ لأنّه لا يمكن للوجود غير المتناهي أن يتجلّى في وجود محدود مِن دون أن يُحدَّ بحدٍّ أو قيدٍ.

  • فلو أخذنا مثلًا محطّة توليد الطاقة الكهربائيّة، الّتي تُقدَّر طاقتها التوليديّة بألف أو ألفي ميغا واط، وتمّ توصيل أسلاك مخصّصة لنقل طاقة بمقدار ثلاثمئة ألف فولت بتلك المحطة مباشرة، لانفجرت هذه الأسلاك وتلاشت بحيث لا يمكن العثور على أجزائها. فما يجب أن يحصل هو إيجاد [محوّلات كهربائيّة] تعمل على تقليل الفولت [الآتي مِنَ المحطّة] إلى ثلاثمائة ألف فولت، ثمّ إلى ستين ألفًا ثمّ إلى ستّة آلاف ثمّ إلى ثلاثة آلاف ثمّ إلى مئتين وعشرين فولتًا، لكي تستطيع الأجهزة تحمّلها، على أنّنا لا نستطيع تحمّل حتّى هذه المئتين والعشرين فولتًا، إذ لو أمسكنا بالسلك الناقل لها، لتحوّل جسمنا إلى فحمٍ.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

12
  • ذهبتُ يومًا لزيارة إحدى تلك المحطّات، وكنّا ننظر مِن وراء نافذة مشبّكة، فقال لنا المشرف: لو مدَّ أحدكم إصبعه عبْر هذا الشبّاك وإن لم يمسَّ أيّ سلك، سيتحوّل بدنه إلى فحم، لماذا؟ لأنّنا لا نستطيع تحمّل الذبذبات المنبعثة مِن هذا التيّار الكهربائيّ. غير أنّ هذا الفولت البالغ مائتين وعشرين يمكن خفضها بواسطة محوّلات كهربائيّة إلى عشرة أو خمسة فولت، وحينها يمكنك لمس السلك الناقل لها دون أن تتأذّى، نعم قد يرتعش الجسم قليلًا عندئذ.

  • فلو أراد عِلم الله أن ينزل على الأفراد، دون تنظيم كيفيّته عن طريق وسيط، وبدون أن يوزّع بين الناس بحسب سعة نفوسهم، فسيُجنّ المرءُ بكلّ تأكيد خلال ثانيةٍ واحدة فقط، هذا إن لم يَمُت خلالها؛ هذا ممّا لا شكّ فيه؛ ولقد حصل هذا للكثير مِنَ الناس، مع أنّ ما تعرّضوا له لم يكن شيئًا يُذكر. وهكذا هو الحال بالنسبة إلى لطف الله وغضبه ومحبّته وفيضه. ولكن عليكم أن تعلموا أنّ هذا الإنسان – الّذي لا يتمكّن مِن تحمّل نزول ذلك العلم عليه لمدّة ثانية أو لحظة واحدة – يستطيع أن يصل إلى المقام الّذي قال الله عنه «لَا يَسَعُنِي أرْضِي وَلَا سَمَائِي، بَلْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِيَ الْمُؤمِن بِي»۱‌؛ فلا الأرض ولا السماء قادرتان على تحمّلي عندما أتجلّى لهما، غير أنّ قلب عبدي المؤمن قادرٌ على ذلك؛ أي إنّه قادر على تحمّل الفولت البالغ ثلاثمئة ألف؛ ففي الوقت الّذي يُصعق فيه الإنسان بالفولت البالغ خمسين أو مئة، يكون النبيّ قادرًا على تحمّل الفولت البالغ ثلاثمئة ألف، [فهو التجلّي الأعظم الوارد في دعاء] «اللهمّ إنِّي أسألك بالتجلِّي الأعظم»٢‌؛ لا تنسوا قراءة هذا الدعاء في ليلة السابع والعشرين مِن شهر رجب أيّها الإخوة، فلا بدّ مِن قراءته، حيث كان العظماء يؤكِّدون على قراءة هذا الدعاء في تلك الليلة، والمقصود منه هو النبيّ، فهو التجلِّي الّذي ليس فوقه تجلٍّ، فلم يَخلق الله تجلٍّ أعظم منه، فهذا التجلِّي هو عبارة عن نفس النبيّ. فما هي طبيعة نفس النبيّ، الّتي لها القابليّة على تحمّل الفولت البالغ ثلاثمئة ألف! فمعنى «اللهمّ إنِّي أسألك» هو: إنَّني أجعل النبيّ وسيلتي لاستجابة دعائي «في هذِهِ اللَّيْلَةِ مِنَ الشَّهْرِ الْمُعَظَّم»؛ هذا الدعاء عالي المضامين، وفيه يسأل العبدُ ربَّه أن يفعل به كذا وكذا.

    1. معرفة المعاد، ج ٢، ص ٢۰۸؛ وجاء الحديث في عوالي اللئالئ، ج ٤، ص ۷ بهذا اللفظ: لا يسعُني أَرضي ولا سمائي ولكنْ يسعُني قلبُ عبدي المؤمن‌. (م)
    2. البلد الأمين، الشيخ الكفعمي، ص ۱۸٣‌. (م)

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

13
  • لنفس الإمام وولايته دورُ تلك المحوّلات الكهربائيّة الّتي تستلم التيّار الكهربائيّ مِن محطّة التوليد الرئيسيّة فتوزّعه على المصانع والبيوت والدوائر الحكوميّة وعلى كافّة الأجهزة الكهربائيّة والبطّاريات والمصابيح، بما فيها المصباح الصغير الّتي لها طاقة واط واحد، وتوصله إلى كافّة الذرّات، وإلى تلك البعوضة وإلى ذلك الموجود الصغير الّذي يطير في الهواء؛ هكذا هي نفس الإمام، فهي تعمل عمل الوسيط.

  • التعرّف على المعيار الأسمى في طاعةِ المعصومِ

  • فما دامت أسماء وصفات الله الكليّة تتجلّى في عالَم المظاهر، فنفس إمام الزمان عليه السلام، هي الّتي تقوم بهذا العمل. وها هو إمام الزمان يقول لنا: لا تطيعوني لمجرّد كوني إمامًا، له ما له مِن قدرةٍ وهيبة وهيمنة وجلال وعظمة في نفوسكم، فإن أطعتموني لهذه الصفات، لن تكونوا قد أطعتموني، بل أنا ذلك الإمام الّذي يجب أن يكون وجودي وعدمه بالنسبة إليكم واحدًا، ويجب أن يكون وجودي في السجن وكوني طليقًا بالنسبة إليكم سواء. فليس مِنَ الصواب الذهاب إلى الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) والتسليم عليه بالقول (السلام عليك يا بن رسول الله) ما دام موجودًا في المدينة، ثمّ إن سجنه هارون يتمّ نسيانه، [فلو كان الأمر كذلك] فلا يَعُد ذلك هو موسى بن جعفر! وهذا ما كانوا يفعلونه مع الإمام الرضا عليه السلام عندما كان في المدينة؛ فكانوا يتردّدون على داره ويسلّمون عليه ويعظّمونه ويطيعونه، حتّى إذا خرج مِنَ المدينة وجاءهم مَن ينقل إليهم أمرًا مِنه، وجدتهم يتوانون في تنفيذه! لا فائدة في تعامل كهذا.

  • مَن يجلس مقابل إمام الزمان ويتكلّم معه بصورة مباشرة، سوف تغلب عليه المشاعر والعواطف والأوهام والخيال، وسيتقبّل كلام الإمام على هذا الأساس، لا أنّه يتقبّله مِنَ الإمام لكونه إمامًا؛ فهل انتقص شيء مِن شخصيّة إمام الزمان لكونه غائبًا عن الأنظار في الوقت الحاضر؟! وهل يجب أن يكون الإمام ظاهرًا لكي نتقبّل ما يقوله؟! وهل يتوجّب أن نلتقي به في مجلس خاصّ لكي نتقبّل أوامره؟! فما الّذي يجنيه ذلك القائل: لقد منحني الإمام فرصةً للقائه، [ثمّ يقول للآخر] ألم يمنحك مثل هذه الفرصة؟ إنّه لا يجني شيئًا، ولا يُعتبر هذا نوع مِن أنواع الطاعة له. فكلّ هذا يحصل نتيجة الوقوع تحت تأثير هيمنة شخصيّة إمام الزمان، ليس نوعًا مِن أنواع الطاعة له. فبالرغم أنّك تقبل قول الإمام في حالتك هذه، غير أنَّ هذا ليس هو المطلوب، بل هو دون ما يجب الحصول عليه.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

14
  • نحن الآن نقبل ما يقوله الإمام، لأنّه صادر عن الإمام، ولم نكن لنقبله لو كان صادرًا عن غيره؛ فكلّ هذا صائب؛ فلو سمعنا هذا الكلام مِن غير الإمام، لرفضناه؛ فنحن نطيع هذه الأوامر لكونها صادرةً عن إمام الزمان أو الإمام الرضا أو الإمام الحسن، وذلك لكونهم أئمّةً، وهذا أمر صحيح، غير أنَّه ليس هو المطلوب، بل هنالك ما هو أسمى مِن ذلك، وهو أن يدرك المرء أمرًا حقانيًّا عن الإمام فيعمل به، وإن لم يصرّح له الإمام به. هذا هو معنى السلوك العقلاني؛ أي على الإنسان أن يقبل ما يصدر ويترشّح عن الإمام.

  • الاستفادة المُثلة مِنَ الوسائل الدنيويّة

  • لو طلب أحد مقابلة الإمام، ولو لمدة خمسة دقائق، فلم يأذن له الإمام لعدم وجود فرصة لديه، فهل مِنَ الصحيح أن يقول أنّ الإمام قد جافاه لأنّه لم يسمح له بمقابلته، أو لأنّه لم يردّ على مكالماته الهاتفيّة؟! وإن كان الإمام لا يمتلك تلفونًا، فهو لا يعاني ممّا أعانيه أنا بإشغال وقتي بالاستماع إلى هذه المكالمات ليلًا ونهارًا! أنا أقسم أنّ الإمام لا يمتلك تلفونًا في بيته، فهو في راحة مِن شرّ هذا الجهاز. إنّ هذا الجهاز مصدرٌ للشّر فعلًا، وأسوء منه ما ظهر حديثًا مِن أجهزة التلفون المحمول، فإنّ شرها أكبر مِن شرّ التلفون [المنزليّ أو المكتبيّ]؛ ما معنى أن يحمل الإنسان في جيبه هذا الجهاز الّذي لا يتوقف عن الرنين! دعه في بيتك يا هذا، وعِش في راحةٍ بالٍ وطمأنينة وهدوء وسكون لدقائق، كنّا قبل ظهور هذا الجهاز نتجوّل براحة، كما أنّه لم يكن قبل ذلك هاتف.

  • عندما تمّ بناء بيتنا، أراد الكهربائيّ تأسيس سلك للتلفون، فقال له المرحوم العلّامة: لا أريد سلكًا للتلفون في بيتي. غير أنّه أُجبر فيما بعد على نصب هذا الجهاز في البيت، ولكنَّني أتذكّر في ذلك الوقت – الّذي كنتُ فيه طفلًا أبلغ مِنَ العمر حدود ستِّ سنوات – قوله: لا أريد في بيتي سلكًا للتلفون. أمّا نصب الجهاز وعدم نصبه [فيما بعد] فهو أمر آخر. كما أنَّ للظروف الزمانيّة ما تقتضيه. ومع هذا لا يُفترض بأحدنا أن يُلقي بنفسه في البئر باختياره؛ فصحيح أنَّ جهاز التلفون المحمول هو جهاز جيّد – سأتحدّث عن هذا الموضوع فيما بعد وليكن كلامي هنا مقدّمة في هذا الموضوع حتّى لا تُصعقوا حينها – ولكن لا يُفترض أن يكون مفعّلًا طوال الوقت، بل مِنَ المستحسن إغلاقه لبعض الوقت في فترة الاستراحة وفي فترة خلوة الإنسان بنفسه، فلا مبرّر لردّ الإنسان على كلّ ما يأتيه مِنَ الطرف الآخر، ثمّ يضيف مقدارًا عليه مِن عنده ويجلب لنفسه البلاء. هذا الجهاز قد صُنع للّذين لا يريدون سلوك هذا الطريق، بل يريدون إمضاء حياتهم اليوميّة بأيّ نحوٍ كان، فلم [يُصنع] لنا. فعلينا أن نستفيد منه الاستفادة الصحيحة، كان المرحوم السيّد القاضي يقول: على السالك الاستفادة مِن تلك الأدوات الّتي يوفّرها العالَم له بأمثل وجه.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

15
  • فليس مِنَ الصحيح أن يضع الإنسان هاتفه المحمول جنب سجّادة صلاته، لكي يعرف مَن الّذي يتصّل به في هذا الوقت! فذلك ليس بسالك. أو أن يرنّ التلفون في جيب المرء وهو مشغول بالسؤال عن أموره العقائديّة، فمِثل هذه التصرّفات مخالفةٌ لآداب المعاشرة؛ نعم على المرء أن يستفيد من هذه الأدوات بأمثل وجه، لكي يكون هو المهيمن على ما يحيط به مِن ظروف، لا أن يكون مقهورًا ومغلوبًا لها؛ فالخسارة تتمثّل في تضييع الفرص.

  • طاعة المعصوم والوليّ الإلهيّ لا تتوقف على حضورهما وغيابهما

  • إمام الزمان عليه السلام، الّذي له كلّ هذه الخصائص، يقول: لا ينبغي لك الاستماع إلى كلامي فقط في حال حضوري بجنبك، إذ لا معنى عندي للغيبة والظهور، ولا يفرق الأمر عندي شيئًا بين أن أكون في السجن أو أكون جالسًا إلى جنبك. لقد سُجن الإمام موسى بن جعفر مدةَ أربع سنوات، فهل فَقَدَ الإمام إمامته في هذه السنوات الأربع؟! لا، بل هو الإمام والحاكم والوالي على جميع عالَم الوجود، وهو واسطة الفيض بين الله وخلقه [في جميع الأحوال]، وقيامه بعمله الولائيّ لا يفرق قيد شعرة، فيما إن كان سجينًا مقيّدًا بالأغلال وتحت تعذيب أتباع هارون، أو كان في بيته بين عائلته.

  • إن ألمنا رأسنا لدقائق، لن نتمكّن [حينئذ] مِنَ التكلّم مع صديقنا وسنقوم بصرفه عنّا، أمّا الإمام والوليّ وواسطة الفيض بين الله وخلقه [فلا يفرق الأمر عنده شيئًا] وإن كان واقعًا تحت التعذيب، فلا تعيقه الأغلال والسلاسل عن ذلك.

  • لقد أخذوا الإمام السجّاد مِن كربلاء إلى الكوفة، وهو مقيَّد بالأغلال، والدماء تنزف مِن تحت حلقات السلاسل، ثمّ نقلوه وهو على هذه الحال إلى الشام، وبقي فيها عدّةَ أيّامٍ، إلى أن أمر يزيد بفتح تلك الأغلال عن الإمام؛ فقد كان الإمام السجّاد عليه السلام طيلة تلك الفترة هو الإمام وصاحب مقام الولاية الكليّة، فهل عندنا مَن يُقارن بالإمام!! وكان جميع عالَم الوجود يرتزق مِن خلال نافذة نفس الإمام السجّاد – وهو على تلك الحال – بمَن فيهم أولئك الّذين أسروه وحملوه معهم، كالشمر وأمثاله. فلو أراد الإمام لأصبحوا في لحظة واحدة هباءً منثورًا وعدمًا محضًا. عندما كان يزيد ينظر إلى الإمام مكبّلًا بالأغلال، وهو جالس على عرشه، كان يتصوّر أنّ الإمام أسيرٌ لديه، والحال أنّه لو كان هناك مَن يمتلك عينًا تستطيع رؤية حقيقة ما يجري، لرأى أنّ يزيد المسكين هو الأسير لدى الإمام، لا أن الإمام هو الأسير عند يزيد. فإنّ الإمام في تلك اللحظة كان يأمر عزرائيل بقبض روح هذا وذاك، وأنت تتصوّره أسيرًا لديك يا يزيد! والإمام هو الّذي يأمر جبرائيل بإفاضة العِلم على هذا وذاك، وأنت تتصوّره أسيرك! هذا هو مقام الإمام.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

16
  • فالإمام عليه السلام هو تلك الحقيقة والولاية الّتي لا تتجلّى فقط عندما يكون أمام أعيننا، فنحن مَن نراه بهذه الكيفيّة! أمّا ولايته فهي ليست بهذا الشكل الّذي نراه. بناءً على هذا، لن نجني مِن طاعتنا للإمام عليه السلام، إذا كنّا نطيعه وفق ما نعتقده فيه، مِن كونه [فقط] إمامًا وصاحبَ ولايةٍ وله ما له مِن تلك الصفات المذكورة في الكتب، ووفق ما يصوّره لنا وعّاظُ وأئمّة المنابر مِن تصاوير عن إمام الزمان، بل يجب أن يكون الإمام عليه السلام موجودًا في نفوسنا بالشكل الّذي لا تختلف مكانته في قلوبنا، سواء كان في غيبةٍ وغيرَ حاضر بيننا بحسب الظاهر، أو كان جالسًا إلى جانبنا الآن ومتّكئً على إحدى هذه الوسائد. فإن لم يفرق الأمر عندنا قيد شعرة [بين هاتين الحالتين]، سنكون قد وصلنا توًّا إلى مرحلة السلوك العقلانيّ، وفي هذه الحالة لن نحتاج إلى مَن يُذكّرنا بشكل دائم، ولن نحتاج إلى ضرورة أن نسمع أمرًا ما مِن أحد العظماء [لكي نبادر إلى العمل].

  • كنتُ في سابق الزمان، علاوة على متابعة دروسي الرسميّة، أقرأ بعض الكتب الّتي أتشوّق لها، وكان المرحوم العلّامة يقول لي: مِنَ المُبكِر أن تبدأ بهذا العمل في الوقت الحاضر.. كنتُ أعتقد في نفسي بأنّ المرحوم العلّامة لم يكن على عِلم بما أقوم به؛ لقد حصل ذلك عندما كان عمري حدود الاثنين والعشرين؛ فدخل المرحوم العلّامة غرفتي يومًا، ووجدني أقرأ تلك الكتب، فقال لي: لم يَفُتك الوقت لقراءة هذه المواضيع يا عزيزي، فعليك الاشتغال بما هو أهمّ منها. فانفعلتُ حينها، ومع ذلك قلتُ له: سمعًا وطاعة، لن أقرأها بعد الآن. عندها وقف المرحوم العلّامة والتفت إليَّ قائلًا: لماذا قلتَ (سمعًا وطاعةً)؟! التفتوا إلى أنّ قولي (سمعًا وطاعةً) كان عن جدٍّ، فلم أقرأ تلك الكتب حتّى مضت عدّة سنوات على ذلك. وقال لي: هل فهمتَ سبب منعي لك مِن قراءتها حتّى تستجيب لي بقولك (سمعًا وطاعةً)، أم أنّك قلتها لأنّني أنا أمرتك بذلك؟ قلتُ: بل لأنّكم أمرتني بذلك. فقال لي: لا فائدة في طاعة مِن هذا النوع.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

17
  • يقول: أريدك أن تدرك مغزى كلامي فتطيع، لا أن تطيع لمجرد أنّي أمرتك – أنا مَن يقول هذا الكلام فالمرحوم العلّامة لم يقل ذلك – فأدركتُ ما أراد قوله حين فكرت بكلامه، ووجدته كلامًا صائبًا، فامتنعت عن مطالعتها لسنوات. [فمعنى كلامه: عليك أن تقوم بذلك] سواء كنتُ في البيت أم لم أكن، وسواء دخلتُ غرفتك فجأةً لأرى ما الّذي تفعله، أم لا، [لا أنّ] تتناولها حينما أكون خارج المنزل، ثمّ تخفيها في الخزانة حين تواجدي، فإنّ هذا سيجري عندما يكون الأمر مبنيًّا على السماع فقط، أمّا إن أدرك المرء حقيقة الأمر، فلن يكون للحضور والغياب أيّ دور في كيفيّة التصرّف. هكذا هو نهج مدرسة أولياء الله، فهو يقول: لا تنظر إليّ نظرة الوالد لابنه، بل انظر إلى ما أقوله لك، واعرف مغزى كلامي، فإن أدركتَ ذلك فلن يفرق الأمر عندك شيئًا، سواء كنتُ حيًّا أُرزق، أو ميتًا متوسّدَ التراب، حيث لا رقيب على أعمالك، ولا مَن ينبّهك على أخطائك، وبإمكانك أن تفعل ما يحلو لك.

  • هل أوامر وتعليمات المرحوم العلّامة مختصّة بفترة حياته فقط، بحيث نكون حينها [فقط] على حذر – إن أردنا أن نكتب شيئًا – لئلّا يأتي أمر أو نهي مِن مدينة مشهد، أم لا، إذ أصبح الأمر الآن أكثر صعوبة وإحكامًا؟ يجب أن لا يفرق الأمر شيئًا. وبناءً على هذا، علينا أخذ الأمور بجديّة تامّة، وأن لا يكون للأسباب دور في تصرّفاتنا.

  • أهميّة التسليم للحقائق الكامنة والأسرار العميقة

  • حصل أن قُطعت يد أحد جنود أمير المؤمنين في معركة صفين، فجاء إلى أمير المؤمنين يشتكي حاله، فقرأ عليها أمير المؤمنين كلمات وأعادها كما كانت، فقال الرجل: ماذا قرأت عليها يا علِيّ؟ فقال له أمير المؤمنين: قرأتُ عليها سورة الحمد. فقال الرجل [مستنكرًا]: أقرأت عليها سورة الحمد! فقال أمير المؤمنين: أتراجع عمّا قرأتُه إذًا. فوقعت يد الرجِل في الحال.. أتستهين بسورة الحمد يا هذا؟! فإن كان الأمر كذلك، فسأتراجع عن قراءتها. ومهما أصرّ الرجل [بعد ذلك] على أمير المؤمنين لإعادتها ثانيةً، لم يستجب له.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

18
  • إنّ لسورة الحمد مكانتها، هذا في الوقت الّذي ترى فيه البعض لا يقتنع بقراءة سورة الحمد فقط على المريض لِيُشفى، ما لم يكن ذلك مصحوبًا بأفعال المشعوذين الّتي لا يعرفها الآخرون، والحال أنّ جميع تلك الأعمال تؤتي ثمارها بواسطة الأسرار المكنونة في سورة الحمد. إنّ لباس الصحّة والعافية يتلبّس جميع ما في هذا العالَم بواسطة الأسرار المودعة في سورة الحمد، وهذا ممّا يجهله عامّة الناس، ولكن ذلك لا يتمّ بقراءتها لقلقةً.

  • يجب أن تكون الطاعة طاعة مبدئيّة لا شخصانيّة

  • على الإنسان أن يعمل طبق ما يقول به ويسمعه، وبعنوانه مفهوم كليّ، فإن عمل به سيتقدّم إلى الأمام، وإلّا سيراوح مكانه. نعم، قد تحصل له بعض الحالات، وتنكشف له بعض الأمور، غير أنّها أمور سطحيّة لا عمق لها. ولهذا، فإنّ جميع ما حصل بعد ارتحال المرحوم العلّامة، قد حصل بسبب أنّ الأفراد كانوا يعملون بمطالب المرحوم العلّامة بسبب شخصيّته، وبسبب ما له مِن جلال وعظمة وجبروت، وعندما ارتحل المرحوم العلّامة أخذ معه جميع هذه الأمور إلى قبره، فماذا بقي حينئذ لذلك التلميذ؟ لم يبقَ له أيّ شيء، عندها سيميل الإنسان مع أيّ ريح تهُبّ. أمّا الّذين أدركوا حقيقة الأمر، وعرفوا طبيعة نهج مدرسته، ووصلوا إلى عمق تلك الحقائق، وإلى ما ذكرته في المجلس الّذي أُقيم في اليوم الثالث بعد ارتحال المرحوم العلّامة، [فهؤلاء ثبتوا على النهج]. لقد قلتُ في ذلك المجلس: أيّها الإخوة، إنّ أستاذكم المرحوم العلّامة قد ارتحل عن الدنيا، ولكنّ الله لم يرحل، فما معنى هذا البكاء؟! إنّ المرحوم العلّامة قد دفن الآن في قبره، ولكنّ الله لم يُدفن! كنتُ أريد إيصال هذه الرسالة إليهم وهي: نحن لم نكن نطيع المرحوم العلّامة بسبب تأثير شخصيّته الظاهريّة، بل كنّا نقبل كلامه لأحقيّة ذلك الكلام، وهذه الأحقيّة لا تزال في مكانها ولم تتبدّل. لقد كان عبارةً عن بدن يتحرّك، وها قد فَقَدَ هذا البدن روحه، فلا بدّ والحال هذه أن يوضع في التراب. فلو لم نكن مكلّفين بدفنه، لقمنا بتحنيطه وجعلناه مومياءً نزورها ونعظّمها كلّ يوم!

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

19
  • إنّ الّذي يضع على جدار بيته صورةً للمرحوم العلّامة ليقبِّل صباح كلّ يومٍ رجليه وعصاه، ثمّ يتصرّف في الخارج بخلاف ما كان المرحوم العلّامة يؤمن به، وينقل عنه مطالبًا وعبارات يقشعرّ لها بدنه مئة بالمئة وهو في ذلك العالَم، فإنّ هذا الرجل كان طوال عمره يعبد شخصيّة المرحوم العلّامة لا مبادئه الّتي يؤمن بها، فهو لا يعبد الحقيقة والواقع..

  • عندما كان المرحوم العلّامة يقول بحرمة إطلاق تلك العبارات بحقّ بعض الأشخاص، وأنّ فيها إشكال، فهل مِنَ الصحيح حينئذ أن نستعملها! وعندما كان يقول بعدم جواز القيام ببعض الأعمال، فهل يجوز أن نقوم بها في الوقت الحاضر! وعندما كان يقول بعدم جواز استعمال بعض العبارات وأنّ استعمالها ينطوي على إشكال شرعيّ، فهل كان ذلك مختصّ بزمن حياته فقط! لو كان الأمر كذلك، لكان عليه أن يُوصي بدفن كتبه معه بعد ارتحاله، لأنّ تأليفاته – والحال هذه – كانت مختصّةً بزمن حياته فقط، فما إن يرتحل عن الدنيا حتّى تَبطل وتُشطب بالقلم الأحمر جميعَ مطالب كتاب (معرفة المَعَاد) و (معرفة الإمام) و (معرفة الله) و (التوحيد العلميّ) وتُدفن معه! فهل كان الأمر بهذا الشكل حقًّا، أم أنّه يقول أنّ بداية حياة تلك المؤلّفات تبدأ بوفاته. فهو يقول: أنا مَن دُفن تحت التراب، أمّا مبادئي لم تُدفن معي، بل هي باقية على حالها.

  • نحن لا ندقّق في هذا الأمر كما يستحقّ، بل نولّيه القليل مِنَ الاهتمام فقط، فعلينا أن نعمل على تقوية وتعزيز هذه المسألة في أنفسنا، وعلى الإخوة الاهتمام بهذا الأمر بشكل أكبر.

  • لماذا قال عنوان البصريّ للإمام (أوصني) بعد أن بيّن له بعض المطالب

  • إنّ البيان [الأوّل] الّذي قدّمه الإمام الصادق لعنوان البصريّ بشأن السلوك، لا يبقى معه محلٌّ لقول عنوان للإمام: أوصني، واشرح لي يا ابن رسول الله بعض الأمور الإضافيّة والخاصّة. إذ ما قاله الإمام [أوّلًا] يكفي. فمع أنّ المواضيع الّتي ذكرها الإمام الصادق فيما بعد، هي مواضيع أساسيّة وتضمّنت مزيدًا مِنَ التوضيح، إلّا أنّها لا تختلف عمّا ذكره الإمام أوّلًا؛ [فلو نظرنا إلى عبارة:] «وَاهْرُبْ مِنَ الْفُتْيَا هَرَبَكَ مِنَ الأسَد»، ألن نجدها في كلمات الإمام السابقة، وألم تكن واحدة مِن مصاديق تلك المطالب الكليّة الّتي ذكرها الإمام؟ [وكذلك عبارة:] ارفع يدك عن الطعام قبل أن تشبع۱‌، ألم يذكر هذا الأمر في كلامه السابق؟ [وعبارة:] «وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ لَهُ: إنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا تَقُولُ فَأَسْأَلُ اللَهَ أَنْ يَغْفِرَ لِي، وَإنْ كُنْتَ كَاذِبًا فِيمَا تَقُولُ فَاللَهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَ لَك»‌، أفلا تتضمّن تلك المواضيع [السابقة] هذا الأمر أيضًا؟ نعم، كان كلامه السابق يتضمّن هذه المطالب، غير أنّ الإمام قدّم بها مزيدَ إيضاحٍ وتفصيلٍ.

    1. لعله إشارة إلى قول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان البصريّ: وَاذْكُرْ حَدِيثَ الرَّسُولِ (صلّى الله عليه وآله) مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ. (المترجم)

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

20
  • فلو كان عنوان واصلًا إلى تلك الدرجة الّتي تمكّنه مِن إدراك تلك المعاني في قلبه بشكل أفضل، لما احتاج أن يطلب مِنَ الإمام مرّةً ثانية أن يوصيه. ولكن رحم الله أباه على طلبه هذا، إذ بذلك سنتمكّن نحن مِن فَهم مطالب الإمام عليه السلام بشكل أفضل، وإذا وفّقنا الله سيرى الإخوة – إن شاء الله – أيّة أسرار ورموز مخفيّة تتضمّنها تلك الوصايا.

  • هذا ما أردتُ طرحه كمقدمة لشرح بقيّة فقرات حديث الإمام الصادق عليه السلام، وسأستكمل شرح الحديث في المجلس القادم إن شاء الله.

  • توصيات لشهر رجب الأصبّ ولشهري شعبان ورمضان

  • توجد بعض النكات الآن، الّتي يجب الالتفات إليها، ففي كلّ عام نطرح على الأخوة بعض المطالب المتعلّق بشهر رجب، ولقد طرحتُ عليكم في المجلس السابق بعضًا منها، ثمّ بدا لي أنّني لم أوفِ المطالب المتعلّق بخصائص هذه الأشهر حقّه، ولم أوضّحها بالدقّة المطلوبة. وهذا دأب المرحوم العلّامة أيضًا، فقد كان يوضّح لإخوته في كلّ سنة بعضَ الأمور المتعلّقة بشهر رجب، واستمرّ على هذا النهج حتّى أواخر عمره الشريف، حتّى في الفترة الّتي تشرّف فيها [للسكن] في مدينة مشهد، كان يوضّح بعض الأمور، وهي أمور مهمّة وأساسيّة، تتعلّق بكيفيّة الاستثمار الأمثل لنتائج المراقبة والتوجّه والاهتمام الّتي يبذلها الإخوة طوال الأشهر التسعة الّتي تلي شهر رمضان، حتّى تظهر آثارها ونتائجها.

  • واقعًا يمكننا القول أنّ الأشهر المباركة الثلاث (رجب وشعبان ورمضان) هي أشهر تثبّت المراقبات الّتي حصلت في الأشهر التسعة السابقة لها. ولهذا السبب كان يعطيها أهميّة كبيرة ويقول، كما كان العظماء يقولون: إنّ هذه الأشهر الثلاثة هي مِنَّة إلهيّة لسالكي طريق الله، فهي واحدة مِن تلك المواهب الإلهيّة العظيمة للسالكين والراغبين في السير في طريق الله، فلله عناية خاصّة بهم في هذه الأشهر.

  • وهذا ما يلمسه الإخوة بأنفسهم؛ فما إن يحلّ شهر رجب، حتّى يرون أنَّ الأجواء قد تبدّلت، وتتبدّل أصلًا الأوضاع والخصائص. ويبدو – ولله الحمد – أنّ هذا الأمر قد أتّخذ طابعًا عامًّا، فنحن نرى أعدادًا كبيرة مِنَ الناس، بدأت تُعطي هذا الأمر أهميّته، خصوصًا في إيران؛ فإنّ لحال هؤلاء الناس أثرًا قويًّا على الأجواء؛ فانعقاد تلك المجالس العامّة، وما يجري الآن مِن اعتكاف وصيام، في هذا الشهر، لا يمكن النظر إليه بأنّه أمر عاديّ، بل له أثرٌ معنويّ على الجوّ العامّ، وهذا ممّا لا شكّ فيه أبدًا. الحمد لله فهذه إحدى النِّعم الّتي مَنَّ الله بها علينا، إذ جعلنا ندرك هذا الأمر إلى حدّ ما، ودفعنا للسعي لاغتنام هذه الفرص.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

21
  • كان العظماء يؤكِّدون كثيرًا على ما لشهر رجب مِن خصوصيّة، حتّى كانوا – كما ذكرتُ للإخوة – يرجّحونه مِن بعض الجوانب على شهر شعبان وحتّى على شهر رمضان أيضًا. وكانوا يوصون بقراءة الأدعية الخاصّة بشهر رجب يوميًّا، ويُفضّل قراءتها بتدبّر؛ فإن كان كتاب (مفاتيح الجنان) الّذي بين أيدي الإخوة يشتمل على ترجمة عربيّة، فعلى مَن لا يجيد العربيّة جيّدًا الرجوع إلى الترجمة. ويُفضّل قراءة الدعاء بسكون وطمأنينة مع التدبّر في معاني الكلمات، فلا ينبغي أن يكون همّ أحدكم الإكثار مِنَ القراءة، فليس لها ذلك التأثير، بل لا بدّ مِنَ التدبّر في معاني الكلمات، فقراءة دعاءٍ واحدٍ بتدبّر أفضل مِن قراءة عددٍ مِنَ الأدعية – الواحد تلو الآخر – بسرعة، فكثرة القراءة لا توصل أحدًا إلى هدفه.

  • كما أكّد العظماء كثيرًا على أداء أعمال ليلة الرغائب، وهي أوّل ليلة جمعة في شهر رجب المبارك. وما يُستفاد مِن أقوال العظماء أنّ مَن فاتته أعمال ليلة الرغائب خسر عامه ذاك. فإلى هذا الحدّ أكّدوا على تأدية أعمال ليلة الرغائب، الّتي لا أذكر تفاصيلها، ولكّنها موجودة في كتاب (مفاتيح الجنان). ويُفضّل صيام يوم الخميس ليتهيّأ المرء لأداء بتلك الأعمال. وكلّما صام أحدكم أيّامًا أكثر مِن شهر رجب، كان ذلك أفضل له، وكذلك الأمر بالنسبة لشهر شعبان، فالصيام يعمل على إعداد الإنسان.

  • وقد جرى التأكيد على زيارة قبور المعصومين، أو أبناء الأئمّة أو العظماء المدفونين في مُدنكم، فإن لم يكن في مدينتكم قبرًا لأحد أبناء الأئمّة المعروفين، فليَزُر قبور العظماء المدفونين هناك. وبالنسبة للّذين يسكنون مدينة طهران، فعليهم ألّا يتركوا زيارة قبر السيّد عبد العظيم الحسنيّ، لا أقلّ مرّةً واحدة في الأسبوع. وعليهم أن يعلموا أنّ العظماء في السابق كانوا يسمّون السيّد عبد العظيم بـ (نور طهران)، ولقد جاء في الرواية المنقولة عن الإمام الهادي عليه السلام قوله «من زار عبد العظيم بالريّ، كان كمن زار الحسين بكربلاء»۱، فاعرف مكانته مِن خلال هذا الحديث، فالحديث يقول: من لم يتمكّن مِن زيارة سيِّد الشهداء، وزار السيّد عبد العظيم، سيكون كمن زار الإمام الحسين. هذا أمر عجيب حقًّا، ولقد سمعت مِن أهل الباطن قولهم: إنّنا نشاهد عند زيارتنا للسيّد عبد العظيم، نفس الحالات الّتي نشاهدها عند زيارتنا لسيّد الشهداء، فيا له مِن أمر عجيب جدًّا؛ قد لا تمتلك السيِّدة المعصومة – على الرغم مِن عِظَم جلالتها الّتي ربما تكون أعظم منزلةً مِنَ السيّد عبد العظيم، على أنّنا لسنا في مقام يستطيع التمييز بينهما – تلك الخصوصيّة الّتي يمتلكها السيّد عبد العظيم الحسنيّ. فبالنسبة لساكني مدينة طهران، الّذين لا يبعد حرم السيّد عبد العظيم الحسنيّ عنهم سوى فرسخين تقريبًا، عليهم أن لا ينسوا زيارته مرّةً واحدة في الأسبوع على الأقل.

    1. جاء في وسائل الشيعة، ج ۱٤، ص ٥۷٥: محمد بن علِيّ بن الحسين في (ثواب الأعمال) عن علِيّ بن أحمد، عن حمزة بن القاسم العلويّ، عن محمّد بن يحيى، عمّن دخل على أبي الحسن علِيّ بن محمّد الهادي عليهما السلام مِن أهل الريّ قال: دخلت على أبي الحسن العسكريّ عليه السلام فقال لي: أين كنت؟ فقلت: زرت الحسين عليه السلام. فقال: أما إنّك لو زرت قبر عبد العظيم عندكم، لكنتَ كمن زار الحسين بن علِيّ عليهما السلام. (المترجم)

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

22
  • إنّ زيارة العظماء تترك أثرًا على الزائر مِن حيث لا يشعر، فهي تمدّه [بما يلزم] ليستمر في السير في طريق الله، وهي بمثابة البطاريّة الّتي تشحن نفس الإنسان وتسيِّره في هذا الطريق، وتمدّه بالطاقة اللازمة لذلك، وتُسرّع سيره وترفع العقبات أمامه، وتُزيل عنه الكسل والتهاون، وتزيد الشوق والرغبة في نفسه ليفعل ما يُفاض عليه مِن تلك النفوس الموجودة في هذه المشاهد الشريفة؛ فإن ازداد شوقه، تضمحلّ كافّة التعلّقات الدنيويّة الأخرى.

  • وبالنسبة لساكني مدينة قمّ، عليهم زيارة حرم السيّدة المعصومة وقبور العظماء، وعلى أهل مشهد زيارة الإمام الرضا عليه السلام. أتذكّر جيّدًا كيف كان المرحوم العلّامة يقوم بزيارة الإمام الرضا يوميًّا، بالرغم ممّا كان يعانيه مِن انزلاق في الفقرات، فقد كان يذهب – في حالته هذه – مشيًّا على الأقدام، وكان يقول: لا ينبغي لمَن يريد زيارة الإمام الرضا أن يستقلّ سيارة في ذهابه، بل يجب أن يذهب إليه ماشيًا على قدميه، فاستقلال سيارةً توصل إلى قرب الحرم يعتبر إهانة لمقام الإمام. طبعًا إذا كانت المسافة بعيدة جدًّا، فالأفضل أن يستقلّ الزائر سيارةً توصله إلى مقربة مِنَ الحرم، ثمّ يترجّل ويُكمل مسيره مشيًّا على الأقدام، فهذا مِنَ الآداب الواجب رعايتها تجاه تلك الساحة المقدّسة، وسيجني الزائر بذلك فائدةً مضاعفة.

  • يقول المرحوم العلّامة عن زيارة الإمام الرضا: لو قَدِمَ أحد مِنَ الطرف الآخر للكرة الأرضيّة زحفًا على الثلج لزيارة الإمام الرضا، لَمَا كان فعله هذا شيئًا يُذكر. إنّ هذه الأمور حقائقٌ ولم تكن مزاحًا، وقد ذكر هذا الأمر في مؤلّفاته أيضًا. فأيّة خصوصيّة تكمن في زيارة الإمام الرضا عليه السلام في شهر رجب؟ لم أرَ تعبيرًا يشبه هذا التعبير فيما يتعلّق بزيارة بقيّة الأئمةّ، وهو أنّ ثواب زيارة الإمام الرضا يعادل ألف حجّة وألف عمرة. عندما سألتْ عائشة النبيَّ عن ذلك، قال لها: له ثواب حجّة وعمرة مقبولة. لاحظوا، [إنّه قال] حجّة وعمرة مقبولة، [فليست] كحجّنا وعمرتنا نحن المعلومة الحال. فتعجّبت عائشة مِن ذلك، [وليس تعجّبها بغريب]، فهذا هو مقدار إدراكها، ثمّ يقول النبيّ: بل عشرة، ثمّ مئة ثمّ ألف حجّة وعمرة؛ ثمّ يقول بعد ذلك: بل لا تستطيع جميع الملائكة والجنّ والإنس مِن إحصاء ثوابها. لا شكّ أنّ لدرجات المعرفة دخل في هذا الأمر.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

23
  • فعلى الإخوة الاهتمام بهذا الأمر كثيراً، فإن لم يكن في المدينة الّتي يسكنون فيها مرقدًا لأحد أبناء الأئمّة، وكان فيها قبرًا لأحد العظماء، فليذهبوا لزيارته، ومِنَ الأفضل أن تتمّ هذه الزيارة بين الطلوعين صباح يوم الخميس، إذ الفائدة مِن تلك الزيارة تكون أكثر. وعليهم مراعاة الأمور، الّتي ذكرها المرحوم العلّامة في مؤلّفاته، والّتي تتعلّق بكيفيّة زيارة أهل القبور.

  • كما أنّ الصيام مفيدٌ جدًّا، وعليكم التقليل مِنَ الكلام، فالكلام يمحو الآثار المكتسبة مِنَ العبادة والتوجّه. نعم، لا بدّ مِن اجتناب الإكثار مِنَ الكلام، حتّى وإن كان كلامًا عاديًّا، فله الأثر نفسه في محو آثار العبادة.

  • فعلى كلّ واحدٍ منّا أن يُقلّل مِن كلامه في هذه الأشهر الثلاثة، وأن لا يتكلّم ما لم يجد ضرورة لذلك. وقولي هذا لا يعني أن يكون الوجه متهجّمًا وعبوسًا ولونه كلون مربّى الإجاص الأسود الّذي لا يستسيغ أحدٌ النظر إليه، كلّا، بل تبسّم [وكن وبشوشًا]، فلسنا مِن دعاة عُبوس الوجه. ولكنَّني أتكلّم هنا عن ضرورة اجتناب الخوض في المسائل التافهة، أمثال انخفاض سعر النفط وارتفاع سعر البنزين. ينبغي لنا أن نترك هذه الأحاديث لأهلها، وكما كان المرحوم العلّامة يقول: إنّ الله قد خلق كلّ واحدٍ منّا للقيام بعمل معيّن، فعلينا – والحال هذه – أن لا نتدخّل في تلك الأعمال الّتي يقوم بها بعض الناس، والّتي يؤدّونها بأحسن ما يكون، وعلينا أن نحيل أمر القيام بها إليهم، فهم يبذلون قصارى جهدهم للقيام بها. أمّا نحن، فعلينا الاشتغال بما كلّفنا الله به، وعلينا التفكير في ما نحن فيه مِن فقر ومسكنة، وفي إيجاد علاج للأمراض المستعصية الّتي نعاني منها والّتي لا يمكننا معالجتها في غير هذا المكان. لقد خلق الله أناسًا للاهتمام بتلك الأمور الّتي تُتداول في جميع أنحاء العالَم، وهم يؤدّون واجبهم بالشكل المطلوب ويكفوننا أمر القلق بشأنها.

  • علينا – والحال هذه – التقليل مِن الكلام، ومِن أن تجول أفكارنا هنا وهناك، وعلينا عدم إشغال أذهاننا بما يجري حولنا طوال اليوم، والامتناع عن متابعة ما يجري في هذا الجانب مِنَ العالَم وذاك، كأخبار وقوع زلازل ونزول صاعقة وما شابه ذلك، فهي لا تداوي لنا جرحًا، بل تؤدِّي إلى توقّفنا. وعلينا أن نعلم هنا، أنَّ الخوض في مثل هذه الأمور لن تحلّ عُقدةً مِن عُقَدِ مشاكلنا.

السلوك العقلانيّ في مدرسة التوحيد والعرفان

24
  • علينا – والحال هذه – الاشتغال بما يهمّنا، وتنقية أذهاننا تجاه إخوتنا في الله وغيرهم؛ فإن حصل بيننا وبينهم شيئًا، علينا أن نقصدهم ونشرح لهم ما حصل، وأن نطلب الصفح منهم. وإن كان هناك خلاف بين بعض الناس، فعلينا المبادرة إلى حلّ هذا الخلاف.

  • قد تمّ التأكيد كثيرًا على موضوع صلة الرحم، فعلينا المبادرة إلى زيارة أرحامنا وخصوصًا في هذه الأشهر الثلاث، وعلينا السعي في قضاء حوائجهم، والقيام بكلّ ما مِن شأنه أن يبعث قلب العبد المؤمن بالسعادة؛ فهذه الأمور تعمل مجتمعة على تثبيت الإنسان ومساعدته في بلوغ مقصده.

  • آخر وأهمّ ما يمكن أن يُوصى به المرءُ في هذه الأشهر الثلاثة، هو أن يُنقّي ذهنه مِنَ الخواطر والمسائل الأخرى، وأن لا يسمح لشيء بالورود إلى ذهنه. فإن حصل وداهمه خاطر معيّن، فعليه ألّا يسمح له أن يُعشعش في ذهنه ويُقيم فيه، بل عليه المسارعة في إخراجه مِنَ الذهن، لتتمكّن نفسه مِن جذب الأنوار القادمة مِن عالَم الملكوت، فليس لتلك الأنوار مكان مع وجود تلك الخواطر في الذهن؛ فعلى الإنسان تهيئة ذهنه [لاستقبال أنوار عالَم الملكوت].

  • نسأل الله أن يوفّقنا أكثر فأكثر، لنيل فيوضاته العامّة والخاصّة، النازلة في هذه الأشهر الثلاثة، وأن يشملنا برعاية صاحب مقام الولاية الخاصّة، وألّا يحرمنا مِن زيارته في الدنيا وشفاعته في الآخرة.

  •  

  • اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد