المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالملكية الحقيقية والاعتبارية
التوضيح
تتحدّث هذه المحاضرة عن موضوعين:
1. العنصر الأول من عناصر حقيقة العبوديّة وهو رؤية الملك لله.
2. أهميّة شهر رجب وأعماله.
وفي الموضوع الأول: بيّنت المحاضرة علامة من علامات العبوديّة الحقيقيّة وهي عدم الاعتماد على الأبّهة وذكرت لذلك شاهدين من سيرة أمير المؤمنين عليه السلام وسلمان رضوان الله عليه، وأكّدت على ضرورة التحقّق من وجود العبوديّة في من يُتّبع وعدم الاكتفاء بحسن الظنّ. وكمقدّمة لفهم معنى الملكيّة قامت بدراسة مفهومي الحقائق والاعتباريّات ورجوع الاعتباريّات إلى الحقائق، وذلك من خلال أمثلة كالرئاسة والزوجيّة والبنوّة، مبيّنة أثناء ذلك بعض ما يرتبط بكلّ منها في واقعنا المعاش كأسس الانتخاب وآليّات الدعاية للمرشّحين، وحقيقة العلاقة الزوجيّة وكيفيّة العلاقة مع الأبناء.
وفي الموضوع الثاني: قارنت المحاضرة بين شهر رجب وسائر أيّام الله من حيث نوع التجليّات وبيّنت اهتمام الأولياء به ووصاياهم بتشديد المراقبة وتقليل التواصل إلى الحدّ الأدنى وعيادة المرضى وخدمتهم وصلة الرحم، عارضة لحديثين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في فضل هذا الشهر وأعماله التي أهمّها أعمال ليلة الرغائب.
هو العليم
الحقائق والاعتباريّات
شرح حديث عنوان البصريّ، المحاضرة ٤۱
القاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
وصلّى الله عَلى سَيّدنا و نَبيّنا أبيالقاسم محمّد
وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين سيَّما بقيّة الله فى الأرَضين أرواحنا لتُراب مَقدمه الفداء
ما حقيقة العبوديّة؟
قلتُ: يا أباعبدالله! ما حَقيقةُ العُبوديَّة؟ قال: ثَلاثةُ أشياءَ: أنْ لا يرَى العَبدُ لِنَفسِه فيما خَوَّلَهُ الله مِلكًا، لأنَّ العَبيدَ لا يكونُ لَهم مِلكٌ، يرونَ المالَ مالَ اللهِ يضَعونَه حيثُ أمَرَهُم اللهُ به، و لا يدَبِّرُ العبدُ لنفسهِ تَدبيرًا، و جُملةُ اشتِغالهِ فيما أمَرَهُ تَعالى بِهِ ونَهاهُ عَنه.
اختلاف العبوديّة الحقيقيّة عن الخياليّة بانعدام الأبّهة والشأن
يقول عنوان للإمام الصادق عليه السلام: يا أبا عبد الله ما حقيقة العبوديّة؟ وكيف يمكن لإنسان ما أن يكون عبدًا لله عبوديّة واقعيّة؟ لأنّا ذكرنا أنّه في كثير من الأحيان يحدث عندنا خلط بين الحقيقة والخيال. تحدث لدينا تصوّرات ولكن عندما نصل إلى تلك الحقيقة ونكون في واقع معيّن فإنّ ردّة فعلنا تختلف عن ادّعائنا. نقول: "نحن لا نمتلك شيئًا من أنفسنا، لكم الفضل علينا، وهذه الأمور التي تطرحونها علينا لا نستحقّها"، ونتصنّع التواضع ونقول: "نحن لسنا من أهل هذه الأمور". فلو جاء ذلك الإنسان وترك هذه المجاملات فإنّا نقول له: "كيف هذا؟ كان إلى الآن يتكلّم معنا بهذه الطريقة ويستخدم تلك الأبّهة والألقاب!"۱ فعلى الإنسان أن يختبر نفسه دائمًا وأن يختبر عالم التخيّلات الذي هو مبتلى به والمختبئ في زوايا نفسه، وأن يعرف كم هو حسّاس بالنسبة إليه، وكم هو مبتلى به؟!
يسأل عنوان عليه السلام عن حقيقة العبوديّة؟ لا عن تلك العبوديّة المجازيّة التي ندّعيها جميعًا فنقول: نحن عباد، جميعنا نقول: نحن مسلمون، جميعنا نقول: نحن شيعة. فما هي تلك العبوديّة التي يرضى عنها الله؟ ما هو الأمر الذي يجب أن يوجد في الإنسان ـ لا أن يقوله ـ حتّى يغدو عبدًا بصورة تلقائيّة؟
صورة من عبوديّة أمير المؤمنين وسلمان
خطب أمير المؤمنين عليه السلام بعد معركة النهروان في المسجد، حيث حدث أمر والتفت الأصحاب إلى شيء، وكانت مستوياتهم مختلفة فتحدّث الإمام فقال بعض هؤلاء الخوارج الذين كانوا جالسين عند منبر الإمام: قاتله الله ما أفقهه! لقد كانوا يعتقدون أنّ أمير المؤمنين كافر، مرتدّ عن الدين. فانزعج الأصحاب الذين كانوا هناك من كلامه هذا حيث يقول لأمير المسلمين وحاكمهم: قاتله الله ما أفقهه! فقال الإمام: "رويدًا إنمّا هو سبّ بسبّ أو عفو عن ذنب!"٢ لا تتعرّضوا له فقد تكلّم بكلام فما شأنكم به وبكلامه؟ انظروا هذا أمير المؤمنين، هذا الذي يسمّى عبدًا. أو سلمان الذي يمرّ من مكان فيقول له قائل: يا كلب! وكان حاكم المدائن. فيرجع وكأنّه لم يسمع ويقول: إن جزت الصراط فأنا خير من الكلب، وإن لم أجزه فالكلب خير منّي. ويتابع طريقه. لقد تحقّقت هذه الحقيقة فيه فلم يضربه ولم يلقه في السجن ولم يسنّ له قانون الإعدام لأنّه أهان حاكم المسلمين. فهناك كلام وجواب، لقد تحقّقت حقيقة العبوديّة فيه فصار عبدًا، صار سلمان عبدًا، والأمر يحتاج إلى عمل كثير جدًّا وليس بمجرّد الكلام.
ضرورة التيقّن من تحقّق العبوديّة في من يُتّبع وعدم الاكتفاء بحسن الظنّ
لقد كان لي مدّة من الزمان ظنّ حسن بأحد الأفراد، ومن أبرز آفات السالك أن يحسن الظنّ في غير محلّه، فهذه آفة كبيرة، وهي مانعة من كثير من الدرجات، وتسلب الكثير من الحقائق، وعلى الإنسان أن يكون دائمًا في ظنّه وحسن ظنّه معتدلاً، كما قال النبيّ إنّه إذا غلب الصلاح على أهل الزمان فمن الخطأ سوء الظنّ، وإذا غلب الفساد على الزمان فمن الخطأ حسن الظنّ۱. ولكن هناك بعض الناس يتعاملون مع الناس دائمًا بهذا التفكير الأوليّ، ثمّ يجعلون المباني على هذا الأساس، فلا ينتهي حسن ظنّهم بالناس إلى حدّ خاصّ، بل يرتّبون على ذلك أثرًا ومسائل مهمّة. فهنا ليست المسألة مسألة حسن ظنّ، بل هنا خسران وإبطال للعمر وللحياة. فليس من الصحيح أن يتعامل الإنسان مع كافّة القضايا بطريقة واحدة. فتارة تذهب إلى مسجد تريد أن تصلّي جماعة خلف إمام الجماعة ثمّ تمضي في سبيلك، فهنا تقول: هو إن شاء الله عادل. وتارة تريد أن تقلّد إمام الجماعة هذا، فلا يمكن أن تقول: هو إن شاء الله عادل. بل لا بدّ أن تحقّق كثيرًا لتدرك أنّه عالم، ولا بدّ أن تحقّق أكثر لتدرك أنّه صاحب تقوى، وأنّه تجاوز هواه. أما أن يقال بكلّ بساطة هذا إنسان جيّد فقلّده، إنسان جيّد فاتّبعه، لم نر منه سوءًا، فلا. نحن ابتلينا في وقت من الأوقات بذلك بالنسبة إلى أحد الناس حيث أحسنّا به الظنّ، وكان رجلاً معروفًا وبالطبع هو متوفّى الآن، جرى الحديث عنه وكنت أتوقّع أن يسير السيّد الحدّاد على أساس حسن الظنّ الذي لديّ، وأن يمدح ذلك الرجل، لقد كان المرحوم الحدّاد يتحدّث في مقام التعريف باختصار شديد فمثلاً يتكلّم بجملة من خمس كلمات أو ستّ، وينهي كلامه حول إنسان ما ويمضي ولا يزيد. ولكن ما إن جرى ذكر ذلك الرجل هزّ رأسه وقال: كم هو صاحب نفس كافرة! ومضى. ونحن دهشنا أن كنّا نأمل من ذلك الرجل الكثير. فكم المسألة عجيبة! فهو بيّن هذا الكلام لأجلنا وإلا لم يكن يحسن الكلام فيها. فاكتفى بهذا ولم يقل كلامًا آخر، فنبّهنا بهدوء. انظروا كم الأمر مهمّ. وبالطبع نحن لم نقم بشيء فلم نقلّد ذلك الرجل، فقد كان واحدًا من الناس، ولم يكن من العلماء ولكن في النهاية وفق مستواي الفكري آنذاك حيث كنت في السابعة عشرة كنت أحبّ أن أذهب إليه وأستفيد منه، وكنت أتصوّر أنّه لو لم أتمكّن من الوصول إلى السيّد الحدّاد يومًا ما فيمكنني الاستفادة من ذلك الرجل. ولكن أين كان؟! في حين كنت أثق به ثقة مطلقة. فكان يريد أن يبيّن لي أن لا تثق إلى هذا الحدّ بالناس على أساس الظاهر الصالح. وبعد ما يقارب العشرين عامًا، اتّضح لي ماذا كان كلامه حينها. وكم كان ذلك الإنسان عجيبًا! فإذا أراد الشيطان أن يدخل فالأمر صعب جدًّا، فأحيانًا يقضي الإنسان سنوات مع إنسان ثمّ يفاجأ به.
يقول الإمام عليه السلام لعنوان: حقيقة العبوديّة ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله۱ الله ملكًا، لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، ولا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا٢، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه.
نيست بر لوح دلم جز الف قامت يار | *** | چه كنم حرف دگر ياد نداد استادم٣ |
ليس على لوح قلبي إلا ألف قامت الحبيب | *** | ماذا أصنع إذ لم يعلّمني أستاذي حرفًا آخر؟! |
لا يخطر في ذهنه إلا أمر واحد وهو هذا. وواقعًا لا يدري الإنسان ماذا يقول في حقّ كلمات الإمام الصادق هذه؟ هل يقول إنّها إعجاز أم شيء آخر؟ لا يدري الإنسان ماذا تسمّى.
العنصر الأوّل من عناصر العبوديّة: رؤية الملك لله
ولنتوجّه الآن إلى الفقرة الأولى والموضوع الأوّل الذي بيّنه الإمام: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله الله ملكًا لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك. أن لا يشعر الإنسان بالملكيّة والتملّك والتعلّق فيما أعاره الله.
مقدّمة لبيان اعتباريّة الملكيّة: معنى الحقائق والاعتباريّات ورجوع الاعتباريّات إلى الحقائق
هناك بحث في الفلسفة سأبيّنه مجملاً وأتابع الكلام، وهو أنّ كلّ ما هو موجود في عالم الاعتباريّات لا بدّ أن يرجع إلى أمر حقيقي وأن يكون منتزعًا عن أمر حقيقيّ. ما نهتمّ به نحن في عالم الاعتباريّات ونحسب له حسابًا لا بدّ أن يكون له أساس حقيقيّ.
مثال الرئاسة
فمثلاً من الأمور الاعتباريّة الرئاسة والمرؤوسيّة، فهذه من القضايا الاعتباريّة، حيث يجتمع عدد من الناس فيجعلون رجلاً معيّنًا رئيسًا لهم، أو مسؤولاً عن مؤسّسة. أو لو سافروا معًا مثلاً يقولون: إن سارت الأمور على أساس التشاور فبها، وإلا فالكلام كلام فلان. فهذه هي الرئاسة وتلك المرؤوسيّة. فهذه مسألة اعتباريّة. وفي المسائل الاعتباريّة فإنّ حقيقة الأمر اعتباريّة، أي أنّ الناس يفترضون وينتخبون رجلاً ويجعلونه نائبًا عنهم في المجلس. فهذه مسألة اعتباريّة. فلو أنّهم لم ينتخبوه لما صار في المجلس٤، وعليه أن يبقى جليس بيته ولو كان إنسانًا معروفًا ومشهورًا. فهذا هو مقدار قيمة الاعتبارات.٥
هذا ما يقال له رئاسة، وهذه الرئاسة أمر اعتباري، ولكنّ منشأها أمر حقيقيّ، منشؤها يرجع إلى أمر حقيقيّ ـ وهو حقيقي اعتباري وسنبيّنه الآن ـ وهو عبارة عن أنّ الإنسان يشعر بأنّه مسؤول عن نفسه فيشعر بالرئاسة عليها. ألستم الآن تشعرون بذلك في وجودكم فتشعرون بأنّكم مستولون على أجسامكم وأفكاركم؟ فهذا ليس في يد أحد. فالآن تحرّكون أيديكم، أنا الآن أرفع هذا الكوب ثمّ أضعه على الأرض. فإحساس الرئاسة على الجسم وعلى الأعضاء والأفكار وعلى الخصوصيّات والآثار الوجوديّة للإنسان أمر ليس بالاعتباري. يعني هل إذا أردتم أنتم أرفعه أنا! لا ليس الأمر كذلك إلا في بعض الحالات الخاصّة. فمرجع هذه الرئاسة إلى أمر حقيقيّ.
وهذا مجرّد مثال ضربته وإلا فالأمر نفسه يجري في الملك. وما قلته من أنّ هذا ليس أمرًا حقيقيًّا فسأبيّن إن شاء الله كونه اعتباريًّا أيضًا. ولكن على أيّ حال فابتداء لدى الإنسان شعور بالسلطة على التصرّف في الأعضاء والتصرّف في الأفكار والتصرّف في الشؤون، فهذا لم يعط من قبل أحد، بل حتّى لو كان الإنسان في الصحراء حيث لا يكون هناك إنسان آخر غيره فإنّه يشعر بهذا الشعور، فهذا الشعور حقيقيّ. وهو يصبح منشأ لأن تظهر بقيّة الأمور الاعتباريّة في هذا العالم، وأن يرتّبوا الآثار على هذه المسائل الاعتباريّة في عالم الدنيا، وأن يكون بناء المجتمع معتمدًا عليها.
مثال الزوجيّة
أطرح مثالاً آخر يوضّح المسألة بشكل أفضل، فمن المسائل الاعتباريّة عندنا الزواج؛ وذلك لأنّه عبارة عن الارتباط بين الرجل والمرأة بواسطة إجراء صيغة العقد التي جعلت من قبل الشارع، سواء في دين الإسلام أم في سائر الأديان. فهم يجرون عقدًا فيحدث ارتباط بين اثنين لم يكن قبل العقد، وهو لا يختصّ بدين الإسلام، فمثلاً الآن في الكنيسة أيضًا عندما يقوم الراهب بإجراء العقد بين رجل وامرأة فإنّه يمسك بأيديهما ويضع يد أحدهما في يد الآخر ويقول: لقد جعلتكما زوجين وفق دين المسيح، فيظهر فيهما شعور جديد لم يكن قبل العقد، وهذا ما يقال له زواج، فحتّى لو كانت المرأة والرجل يعيشان معًا بطريقة غير مشروعة مدّة قبل الزواج فإنّهما لا يمتلكان هذا الشعور، بل يظهر بعد إجراء صيغة العقد، هذا الإحساس هو إحساس جديد نسمّيه نحن الزوجيّة. ذلك الإحساس الخاصّ والتعلّق والارتباط بين النفسين ولو انفصلا بعد إجراء العقد مثلاً فعاش أحدهما في مدينة والآخر في مدينة أخرى في طرف آخر من الدنيا، فإنّ هذا الإحساس يوجد بينهما، فهي تشعر أنّها زوجته وهو يشعر أنّه زوجها. ولكن هذه المسألة اعتبارية لماذا! لأنّه لم يكن هناك أيّ ارتباط بينهما فهذا جاء من هذه الجهة من الدنيا وذاك كان في جهة أخرى فالتقيا وتعارفا فقالا: ما دمنا قد تعرّفنا فلنستمرّ. فيقولان: لا بأس لنستمرّ. فهذان يغدوان زوجين.
ولكن سؤالي هنا هو أنّه هل لديك الشعور نفسه بالنسبة إلى ابنك! أم أنّ الأمّ تمتلك هذا الإحساس بالنسبة إلى ابنها! لا فهذا ليس اعتباريًّا، لماذا! هل صادف أن شعر أب أنّه أجنبيّ عن ابنه وليس بينه وبينه أيّ ارتباط! لا يمكن ذلك، نعم يمكن أن تحدث مشكلة لبعض الأسباب تؤدّي إلى تشويش في العلاقة فينشأ إحساس يسبّب الانفصال المؤقّت، ولكن البنوّة لا يمكن أن تسلب عنه أبدًا، فهي دائمًا حاضرة في ذهنه. يمكن أن يقول: هو ابني ولكنّي لن أنظر إليه بعد الآن، هذا ممكن. أنا لن أعتني بابني ولن أنظر إليه، أو أن تقول أمّ: لن أعتني بابني أو يقول ابن لن أهتمّ بهذا الأب أو بهذه الأم وما شابه ذلك ولكن دائمًا في ذهنه أنّه ابن هذه الأمّ ولو كان في الظاهر لا يتواصل معها. لماذا كانت المسألة كذلك والسابقة لم تكن كذلك؟ لأنّ المسألة السابقة كانت اعتباريّة وهذه ليست اعتباريّة، فهذا وجوده منه فلا يمكنه أن ينفصل عن نفسه. فالابن وجوده من أمّه، فلا الابن يمكنه أن يدفع هذه العلاقة إلى الأبد فلا تخطر في مخيّلته، نعم يمكن أن يقول: لن ألتقي إلى آخر عمري بهذه الامرأة، ولا صلة لي بها، ولكنّه في النهاية يرى نفسه ابنها.
أمّا لو جاؤوا وطلّقوا الزوجين، ففي بداية الأمر يمكن أن يكون هناك نوع من التعلّق. ولكن لو مضت سنتان أو ثلاث عن ذلك وتزوّج كلّ من الرجل والمرأة فهل تبقى تلك العلاقة بعينها التي هي بين الأب وابنه؟ كلا فقد انتهى الأمر، وكأنّ شيئًا لم يكن، فهذا هو الأمر الاعتباري.
وطبعًا نحن تحدّثنا عن هذه المسألة بالإجمال، ولكن في الإسلام وفيما هي عليه حقيقة الزوجيّة فهي أعلى من ذلك، فعلى الرجل أن يرى نفسه من المرأة وعلى المرأة أن ترى نفسها من الرجل، وينبغي أن لا تفكّر في شيء آخر، وينبغي أصلاً أن يكون كلّ ما يدور في الفكر هو الطرف الآخر، وخصوصًا بالنسبة إلى المرأة، فإنّ التعاليم الإسلاميّة تجعل ما يدور في ذهنها هو طاعة الرجل، وهذا نوع من الارتباط الذي لا يمكن أن ينفسخ إلا إذا كانت المشيئة الإلهيّة تقتضي شيئًا آخر.
فهذه المسائل ترتبط بالزواج وما شابه، فالنوع الأول هو الأمور الحقيقيّة، والنوع الثاني هو الأمور الاعتباريّة. الاعتبار هو ما يكون يومًا ما ثمّ لا يكون في يوم آخر. اليوم هو بهذا النحو، وغدًا بنحو آخر. أما المسائل الحقيقيّة فلا تختلف بين اليوم والغد، بل هي على منوال واحد.
توضيح اعتباريّة الملكيّة
ومن الأمور الاعتباريّة الملكيّة، فمثلاً أنا مالك لهذه العباءة الآن، فهل هذه الملكيّة اعتباريّة أم حقيقيّة؟ جميعنا نقول إنّها حقيقيّة، فأنا مالك لهذه العباءة في النهاية ولا يحقّ لأحد أن يتصرّف فيها. ومرادي من الاعتباري ليس الأمر الذي لا قيمة له، ففي المجتمع الكثير من الأمور الاجتماعيّة بل تسع وتسعون بالمئة منها أمور اعتباريّة، والمجتمع يعطي هذه الأمور الاعتباريّة قيمة، الإسلام يعطي لها قيمة لكي تسير أمور المجتمع. فلو تقرّر أن تلغى المسائل الاعتباريّة ولا يرتّب عليها أثر، فلن يبقى في المجتمع حجر على حجر، ولن يبقى شيء أصلاً، وكلّ من اعتدى على حقوق الآخرين وعلى شرفهم وعلى أعراضهم فلن يكون هناك قانون يحاسبه، فالقانون وضع للحفاظ على الأمن الاجتماعيّ لكيّ يتحقّق الكمال الاجتماعيّ والكمال الفرديّ في ظلّ هذا الأمن. ولو ألغينا هذه الأمور الاعتباريّة فإنّ كيان الإنسان سيندثر، وستفنى الحياة الإنسانية والحضارة الإنسانيّة. وليس بحثنا عن قيمة هذه المسألة بل المراد حقيقة مسألة الاعتبار وعدم الاعتبار.
افترضوا أنّي الآن أشعر بملكيّة هذه العباءة. فهل هذه المالكيّة أمر اعتباريّ أم حقيقيّ؟ فأنا في الواقع أمتلك هذه العباءة، وهي من متعلّقاتي، فهل هذا التعلّق لن يزول أبدًا في وقت من الأوقات، فلا يمكن أن أهبها لأحد غدًا؟ أم أنّه يمكن أن يسرق منّي أحد هذه العباءة؟ أو يمكن أن يتحقّق الانفصال بيني وبينها بأن أنتقل إلى رحمة الله فتصبح جزءًا من الأموال العامّة؟ فهذه المسألة مسألة اعتباريّة.
صدور الخطأ بسبب جهلنا بطبيعة علاقتنا بالأشياء
نحن نتصوّر أنّ هذه القضايا حقيقيّة، نحن نظنّ أنّ العلاقة بيننا وبين ما وهبنا الله علاقة استقلال، فنقوم بما يحلو لنا، نحن نظنّ أنّ لنا السلطة الكاملة على الذين هم تحت أيدينا، ويمكننا أن نأمر وننهى بما يحلو لنا، نحن نظنّ أنّنا قادرون بأيّ شكل من الأشكال.
ولا أدري ما إن كنت أخبرتكم بهذه القضيّة أم لا. ففي يوم من الأيّام كنت في خدمة المرحوم الحدّاد رضوان الله عليه، وكان هناك إنسان آخر، وكان المرحوم الحدّاد يتحدّث مع تلك المرأة حول التعاطي مع الأطفال، وكان يقول: على الإنسان أن لا يؤذيهم، وينبغي أن لا يؤنّبهم بشكل زائد عن مقدار الحاجة، فللتأنيب مكانه، وعلى الإنسان أن يداريهم ويماشيهم وخصوصًا إذا كان أولاد الإنسان من السادة فإنّ ظرفهم أدقّ وأكثر حساسيّة، فكان يتحدّث حول ذلك مع تلك المرأة. ثمّ قال: جاء المرحوم القاضي في يوم من الأيّام إلى كربلاء وكنت في خدمته وكنّا نسير على الأقدام حتّى وصلنا معًا إلى باب المنزل، حينها خرجت ابنتي الصغيرة ـ وهي على قيد الحياة الآن بحمد الله ـ فتبعتنا وأمسكت بطرف ثوبي ـ وكانوا يلبسون اللباس العربيّ الطويل ـ ولم تترك الثوب بل كانت تبكي تريد أن نأخذها معنا. فغضبت من إصرار هذه الطفلة وإيذائها. واستعمل عبارة نعرض عن ذكرها فقال للسيّد القاضي: سيدي هل تسمح لي بأن ألقي بها في الدار مثلاً أو ما يشبه هذه العبارة، والحاصل أنّه كان يقول: ما إن تلفّظت بهذه العبارة حتّى وقف المرحوم القاضي وأوردة رقبته متورّمة ونظر إليّ وقال بغضب شديد شديد: بأيّ حقّ تسيء الأدب هكذا إلى أولاد الرسول، فتنسبهم هذه النسبة، بأيّ حقّ تقول هذا؟! وبالطبع لم يكن يريد التفريق بين السيّد وغير السيّد، فقد كانت طفلة في النهاية وهو عبّر عنها بأنّها من السادة، وإلا فلا فرق من هذه الناحية بين السيّد وغيره، فالطفل بريء وطاهر في النهاية ـ فبأيّ حقّ قمت بهذا العمل؟ ولماذا؟! بأيّ إجازة تدخّلت في ملك الله وتصرّفت فيه بهذا النحو؟ قال: لقد كان غاضبًا جدًّا ولم يكلّمني إلى مدّة، فاعتذرت أن سامحني يا سيّد لقد أخطأت فهدأ بالتدريج.
انظروا هذا المنهج هو منهج الأعاظم، هذا المنهج هو منهج أولياء الله، إنّهم ليسوا متملّقين، إنّهم لا يقولون ذلك لأجل التظاهر. فالمرحوم القاضي ـ رضوان الله عليه ـ كان يؤدّب تلميذه حينها. يقول: إن أردت أن تدّعي فتحدّث عن نفسك وما شأنك بالآخرين؟ ألأنّها ابنتك تريد أن تقول لها ما يحلو لك؟ ألأنّها ابنتك تريد أن تنسبها إلى ما شئت؟ علينا أن نلتفت أن لا نعامل أبناءنا بطريقة تعدّ تعدّيًا على ملك الله. فمسألة التربية مسألة أخرى. ولكن الإنسان إذا تجاوز حدّه فإنّ الله يقف أمامه ويعاتبه.
بالنسبة إلى هذه الفقرة التي شرعنا بها اليوم هناك الكثير من الموضوعات، نوكلها إلى الجلسات القادمة إن وفّقنا الله.
أهميّة شهر رجب
اقتربت أيّام رجب، وكما هو دأب المرحوم العلامة رضوان الله عليه وديدنه، فقد كان قبل شهر رجب يتحدّث عنه ببعض الأمور. فكان يجمع أصدقاءه ويتحدّث ببعض الأمور حول الاهتمام بشهر رجب. وإلى جانب الروايات والأحاديث التي وردت في فضيلة شهر رجب، فإنّ ما أذكره من تجاربي الخاصّة مع المرحوم العلامة رضوان الله عليه وسائر الأعاظم هو أنّه كان لهم اهتمام أكبر بشهر رجب بالمقارنة مع سائر الشهور، فقد كان اهتمام الأعاظم به يفوق أيضًا شهر رمضان، وكان يقول: إنّ شهر رمضان هو أنفع لعامة الناس وله نفع أكثر، ولكنّ شهر رجب أكثر نفعًا للسالكين إلى الله، فالآثار التي ترد على النفس في شهر رجب هي أعمق، وهي تأثيرات أكثر بنيوية وتأسيسًا من تلك التي تحدث في سائر أيّام الله التي هي شعبان ورمضان أو ذي القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجّة التي لها جلوات وجذبات خاصّة، فإنّ شهر رجب هو أهمّ من الجميع.
تشديد المراقبة في شهر رجب
وحتّى هو نفسه كانت له تغييرات في شهر رجب في حياته بشكل عامّ وفي أعماله الشخصيّة، وكان يوصي رفقاءه وأصدقاءه بتشديد المراقبة ويقول: شهر رجب شهر إلهيّ، وعلى الإنسان أن لا يدخل غير الله في شهر الله. على الإنسان في هذا الشهر أن يزيد في مراقبته، وأن يجعل كلامه في هذا الشهر أكثر انضباطًا، فلا يتكلّم بأيّ كلام، ولا يتحدّث بأيّ موضوع، حتّى الكلام المتعارف والمعتاد مضرّ. وكلّما كانت حالة السكوت والسكون والهدوء أكثر فإنّ الواردات ستكون أكثر، وكلّما كان عنده تشويش واضطراب فإنّ الملائكة لا تأتي إلى الأماكن التي فيها تشويش واضطراب، الملائكة تأتي إلى الأماكن التي فيها سكون وهدوء، الملائكة لا تأتي إلى المكان الذي فيه دائمًا جولان للذهن والتخيّلات والخيالات... أمّا أنّ هذا قال لي ذلك، وذاك قال لي كذا، لماذا فكّر عنّي فلان كذا؟ عليّ أن أجيبه بكذا، وسأتحدّث مع هذا بكذا. فكلّ هذا لا يفيد في شهر رجب. فلو أنّ إنسانًا دخل إلى شهر رجب بهذه التصوّرات والتخيّلات، فلن يكون له نصيب.
تطهير القلب في شهر رجب وكأنّه قلب طفل حديث الولادة
فالشرط الأوّل الذي كان المرحوم العلامة يذكره هو أن يطهّر الإنسان قلبه من كلّ ما كان معه إلى تلك اللحظة، وبدون ذلك لا فائدة، لا فائدة أبدًا. ومهما ذكر الله فلن تكون له فائدة، ومهما توجّه فلا فائدة، لماذا؟ لأنّ هذا التوجّه والذكر صوريّ، وليس عميقًا، فالعمق فاسد، العمق فيه تشويش، فيه هوى وهوس، العمق فيه كثرات، فيه توغّل في الكثرات، فلا فائدة منه، فقط يظهر في صورة وينتهي عندها. فإذن أوّل عمل على السالك أن يقوم به هو أن يتصوّر أنّه ولد في شهر رجب، فالطفل الذي يولد من بطن أمّه حديثًا هل له عدوّ؟ لم يصنع بعد شيئًا في هذه الدنيا. أفهل الطفل الذي يولد من بطن أمّه يمكن أن يُتكلّم عنه بشيء؟ هل اغتابه أحد؟ كلا إنّه ولد حديثًا ولا صديق له ولا عدوّ، لم يضرب أحدًا ولا أساء الأدب مع أحد، ولم يسئ الأدب معه أحد، فليست له أيّة علاقة في النهاية.
على الإنسان أن يتصوّر نفسه وقد ولد في شهر رجب وأنّه كالطفل الذي لا شيء في قلبه ونفسه. فالطفل لا يدرك شيئًا حتّى لا يعرف أمّه. بالطبع له شعور خاصّ نحوها ولكن لا يعرفها. فهو لا يمتك الحقد ولا الكره، ولا الحسد ولا الحساب، لا شيء أصلاً، فلذلك كان المرحوم العلامة يعبّر بأنّ الطفل فانٍ إلى بضعة أشهر، أي ليس لديه أيّ نوع من التعلّق. إن أردتم أن تنظروا إلى الفناء وماذا في الفناء فانظروا إلى الطفل الرضيع، هل لديه حقد؟ أبدًا، على من يحقد؟ هل لديه حسد؟ أبدًا. هل لديه كره لأحد؟! أبدًا. كلّما جاع يبكي، هذا هو حاله. وهل الإنسان الفاني سوى ذلك؟ لا في وجوده حقد ولا حسد ولا تعلّق بالدنيا ولا تعلّق بالمادة ولا تعلّق بالكثرات، لا خذ هذا ولا خذ ذاك، ولا مصلحة. افترضوا أنّه قيل لطفل: لقد حدث زلزال في مكان ما، فإنّه لا يدرك أصلاً: يقول أنا جائع أعطوني الحليب لآكل. ما هذا؟! يقولون: لقد صار فلان نائبًا، لقد صار فلان كذا. يقول: اسقوني حليبي، ودعوا هذه الأمور لأنفسكم، فهي مباركة عليكم. فقط حاجته محفوظة في الارتباط مع المبدأ وكلّ ما سواه لا شيء. الإنسان الفاني تعلّقه هو بالمبدأ، وليس في نفسه شيء آخر. غاية الفرق بين الطفل وبين الإنسان الفاني هو أنّ الطفل إذا رجع [من فنائه إلى عالم البقاء] فإنّه يرجع إلى الكثرات، فإنّها تأتيه الواحدة تلو الأخرى وتحصل التعلّقات الواحدة تلو الأخرى، أمّا الفاني عندما يصل إلى البقاء فإنّه يكون قد تخلّص من جميع التعلّقات، هذا هو الفارق بين هذين، وعلينا نحن جميعًا أن نرجع إلى هناك، إلى الموضع الذي أتينا منه.
معنى حديث رجب شهر الله وشعبان شهري...
شهر رجب هو شهر الفناء بالله، هو شهر الله، قال النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم: رجب شهر الله ، وشعبان شهري ، ورمضان شهر أمتي.۱
فرجب شهر الله وشعبان شهر الولاية ورمضان شهر أمّتي شهر عموم الأمّة، أي هناك ارتباط خاصّ بين النفوس وبين الله في شهر رمضان يجعله شهر الأمّة. ولكنّ رجب شهر الله، أي هناك حالة خاصّة في شهر رجب لا يستفيد منها إلا أهل الله، لا أيّ إنسان آخر. فاستفادات الآخرين ضعيفة، وأهل الله هم الذين يمكن أن يدركوا حقيقة هذا الشهر، فجذبات المقام الربوبي والتوحيديّ والبوارق التوحيديّة التي تقلب حال السالك رأسًا على عقب وتقطع تعلّق السالك عن جميع الأشياء وتجعله ملتفتًا إلى حقيقة التوحيد وحدها، وتقطعه عن كافّة المتعلّقات والفروع والجذور والتعلّقات والارتباطات هي في شهر رجب. فحتّى شهر رمضان لا يصنع ذلك. شهر رمضان شهر الرحمة، شهر البركة، شهر الانبساط، شهر الغفران، حيث يعفو الله عن الجميع. أمّا العمل التأسيسي فهو في شهر رجب. فالعفو لا يفيد السالك، العفو عن الذنب هو أوّل ما نتوقّعه من الأئمة ومن الشفعاء فيشفعوا لنا. ما يفيد السالك ليس هو حالة الانبساط وأمثالها، ما يفيد السالك ليس حالة البهجة، وليس معنى ذلك أنّ هذه الحالات سيئة، هي جيّدة جدًّا، ولا تحصل لأيّ إنسان، ولكن ما ينفع السالك الواقعي الذكيّ الذي يريد أن يبذل كلّ شيء في الطريق إلى الله وأن يترك كلّ شيء ويصل إلى حريم الله على أيّ حال كان، أشعث أغبر رثّ الثياب حافي القدمين حاسر الرأس، فلا معنى هناك للعفو عن الذنب والانبساط والبهجة وأمثالها، إنّه يريد نارًا تحرق وجوده وتحيله رمادًا، هذا ما ينفع السالك، وهذا ما يحصل في شهر رجب.
لذلك يقال إنّ رجب شهر الله، ولكي يتأهّب الإنسان لشهر رجب فإنّ أوّل ما كان يأمر به المرحوم العلامة تشديد المراقبة. على السالك أن يزيد مراقبته وسكوته، وأن يقلّل ارتباطاته مع الناس إلى الحدّ الأدنى من المراودة والمعاشرة، أن لا يتكلّم مع أيّ إنسان، فنفوس العصاة تؤثّر على الإنسان في العلاقة معه، كلّ نفس تترك أثرًا شئتَ أم أبيت. فالذهاب إلى أيّ مكان، واللقاء بأيّ إنسان ليس صحيحًا.
آثار زيارة المرضى وصلة الرحم وإصلاح ذات البين في شهر رجب
وعلى العكس فإنّ زيارة المرضى وعيادتهم وخدمتهم تسرّع في حال الإنسان، صلة الرحم تسرّع، إن كان هناك إشكال بين اثنين فلرفعه أثر عجيب جدًّا. لقد كان يقول مرارًا: إذا أصلح إنسان ذات البين فيمكن أن تفتح أمامه الأبواب المؤصدة، فلإصلاح ذات البين أثر عجيب جدًّا. وهو يعني أن يخرج الإنسان الشيطان من بين اثنين ويحضر الله بدلاً منه.
لقد كان له تأكيد شديد على هذه المسألة مسألة المراقبة في شهر رجب.
روايتان في فضيلة شهر رجب
والروايات التي في هذا المجال كثيرة سأنقل واحدة أو اثنتين منها هنا للأصدقاء، فقد روي عن النبيّ الأكرم أنّه قال: إنَّ الله تَعَالى نَصَبَ فىِ السَّمَاءِ السابِعَةِمَلِكًا يقالُ لَهُ الدّاعي...
وهذه السماء السابعة أمرها عجيب فهو لا يقول السماء الثانية أو الثالثة أو الرابعة بل السماء السابعة التي هي مقام التجليّات الذاتيّة.
فَإذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ ينادى ذلِكَ الْمَلِكُ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْهُ إلَى الصَّباحِ طوبى لِلذاكِرين، طوبى لِلطائعين: يقُولُ اللَهُ تَعالى: أنَا جَليسُ مَن جَالَسني، وَمُطيعُ مَنْ أطاعَني، وَغافِرُ مَنِ اسْتَغْفَرنَي، الشَّهرُ شَهْري، وَالْعَبْدُ عَبْدي، وَالرَّحْمَةُ رَحْمَتي، فَمَنْ دَعَاني فى هذا الشَّهْرُ أجَبْتُهُ، وَمَنْ سَألَني أعْطَيْتُهُ، وَمَن اسْتَهْداني هَدَيْتُهُ...
التفتوا جيّدًا إلى هذه الجملة فكافّة الجمل التي ذكرت في جانب وهذه الجملة في جانب آخر. فنحن علينا في هذا الشهر أن نطلب من الله أن يهدينا ومعنى الهداية هو رفع الموانع من أمام طريقنا، وجعل طريقنا مستقيمًا والحفظ من الأخطار.
وَجَعَلْتُ هذَا الشَّهْرَ حَبْلاً بَينْى وَ بَيْنَ عِبَادي فَمَنِ اعْتَصَمَ بي وَصَلَ إليّ.۱
كانت هذه إحدى الروايات.
الرواية الأخرى التي تُنقل عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله أيضًا في هذا المجال: "إذا مضى ثلث الليل لا يبقى ملك في السماوات والأرض إلا ويجتمعون في الكعبة وحواليها... " ولهذا تمّ التأكيد كثيرًا على الذهاب إلى مكّة والقيام بالعمرة الرجبيّة وأنّ ثوابها يعدل ثواب الحج، كما أنّ السيّد العلّامة رضوان الله عليه ذكر في كتابه الروح المجرد أنّ ثواب زيارة عليّ بن موسى الرضا سلام الله عليه في شهر رجب يعدل ثواب الحج، وهذا يطابق ما جاء في الروايات المتعلّقة بزيارة الإمام الرضا عليه السلام وهي روايات عجيبة جدًا، ومن العجيب أيضًا ألّا توجد مثل هذه الروايات في حق سيّد الشهداء مع كلّ الخصوصيّات التي يمتلكها سلام الله عليه والروايات القاطعة التي يوصي فيها جميع الأئمة أيضًا بزيارة الإمام الحسين عليه السلام، والعجيب أنّ الرواية المتعلقة بزيارة عليّ بن موسى الرضا شيء مختلف تمامًا خصوصًا في شهر رجب، فالتوفيق الإلهي هو حليف كلّ من استطاع أن يزور الإمام الرضا عليه السلام في هذا الشهر وأن يطلب منه ما يريد، يجب ألا يغادر المرء بسهولة؛ يعني يزور ويقول: أستودعكم الله و ...، لا، بل يجب أن يلتصق (بالضريح) ويقول إمّا أن تعطيني أو لن أذهب من هنا حتّى تعطيني، فيقول له الإمام الرضا من أجل أن يريح نفسه (منه): جيّد جدًا، سنعطيك، ونفتح لك الطريق.
لقد تذكّرت إحدى الحوادث، كان أحدهم قد ذهب إلى زيارة الإمام الرضا عليه السلام ـ وواقعًا هذه القصص مليئة بالعِبَر ـ كان ذلك الرجل أيضًا في أواخر عمره، والقصّة التي أنقلها عنه قد وقعت بعد أن تردّت حاله إلى درجة أنّه كان إذا أراد الخروج اتكأ على عصًا وجرّ قدميه على الطريق جرًا، وكان قد صار منحني الظهر، وكما يقال:" على حافة قبره"، وواقعًا كان من أولئك الذين يصدق عليهم أنّهم:" على حافة القبر"، وعلى الرغم من حاله تلك ذهب لزيارة الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام طالبًا منه" الكيمياء"! إن كنت تريدها لنفسك فها أنت راحل! وإن كنت تريدها للآخرين فللآخرين ربّ. نعم جاء إلى الإمام الرضا عيه السلام يطلب منه الكيمياء، وبعبارات غلاظ شداد: أنْ يا عليَّ بن موسى الرضا! أقسم عليك بأمّك فاطمة الزهراء إلّا أعطيتني الكيمياء، إلّا أعطيتني الذهب ... إلّا أعطيتني كذا وكذا ... فالكيمياء ليست سوى الذهب، نعم نفس هذا الذهب. فجاء الإمام إلى أحد الناس في عالم الرؤيا وقال له: اذهب وأرحنا من هذا، وقل له: إنّك ميت بعد أربعة أشهر؛ فما شأنك والكيمياء؟ فمضى إليه ذلك الرجل فصادفه في الطريق وقال له: أأنت طلبت من الإمام الرضا عليه السلام الكيمياء؟ فانفرجت أسارير الرجل وقال في نفسه: حتمًا هذا الرجل سيعطيني الكيمياء من جانب الإمام عليه السلام؛ فليس لأحد أيّ اطلاع على الأمر. قال له الرجل: لقد جاءني الإمام ليلة أمس في عالم الرؤيا وقال: اذهب وأرحنا من شرّ هذا؛ إنّه يقسم علينا بأمّنا فاطمة، ويصرّ و... فيا فلان إنّك ميّت بعد أربعة أشهر، وبالفعل فقد توفي بعد أربعة أشهر؛ لقد كان الإمام يريد بذلك تنبيهه إلى خطئه.
انظروا! الإمام الرضا عليه السلام يجلس على بحر لا حدّ له، ما المحيط أمامه؟! المحيط الكبير قطرة من ذلك البحر، واقعًا قطرة! وحتّى أقلّ من قطرة، فلا يصحّ أن نطلق عليه أيّ اسم، يقول: مهما طلبتم أعطيتكم، ثمّ بعد ذلك نأتيه بأيّ أنواع من الأدعية وبأيّ أنواع من الطلبات وبأيّ حاجات؟! هو يقول: نحن نعطي، هو يقول ذلك. وبعد أن قال ذلك فعلى الناس أن تقف عند قدميه، وعلينا نحن أن نذهب أيضًا ونطلب منه أن لا ينظر إلى ما عندنا من استكبار وأنانيّة، عاملنا بما آتاك الله من الكرامة والعناية التي لا حدّ لها، بما آتاك الله من رحمته الواسعة ولطفه العميم؛ يقول أمير المؤمنين عليه السلام أن اللهمَّ عاملنا بعفوك ولا تعاملنا بعدلك.۱
يأتي أولئك الملائكة إلى الكعبة ويطوفون حولها ويطلع الله عليهم فيقول لهم: يا ملائكتي ، سلوني ما شئتم ، فيقولون : يا ربنا ، حاجتنا إليك أن تغفر لصوّام رجب ، فيقول الله عز وجل : قد فعلت ذلك.۱
الملائكة ذوو مروءة!! يقال إنّ على السالك أن يكون مخلصًا لإخوانه، أن يكون وفيًّا وملتفتًا؛ فلا ينفرد بالخيرات ولا يفكّر في نفسه وينسى سواها، لا بدّ من التفكير في الآخرين ... هؤلاء الملائكة كلّهم من سلّاك" الدرجة الأولى"!!؛ فلا يدعون لأنفسهم بل يقولون: ربّنا إنّ طلبَنا منك هو أن تقضي حوائج الصائمين في رجب. هذا هو مطلب الملائكة في الليلة الأولى من رجب، والله يقول: قُضيت حاجتكم. هذه نبذة ممّا يجري في هذا الشهر. لاحظوا أنّ الرواية عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ومثله لا يتكلم عبثًا وبدون حساب لأنهم يعلمون أنّ ما يقولونه سيُدوَّن في صحائفهم.
إنّ الدنيا دنيا معاملة وأخذ وعطاء، فالملائكة يدعون الله أن يا رب، أصلح أمر هؤلاء المؤمنين، والله سبحانه يستجيب دعاءهم، وفي المقابل كما يقول المرحوم سماحة الحاج الميرزا جواد آقا الملكي التبريزي أعلى الله مقامه في كتابه الشريف (المراقبات): إنّ رعاية الأدب والشكر للملائكة تكون من خلال أن يقرأ الإنسان السلام عليهم في شهر رجب حيث أنهم في هذا الشهر يدعون الله سلطان السلاطين من أجلنا طالبين منه أن يقضي حاجاتنا، ولذا يحسن من الإنسان أن يكون شاكرًا لهذا الإحسان ومؤدّيًا لحقه.
أعمال شهر رجب وليلة الرغائب
إنّ استحباب الصيام في شهر رجب مؤكدٌ جدًا والمرحوم الوالد كان يصوم شهر رجب كلّه أو بعضه عندما كانت حالته مؤاتية. والأذكار الواردة في شهر رجب أذكار مهمّة جدًا وقد كان رحمة الله عليه يؤكّد على قراءة الأدعية الرجبيّة خصوصًا ذاك الدعاء الذي خرج من الناحية المقدّسة:
(اللهمّ إنّي أسألك بجميع ما يدعوك به ولاة أمرك المأمونون على سرّك)
فهذا الدعاء يقرأ كلّ يوم من أيام رجب وأفضل وقت له بين صلاتي الظهر والعصر وكذلك بين الطلوعين، وعلى المرء ألّا يغفل عن جميع الأدعية الرجبيّة التي ذكرها المرحوم صاحب المفاتيح، وحتّى بالنسبة للصيام، إذا لم يتمكّن المرء أن يصوم فيمكنه أن يقرأ هذا الدعاء مائة مرّة والله سبحانه يتقبّله من المعذور بدلاً من الصوم وهو:
(سبحان الإله الجليل، سبحان من لا ينبغي التسبيح إلّا له، سبحان الأعزّ الأكرم سبحان من لبس العزّ وهو له أهل).
لقد كان المرحوم الوالد يذكر أمرًا آخر وذلك بخصوص أوّل ليلة جمعة من شهر رجب وتسمّى (ليلة الرغائب)، رغائب جمع رغيبة وهو الأجر العظيم، وهذه الليلة ليلة عظيمة كان كلّ العلماء العظام يؤكّدون على أداء أعمالها بين صلاتي المغرب والعشاء وطريقتها موجودة في المفاتيح، هذا وقد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنه من دخل عليه شهر رجب وقد صام يوم الخميس وقام بهذه الأعمال في ليلة الجمعة ...۱ وكلّ أعمالها لا تحتاج أكثر من نصف ساعة، فهي صلاة يقرأ فيها بعد الحمد (إنّا أنزلناه) ثلاث مرات وعددا من المرات٢ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) ثمّ يسجد ويقول (سبّوح قدوس رب الملائكة و الروح) ثمّ يجلس ثم يسجد ثانية ثمّ يستغفر ويطلب حاجته، وتفصيلها مذكور في المفاتيح.
وعلى كلّ حال، فهذا الشهر شهر مهمٌّ جدًّا، وكذلك شهرا شعبان ورمضان، وتعدّ هذه الأشهر المتتالية من النعم الإلهيّة التي أنعم الله بها على عباده، والبرنامج الخاصّ لهذه الأشهر الذي كان يعطيه المرحوم الوالد هو نفس البرنامج الذي كان المرحوم القاضي يعطيه لطلابه في هذه الأشهر، ويمكن للرفقاء أن يحضروه ويقوموا بكلّ الأعمال الواردة فيه.
نسأل الله العليَّ القدير أن يوفّقنا لنستفيد من فيوضات وبركات هذه الأشهر الشريفة بأقصى حدّ ممكن إن شاء الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد