المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالحلم والعلاقات الاجتماعية
التوضيح
في هذه المحاضرة التي عقدها سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني في ليلة السابع عشر من شهر رجب سنة 1438 هـ لإكمال شرح فقرة (وأمّا اللواتي في الحلم) من حديث عنوان البصري الشريف، تحدّث سماحته عن النقاط التالية: 1ـ تعلّق الحلم والصبر بما يُخالف النفس 2ـ صدور كثير من الأفعال من مقام النفس 3ـ كلّ ابن آدم خطّاء إلاّ المعصوم عليه السلام 4ـ الصدق مفتاح الطريق 5ـ من ألطاف الله تعالى تبصرة الإنسان بعيوبه 6ـ خداع النفس للإنسان تحت عنوان التكليف الشرعي 7ـ ضرورة مراقبة الإنسان لنيّته ودوافعه 8ـ دور التوبة في تغيير مصير الإنسان علاوةً على مجموعة من النقاط والمسائل الأخرى التي ذكرها سماحته في الضمن، وبعض القصص والحكايات المعبّرة.
هو العليم
خداع النفس للإنسان
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢٣٣
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
«وَأَمَّا اللَوَاتِي في الْحِلْمِ: فَمَنْ قَالَ لَكَ: إنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْرًا، فَقُلْ: إنْ قُلْتَ عَشْرًا لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً، وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ لَهُ: إنْ كُنْتَ صَادِقًا فِيمَا تَقُولُ فَأسْألُ اللهَ أنْ يَغْفِرَ لِي؛ وَإنْ كُنْتَ كَاذِبًا فِيمَا تَقُولُ فَاللهَ أسْألُ أنْ يَغْفِرَ لَكَ. وَمَنْ وَعَدَكَ بِالخَنَى فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ وَالرِّعَاءِ».
تعلّق الحلم والصبر بما يُخالف النفس
كان حديثنا عن أوامر الإمام الصادق عليه السلام الواردة في حديث عنوان البصريّ، وقد انتهى البحث إلى أنّ الإمام يتحدّث حول الحلم وكفّ النفس؛ فالحلم يعني كفّ النفس وحفظها في الحالات المختلفة، فلا يقول الإنسان أيّ شيء، ولا يتكلّم بأيّ كلام، ولا يقدم على أيّ عمل؛ فهذا هو الحلم.. الحلم هو التحمّل والصبر على ما يخالف النفس وما يخالف طبع الإنسان، فالإنسان لا يحلم عند الأمور الموافقة للطبع؛ فمثلاً لو كان الإنسان جائعًا ووضعوا أمامه طعامًا لذيذًا فيقول: سأصبر على أكله كلّه وأتحمّل ذلك! فإنّ هذا لا يحتاج إلى تحمّل. أو افترضوا أنّ هناك مالاً مشبوهًا أو حرامًا؛ هذا مع أنّه بالنسبة للحرام لا كلام عنه هنا، والمال المشبوه هو الذي ينبغي أن يحتاط فيه الإنسان، فيقول الإنسان: أنا أصبر وأتحمّل وآخذ هذا المال! فهذا لا صبر ولا تحمّل فيه، وكذلك هو الحال في الموارد الاجتماعيّة الأخرى التي يستحضرها السادة الحاضرون أكثر من الحقير.
وعلى أيّ حال، فدائمًا الصبر والتحمّل هو في الموارد المخالفة للنفس، والمخالفة للطبع، حين لا يودّ الإنسان أن يقع أمرٌ ما، أو يحبّ أن يقع ولكنّه يكون مطالبًا بعدم القيام به؛ فهذه هي موارد الصبر والتحمّل. فمثلاً لو قيل عن إنسان ما كلام، فأثار حوله الشبهة، يقول الناس: «عجبًا قال كذا!» فقاموا بالردّ عليه، فيقول: «عجيب، لقد ردّوا كلامي! سألقّنهم درسًا لن ينسونه!» فهذا مخالف للنفس، ثم ينهض ويتكلّم ويكتب مقالة ويصول ويجول ويثير الضجيج.. لماذا كلّ ذلك؟ لأنّ هناك من تكلّم بكلام يخالف طبعه، هل التفتّم؟ فما هو المطلوب في مثل هذا المقام؟ هنا لا بدّ من الصبر والتحمّل، فالإمام عليه السلام يقول: عليك أن تصبر في مثل هذا المورد، فماذا عليك لو قال ذلك الكلام؟! لا تعتني به! هل التفتّم؟!
صدور كثير من الأفعال من مقام النفس
ولكنّنا نرى الأمر على خلاف ذلك، حيث ينهض الإنسان للدفاع، لماذا؟ لأنّه يريد شخصيّته، فهو يحبّ نفسه ويحبّ لوازم نفسه، فالشخصيّة والمصالح والحفاظ عليها ودفع المضارّ.. كلّ ذلك يرجع إلى حبّ النفس؛ فلأنّي أريد ذاتي، فإنّني أحرص أيضًا على منزلتي؛ ولأنّني أحبّ ذاتي، فإنّني لا أحبّ أن أخضع لأيّ شخص آخر؛ ولأنّني أحبّ ذاتي، لا أريد أن ينال مكانتي الاجتماعيّة والعائليّة ومكانتي بين الأصدقاء وبين أفراد الأسرة أيّ اهتزاز. وأمّا إذا صدرت كلمة واحدة تهدّد مكانتي تلك، فإنّ حبّ النفس يظهر، ولا ينظر إلى صحّة الكلام وعدم صحّته، بل ينظر إلى الخطر الذي يهدّد مكانته، وإلا فإنّ الكثير من هذا الكلام صحيح. إنّه لا يهتمّ بالحقيقة التي وقعت، بل يهتمّ بأنّ هذا الأمر يثير الشكوك حول مكانته وشخصيته، فأنت قمت بذاك العمل الباطل! لا، أنا كنت حتّى هذه اللحظة أظهر أمام الناس وأمام أفراد العائلة بمظهر جيّد، وكنت أتظاهر، ولقد قضيت عمرًا بالرياء، وكنت أزيّن نفسي طيلة عمري بألف يمين كاذب، وكنت أثّبت أموري الكاذبة، فإذا بي أرى أنّ حادثة قد وقعت وفضحت كلّ شيء! فماذا حصل يا ترى؟!
إنّه يجلس بداية يفكّر أن ماذا عليّ أن أصنع؟ فيبدأ يقلّب الأمر يمينًا وشمالاً ويقيس ويقارن، فيرى أنّ الأمر غير قابل للتحمّل.. إنّهم يعترضون عليه ويسألونه، ويأتي رجل آخر ويقول له: ما الأمر؟! إنّهم يقولون عنك كذا وكذا، وهناك أمر ما ينقل عنك؛ أحقًّا أنّك قلته؟ ومرّة أخرى يقول له آخر فتوسوس له نفسه أن لماذا أنت جالس لا تحرّك ساكنًا؟! فما هو مصير كلامك؟ وما هو مصير الأمور التي طرحتها؟ كلّها صارت محلّ بحث وسؤال، فعندما يرون بأنّه قد أخطأ خطأً واحدًا اليوم، فإنّ ذلك يعني أنّ عدّة أخطاء ستصدر منه غدًا، ومن غير المعلوم بأنّ الناس سيطمئنّون إلى كلامه حينئذٍ؛ فتبدأ نفسه بالعبث والتحرّك.. وتستمرّ نفسه وبشكل دائم بحساب الأمور بناء على توهّماته وخيالاته، ثمّ تشرع نفسه بالهجوم المضادّ لكي تدفع تلك التُهم عنها، فيقول: بما أنّه قد قيل كذا، فسأقول لفلان كذا، وسأخبر فلان بكذا، ويبدأ بحياكة المسألة من عشرة زوايا، فيقول لفلان كلامًا، ولفلان كلامًا آخر، ليحاول أن يصل إلى [مبتغاه].
ولا علاقة له أصلاً أنّ ما قاله ذلك الشخص صادق أم كاذب.. إن هذا لعجيب حقًّا! فإن كان كلامه حقًّا وصدقًا، فاقبله يا عزيزي، وقل: إنّي قد قلتُ ذلك الكلام، وأنا مخطئ فيه، فما ذا تريد منّي أكثر من ذلك؟ هل تتوقّع منّي أن لا أخطئ أصلاً؟! لا يا عزيزي، فليس هناك أحد لا يخطئ غير أربعة عشر شخصًا، وأمّا غيرهم فإنّنا جميعنا نخطئ، فهل يُعتبر الخطأ هزيمة وانكسارًا بالنسبة إليّ؟! إن كان كذلك، فإنّني أقبل بهذا الانكسار؛ أفهل يُفترض أن يكون جميع الناس ـ غير الأربعة عشر معصوم ـ لا يخطئون في جميع حياتهم أصلاً؟! من الذي قال هذا الكلام؟! وما هو دليله على ذلك؟!!
كلّ ابن آدم خطّاء إلاّ المعصوم عليه السلام
أَطلبُ من هذا الجمع الجالس أمامي إن كان فيهم أحد حتّى الآن لم يخطئ ولو خطأً واحدًا، فليرفع يده؛ إن كان فيكم أحد فليرفع يده، وإن رفع أحدكم يده، فسيُقال له: إنّ نفس رفعك ليدك هذا هو خطأ، فنفس رفعك ليدك يعني أنّك لا تفهم!!!! لأنّه لا يوجد أحد لم يخطئ في جميع عمره غير أربعة عشر شخصًا، ولم يبقَ منهم الآن غير آخرهم؛ فهو فقط الذي لا يخطئ، وهو معصوم، أمّا غيرهم فإنهم يخطئون.
لقد قلت لكم سابقًا: بأن هذه المسألة التي وضعت أصبعي عليها مسألة مهمّة جدًا، وهي أكثر النقاط حساسية عند السلّاك، فهي تأخذ بتلابيب السالك، وتُهدّم كيانه، وتُفقده كلّ شيء يملكه.
وهكذا الحال بالنسبة لنا نحن، مع أنّه لا قيمة لنا نحن، كما كان جميع العظماء والأولياء يركّزون على هذه المسألة أيضًا.. ولهذا، كنت أقول: متى نصل إلى الموضع التي يتحدّث فيه الإمام الصادق عليه السلام عن مسألة الحلم؟ فهو قد تحدّث في هذه الفقرة عن أهمّ مفاتيح سير الإنسان، وسعادته.
فمن هو الذي لا يخطئ في هذه الدنيا؟! إنّ الخطأ عندنا نحن أمره سهل، فنحن بالإضافة إلى الأخطاء، نذنب في كلّ يوم عشرة ذنوب، فالخطأ ليس ذنبًا، ولكنّنا نحن نذنب علاوة على الخطأ؛ بل نذنب عن عمد؛ ولكنّ الله قد فتح لنا باب التوبة، وقال لنا: تعال وتب إليّ وأنا أعفو عنك؛ فأنا لا أنظر إلى عبادي بعين الحقد، وأنا لا أحقد على أحد، وأنا لست من النوع الذي يحاسب الناس على ما مضى من أعمالهم؛ وإنّما أنظر إلى حاله الآن، ولا أنظر إلى حاله السابقة. وكذلك أولياء الله [فإنّهم ينظرون بنفس هذه النظرة للناس] إذ إنّهم مظهر له.
عندما جاء [الحر] إلى الإمام الحسين، لم ينظر إليه الإمام على أنّه ذلك الشخص الذي منع الإمام الحسين من المسير، وسدّ عليه الطريق؛ بل نظر إليه بحسب حالته الآن، فرحّب به؛ [وكان الحرّ يقول له بلسان الحال]: أنا الذي كنت قد سددت الطريق، وحرفتك عن وجهتك التي كنتَ متوجّهًا نحوها؛ فقال له الإمام: لا تنظر إلى ما سبق، بل المهمّ هو ما هي حالتك الآن، هل قبلت الحق أم لم تقبله؟
الصدق مفتاح الطريق
لقد قلت لكم في الجلسة السابقة: ليس المِلاك هو كونك في خيمة الإمام الحسين، بل الملاك هو الصدق، سواءً كنت في خيمة الإمام الحسين، أم في خيمة عمر بن سعد بلا فرق؛ فالصدق هو الذي يأخذ بيد الإنسان، فإن كنت في خيمة الإمام الحسين، إلاّ أنّك غير صادق، فإنّهم سيفتحون لك الطريق في ليلة عاشوراء وستخرج، ولن تبقى مع الإمام.. الولاية ستُخرجك من هذه الخيمة، فمن لم يكن صادقًا لا يمكنه أن يبقى في هذه الخيمة.. تأمّل من هو الذي جعلك تميل نحو ذلك الطرف عندما أطفئ السراج؟ إنّها الولاية، لِمَ؟ لأنّه بقيت عندك بقيّة، فعندما لم يكن عندك صدق، أخرجوك من حالة التردّد والإبهام، وهدوك إلى طريق واحد، فشمّرت عن أذيال الفرار، وفي أمان الله!
من الذي كان يقوم بهذا؟ إنّه الإمام الحسين! لأنّه كان يريد أن يريحك؛ فـ [الإمام الحسين يقول لك]: لقد كان سبب مجيئك معي مبتنيًا على أساس خيالاتك وأوهامك، فأنت إنّما أتيت بناءً على هذا الأساس، وأنا لا أريد أن أبقيك بسبب حيائك من الحاضرين، لذا أقول: أطفئوا الأنوار، هل التفتم؟
من هو الإمام؟ فنحن نقول: إمام.. سيّد الشهداء إمامٌ، [فهل نقولها:] مثل ذلك الجاهل الذي كان يقول: «الإمام هو مناصرٌ من المناصرين ومناضل من المناضلين، مثله مثل بقيّة المناضلين الذين مرّوا في التاريخ ووقفوا في قبال الظلم»!
إنّ الإمام حينما يأتي وينظر إلى كلّ فردٍ فردٍ، (بل هو لا يحتاج لأن ينظر حتّى)، حين ينظر إلينا، يجد أنّه ما زال للدنيا مكانٌ في قلبنا، ولم تُصبح الأمور متساوية بنظرنا، وما زلنا لم نخرج من الدنيا، وما زلنا لم نتحرّر من أنفسنا، ومازلنا لم نتحرّر من الزوجة والأولاد والمِلك والمزرعة والتعلّقات، ومازلنا لم نخرج من هذا الطرف أو ذاك الطرف، ولم نتحرّر من أعمالنا وأشغالنا وكلّ مهننا، سواء المتعلّقة بالمسائل الدينيّة أم بالمسائل غير الدينيّة (حيث لا فرق بينها).. حينما يرى ذلك، عندها يعدّ سبيلاً لكي يريحك يا عزيزي، فيجري حادثةً من الحوادث التي تريحك، فلا تزعج نفسك إلى هذه الدرجة، واذهب وافعل كلّ ما يحلو لك بعد الآن.
ثم يقول لك: أهلاً وسهلاً، مع السلامة، وانتهى الأمر!! حسنًا، ما سبب كلّ هذا؟ سببه أنّك لم تكن صادقًا من الأوّل، وكان لك وجهان، وكنت مرائيًا، ومحتالاً، تمامًا كأرباب السياسة والسياسيّين؛ فكلّ ما هو مهمٌّ بالنسبة لهم: ليس الله، وليس النبيّ، وليس الناس، ولا الوجدان، ولا الإنسانيّة.. لا شيء منها أبدًا! هم يريدون فقط أن يكونوا في هذه المجموعة التي تجعلهم على رأس السلطة، وأن يصلوا إلى المصالح والمنافع التي تدور مدار السلطة، وأن يكونوا هم المتحكّمين بهذه المصالح والمنافع، هذا ما يريدون لا غير.
ولذا، يرون أنّ هذه المجموعة تؤمّن لهم هذا المطلب وهذه الرغبة، فتراهم ضمن هذه المجموعة، فيُقال: ياللعجب! لقد كان هذا الشخص مع الجانب المقابل، ثمّ غدًا تجد أنّ هذه المجموعة قد طردته بسبب بعض المسائل، فإذا به يذهب إلى هناك، إلى حيث كان يسبّهم!! فما الذي حصل؟! لا شيء، ولا أيّة مشكلة، وليس في الأمر عجبٌ، لا أبدًا، لماذا؟ لأنّه من الأوّل لم يكن عاشقًا لعينيْهم ولا لحاجبيْهم، ومن الأوّل لم يكن معهم من أجل الله، ولا من أجل النبيّ ولا من أجل الطريق، ولا من باب الصدق والعمل.
وهؤلاء لم يريدوا الآن أن يغيّروا منهجهم، لا بل من الأوّل كان يرى أنّ هذه المنافع والمصالح كانت مهيّأة في هذه المجموعة؛ ولذا، فنحن نخلص لها، أمّا غدًا، فإنّه يرى أنّ هذا الإخلاص، لا يفيد كثيرًا؛ فلذا يقول: الآن أنا مخلص لك أنت، وحينما يتكلّم ترى أنّ أحدهم يقف بجانبه، ولكن يا للعجب، فهذا الشخص كنت تسبّه وتلعنه، فكيف الآن يقف خلف رأسك؟ من أجل السياسة. فأصلاً السياسة هذا معناها، فالسياسة تعني الكذب، وتعني النفاق، وتعني امتلاك وجهين، وتعني انعدام الهويّة.
فالإنسان يفقد إنسانيّته، وتتنحّى فطرته جانبًا، ويتنحّى وجدانه جانبًا، وتتنحّى المباني التي كان يسعى إليها حتّى الآن جانبًا، وتتنحّى القوانين جانبًا.. جميعها تتنحّى جانبًا، والشيء الوحيد الذي يبقى هو نفسه.. أنا، فأنا ينبغي أن أبقى مهما كان الثمن.
حسنًا، ولكنّ هذا يعني إفراغ الإنسان من نفسه، وإفراغ النفس من وحدتها؛ لأنّ الإنسان عندما يكون وحيدًا، يعثر على هويّته، ويصل إلى نفسه فيعرف ما هي؟ وأين هي؟ وإلى أين يسعى؟ وإلى أين كان يذهب حتّى الآن؟ ما الذي يسعى إليه حتّى الآن؟ هل فكّر أيضًا بما قيل له حتّى الآن، وبما ألقي عليه؟ أم أنّه اعتمد فقط على أنّ فلان كان يقول، ونحن الآن ضمن هذه المجموعة وفي هذا المشروع، ولا شأن لنا بالباقي.
أنا أسمع الناس يقولون هنا وهناك: يا سيّدي ما شأني أنا بذلك؟ الخلاصة [يقولون أمرًا كهذا] ، حسنًا لا بأس بذلك، ولكن لو كانت هذه المسألة التي تقول عنها: ما شأني أنا بها؟ حصلت لأحد الأفراد المنتسبين لك، هل كنت لتقول: وما شأني أنا بها؟
من ألطاف الله تعالى تبصرة الإنسان بعيوبه
حسنًا، إنّ الله يأتي ويمسك بيدك، ويبرز للإنسان نقاط ضعفه بشكل واضح وجليّ، ويضعه في قبال الإنسان.
وهذا الأمر مهمٌّ، فهذه أيضًا من ألطاف الله، حيث يلفت نظره إلى تلك الجهات، ليعلم من أين ستأتيه الضربة، فيذهب نحوها ويعمل على رفعها، ويسعى إلى إصلاحها.
لأنّه، أن يقوم الإنسان ويأتي ويذهب، ويجلس في مجلس، ويقول: السلام عليكم، كيف حالك؟ كيف هو عملك وكسبك؟ هل أوضاعك جيّدة... ، هذه الأمور لا تحلّ هذه المشكلة، ولا يصلح الشيء الموجود في الداخل هنا، فهذه عبارة عن صورة ظاهريّة فقط.. هذا مجلس عزاءٍ، ومنبرٌ، وشايٌ، وهذه أمور جيّدة بشكل عام، ولكن حينما يتفضّل مولانا حافظ الشيرازي بالقول ـ بالمناسبة في مرّة من المرّات قلتُ للعلامة يقول حافظ، فقال: ماذا قلت؟!! حافظ [لا يقال عنه قال حافظ بل يقال عنه]: "تفضلّ بالقول"۱ـ نعم، حينما يتفضّل مولانا حافظ بالقول:
دريـــغ ودرد كــه تــا ايـن زمــان نــدانسـتم | *** | كــــه كيـمـياي ســعـادت رفــيـق بــــود، رفيق. |
[يعني: يا ألمي ويا حسرتي أنّي لم أكن أعلم أنّ إكسير السعادة يكمن في الرفيق].
فعن أيّ رفيق يتكلّم؟ عن الرفيق الذي يأتي ويقول: السلام عليكم، كيف حالك؟ لقد ارتفع ثمن الوقود! أو مثلاً: الذهب ارتفعت قيمته، وكذا وكذا أصبح رخيصًا، وهناك حصلت زلزال ... .
لا، فهكذا رفيق لا يختلف عن الذي يقف في زقاق السوق، أمّا الرفيق الذي ينبغي أن تجلس معه، وتتكلّم معه، وأن تبقى معه، هو الذي يكون مثل المرآة التي ترى فيها نفسك.. هذا هو الرفيق، وهو الذي ينفعك، أمّا ذاك فلا ينفع الإنسان بشيء. نعم، هو جيّد، ففي النهاية أنت تشترك معه في نفس الطريق والهدف، وهو أفضل من أن تجلس مع غيره، ولكن الأفضل من ذلك كلّه هو أن يستفيد الإنسان من هذه الفرصة.
لقد كنت جالسًا في يومٍ من الأيّام .. (إنّ الإنسان لا يلتفت إلى الكثير من أغلاطه) كنّا جالسين بمحضر المرحوم السيّد الحدّاد في ذلك السفر الذي عدنا فيه من مكّة، وكان سنّي لم يصل إلى السابعة عشر بعد، أمّا أخي فهو أكبر منّي بسنتين.
بعدها، التفت إليّ السيّد الحداد وقال لي: ينبغي على الإنسان أن يحترم أخاه الأكبر منه، فأنت حينما تمشي مع أخيك، هل تتقدّم عليه بالمشي؟ أم أنّك تمشي بجانبه؟ أم تمشي خلفه؟ (لا أذكر إن قال: خلفه)، الظاهر قال: أم أنّك تمشي بجانبه؟
عندها التفتُّ إلى أنّه: يا للعجب، إنّني وبدون التفات أصلاً، أمشي أحيانًا متقدّمًا على أخي، والمرحوم السيّد كان يقول: هذا الفعل خاطئ وليس بصحيح، فاحترام الأخ الأكبر لازمٌ، ولا ينبغي أن تتقدّم عليه أو تمشي أمامه.
حسنًا، افترضوا الآن لو أنّنا بدلاً من أن نأت إلى هنا [في محضر السيّد الحداد]، ذهبنا إلى مكانٍ آخر، فأصلاً ما كان ليكون هذا النوع من المواضيع، بل سيقال: لا يا سيّد، لا بأس بالأمر، فما المشكلة في ذلك؟ ففي نهاية المطاف، هذا عالم الأخوّة، وعالم الصداقة، ولا يوجد منع من هذا القبيل.
أمّا هو فيقول: عليك أن تقوم بأعمالك طبقًا للموازين حتّى تتقدّم إلى الأمام، وإذا تجاهلت هذا الميزان، فلن تستطيع التقدّم، وحتّى لو أتيت إلى هنا، فلا فائدة من مجيئك، وهذا ما كان يريد أن يفهمني إيّاه! فحتّى لو أتيت إلى هنا، فلا فائدة من ذلك حتّى تُصلح عملك، وتُنظّم برنامجك طبق المباني والمعايير!! هل التفتم؟
ولذا، بشكلٍ عامٍّ، ما ينبغي عمله من الأساس هو أنّه على الإنسان أن ينظر في هذه المسألة: ما هي الأمور التي ينبغي أن يلتفت إليها؛ فهذا هو المهمّ.
خداع النفس للإنسان تحت عنوان التكليف الشرعي
ما هو هدفه؟ هل هدفه الوصول إلى إثبات شخصيّته؟ أمّ أنّ هدفه هو أمر آخر؟ ثمّ هذه هي النفس؛ فالنفس أمّارة بالسوء، وهي ذكيّة جدًا، حيث تأتي وتقول للإنسان: يا سيّد، هذا تكليفٌ شرعيٌّ! فالذي دفعني للكتابة هو شعوري بالتكليف الشرعي! ولقد أحسستُ بالتكليف الشرعي، فقلت ما قلت! يا للعجب، هل حصل لك التكليف الشرعي من خلال القسم الكاذب؟! فتأتي وتقول: أحسستُ بالتكليف الشرعيّ!
يا للعجب! لو أنّ شخصًا من أقاربك هو الذي ذكر هذه المسألة، هل كنت ستشعر بالتكليف الشرعي أيضًا، أم لا؟ فتشعر بالتكليف الشرعي فورًا وفي كلّ موطنٍ، وفي كلّ مسألة، وتقول: أحسستُ بالتكليف الشرعيّ!!
يقول المرحوم العلاّمة: لقد كنتُ في النجف (لقد ذكر هذه القضيّة لي) ، حيث كنّا نريد العودة إلى إيران، فقد كان المرحوم السيّد الحدّاد قد عيّن لي هذا البرنامج، وأمرني بهذا الدستور، وهو أن أرجع إلى إيران.
يقول: كنت أقوم بوداع أصدقائي في النجف، وكنت أزورهم في منازلهم، وكانوا يتعجّبون جدًّا، ففلان لم يكن يتحدّث عن إيران أصلاً، فكيف تبدّل فجأةً؟ ما القضيّة؟ لقد كان فلان يقول: إنّني لا أعرف بتاتًا بوجود أو عدم وجود بلد اسمه إيران! لأنّه سابقًا حدثت له مجموعة من القضايا [قبل خروجه من إيران]، وكان يقول: حينما خرجت من إيران، حذفتُ خارطتها من ذهني، وقرّرت عدم الرجوع إليها للأبد! لكن، فجأة، وخلال مدّة أسبوعين، وإذا به يُغيّر رأيه، لكن من دون أن يذكر السبب الحقيقي من وراء ذلك، بل كان يقول: لقد بلغت ولله الحمد الهدف الأساسي من مجيئي إلى هنا، وحصلت على النتائج التي كنت أطمح إليها من العلماء والفضلاء وأهل الفضل والعلم، وعليّ أن أرجع الآن، بسبب بعض الظروف! فذهب شخصان عند السيّد عبد الهادي الشيرازي رحمة الله عليه، والذي كان رجلاً عظيمًا جدًّا، حيث قال لي المرحوم العلاّمة بحقّه: بعد وفاة المرحوم السيّد عبد الهادي الشيرازي، لم أُرجع إلى أيّ أحد في المسائل المتعلّقة بالمرجعيّة! وهكذا كان إلى آخر عمره، اللهمّ إلاّ فيما يخصّ إرجاع البعض إلى عدد من الأشخاص، لكن لا بعنوان المرجعيّة؛ فهذه مسألة أخرى.
فذهب ذلك الشخصان إلى السيّد عبد الهادي الشيرازي، وقالا له: نرجو منك أن تصدر حكمك بهذا الشأن، ليضطرّ السيّد محمد حسين [الطهراني] للبقاء في النجف امتثالاً لحكمك كمجتهد، ولا يرحل. فردّ عليهم قائلاً: لا يُمكنني القيام بعمل من هذا القبيل، فهو أيضًا مجتهد!
لقد بلغت المسألة إلى هذا الحدّ، بل إلى درجة أنّه كان يُقال له: إذا بقيت في النجف، فإنّ المرجعيّة ستصير حكرًا عليك في المستقبل، غير أنّ مسألة المرجعيّة كانت بالنسبة للمرحوم العلاّمة من المسائل الفكاهيّة والتي يأخذها على محمل الهزل! وقد علّمنا أيضًا أن نتعامل معها بهذا النحو، وأن نأخذها على محمل الهزل! رحمة الله عليه، وإلاّ لو لم يكن هناك مثل هؤلاء العظماء، لما كان معلومًا إلى أيّ مآل سينتهي بنا الأمر، وأيّ الأودية كنّا سنسلك، بل كنّا سنظلّ حائرين هائمين.. الناس حيارى... أكملوا بأنفسكم بقيّة الكلام..۱ هل التفتّم؟!
بعد ذلك، قال: ثمّ شرعت في توديع هذا وذاك، وتوديع الأصدقاء، فكان بعضهم يقول لي: يا سيّد محمد حسين، أين ذهب عقلك؟! لم تبق لك إلاّ بعض الخطوات القليلة للوصول إلى مقام المرجعيّة في المستقبل القريب، إلاّ أنّك تُهدّم جميع هذه الأمور، وتُخلّفها وراءك، وتستعدّ للذهاب! فأجبتهم قائلاً: على العكس من ذلك، فقد اكتسبت في هذه السنوات السبع عقلاً؛ ولهذا السبب أنا أرحل! بينما كان أصدقاؤه المقربّون يقولون له: أين ذهب عقلك؟! هذا مع أنّهم كانوا يُحبّونه بحقّ، وكانوا يتألّمون لأجله، بسبب أنّ شخصيّة من هذا الطراز لها كلّ هذه المؤهّلات، مع كلّ ما كانوا يُشاهدونه منه، إلاّ أنّه قرّر الرحيل الآن! لكنّه كان يقول: أنا الآن فقط اكتسبت عقلاً، والآن فقط أدركت من أكون أنا، وما الذي ينبغي عليّ فعله.
وهذا درس لنا جميعًا، كي نأتي ونعثر على أنفسنا، لا أن يلتفت الإنسان إلى كلّ ما يُقال له؛ نظير: إنّ التكليف الشرعي يُحتّم عليك أن تقوم بهذا الأمر! حيث كان يقول لهم: إذا كان الأمر يتعلّق بالتكليف الشرعي، فقد تعلّمته طيلة هذه السنوات السبع، وأنا أعلم بتكليفي الشرعي الخاصّ! فعادةً ما يأتي الشيطان عند الإنسان متلبّسًا بعنوان التكليف الشرعي، فيبدأ بالوسوسة له: ألا تشعر بالتكليف الشرعي تجاه هذه المسألة؟! فالأوضاع بالنحو الفلاني، وعليك أن تقوم بهذا الفعل! فكان يقول: لقد أدركت بنفسي تكليفي الشرعي، وحصّلته طيلة هذه المدّة؛ وقد ظلّ كذلك إلى آخر عمره رحمة الله عليه.
ضرورة مراقبة الإنسان لنيّته ودوافعه
وتجدر الإشارة إلى أنّ تقارن الحديث عن هذه المطالب مع شهر رجب مناسب جدًّا، حيث ينبغي على الإنسان أن يتأمّل أكثر في هذه المسائل، ويعمل على الوصول إليها بشكل أكبر خلال هذه الأيّام والأشهر، ويسعى لكي يُدرك الدافع والمنشأ الذي نشأت منه أقواله وأفعاله، وهل كان هذا المنشأ إلهيًّا أم نفسانيًّا.
كان أحد الأشخاص حاضرًا في جنازة عالم من العلماء، وكان يبدو مناسبًا أن يُصلّي عليه أحد علماء طهران المشهورين، فتعاملت مع ذلك الشخص بجدّية، وعاتبته بقولي: لماذا تصرّفت بهذه الطريقة؟ لقد كان عليك أن توكل إمامة الصلاة إلى شخص آخر، فقال لي: بصراحة، عندما وقفت لأداء الصلاة، رأيت بأنّني لا أستطيع العبور من هذه المسألة! لقد أقرّ على نفسه!!! حيث إنّ إمامة صلاة الجنازة على الشخصيّات المعروفة تحظى بأهمّية بالغة!!! فكان يقول: مهما أجهدت نفسي لكي أقلّب المسألة رأسًا على عقب لم أفلح، فأدّيت الصلاة من دون حضور قلبي!! ساعد الله ذلك المسجّى أمامه! ونرجو من الله تعالى أن يوجد وسط المصلّين أحدهم كان له حضور قلبي أثناء الصلاة! وأمّا بالنسبة لإمام الجماعة، فحاله كان بهذا النحو، حيث أقرّ على نفسه بأنّ صلاته كانت من دون حضور قلبي، بل أدّاها لنفسه فقط! حسنًا، هل التفتّم؟!
لا ينبغي للإنسان السماح للأمور بالوصول إلى هذا الحدّ، حيث شاهدت بنفسي العديد من الموارد التي كان العظماء فيها يتعاملون بكلّ دقّة وفطنة وحذاقة، ومن دون أيّة مجاملة ومداراة، مع أنّه لو كان هناك أحد آخر مكانهم، لانهزم منذ اللحظات الأولى، وانساق مع التيّار، وارتكب ما كان ينبغي له أن يتحرّز عنه.
لماذا ذلك؟ بسبب الانتباه للمخاطر، وبسبب المراقبة.
في شهر رجب، على الإنسان أن يلتفت إلى هذه المسائل أكثر، وعليه أن يستعمل فهمه أكثر، وأن يحسن عمله أكثر؛ فالعظماء كانوا دائمًا يذكّرون بهذه المسألة، حيث كانوا يرون حقيقة المسألة، وبأي كيفيّة هي.
أولئك كانوا يشعرون بحقيقة ونورانيّة رضا الله تعالى، كما أنّهم كانوا يشعرون بكدورة مخالفة ذلك؛ فالعمل المخالف لرضا الله يأتي إلى تلك النورانيّة ويقضي عليها، ويُسقط صاحبها، بحيث إنّه أحيانًا، قد لا يعلم كيف سقط، ودون أن يشعر بذلك، حيث يرى أنّه كان إلى صباح هذا اليوم يرى في نفسه الشوق والهمّة والاندفاع للعمل العبادي وللذكر، لكنّه الآن يفقد ذلك، فتراه يسمع الأذان لكنّه يقول: لا إشكال في تأخير الصلاة لعشرة دقائق، وذلك لا ينافي أوّل الوقت، فيؤخّرها ربع ساعة، ويشتغل بأمور أخرى لا طائل منها، ثمّ يقول: حتّى لو مضى منها عشرون دقيقة فلا إشكال.. ثمّ يرى بأنّه: يا للعجب لقد مضت ساعة، ومع ذلك لم ينهض لصلاة الظهر! لماذا؟ لأنّه إذا دخل الإنسان في مسألة ما، تقلّ نورانيّة القلب التي لديه شيئًا فشيئًا، إلى أن تذهب نهائيًّا، فإن ذهبت، لا يعود لديه شوق.
لا أدري إن كنت ذكرت هذه المسألة للإخوة أم لا؟ قال لي أحد الإخوة: لقد رأيت ـ وكان يصف بشكل دقيق ورؤياه صادقة وصافية ـ في الساعة الثانية بعد منتصف الليل أنّ الجن يدخلون إلى المنزل الفلاني بصورة قرود، ويصعدون الدرج، ويردون داخل تلك الغرفة المعينة! عجيب! لكن ما الذي كان يجري؟ كان شخص معيّن يجلس في تلك الساعة ـ بدلاً من النوم باكرًا والتهيّؤ للاستيقاظ للصلاة قبل الأذان بساعة ـ خلف الكمبيوتر، ولا أدري ماذا يفعل! عجيب! طبعًا، لقد نبّهته على ذلك، وقلت له: ينبغي أن تنام باكرًا وأن تزيد من مراقبتك..
فهذا كان مشغولاً بتلك الأمور، وذاك كان يرى أنّ الجنّ يدخلون إلى تلك الغرفة بصورة قِرَدة، لا إلى مكان آخر؛ والحال أنّ الجنّ يعني الشيطان، فهو عندما يكون مشغولاً بأمر مخالف، هل ينزل عليه جبرائيل أو ميكائيل؟ من يأتيه؟ من المعلوم من يأتي إليه عندئذٍ، وأيّة موجودات ترتبط به في هذه الحالة! ولذا، عندما يستيقظ الإنسان، ينهض متعبًا مكدّرًا، وفي حالة كسل، وإذا دقّ المنبّه يسكته بضربة بيده.. لا يمكنه الاستيقاظ؛ لأنّ الذي كان يوقظه هو جبرائيل، لكن، عندما تفعل ذلك الفعل، لا يأتي جبرائيل ويوقظك للصلاة، وحتّى لو صلّى، فصلاته ستكون قبيل الشروق إذا لم يفته الوقت. الذي يأتي ويوقظك لصلاة الليل هو جبرائيل، وهذا الأمر ينبغي أن يكون مسبوقًا بأمر حسن وبحال مناسب، وعليك أن تهيّئ جميع ذلك حتّى يأتي ويوقظك، وإلاّ فلن يأتي، بل سيأتي آخرون؛ وهم النفوس الخبيثة والنفوس الشيطانيّة الذين سيتولّون أمرك؛ فإذا لم يكن ذاك حاضرًا، فسيأتي هؤلاء، فيصير الإنسان يشاهد منامات مرعبة، ويشعر بالتعب والكسل والتكدّر.. لماذا؟ لأنّك لم تراقب، ولأنّك لم تعمل بما قيل لك!
دور التوبة في تغيير مصير الإنسان
لكن، من جهة أخرى، إذا تبت، وقرّرت عدم العودة إلى ذلك، وقلت: لن أعود إلى هذا الأمر، ولن أفعل ذلك، ولن أتوجّه بعد الآن إلى هذه المسائل.. عندما تقرّر ذلك، ستشعر بأنّ روحًا انبعثت في نفسك، وترى قدرة جديدة في نفسك! ما حقيقة ذلك؟ إنّه من عمل جبرائيل، والملائكة؛ وإذا شعرت بذلك، فعليك أن تحافظ عليه، وتنتبه حتّى لا تذهب منك هذه الحالة مرّة أخرى بوسوسة أخرى أو أمر آخر. وإذا حافظت عليها، تقوى شيئًا فشيئًا، بحيث إذا سمعت أذان الظهر، تنهض للصلاة مباشرة، لماذا؟ لأنّك تبت، وبما أنّك تبت، فإنّ هذه الحالة ستأتي مكان تلك.
منذ مدّة طويلة، حدّثني أحد الإخوة عن أحدهم، وكان لا يعرفه، ولم يسمع حتّى باسمه، وبدوري أنا لم أعد أسمع عنه شيئًا، والظاهر أنّه ذهب خارج إيران، وكانت لديه في ذلك الوقت حالات جيّدة، فقال لي: من يكون فلان؟ ولم يكن يعرفه أساسًا، والحال أنّ ذلك الشخص كان من أصدقائنا، فقلت له: حسنًا، ماذا تريد منه؟ فقال: رأيت أنّه كان يسير في طريقه إلى مكّة، وفجأة وصل إلى وادي برهوت؛ فوادي برهوت هو وادي الكفّار والمشركين، وهو وادي في اليمن، ذكره المرحوم العلاّمة في كتاب معرفة المعاد ظاهرًا، وأنّه مقابل وادي السلام في النجف؛ وهو مكان اجتماع أرواح الكفّار والمشركين وأهل المعاصي، مقابل وادي السلام الذي تجتمع فيه أرواح المؤمنين والأنبياء والصلحاء والشهداء في جوار أمير المؤمنين.
فكان يقول: «رأيت أنّه كان يمشي باتّجاه مكة، وإذا به عندما يصل إلى وادي برهوت، يذهب إلى هناك، فتعجّبتُ من ذلك، وقلت: ينبغي أن أخبرك بذلك»، فقلت له: «إن شاء الله خيرًا». وبعد ذلك رأيت ذلك الشخص وأشرت له بأنّه ينبغي عليك أن تزيد من مراقبتك، وقد التفت إلى ذلك وتغيّر لونه عندما كلّمته! وبعد عدّة أيّام، قال لي ذلك الشخص الأول ـ والحال أنّه لم يكن يعرفه أصلاً ـ قال لي: ذاك الشخص الذي قلت لك بأنّه ذهب إلى وادي برهوت، قد أكمل طريقه إلى الكعبة! انظروا كم هي المسألة دقيقة! فبمجرّد عمل محرّم واحد يدخل الإنسان في ذلك الوادي في تلك اللحظة التي يقوم بها، ولا فرق في ذلك بين أن ينوي الحرام، أو يفعله، أو يفكّر فيه.. فإنّه يذهب مباشرة إلى وادي برهوت، ولو كان جالسًا في الحسينيّة أو في المسجد أو في أيّ مكان. وعندما يعود، ويصحّح مساره، يرجع ويسير باتجاه مكّة، وتصير حركته باتّجاه مكّة. إذا كان الأمر كذلك، فهل من الصحيح أن نذهب إلى برهوت؟ وهل من الجيّد ذلك؟ ما الفائدة في ذلك؟ أم أنّ الأفضل لنا أن نستمرّ في مسيرنا الذي بيّنه لنا العظماء، وأن نهتمّ بما كانوا يوصون به من زيادة المراقبة في مقابل ما نواجهه من مسائل.
على كلّ حال، الكلام كثير في هذا الموضوع، لكن أردت أن أذكّر الإخوة فقط، ونرجو من الله أن يرزقنا ـ إن شاء سبحانه ـ التوفيق أكثر من ذي قبل، وأن يوفّقنا للاستفادة أكثر من بركات هذا الشهر، وأن يرزقنا من فيوضات هذه الأشهر وهذه الأيّام التي نقرأ فيها أدعية شهر رجب: إلهي أسبغ علينا فيه النعم وأجزل لنا فيه القسم.. نسأل الله ذلك لنا جميعًا، ونسأله أن يجعلنا من الثابتين على مسير أولياء الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد